الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 710

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 710
المشاهدات: 163844
تحميل: 5298


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 710 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 163844 / تحميل: 5298
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 3

مؤلف:
العربية

الآية

( وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14) )

التّفسير

العداء الأبدي :

لقد تناولت الآية السابقة ظاهرة نقض بني إسرائيل للعهد الذي أخذه الله منهم ، أمّا الآية الأخيرة ـ هذه ـ فهي تتحدث عن نقض العهد عند النصارى الذين نسوا قسما من أوامر الله التي كلّفوا بها ـ فتقول الآية في هذا المجال :( وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ) فهذه الآية تدل بوضوح على أنّ النصارى ـ أيضا ـ كانوا قد عقدوا مع الله عهدا على أن لا ينحرفوا عن حقيقة التوحيد ، وأن لا ينسوا أوامر وأحكام الله ، وأن لا يكتموا علائم خاتم النّبيينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكنّهم تورطوا بنفس ما تورط به اليهود مع فارق واحد ، وهو أنّ القرآن الكريم يصرّح بالنسبة لليهود بأنّ القليل منهم كانوا من الصالحين ، بينما يذكر القرآن بأنّ مجموعة من النصارى اختارت طريق الانحراف ، حيث يفهم من هذه التعبير أنّ المنحرفين من اليهود كانوا أكثر من المنحرفين من

٦٤١

النصارى.

إنّ تاريخ تدوين الأناجيل المتداولة يدل على أنّها كتبت بعد المسيحعليه‌السلام بسنين طويلة وبأيدي بعض المسيحيين ، وهذا هو دليل وجود الكثير من التناقض الصريح فيها،ويدلنا هذا ـ أيضا ـ على أنّ كتبة الأناجيل قد نسوا ـ بصورة تامّة ـ أجزاء غير قليلة من الإنجيل الأصلي ، ووجود خرافات في الأناجيل المتداولة من قبيل قصة صنع المسيحعليه‌السلام للخمرة(1) الأمر الذي يرفضه العقل ويتنافى حتى مع بعض آيات التوراة والإنجيل المتداولين،وكذلك قصّة مريم المجدلية(2) وغيرها من القصص ، كلها دليل على ذلك التناقض.

أمّا كلمة «نصارى» التي وردت في الآية فهي صيغة جمع نصراني ، فقد وردت تفاسير مختلفة حولها ، ومنها أن المسيح قد تربى في صباه ببلدة الناصرة ، وقيل ـ أيضا ـ أنّ هذه الكلمة هي نسبة إلى نصران ، وهي قرية يوليها المسيحيون احتراما خاصا ، ويحتمل ـ أيضا ـ أن يكون وجه التسمية ناشئا عن قول المسيحعليه‌السلام كما تحكية الآية عنه إذ تقول :( كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ ) (3) فسمّي المسيحيون لذلك بالنصارى.

ولما كان جمع من النصارى يقولون ما لا يفعلون ، ويزعمون أنّهم من أنصار المسيحعليه‌السلام يقول القرآن في هذه الآية :( وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ) وهم لم يكونوا صادقين في دعواهم هذه ، لذلك تستطرد الآية الكريمة فتبيّن نتيجة هذا الادعاء الكاذب،وهو انتشار عداء أبدي فيما بينهم حتى يوم القيامة ، كما تقول الآية :( فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ) .

__________________

(1) إنجيل يوحنا ، الإصحاح 2 ، الآيات 2 ـ 12.

(2) إنجيل لوقا ، الإصحاح 7 ، الآيات 36 ـ 47.

(3) يوسف ، 14.

٦٤٢

كما ذكرت الآية نوعا آخر من الجزاء والعقاب لهذه الطائفة النصرانية ، وهو أنّهم سوف يعلمون نتيجة أعمالهم وسيرونها بأعينهم حيث تقول الآية :( سَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ ) .

وتجدر الإشارة هنا إلى عدّة أمور ، هي :

1 ـ إنّ عبارة «أغرينا» مشتقة من المصدر «إغراء» وتعني الصاق شيء بشيء آخر ، كما تعني الترغيب أو حمل الشخص على القيام بعمل معين ، بحيث يدفع الشخص إلى الارتباط بأهداف معينة.

وعلى هذا الأساس يكون مفهوم الآية ـ موضوع البحث ـ هو أن نقض النصارى لعهدهم وارتكابهم المعاصي أديا إلى أن تنتشر العداوة فيما بينهم ويعمهم النفاق والخلاف،(والمعلوم أن آثار الأسباب التكوينية والطبيعية تنسب إلى الله) وما نراه اليوم من صراعات كثيرة بين الدول المسيحية ، كانت في يوم ما سببا لاندلاع الحربين العالميتين ، وهي كذلك سبب للتكتلات المقترنة بالعدالة والبغضاء المستمرة فيما بينهم ، أضف إلى ذلك الخلافات المذهبية الكثيرة التي تسود بين الطوائف المسيحية التي ما زالت سببا لاستمرار الصراع والاقتتال فيما بينهم.

وقد ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ المراد من استمرار العداوة ، هو العداوة والبغضاء الموجودة بين اليهود والنصارى واستمرارها حتى فناء العالم ، ولكن الملاحظ من ظاهر الآية هو استمرار العداوة بين المسيحيين أنفسهم(1) .

وغني عن البيان أنّ مثل هذه العاقبة لا تقتصر على المسيحيين وحدهم ، فلو أن المسلمين ساروا في نفس هذا الطريق فإن مصيرهم سيكون مشابها لمصير المسيحيين أيضا.

2 ـ إنّ كلمة «العداوة» مشتقة من المصدر «عدو» وهي بمعنى التجاوز

__________________

(1) وعلى هذا الأساس فإن الضمير في كلمة «بينهم» تعود إلى كلمة «النصارى» المذكورة في بداية الآية.

٦٤٣

والانتهاك ، أمّا كلمة «البغضاء» المشتقة من المصدر «بغض» فهي تعني النفور والاستياء الشديد من شيء معين ، ويحتمل أن يكون الفرق بين الكلمتين المذكورتين هو أنّ لكلمة «بغض» طابع وجداني أكثر ممّا هو عملي ، كما في كلمة «العداوة» التي لها طابع عملي،وقد يكون لكلمة «بعض» أو «بغضاء» مفهوم أشمل يستوعب العملي منه والقلبي الوجداني.

3 ـ يستدل من الآية هذه على أنّ النصارى كطائفة دينية (أو اليهود والنصارى معا) سيكون لهم وجود في هذه الدنيا حتى يوم القيامة ، وقد يقول معترض في هذا المجال:أنّ الأخبار الإسلامية تفيد بأن دينا واحدا سيعم العالم كله بعد ظهور المهدي (عج) ولن تكون هناك أديان أخرى غير هذا الدين الذي هو الإسلام الحنيف ، فكيف إذن يمكن الجمع والتوفيق ورفع هذا التناقض الظاهر؟

والجواب هو أنّه يحتمل أن يبقى من المسيحية واليهودية حتى بعد ظهور المهدي (عج) شيء ضئيل على شكل أقلية ضعيفة جدا ، لأن ما نعلمه هو بقاء حرّية الإرادة للبشر حتى في عصر المهدي (عج) وإنّ الدين الإسلامي في ذلك العصر لا يأخذ طابعا إجباريا ، مع أن الأغلبية العظمى من البشر ستتبع طريق الحق وتميل إليه ، والأهم من هذا كله فإن الحكم في الأرض سيكون للإسلام وحده.

* * *

٦٤٤

الآيتان

( يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) )

التّفسير

بعد أنّ تحدثت الآيات السابقة عن نقض اليهود والنصارى لميثاقهم ، جاءت الآية الأخيرة لتخاطب أهل الكتاب بصورة عامّة وتدعوهم إلى الإسلام الذي طهر الديانتين اليهودية والمسيحية من الخرافات التي لصقت بهما ، والذي يهديهم إلى الصراط السّوي المستقيم ، والذي ليس فيه أي انحراف أو اعوجاج.

وتبيّن الآية ـ في البداية ـ أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المبعوث إليهم جاء ليظهر الكثير من الحقائق الخاصّة بالكتب السماوية التي أخفوها هم (أهل الكتاب) وكتموها عن الناس، وإن هذا الرّسول يتغاضى عن كثير من تلك الحقائق التي انتفت الحاجة إليها وزال تأثيرها بزوال العصور التي نزلت لها ، فتقول الآية في هذا المجال :( يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ

٦٤٥

الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) .

وتدلّ هذه الجملة القرآنية على أنّ أهل الكتاب كانوا قد أخفوا وكتموا الكثير من الحقائق ، لكن نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أظهر من تلك الحقائق ما يفي منها بحاجة البشرية في عصر الإسلام ، مثل بيان حقيقة التوحيد وطهارة الأنبياء وتنزههّم عمّا نسب إليهم في التوراة والإنجيل المزورين ، كما بيّن تحريم الربا ، والخمرة وأمثالهما ، بينما بقيت حقائق تخص الأمم السابقة والأزمنة الغابرة ممّا لا أثر لذكرها في تربية الأجيال الإسلامية ، فلم يتمّ التطرق إليها.

وتشير الآية الكريمة ـ أيضا ـ إلى أهمية وعظمة القرآن المجيد وآثاره العميقة في هداية وإرشاد وتربية البشرية ، فتقول :( قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ ) النور الذي يهدي به الله كل من يبتغي كسب مرضاته إلى سبل السلام ، كما تقول الآية الأخرى :( يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ) وينقذهم من أنواع الظلمات (كظلمة الشرك وظلمة الجهل وظلمة التفرقة والنفاق وغيرها ...) ويهديهم إلى نور التوحيد والعلم والاتحاد،حيث تقول الآية :( وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ ) .

وإضافة إلى ذلك كلّه يرشدهم إلى الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج ولا انحراف في جانبيه العقائدي والعملي أبدا ، كما تقول الآية :( وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .

لقد اختلف المفسّرون في المعنى المراد من كلمة «النّور» الواردة في الآية ، فذهب البعض منهم إلى أنّها تعني شخص النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال مفسّرون آخرون : إنّ المعنى بالنور هو القرآن المجيد.

وحين نلاحظ آيات قرآنية عديدة تشبه القرآن بالنور ، يتبيّن لنا أنّ كلمة «النور» الواردة في الآية ـ موضوع البحث ـ إنّما تعني القرآن ، وعلى هذا الأساس فإنّ عطف عبارة «كتاب مبين» على كلمة (النور» يعتبر من قبيل عطف التوضيح ،

٦٤٦

كما نقرأ في الآية (57) من سورة الأعراف :( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) وفي الآية (8) من سورة التغابن نقرأ ما يلي:( فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا ) وآيات عديدة أخرى تشير إلى نفس المعنى،بينما لا نجد في القرآن آية أطلقت فيها كلمة النور على شخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وإضافة إلى ما ذكر فإنّ الضمير المفرد الوارد في عبارة «به» الواردة في الآية الثانية من الآيتين الأخيرتين ، يؤكّد هذا الموضوع أيضا ، وهو أن النور والكتاب المبين هما إشارتان لحقيقة واحدة.

ومع إنّنا نجد روايات عديدة تفسّر كلمة «النّور» على أنّها إشارة إلى الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنينعليه‌السلام أو الأئمّة الإثني عشرعليهم‌السلام جميعهم ، لكن الواضح هو أنّ هذا التّفسير يعتبر من باب بيان بواطن الآيات ، لأنّنا كما نعلم أنّ للآيات القرآنية ـ بالإضافة إلى معانيها الظاهرية ـ معان باطنية يعبّر عنها بـ «بواطن القرآن» أو «بطون القرآن» ، ودليل قولنا هذا أنّ الأئمّةعليهم‌السلام لم يكن لهم وجود في زمن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكي يدعو القرآن أهل الكتاب للإيمان بهم.

أمّا الأمر الثّاني الوارد في الآية الثانية من الآيتين الأخيرتين ، فهو أنّ القرآن يبشر أولئك الذين يسعون لكسب مرضاة الله بأنّهم سيحظون في ظل القرآن بنعم عظيمة ثلاثة هي:

أوّلا : الهداية إلى سبل السلامة التي تشمل سلامة الفرد والمجتمع ، والروح والجسد والعائلة ، والسلامة الأخلاقية ، وكل هذه الأمور تدخل في الجانب العملي من العقيدة.

وثانيا : نعمة النجاة من ظلمات الكفر والإلحاد.

وثالثا : الهداية إلى النور ، وفي هذا دلالة على الطابع العقائدي ، ويتمّ كل ذلك من خلال أقصر وأقرب الطرق وهو الذي أشارت إليه الآية ب( الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) .

٦٤٧

وبديهي أن هذه النعم لا يحظى بها إلّا من أسلم وجهه لله ، وخضع للحق بالعبودية والطاعة ، وكان مصداقا للعبارة القرآنية القائلة :( مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ ) بينما لا يحضى المنافقون والمعاندون وأعداء الحق بأيّ فائدة مطلقا ، كما تشير إلى ذلك آيات قرآنية عديدة.

وبديهي ـ أيضا ـ أنّ كل هذه النتائج والآثار ، إنّما تحصل بمشيئة الله وإرادته وحده دون سواه ، كما تشير عبارة «بإذنه» الواردة في الآية الأخيرة.

* * *

٦٤٨

الآية

( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) )

التّفسير

كيف يمكن للمسيح أن يكون هو الله؟!

جاءت هذه الآية الكريمة لتكمل بحثا تطرقت إليه آيات سابقة ، فحملت بعنف على دعوى ربوبية المسيحعليه‌السلام ، وبيّنت أنّ هذه الدعوى ما هي إلّا الكفر الصريح ، حيث قالت :( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ) .

ولكي يتّضح لنا مفهوم هذه الجملة ، يجب أن نعرف أنّ للمسيحيين عدّة دعاوي باطلة بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى.

فهم أوّلا : يعتقدون بالآلهة الثلاث (أي الثالوث) وقد أشارت الآية (171) من سورة النساء إلى هذا الأمر حيث قالت :( لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ

٦٤٩

إِلهٌ واحِدٌ ) (1) .

وثانيا : إنّهم يقولون : إنّ خالق الكون والوجود هو واحد من هؤلاء الآلهة الثلاث ويسمونه بالإله الأب(2) والقرآن الكريم يبطل هذا الإعتقاد ـ أيضا ـ في الآية (73) من سورة المائدة حيث يقول :( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ ) وسيأتي بإذن الله تفسير هذه الآية قريبا في نفس هذا الجزء.

وثالثا : إنّ المسيحيين يقولون : إنّ الآلهة الثلاث مع تعددهم الحقيقي هم واحد،حيث يعبرون عن ذلك أحيانا بـ «الوحدة في التثليث» ، وهذا الأمر أشارت إليه الآية الأخيرة حيث قالت حكاية عن دعوى المسيحيين :( إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ) وقالوا:إنّ المسيح ابن مريم هو الله! وإن هذين الإثنين يشكلان مع روح القدس حقيقة واحدة في ذوات ثلاثة متعددة!

وقد ورد كل جانب من جوانب عقيدة التثليث ، الذي يعتبر من أكبر انحرافات المسيحيين في واحدة من الآيات القرآنية ، ونفي نفيا شديدا (راجع تفسير الآية 171 ـ من سورة النساء من تفسيرنا هذا وفيه التوضيح اللازم في بيان بطلان عقيدة التثليث).

ويتبيّن ـ ممّا سلف ـ أنّ بعض المفسّرين مثل «الفخر الرازي» قد توهّموا في قولهم بعدم وجود أحد من النصارى ممن يصرح باعتقاده في اتحاد المسيح بالله ، وذلك لعدم إلمام هؤلاء المفسّرين بالكتب المسيحية ، مع أنّ المصادر المسيحية المتداولة تصرح بقضية «الوحدة في التثليث» ومن المحتمل أن مثل هذه الكتب لم تكن متداولة في زمن الرازي ، أو أنّها لم تصل إليه وإلى أمثاله الذين شاركوه

__________________

(1) لقد مضى تفسير هذه الآية في بداية هذا الجزء من تفسيرنا.

(2) نقرأ في المصادر المسيحية أنّ «الإله الأب» هو خالق جميع الكائنات (قاموس الكتاب المقدس ، الصفحة 345) كما نقرأ أنّ الرّب هو الموجود بنفسه ، وإن هذا هو اسم خالق جميع المخلوقات وحاكم كلّ الكائنات،وإنّه هو الروح اللامتناهية الأزلية الأبدية (قاموس الكتاب المقدس ، ص 344).

٦٥٠

في هذا الرأي.

بعد ذلك ولكي تبطل الآية الكريمة عقيدة ألوهية المسيحعليه‌السلام تقول :( قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) وهذه إشارة إلى أنّ المسيحعليه‌السلام إنّما هو بشر كأمه وكسائر أفراد البشر ، وعلى هذا الأساس فهو يعتبر ـ لكونه مخلوقا ـ في مصاف المخلوقات الأخرى يشاركها في الفناء والعدم ، ومن حاله كهذا كيف يمكنه أن يكون إلها أزليا أبديا؟! وبتعبير آخر : لو كان المسيحعليه‌السلام إلها لاستحال على خالق الكون أن يهلكه ، وتكون نتيجة ذلك أن تتحدد قدرة هذا الخالق،ومن كانت قدرته محدودة لا يمكن أن يكون إلها ، لأنّ قدرة الله كذاته لا تحدّها حدود مطلقا (تدبّر جيدا).

إنّ ذكر عبارة «المسيح بن مريم» بصورة متكررة في الآية ، قد يكون إشارة إلى هذه الحقيقة ، وهي اعتراف المسيحيين ببنوّة المسيحعليه‌السلام لمريم ، أي أنّه ولد من أم وأنّه كان جنينا في بطن أمّه قبل أن يولد ، وحين ولد طفلا احتاج إلى النموّ ليصبح كبيرا ، فهل يمكن أن يستقر الإله في محيط صغير كرحم الأمّ ، ويتعرض لجميع تحولات الوجود والولادة ويحتاج للأمّ حين كان جنيا وحين الرضاعة؟!

والجدير بالانتباه أنّ الآية الأخيرة تذكر بالإضافة إلى اسم المسيحعليه‌السلام اسم أمّه وتذكرها بكلمة «أمه» وبهذه الصورة تميز الآية أمّ المسيحعليه‌السلام عن سائر أفراد البشر،ويحتمل أن يكون هذا التعبير بسبب أنّ المسيحيين أثناء ممارستهم للعبادة ، يعبدون أمّ المسيح أيضا،والكنائس الموجودة اليوم تشتمل على تماثيل لأم المسيح ، حيث يقف المسيحيون أمامها تعظيما وتعبدا.

وإلى هذا الأمر تشير الآية (116) من سورة المائدة فتقول :( وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ) وهذا الخطاب حكاية عمّا يحصل من حوار في يوم القيامة.

وفي الختام ترد الآية الكريمة على أقوال أولئك الذين اعتبروا ولادة المسيح

٦٥١

من غير أب دليلا على ألوهيته فتقول :( وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

فالله قادر على أن يخلق إنسانا من غير أب ومن غير أم كما خلق آدمعليه‌السلام ، وهو قادر أيضا على أن يخلق إنسانا من غير أب كما خلق عيسى المسيحعليه‌السلام ، وقدرة الله هذه كقدرته في خلق البشر من آبائهم وأمّهاتهم ، وهذا التنوع في الخلق دليل على قدرته ، وليس دليلا على أي شيء آخر سوى هذه القدرة.

* * *

٦٥٢

الآية

( وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) )

التّفسير

استكمالا للبحوث السابقة التي تناولت بعض انحرافات اليهود والنصارى ، تشير الآية الأخيرة إلى أحد الدعاوى الباطلة التي تمسك بها هؤلاء ، فتقول :( وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ) .

ولم يكن هذا الامتياز الوهمي الذي ادعاه اليهود والنصارى لأنفسهم هو الوحيد من نوعه ، إذ أن القرآن الكريم قد أشار في آيات عديدة إلى أمثال هذه الادعاء.

ففي الآية (111) من سورة البقرة ، أشار القرآن إلى ادعائهم الذي زعموا فيه أن أحدا غيرهم لا يدخل الجنّة ، وزعموا أن الجنّة هي حكر على اليهود والنصارى ، وقد فند القرآن هذه الادعاء.

كما جاء الآية (80) من سورة البقرة ادعاء آخر لليهود ، وهو زعمهم أن نار

٦٥٣

جهنم لن تمسهم إلا في أيّام معدودة ، وقد وبخهم القرآن على زعمهم هذا.

وفي الآية الأخيرة يشير القرآن الكرم إلى ادعائهم البنوة لله ، وزعمهم أنّهم أحباء لله،ولا شك أن هؤلاء لم يعرّفوا أنفسهم كأبناء حقيقيين لله ، بل إنّ المسيحيين وحدهم يدّعون أن المسيح هو الابن الحقيقي لله ، وقد صرحوا بهذا الأمر(1) وأنّهم حين اختاروا لأنفسهم صفة البنوة لله وأدعوا بأنّهم الله إنما ليظهروا بأن لهم علاقة خاصّة بالله سبحانه ، وكأنّهم أرادوا كل من ينتمي إليهم انتماء قوميا أو عقائديا يصبح من أبناء الله وأحبائه حتى لو لم يقم بأي عمل صالح.(2)

وواضح لدينا أنّ القرآن الكريم حارب كل هذه الامتيازات والدعاوى الوهمية ، فهو لا يرى للإنسان امتيازا إلّا بالإيمان والعمل الصالح والتقوى ، ولذلك تقول الآية الأخيرة في تفنيد وإبطال الادعاء الأخير :( قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ) فهؤلاء ـ بحسب اعترافهم أنفسهم ـ يشملهم العذاب الإلهي حيث قالوا بأن العذاب يمسّهم لأيّام معدودة ، فكيف يتلاءم ذلك الادعاء وهذا الاعتراف؟ وكيف يمكن أن يشمل عذاب الله أبناءه وأحباءه؟! ومن هنا يثبت أن لا أساس ولا صحة لهذا الادعاء ، وقد شهد تاريخ هؤلاء على أنّهم حتى في هذه الدنيا ابتلوا بسلسلة من العقوبات الإلهية ، ويعتبر هذا دليلا آخر على زيف وبطلان دعواهم تلك.

ولكي تؤكد الآية الكريمة زيف وبطلان الدعوى المذكورة استطردت تقول :( بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ) والقانون الإلهي عام ، فإن الله( يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ) .

وبالإضافة إلى ذلك فإنّ كل البشر هم من خلق الله ، وهم عباده وأرقاؤه ، وعلى هذا الأساس ليس من المنطق إطلاق اسم «ابن الله» على أي منهم ، حيث

__________________

(1) تقول المصادر المسيحية بأنّ عبارة «ابن الله» هي فقط من ألقاب منقذ المسيحيين وفاديهم ، وإنّ هذا اللقب لا يطلق على أحد غيره إلّا إذا دلت القرينة على أنّ المراد ليس البنوة الحقيقة لله (قاموس الكتاب المقدس، ص 345).

(2) ظهرت في الآونة الأخيرة لدينا مجموعة تبشر للمسيحية وتسمّي نفسها جماعة «ابن الله».

٦٥٤

تقول الآية :( وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ) .

وفي النهاية تعود المخلوقات كلها إلى الله ، حيث تؤكد الآية هنا بقولها :( وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) .

وقد يسأل البعض : أين ومتى ادعى اليهود والنصارى أنّهم أبناء الله حتى لو كان معنى البنوة في هذه الآية هو معنى مجازي وغير حقيقي).

الجواب هو أنّ الأناجيل المتداولة قد ذكرت هذه العبارة ، ويلاحظ ذلك فيها بصورة متكررة ، من ذلك ما جاء في إنجيل يوحنا في الإصحاح 8 ـ الآية 41 وما بعدها ، حيث نقرأ على لسان عيسى في خطابه لليهود قوله : «إنّكم تمارسون أعمال أبيكم ، فقال له اليهود : نحن لم نولد من الزنا وإن أبانا واحد وهو الله! فقال لهم عيسى : لو كان أبوكم هو الله لكنتم احببتموني ...».

وقد ورد في الروايات الإسلامية ـ أيضا ـ في حديث عن ابن عباس مضمونه أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا جمعا من اليهود إلى دين الإسلام وحذّرهم من عذاب الله ، فقال له اليهود:كيف تخوفنا من عذاب الله ونحن أبناؤه وأحباؤه(1) !

وورد في تفسير مجمع البيان ، في تفسير الآية موضوع البحث ، حديث على غرار الحديث المذكور أعلاه ، مضمونه أنّ جمعا من اليهود حين هددهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعذاب الله قالوا : لا تهددنا فنحن أبناء الله وأحباؤه،وهو إن غضب علينا يكون غضبة كغضب الإنسان على ولده ، وهو غضب سريع الزوال.

* * *

__________________

(1) تفسير الرازي ، ج 11 ، ص 192.

٦٥٥

الآية

( يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) )

التّفسير

تكرر هذه الآية الخطاب إلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، فتبيّن لهم أنّ النّبي المرسل إليهم مرسل من عند الله ، أرسله في عصر ظلت البشرية قبله فترة دون أن يكون لها نبيّ ، فبيّن لهم هذا النّبي الحقائق ، لكي لا يقولوا بعد هذا إنّ الله لم يرسل إليهم من يهديهم إلى الصراط السوي ويبشرهم بلطف الله ورحمته ويحذرهم من الانحراف والاعوجاج ، وينذرهم بعذاب الله ، حيث تقول الآية :( يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ ) .

نعم ، فالبشير والنذير هو نبيّ الإسلام محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات برحمة الله وثوابه ، وينذر الذين كفروا والعاصين بعذاب الله وعقابه ، وقد جاء ليبشر ولينذر أهل الكتاب والبشرية جمعاء ، حيث تؤكّد الآية هذا بقوله تعالى :( فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ) .

٦٥٦

أمّا كلمة «فترة» الواردة في الآية فهي تعني في الأصل الهدوء والسكينة كما تطلق على الفاصلة الزمنية بين حركتين أو جهدين أو نهضتين أو ثورتين.

وقد شهدت الفاصلة الزمنية بين موسىعليه‌السلام وعيسىعليه‌السلام عددا من الأنبياء والرسل، بينما لم يكن الأمر كذلك في الفاصلة الزمنية بين عيسىعليه‌السلام والنّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،ولذلكأطلق القرآن الكريم على هذه الفاصلة الأخيرة اصطلاح( فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ) والمعروف أن هذه الفترة دامت ستمائة عام تقريبا(1) .

أمّا ما جاء في القرآن ـ في سورة يس الآية 14 ـ وما ذكره المفسّرون ، فيدلان على أنّ ثلاثة من الرسل ـ على الأقل ـ قد بعثوا في الفاصلة الزمنية بين النّبي عيسىعليه‌السلام ونبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد ذكر البعض أنّ أربعة من الرسل بعثوا في تلك المدة ، وعلى أي حال لا بدّ أن تكون هناك فترة خلت من الرسل بين وفاة أولئك الرسل والنّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،ولذلك عبّر القرآن عن تلك الفترة الخالية من الرسل بقوله :( عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ) .

سؤال :

وقد يعترض البعض بأنّه كيف يمكن القول بوجود مثل تلك الفترة مع أنّ الإعتقاد السائد لدينا يقضي بأن المجتمع البشري لا يمكن أن يخلو ولو للحظة من رسول أو إمام معين من قبل الله سبحانه وتعالى؟

الجواب :

إنّ القرآن الكريم حين يقول :( عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ) إنّما ينفي وجود الرسل في تلك المدّة ، ولا يتنافى هذا الأمر مع القول بوجود أوصياء للرسل في ذلك الوقت.

__________________

(1) ويرى البعض أنّ هذه الفترة تبلغ أكثر من ستمائة عام ، وآخرون يرون أنّها أقل من هذه المدّة واستنادا على قول البعض فإنّ الفاصلة الزمنية بين ولادة المسيحعليه‌السلام وهجرة نبي الإسلام محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووفق التاريخ الميلادي تبلغ 621 عاما و 95 يوما (تفسير ابن الفتوح الرازي ، ج 4 ، هامش الصفحة 154).

٦٥٧

وبعبارة أخرى ، فإنّ الرسل هم أشخاص كانوا يمارسون الدعوة على نطاق واسع ، وكانوا يبشرون وينذرون الناس ، ويثيرون الحركة والنشاط في المجتمعات ، ويوقظونها من سباتها بهدف إيصال ندائهم الى الجميع ، بينما لم يكن جميع أوصياء الرسل ليحملوا مثل تلك المهمّة ، بل يحتمل ـ أيضا ـ إنهم لظروف وعوامل اجتماعية خاصّة ، كانوا يعيشون بين الناس أحيانا متخفين متنكرين.

ويقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام في إحدى خطبه الواردة في كتاب «نهج البلاغة» في هذا المجال ما يلي : «اللهم بلى ، لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة إمّا ظاهرا مشهورا أو خائفا مغمورا لئلا تبطل حجج الله وبيناته ، يحفظ الله بهم حججه وبيّناته حتى يودعوها نظراءهم ويزرعوها في قلوب أشباههم»(1) .

وواضح أن المجتمع البشري لو خلى من الرسل الثوريين والدعاة العالمين ، لعمت هذه المجتمع الخرافات والوساوس الشيطانية والانحرافات والجهل بالتعاليم الإلهية ، وتكون مثل هذه الحالة خير حجة بأيدي أولئك الذين يريدون الفرار والتخلي عن المسؤوليات ، لذلك فإن الله يبطل هذه الحجة عن طريق الرجال الرساليين المرتبطين به والموجودين دائما بين أبناء البشر.

وفي الختام تؤكد الآية على شمولية قدرة اللهعزوجل فتقول :( وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) وهذا بيان بأنّ إرسال الأنبياء والرسل وتعيين أوصيائهم أمر يسير بالنسبة لقدرة الله العزيز المطلقة.

* * *

__________________

(1) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة 147.

٦٥٨

الآيات

( وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) )( قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26) )

٦٥٩

التّفسير

بنو إسرائيل والأرض المقدسة :

جاءت هذه الآيات لتثير لدى اليهود دافع التوجه إلى الحق والسعي لمعرفته أوّلا،وإيقاظ ضمائرهم حيال الأخطاء والآثام التي ارتكبوها ثانيا ، ولكي تحفزهم إلى السعي لتلافي اخطائهم والتعويض عنها ، ويذكرهم القرآن في الآية الأولى بما قاله النّبي موسىعليه‌السلام لأصحابه حيث تقول :( وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ ) .

ولا يخفى أنّ عبارة (نعمة الله) تشمل جميع الأنعم الإلهية ، لكن الآية استطردت فبيّنت ثلاثا من أهم هذه النعم ، أوّلها نعمة ظهور أنبياء وقادة كثيرين بين اليهود ، والتي تعتبر أكبر نعمة وهبها الله لهم ، فتقول الآية :( إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ ) .وقد نقل أنّ في زمن موسى بن عمران وحده كان يوجد بين اليهود سبعون نبيّا ، وإنّ السبعين رجلا الذين ذهبوا مع موسىعليه‌السلام إلى جبل «الطور» كانوا كلهم بمنزلة الأنبياء.

وفي ظل هذه النعمة (نعمة وجود الأنبياء) نجى اليهود من هاوية الشرك والوثنية وعبادة العجل وتخلصوا من مختلف أنواع الخرافات والأوهام والقبائح والخبائث ، لذلك أصبحت هذه النعمة أكبر النعم المعنوية التي أنعم الله بها على بني إسرائيل.

بعد هذا تشير الآية إلى أكبر نعمة مادية وهبها الله لليهود فتقول :( وَجَعَلَكُمْ مُلُوكا ) وتعتبر هذه النعمة ـ أيضا ـ مقدمة للنعم المعنوية ، فقد عانى بنو إسرائيل لسنين طويلة من ذل العبودية في ظل الحكم الفرعوني ، فلم يكونوا ليمتلكوا في تلك الفترة أي نوع من حرية الإرادة ، بل كانوا يعاملون معاملة البهائم المكبلة في القيود ، وقد أنقذهم الله من كل تلك القيود ببركة النّبي موسى بن عمرانعليه‌السلام وملكهم مصائرهم ومقدراتهم.

٦٦٠