الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 710

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 710
المشاهدات: 164058
تحميل: 5312


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 710 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 164058 / تحميل: 5312
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 3

مؤلف:
العربية

الآية

( وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) )

التّفسير

العهود الرّبانية :

تناولت الآية السابقة مجموعة من الأحكام الإسلامية بالإضافة إلى موضوع إكمال النعمة الإلهية على المسلمين ، وجاءت الآية الأخيرة لتكمل السياق الموضوعي لما سبق من آيات ، فاستقطبت انتباه المسلمين إلى أهمية وعظمة النعم الإلهية التي أعظمها وأهمها نعمة الإيمان والهداية والإسلام ، تقول الآية :( وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ ) ومع أن كلمة «نعمة» جاءت بصيغة المفرد في هذه الآية ، إلّا أنّها وردت اسم جنس لتفيد العموم، حيث عنى بالنعمة جميع النعم ، كما يحتمل أيضا أن يكون المراد نعمة الإسلام بصورة خاصّة، والتي أشارت إليها الآية السابقة بصورة إجمالية حيث قالت :( وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ) فأي نعمة أعظم من أن ينال الإنسان ـ في ظل الإسلام ـ كل الهبات الإلهية والمفاخر والإمكانيات الدنيوية ، بعد أن كان الناس يعانون في الجاهلية من التشتت والجهل والضلال ويسود بينهم قانون الغاب ، وكان الفساد والظلم يعم

٦٢١

مجتمعهم آنذاك ، وقد تحولوا بفضل الإسلام إلى مجتمع يسوده الاتحاد والتماسك والعلم،ويرفل بالنعم والإمكانيات المادية والمعنوية الزّاخرة.

بعد هذا تعيد الآية إلى الأذهان ذلك العهد الذي بين البشر وبين الله، فتقول( وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا ) .

هناك احتمالان حول المعنى المراد بلفظة «العهد» الواردة في الآية وموضوعه.

الاحتمال الأوّل : أن يكون هو ذلك العهد الذي عقده المسلمون في بداية ظهور الإسلام في واقعة «الحديبية» أو واقعة «حجة الوداع» أو «العقبة» مع الله ، أو بصورة عامّة هو العقد الذي عقده جميع المسلمين بصورة ضمنية مع الله بمجرّد قبولهم الإسلام.

والاحتمال الثّاني : هو أن يكون العهد المقصود في الآية الكريمة الأخيرة هو ذلك العهد المعقود بين كل فرد إنساني ـ بحكم فطرته وخلقه ـ وبين الله ، والذي يقال عنه بأنّه تم في «عالم الذر»(1) .

وبيان ذلك هو أنّ الله حين خلق الإنسان أودع فيه استعدادات ومواهب كثيرة، ومنها نعمة العلم التي بها يتتبع أسرار الخليقة ، وتتحقق لديه معرفة الحق ، وكذلك نعم كالعقل والذكاء والإدراك ليعرف الإنسان بها أنبياء الله ويلتزم بأوامرهم ، والله سبحانه حين أودع هذه النعم لدى الإنسان أخذ منه عهدا بأنّ يستغلها خير استغلال ، وأن لا يهملها أو يسيء استعمالها ، فردّ الإنسان بلسان الحال والاستعداد «سمعنا وأطعنا».

ويعتبر هذا العهد أوسع وأحكم وأعم عهد أخذه الله من عباده البشر ، وهذا هو العهد الذي يشير إليه الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام في خطبته الأولى الواردة في كتاب «نهج البلاغة» بقوله : «ليستأدوهم ميثاق فطرته» أي ليطلب منهم أداء

__________________

(1) سيرد شرح مفصل عن «عالم الذر» وسبب تسميته بهذا الاسم في تفسير الآية (172) من سورة الأعراف، بإذن الله.

٦٢٢

الميثاق الفطري الذي أخذه منهم والوفاء به.

وبديهي أنّ يشمل هذا العهد الواسع جميع المسائل والأحكام الدينية.

ولا مانع مطلقا من أن تكون في هذه الآية إشارة إلى جميع العهود والمواثيق التكوينية والتشريعية التي أخذها الله أو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المسلمين بمقتضى فطرتهم في مراحل مختلفة،وهنا يتوضح لنا الحديث القائل بأنّ المراد من الميثاق هو العهد الذي أخذه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المسلمين في حجّة الوداع بخصوص ولاية علي بن أبي طالبعليه‌السلام (1) ويتفق هذا التّفسير مع ما ورد أعلاه.

وقد أكّدنا مرارا أنّ التفاسير التي ترد على الآيات القرآنية ، ما هي إلّا إشارة لواحد من المصاديق الجلية المعنية في كل آية ، ولا تعني مطلقا انحصار المعنى بالتّفسير الوارد.

وتجدر الإشارة ـ أيضا ـ إلى أنّ كلمة «ميثاق» مشتقّة من المصدر «وثاقة» أو «وثوق» وتعني الشدّ المحكم بالحبل وأمثاله ، كما يطلق على كل عمل يؤدي إلى راحة البال واطمئنان الخاطر ، حيث أنّ العهد يكون بمثابة عقدة تربط شخصين أو جماعتين أحدهما بالآخر ، ولذلك سمّى «ميثاقا».

وفي النهاية تؤكّد الآية على ضرورة التزام التقوى ، محذرة أنّ الله محيط بأسرار البشر،وعالم بما يختلج في صدورهم ، بقولها :( وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) .

وتدل عبارة( ذاتِ الصُّدُورِ ) على أنّ الله عالم بأدقّ أسرار البشر المكنونة في أعماق نفوسهم والتي لا يمكن لأيّ مخلوق معرفتها غير صاحب السرّ وخالقه ، أي الله العالم بذات الصدور.

وقد شرحنا في الجزء الأوّل من تفسيرنا هذا سبب نسبة العواطف والمشاعر والنوايا والعزائم إلى القلب أو إلى مكنونات الصدور.

* * *

__________________

(1) تفسير البرهان ، ج 1 ، ص 454.

٦٢٣

الآيات

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10) )

التّفسير

دعوة مؤكّدة إلى العدالة :

إنّ الآية الأولى من الآيات الثلاث أعلاه تدعو إلى تحقيق العدالة ، وهي شبيهة بتلك الدعوة الواردة في الآية (135) من سورة النساء ، التي مضى ذكرها مع اختلاف طفيف.

فتخاطب هذه الآية أوّلا المؤمنين قائلة :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ ) .

ثمّ تشير إلى أحد أسباب الانحراف عن العدلة ، وتحذّر المسلمين من هذا الانحراف مؤكّدة أنّ الأحقاد والعداوات القبلية والثارات الشخصية ، يجب أن لا تحول دون تحقيق العدل ، ويجب أن لا تكون سببا للاعتداء على حقوق

٦٢٤

الآخرين ، لأنّ العدالة أرفع وأسمى من كل شيء ، فتقول الآية الكريمة :( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا ) وتكرر الآية التأكيد لبيان ما للعدل من أهمية قصوى فتقول( اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ) .

وبما أنّ العدالة تعتبر أهم أركان التقوى ، تؤكّد الآية مرّة ثالثة قائلة :( وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ) .

والفرق بين فحوى هذه الآية والآية المشابهة لها الواردة في سورة النساء ، يتحدد من عدّة جهات :

أوّلا : إنّ الآية الواردة في سورة النساء دعت إلى إقامة العدل والشهادة لله ، أمّا الآية الأخيرة فقد دعت إلى القيام لله والشهادة بالحق والعدل ، ولعل وجود هذا الفارق لأنّ الآية الواردة في سورة النساء استهدفت بيان ضرورة أن تكون الشهادة لله ، لا لأقارب وذوي الشاهد ، بينما الآية الأخيرة ولكونها تتحدث عن الأعداء أوردت تعابير مثل الشهادة بالعدل والقسط أي تجنب الشهادة بالظلم والجور.

ثانيا : أشارت الآية الواردة في سورة النساء إلى واحد من عوامل الانحراف عن العدالة، بينما الآية الأخيرة أشارت إلى عامل آخر في نفس المجال ، فهناك ذكرت الآية عامل الحب المفرط الذي لا يستند على تبرير أو دليل ، بينما ذكرت الآية الأخيرة الحقد المفرط الذي لا مبرر له.

ولكن الآيتين كليهما تتلاقيان في عامل إتّباع الأهواء والنزوات التي تتحدث عنها الآية الأولى في جملة :( فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا ) لأنّ الهوى مصدر كلّ ظلم وجور ينشأ من الاندفاع الأعمى وراء الأهواء والمصالح الشخصية ، لا من دافع الحب أو الكراهية،وعلى هذا الأساس فإنّ المصدر الحقيقي للانحراف عن العدل هو نفس إتّباع الهوى،وقد جاء في كلام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٦٢٥

والإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام قولهما : «امّا إتّباع الهوى فيصدّ عن الحق»(1) .

* * *

العدل ركن إسلامي مهم :

قلما نجد قضية أعطى الإسلام لها أهمية قصوى كقضية العدل ، فهي وقضية التوحيد سيان في تشعب جذورهما إلى جميع الأصول والفروع الإسلامية ، وبعبارة أخرى : كما أنّ جميع القضايا العقائدية والعملية والاجتماعية والفردية والأخلاقية والقانونية لا تنفصل مطلقا عن حقيقة التوحيد ، فكذلك لا تنفصل كل هذه القضايا ولا تخلو أبدا من روح العدل.

وليس من العجيب والحالة هذه أن يكون العدل واحدا من أصول العقيدة والدين،وأساسا من أسس الفكر الإسلامي ، وهو مع كونه صفة من صفات الله سبحانه ويدخل ضمن مبادئ المعرفة الإلهية ، إلّا أنّه يشتمل على معان واسعة في خصائصه ومزاياه،ولذلك كان ما أولته البحوث الاجتماعية في الإسلام من الاهتمام بالعدل والاعتماد عليه يفوق ما حظيت به المبادئ الإسلامية الأخرى من ذلك.

ويكفي إيراد عدد من الأحاديث والرّوايات نماذج لدرك أهمية هذه الحقيقة :

1 ـ روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إيّاكم والظلم فإنّ الظلم عند الله هو الظلمات يوم القيامة»(2) .

وبديهي أن كل ما هو موجود من خير وبركة ونعم هو من النور وفي النور،

__________________

(1) ورد هذا الحديث نقلا عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتاب سفينة البحار في مادة (هوى) ، وورد في كتاب نهج البلاغة في الخطبة 42 نقلا عن علي بن أبي طالبعليه‌السلام .

(2) سفينة البحار ، مادة (ظلم).

٦٢٦

وإنّ الظلام هو مصدر كل عدم وفاقة.

2 ـ وقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا : «بالعدل قامت السموات والأرض»(1) .

ويعتبر هذا القول من أوضح التعابير التي قيلت في شأن العدل ، ومعناه أنّ حياة البشر المحدودة في الكرة الأرضية ليست وحدها التي يكون قوامها العدل ، بل إنّ حياة ووجود الكون بأكمله ، والسماوات والأرضين كلها قائمة بالعدل ، وفي ظل حالة من توازن القوى الفاعلة فيها ، ووجود واستقرار كل شيء في محله منها ، بحيث لو أنّها انحرفت عن هذا التوازن لحظة واحدة أو بمقدار قيد أنملة لحكمت على نفسها بالفناء والزوال.

ويؤيد هذا القول حديث آخر هو : «الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم» لأنّ للظلم أثرا سريعا في هذه الحياة الدنيوية ومن نتائجه الحروب والاضطرابات والقلاقل والفوضى السياسية والاجتماعية والأخلاقية والأزمات الاقتصادية التي تعمّ العالم اليوم ، وهذا ما يثبت الحقيقة المذكورة بصورة جيدة.

ويجب الانتباه جيدا إلى أنّ اهتمام الإسلام لم ينصب في مجرد العدالة ، بل إنّه أولى أهمية أكبر لتحقيق العدالة ، وطبيعي أنّ محض تلاوة هذه الآيات في المجالس أو من على المنابر ، وكتابتها في الكتب ، لا يجدي نفعا في استعادة العدالة المفقودة ، وعلاج التمييز الطبقي والعنصري ، والفساد والاجتماعي في المجتمع الإسلامي ، بل إنّ عظمة هذه الآيات والأحكام تتجلّى في يوم تطبق فيه العدالة في صميم حياة المسلمين.

* * *

بعد التأكيد الشديد الذي حملته الآية الكريمة حول قضية العدالة وضرورة تطبيقها بادرت الآية التالية وتمشيا مع الأسلوب القرآني ، فأعادت إلى الأذهان

__________________

(1) تفسير الصافي ، في تفسير الآية 7 من سورة الرحمن.

٦٢٧

ما أعده الله للمؤمنين العاملين بالخير من غفرانه ونعمه العظيمة ، حيث تقول الآية :( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ) .

كما ذكرت الآية في المقابل جزاء الكافرين الذين يكذبون بآيات الله ، فقالت:( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ ) .

وممّا يلفت النظر أنّ الآية جعلت المغفرة والأجر العظيم في إطار «وعد الله» بينما ذكرت عقاب جهنم بأنّه نتيجة للكفر وللتكذيب بآيات الله ، وما هذا إلّا إشارة إلى فضل الله ورحمته لعباده فيما يخص نعم وهبات الآخرة التي لا يمكن لأعمال الإنسان مهما كبرت وعظمت أن تباريها أو تعادلها مطلقا ، كما أنّها إشارة ـ أيضا ـ إلى أنّ عقاب الآخرة ليس فيه طابع انتقامي أبدا ، بل هو نتيجة عادلة لما ارتكبه الإنسان من أعمال سيئة في حياته.

أمّا فيما يخص معنى عبارة «أصحاب الجحيم»(1) فهي مع ما في كلمة «أصحاب» من معنى الملازمة ، أي أن الكافرين والمكذبين بآيات الله يلازمون جهنم ، لكن هذه الآية لوحدها لا يمكن أن تكون دليلا على مسألة «الخلود» في نار جهنم ، كما جاء توضيح ذلك في تفسيري «التبيان» و «مجمع البيان» وتفسير «الفخر الرّازي» ، لأنّ الملازمة ربما تكون دائمة ، وقد تستمر لفترة طويلة ثمّ تنقطع ، بدلالة التعبير القرآني الوارد في شأن ركاب سفينة نوح النّبيعليه‌السلام حيث وردت فيهم عبارة «أصحاب السفينة» وهم لم يكونوا ملازمين لتلك السفينة ملازمة دائمة.

ومع انتفاء الشك حول خلود الكفار في نار جهنم ، فالآية الكريمة ـ موضوع البحث ـ لم تتحدث بشيء عن هذا «الخلود» بل يستنتج هذا من آيات قرآنية أخرى.

* * *

__________________

(1) إنّ كلمة جحيم تعني النار الشديدة الالتهاب ، وقد أطلقت في القرآن على نار جهنم كما في هذه الآية ، وعلى نار الدنيا كالنار التي سعروها لحرق النّبي إبراهيمعليه‌السلام الآية (97) من سورة الصافات.

٦٢٨

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) )

التّفسير

لقد ذكرت الآيات السابقة بعضا من النعم الإلهية ، وجاءت الآية الأخيرة تخاطب المسلمين وتذكر لهم أنواعا من النعم التي أنعم الله بها عليهم ، لكي يؤدوا شكرها عن طريق طاعة الله والسعي لتحقيق مبادئ العدالة ، فتقول الآية :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ) .

وقد دأب القرآن الكريم في كثير من آياته على تذكير المسلمين بالنعم المختلفة التي أنعم الله بها عليهم ، وذلك من أجل تعزيز دافع الإيمان لديهم ، ولاستثارة وتحفيز دافع الشكر والصمود فيهم ليقفوا بوجه المشاكل ، والآية الأخيرة من سنخ تلك الآيات.

واختلف المفسّرون حول الواقعة التي تشير إليها الآية موضوع البحث ، فبعضهم قال:بأنّها إشارة إلى إنقاذ المسلمين من قبيلة «بني النضير» اليهودية التي

٦٢٩

تواطأت على قتل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين في المدينة.

وذهب البعض الآخر من المفسّرين على أنّها إشارة إلى واقعة «بطن النخل» التي حصلت في العام السادس من الهجرة النبوية في واقعة «الحديبية» حيث قرر المشركون هناك في ذلك الحين ـ بزعامة (خالد بن الوليد) ـ الهجوم على المسلمين أثناء أدائهم لصلاة العصر،فعلم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه المؤامرة فصلّى صلاة الخوف القصيرة ، ممّا أدى إلى إحباط المؤامرة.

وقد ذكر مفسّرون آخرون وقائع أخرى من حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين المليئة بالحوادث ، وقالوا بأنّ هذه الآية إشارة لتلك الوقائع.

ويرى مفسّرون آخرون أن هذه الآية إشارة إلى كل الوقائع والأحداث التي حصلت طيلة التاريخ الإسلامي حتى ذلك الوقت.

ولو تغاضينا عن كلمة «قوم» الواردة في هذه الآية بصيغة النكرة التي تدل على وحدة المجموعة المعينة ، فإنّ هذا التّفسير يمكن اعتباره من أحسن التفاسير في هذا المجال.

والآية على كل حال تلفت انتباه المسلمين إلى الأخطار التي تعرضوا لها ، وكان يحتمل أن تدفع بالوجود الإسلامي إلى الفناء والزوال وإلى الأبد ، ولكن فضل الله ونعمته شملتهم وأنقذت الإسلام والمسلمين من تلك الأخطار.

كما تحذر الآية المسلمين وتنبههم إلى ضرورة التزام التقوى والاعتماد على الله كدليل على شكر ذلك الفضل وتلك النعمة ، وليعلموا بأنّهم بتقواهم سيضمنون لأنفسهم الدعم والسند والحماية من الله في حياتهم الدنيوية هذه ، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة:( وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) .

وواضح أنّ التوكل على الله ليس معناه التخلي عن المسؤوليات أو الاستسلام لحوادث الزمان ، بل يعني أنّ الإنسان حين يستخدم طاقاته والإمكانيات المتوفرة لديه ، يجب عليه أن ينتبه في نفس الوقت إلى أنّ هذه

٦٣٠

الطاقات والإمكانيات ليست من عنده بل أن مصدرها ومنشأها هو الله تعالى ، وإذا حصل هذا التوجه فإن من شأنه أن يقضي على دافع الغرور والأنانية عند الإنسان أوّلا ، ومن ثمّ لا يدع إلى نفسه طريقا للخوف والقلق واليأس حيال الأحداث والمشاكل مهما كبرت وعظمت، لأنّه يعلم بأنّ سنده وحاميه هو الله الذي فاقت قدرته كل القدرات.

إضافة إلى ما ذكر ، فإنّ تقديم الأمر بالتقوى على قضية التوكل يستشف منه أنّ حماية الله ورعايته تشمل حال المتقين.

ويجب الانتباه إلى أنّ عبارة «التقوى» المشتقة من المصدر «وقاية» معناها حماية النفس وإبعادها عن عناصر السوء والفساد.

* * *

٦٣١

الآية

( وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) )

التّفسير

لقد أشارت هذه الآية أوّلا إلى قضية الوفاء بالعهد ، وقد تكررت هذه الإشارة في مناسبات مختلفة في آيات قرآنية عديدة ، وربّما كانت إحدى فلسفات هذا التأكيد المتكرر على أهمية الوفاء بالعهد وذم نقضه ، هي إعطاء أهمية قصوى لقضية ميثاق الغدير الذي سيرد في الآية (67) من هذه السورة.

والآية في بدايتها تشير إلى العهد الذي أخذه الله من بني إسرائيل على أن يعملوا بأحكامه ، وإرسالة إليهم بعد هذا العهد اثني عشر زعيما وقائدا ليكون كل واحد منهم زعيما لطائفة واحدة من طوائف بني إسرائيل الاثنتي عشر ـ حيث تقول الآية الكريمة:( وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً ) .

٦٣٢

والأصل في كلمة «نقيب» إنّها تعني الثقب الكبير الواسع ، وتطلق بالأخص على الطرق المحفورة تحت الأرض ، وسبب استخدام كلمة نقيب للدلالة على الزعامة ، لأنّ زعيم كل جماعة يكون عليما بأسرار قومه ، وكأنّه قد صنع ثقبا كبيرا يطلع من خلاله على أسرارهم ، كما تطلق كلمة نقيب أحيانا على الشخص الذي يكون بمثابة المعرف للجماعة،وحين تطلق كلمة «مناقب» على الفضائل والمآثر ، يكون ذلك لأنّ الفضائل لا تعرف إلّا عن طريق البحث والتنقيب في آثار الشخص.

وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ كلمة «نقيب» الواردة في الآية موضوع البحث إنما تعني ـ فقط ـ العارف بالأسرار ، لكننا نستبعد هذا الأمر استنادا لما يدلنا عليه التاريخ والحديث وهو أن نقباء بني إسرائيل هم زعماء الطوائف الإسرائيلية ، جاء في تفسير «روح المعاني» عن ابن عباس قوله : «إنّهم كانوا وزراء ثمّ صاروا أنبياء بعد ذلك». أي أنّهم كانوا وزراء للنّبي موسىعليه‌السلام ثمّ نالوا منزلة النّبوة بعده(1) .

ونقرأ في أحوال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه حين قدم أهل المدينة في ليلة العقبة لدعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى منطقة العقبة ، أمر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل المدينة لينتخبوا من بينهم اثني عشر نقيبا على عدد نقباء بني إسرائيل ، وبديهي أنّ مهمّة هؤلاء كانت زعامة قومهم وليس فقط إخبار النّبي بتقارير عن أوضاعهم(2) .

لقد وردت روايات عديدة من طرق السنة ، وهي تلفت الانتباه ـ لما فيها من إشارة إلى خلفاء النّبي الأئمّة الإثني عشرعليهم‌السلام وبيان أن عددهم يساوي عدد نقباء بني إسرائيل ـ ننقل هنا قسما من هذه الروايات :

1 ـ ينقل «أحمد بن حنبل» ـ وهو أحد أئمّة السنّة الأربعة ، عن «مسروق»أنّه

__________________

(1) تفسير روح المعاني ، ج 6 ، ص 78.

(2) سفينة البحار ، في مادة «نقيب».

٦٣٣

سأل عبد الله بن مسعود : كم عدد الذين سيحكمون هذه الأمّة؟ فرد ابن مسعود قائلا:«لقد سألنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «اثني عشر كعدّة نقباء بني إسرائيل»(1) .

2 ـ وجاء في تاريخ «ابن عساكر» نقلا عن ابن مسعود ، أنّهم سألوا النّبي عن عدد الخلفاء الذين سيحكمون هذه الأمّة ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ عدّة الخلفاء بعدي عدة نقباء موسى»(2)

3 ـ وورد في «منتخب كنز العمال» عن جابر بن سمرة قوله «سيحكم هذه الأمّة اثنا عشر خليفة بعدد نقباء بني إسرائيل»(3) .

وجاء مثل هذا الحديث أيضا في كتاب (ينابيع المودة) في الصفحة 445 وكذلك في كتاب (البداية والنهاية) ، ج 6 في الصفحة 247 أيضا.

* * *

وتشير الآية بعد ذلك إلى وعد الله لبني إسرائيل حيث تقول :( وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ ) .

وإنّ هذا الوعد سيتحقق إذا التزم بنو إسرائيل بالشروط التالية :

1 ـ أن يلتزموا بإقامة الصّلاة كما تقول الآية :( لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ ) .

2 ـ وأن يدفعوا زكاة أموالهم :( وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ ) .

3 ـ أن يؤمنوا بالرسل الذين بعثهم الله ويحترموا وينصروا هؤلاء الرسل ، حيث تقول الآية( وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ ) (4) .

__________________

(1) مسند أحمد ، ص 398 ، طبعة مصر ، سنة 1313.

(2) كتاب فيض القدير في شرح الجامع الصغير ، ج 2 ، ص 459.

(3) منتخب كنز العمال في حاشية مسند أحمد ، ج 5 ، ص 312.

(4) إنّ عبارة «عزرتموهم» مشتقة من مادة «تعزير» أي المنع أو العون ، أمّا حين تسمى بعض العقوبات الإسلامية بالتعزير فذلك لأنّ هذه العقوبات تكون في الحقيقة عونا للمذنب لكي يرتدع عن مواصلة الذنب ، وهذا دليل على أنّ العقوبات الإسلامية لا تتسم بطابع الانتقام بل تحمل طابعا تربويا لذلك سمّيت بالتعزير.

٦٣٤

4 ـ وبالإضافة إلى الشروط الثلاثة المذكورة أعلاه ، أن لا يمتنع بنو إسرائيل عن القيام ببعض أعمال الإنفاق المستحب التي تعتبر نوعا من معاملات القرض الحسن مع الله سبحانه وتعالى حيث تقول الآية :( وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً ) .

ثمّ أردفت الآية الكريمة ببيان نتائج الوفاء بالشروط المذكورة بقوله تعالى :( لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) .

كما بيّنت الآية مصير الذين يكفرون ولا يلتزمون بما أمر الله حيث تقول :( فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ ) .

لقد أوضحنا في الجزء الثّاني من تفسيرنا هذا لما ذا اصطلح القرآن المجيد على الإنفاق،أنّه قرض لله سبحانه؟

ويبقى في هذا المجال ـ أيضا ـ سؤال أخير وهو لما ذا تقدمت مسألتا الصّلاة والزكاة على الإيمان بموسىعليه‌السلام ، في حين أنّ الإيمان يجب أن يسبق العمل؟

ويجيب بعض المفسّرين على هذا السؤال بقولهم : إن المراد بعبارة «الرسل» الواردة في الآية هم الأنبياء الذين جاءوا بعد النّبي موسىعليه‌السلام وليس موسى نفسه ، لذلك فإن الأمر الوارد هنا بخصوص الإيمان بالرسل يحمل على أنّه أمرّ لمّا يستقبل من الزمان ، فلا يتعارض لذلك وروده بعد الأمر بالصّلاة والزكاة ، كما يحتمل ـ أيضا ـ أن يكون المراد بعبارة «الرسل» هم «نقباء» بني إسرائيل حيث أخذ الله الميثاق من بني إسرائيل بأن يكونوا أولياء معهم،(ونقرأ في تفسير «مجمع البيان» أنّ بعضا من المفسّرين القدماء ، احتملوا أن يكون نقباء بني إسرائيل رسلا من قبل الله ، ويؤيد هذا الاحتمال الرأي الأخير الذي ذهبنا إليه).

* * *

٦٣٥

الآية

( فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) )

التّفسير

إنّ هذه الآية الكريمة جاءت تشير إلى نقض بني إسرائيل للعهد الذي أخذه الله عليهم والذي ذكرته الآية السابقة.

كما ذكرت هذه الآية نتائج وعواقب هذا النقض حيث تقول :( فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً ) (1) .

والحقيقة هي أن هؤلاء عوقبوا بهذين الجزاءين بسبب نقضهم لميثاقهم ، فقد حرموا من رحمة الله ، وتحجرت أفكارهم وقلوبهم فلم تعد تبدي أي مرونة أمام الحقائق.

__________________

(1) إنّ كلمة «لعن» تعني في اللغة «الطرد والإبعاد» وحين ينسب اللعن إلى الله فإنه يعني الحرمان من رحمته،أمّا كلمة «قاسية» فهي في الأصل مشتقة من المصدر «قساوة» وتطلق على الأخص على الحجر الصلد،ولذلك أطلقت على الذين لا يبدون أي مرونة من جانبهم أمام الحقائق التي تتكشف لهم.

٦٣٦

وتشرح الآية آثار هذا التحجّر فتقول :( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ) و( وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ) .

ولا يستبعد أن تكون علامات وآثار نبيّ الإسلام محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتي أشير إليها في آيات قرآنية أخرى ، جزءا من الأمور التي نسيها بنو إسرائيل ـ كما يحتمل أن تكون هذه الجملة القرآنية إشارة إلى ما حرفه أو نسيه جمع من علماء اليهود أثناء تدوينهم للتوراة من جديد بعد أن فقدت التوراة الأصلية ، وإنّ ما وصل إلى هؤلاء من كتاب موسى الحقيقي كان جزءا من ذلك الكتاب وقد اختلط بالكثير من الخرافات ، وقد نسي هؤلاء حتى هذا الجزء الباقي من كتاب موسىعليه‌السلام .

ثمّ تتطرق الآية إلى ظاهرة خبيثة طالما برزت لدى اليهود ـ بصورة عامّة ـ إلّا ما ندر منهم ، وهي الخيانة التي كانت تتكشف للمسلمين بين فترة وأخرى ، تقول الآية الكريمة في هذا المجال :( وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ (1) مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ ) .

وفي الختام تطلب الآية من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعفو عن هؤلاء ويصفح عنهم ، مؤكّدة أنّ الله يحب المحسنين ، وذلك في قوله تعالى :( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) .

ولنرى هل أنّ المراد في الآية أن يعفو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الأخطاء السابقة للأقلية الصالحة من اليهود ، أم أنّ المراد هو العفو عن الأغلبية الطالحة منهم؟

إنّ ظاهر الآية يدعم ويؤيّد الاحتمال الثّاني ، لأنّ الأقلية الصالحة لم ترتكب ذنبا أو خيانة لكي يطلب من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العفو عنهم ـ والظن الغالب هو أنّ العفو

__________________

(1) إنّ كلمة «خائنة» مع كونها اسما للفاعل ، فهي في هذه الآية تكون بمعنى المصدر وتطابق كلمة الخيانة وقد جرت عادة العرب على استخدام مثل هذه الاستعمالات في أشعارهم حيث جاؤوا باسم الفاعل وعنوا به المصدر في كلمات مثل «العافية» والخاطية» وقد احتملوا أيضا أنّ تكون كلمة «خائنة» صفة للطائفة.

٦٣٧

والصفح المطلوبان في الآية يشملان ـ فقط ـ تلك الحالات التي كان اليهود يوجهون فيها أذاهم وتحرشاتهم واستفزازاتهم إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا يشملان أخطاء اليهود وجرائمهم بحق الأهداف والمبادئ الإسلامية ، حيث لا معنى للعفو في هذا المجال.

الممارسات التّحريفية لليهود :

إنّ ما يستشف من مجموع الآيات الواردة في القرآن الكريم بخصوص الممارسات التحريفية لليهود ، هو أنّهم كانوا يمارسون أنواع التحريف في الكتب السماوية الخاصّة بهم.

وكان تحريفهم يتخذ أحيانا طابعا معنويا ، أي أنّهم كانوا يفسّرون العبارات الواردة في تلك الكتب بشكل يناقض المعنى الحقيقي لها ، فهم كانوا يحفظون الألفاظ كما هي لكنهم كانوا يغيرون معانيها وهو (التحريف المعنوي) ، وكانوا ـ أيضا ـ يقومون بتحريف الألفاظ في بعض الأحيان ، فهم بدل أن يقولوا «سمعنا وأطعنا» كانوا يقولون «سمعنا وعصينا» كما كانوا أحيانا يخفون بعض الآيات الإلهية ، فما كان يطابق أهواءهم أظهروه ، وأخفوا الآيات التي لم تكن لتتلاءم مع ميولهم ورغباتهم وهو «التحريف اللفظي» ، وقد وصلت بهم الوقاحة إلى حد أنّهم مع موجود الكتاب السماوي بين أيديهم كانوا يخادعون الناس بوضع أيديهم على الحقائق الواردة فيها ، لكي لا يستطيع الناظر قراءتها.

وستأتي تفاصيل هذا الموضوع لدى تفسير الآية (41) من نفس هذه السورة في قصّة «ابن صوريا».

هل يجعل الله قلب الإنسان قاسيا؟

نقرأ في الآية ـ موضوع البحث ـ إنّ الله ينسب لنفسه فعل جعل القسوة في

٦٣٨

قلوب مجموعة من اليهود! والذي نعرفه هو أنّ هذه القسوة ما هي إلّا نتيجة لارتكاب الذنوب والانحرافات ، فكيف إذن ينسب الله فعل جعل القسوة في قلوب أولئك اليهود إلى نفسه؟ ولو كان هذا الفعل من الله ، فكيف يكون أولئك الأشخاص مسئولين عن أعمالهم،ألا يعتبر هذا نوعا من الجبر؟

ولدي الإمعان بدقة في الآيات القرآنية المختلفة ، ومنها الآية موضوع البحث ، يتبيّن لنا أنّ الأشخاص إنما يحرمون ـ بسبب اخطائهم وذنوبهم ـ من لطف الله ورحمته وهدايته،وأن أعمالهم هذه في الحقيقة مصدر لمجموعة من الانحرافات الفكرية والأخلاقية،بحيث يستحيل على الإنسان ـ أحيانا ـ أن يجنب نفسه عواقبها ونتائجها.

وبما أنّ العلل ـ أو الأسباب ـ تعطي آثارها بإذن الله ، لذلك نسب مثل هذه الآثار في القرآن الكريم إلى الله ، ففي الآية موضوع البحث نقرأ أنّ اليهود ـ نتيجة لنقضهم الميثاق ـ جعل الله قلوبهم قاسية. كما نقرأ في الآية (27) من سورة إبراهيم قوله تعالى( وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ ) وفي الآية (77) من سورة التوبة نقرأ قوله سبحانه :( فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ ) .

وواضح أنّ هذه الآثار السيئة تنبع من عمل الإنسان نفسه ، ولا تناقض في هذا الأمر حرية الإرادة والإختيار ، لأنّ مقدمات تلك الآثار تكون من عمل الإنسان وتصدر عنه بعلمه واختياره ، ولأنّ آثار عمله هي النتيجة الحتمية للعمل نفسه ، وعلى سبيل المثال لو أنّ إنسانا تناول شيئا من المشروبات الكحولية ، وحصلت لديه حالة من السكر ، فقام على أثر هذه الحالة بارتكاب جريمة معينة ، فهو وإن كان لا يمتلك إرادته في حالة السكر ، إلّا أنّه قبل ذلك أقدم على شرب الخمرة مختارا ومدركا لما يفعل ، وبذلك هيّأ بنفسه مقدمات العمل الجنائي ، وهو يعمل احتمال صدور هذا العمل منه في حالة السكر ، ولذلك فهو مسئول عن هذا

٦٣٩

العمل ، فلو قيل في مثل هذه الحالة : إنّ شخصا قد شرب الخمرة فسلبنا منه عقله ، فتورط نتيجة عمله في ارتكاب جريمة ، فهل في هذا القول أي تناقض أو هل يستشف منه مفهوم الجبر؟

وخلاصة القول فإنّ كل أنواع الهداية والضلال وأمثالها التي تنسب في القرآن الكريم إلى الله سبحانه ، إنّما تحصل بشكل حتمي كنتيجة للمقدمات والأعمال التي تصدر من الإنسان نفسه ، وعلى أثرها يستحق إمّا الهداية أو الضلال ، وفي غير ذلك فإنّ العدل والحكمة الإلهيين ، لا يسمحان مطلقا أن يساق إنسان إلى طريق الهداية دون أي مبرر ، أو أن يساق آخر إلى طريق الضلال دون وجود سبب لذلك(1) .

* * *

__________________

(1) لقد وردت تفاصيل أخرى في هذا المجال ـ أيضا ـ في الجزء الأوّل من تفسيرنا هذا.

٦٤٠