الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل8%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 710

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 710 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 173290 / تحميل: 6079
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

الفصل الثالث و الخمسون في الفتن و الشبه و البدع

١٦١

١ في أوّل الباب الثالث من النهج باب المختار

من حكم امير المؤمنينعليه‌السلام و يدخل في ذلك المختار من أجوبة مسائله و الكلام القصير الخارج في ساير أغراضه .

قالعليه‌السلام :

كُنْ فِي اَلْفِتْنَةِ كَابْنِ اَللَّبُونِ لاَ ظَهْرٌ فَيُرْكَبَ وَ لاَ ضَرْعٌ فَيُحْلَبَ قول المصنّف : « باب المختار » هو القسم الأخير من كتابه « من حكم أمير المؤمنينعليه‌السلام » اقتصر عليه في ( المصرية ) و زاد ابن أبي الحديد و ابن ميثم : « و مواعظه » و هو الصحيح لأصحية نسختيهما لا سيما الأخير الذي نسخته بخط المصنف .

و لأنّ فيه مواعظ كثيرة و منها في العنوان ( ١٥٠ ) كلامهعليه‌السلام لرجل سأله أن يعظه الذي قال المصنف فيه « و لو لم يكن في هذا الكتاب إلاّ هذا الكلام لكفى به موعظة ناجعة » .

١٦٢

و وصف الشعبي كلامهعليه‌السلام في الحكم و غيرها فقال : تكلّم أمير المؤمنينعليه‌السلام بتسع كلمات ارتجلهن ارتجالا فقأن عيون البلاغة و أيتمن جواهر الحكمة و قطعن جميع الأنام عن اللحاق بواحدة منهن ، ثلاث منهن في الحكمة و ثلاث في المناجاة و ثلاث في الأدب ، أما اللائي في الحكمة فقال : قيمة كلّ امرى‏ء ما يحسنه ، و ما هلك امرؤ عرف قدره ، و المرء مخبوء تحت لسانه .

و أما اللائي في المناجاة فقال : اللّهم كفى بي عزّا أن أكون لك عبدا ، و كفى بي فخرا أن تكون لي ربا ، أنت كما أحب فاجعلني كما تحب و أما اللائي في الأدب فقال : امنن على من شئت تكن أميره ، و استغن عمّن شئت تكن نظيره و احتج إلى من شئت تكن أسيره(١) .

« و يدخل في ذلك المختار من أجوبة مسألته » ترى أجوبة مسألته في العناوين ( ١٦ ) ( ٣٠ ) ( ٩٤ ) ( ١٢٠ ) ( ١٥٠ ) ( ٢٢٧ ) ( ٢٢٩ ) ( ٢٣٥ ) ( ٢٦٦ ) ( ٢٨٧ ) ( ٢٩٤ ) ( ٣٠٠ ) ( ٣١٨ ) ( ٣٥٦ ) ( ٤٧٠ ) .

« و الكلام القصير » كان حاجب هشام بن عبد الملك يأمر منتجعيه بالإيجاز في الكلام ، فقام أعرابي فقال : إنّ اللَّه تعالى جعل العطاء محبة و المنع مبغضة فلأن نحبك خير من أن نبغضك فأعطاه و أجزل له .

« الخارج في سائر أغراضه » أي باقي مقاصده ، و الأصل في ( الغرض ) الهدف و ( سائر ) يأتي بمعنى الجميع و معنى الباقي ، و الأخير هو المراد هنا .

قوله « كن في الفتنة » الأصل في « الفتنة » قولهم « دينار مفتون » فتن بالنار ، و كلّ شي‏ء ادخل النار فقد فتن ، و قالوا « الناس عبيد الفتانين » أي الدرهم و الدينار .

« كابن اللبون » ابن اللبون : ولد الناقة الذكر إذا دخل في الثالثة ، لأن امّه

____________________

( ١ ) الخصال للصدوق : ١٨٦ .

١٦٣

وضعت غيره فصار لها لبن ، و الانثى بنت اللبون ، و يجمعان بنات اللبون .

« لا ظهر فيركب و لا ضرع فيحلب » نظيره قول حاجب بن زرارة في القعقاع :

ما هو رطب فيعصر و لا يابس فيكسر .

و في المثل : لا تكن حلوا فتزدرد و لا مرّا فتلفظ .

و من الأمثال في الاعتزال قولهم : لا ناقة لي في هذا و لا جمل و قالوا : ان كنت من أهل الفطن فلا تدر حول الفتن .

ثم كما لا ينتفع بابن اللبون لصغره كذلك بالثلب لكبره ، و هو الذي انكسرت أنيابه من شدّة هرمه ، و إنما الانتفاع الكامل بالناب الذي في وسط الشباب ، قال بعضهم :

ألم تر أن الناب يحلب علبة

و يترك ثلب لا ضراب و لا ظهر

قال ابن أبي الحديد : أيام الفتنة هي أيام الخصومة بين رئيسين ضالين يدعوان كلاهما إلى ضلالة ، كفتنة عبد الملك و ابن الزبير و فتنة مروان و الضحاك و فتنة الحجاج و ابن الأشعث ، و أما إذا كان أحدهما صاحب حق فليست أيام فتنة كالجمل و صفين(١) .

قلت : إن جانبوا العصبية و أرادوا فهم الحقيقة فأول أيام الفتنة أيام أوّلهم ، ففي ( الطبري ) : قال أبو مويهبة مولى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : بعث إليّ النبي من جوف الليل فقال : يا أبا مويهبة إنّي قد امرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي فانطلقت معه فلما وقف بين أظهرهم قال : السّلام عليكم أهل المقابر ، ليهن لكم ما أصبحتم ممّا أصبح الناس فيه ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أوّلها ، الآخرة شرّ من الاولى إلى أن قال ثم انصرف فبدأ

____________________

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٨٢ .

١٦٤

بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وجعه الذي قبض فيه(١) .

و في ( بلاغات نساء أحمد بن أبي طاهر البغدادي ) من رجالهم في ذكره خطبة سيّدة نساء العالمين باتفاق فرق المسلمين لما منعها أبو بكر فدك و في الخطبة : فأنقذكم اللَّه برسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد اللتيا و التي ، و بعد ما مني ببهم الرجال و ذؤبان العرب ، كلّما حشوا نارا للحرب أطفأها و نجم قرن للضلال و فغرت فاغرة من المشركين قذف بأخيه في لهواتها ، فلا ينكفي حتى يطأ صماخها بأخمصه و يخمد لهبها بحده ، مكدودا في ذات اللَّه قريبا من رسول اللَّه سيّدا في أولياء اللَّه ، و أنتم في بلهنية و ادعون آمنون ، حتى إذا اختار اللَّه تعالى لنبيه دار أنبيائه ظهرت خلّة النفاق و سمل جلباب الدين و نطق كاظم الغاوين و نبغ خامل الآفلين و هدر فنيق المبطلين ، فخطر في عرصاتكم و أطلع الشيطان رأسه من مغرزه صارخا بكم ، فوجدكم لدعائه مستجيبين و للغرة فيه ملاحظين ، فاستنهضكم فوجدكم خفافا و أحمشكم فألفاكم غضابا ، فوسمتم غير أبلكم و أوردتموها غير شربكم ، هذا و العهد قريب و الكلم رحيب و الجراح لما يندمل ، بدارا زعمتم خوف الفتنة ألا في الفتنة سقطوا و إنّ جهنم لمحيطة بالكافرين(٢) .

و روى الإسكافي منهم في نقضه ( عثمانية الجاحظ ) عن أبي رافع قال :

أتيت أبا ذر بالربذة اودّعه ، فلما أردت الانصراف قال لي و لا ناس معي :

ستكون فتنة فاتقوا اللَّه و عليكم بالشيخ علي بن أبي طالب فاتبعوه ، فإني سمعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول له : أنت أوّل من آمن بي و أوّل من يصافحني يوم القيامة ، و أنت الصدّيق الأكبر ، و أنت الفاروق الذي تفرّق بين الحق و الباطل ،

____________________

( ١ ) تاريخ الطبري ٢ : ٤٣٢ .

( ٢ ) بلاغات النساء لابن طيفور : ١٣ ١٤ .

١٦٥

و أنت يعسوب المؤمنين و المال يعسوب الكافرين ، و أنت أخي و وزيري و خير من أترك بعدي(١) .

ثم ما قاله ابن أبي الحديد : من فتنة الحجاج و ابن الأشعث خلاف عقيدة أهل نحلته ، فإنّ عندهم كان قيام ابن الأشعث فتنة ، و أمّا الحجاج فكان عامل من بايعه جميع الناس و كان عندهم خليفة حقّا و أميرا للمؤمنين به .

و كذلك قوله « فتنة عبد الملك و ابن الزبير » غير صحيح عند أهل ملته ، فانّه عندهم كان ابتداء ابن الزبير ولي اللَّه و عبد الملك عدوّ اللَّه ، و لما غلب عبد الملك صار هو ولي اللَّه و ابن الزبير عدوّ اللَّه(٢) .

ففي ( كامل المبرد ) : خرج مصعب بن الزبير إلى باجميراء ، ثم أتى الخوارج خبر مقتله بمسكن و لم يأت المهلب و أصحابه ، فتواقفوا يوما على الخندق ، فناداهم الخوارج : ما تقولون في المصعب ؟ قالوا : إمام هدى قالوا : فما تقولون في عبد الملك ؟ قالوا : ضالّ مضل فلما كان بعد يومين أتى المهلب قتل صعب و إنّ أهل الشام اجتمعوا على عبد الملك ، و ورد عليه كتاب عبد الملك بولايته ، فلما تواقفوا ناداهم الخوارج : ما تقولون في مصعب ؟ قالوا : لا نخبركم قالوا : فما تقولون في عبد الملك ؟ قالوا : إمام هدى قالوا : يا أعداء اللَّه بالأمس ضال مضل و اليوم امام هدى ، يا عبيد الدّنيا عليكم لعنة اللَّه(٣) .

و الخوارج و إن طعنوا عليهم بكون ما عليهم خلاف العقل و خلاف الفطرة التي فطر الناس عليها ، إلاّ أنّه يقال لهم : إنّ ذلك لازم لكم أيضا بموافقة العامة في إمامة صديقهم و صديقه ، فلا يمكن القول بالملزوم و ترك اللازم .

____________________

( ١ ) نقض العثمانية لأبي جعفر الإسكافي : ٢٩٠ ملحقة بالعثمانية .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٨٢ .

( ٣ ) الكامل في الأدب للمبرّد ٣ : ١١٠١ ١١٠٢ .

١٦٦

و أما قوله « إذا كان أحدهما صاحب حق فليست أيام فتنة كالجمل و صفين » فأيضا أهل ملّته غير معترفين به ، فهذا ابن عبد البر من أئمتهم قال في سعد بن أبي وقاص الذي لم يشهد الجمل و صفين مع أمير المؤمنينعليه‌السلام :

كان ممّن قعد و لزم بيته في الفتنة و أمر أهله أن لا يخبروه من أخبار الناس بشي‏ء حتى تجتمع الامة على إمام(١) .

و قال في ترجمة ابن فاروقهم : قيل لنافع : ما بال ابن عمر بايع معاوية و لم يبايع عليّا ؟ فقال : كان ابن عمر لا يعطي يدا في فرقة و لا يمنعها من جماعة ، و لم يبايع معاوية حتى اجتمعوا عليه(٢) .

قبّح اللَّه هذا الدين الذي يصير معاوية الذي كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لعنه في غير موطن و عدوّ الدين أولى بالإمامة من أمير المؤمنينعليه‌السلام الذي جعله اللَّه تعالى في كتابه كنفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله .( و أنفسنا و أنفسكم . ) (٣) و جعله النبي بمنزلة نفسه في المتواتر منه في قوله للناس : من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه .

لا يقال : انّما قال « من كنت مولاه فعلي مولاه » لا ما قلت قلت : ما ذكرته ان لم يكن لفظه هو معناه ، ألم يكن قال تلك الجملة بعد قوله للناس « ألست بكم أولى من أنفسكم » و قول الناس له « بلى أنت أولى بنا من أنفسنا » فهل يصير معناها غير ما قلناه .

قبّح اللَّه هذا الدين الذي هو خلاف ناموس الإنسانية ، حتى ان الحجاج الذي قال عمر بن عبد العزيز الذي هو أحد خلفائهم : لو أنّ جميع الامم جاءت

____________________

( ١ ) الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر ٢ : ٦٠٩ .

( ٢ ) المصدر نفسه ٣ : ٩٥٣ .

( ٣ ) آل عمران : ٦١ .

١٦٧

يوم القيامة كلّ واحدة منهم بشرارهم و جئناهم بالحجاج لغلبنا جميعهم لم يرضه ، فقال الاسكافي أحد أئمتهم في نقض ( عثمانيته ) : امتنع ابن عمر من بيعة عليعليه‌السلام و طرق على الحجاج بابه ليلا ليبايع لعبد الملك كيلا يبيت تلك الليلة بلا إمام ، زعم لأنّه روي ان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال « من مات و لا إمام له مات ميتة جاهلية »(١) و حتى بلغ من احتقار الحجاج له و استرذاله حاله أن أخرج رجله من الفراش فقال : اصفق بيدك عليها قال و رواه بعضهم و زاد : و لما خرج قال الحجاج : ما أحمق هذا يترك بيعة علي و يأتيني مبايعا في ليله .

٢ الخطبة ( ٩١ ) إِنَّ اَلْفِتَنَ

إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ وَ إِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ يُنْكَرْنَ مُقْبِلاَتٍ وَ يُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ يَحُمْنَ حَوْلَ اَلرِّيَاحِ يُصِبْنَ بَلَداً وَ يُخْطِئْنَ بَلَداً أقول : رواه الثقفي في أول ( غاراته ) باسنادين عن زر بن حبيش عنهعليه‌السلام : الأول عن إسماعيل بن ابان عن عبد الغفار بن القاسم عن المنصور بن عمرو عن ذر و الثاني عن أحمد بن عمران الأنصاري عن أبيه عن أبن أبي ليلى عن المنهال بن عمرو عن زر قال : خطب عليعليه‌السلام بالنهروان إلى أن قال فقام إليه رجل آخر فقال لهعليه‌السلام : حدّثنا عن الفتن قال : ان الفتن إذا أقبلت شبهت و إذا أدبرت نبهت ، يشبهن مقبلات و يعرفن مدبرات ، ان الفتن تحوم كالرياح يصبن بلدا و يخطئن اخرى(٢) .

« ان الفتن إذا أقبلت شبهت و إذا أدبرت نبهت » في ( نهاية الجزري ) : التشابه قسمان ، قسم إذا ردّ إلى المحكم يفهم معناه ، و قسم لا سبيل إلى معرفة

____________________

( ١ ) نقض العثمانية : ٣٠١ .

( ٢ ) الغارات للثقفي : ٧ .

١٦٨

حقيقته ، فالمتتبع له متتبع للفتنة ، لأنّه لا يكاد ينتهي إلى شي‏ء تسكن إليه نفسه ، و منه حديث ذكر فيه فتنة « تشبه مقبلة و تبين مدبرة » أي أنّها إذا أقبلت شبهت على القوم و أرتهم أنّهم على الحق حتى يدخلوا فيها و يركبوا منها ما لا يجوز ، فإذا أدبرت بان أمرها فعلم من دخل فيها أنّه كان على الخطأ(١) .

« ينكرن مقبلات و يعرفن مدبرات » قد عرفت أنّ ( غارات الثقفي ) رواه « يشبهن مقبلات و يعرفن مدبرات » .

« يحمن حول الرياح » هكذا في ( المصرية )(٢) ، و الصواب : « حوم الرياح » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية )(٣) ، مع أنّه لا معنى لما في ( المصرية ) ، فالفتن لا يدرن حول الرياح بل يدرن حول الناس دور الرياح ، من قولهم « حام الطائر حول الشي‏ء حوما » أي دار .

« يصبن بلدا و يخطئن اخرى » أي كما أن الرياح الشديدة تصيب بلدا و تخطى‏ء بلدا كذلك الفتن يصبن بلدا فيبتلى الناس بوخامتهن و يخطئن بلدا فيسلمون منها .

٣ الحكمة ( ٧٦ ) و قالعليه‌السلام :

إِنَّ اَلْأُمُورَ إِذَا اِشْتَبَهَتْ اُعْتُبِرَ آخِرُهَا بِأَوَّلِهَا كان العباسيون يدّعون إجراء العدالة إذا ظهروا إلاّ انّه كان حالهم في الآخر معلومة من أوّلها .

____________________

( ١ ) النهاية لابن الأثير للجزري ٢ : ٤٤٢ .

( ٢ ) الطبعة المصرية : ٢٣٤ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٧ : ٤٤ الخطبة ( ١٩٢ ) ، أمّا شرح ابن ميثم ٢ : ٣٨٨ ، بلفظ « حول » ، أما الخطبة ٧٤ بلفظ « حوم » .

١٦٩

و لما بايعت الأوس أبا بكر لئلا يصير الأمر إلى الخزرج و كانت بينهما رقابة من الجاهلية ، قال لهم المنذر بن الحباب : فعلتموها أما و اللَّه لكأني بأبنائكم على أبواب أبنائهم قد وقفوا يسألونهم بأكفّهم و لا يسقون الماء .

و صار كما قال(١) .

٤ الحكمة ( ٩٣ ) و قالعليه‌السلام :

لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ اَللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ اَلْفِتْنَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ إِلاَّ وَ هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى فِتْنَةٍ وَ لَكِنْ مَنِ اِسْتَعَاذَ فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ مُضِلاَّتِ اَلْفِتَنِ فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ وَ اِعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ١ ٧ ٨ : ٢٨ وَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَخْتَبِرُهُمْ بِالْأَمْوَالِ وَ اَلْأَوْلاَدِ لِيَتَبَيَّنَ اَلسَّاخِطَ لِرِزْقِهِ وَ اَلرَّاضِيَ بِقِسْمِهِ وَ إِنْ كَانَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمَ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ لَكِنْ لِتَظْهَرَ اَلْأَفْعَالُ اَلَّتِي بِهَا يُسْتَحَقُّ اَلثَّوَابُ وَ اَلْعِقَابُ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يُحِبُّ اَلذُّكُورَ وَ يَكْرَهُ اَلْإِنَاثَ وَ بَعْضَهُمْ يُحِبُّ تَثْمِيرَ اَلْمَالِ وَ يَكْرَهُ اِنْثِلاَمَ اَلْحَالِ و هذا من غريب ما سمع منه في التفسير « لا يقولن أحدكم اللّهم اني أعوذ بك من الفتنة » قال ابن بابويه في ( توحيده ) :

الفتنة على عشرة أوجه : فوجه الضلال ، و الثاني : الاختبار و هو قوله تعالى .( و فتناك فتونا ) .(٢) ( ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون ) (٣) و الثالث : الحجّة و هو قوله تعالى( ثم لم تكن فتنتهم إلاّ أن قالوا

_ ___________________

( ١ ) التوحيد للصدوق : ٣٨٦ .

( ٢ ) طه : ٤٠ .

( ٣ ) العنكبوت : ١ ٢ .

١٧٠

 و اللَّه ربنا ما كنّا مشركين ) (١) و الرابع : الشرك و هو قوله تعالى .( و الفتنة أشدّ من القتل ) .(٢) و الخامس : الكفر و هو قوله تعالى .( ألا في الفتنة سقطوا ) .(٣) و السادس : الإحراق بالنار و هو قوله تعالى( إن الذين فتنوا المؤمنين و المؤمنات ) . .(٤) و السابع : العذاب كقوله تعالى( يوم هم على النار يفتنون ) (٥) ( ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون ) (٦) .( و من يرد اللَّه فتنته فلن تملك له من اللَّه شيئا ) . .(٧) و الثامن : القتل كقوله تعالى .( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) .(٨) ( فما آمن لموسى إلاّ ذريّة من قومه على خوف من فرعون و ملئهم أن يفتنهم ) .(٩) و التاسع : الصدّ كقوله تعالى( و ان كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا اليك ) .(١٠) و العاشر : شدّة المحنة كقوله تعالى .( ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) (١١) ، و قد زاد علي بن ابراهيم وجها آخر ، و هو المحبة كقوله تعالى .( انّما أموالكم و أولادكم فتنة ) .(١٢) و عندي أنّه المحنة بالنون لا المحبة بالباء لقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله « الولد مجبنة مبخلة »(١٣) .

____________________

( ١ ) الأنعام : ٢٣ .

( ٢ ) البقرة : ١٩١ .

( ٣ ) التوبة : ٤٩ .

( ٤ ) البروج : ١٠ .

( ٥ ) الذاريات : ١٣ .

( ٦ ) الذاريات : ١٤ .

( ٧ ) المائدة : ٤١ .

( ٨ ) النساء : ١٠١ .

( ٩ ) يونس : ٨٣ .

( ١٠ ) الاسراء : ٧٣ .

( ١١ ) يونس : ٨٥ .

( ١٢ ) الأنفال : ٢٨ .

( ١٣ ) بحار الأنوار ١٠٤ : ٩٧ رواية ٦٠ ب ٢ .

١٧١

قلت : و المفهوم من الخليل أن الأصل في معناه الإحراق ، فقال : الفتن الإحراق(١) ، قال تعالى( يوم هم على النار يفتنون ) (٢) ، و ورق فتين أي فضة محرقة و يقال للحرة فتين كأن حجارتها محرقة .

هذا ، و عن الأصمعي لا يقال أفتنته بل فتنته ، ورد عليه بقول أعشى همدان في سعيد بن جبير :

لئن أفتنتني فهي بالأمس أفتنت سعيدا فأمسى قد قلى كلّ مسلم(٣) و عن ام عمرو بنت الأهتم : مررنا بمجلس فيه سعيد بن جبير و نحن جوار و معنا جارية تغني بدف معها و تنشد البيت « لئن أفتنتني . » ، فقال سعيد : كذبتن كذبتن .

« لأنّه ليس أحد إلاّ و هو مشتمل على فتنة » و لو بالمال أو الولد ، و لأنّ سنته تعالى فتن عباده و لن تجد لسنته تبديلا ، قال تعالى( أحسب الناس ان يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون و لقد فتنا الذين من قبلهم فَليعلمنَّ اللَّه الذين صدقوا و ليعلَمَنَّ الكاذبين ) (٤) .

« و لكن من استعاذ فليستعذ باللَّه من مضلاّت الفتن » كما في فتنة بني اسرائيل بالعجل الذي أضلّهم السامري به حتى تركوا هارون و أرادوا قتله .

و كما في فتنة المسلمين بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بمثل فتنة بني اسرائيل بجعل الثاني الأول عجله حتى تركوا خليفة نبيّهم و أرادوا قتله ، و كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لهم في المتواتر : لتتبعن بني إسرائيل حذوا بحذو حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه .

____________________

( ١ ) العين لأحمد الفراهيدي ٨ : ١٢٧ مادة ( فتن ) .

( ٢ ) الذاريات : ١٣ .

( ٣ ) العين للفراهيدي ٨ : ١٢٨ مادة ( فتن ) .

( ٤ ) العنكبوت : ٢ ٣ .

١٧٢

و في ( خلفاء ابن قتيبة ) في قصة السقيفة فأخرجوا عليّا فمضوا به إلى أبي بكر ، فقالوا له : بايع فقال : إن أنا لم أفعل فمه ؟ قالوا : إذن و اللَّه الذي لا إله إلاّ هو لضرب عنقك قال : إذن تقتلون عبد اللَّه و أخا رسوله قال عمر : أما عبد اللَّه فنعم و أما أخو رسوله فلا و أبو بكر ساكت لا يتكلّم ، فقال له عمر : ألا تأمر فيه ؟ فقال : لا اكرهه على شي‏ء ما كانت فاطمة إلى جنبه فلحق علي بقبر رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يصيح و يبكي و ينادي : يابن امّ إن القوم استضعفوني و كادوا يقتلونني إلى آخر ما ذكر(١) .

هذا ، و روى ( توحيد الصدوق ) أنّه تعالى قال : إنّ من عبادي المؤمنين لمن يريد الباب من العبادة فأكفّه عنه لئلا يدخله عجب فيفسده ، و إنّ منهم لمن لا يصلح ايمانه إلاّ بالفقر و لو أغنيته لأفسده ، و إنّ منهم لمن لا يصلح ايمانه إلاّ بالغنى و لو أفقرته لأفسده ، و ان منهم لمن لا يصلح إيمانه إلاّ بالسقم و لو صححت جسده لأفسده ذلك ، و إنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلاّ بالصحّة و لو أسقمته لأفسده ، و إنّي ادبر عبادي بعلمي بقلوبهم فإنّي عليم خبير(٢) .

« فإنّ اللَّه سبحانه يقول( و اعلموا أنّما أموالكم و أولادكم فتنة و أن اللَّه عنده أجر عظيم ) (٣) .

« و معنى ذلك أنّه سبحانه » سقطت كلمة « سبحانه » من ( المصرية )(٤) مع وجودها في ( ابن ميثم و ابن أبي الحديد و الخطية )(٥) .

____________________

( ١ ) الخلفاء لابن قتيبة : ١٣ .

( ٢ ) التوحيد للصدوق : ٣٩٨ ح ١ .

( ٣ ) الأنفال : ٢٨ .

( ٤ ) الطبعة المصرية : ٦٧٧ .

( ٥ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٢٤٨ ، و ابن ميثم ٥ : ٢٨٧ .

١٧٣

« يختبرهم » أي : يمتحنهم .

« بالأموال و الأولاد ليتبيّن الساخط لرزقه » في الأموال .

« و الراضي بقسمه » في الأولاد .

« و إن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم » .( فليعلمن اللَّه الذين صدقوا و ليعلمن الكاذبين ) (١) .

« و لكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب و العقاب » لأن الجزاء على العمل لا مجرّد النيّة و مقتضى الطوية ، و إن كان هو تعالى يثيب على مجردهما تفضلا و لا يؤاخذ على صرفهما تكرّما .

« لأنّ بعضهم يحب الذكور و يكره الاناث » حتى قال تعالى( في مثلهم و إذا بُشّر أحدهم بالانثى ظلّ وجهه مسودّا و هو كظيم يتوارى عن القوم من سوء ما بُشّر به أيمسكه على هون أم يدسّه في التراب ألا ساء ما يحكمون ) (٢) .

قالوا : و لحب الناس الذكور و كراهتم للإناث و كان الواجب عليهم التسليم لمشيته تعالى شأنه قدّم عز و جل هبة الإناث على الذكور فقال .( يهب لمن يشاء إناثا و يهب لمن يشاء الذكور ) (٣) .

« و بعضهم يحبّ تثمير المال و يكره انثلام الحال » أي وقوع الخلل فيه ، قال تعالى( و إنّه لحبّ الخير لشديد ) (٤) و فسر الخير هنا بالمال .

و قال تعالى في امتحان عبيده بالمال و الولد و غيرهما( و لنبلونكم بشي‏ء من الخوف و الجوع و نقص من الأموال و الأنفس و الثمرات

_ ___________________

( ١ ) العنكبوت : ٣ .

( ٢ ) النحل : ٥٨ ٥٩ .

( ٣ ) الشورى : ٤٩ .

( ٤ ) العاديات : ٨ .

١٧٤

 و بشّر الصابرين ) (١) .

« و هذا من غريب ما سمع منه في التفسير » و لو كان قال ما روي عنهعليه‌السلام بدل ما سمع منهعليه‌السلام كان أحسن .

جعله من غريب التفسير لأنّ المتبادر من كون الأموال فتنة أنّ الانسان يطغى أن رآه استغنى ، و أنّ كثيرا من الناس يميل المال بهم إلى الشهوات كما أنّ كثيرا منهم يصعب عليهم إخراج الحقوق التي أوجب اللَّه تعالى عليهم في المال فيهلكون كما ان المتبادر من كون الأولاد فتنة أنّهم يصيرون سببا للتخلّف عن الجهاد ، و البخل عن الزكاة ، و تحصيل المال لهم من غير طريق المشروع لو ضاق عليه المشروع و لموافقة الآباء غالبا أهواء أبنائهم المهوية ، كما اتفق للزبير مع ابنه ، فقالعليه‌السلام : ما زال الزبير منّا حتى نشأ ابنه الميشوم .

و روت العامة في تفسير الآية عن بريدة : إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يخطب فجاء الحسن و الحسينعليهما‌السلام و عليهما قميصان أحمران يمشيان و يعثران ، فنزل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إليهما فأخذهما و وضعهما في حجره على المنبر و قال : صدق اللَّه تعالى( انّما أموالكم و أولادكم فتنة ) .(٢) نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان و يعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي و رفعتهما(٣) .

هذا ، و مما روي عنهعليه‌السلام من غريب التفسير غير ما مرّ أنّهعليه‌السلام قال :

الاستثناء في اليمين متى ما ذكر و لو بعد أربعين صباحا ثم تلا هذه الآية . و اذكر ربّك إذا نسيت .(٤) .

و أنّهعليه‌السلام قال : تستحب المقاربة مع أهله ليلة أول شهر الصيام لقوله

____________________

( ١ ) البقرة : ١٥٥ .

( ٢ ) التغابن : ١٥ .

( ٣ ) سنن الترمذي ٥ : ٦١٦ ح ٣٧٧٤ .

( ٤ ) الكافي ٧ : ٤٤٨ الرواية ٦ ، و الآية ٢٤ من سورة الكهف .

١٧٥

تعالى( اُحلّ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) . .(١) .

٥ في الخطبة ( ١٤٣ ) منها :

وَ مَا أُحْدِثَتْ بِدْعَةٌ إِلاَّ تُرِكَ بِهَا سُنَّةٌ فَاتَّقُوا اَلْبِدَعَ وَ اِلْزَمُوا اَلْمَهْيَعَ إِنَّ عَوَازِمَ اَلْأُمُورِ أَفْضَلُهَا إِنَّ مُحْدَثَاتِهَا شِرَارُهَا « و ما احدثت بدعة إلاّ ترك بها سنة » قال ابن أبي الحديد : البدعة كلّ ما لم يكن في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمنها الحسن كصلاة التراويح و منها القبيح كالمنكرات التي ظهرت أواخر الخلافة العثمانية و إن كانت قد تكلّفت الأعذار عنها(٢) .

قلت : صلاة التراويح أيضا من بدع ، قالعليه‌السلام ترك بها سنة ، و كيف تكون حسنة و كانت تشريعا في قبال الدين ، و إنما التشريع للَّه تعالى( ما لكم كيف تحكمون أم لكم كتاب فيه تدرسون إنّ لكم فيه لما تخيرون ) (٣) .

ما كان للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يشرّع شيئا من قبل نفسه إلاّ بوحي منه تعالى إليه ، فكيف كان لعمر الذي أفحمته مرأة في أنفها فطس في حظره جعل الصداق أكثر من خمسمائة درهم بأنّه تعالى قال .( و آتيتم إحداهن قنطاراً ) .(٤) فقال : كل الناس أفقه من عمر .

و روى سليم بن قيس الهلالي في كتابه أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام خطب فقال : قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله متعمّدين لخلافه

____________________

( ١ ) البقرة : ١٨٧ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٩ : ٩٤ .

( ٣ ) القلم : ٣٦ ٣٨ .

( ٤ ) النساء : ٢٠ .

١٧٦

ناقضين لعهده مغيّرين لسنّته ، و لو حملت الناس على تركها تفرّق عني جندي حتى أبقى وحدي و قليل من شيعتي ، و اللَّه لقد أمرت أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلاّ في فريضة و أعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة ، فتنادى بعض أهل عسكري ممّن يقاتل معي يا أهل الاسلام لقد غيرت سنّة عمر نهينا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعا ، و قد خفت أن يثوروا في ناحية عسكري(١) .

و روى محمد بن علي بن بابويه عن الباقر و الصادقعليهما‌السلام : أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إنّ الصلاة بالليل في شهر رمضان في جماعة بدعة ، و صلاة الضحى بدعة ، ألا و إنّ كلّ بدعة ضلالة و كلّ ضلالة سبيلها إلى النار(٢) .

و روى محمد بن يعقوب الكليني : إنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام مر برجل يصلّي الضحى في مسجد الكوفة ، فغمز جنبه بالدرة و قال : نحرت صلاة الأوابين نحرك اللَّه(٣) .

و أما أعمال عثمان و لم قال كالمنكرات التي ظهرت أواخر الخلافة العثمانية كنفيه أبا ذر و ضربه عمارا و نهبه بيت المال لأقاربه و توليته لهم حتى يصلّوا بالناس سكارى و يصلّوا الصبح أربعا و يغنوا في الصلاة و غيرها من نظائرها فشنائع ينكرها الموحد و الملحد و المسلم و الكافر .

و أما ما قاله من تكلّف الأعذار الذي نوريهم ، فالتكلّف لعدم منكرية عداوة أبي جهل مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أقرب إلى العقول منه .

ثم جعلها في عداد البدع كصلاة التراويح في غير محله .

____________________

( ١ ) سليم بن قيس ، لا وجود له في الطبعة النجفية ، لعل المؤلف أخذه من البحار حيث ذكر المجلسي في ٩٦ : ٢٠٣ الرواية ٢١ باب ٢٤ .

( ٢ ) الفقيه للصدوق ٢ : ١٣٧ الرواية ١٩٦٤ باب ٢ .

( ٣ ) الكافي ٣ : ٤٥٢ رواية ٨ .

١٧٧

« فاتقوا البدع » روى ابن بابويه عن الصادقعليه‌السلام : من مشى إلى صاحب بدعة فوقرها فقد مشى في هدم الإسلام(١) .

« و الزموا المهيع » أي الطريق الواسع و هو طريق الاسلام ، قال تعالى( و إنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله ) . .(٢) .

« إنّ عوازم الامور أفضلها » قال ابن أبي الحديد : عوازم ما تقادم منها من قولهم « عجوز عوزم » أي مسنّة ، و يجوز أن يكون جمع عازمة بمعنى مفعول أي معزوم عليها ، أي مقطوع معلوم بيقين صحتها ، و الأول أظهر لأن في مقابلته « و ان محدثاتها » و المحدث في مقابلة القدم(٣) .

قلت : بل الظاهر أن « عوازم » محرف « قدائم » جمع قديم للتشابه الخطي بينهما ، لأن العزم في مقابل الرخصة لا المحدث ، يقال عزائم القرآن و رخصه ، ثم جمع العوزم بالعوازم كما قاله غير معلوم .

٦ الخطبة ( ٥٠ ) و من كلام لهعليه‌السلام :

إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ اَلْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وَ أَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اَللَّهِ وَ يَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالاً عَلَى غَيْرِ دِينِ اَللَّهِ فَلَوْ أَنَّ اَلْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ اَلْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى اَلْمُرْتَادِينَ وَ لَوْ أَنَّ اَلْحَقَّ خَلَصَ مِنْ اَلْبَاطِلِ اِنْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ اَلْمُعَانِدِينَ وَ لَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَ مِنْ هَذَا

____________________

( ١ ) الفقيه للصدوق ٣ : ٥٧٢ ح ٤٩٥٧ الباب ٢ .

( ٢ ) الأنعام : ١٥٣ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٩ : ٩٤ .

١٧٨

ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي اَلشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَ يَنْجُو اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ ٢ ٤ ٢١ : ١٠١ مِنَ اَللَّهِ اَلْحُسْنى‏ ٦ ٦ ٢١ : ١٠١ أقول : رواه الكليني في ( بدع كافيه ) بإسنادين عن عاصم بن حميد عن محمد ابن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال : خطب أمير المؤمنينعليه‌السلام فقال : أيها الناس إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع و أحكام تبتدع ، يخالف فيها كتاب اللَّه ، يؤخذ من هذا ضغث و من هذا ضغث فيمزجان فيجيئان معا ، فهنا لك استحوذ الشيطان على أوليائه و نجا الذين سبقت لهم منه الحسنى(١) .

و رواه في ( روضته ) مع زيادات ، فروى عن سليم بن قيس قال : خطب عليعليه‌السلام فقال : إنّما بدء وقوع الفتن من أهواء تتبع و أحكام تبتدع ، يخالف فيها حكم اللَّه ، يتولى فيها رجال رجالا ، إنّ الحق لو خلص لم يكن اختلاف و لو أنّ الباطل خلص لم يخف على ذي حجى ، لكنّه يؤخذ من هذا ضغث و من هذا ضغث فيمزجان فيجتمعان فيجللان معا ، فهنا لك يستولي الشيطان على أوليائه و نجا الذين سبقت لهم الحسنى ، إنّي سمعت رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول :

كيف أنتم إذا لبستكم فتنة تربو فيها الصغير و يهرم فيها الكبير يجري الناس عليها و يتخذونها سنة ، فإذا غيّر منها شي‏ء قيل قد غيّرت السنّة ، و قد أتى الناس منكرا ثم تشتدّ البلية و تسبى الذريّة و تدقهم الفتنة كما تدقّ النار الحطب و كما تدقّ الرحى بثفالها ، و يتفقهون لغير اللَّه و يتعلمون لغير العمل و يطلبون الدنيا بأعمال الآخرة .

ثم أقبل بوجهه و حوله ناس من أهل بيته و خاصته و شيعته فقال : قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله متعمّدين لخلافه ناقضين بعهده مغيّرين لسنّته ، و لو حملت الناس على تركها و حوّلتها إلى مواضعها

____________________

( ١ ) الكافي ١ : ٥٤ رواية ١ و أيضا ٨ : ٥٨ الرواية ٢١ .

١٧٩

و الى ما كانت في عهد رسول اللَّه لتفرّق عني جندي حتى أبقى وحدي أو مع قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي و فرض إمامتي من كتاب اللَّه و سنّة رسوله ، أرأيتم لو أمرت بمقام ابراهيم فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول اللَّه و رددت فدك إلى ذريّة فاطمة و رددت صاع رسول اللَّه كما كان و أمضيت قطائع أقطعها النبي لأقوام لم تمض لهم و لم تنفذ و رددت دار جعفر إلى ورثته و هدمتها من المسجد و رددت قضايا من الجور قضي بها و نزعت نساء تحت رجال بغير حق فرددتهن إلى أزواجهن و استقبلت بهن الحكم ( في الفروج و الأحكام ) و سبيت ذراري بني تغلب و رددت ما قسم من أرض خيبر و محيت دواوين العطاء و أعطيت كما كان النبي يعطي بالسوية و لم أجعلها دولة بين الأغنياء و ألقيت المساحة و سويت بين المناكح و أنفذت خمس الرسول كما أنزل اللَّه عز و جل و فرضه و رددته إلى ما كان عليه و سددت ما فتح من الأبواب و فتحت ما سد منه و حرمت المسح على الخفين و حددت على النبيذ و أمرت باحلال المتعتين و أمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات و ألزمت الناس الجهر ببسم اللَّه الرحمن الرحيم و أخرجت من ادخل مع رسول اللَّه في مسجده ممن كان رسول اللَّه أخرجه و أدخلت من اخرج بعد رسول اللَّه و حملت الناس على حكم القرآن ( في ) الطلاق على السنّة و أخذت الصدقات على أصنافها و حدودها و رددت الوضوء و الغسل و الصلاة إلى مواقيتها و شرائعها و حدودها و رددت أهل نجران إلى مواضعهم و رددت سبايا فارس و سائر الامم إلى كتاب اللَّه و سنّة نبيّه ، إذن لتفرّقوا عني ، و اللَّه لقد أمرت الناس ألا يجتمعوا في شهر رمضان إلاّ في فريضة و أعلمتهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة ، فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي : يا أهل الاسلام غيّرت سنّة عمر نهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعا ، و لقد خفت أن

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

الآية

( وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧) )

التّفسير

العهود الرّبانية :

تناولت الآية السابقة مجموعة من الأحكام الإسلامية بالإضافة إلى موضوع إكمال النعمة الإلهية على المسلمين ، وجاءت الآية الأخيرة لتكمل السياق الموضوعي لما سبق من آيات ، فاستقطبت انتباه المسلمين إلى أهمية وعظمة النعم الإلهية التي أعظمها وأهمها نعمة الإيمان والهداية والإسلام ، تقول الآية :( وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ ) ومع أن كلمة «نعمة» جاءت بصيغة المفرد في هذه الآية ، إلّا أنّها وردت اسم جنس لتفيد العموم، حيث عنى بالنعمة جميع النعم ، كما يحتمل أيضا أن يكون المراد نعمة الإسلام بصورة خاصّة، والتي أشارت إليها الآية السابقة بصورة إجمالية حيث قالت :( وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ) فأي نعمة أعظم من أن ينال الإنسان ـ في ظل الإسلام ـ كل الهبات الإلهية والمفاخر والإمكانيات الدنيوية ، بعد أن كان الناس يعانون في الجاهلية من التشتت والجهل والضلال ويسود بينهم قانون الغاب ، وكان الفساد والظلم يعم

٦٢١

مجتمعهم آنذاك ، وقد تحولوا بفضل الإسلام إلى مجتمع يسوده الاتحاد والتماسك والعلم،ويرفل بالنعم والإمكانيات المادية والمعنوية الزّاخرة.

بعد هذا تعيد الآية إلى الأذهان ذلك العهد الذي بين البشر وبين الله، فتقول( وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا ) .

هناك احتمالان حول المعنى المراد بلفظة «العهد» الواردة في الآية وموضوعه.

الاحتمال الأوّل : أن يكون هو ذلك العهد الذي عقده المسلمون في بداية ظهور الإسلام في واقعة «الحديبية» أو واقعة «حجة الوداع» أو «العقبة» مع الله ، أو بصورة عامّة هو العقد الذي عقده جميع المسلمين بصورة ضمنية مع الله بمجرّد قبولهم الإسلام.

والاحتمال الثّاني : هو أن يكون العهد المقصود في الآية الكريمة الأخيرة هو ذلك العهد المعقود بين كل فرد إنساني ـ بحكم فطرته وخلقه ـ وبين الله ، والذي يقال عنه بأنّه تم في «عالم الذر»(١) .

وبيان ذلك هو أنّ الله حين خلق الإنسان أودع فيه استعدادات ومواهب كثيرة، ومنها نعمة العلم التي بها يتتبع أسرار الخليقة ، وتتحقق لديه معرفة الحق ، وكذلك نعم كالعقل والذكاء والإدراك ليعرف الإنسان بها أنبياء الله ويلتزم بأوامرهم ، والله سبحانه حين أودع هذه النعم لدى الإنسان أخذ منه عهدا بأنّ يستغلها خير استغلال ، وأن لا يهملها أو يسيء استعمالها ، فردّ الإنسان بلسان الحال والاستعداد «سمعنا وأطعنا».

ويعتبر هذا العهد أوسع وأحكم وأعم عهد أخذه الله من عباده البشر ، وهذا هو العهد الذي يشير إليه الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام في خطبته الأولى الواردة في كتاب «نهج البلاغة» بقوله : «ليستأدوهم ميثاق فطرته» أي ليطلب منهم أداء

__________________

(١) سيرد شرح مفصل عن «عالم الذر» وسبب تسميته بهذا الاسم في تفسير الآية (١٧٢) من سورة الأعراف، بإذن الله.

٦٢٢

الميثاق الفطري الذي أخذه منهم والوفاء به.

وبديهي أنّ يشمل هذا العهد الواسع جميع المسائل والأحكام الدينية.

ولا مانع مطلقا من أن تكون في هذه الآية إشارة إلى جميع العهود والمواثيق التكوينية والتشريعية التي أخذها الله أو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المسلمين بمقتضى فطرتهم في مراحل مختلفة،وهنا يتوضح لنا الحديث القائل بأنّ المراد من الميثاق هو العهد الذي أخذه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المسلمين في حجّة الوداع بخصوص ولاية علي بن أبي طالبعليه‌السلام (١) ويتفق هذا التّفسير مع ما ورد أعلاه.

وقد أكّدنا مرارا أنّ التفاسير التي ترد على الآيات القرآنية ، ما هي إلّا إشارة لواحد من المصاديق الجلية المعنية في كل آية ، ولا تعني مطلقا انحصار المعنى بالتّفسير الوارد.

وتجدر الإشارة ـ أيضا ـ إلى أنّ كلمة «ميثاق» مشتقّة من المصدر «وثاقة» أو «وثوق» وتعني الشدّ المحكم بالحبل وأمثاله ، كما يطلق على كل عمل يؤدي إلى راحة البال واطمئنان الخاطر ، حيث أنّ العهد يكون بمثابة عقدة تربط شخصين أو جماعتين أحدهما بالآخر ، ولذلك سمّى «ميثاقا».

وفي النهاية تؤكّد الآية على ضرورة التزام التقوى ، محذرة أنّ الله محيط بأسرار البشر،وعالم بما يختلج في صدورهم ، بقولها :( وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) .

وتدل عبارة( ذاتِ الصُّدُورِ ) على أنّ الله عالم بأدقّ أسرار البشر المكنونة في أعماق نفوسهم والتي لا يمكن لأيّ مخلوق معرفتها غير صاحب السرّ وخالقه ، أي الله العالم بذات الصدور.

وقد شرحنا في الجزء الأوّل من تفسيرنا هذا سبب نسبة العواطف والمشاعر والنوايا والعزائم إلى القلب أو إلى مكنونات الصدور.

* * *

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ١ ، ص ٤٥٤.

٦٢٣

الآيات

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠) )

التّفسير

دعوة مؤكّدة إلى العدالة :

إنّ الآية الأولى من الآيات الثلاث أعلاه تدعو إلى تحقيق العدالة ، وهي شبيهة بتلك الدعوة الواردة في الآية (١٣٥) من سورة النساء ، التي مضى ذكرها مع اختلاف طفيف.

فتخاطب هذه الآية أوّلا المؤمنين قائلة :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ ) .

ثمّ تشير إلى أحد أسباب الانحراف عن العدلة ، وتحذّر المسلمين من هذا الانحراف مؤكّدة أنّ الأحقاد والعداوات القبلية والثارات الشخصية ، يجب أن لا تحول دون تحقيق العدل ، ويجب أن لا تكون سببا للاعتداء على حقوق

٦٢٤

الآخرين ، لأنّ العدالة أرفع وأسمى من كل شيء ، فتقول الآية الكريمة :( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا ) وتكرر الآية التأكيد لبيان ما للعدل من أهمية قصوى فتقول( اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ) .

وبما أنّ العدالة تعتبر أهم أركان التقوى ، تؤكّد الآية مرّة ثالثة قائلة :( وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ) .

والفرق بين فحوى هذه الآية والآية المشابهة لها الواردة في سورة النساء ، يتحدد من عدّة جهات :

أوّلا : إنّ الآية الواردة في سورة النساء دعت إلى إقامة العدل والشهادة لله ، أمّا الآية الأخيرة فقد دعت إلى القيام لله والشهادة بالحق والعدل ، ولعل وجود هذا الفارق لأنّ الآية الواردة في سورة النساء استهدفت بيان ضرورة أن تكون الشهادة لله ، لا لأقارب وذوي الشاهد ، بينما الآية الأخيرة ولكونها تتحدث عن الأعداء أوردت تعابير مثل الشهادة بالعدل والقسط أي تجنب الشهادة بالظلم والجور.

ثانيا : أشارت الآية الواردة في سورة النساء إلى واحد من عوامل الانحراف عن العدالة، بينما الآية الأخيرة أشارت إلى عامل آخر في نفس المجال ، فهناك ذكرت الآية عامل الحب المفرط الذي لا يستند على تبرير أو دليل ، بينما ذكرت الآية الأخيرة الحقد المفرط الذي لا مبرر له.

ولكن الآيتين كليهما تتلاقيان في عامل إتّباع الأهواء والنزوات التي تتحدث عنها الآية الأولى في جملة :( فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا ) لأنّ الهوى مصدر كلّ ظلم وجور ينشأ من الاندفاع الأعمى وراء الأهواء والمصالح الشخصية ، لا من دافع الحب أو الكراهية،وعلى هذا الأساس فإنّ المصدر الحقيقي للانحراف عن العدل هو نفس إتّباع الهوى،وقد جاء في كلام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٦٢٥

والإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام قولهما : «امّا إتّباع الهوى فيصدّ عن الحق»(١) .

* * *

العدل ركن إسلامي مهم :

قلما نجد قضية أعطى الإسلام لها أهمية قصوى كقضية العدل ، فهي وقضية التوحيد سيان في تشعب جذورهما إلى جميع الأصول والفروع الإسلامية ، وبعبارة أخرى : كما أنّ جميع القضايا العقائدية والعملية والاجتماعية والفردية والأخلاقية والقانونية لا تنفصل مطلقا عن حقيقة التوحيد ، فكذلك لا تنفصل كل هذه القضايا ولا تخلو أبدا من روح العدل.

وليس من العجيب والحالة هذه أن يكون العدل واحدا من أصول العقيدة والدين،وأساسا من أسس الفكر الإسلامي ، وهو مع كونه صفة من صفات الله سبحانه ويدخل ضمن مبادئ المعرفة الإلهية ، إلّا أنّه يشتمل على معان واسعة في خصائصه ومزاياه،ولذلك كان ما أولته البحوث الاجتماعية في الإسلام من الاهتمام بالعدل والاعتماد عليه يفوق ما حظيت به المبادئ الإسلامية الأخرى من ذلك.

ويكفي إيراد عدد من الأحاديث والرّوايات نماذج لدرك أهمية هذه الحقيقة :

١ ـ روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إيّاكم والظلم فإنّ الظلم عند الله هو الظلمات يوم القيامة»(٢) .

وبديهي أن كل ما هو موجود من خير وبركة ونعم هو من النور وفي النور،

__________________

(١) ورد هذا الحديث نقلا عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتاب سفينة البحار في مادة (هوى) ، وورد في كتاب نهج البلاغة في الخطبة ٤٢ نقلا عن علي بن أبي طالبعليه‌السلام .

(٢) سفينة البحار ، مادة (ظلم).

٦٢٦

وإنّ الظلام هو مصدر كل عدم وفاقة.

٢ ـ وقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا : «بالعدل قامت السموات والأرض»(١) .

ويعتبر هذا القول من أوضح التعابير التي قيلت في شأن العدل ، ومعناه أنّ حياة البشر المحدودة في الكرة الأرضية ليست وحدها التي يكون قوامها العدل ، بل إنّ حياة ووجود الكون بأكمله ، والسماوات والأرضين كلها قائمة بالعدل ، وفي ظل حالة من توازن القوى الفاعلة فيها ، ووجود واستقرار كل شيء في محله منها ، بحيث لو أنّها انحرفت عن هذا التوازن لحظة واحدة أو بمقدار قيد أنملة لحكمت على نفسها بالفناء والزوال.

ويؤيد هذا القول حديث آخر هو : «الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم» لأنّ للظلم أثرا سريعا في هذه الحياة الدنيوية ومن نتائجه الحروب والاضطرابات والقلاقل والفوضى السياسية والاجتماعية والأخلاقية والأزمات الاقتصادية التي تعمّ العالم اليوم ، وهذا ما يثبت الحقيقة المذكورة بصورة جيدة.

ويجب الانتباه جيدا إلى أنّ اهتمام الإسلام لم ينصب في مجرد العدالة ، بل إنّه أولى أهمية أكبر لتحقيق العدالة ، وطبيعي أنّ محض تلاوة هذه الآيات في المجالس أو من على المنابر ، وكتابتها في الكتب ، لا يجدي نفعا في استعادة العدالة المفقودة ، وعلاج التمييز الطبقي والعنصري ، والفساد والاجتماعي في المجتمع الإسلامي ، بل إنّ عظمة هذه الآيات والأحكام تتجلّى في يوم تطبق فيه العدالة في صميم حياة المسلمين.

* * *

بعد التأكيد الشديد الذي حملته الآية الكريمة حول قضية العدالة وضرورة تطبيقها بادرت الآية التالية وتمشيا مع الأسلوب القرآني ، فأعادت إلى الأذهان

__________________

(١) تفسير الصافي ، في تفسير الآية ٧ من سورة الرحمن.

٦٢٧

ما أعده الله للمؤمنين العاملين بالخير من غفرانه ونعمه العظيمة ، حيث تقول الآية :( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ) .

كما ذكرت الآية في المقابل جزاء الكافرين الذين يكذبون بآيات الله ، فقالت:( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ ) .

وممّا يلفت النظر أنّ الآية جعلت المغفرة والأجر العظيم في إطار «وعد الله» بينما ذكرت عقاب جهنم بأنّه نتيجة للكفر وللتكذيب بآيات الله ، وما هذا إلّا إشارة إلى فضل الله ورحمته لعباده فيما يخص نعم وهبات الآخرة التي لا يمكن لأعمال الإنسان مهما كبرت وعظمت أن تباريها أو تعادلها مطلقا ، كما أنّها إشارة ـ أيضا ـ إلى أنّ عقاب الآخرة ليس فيه طابع انتقامي أبدا ، بل هو نتيجة عادلة لما ارتكبه الإنسان من أعمال سيئة في حياته.

أمّا فيما يخص معنى عبارة «أصحاب الجحيم»(١) فهي مع ما في كلمة «أصحاب» من معنى الملازمة ، أي أن الكافرين والمكذبين بآيات الله يلازمون جهنم ، لكن هذه الآية لوحدها لا يمكن أن تكون دليلا على مسألة «الخلود» في نار جهنم ، كما جاء توضيح ذلك في تفسيري «التبيان» و «مجمع البيان» وتفسير «الفخر الرّازي» ، لأنّ الملازمة ربما تكون دائمة ، وقد تستمر لفترة طويلة ثمّ تنقطع ، بدلالة التعبير القرآني الوارد في شأن ركاب سفينة نوح النّبيعليه‌السلام حيث وردت فيهم عبارة «أصحاب السفينة» وهم لم يكونوا ملازمين لتلك السفينة ملازمة دائمة.

ومع انتفاء الشك حول خلود الكفار في نار جهنم ، فالآية الكريمة ـ موضوع البحث ـ لم تتحدث بشيء عن هذا «الخلود» بل يستنتج هذا من آيات قرآنية أخرى.

* * *

__________________

(١) إنّ كلمة جحيم تعني النار الشديدة الالتهاب ، وقد أطلقت في القرآن على نار جهنم كما في هذه الآية ، وعلى نار الدنيا كالنار التي سعروها لحرق النّبي إبراهيمعليه‌السلام الآية (٩٧) من سورة الصافات.

٦٢٨

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) )

التّفسير

لقد ذكرت الآيات السابقة بعضا من النعم الإلهية ، وجاءت الآية الأخيرة تخاطب المسلمين وتذكر لهم أنواعا من النعم التي أنعم الله بها عليهم ، لكي يؤدوا شكرها عن طريق طاعة الله والسعي لتحقيق مبادئ العدالة ، فتقول الآية :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ) .

وقد دأب القرآن الكريم في كثير من آياته على تذكير المسلمين بالنعم المختلفة التي أنعم الله بها عليهم ، وذلك من أجل تعزيز دافع الإيمان لديهم ، ولاستثارة وتحفيز دافع الشكر والصمود فيهم ليقفوا بوجه المشاكل ، والآية الأخيرة من سنخ تلك الآيات.

واختلف المفسّرون حول الواقعة التي تشير إليها الآية موضوع البحث ، فبعضهم قال:بأنّها إشارة إلى إنقاذ المسلمين من قبيلة «بني النضير» اليهودية التي

٦٢٩

تواطأت على قتل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين في المدينة.

وذهب البعض الآخر من المفسّرين على أنّها إشارة إلى واقعة «بطن النخل» التي حصلت في العام السادس من الهجرة النبوية في واقعة «الحديبية» حيث قرر المشركون هناك في ذلك الحين ـ بزعامة (خالد بن الوليد) ـ الهجوم على المسلمين أثناء أدائهم لصلاة العصر،فعلم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه المؤامرة فصلّى صلاة الخوف القصيرة ، ممّا أدى إلى إحباط المؤامرة.

وقد ذكر مفسّرون آخرون وقائع أخرى من حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين المليئة بالحوادث ، وقالوا بأنّ هذه الآية إشارة لتلك الوقائع.

ويرى مفسّرون آخرون أن هذه الآية إشارة إلى كل الوقائع والأحداث التي حصلت طيلة التاريخ الإسلامي حتى ذلك الوقت.

ولو تغاضينا عن كلمة «قوم» الواردة في هذه الآية بصيغة النكرة التي تدل على وحدة المجموعة المعينة ، فإنّ هذا التّفسير يمكن اعتباره من أحسن التفاسير في هذا المجال.

والآية على كل حال تلفت انتباه المسلمين إلى الأخطار التي تعرضوا لها ، وكان يحتمل أن تدفع بالوجود الإسلامي إلى الفناء والزوال وإلى الأبد ، ولكن فضل الله ونعمته شملتهم وأنقذت الإسلام والمسلمين من تلك الأخطار.

كما تحذر الآية المسلمين وتنبههم إلى ضرورة التزام التقوى والاعتماد على الله كدليل على شكر ذلك الفضل وتلك النعمة ، وليعلموا بأنّهم بتقواهم سيضمنون لأنفسهم الدعم والسند والحماية من الله في حياتهم الدنيوية هذه ، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة:( وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) .

وواضح أنّ التوكل على الله ليس معناه التخلي عن المسؤوليات أو الاستسلام لحوادث الزمان ، بل يعني أنّ الإنسان حين يستخدم طاقاته والإمكانيات المتوفرة لديه ، يجب عليه أن ينتبه في نفس الوقت إلى أنّ هذه

٦٣٠

الطاقات والإمكانيات ليست من عنده بل أن مصدرها ومنشأها هو الله تعالى ، وإذا حصل هذا التوجه فإن من شأنه أن يقضي على دافع الغرور والأنانية عند الإنسان أوّلا ، ومن ثمّ لا يدع إلى نفسه طريقا للخوف والقلق واليأس حيال الأحداث والمشاكل مهما كبرت وعظمت، لأنّه يعلم بأنّ سنده وحاميه هو الله الذي فاقت قدرته كل القدرات.

إضافة إلى ما ذكر ، فإنّ تقديم الأمر بالتقوى على قضية التوكل يستشف منه أنّ حماية الله ورعايته تشمل حال المتقين.

ويجب الانتباه إلى أنّ عبارة «التقوى» المشتقة من المصدر «وقاية» معناها حماية النفس وإبعادها عن عناصر السوء والفساد.

* * *

٦٣١

الآية

( وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢) )

التّفسير

لقد أشارت هذه الآية أوّلا إلى قضية الوفاء بالعهد ، وقد تكررت هذه الإشارة في مناسبات مختلفة في آيات قرآنية عديدة ، وربّما كانت إحدى فلسفات هذا التأكيد المتكرر على أهمية الوفاء بالعهد وذم نقضه ، هي إعطاء أهمية قصوى لقضية ميثاق الغدير الذي سيرد في الآية (٦٧) من هذه السورة.

والآية في بدايتها تشير إلى العهد الذي أخذه الله من بني إسرائيل على أن يعملوا بأحكامه ، وإرسالة إليهم بعد هذا العهد اثني عشر زعيما وقائدا ليكون كل واحد منهم زعيما لطائفة واحدة من طوائف بني إسرائيل الاثنتي عشر ـ حيث تقول الآية الكريمة:( وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً ) .

٦٣٢

والأصل في كلمة «نقيب» إنّها تعني الثقب الكبير الواسع ، وتطلق بالأخص على الطرق المحفورة تحت الأرض ، وسبب استخدام كلمة نقيب للدلالة على الزعامة ، لأنّ زعيم كل جماعة يكون عليما بأسرار قومه ، وكأنّه قد صنع ثقبا كبيرا يطلع من خلاله على أسرارهم ، كما تطلق كلمة نقيب أحيانا على الشخص الذي يكون بمثابة المعرف للجماعة،وحين تطلق كلمة «مناقب» على الفضائل والمآثر ، يكون ذلك لأنّ الفضائل لا تعرف إلّا عن طريق البحث والتنقيب في آثار الشخص.

وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ كلمة «نقيب» الواردة في الآية موضوع البحث إنما تعني ـ فقط ـ العارف بالأسرار ، لكننا نستبعد هذا الأمر استنادا لما يدلنا عليه التاريخ والحديث وهو أن نقباء بني إسرائيل هم زعماء الطوائف الإسرائيلية ، جاء في تفسير «روح المعاني» عن ابن عباس قوله : «إنّهم كانوا وزراء ثمّ صاروا أنبياء بعد ذلك». أي أنّهم كانوا وزراء للنّبي موسىعليه‌السلام ثمّ نالوا منزلة النّبوة بعده(١) .

ونقرأ في أحوال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه حين قدم أهل المدينة في ليلة العقبة لدعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى منطقة العقبة ، أمر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل المدينة لينتخبوا من بينهم اثني عشر نقيبا على عدد نقباء بني إسرائيل ، وبديهي أنّ مهمّة هؤلاء كانت زعامة قومهم وليس فقط إخبار النّبي بتقارير عن أوضاعهم(٢) .

لقد وردت روايات عديدة من طرق السنة ، وهي تلفت الانتباه ـ لما فيها من إشارة إلى خلفاء النّبي الأئمّة الإثني عشرعليهم‌السلام وبيان أن عددهم يساوي عدد نقباء بني إسرائيل ـ ننقل هنا قسما من هذه الروايات :

١ ـ ينقل «أحمد بن حنبل» ـ وهو أحد أئمّة السنّة الأربعة ، عن «مسروق»أنّه

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ٦ ، ص ٧٨.

(٢) سفينة البحار ، في مادة «نقيب».

٦٣٣

سأل عبد الله بن مسعود : كم عدد الذين سيحكمون هذه الأمّة؟ فرد ابن مسعود قائلا:«لقد سألنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «اثني عشر كعدّة نقباء بني إسرائيل»(١) .

٢ ـ وجاء في تاريخ «ابن عساكر» نقلا عن ابن مسعود ، أنّهم سألوا النّبي عن عدد الخلفاء الذين سيحكمون هذه الأمّة ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ عدّة الخلفاء بعدي عدة نقباء موسى»(٢)

٣ ـ وورد في «منتخب كنز العمال» عن جابر بن سمرة قوله «سيحكم هذه الأمّة اثنا عشر خليفة بعدد نقباء بني إسرائيل»(٣) .

وجاء مثل هذا الحديث أيضا في كتاب (ينابيع المودة) في الصفحة ٤٤٥ وكذلك في كتاب (البداية والنهاية) ، ج ٦ في الصفحة ٢٤٧ أيضا.

* * *

وتشير الآية بعد ذلك إلى وعد الله لبني إسرائيل حيث تقول :( وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ ) .

وإنّ هذا الوعد سيتحقق إذا التزم بنو إسرائيل بالشروط التالية :

١ ـ أن يلتزموا بإقامة الصّلاة كما تقول الآية :( لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ ) .

٢ ـ وأن يدفعوا زكاة أموالهم :( وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ ) .

٣ ـ أن يؤمنوا بالرسل الذين بعثهم الله ويحترموا وينصروا هؤلاء الرسل ، حيث تقول الآية( وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ ) (٤) .

__________________

(١) مسند أحمد ، ص ٣٩٨ ، طبعة مصر ، سنة ١٣١٣.

(٢) كتاب فيض القدير في شرح الجامع الصغير ، ج ٢ ، ص ٤٥٩.

(٣) منتخب كنز العمال في حاشية مسند أحمد ، ج ٥ ، ص ٣١٢.

(٤) إنّ عبارة «عزرتموهم» مشتقة من مادة «تعزير» أي المنع أو العون ، أمّا حين تسمى بعض العقوبات الإسلامية بالتعزير فذلك لأنّ هذه العقوبات تكون في الحقيقة عونا للمذنب لكي يرتدع عن مواصلة الذنب ، وهذا دليل على أنّ العقوبات الإسلامية لا تتسم بطابع الانتقام بل تحمل طابعا تربويا لذلك سمّيت بالتعزير.

٦٣٤

٤ ـ وبالإضافة إلى الشروط الثلاثة المذكورة أعلاه ، أن لا يمتنع بنو إسرائيل عن القيام ببعض أعمال الإنفاق المستحب التي تعتبر نوعا من معاملات القرض الحسن مع الله سبحانه وتعالى حيث تقول الآية :( وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً ) .

ثمّ أردفت الآية الكريمة ببيان نتائج الوفاء بالشروط المذكورة بقوله تعالى :( لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) .

كما بيّنت الآية مصير الذين يكفرون ولا يلتزمون بما أمر الله حيث تقول :( فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ ) .

لقد أوضحنا في الجزء الثّاني من تفسيرنا هذا لما ذا اصطلح القرآن المجيد على الإنفاق،أنّه قرض لله سبحانه؟

ويبقى في هذا المجال ـ أيضا ـ سؤال أخير وهو لما ذا تقدمت مسألتا الصّلاة والزكاة على الإيمان بموسىعليه‌السلام ، في حين أنّ الإيمان يجب أن يسبق العمل؟

ويجيب بعض المفسّرين على هذا السؤال بقولهم : إن المراد بعبارة «الرسل» الواردة في الآية هم الأنبياء الذين جاءوا بعد النّبي موسىعليه‌السلام وليس موسى نفسه ، لذلك فإن الأمر الوارد هنا بخصوص الإيمان بالرسل يحمل على أنّه أمرّ لمّا يستقبل من الزمان ، فلا يتعارض لذلك وروده بعد الأمر بالصّلاة والزكاة ، كما يحتمل ـ أيضا ـ أن يكون المراد بعبارة «الرسل» هم «نقباء» بني إسرائيل حيث أخذ الله الميثاق من بني إسرائيل بأن يكونوا أولياء معهم،(ونقرأ في تفسير «مجمع البيان» أنّ بعضا من المفسّرين القدماء ، احتملوا أن يكون نقباء بني إسرائيل رسلا من قبل الله ، ويؤيد هذا الاحتمال الرأي الأخير الذي ذهبنا إليه).

* * *

٦٣٥

الآية

( فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣) )

التّفسير

إنّ هذه الآية الكريمة جاءت تشير إلى نقض بني إسرائيل للعهد الذي أخذه الله عليهم والذي ذكرته الآية السابقة.

كما ذكرت هذه الآية نتائج وعواقب هذا النقض حيث تقول :( فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً ) (١) .

والحقيقة هي أن هؤلاء عوقبوا بهذين الجزاءين بسبب نقضهم لميثاقهم ، فقد حرموا من رحمة الله ، وتحجرت أفكارهم وقلوبهم فلم تعد تبدي أي مرونة أمام الحقائق.

__________________

(١) إنّ كلمة «لعن» تعني في اللغة «الطرد والإبعاد» وحين ينسب اللعن إلى الله فإنه يعني الحرمان من رحمته،أمّا كلمة «قاسية» فهي في الأصل مشتقة من المصدر «قساوة» وتطلق على الأخص على الحجر الصلد،ولذلك أطلقت على الذين لا يبدون أي مرونة من جانبهم أمام الحقائق التي تتكشف لهم.

٦٣٦

وتشرح الآية آثار هذا التحجّر فتقول :( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ) و( وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ) .

ولا يستبعد أن تكون علامات وآثار نبيّ الإسلام محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتي أشير إليها في آيات قرآنية أخرى ، جزءا من الأمور التي نسيها بنو إسرائيل ـ كما يحتمل أن تكون هذه الجملة القرآنية إشارة إلى ما حرفه أو نسيه جمع من علماء اليهود أثناء تدوينهم للتوراة من جديد بعد أن فقدت التوراة الأصلية ، وإنّ ما وصل إلى هؤلاء من كتاب موسى الحقيقي كان جزءا من ذلك الكتاب وقد اختلط بالكثير من الخرافات ، وقد نسي هؤلاء حتى هذا الجزء الباقي من كتاب موسىعليه‌السلام .

ثمّ تتطرق الآية إلى ظاهرة خبيثة طالما برزت لدى اليهود ـ بصورة عامّة ـ إلّا ما ندر منهم ، وهي الخيانة التي كانت تتكشف للمسلمين بين فترة وأخرى ، تقول الآية الكريمة في هذا المجال :( وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ (١) مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ ) .

وفي الختام تطلب الآية من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعفو عن هؤلاء ويصفح عنهم ، مؤكّدة أنّ الله يحب المحسنين ، وذلك في قوله تعالى :( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) .

ولنرى هل أنّ المراد في الآية أن يعفو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الأخطاء السابقة للأقلية الصالحة من اليهود ، أم أنّ المراد هو العفو عن الأغلبية الطالحة منهم؟

إنّ ظاهر الآية يدعم ويؤيّد الاحتمال الثّاني ، لأنّ الأقلية الصالحة لم ترتكب ذنبا أو خيانة لكي يطلب من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العفو عنهم ـ والظن الغالب هو أنّ العفو

__________________

(١) إنّ كلمة «خائنة» مع كونها اسما للفاعل ، فهي في هذه الآية تكون بمعنى المصدر وتطابق كلمة الخيانة وقد جرت عادة العرب على استخدام مثل هذه الاستعمالات في أشعارهم حيث جاؤوا باسم الفاعل وعنوا به المصدر في كلمات مثل «العافية» والخاطية» وقد احتملوا أيضا أنّ تكون كلمة «خائنة» صفة للطائفة.

٦٣٧

والصفح المطلوبان في الآية يشملان ـ فقط ـ تلك الحالات التي كان اليهود يوجهون فيها أذاهم وتحرشاتهم واستفزازاتهم إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا يشملان أخطاء اليهود وجرائمهم بحق الأهداف والمبادئ الإسلامية ، حيث لا معنى للعفو في هذا المجال.

الممارسات التّحريفية لليهود :

إنّ ما يستشف من مجموع الآيات الواردة في القرآن الكريم بخصوص الممارسات التحريفية لليهود ، هو أنّهم كانوا يمارسون أنواع التحريف في الكتب السماوية الخاصّة بهم.

وكان تحريفهم يتخذ أحيانا طابعا معنويا ، أي أنّهم كانوا يفسّرون العبارات الواردة في تلك الكتب بشكل يناقض المعنى الحقيقي لها ، فهم كانوا يحفظون الألفاظ كما هي لكنهم كانوا يغيرون معانيها وهو (التحريف المعنوي) ، وكانوا ـ أيضا ـ يقومون بتحريف الألفاظ في بعض الأحيان ، فهم بدل أن يقولوا «سمعنا وأطعنا» كانوا يقولون «سمعنا وعصينا» كما كانوا أحيانا يخفون بعض الآيات الإلهية ، فما كان يطابق أهواءهم أظهروه ، وأخفوا الآيات التي لم تكن لتتلاءم مع ميولهم ورغباتهم وهو «التحريف اللفظي» ، وقد وصلت بهم الوقاحة إلى حد أنّهم مع موجود الكتاب السماوي بين أيديهم كانوا يخادعون الناس بوضع أيديهم على الحقائق الواردة فيها ، لكي لا يستطيع الناظر قراءتها.

وستأتي تفاصيل هذا الموضوع لدى تفسير الآية (٤١) من نفس هذه السورة في قصّة «ابن صوريا».

هل يجعل الله قلب الإنسان قاسيا؟

نقرأ في الآية ـ موضوع البحث ـ إنّ الله ينسب لنفسه فعل جعل القسوة في

٦٣٨

قلوب مجموعة من اليهود! والذي نعرفه هو أنّ هذه القسوة ما هي إلّا نتيجة لارتكاب الذنوب والانحرافات ، فكيف إذن ينسب الله فعل جعل القسوة في قلوب أولئك اليهود إلى نفسه؟ ولو كان هذا الفعل من الله ، فكيف يكون أولئك الأشخاص مسئولين عن أعمالهم،ألا يعتبر هذا نوعا من الجبر؟

ولدي الإمعان بدقة في الآيات القرآنية المختلفة ، ومنها الآية موضوع البحث ، يتبيّن لنا أنّ الأشخاص إنما يحرمون ـ بسبب اخطائهم وذنوبهم ـ من لطف الله ورحمته وهدايته،وأن أعمالهم هذه في الحقيقة مصدر لمجموعة من الانحرافات الفكرية والأخلاقية،بحيث يستحيل على الإنسان ـ أحيانا ـ أن يجنب نفسه عواقبها ونتائجها.

وبما أنّ العلل ـ أو الأسباب ـ تعطي آثارها بإذن الله ، لذلك نسب مثل هذه الآثار في القرآن الكريم إلى الله ، ففي الآية موضوع البحث نقرأ أنّ اليهود ـ نتيجة لنقضهم الميثاق ـ جعل الله قلوبهم قاسية. كما نقرأ في الآية (٢٧) من سورة إبراهيم قوله تعالى( وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ ) وفي الآية (٧٧) من سورة التوبة نقرأ قوله سبحانه :( فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ ) .

وواضح أنّ هذه الآثار السيئة تنبع من عمل الإنسان نفسه ، ولا تناقض في هذا الأمر حرية الإرادة والإختيار ، لأنّ مقدمات تلك الآثار تكون من عمل الإنسان وتصدر عنه بعلمه واختياره ، ولأنّ آثار عمله هي النتيجة الحتمية للعمل نفسه ، وعلى سبيل المثال لو أنّ إنسانا تناول شيئا من المشروبات الكحولية ، وحصلت لديه حالة من السكر ، فقام على أثر هذه الحالة بارتكاب جريمة معينة ، فهو وإن كان لا يمتلك إرادته في حالة السكر ، إلّا أنّه قبل ذلك أقدم على شرب الخمرة مختارا ومدركا لما يفعل ، وبذلك هيّأ بنفسه مقدمات العمل الجنائي ، وهو يعمل احتمال صدور هذا العمل منه في حالة السكر ، ولذلك فهو مسئول عن هذا

٦٣٩

العمل ، فلو قيل في مثل هذه الحالة : إنّ شخصا قد شرب الخمرة فسلبنا منه عقله ، فتورط نتيجة عمله في ارتكاب جريمة ، فهل في هذا القول أي تناقض أو هل يستشف منه مفهوم الجبر؟

وخلاصة القول فإنّ كل أنواع الهداية والضلال وأمثالها التي تنسب في القرآن الكريم إلى الله سبحانه ، إنّما تحصل بشكل حتمي كنتيجة للمقدمات والأعمال التي تصدر من الإنسان نفسه ، وعلى أثرها يستحق إمّا الهداية أو الضلال ، وفي غير ذلك فإنّ العدل والحكمة الإلهيين ، لا يسمحان مطلقا أن يساق إنسان إلى طريق الهداية دون أي مبرر ، أو أن يساق آخر إلى طريق الضلال دون وجود سبب لذلك(١) .

* * *

__________________

(١) لقد وردت تفاصيل أخرى في هذا المجال ـ أيضا ـ في الجزء الأوّل من تفسيرنا هذا.

٦٤٠

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710