الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل8%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 710

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 710 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 173438 / تحميل: 6085
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

الصالحة هو الإيمان ومعرفة الله وتسبيحه وتنزيهه.

وقد فسّر البعض «التسبيح» هنا بمعنى (شكر النعمة) والتي من ملازماتها إعانة المحرومين ، وهذان التّفسيران لا يتنافيان مع بعضهما البعض ، وهما مجموعان في مفهوم الآية الكريمة.

لقد سبق تسبيحهم (الاعتراف بالذنب) ، ولعلّ هذا كان لرغبتهم في تنزيه الله تعالى عن كلّ ظلم بعيدا عمّا نزّل بجنّتهم من دمار وبلاء عظيم ، وكأنّ لسان حالهم يقول : ربّنا إنّنا كنّا نحن الظالمين لأنفسنا وللآخرين ، ولذا حقّ علينا مثل هذا العذاب ، وما أصابنا منك هو العدل والحكمة.

كما يلاحظ في قسم آخر من آيات القرآن الكريم ـ أيضا ـ أنّ التسبيح قبل الإقرار بالظلم ، حيث نقرأ ذلك في قصّة يونسعليه‌السلام عند ما أصبح في بطن الحوت ، وذلك قوله :( لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) (١) .

والظلم بالنسبة لهذا النبي العظيم هو بمعنى ترك الأولى ، كما أوضحنا ذلك في تفسير هذه الآية.

إلّا أنّ المسألة لم تنته إلى هذا الحدّ ، حيث يقول تعالى :( فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ ) .

والملاحظ من منطوق الآية أنّ كلّ واحد منهم في الوقت الذي يعترف بذنبه ، فإنّه يلقي بأصل الذنب على عاتق الآخر ، ويوبّخه بشدّة ، وأنّه كان السبب الأساس فيما وصلوا إليه من نتيجة بائسة مؤلمة ، وكلّ منهم ـ أيضا ـ يؤكّد أنّه لم يكن غريبا عن الله والعدالة إلى هذا الحدّ.

نعم ، هكذا تكون عاقبة كلّ الظالمين عند ما يصبحون في قبضة العذاب الإلهي.

ومع الإقرار بالذنب فإنّ كلا منهم يحاول التنصّل ممّا لحق بهم ، ويسعى جاهدا

__________________

(١) الأنبياء ، الآية ٨٧.

٥٤١

لتحويل مسئولية البؤس والدمار على الآخرين.

ويحتمل أن يكون شعور كلّ منهم ـ أو غالبيتهم ـ بالأدوار المحدودة لهم فيما حصل ، هو الذي دفع كلا منهم للتخلّي عن مسئولية ما حصل ، وذلك كأن يقترح شخص شيئا ، ويؤيّده الآخر في هذا الاقتراح ، ويتبنّى ثالث هذا العمل ، ويظهر الرابع رضاه بسكوته ومن الواضح في مثل هذه الأحوال مساهمة الجميع في هذه الجريمة ومشاركتهم في الذنب.

ثمّ يضيف تعالى :( قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ ) .

لقد اعترفوا في المرحلة السابقة بالظلم ، وهنا اعترفوا بالطغيان ، والطغيان مرحلة أعلى من الظلم ، لأنّ الظالم يمكن أن يستجيب لأصل القانون إلّا أنّ غلبة هواه عليه يدفعه إلى الظلم ، أمّا الطاغي فإنّه يرفض القانون ويعلن تمرّده عليه ولا يعترف برسميّته.

ويحتمل أن يكون المقصود بالظلم هو : (ظلم النفس) ، والمقصود بالطغيان هو (التجاوز على حقوق الآخرين).

وممّا يجدر ملاحظته أنّ العرب تستعمل كلمة (ويس) عند ما يواجهون مكروها ويعبّرون عن انزعاجهم منه ، كما أنّهم يستعملون كلمة (ويح) أحيانا ، وأحيانا اخرى (ويل) وعادة يكون استعمال الكلمة الاولى في المصيبة البسيطة ، والثانية للأشدّ ، والثالثة للمصيبة الكبيرة ، واستعمال كلمة (الويل) من قبل أصحاب البستان يكشف عن أنّهم كانوا يعتبرون أنفسهم مستحقّين لأشدّ حالات التوبيخ.

وأخيرا ـ بعد عودة الوعي إلى ضمائرهم وشعورهم. بل واعترافهم بالذنب والإنابة إلى الله ـ توجّهوا إلى البارئعزوجل داعين ، وقالوا :( عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ ) (١) فقد توجّهنا إليه ونريد منه انفاذنا ممّا

__________________

(١) «راغبون» : من مادّة (رغبة) ، هذه المادّة كلّما كانت متعدية بـ (إلى) أو (في) تكون بمعنى الميل إلى شيء معيّن ، وكلّما

٥٤٢

تورّطنا فيه

والسؤال المطروح هنا : هل أنّ هؤلاء ندموا على العمل الذي أقدموا عليه ، وقرّروا إعادة النظر في برامجهم المستقبلية ، وإذا شملتهم النعمة الإلهية مستقبلا فسيؤدّون حقّ شكرها؟ أم أنّهم وبّخوا أنفسهم وكثر اللوم بينهم بصورة موقتة ، شأنهم شأن الكثير من الظالمين الذين يشتدّ ندمهم وقت حلول العذاب ، وما إن يزول الضرّ الذي حاقّ بهم إلّا ونراهم يعودون إلى ما كانوا عليه سابقا من ممارسات مريضة؟

اختلف المفسّرون في ذلك ، والمستفاد من سياق الآية اللاحقة أنّ توبتهم لم تقبل ، بلحاظ عدم اكتمال شروطها وشرائطها ، ولكن يستفاد من بعض الرّوايات قبول توبتهم ، لأنّها كانت عن نيّة خالصة ، وعوضهم عن جنّتهم بأخرى أفضل منها ، مليئة بأشجار العنب المثمرة.

ويقول تعالى في آخر آية من هذه الآيات ، بلحاظ الاستفادة من هذا الدرس والإعتبار به :( كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) .

وهكذا توجّه الآية خطابها إلى كلّ المغرورين ، الذين سحرهم المال وأبطرتهم الثروة والإمكانات المادية ، وغلب عليهم الحرص والاستئثار بكلّ شيء دون المحتاجين بأنّه لن يكون لكم مصير أفضل من ذلك. وإذا ما جاءت صاعقة وأحرقت تلك الجنّة ، فمن الممكن أن تأتي صاعقة أو عذاب عليكم من أمثال الآفات والحروب المحلية والعالمية المدمّرة ، وما إلى ذلك ، لتذهب بالنعم التي تحرصون عليها.

* * *

__________________

كانت متعدّية بـ (عن) تكون بمعنى الانصراف وعدم الاعتناء بشيء معيّن.

٥٤٣

بحثان

١ ـ الاستئثار بالنعم بلاء عظيم

جبل الإنسان وطبع على حبّ المال ، ويمثّل هذا الحبّ غريزة في نفسه ، لأنّ له فوائد شتّى ، وهذا الحبّ غير مذموم إذا كان في حدّ الاعتدال ، وجعل نصيب منه للمحتاجين ، وهذا لا يعني الاقتصار على أداء الحقوق الشرعية فقط ، بل أداء بعض الإنفاقات المستحبّة.

وجاء في الرّوايات الإسلامية ضرورة جعل نصيب للمحتاجين الحاضرين ممّا يقطف من ثمار البساتين وحصاد الزرع. وهذا ما يعرف بعنوان (حقّ الحصاد) وهو مقتبس من الآية الشريفة :( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ) (١) ، وهذا الحقّ غير حقّ الزكاة ، وما يعطى للمحتاجين الحاضرين منه أثناء قطف الثمار أو حصاد الزرع غير محدود بحدّ معيّن(٢) .

إلّا أنّ التعلّق بالمال حينما يكون بصورة مفرطة وجشعة فإنّه يأخذ شكلا منحرفا وأنانيا ، وقد لا يكون بحاجة إليه ، فحرمان الآخرين والاستئثار بالأموال والتلذّذ بحيازة النعم والمواهب الإلهية دون سواه ، مرض وبلاء كما نلاحظ في حياتنا المعاصرة مفردات ونماذج كثيرة في مجتمعاتنا البشرية تعيش هذه الحالة.

وقصّة (أصحاب الجنّة) التي حدّثتنا الآيات السابقة عنها ، هي كشف وتعرية واضحة لهذه النفسيات المريضة لأصحاب الأموال الذين يستأثرون بالخير والنعم والهبات الإلهية ، ويؤكّدون بحصرها فيهم دون سواهم ويتجسّد هذا المعنى في الخطّة التي اعدّت من جانب أصحاب الجنّة في حرمان المحتاجين ، بالتفصيل الذي ذكرته الآيات الكريمة

__________________

(١) الأنعام ، الآية ١٤١.

(٢) يمكن مطالعة الروايات التي جاءت في هذا المجال في ج ٦ ، من (وسائل الشيعة) أبواب زكاة الغلات ، باب ١٣ ، وفي (سنن البيهقي) ج ٤ ، ص ١٣٣.

٥٤٤

وغاب عن بالهم أنّ آهات هؤلاء المحرومون تتحوّل في أحيان كثيرة إلى صواعق محرقة ، تحيل سعادة هؤلاء الأغنياء الظالمين إلى وبال ، وتظهر هذه الصواعق على شكل كوارث ومفاجات وثورات ، ويشاهدون آثارها المدمّرة بامّ أعينهم ، ويتحوّل ترفهم وبذخهم إلى زفرات وآهات وصرخات تشقّ عنان السماء ، معلنين التوبة والإقلاع عن الممارسات الاستئثارية ، ولات ساعة متاب.

٢ ـ العلاقة بين (الرزق) و (الذنوب)

ممّا يستفاد ـ ضمنا ـ من القصّة أعلاه وجود علاقة بين الذنب والرزق ، وممّا يؤيّد هذا ما ورد في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الرجل ليذنب الذنب ، فيدرأ عنه الرزق ، وتلا هذه الآية :( إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ ، فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ ) (١) .

ونقل عن ابن عبّاس أيضا أنّه قال : إنّ العلاقة بين الذنب وقطع الرزق ، أوضح من الشمس ، كما بيّنها اللهعزوجل في سورة ن والقلم(٢) .

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٩٥ ، (حديث ٤٤).

(٢) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ٣٧.

٥٤٥

الآيات

( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١) )

التّفسير

١ ـ استجواب كامل :

إنّ طريقة القرآن الكريم في الكشف عن الحقائق ، واستخلاص المواقف ، تكون من خلال عملية مقارنة يعرضها الله سبحانه في الآيات الكريمة ، وهذا الأسلوب مؤثّر جدّا من الناحية التربوية فمثلا تستعرض الآيات الشريفة حياة الصالحين وخصائصهم وميزاتهم ومعاييرهم ثمّ كذلك بالنسبة إلى الطالحين والظالمين ، ويجعل كلا منهما في ميزان ، ويسلّط الأضواء عليهما من خلال عملية

٥٤٦

مقارنة ، للوصول إلى الحقيقة.

وتماشيا مع هذا المنهج وبعد استعراض النهاية المؤلمة لـ (أصحاب الجنّة) في الآيات السابقة ، يستعرض البارئعزوجل حالة المتّقين فيقول :( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) .

«جنّات» من (الجنّة) حيث كلّ نعمة متصوّرة على أفضل صورة لها تكون هناك ، بالإضافة إلى النعم التي لم تخطر على البال.

ولأنّ قسما من المشركين والمترفين كانوا يدّعون علوّ المقام وسموّه في يوم القيامة كما هو عليه في الدنيا ، لذا فإنّ الله يوبّخهم على هذا الادّعاء بشدّة في الآية اللاحقة. بل يحاكمهم فيقول :( أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) .

هل يمكن أن يصدّق إنسان عاقل أنّ عاقبة العادل والظالم ، المطيع والمجرم ، المؤثر والمستأثر واحدة ومتساوية؟ خاصّة عند ما تكون المسألة عند إله جعل كلّ مجازاته ومكافآته وفق حساب دقيق وبرنامج حكيم.

وتستعرض الآية (٥٠) من سورة فصّلت موقف هؤلاء الأشخاص المماثل لما تقدّم ، حيث يقول تعالى :( وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي ، وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ، وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى ) .

نعم ، إنّ الفئة المغرورة المقتنعة بتصرّفاتها الراضية عن نفسها تعبر أنّ الدنيا والآخرة خاصّة بها وملك لها.

ثمّ يضيف تعالى أنّه لو لم يحكم العقل بما تدعون ، فهل لديكم دليل نقلي ورد في كتبكم يؤيّد ما تزعمون :( أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ ) (١) أي ما اخترتم من الرأي

إن توقّعكم في أن تكون العناصر المجرمة من أمثالكم مع صفوف المسلمين

__________________

(١) جملة (إنّ لكم ..) مفعول به لـ (تدرسون) وطبقا للقواعد فإنّها يجب أن تقرأ (أن) بـ (فتح الهمزة). إلّا أنّ مجيء اللام على رأس اسم (أن) جعلها تقرأ (إن) بـ (كسر الهمزة) وذلك لأنّ الفعل يصبح معلّقا عن العمل.

٥٤٧

وعلى مستواهم ، حديث هراء لا يدعمه العقل ، ولم يأت في كتاب يعتدّ به ولا هو موضع اعتبار.

ثمّ تضيف الآية اللاحقة أنّه لو لم يكن لديكم دليل من العقل أو النقل ، فهل أخذتم عهدا من الله أنّه سيكون معكم إلى الأبد :( أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ ) .

وتتساءل الآية الكريمة عن هؤلاء مستفسرة عمّن يستطيع الادّعاء منهم بأنّه قد أخذ عهدا من الله سبحانه في الاستجابة لميوله وأهوائه ، وإعطائه ما يشاء من شأن ومقام ، وبدون موازين أو ضوابط ، وبصورة بعيدة عن مقاييس السؤال وموازين الاستجابة؟ حتّى يمكن القول بأنّ المجرمين متساوون مع المؤمنين(١) .

ويضيف سبحانه ـ استمرارا لهذه التساؤلات ـ كي يسدّ عليهم جميع الطرق ومن كلّ الجهات ، فيقول :( سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ ) فمن منهم يضمن أنّ المسلمين والمجرمين سواء ، أو يضمن أنّ الله تعالى سيؤتيه كلّ ما يريد؟!.

وفي آخر مرحلة من هذا الاستجواب العجيب يقول تعالى :( أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ ) .

فالآية تطلب من المشركين تقديم الدليل الذي يثبت أنّ هذه الأصنام المنحوتة من الحجارة ، والتي لا قيمة لها ولا شعور ، تكون شريكة الله تعالى وتشفع لهم عنده.

وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ (شركاء) هنا بمعنى (شهداء).

ومن خلال العرض المتقدّم نستطيع القول : إنّ هؤلاء المجرمين لإثبات ادّعاءاتهم في التساوي مع المؤمنين في يوم القيامة ، بل أفضليتهم أحيانا كما يذهب بعضهم لذلك ، لا بدّ لهم أن يدعموا قولهم هذا بإحدى الوسائل الأربعة

__________________

(١) فسّر البعض مصطلح (بالغة) هنا بمعنى (مؤكّد) ، وفسّرها البعض الآخر بأنّها (مستمر) والمعنى الثاني أنسب ، وبناء على هذا فإنّ (الجارّ والمجرور) في (إلى يوم القيامة) تكون متعلّقة بـ (بالغة).

٥٤٨

التالية : إمّا دليل من العقل ، أو كتاب من الكتب السماوية ، أو عهد من الله تعالى ، أو بواسطة شفاعة الشافعين وشهادة الشاهدين. وبما أنّ جواب جميع هذه الأسئلة سلبي ، لذا فإنّ هذا الادّعاء فارغ من الأساس وليست له أيّة قيمة.

* * *

٥٤٩

الآيات

( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) )

التّفسير

العجز عن السجود :

تعقيبا للآيات السابقة التي استجوب الله تعالى فيها المشركين والمجرمين استجوابا موضوعيا ، تكشف لنا هذه الآيات جانبا من المصير البائس في يوم القيامة لهذه الثلّة المغرمة في حبّها لذاتها ، والمكثرة للادّعاءات ، هذا المصير المقترن بالحقارة والذلّة والهوان.

يقول تعالى :( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ ) (١) .

__________________

(١) «يوم» ظرف متعلّق بمحذوف تقديره : (اذكروا يوم ...) ، واحتمل البعض ـ أيضا ـ أنّه متعلّق بـ (فليأتوا) في الآية

٥٥٠

جملة( يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ ) كما قال جمع من المفسّرين ، كناية عن شدّة الهول والخوف والرعب وسوء الحال ، إذ أنّ المتعارف بين العرب عند مواجهتهم أمرا صعبا أنّهم يشدّون ثيابهم على بطونهم ممّا يؤدّي إلى كشف سيقانهم.

ونقرأ جواب ابن عبّاس المفسّر المعروف عند ما سئل عن تفسير هذه الآية قال : كلّما خفي عليكم شيء من القرآن ارجعوا إلى الشعر فإنّ الشعر ديوان العرب ، ألم تسمعوا قول الشاعر :

وقامت الحرب بنا على ساق.

إنّ هذا القول كناية عن شدّة أزمة الحرب.

وقيل : إنّ (ساق) تعني أصل وأساس الشيء ، كساق الشجرة ، وبناء على هذا فإنّ جملة (يكشف عن ساق) تعني أنّ أساس كلّ شيء يتّضح ويتبيّن في ذلك اليوم ، إلّا أنّ المعنى الأوّل أنسب حسب الظاهر.

وفي ذلك اليوم العظيم يدعى الجميع إلى السجود للبارئعزوجل ، فيسجد المؤمنون ، ويعجز المجرمون عن السجود ، لأنّ نفوسهم المريضة وممارساتهم القبيحة قد تأصّلت في طباعهم وشخصياتهم في عالم الدنيا ، وتطفح هذه الخصال في اليوم الموعود وتمنعهم من إحناء ظهورهم للذات الإلهية المقدّسة.

وهنا يثار سؤال : إنّ يوم القيامة ليس بيوم تكاليف وواجبات وأعمال ، فلم السجود؟

يمكن استنتاج الجواب من التعبير الذي ورد في بعض الأحاديث ، نقرأ في الحديث التالي عن الإمام الرضاعليه‌السلام في قوله تعالى :( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ ) قال : «حجاب من نور يكشف فيقع المؤمنون سجّدا وتدمج أصلاب المنافقين فلا يستطيعون السجود»(١) .

__________________

السابقة ، إلّا أنّ هذا المعنى مستبعد.

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٩٥ ، ح ٤٩.

٥٥١

وبتعبير آخر : في ذلك اليوم تتجلّى العظمة الإلهية ، وهذه العظمة تدعو المؤمنين للسجود فيسجدون ، إلّا أنّ الكافرين حرموا من هذا الشرف واللطف.

وتعكس الآية اللاحقة صورة جديدة لحالتهم حيث يقول سبحانه :( خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ) (١) .

هذه الآية الكريمة تصف لنا حقيقة المجرمين عند ما يدانون في إجرامهم ويحكم عليهم ، حيث نلاحظ الذلّة والهوان تحيط بهم ، وتكون رؤوسهم مطأطئة تعبيرا عن هذه الحالة المهينة.

ثمّ يضيف تعالى :( وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ ) .

إلّا أنّهم لن يسجدوا أبدا ، لقد صحبوا روح التغطرس والعتوّ والكبر معهم في يوم القيامة فكيف سيسجدون؟

إنّ الدعوة للسجود في الدنيا لها موارد عديدة ، فتارة بواسطة المؤذّنين للصلاة الفردية وصلاة الجماعة ، وكذلك عند سماع بعض الآيات القرآنية وأحاديث الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة المعصومينعليهم‌السلام ولذا فإنّ الدعوة للسجود لها مفهوم واسع وتشمل جميع ما تقدّم.

ثمّ يوجّه البارئعزوجل الخطاب لنبيّه الكريم ويقول :( فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ ) .

وهذه اللهجة تمثّل تهديدا شديدا من الواحد القهّار لهؤلاء المكذّبين المتمردين ، حيث يخاطب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : لا تتدخّل ، واتركني مع هؤلاء ، لاعاملهم بما يستحقّونه. وهذا الكلام الذي يقوله ربّ قادر على كلّ شيء ، ـ بالضمن ـ باعث على اطمئنان الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين أيضا ، ومشعرا لهم بأنّ الله معهم وسيقتصّ من جميع الأعداء الذين يثيرون المشاكل والفتن والمؤامرات أمام

__________________

(١) «ترهقهم» من مادّة (رهق) ، (على وزن شفق) بمعنى التغطية والإحاطة.

٥٥٢

الرّسول والرسالة ، ولن يتركهم الله تعالى على تماديهم.

ثمّ يضيف سبحانه :( سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) .

نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إذا أحدث العبد ذنبا جدّد له نعمة فيدع الاستغفار ، فهو الاستدراج»(١) .

والذي يستفاد من هذا الحديث ـ والأحاديث الاخرى في هذا المجال ـ أنّ الله تعالى يمنح ـ أحيانا ـ عباده المعاندين نعمة وهم غارقون في المعاصي والذنوب وذلك كعقوبة لهم. فيتصوّرون أنّ هذا اللطف الإلهي قد شملهم لجدارتهم ولياقتهم له فيأخذهم الغرور المضاعف ، وتستولي عليهم الغفلة إلّا أنّ عذاب الله ينزل عليهم فجأة ويحيط بهم وهم بين أحضان تلك النعم الإلهية العظيمة وهذا في الحقيقة من أشدّ ألوان العذاب ألما.

إنّ هذا اللون من العذاب يشمل الأشخاص الذين وصل طغيانهم وتمردّهم حدّه الأعلى ، أمّا من هم دونه في ذلك فإنّ الله تعالى ينبّههم وينذرهم عن ممارساتهم الخاطئة عسى أن يعودوا إلى رشدهم ، ويستيقظوا من غفلتهم ، ويتوبوا من ذنوبهم ، وهذا من ألطاف البارئعزوجل بهم.

وبعبارة اخرى : إذا أذنب عبد فإنّه لا يخرج من واحدة من الحالات الثلاث التالية :

إمّا أن ينتبه ويرجع عن خطئه ويتوب إلى ربّه.

أو أن ينزل الله عليه العذاب ليعود إلى رشده.

أو أنّه غير أهل للتوبة ولا للعودة للرشد بعد التنبيه له ، فيعطيه الله نعمة بدل البلاء وهذا هو : (عذاب الاستدراج) والذي أشير له في الآيات القرآنية بالتعبير

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٤٠.

٥٥٣

أعلاه وبتعابير اخرى.

لذا يجب على الإنسان المؤمن أن يكون يقظا عند إقبال النعم الإلهية عليه ، وليحذر من أن يكون ما يمنحه الله من نعم ظاهرية يمثّل في حقيقته (عذاب الاستدراج) ولذلك فإنّ المسلمين الواعين يفكّرون في مثل هذه الأمور ويحاسبون أنفسهم باستمرار ، ويعيدون تقييم أعمالهم دائما ، كي يكونوا قريبين من طاعة الله ، ويؤدّون حقّ الألطاف والنعم التي وهبها الله لهم.

جاء في حديث أنّ أحد أصحاب الإمام الصادقعليه‌السلام قال : إنّي سألت الله تبارك وتعالى أن يرزقني مالا فرزقني ، وإنّي سألت الله أن يرزقني ولدا فرزقني ، وسألته أن يرزقني دارا فرزقني ، وقد خفت أن يكون ذلك استدراجا؟ فقال : «أمّا مع الحمد فلا»(١) .

والتعبير بـ (أملي لهم) إشارة إلى أنّ الله تعالى لا يستعجل أبدا بجزاء الظالمين ، والاستعجال يكون عادة من الشخص الذي يخشى فوات الفرصة عليه ، إلّا أنّ الله القادر المتعال أيّما شاء وفي أي لحظة فإنّه يفعل ذلك ، والزمن كلّه تحت تصرّفه.

وعلى كلّ حال فإنّ هذا تحذير لكلّ الظالمين والمتطاولين بأن لا تغرّهم السلامة والنعمة أبدا ، وليرتقبوا في كلّ لحظة بطش الله بهم(٢) .

* * *

__________________

(١) اصول الكافي نقلا عن نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ١٩٧ ، ح ٥٩.

(٢) سبق كلام حول عقوبة (الاستدراج) في الآية (١٨٣) من سورة الأعراف ، وكذلك في الآية (١٧٨) سورة آل عمران.

٥٥٤

الآيات

( أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) )

التّفسير

لا تستعجل بعذابهم :

استمرارا للاستجواب الذي تمّ في الآيات السابقة للمشركين والمجرمين ، يضيف البارئعزوجل سؤالين آخرين ، حيث يقول في البداية :( أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ) .

أي إذا كانت حجّتهم أنّ الاستجابة لدعوتك تستوجب أجرا ماديا كبيرا ، وأنّهم غير قادرين على الوفاء به ، فإنّه كذب ، حيث أنّك لم تطالبهم بأجر ، كما لم يطلب أي من رسل الله أجرا.

٥٥٥

«مغرم» من مادّة (غرامة) وهي ما يصيب الإنسان من ضرر دون أن يرتكب جناية ، و (مثقل) من مادّة (ثقل) بمعنى الثقل ، وبهذا فإنّ الله تعالى أسقط حجّة اخرى ممّا يتذرّع به المعاندون.

وقد وردت الآية أعلاه وما بعدها (نصّا) في سورة الطور (آية ٤٠ ـ ٤١).

ثمّ يضيف واستمرارا للحوار بقوله تعالى :( أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ) .

حيث يمكن أن يدّعي هؤلاء بأنّ لهم ارتباطا بالله سبحانه عن طريق الكهنة ، أو أنّهم يتلقّون أسرار الغيب عن هذا الطريق فيكتبونها ويتداولونها ، وبذلك كانوا في الموقع المتميّز على المسلمين ، أو على الأقل يتساوون معهم.

ومن المسلّم به أنّه لا دليل على هذا الادّعاء أيضا ، إضافة إلى أنّ لهذه الجملة معنى (الاستفهام الإنكاري) ، ولذا فمن المستبعد ما ذهب إليه البعض من أنّ المقصود من الغيب هو (اللوح المحفوظ) ، والمقصود من الكتابة هو القضاء والقدر ، وذلك لأنّهم لم يدّعوا أبدا أنّ القضاء والقدر واللوح المحفوظ في أيديهم.

ولأنّ العناد واللامنطقية التي كان عليها أعداء الإسلام تؤلم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتدفعه إلى أن يدعو الله عليهم ، لذا فإنّه تعالى أراد أن يخفّف شيئا من آلام رسوله الكريم ، فطلب منه الصبر وذلك قوله تعالى :( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ) .

أي انتظر حتّى يهيء الله لك ولأعوانك أسباب النصر ، ويكسر شوكة أعدائك ، فلا تستعجل بعذابهم أبدا ، واعلم بأنّ الله ممهلهم وغير مهملهم ، وما المهلة المعطاة لهم إلّا نوع من عذاب الاستدراج.

وبناء على هذا فإنّ المقصود من (حكم ربّك) هو حكم الله المقرّر الأكيد حول انتصار المسلمين.

وقيل أنّ المقصود منها هو : أن تستقيم وتصبر في طريق إبلاغ أحكام الله تعالى.

كما يوجد احتمال آخر أيضا وهو أنّ المقصود بالآية أنّ حكم الله إذا جاء

٥٥٦

فعليك أن تستسلم لأمره تعالى وتصبر ، لأنّه سبحانه قد حكم بذلك(١) .

إلّا أنّ التّفسير الأوّل أنسب.

ثمّ يضيف تعالى :( وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ ) :

والمقصود من هذا النداء هو ما ورد في قوله تعالى :( فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) (٢) .

وبذلك فقد اعترف النبي يونسعليه‌السلام بترك الأولى ، وطلب العفو والمغفرة من الله تعالى. كما يحتمل أن يكون المقصود من هذا النداء هو اللعنة التي أطلقها على قومه في ساعة غضبه. إلّا أنّ المفسّرين اختاروا التّفسير الأوّل لأنّ التعبير بـ «نادى» في هذه الآية يتناسب مع ما ورد في الآية (٨٧) من سورة الأنبياء ، حيث من المسلّم انّه نادى ربّه عند ما كانعليه‌السلام في بطن الحوت.

«مكظوم» من مادّة (كظم) على وزن (هضم) بمعنى الحلقوم ، و (كظم السقاء) بمعنى سدّ فوهة القربة بعد امتلائها ، ولهذا السبب يقال للأشخاص الذين يخفون غضبهم وألمهم ويسيطرون على انفعالاتهم ويكظمون غيظهم بأنّهم : كاظمون ، والمفرد : كاظم ، ولهذا السبب يستعمل هذا المصطلح أيضا بمعنى (الحبس).

وبناء على ما تقدّم فيمكن أن يكون للمكظوم معنيان في الآية أعلاه : المملوء غضبا وحزنا ، أو المحبوس في بطن الحوت ، والمعنى الأوّل أنسب ، كما ذكرنا.

ويضيف سبحانه في الآية اللاحقة :( لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ ) (٣) .

من المعلوم أنّ يونسعليه‌السلام خرج من بطن الحوت ، والقي في صحراء يابسة ،

__________________

(١) في هذه الصورة ستكون اللام في (لحكم ربّك) هي لام التعليل.

(٢) الأنبياء ، الآية ٨٧.

(٣) مع انّ (النعمة) مؤنث ، إلّا أنّ فعلها (تداركه) جاء بصورة مذكر ، وسبب هذا أنّ فاعل المؤنث يكون لفظيا ، وأنّ الضمير المفعول أصبح فاصلا بين الفعل والفاعل (فتأمّل!).

٥٥٧

عبّر عنها القرآن الكريم بـ (العراء) وكان هذا في وقت قبل الله تعالى فيه توبته وشمله برحمته ، ولم يكن أبدا مستحقّاعليه‌السلام للذمّ.

ونقرأ في قوله تعالى :( فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) (١) كي يستريح في ظلالها.

كما أنّ المقصود من (النعمة) في الآية أعلاه هو توفيق التوبة وشمول الرحمة الإلهية لحالهعليه‌السلام حسب الظاهر.

وهنا يطرح سؤالان :

الأوّل : هو ما جاء في الآيتين ١٤٣ ، ١٤٤ من سورة الصافات في قوله تعالى :( فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) وهذا مناف لما ورد في الآية مورد البحث.

وللجواب على هذا السؤال يمكن القول : كانت بانتظار يونسعليه‌السلام عقوبتان : إحداهما شديدة ، والاخرى أخفّ وطأة. الاولى الشديدة هي أن يبقى في بطن الحوت إلى يوم يبعثون ، والأخفّ : هو أن يخرج من بطن الحوت وهو مذموم وبعيد عن لطف الله سبحانه ، وقد كان جزاؤهعليه‌السلام الجزاء الثاني ، ورفع عنه ما ألمّ به من البعد عن الألطاف الإلهية حيث شملته بركة اللهعزوجل ورحمته الخاصّة.

والسؤال الآخر يتعلّق بما جاء في قوله تعالى :( فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ) (٢) وإنّ ما يستفاد من الآية مورد البحث أنّهعليه‌السلام لم يكن ملوما ولا مذموما.

ويتّضح الجواب على هذا السؤال بالالتفات إلى أنّ الملامة كانت في الوقت الذي التقمه الحوت توّا ، وأنّ رفع المذمّة كان متعلّقا بوقت التوبة وقبولها من قبل الله تعالى ، ونجاته من بطن الحوت.

لذا يقول البارئعزوجل في الآية اللاحقة :( فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ

__________________

(١) الصافات ، الآية ١٤٥ و١٤٦.

(٢) الصافات ، الآية ١٤٣.

٥٥٨

الصَّالِحِينَ ) .

وبذلك فقد حمّله الله مسئولية هداية قومه مرّة اخرى ، وعاد إليه يبلّغهم رسالة ربّه ، ممّا كانت نتيجته أن آمن قومه جميعا ، وقد منّ الله تعالى عليهم بألطافه ونعمه وأفضاله لفترة طويلة.

وقد شرحنا قصّة يونسعليه‌السلام وقومه ، وكذلك بعض المسائل الاخرى حول تركه لـ (الأولى) واستقراره فترة من الزمن في بطن الحوت والإجابة على بعض التساؤلات المطروحة في هذا الصدد بشكل مفصّل في تفسير الآيات (١٣٩ ـ ١٤٨) من سورة الصافات وكذلك في تفسير الآيات (٨٧ ، ٨٨) من سورة الأنبياء.

* * *

٥٥٩

الآيتان

( وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢) )

التّفسير

يريدون قتلك لكنّهم عاجزون

هاتان الآيتان تشكّلان نهاية سورة القلم ، وتتضمّنان تعقيبا على ما ورد في بداية السورة من نسبة الجنون إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبل الأعداء.

يقول تعالى :( وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ) .

«ليزلقونك» من مادّة (زلق) بمعنى التزحلق والسقوط على الأرض ، وهي كناية عن الهلاك والموت.

ثمّة أقوال مختلفة في تفسير هذه الآية :

١ ـ قال كثير من المفسّرين : إنّ الأعداء حينما يسمعون منك هذه الآيات العظيمة للقرآن الكريم ، فإنّهم يمتلئون غضبا وغلا ، وتتوجّه إليك نظراتهم الحاقدة وبمنتهى الغيظ ، وكأنّما يريدون أن يطرحوك أرضا ويقتلوك بنظراتهم الخبيثة

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

وقد ظن البعض أنّ المراد من كلمة «الملوك» الواردة في الآية هم المملوك والسلاطين الذين ظهروا من سلالة بني إسرائيل ، في حين أنّ المعروف هو أنّ بني إسرائيل لم يحكموا إلّا فترة قصيرة ، فلم يحظ منهم إلّا القليل بمنزلة الملوكية ، بينما الآية ـ موضوع البحث ـ تقول :( وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً ) وهذه إشارة إلى تمتع جميع بني إسرائيل بهذه المنزلة ، ويتبيّن من هذا أنّ المراد بكلمة «ملوك» الواردة في الآية أن بني إسرائيل قد تملكوا مصائرهم ومقدارتهم بعد أن كانوا مكبلين بقيود العبودية في ظل الحكم الفرعوني.

إضافة إلى ذلك فإنّ كلمة «ملك» في اللغة لها معان عديدة منها «السلطان» ومنها «المالك لزمان الأمور» ومنها ـ أيضا ـ المالك لرقبة شيء معين(١) .

ونقل في تفسير «الدر المنثور» عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حديثا جاء فيه : «كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا ...».

وتشير هذه الآية في اخرها إلى أنّ الله قد وهب بني إسرائيل في ذلك الزمان نعما لم ينعم بها على أحد من أفراد البشر في ذلك الحين فتقول :( وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ ) وكانت هذه النعم والوافرة كثيرة الأنواع ، فمنها نجاة بني إسرائيل من مخالب الفراعنة الطغاة ، وانفلاق البحر لهم ، ونزول غذاء خاص عليهم مثل «المن والسلوى»،وقد أوردنا تفاصيل ذلك في الجزء الأوّل من كتابنا هذا ، لدي تفسير الآية (٥٧) من سورة البقرة.

والآية التالية تبيّن واقعة دخول بني إسرائيل إلى الأرض المقدسة نقلا عن لسان نبيّهم موسىعليه‌السلام فتقول :( يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ ) .

وقد اختلف المفسّرون حول المراد بعبارة (الأرض المقدسة) الواردة في الآية ،

__________________

(١) نقرأ في كتب أن الملك هو «من كان له الملك ، والملك هو ما يملكه الإنسان ويتصرف به ـ أو ـ العظمة والسلطة».

٦٦١

وحول موقعها الجغرافي من العالم.

فيرى البعض أنّها أرض «بيت المقدس» حيث القدس الشريف ، وآخرون يرون أنّها «أرض الشام» وفئة ثالثة ترى أنّها «الأردن وفلسطين» وجماعة أخرى تقول أنّها أرض «الطور».

ولكن لا يستبعد أن يكون المراد من العبارة المذكورة كل أرض الشام التي تشمل جميع الاحتمالات الواردة ، لأنّ هذه الأرض ـ كما يشهد التاريخ ـ تعتبر مهدا للأنبياء ، ومهبطا للوحي ، ومحلا لظهور الأديان السماوية الكبرى ، كما أنّها كانت لفترت طوال من التاريخ مركزا للتوحيد وعبادة الله الواحد الأحد ، ونشر تعاليم الأنبياء لهذه الأسباب كلها سمّيت بـ «الأرض المقدسة» مع أنّ هذا الاسم يطلق عن منطقة «بيت المقدس» بصورة خاصّة أحيانا (وقد بينا هذا الأمر في الجزء الأوّل من كتابنا هذا).

ويستدل من جملة( كَتَبَ اللهُ لَكُمْ ) إنّ الله قد قرر أن يعيش بنو إسرائيل في الأرض المقدسة بالرغد والرخاء والرفاه (شريطة أن يحموا هذا الأرض من دنس الشرك والوثنية) وأن لا ينحرفوا (عن تعاليم الأنبياء) إن لم يلتزموا بهذا الأمر سيحيط بهم من قبل الله عذاب أليم شديد.

وعلى هذا الأساس لا يوجد أيّ تناقض بين فشل جيل من بني إسرائيل الذين خوطبوا بهذه الآية في دخول الأرض المقدسة ، وابتلائهم بالتيه والضياع لمدة أربعين عاما في الصحارى والقفار ، حتى نجح الجيل التالي من بعدهم بدخول تلك الأرض ، لا يوجد أيّ تناقض بين ما ذكر وبين جملة كتب الله عليكم لأنّ هذا التقدير الإلهي والقرار الرباني إنّما قيد بشروط لم ينفذها ذلك الجيل الأوّل من بني إسرائيل ، وتوضح هذا الأمر الآيات التالية.

وقد واجه بنو إسرائيل دعوة موسىعليه‌السلام للدخول إلى الأرض المقدسة مواجهة الضعفاء الجبناء الجهلاء ، الذين يتمنون أن تتحقق لهم الانتصارات في

٦٦٢

ظل الصدف والمعاجز دون أن يبادروا بأنفسهم إلى بذل جهد في هذا المجال ، وردّ هؤلاء على طلب موسىعليه‌السلام بقولهم كما تنقله الآية :( قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ ) (١) ( وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ ) .

ويدل جواب بني إسرائيل هذا على الأثر المشؤوم الذي خلفه الحكم الفرعوني على نفوس هؤلاء فإنّ في كلمة «لن» التي تفيد التأييد دلالة على الخوف والرعب العميقين اللذين استوليا على هذه الطائفة ممّا أرغمهم على الامتناع عن الدخول في أي صراع من أجل تحرير الأرض المقدسة وتطهيرها.

وكان على بني إسرائيل أن يحرروا تلك الأرض بكفاحهم وتضحياتهم ، أمّا لو أنّ الأعداء تركوا الأرض المقدسة أو أبيدوا فيها بمعجزة على خلاف السنة الإلهية الطبيعية ، فإن بني إسرائيل بدخولهم إليها ـ في مثل هذه الحالة دون أي عناء أو مشقة ـ كانوا سيواجهون العجز في إدارة تلك الأرض الواسعة الغنية ، ولم يكونوا ليبدوا أيّ اهتمام بالحفاظ على شيء حصلوا عليه دون جهد أو معاناة ، فلا يظهر لديهم والحالة هذه أي استعداد أو كفاءة لعمل ذلك.

أمّا المراد من عبارة( قَوْماً جَبَّارِينَ ) فهم كما تدل عليه التواريخ قوم «العمالقة»(٢) الذين كانوا يمتلكون أجساما ضخمة ، وكانت لهم أطوال خارقة ، بحيث ذهب الكثير إلى المبالغة في طول أجسام هؤلاء وصنعوا الأساطير

__________________

(١) يجب الانتباه إلى أنّ كلمة «جبار» مأخوذة أو مشتقة من الأصل (جبر) أي إصلاح الشيء بالقسر والإرغام ، ولذلك سمّي إصلاح العظم المكسور (تجبيرا) فهذه الكلمة تطلق من جهة على كل نوع من التجبير والإصلاح ، ومن جهة أخرى تطلق على كل أنواع التسلط القسري ، وحين تطلق كلمة (جبار) على الله سبحانه وتعالى فذلك إمّا لتسلطه على كل شيء ، أو لأنّه هو المصلح لكل موجود محتاج إلى الإصلاح.

(٢) العمالقة قوم من العنصر السامي يعيشون في شمال شبه جزيرة العرب بالقرب من صحراء سيناء ، وقد هاجموا معصر واستولوا عليها لفترات طويلة ودامت حكومتهم حوالي ٥٠٠ عام منذ عام ٢٢١٣ قبل الميلاد حتى عام ١٧٠٣ قبل الميلاد.

عن دائرة المعارف لفريد وجدي ، ج ٦٠ ، ص ٢٣٢ (الطبعة الثّالثة).

٦٦٣

الخرافية من ذلك ، وكتبوا فيهم مواضيع تثير السخرية لا يسندها أيّ دليل علمي ، وبالأخص فيما كتبوه عن المدعو بـ «عوج» في التواريخ المصطنعة المشوبة بالخرافات والأساطير.

ويبدو أن مثل هذه الخرافات التي تسربت حتى إلى بعض الكتب الإسلامية ، وإنّما هي من صنع بني إسرائيل ، والتي تسمّى عادة بـ «الإسرائيليات» والدليل على هذا القول هو ما ورد نصا في التوراة المتداولة من أساطير خرافية تشبه أساطير العمالقة ، نقرأ في سفر الأعداد في أواخر الفصل الثّالث عشر «إن الأرض التي ذهب بنو إسرائيل إليها لاستقصاء أخبارها هي أرض تبيد ساكنيها وإن جميع من فها هم أناس طوال وفيهم العمالقة من أبناء «عناق» بشكل كان بنو إسرائيل الذين ذهبوا للتجسس هناك أشبة بالجراد قياسا بأحجام العمالقة الموجودين في تلك الأرض!».

بعد هذا الحديث يشير القرآن الكريم إلى رجلين أنعم الله عليهما بالإيمان والتقوى والورع وشملهما بنعمه الكبيرة ، فجمعا صفات الشجاعة والشهامة والمقاومة مع الدرك الاجتماعي والعسكري ممّا دفعهما إلى الدفاع عن اقتراح النّبي موسىعليه‌السلام فواجها بني إسرائيل بقولهما : ادخلوا عليهم من باب المدينة ، وحين تدخلون عليهم سيواجهون الإمر الواقع فتكونون أنتم المنتصرون ، تقول الآية الكريمة في هذا المجال :( قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ ) .

وتؤكد الآية ـ بعد ذلك على ضرورة الاعتماد على الله في كل خطوة من الخطوات،والاستمداد من روح الإيمان بقوله تعالى :( وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) .

وما ذكره أغلب المفسّرين حول هوية هذين الرجلين هو أنّهما «يوشع بن نون» و «كالب بن يوحنا» وهما من النقباء الإثني عشر في بني إسرائيل ، كما ورد

٦٦٤

سابقا(١) .

مع كل الاحتمالات العديدة الواردة في تفسير جملة( مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ ) إلّا أنّ الواضح من ظاهر هذه الجملة ، هو أنّ الرجلين المذكورين في الآية هما من جماعة تخاف الله وتخشاه وحده دون غيره ، ويؤيد هذا التّفسير ما جاء في جملة( أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ) فأي نعمة أكبر وأرفع من أن يخاف الإنسان من الله وحده ولا يخشى أحدا سواه.

وقد يسأل سائل في هذا المجال عن مصدر علم هذين الرجلين ، وكيف أنّهما علما أن بني إسرائيل ستكون لهم الغلبة إن هم دخلوا المدينة ـ أو الأرض المقدسة ـ في هجوم مباغت؟

وجوابه : لعل علم هذين الرجلين بتلك الغلبة كان نابعا من ثقتهما بأقوال النّبي موسىعليه‌السلام أو أنّهما اعتمدا على قاعدة كلية في الحروب ، مفادها أن الجماعة المهاجمة إن استطاعت الوصول إلى مقر ومركز العدو ـ أي تمكنت من محاربة العدو في داره ـ فإنها سننتصر عليه(٢) عادة.

والمستهدفون في تلك الحرب هم قوم المعالقة ، وهم بسبب ما كانوا عليه من طول خارق ، كان أسهل عليهم أن يحاربوا في بر أو فضاء مفتوح بدل الحرب في مدينة ، فيها ـ بحسب العادة ـ الأزقة والطرق الملتوبة (بغضّ النظر عن الجوانب الأسطورية التي تتحدث عن الطول الخارق لهؤلاء العمالقة) ، أضف إلى ذلك كله أنّ العمالقة ـ كما نقل ـ كانوا على رغم قاماتهم الطويلة أناسا جبناء رعاديد ، يرهبهم كل هجوم مباغت ، وكل هذه الأسباب أصبحت دليلا قويا لدى الرجلين المذكورين ليقولا بحتمية انتصار بني إسرائيل.

__________________

(١) الباب الأوّل من سفر التثنية في التوراة المتداولية ، فيه إشارة إلى أنّ اسمي هذين الرجلين هما «يوشع» و «كاليب».

(٢) وقد أشار الإمام علي بن أبي طالب في إحدى خطبه الواردة في كتاب نهج البلاغة التي هذه الحقيقة بقولهعليه‌السلام : (فو الله ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا) (الخطبة ٢٧).

٦٦٥

والذي حصل حقيقة هو أنّ بني إسرائيل لم يقتنعوا بأي من الاقتراحات المذكورة ، فهم بسبب الضعف والجبن المتأصلين في نفوسهم خاطبوا موسىعليه‌السلام وأخبروه صراحة بأنّهم لن يدخلوا تلك الأرض ما دام العمالقة موجودين فيها ، وطالبوا موسى أن يذهب هو وربه لمحاربة العمالقة وسألوه أن يخبرهم عن انتصاره حيث هم قاعدون ، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة :( قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ) .

وتبيّن هذه الآية مدى الوقاحة التي وصل إليها بنو إسرائيل في مخاطبة نبيّهم موسىعليه‌السلام ، فهم بقولهم «لن» و «أبدا» أكدوا رفضهم القاطع للدخول إلى الأرض المقدسة، كما أنّهم استخفوا بموسىعليه‌السلام ودعوته واستهزءوا بهما ، بقولهم :( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ) كما أنّهم ـ أيضا ـ لم يعيروا التفاتا لاقتراح الرجلين المؤمنين المذكورين في الآية ، ولم يبدوا حيال ذلك أي جواب.

والطريف في الأمر أن التوراة المتداولة قد أوردت أجزاء مهمّة من هذه القصة ، في الباب الرابع عشر من سفر الأعداد ، حيث جاء فيها أن جميع بني إسرائيل لاموا موسى وهارون أخاه وقالوا جميعا : ليتنا متنا جميعا في أرض مصر أو في الفلاة ، فلما ذا جاء بنا الرّب إلى هذه الأرض لكي نقتل بحدّ السيف ، وتسبى عيالنا وأطفالنا بعدنا فحار موسى وأخاه هارون أمام القوم ، ما ذا يفعلان؟ أمّا يوشع بن نون وكاليب بن يفنة ، اللذان كانا من مجموعة الرجال الذين ذهبوا للتجسس على تلك الأرض فقد شقا جيبهما ثمّ نقرأ في الآية التالية أنّ موسى أصابه اليأس والقنوط من القوم ، ورفع يديه للدعاء مناجيا ربّه قائلا:إنّه لا يملك حرية التصرف إلّا على نفسه وأخيه ، وطلب من الله أن يفصل بينهما وبين القوم الفاسقين العصاة ، لكي يلقى هؤلاء جزاء أعمالهم ويبادروا إلى إصلاح أنفسهم،حيث تقول الآية الكريمة في هذا المجال :( قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ ) .

٦٦٦

وبديهي إنّ رفض بني إسرائيل القاطع لأمر نبيهم كان بمثابة الكفر ، وما استخدام القرآن لعبارة «الفاسق» بحق هؤلاء إلا لأن كلمة «الفسق» لها معان واسعة ، وتشمل كل خروج وانحراف عن سنة العبودية لله ، ولذلك نقرأ في القرآن الكريم ـ حين التحدث عن انحراف الشيطان ـ قول الله تعالى :( فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) (١) .

وتجدر هنا الإشارة إلى أنّ جملة :( مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ ) الواردة في الآيات السابقة تدل على وجود قلة من اليهود كانت تخشى الله ، ومنهم الرجلان المذكوران في إحدى الآيات الأخيرة وهما «يوشع» و «كاليب» بينما نلاحظ أن موسىعليه‌السلام لا يذكر هنا غير نفسه وأخيه ، ولا يذكر ولو حتى بالتلميح أحدا من تلك القلّة ، وقد يكون السبب هو أن هارون لكونه الوصي لأخيه موسىعليه‌السلام ولكونه أبرز شخصية في بني إسرائيل من بعد موسىعليه‌السلام لذلك ذكر اسمه دون غيره.

وكانت نتيجة صلف وعناد بني إسرائيل أنّهم لاقوا عقابهم ، إذ استجاب الله دعاء نبيه موسىعليه‌السلام ، فحرم عليهم دخول الأرض المقدسة ، المليئة بالخيرات مدّة أربعين عاما ، وفي هذا المجال تقول الآية القرآنية الكريمة :( قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً ) .

وزادهم عذابا إذ كتب عليهم التيه والضياع في البراري والقفار طيلة تلك الفترة ، حيث تقول الآية في ذلك :( يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ) وقد سميت الصحراء التي تاه فيها بنو إسرائيل باسم «التيه» أيضا ، وكانت جزءا من صحراء سيناء ، كما ذكرنا في الجزء الأوّل من تفسيرنا هذا.

بعد ذلك تذكر الآية أنّ ما نال بني إسرائيل من عذاب في تلك المدة ، كان مناسبا لما فعلوه ، وتطلب من موسىعليه‌السلام أن لا يحزن على المصير الذي لا قوه حيث تقول الآيةالكريمة :( فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ ) .

__________________

(١) الكهف ، ٥٠.

٦٦٧

وربما كان سبب ورود الجملة الأخيرة ، هو أنّ موسىعليه‌السلام قد ثارت عاطفته بعد أن علم بالعذاب الذي كتبه الله على بني إسرائيل ، فطلب من الله العفو لقومه ـ كما ورد في التوراة المتداولة ـ فأجابه برد سريع أوضح له أن بني إسرائيل يستحقون ذلك العذاب ، وهم لا يستحقون العفو الإلهي لأنّهم أناس فاسقون وعصاة ، متكبرون ، ومن كان هذا شأنه سيلاقي ـ حتما ـ مثل هذا المصير.

ويجب الانتباه إلى أنّ حرمان بني إسرائيل من الدخول إلى الأرض المقدسة ، لم يكن له طابع للانتقام (كما أن جميع العقوبات الإلهية ليس فيها طابع انتقامي ، بل هي إما أن تكون لأجل تقويم شخصية الفرد ، أو تكون نتيجة لأخطائه ومعاصيه.

وقد اشتمل هذا الحرمان على فلسفة خاصّة ، حيث تحرر بنو إسرائيل بعد معاناة طويلة قاسوها في ظل الكبت والقمع الفرعوني اللذين خلفا فيهم عقد الإحساس باحتقار النفس والذل والضعة والنقص ، لذلك فهم لم يبدوا استعدادا لتطهير أنفسهم وأرواحهم في تلك الفترة بعد التحرر وفي ظل قيادة وزعامة نبيّهم موسىعليه‌السلام كما لم يكونوا مستعدين لتلك القفزة المعنوية التي كان من شأنها أن تهيء لهم حياة جديدة مقرونة بالفخر والعز والسؤدد ، وجوابهم لموسىعليه‌السلام ـ الذي اشتمل على رفضهم الدخول إلى ميدان الجهاد التحرري في الأرض المقدسة ـ خير دليل على هذه الحقيقة.

لذلك كان من الضروري أن يعاني بنو إسرائيل من التيه والضياع في الصحراء ، ليزول الجيل الضعيف العاجز منهم بشكل تدريجي وليحل محله جيل جديد في محيط الصحراء،محيط الحرية وفي أحضان التعاليم الإلهية ، وقد صقلت نفوسهم حياة الصحراء القاسية الضارية ، ووهبت لأرواحهم وأنفسهم القوة والقدرة ، وأعدتهم لخوض غمار ذلك الجهاد ليقيموا حكومة الحق في تلك الأرض المقدسة!

* * *

٦٦٨

الآيات

( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ ) ( الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) )

التّفسير

أوّل حادثة قتل على الأرض :

لقد تناولت هذه الآيات الثلاث الأخيرة قصّة ولدي آدمعليه‌السلام وكيف قتل أحدهما أخاه الآخر ، ولعل وجه الصلة بين هذه الآيات والآيات التي سبقتها في شأن بني إسرائيل،هو غريزة «الحسد» التي كانت دائما أساسا للكثير من مخالفات وانتهاكات بني إسرائيل حيث يحذرهم الله في هذه الآيات من مغبة وعاقبة الحسد الوخيمة القاتلة ، التي تؤدي أحيانا إلى أن يعمد أخ إلى قتل أخيه! والآية تقول في هذا المجال لنبيّ الله أن يتلو على قومه قصّة ولدي آدم :( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ ) .

٦٦٩

ولعل استخدام كلمة «بالحق» في هذه الآية جاء للإشارة إلى أن القصّة المذكورة قد أضيفت لها خرافات مختلفة ، ولبيان أنّ القرآن الكريم جاء بالقصة الحقيقية التي حصلت بين ولدي آدمعليه‌السلام .

ولا شك أنّ كلمة «آدم» الواردة في الآية ، تشير إلى أبي البشرية الحاضرة ، وإنّ ما ذهب إليه البعض مع أنّها إشارة إلى شخص من بني إسرائيل اسمه «آدم» لا أساس له من الواقع ، لأنّ هذه الكلمة استخدمت مرارا في القرآن للدلالة على اسم أبي البشرية ، فلو صحّ الافتراض الأخير لوجب أن تشتمل الآية ـ أو الآيات ـ التي بعدها على قرينة تصرف الاسم عن مسماه الحقيقي الأوّل ، ولا يمكن لآية( مِنْ أَجْلِ ذلِكَ ) التي سيأتي تفسيرها قريبا، أن تكون قرينة على الافتراض المذكور كما سيأتي تفصيله.

وتواصل الآية سرد القصّة فتقول :( إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ )

وقد أدت هذه الواقعة إلى أن يهدد الأخ ـ الذي لم يتقبل الله القربان منه ـ أخاه بالقتل ويقسم أنّه قاتله لا محالة ، كما جاء في قوله تعالى في الآية :( قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ) أما الأخ الآخر فقد نصح أخاه مشيرا إلى أن عدم قبول القربان منه إنّما نتج عن علّة في عمله،وأنّه ليس لأخيه أي ذنب في رفض القربان ، مؤكدا أنّ الله يقبل أعمال المتقين فقط حيث تقول الآية :( قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) .

وأكد له أنّه لو نفذ تهديده وعمد إلى قتله ، فإنه ـ أي الأخ الذي تقبل الله منه القربان ـ لن يمد يده لقتل أخيه ، فهو يخاف الله ويخشاه ، ولن يرتكب أو يلوث يده بمثل هذا الإثم حيث تقول الآية :( لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ ) .

وأضاف هذا الأخ الصالح ـ مخاطبا أخاه الذي أراد أن يقتله ـ أنّه لا يريد أن

٦٧٠

يتحمل آثام الآخرين ، قائلا له :( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ (١) بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ) (أي لأنّك إن نفذت تهديدك فستتحمل ذنوبي السابقة أيضا ، لأنّك سلبت مني حق الحياة وعليك التعويض عن ذلك ، ولما كنت لا تمتلك عملا صالحا لتعوض به ، فما عليك إلّا أن تتحمل إثمي أيضا،وبديهي أنك لو قبلت هذه المسؤولية الخطيرة فستكون حتما من أهل النار، لأنّ النار هي جزاء الظالمين) كما تقول الآية :( فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ ) .

نقاط مهمّة يجب الانتباه لها :

١ ـ إن القرآن الكريم لم يذكر في هذه الآية ـ ولا في آيات أخرى ـ أي اسم لأبناء آدمعليه‌السلام : لكن الروايات الإسلامية تدل على أن ولدي آدم المذكورين في هذه الآية كان اسم أحدهما «هابيل» والآخر «قابيل» وقد ورد في سفر التكوين من التوراة في الباب الرابع أنّ ولدي آدم المذكورين اسمهما «قائن» و «هابيل».

وقد ذكر المفسّر المعروف «أبو الفتوح الرازي» أن هذين الاسمين قد وردا بألفاظ مختلفة ، فالاسم الأوّل جاء فيه «هابيل» و «هابل» و «هابن» ، «أما الاسم الثّاني فجاء فيه «قابيل» و «قايين» و «قابل» و «قابن» أو «قبن» ، وعلى أي صورة كان الاسم فإنّ الاختلاف بين الروايات الإسلامية ونص التوراة بخصوص اسم «قابيل» نابع عن الاختلاف اللغوي ، ولا يشكل أمرا مهما في هذا المجال.

والغريب في الأمر أنّ أحد الكتاب المسيحيين قد أورد الاختلاف المذكور دليلا اعترض به على القرآن ، فقال : إنّ القرآن أورد لفظة «قابيل» بدل «قائن»! والجواب هو أنّ مثل هذا الاختلاف اللغوي أمر شائع وبالأخص في مجال الأسماء ـ فمثلا كلمة «إبراهيم» الواردة في القرآن قد وردت في التوراة على شكل «أبراهام» ، كما أنّ القرآن الكريم لم يأت مطلقا باسم «هابيل» و «قابيل»

__________________

(١) إن كلمة «تبوء» مشتقة من المصدر «بواء» أي «العودة».

٦٧١

وقد ورد هذان الاسمان في الروايات الإسلامية فقط(١) .

٢ ـ إنّ المعروف عن «القربان» هو أنّه كل شيء يحصل به التقرب إلى الله ، لكن القرآن الكريم لم يذكر شيئا عن ماهية القربان الذي قدمه ولدا آدم ، بينما نقلت الروايات الإسلامية ـ والتوراة في سفر التكوين ، الباب الرابع ـ أن «هابيل» كان يمتلك ماشية فاختار أفضل أغنامه ومنتوجاتها للقربان المذكور ، وأن «قابيل» الذي كان صاحب زرع،قد اختار لقربانه أردأ الأنواع من زرعه.

٣ ـ لم يرد في القرآن أي توضيح عن الأسلوب الذي عرف به ابنا آدم قبول قربان أحدهما ورفض قربان الآخر عند الله ـ والذي ورد في هذا المجال هو ما نقلته بعض الروايات الإسلامية من أنّ هذين الشخصين كانا قد وضعا قربانهما على قمة جبل ، فنزلت صاعقة فأحرقت قربان هابيل دلالة على قبوله ، وبقي قربان قابيل على حاله لم يمسه شيء ، وكانت لهذه العلامة سابقة معروفة أيضا.

لكن بعض المفسّرين يعتقدون أنّ قبول ورفض القربانين إنّما أعلنا عن طريق الوحي لآدمعليه‌السلام ، وما كان سبب ذلك غير أنّ هابيل كان إنسانا ذا سريرة نقية يحبّ التضحية والعفو في سبيل الله فتقبل الله لذلك قربانه ، بينما كان قابيل رجلا ملوث القلب حسودا معاندا فرفض الله قربانه ، والآيات التالية توضح حقيقة ما جبلت عليه نفسا هذين الأخوين من خير وشر.

٤ ـ يستنتج من هذه الآيات ـ بصورة جلية ـ أنّ مصدر أولى النزاعات والجرائم في العالم الإنساني هو «الحسد» ويدلنا هذا الموضوع على خطورة هذه الرذيلة الأخلاقية وأثرها العجيب في الأحداث الاجتماعية.

* * *

__________________

(١) وقد كتب العلّامة الفقيد الشّيخ «محمّد جواد البلاغي» رسالة في هذا المجال سماها بـ «الأكاذيب الأعاجيب» جمع فيها أكاذيب من نمط الكذبة التي جاء ذكرها أعلاه.

٦٧٢

الآيتان

( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١) )

التّفسير

التّستر على الجريمة :

تواصل هاتان الآيتان بقية الواقعة التي حصلت بين ابني آدمعليه‌السلام ، فتبيّن الآية الأولى منهما أن نفسي قابيل هي التي دفعته إلى قتل أخيه فقتله ، حيث تقول :( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ ) .

ونظرا لأنّ كلمة «طوع» تأتي في الأصل من «الطاعة» لذلك يستدل من هذه العبارة على أن قلب «قابيل» بعد أن تقبل الله قربان أخيه هابيل أخذت تعصف به الأحاسيس والمشاعر المتناقضة ، فمن جانب استعرت فيه نار الحسد وكانت تدفعه إلى الانتقام من أخيه «هابيل» ومن جانب آخر كانت عواطفه الإنسانية وشعوره الفطري يقبح الذنب والظلم والجور وقتل النفس ، يحولان دون قيامه بارتكاب الجريمة ، لكن نفسه الأمارة بالسوء تغلبت رويدا رويدا على مشاعره

٦٧٣

الرادعة فطوعت ضميره الحي وكبلته بقيودها وأعدته لتقل أخيه ، وتدل عبارة «طوعت» مع قصرها على جميع المعاني التي ذكرناها لأنّ عملية التطويع كما نعلم لا تتمّ في لحظة واحدة، بل تحصل بشكل تدريجي وعبر صراعات مختلفة.

وتشير الآية ـ في آخرها ـ إلى نتيجة عمل «قابيل» فتقول( فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ ) فأين ضرر أكبر من أن يشتري الإنسان لنفسه عذابا سيلازمه إلى يوم القيامة،ويشمل عذاب الضمير وعقاب الله والعار والأبدي.

وقد حاول البعض الاستدلال من كلمة «أصبح» على أن جريمة القتل قد وقعت ليلا، في حين أنّ كلمة «أصبح» من حيث معناها اللغوي لا تنحصر في زمن معين ليلا مكان أم نهارا ، بل تدل على حدوث شيء ما ، كما جاء في الآية (١٠٣) من سورة آل عمران في قوله تعالى :( ... فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً ) .

وتفيد بعض الروايات المنقولة عن الإمام الصّادقعليه‌السلام أن قابيل حين قتل أخاه ترك جثته في العراء حائرا لا يدري ما يفعل بها ، فلم يمض وقت حتى حملت الوحوش المفترسة على جثة «هابيل» فاضطر «قابيل» (ربّما نتيجة لضغط وجداني شديد) إلى حمل جثة أخيه مدة من الزمن لإنقاذها من فتك الوحوش ، لكن الطيور الجارحة أحاطت به وهي تنتظر أن يضعها على الأرض للهجوم عليها ثانية وفي تلك الأثناء بعث الله غرابا (كما تصرّح الآية) فأخذ يحفر الأرض ويزيح التراب ليدفن جسد غراب ميت آخر ، أو ليخفي جزءا من طعامه ـ كما هي عادة الغربان ـ وليدل بذلك «قابيل» كيف يدفن جثة أخيه،حيث تقول الآية الكريمة ،( فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ ) (١) .

__________________

(١) جاء في مجمع البيان أنّ كلمة «يبحث» معناها في الأصل هو البحث عن شيء في التراب ثمّ استعملت في مختلف أنواع البحوث ، أمّا كلمة «سوأة» فهي تعني كل شيء يستاء الإنسان من رؤيته ، ولذلك تطلق أحيانا على جسد الميت ، وعلى عورة الإنسان ، ويجب الانتباه هنا إلى أنّ الفاعل في جملة «ليريه» قد يكون هو الله،أي أنّ الله

٦٧٤

ولا غرابة في أن يتعلم إنسان شيئا من طير من الطيور ، فالتاريخ والتجربة يدلان على أنّ للكثير من الحيوانات مجموعة من المعلومات الغريزية تعلمها منها البشر على طول التاريخ ، مكملا بذلك معلوماته ومعارفه ، وحتى بعض الكتب الطبيّة تذكر أنّ الإنسان مدين في جزء من معلوماته الطيبة للحيوانات! ثمّ تشير الآية الكريمة إلى أنّ قابيل استاء من غفلته وجهله ، فأخذ يؤنب نفسه كيف أصبح أضعف من الغراب فلا يستطيع دفن أخيه مثله،فتقول الآية :( قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي ) .

وكانت العاقبة أن ندم قابيل على فعلته الشنيعة كما تقول الآية :( فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ) .

فهل كان ندمه على جريمته ، خوفا من افتضاح أمره أمام أبويه؟ أو ربّما أخوته الآخرين الّذين كانوا سيلومونه على فعلته؟ أم أنّ ندمه كان إشفاقا على نفسه ، لأنه حمل جسد أخيه القتيل لفترة دون أن يعلم ما ذا يفعل به أو كيف يدفنه؟

أم كان سبب الندم هو ما يشعر به الإنسان ـ عادة ـ من قلق واستياء بعد ارتكاب كل عمل قبيح؟

مهما كانت أسباب الندم ودوافعه لدى «قابيل» فذلك لا يعني أنّه تاب من فعلته وجريمته التي ارتكبها ، فالتوبة معناها أن لا يعاود الإنسان المذنب تكرار الذنب ، خوف من الله واستقباحا للذنب ، ولم يشر القرآن الكريم إلى صدور مثل هذه التوبة عن «قابيل»،وقد تكون الآية التالية إشارة إلى عدم صدور التوبة عنه.

ورد في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «لا تقتل نفس ظلما إلّا كان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها لأنّه كان أوّل من سن القتل»(١) .

__________________

أراد أن يري «قابيل» كيف يدفن أخاه ، وذلك احتراما لـ «هابيل» ويحتمل أن يكون الغراب هو الفاعل في الجملة المذكورة.

(١) مسند أحمد بن حنبل كما جاء في تفسير «في ضلال القرآن» ، ج ٢ ، ص ٧٠٣ ، في تفسير الآية.

٦٧٥

ويستدل من هذا الحديث أيضا على أنّ من سنّ سنّة سيئة ، سيبقى يتحمل وزرها ما دامت باقية في الدنيا.

ممّا لا ريب فيه أنّ قصّة ولدي آدمعليه‌السلام قصّة حقيقية ، يثبتها ظاهر الآيات القرآنية الأخيرة والروايات الإسلامية ، كما أنّ عبارة «بالحق» الواردة في هذه القصّة القرآنية تعتبر شاهدا على هذا الأمر ، وعلى هذا الأساس فإنّ الأقوال التي افترضت لهذه القصّة طابعا رمزيا من قبيل التشبيه أو الكناية أو القصّة المفترضة لا أساس لها مطلقا.

ولا مانع من أن تكون هذه القصّة الحقيقية مثالا من الصراع الدائم الذي يطغى على المجتمعات البشرية ، حيث يقف في أحد جانبيه أناس جبلوا على الطهارة والصفاء والإيمان والعمل الصالح المقبول عند الله ، وفي الجانب الآخر يقف أفراد تدنسوا بالانحراف وجبلوا على الحقد والحسد والضغينة والبغضاء والعمل الشرير.

وكم هو العدد الكبير من أولئك الإبرار الأخيار الذين ذاقوا حلاوة الشهادة على أيدي هؤلاء الأشرار الذين سيدركون ـ في النهاية ـ فظاعة الأعمال الآثمة التي ارتكبوها،وسيسعون إلى إخفائها والتستر عليها ، فتظهر لهم في مثل هذه اللحظات آمالهم السوداء الشبيهة بالغراب ـ المذكور في الآية القرآنية الأخيرة ـ فتحثّهم وتدفعهم إلى إخفاء جرائمهم ، لكنّهم سوف لا يجنون في النهاية غير الخيبة والخسران.

* * *

٦٧٦

الآية

( مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢) )

التّفسير

وحدة الإنسانية وكرامتها :

إنّ هذه الآية تقوم باستخلاص نتيجة إنسانية كلية بعد الآيات التي تطرقت إلى قصّة ولدي آدمعليه‌السلام .

ففي البداية تشير الآية إلى حقيقة اجتماعية تربوية مهمّة ، وهي أن قتل أيّ إنسان،إن لم يكن قصاصا لقتل إنسان آخر ، أو لم يكن بسبب جريمة الإفساد في الأرض ، فهو بمثابة قتل الجنس البشري بأجمعه ، كما أنّ إنقاذ أيّ إنسان من الموت ، يعد بمثابة إنقاذ الإنسانية كلّها من الفناء ، حيث تقول الآية الكريمة :( مِنْ أَجْلِ (١) ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ

__________________

(١) إن كلمة «أجل» التي هي على وزن «نخل» تعني في الأصل الجريمة ، وقد شاع استعمالها فيما بعد في كل عمل له عاقبة سيئة ، ثم استعملت لكل عمل ذي عاقبة ، وهي الآية تستخدم للتعليل أو بيان علة الشيء.

٦٧٧

فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ) .

ويرد هنا سؤال وهو : كيف يكون قتل إنسان واحد مساويا لقتل الناس جميعا، وكيف يكون إنقاذ إنسان من الموت بمثابة إنقاذ الإنسانية جمعاء من الفناء؟

ولقد وردت أجوبة عديدة من قبل المفسّرين على هذا السّؤال جاء في تفسير «التبيان» ستة أجوبة عليه ، وفي «مجمع البيان» خمسة أجوبة ، وفي «كنز العرفان» أربعة أجوبة ، ولكن بعضا من هذه الأجوبة يبتعد كثيرا عن معنى هذه الآية.

وكما قلنا في بداية تفسير هذه الآية ، فإنّها تتحدث عن حقيقة اجتماعية تربوية، لأنّه: أوّلا : إن من يقتل إنسانا بريئا ويلطخ يده بدم بريء يكون ـ في الحقيقة ـ مستعدا لقتل أناس آخرين يساوونه في الإنسانيه والبراءة ، فهو ـ في الحقيقة ـ إنسان قاتل، وضحيته إنسان آخر بريء ، ومعلوم أنّه لا فرق بين الأبرياء من الناس من هذه الزاوية.

كما أنّ أي إنسان يقوم ـ بدافع حب النوع الإنساني ـ بإنقاذ إنسان آخر من الموت ، يكون مستعدا للقيام بعملية الإنقاذ الإنسانية هذه بشأن أيّ إنسان آخر ، فهذا الإنسان المنقذ يحبّ إنقاذ الناس الأبرياء ، لذلك لا فرق لديه بين إنسان بريء وآخر مثله.

ونظرا لكلمة «فكأنّما» التي يستخدمها القرآن في هذا المجال ، فإننا نستدل بأن موت وحياة إنسان واحد ، مع أنّه لا يساوي موت وحياة المجتمع ، إلّا أنّه يكون شبيها بذلك.

وثانيا : إنّ المجتمع يشكل في الحقيقة كيانا واحدا ، وأعضاؤه أشبه بأعضاء الجسد الواحد ، وأنّ أي ضرر يصيب أحد أعضائه يكون أثره واضحا ـ بصورة أو بأخرى ـ في سائر الأعضاء ، ولأنّ المجتمع البشري يتشكل من الأفراد ، لذلك

٦٧٨

فإن فقدان أي فرد منهم يعتبر خسارة للجميع الإنساني الكبير ، لأنّ هذا الفقدان يترك أثرا بمقدار ما كان لصاحبه من أثر في المجتمع ، لذلك يشمل الضرر جميع أفراد المجتمع.

ومن جانب آخر فإن إحياء فرد من أفراد المجتمع ، يكون ـ لنفس السبب الذي ذكرناه ـ بمثابة إحياء وإنقاذ جميع أفراد المجتمع ، لأنّ لكل إنسان أثر بمقدار وجوده في بناء المجتمع الإنساني وفي مجال رفع احتياجاته ، فيكون هذا الأثر قليلا بالنسبة للبعض وكثيرا بالنسبة للبعض الآخر.

وحين نقرأ في الروايات أنّ جزاء وعقاب قاتل النفس المحرمة ، يكون كجزاء قاتل جميع أفراد البشر ، إنّما ذلك إشارة لهذا المعنى الذي ذكرناه ، ولا يعني أنّ الناس متساوون مع بعضهم في كل الجهات ، ولذلك نقرأ في تفسير هذه الروايات ـ أيضا ـ أن عقاب القاتل يتناسب مع عدد الأفراد الذين قتلهم تناسبا طريدا قلة وزيادة.

وتبيّن هذه الآية بجلاء أهمية حياة وموت الإنسان في نظر القرآن الكريم ، وتتجلى عظمة هذه الآية أكثر حين نعلم أنّها نزلت في محيط لم يكن يعير أي أهمية لدماء أفراد الإنسانية.

وتلفت الانتباه في هذا المجال روايات عديدة ذكرت أنّ هذه الآية مع أنّها تتحدث ـ أو يشير ظاهرها ـ إلى الحياة والموت الماديين ، إلّا أنّ الأهمّ من ذلك هو الموت والحياة المعنويين ، أي إضلال الفرد أو إنقاذ من الضلال ،وقد سأل شخص الإمام الصّادقعليه‌السلام عن تفسير هذه الآية فأجابهعليه‌السلام قائلا : «من حرق أو غرق ـ ثمّ سكتعليه‌السلام ـ ثمّ قال : تأويلها الأعظم أنّ دعاها فاستجابت له».

وفحوى قول الإمام الصّادقعليه‌السلام في هذه الرواية هو الإنقاذ من الحريق أو الغرق ثمّ يستطرد الإمامعليه‌السلام ـ بعد سكوت ـ فيبيّن أن التأويل الأعظم لهذه الآية هو دعوة الغير إلى طريق الحق والخير أو الباطل والشر ، وتحقق القبول من

٦٧٩

الجانب الآخر المخاطب بهذه الدّعوة(١) .

والسوال الآخر الذي يمكن أن يرد في هذا المجال أيضا ، هو عن سبب ورود اسم بني إسرائيل بالذات في هذه الآية ، مع أنّها تشمل حكما لا يخص هذه الطائفة؟

ويمكن القول في الجواب بأن سبب الإتيان باسم بني إسرائيل في هذه الآية هو أن هذه الطائفة قد شاعت بينها حوادث القتل وإراقة الدماء ، وبالأخص ما كان منها ناشئا عن الحسد وحبّ الذات والأنانية وحبّ التسلط ، وما زال الذين يتعرضون للقتل على أيدي هذه الطائفة ـ في الوقت الحاضر ـ هم الأبرياء من الناس غالبا ، ولهذا السبب ورد هذا الحكم الإلهي ـ لأوّل مرّة ـ في سيرة بني إسرائيل!

وتشير الآية في آخرها ـ إلى انتهاكات بني إسرائيل ، فتؤكّد أن هذه الطائفة على الرغم من ظهور الأنبياء بينهم يحملون الدلائل الواضحة لإرشادهم ، إلّا أنّ الكثير منهم قد نقضوا وانتهكوا القوانين الإلهية ، واتبعوا سبيل الإسراف في حياتهم ، حيث تقول الآية :( وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ) .

ويجدر الانتباه إلى أنّ كلمة «إسراف» لها معان واسعة ، تشمل كل تجاوز أو تعد عن الحدود ، ولو أنّها تستخدم في الغالب في مجال الهبات والنفقات.

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٦٢٠ وقد وردت في هذا المجال روايات أخرى بنفس المضمون.

٦٨٠

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710