الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 710

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 710
المشاهدات: 163787
تحميل: 5298


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 710 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 163787 / تحميل: 5298
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 3

مؤلف:
العربية

وقد ظن البعض أنّ المراد من كلمة «الملوك» الواردة في الآية هم المملوك والسلاطين الذين ظهروا من سلالة بني إسرائيل ، في حين أنّ المعروف هو أنّ بني إسرائيل لم يحكموا إلّا فترة قصيرة ، فلم يحظ منهم إلّا القليل بمنزلة الملوكية ، بينما الآية ـ موضوع البحث ـ تقول :( وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً ) وهذه إشارة إلى تمتع جميع بني إسرائيل بهذه المنزلة ، ويتبيّن من هذا أنّ المراد بكلمة «ملوك» الواردة في الآية أن بني إسرائيل قد تملكوا مصائرهم ومقدارتهم بعد أن كانوا مكبلين بقيود العبودية في ظل الحكم الفرعوني.

إضافة إلى ذلك فإنّ كلمة «ملك» في اللغة لها معان عديدة منها «السلطان» ومنها «المالك لزمان الأمور» ومنها ـ أيضا ـ المالك لرقبة شيء معين(1) .

ونقل في تفسير «الدر المنثور» عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حديثا جاء فيه : «كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا ...».

وتشير هذه الآية في اخرها إلى أنّ الله قد وهب بني إسرائيل في ذلك الزمان نعما لم ينعم بها على أحد من أفراد البشر في ذلك الحين فتقول :( وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ ) وكانت هذه النعم والوافرة كثيرة الأنواع ، فمنها نجاة بني إسرائيل من مخالب الفراعنة الطغاة ، وانفلاق البحر لهم ، ونزول غذاء خاص عليهم مثل «المن والسلوى»،وقد أوردنا تفاصيل ذلك في الجزء الأوّل من كتابنا هذا ، لدي تفسير الآية (57) من سورة البقرة.

والآية التالية تبيّن واقعة دخول بني إسرائيل إلى الأرض المقدسة نقلا عن لسان نبيّهم موسىعليه‌السلام فتقول :( يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ ) .

وقد اختلف المفسّرون حول المراد بعبارة (الأرض المقدسة) الواردة في الآية ،

__________________

(1) نقرأ في كتب أن الملك هو «من كان له الملك ، والملك هو ما يملكه الإنسان ويتصرف به ـ أو ـ العظمة والسلطة».

٦٦١

وحول موقعها الجغرافي من العالم.

فيرى البعض أنّها أرض «بيت المقدس» حيث القدس الشريف ، وآخرون يرون أنّها «أرض الشام» وفئة ثالثة ترى أنّها «الأردن وفلسطين» وجماعة أخرى تقول أنّها أرض «الطور».

ولكن لا يستبعد أن يكون المراد من العبارة المذكورة كل أرض الشام التي تشمل جميع الاحتمالات الواردة ، لأنّ هذه الأرض ـ كما يشهد التاريخ ـ تعتبر مهدا للأنبياء ، ومهبطا للوحي ، ومحلا لظهور الأديان السماوية الكبرى ، كما أنّها كانت لفترت طوال من التاريخ مركزا للتوحيد وعبادة الله الواحد الأحد ، ونشر تعاليم الأنبياء لهذه الأسباب كلها سمّيت بـ «الأرض المقدسة» مع أنّ هذا الاسم يطلق عن منطقة «بيت المقدس» بصورة خاصّة أحيانا (وقد بينا هذا الأمر في الجزء الأوّل من كتابنا هذا).

ويستدل من جملة( كَتَبَ اللهُ لَكُمْ ) إنّ الله قد قرر أن يعيش بنو إسرائيل في الأرض المقدسة بالرغد والرخاء والرفاه (شريطة أن يحموا هذا الأرض من دنس الشرك والوثنية) وأن لا ينحرفوا (عن تعاليم الأنبياء) إن لم يلتزموا بهذا الأمر سيحيط بهم من قبل الله عذاب أليم شديد.

وعلى هذا الأساس لا يوجد أيّ تناقض بين فشل جيل من بني إسرائيل الذين خوطبوا بهذه الآية في دخول الأرض المقدسة ، وابتلائهم بالتيه والضياع لمدة أربعين عاما في الصحارى والقفار ، حتى نجح الجيل التالي من بعدهم بدخول تلك الأرض ، لا يوجد أيّ تناقض بين ما ذكر وبين جملة كتب الله عليكم لأنّ هذا التقدير الإلهي والقرار الرباني إنّما قيد بشروط لم ينفذها ذلك الجيل الأوّل من بني إسرائيل ، وتوضح هذا الأمر الآيات التالية.

وقد واجه بنو إسرائيل دعوة موسىعليه‌السلام للدخول إلى الأرض المقدسة مواجهة الضعفاء الجبناء الجهلاء ، الذين يتمنون أن تتحقق لهم الانتصارات في

٦٦٢

ظل الصدف والمعاجز دون أن يبادروا بأنفسهم إلى بذل جهد في هذا المجال ، وردّ هؤلاء على طلب موسىعليه‌السلام بقولهم كما تنقله الآية :( قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ ) (1) ( وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ ) .

ويدل جواب بني إسرائيل هذا على الأثر المشؤوم الذي خلفه الحكم الفرعوني على نفوس هؤلاء فإنّ في كلمة «لن» التي تفيد التأييد دلالة على الخوف والرعب العميقين اللذين استوليا على هذه الطائفة ممّا أرغمهم على الامتناع عن الدخول في أي صراع من أجل تحرير الأرض المقدسة وتطهيرها.

وكان على بني إسرائيل أن يحرروا تلك الأرض بكفاحهم وتضحياتهم ، أمّا لو أنّ الأعداء تركوا الأرض المقدسة أو أبيدوا فيها بمعجزة على خلاف السنة الإلهية الطبيعية ، فإن بني إسرائيل بدخولهم إليها ـ في مثل هذه الحالة دون أي عناء أو مشقة ـ كانوا سيواجهون العجز في إدارة تلك الأرض الواسعة الغنية ، ولم يكونوا ليبدوا أيّ اهتمام بالحفاظ على شيء حصلوا عليه دون جهد أو معاناة ، فلا يظهر لديهم والحالة هذه أي استعداد أو كفاءة لعمل ذلك.

أمّا المراد من عبارة( قَوْماً جَبَّارِينَ ) فهم كما تدل عليه التواريخ قوم «العمالقة»(2) الذين كانوا يمتلكون أجساما ضخمة ، وكانت لهم أطوال خارقة ، بحيث ذهب الكثير إلى المبالغة في طول أجسام هؤلاء وصنعوا الأساطير

__________________

(1) يجب الانتباه إلى أنّ كلمة «جبار» مأخوذة أو مشتقة من الأصل (جبر) أي إصلاح الشيء بالقسر والإرغام ، ولذلك سمّي إصلاح العظم المكسور (تجبيرا) فهذه الكلمة تطلق من جهة على كل نوع من التجبير والإصلاح ، ومن جهة أخرى تطلق على كل أنواع التسلط القسري ، وحين تطلق كلمة (جبار) على الله سبحانه وتعالى فذلك إمّا لتسلطه على كل شيء ، أو لأنّه هو المصلح لكل موجود محتاج إلى الإصلاح.

(2) العمالقة قوم من العنصر السامي يعيشون في شمال شبه جزيرة العرب بالقرب من صحراء سيناء ، وقد هاجموا معصر واستولوا عليها لفترات طويلة ودامت حكومتهم حوالي 500 عام منذ عام 2213 قبل الميلاد حتى عام 1703 قبل الميلاد.

عن دائرة المعارف لفريد وجدي ، ج 60 ، ص 232 (الطبعة الثّالثة).

٦٦٣

الخرافية من ذلك ، وكتبوا فيهم مواضيع تثير السخرية لا يسندها أيّ دليل علمي ، وبالأخص فيما كتبوه عن المدعو بـ «عوج» في التواريخ المصطنعة المشوبة بالخرافات والأساطير.

ويبدو أن مثل هذه الخرافات التي تسربت حتى إلى بعض الكتب الإسلامية ، وإنّما هي من صنع بني إسرائيل ، والتي تسمّى عادة بـ «الإسرائيليات» والدليل على هذا القول هو ما ورد نصا في التوراة المتداولة من أساطير خرافية تشبه أساطير العمالقة ، نقرأ في سفر الأعداد في أواخر الفصل الثّالث عشر «إن الأرض التي ذهب بنو إسرائيل إليها لاستقصاء أخبارها هي أرض تبيد ساكنيها وإن جميع من فها هم أناس طوال وفيهم العمالقة من أبناء «عناق» بشكل كان بنو إسرائيل الذين ذهبوا للتجسس هناك أشبة بالجراد قياسا بأحجام العمالقة الموجودين في تلك الأرض!».

بعد هذا الحديث يشير القرآن الكريم إلى رجلين أنعم الله عليهما بالإيمان والتقوى والورع وشملهما بنعمه الكبيرة ، فجمعا صفات الشجاعة والشهامة والمقاومة مع الدرك الاجتماعي والعسكري ممّا دفعهما إلى الدفاع عن اقتراح النّبي موسىعليه‌السلام فواجها بني إسرائيل بقولهما : ادخلوا عليهم من باب المدينة ، وحين تدخلون عليهم سيواجهون الإمر الواقع فتكونون أنتم المنتصرون ، تقول الآية الكريمة في هذا المجال :( قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ ) .

وتؤكد الآية ـ بعد ذلك على ضرورة الاعتماد على الله في كل خطوة من الخطوات،والاستمداد من روح الإيمان بقوله تعالى :( وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) .

وما ذكره أغلب المفسّرين حول هوية هذين الرجلين هو أنّهما «يوشع بن نون» و «كالب بن يوحنا» وهما من النقباء الإثني عشر في بني إسرائيل ، كما ورد

٦٦٤

سابقا(1) .

مع كل الاحتمالات العديدة الواردة في تفسير جملة( مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ ) إلّا أنّ الواضح من ظاهر هذه الجملة ، هو أنّ الرجلين المذكورين في الآية هما من جماعة تخاف الله وتخشاه وحده دون غيره ، ويؤيد هذا التّفسير ما جاء في جملة( أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ) فأي نعمة أكبر وأرفع من أن يخاف الإنسان من الله وحده ولا يخشى أحدا سواه.

وقد يسأل سائل في هذا المجال عن مصدر علم هذين الرجلين ، وكيف أنّهما علما أن بني إسرائيل ستكون لهم الغلبة إن هم دخلوا المدينة ـ أو الأرض المقدسة ـ في هجوم مباغت؟

وجوابه : لعل علم هذين الرجلين بتلك الغلبة كان نابعا من ثقتهما بأقوال النّبي موسىعليه‌السلام أو أنّهما اعتمدا على قاعدة كلية في الحروب ، مفادها أن الجماعة المهاجمة إن استطاعت الوصول إلى مقر ومركز العدو ـ أي تمكنت من محاربة العدو في داره ـ فإنها سننتصر عليه(2) عادة.

والمستهدفون في تلك الحرب هم قوم المعالقة ، وهم بسبب ما كانوا عليه من طول خارق ، كان أسهل عليهم أن يحاربوا في بر أو فضاء مفتوح بدل الحرب في مدينة ، فيها ـ بحسب العادة ـ الأزقة والطرق الملتوبة (بغضّ النظر عن الجوانب الأسطورية التي تتحدث عن الطول الخارق لهؤلاء العمالقة) ، أضف إلى ذلك كله أنّ العمالقة ـ كما نقل ـ كانوا على رغم قاماتهم الطويلة أناسا جبناء رعاديد ، يرهبهم كل هجوم مباغت ، وكل هذه الأسباب أصبحت دليلا قويا لدى الرجلين المذكورين ليقولا بحتمية انتصار بني إسرائيل.

__________________

(1) الباب الأوّل من سفر التثنية في التوراة المتداولية ، فيه إشارة إلى أنّ اسمي هذين الرجلين هما «يوشع» و «كاليب».

(2) وقد أشار الإمام علي بن أبي طالب في إحدى خطبه الواردة في كتاب نهج البلاغة التي هذه الحقيقة بقولهعليه‌السلام : (فو الله ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا) (الخطبة 27).

٦٦٥

والذي حصل حقيقة هو أنّ بني إسرائيل لم يقتنعوا بأي من الاقتراحات المذكورة ، فهم بسبب الضعف والجبن المتأصلين في نفوسهم خاطبوا موسىعليه‌السلام وأخبروه صراحة بأنّهم لن يدخلوا تلك الأرض ما دام العمالقة موجودين فيها ، وطالبوا موسى أن يذهب هو وربه لمحاربة العمالقة وسألوه أن يخبرهم عن انتصاره حيث هم قاعدون ، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة :( قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ) .

وتبيّن هذه الآية مدى الوقاحة التي وصل إليها بنو إسرائيل في مخاطبة نبيّهم موسىعليه‌السلام ، فهم بقولهم «لن» و «أبدا» أكدوا رفضهم القاطع للدخول إلى الأرض المقدسة، كما أنّهم استخفوا بموسىعليه‌السلام ودعوته واستهزءوا بهما ، بقولهم :( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ) كما أنّهم ـ أيضا ـ لم يعيروا التفاتا لاقتراح الرجلين المؤمنين المذكورين في الآية ، ولم يبدوا حيال ذلك أي جواب.

والطريف في الأمر أن التوراة المتداولة قد أوردت أجزاء مهمّة من هذه القصة ، في الباب الرابع عشر من سفر الأعداد ، حيث جاء فيها أن جميع بني إسرائيل لاموا موسى وهارون أخاه وقالوا جميعا : ليتنا متنا جميعا في أرض مصر أو في الفلاة ، فلما ذا جاء بنا الرّب إلى هذه الأرض لكي نقتل بحدّ السيف ، وتسبى عيالنا وأطفالنا بعدنا فحار موسى وأخاه هارون أمام القوم ، ما ذا يفعلان؟ أمّا يوشع بن نون وكاليب بن يفنة ، اللذان كانا من مجموعة الرجال الذين ذهبوا للتجسس على تلك الأرض فقد شقا جيبهما ثمّ نقرأ في الآية التالية أنّ موسى أصابه اليأس والقنوط من القوم ، ورفع يديه للدعاء مناجيا ربّه قائلا:إنّه لا يملك حرية التصرف إلّا على نفسه وأخيه ، وطلب من الله أن يفصل بينهما وبين القوم الفاسقين العصاة ، لكي يلقى هؤلاء جزاء أعمالهم ويبادروا إلى إصلاح أنفسهم،حيث تقول الآية الكريمة في هذا المجال :( قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ ) .

٦٦٦

وبديهي إنّ رفض بني إسرائيل القاطع لأمر نبيهم كان بمثابة الكفر ، وما استخدام القرآن لعبارة «الفاسق» بحق هؤلاء إلا لأن كلمة «الفسق» لها معان واسعة ، وتشمل كل خروج وانحراف عن سنة العبودية لله ، ولذلك نقرأ في القرآن الكريم ـ حين التحدث عن انحراف الشيطان ـ قول الله تعالى :( فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) (1) .

وتجدر هنا الإشارة إلى أنّ جملة :( مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ ) الواردة في الآيات السابقة تدل على وجود قلة من اليهود كانت تخشى الله ، ومنهم الرجلان المذكوران في إحدى الآيات الأخيرة وهما «يوشع» و «كاليب» بينما نلاحظ أن موسىعليه‌السلام لا يذكر هنا غير نفسه وأخيه ، ولا يذكر ولو حتى بالتلميح أحدا من تلك القلّة ، وقد يكون السبب هو أن هارون لكونه الوصي لأخيه موسىعليه‌السلام ولكونه أبرز شخصية في بني إسرائيل من بعد موسىعليه‌السلام لذلك ذكر اسمه دون غيره.

وكانت نتيجة صلف وعناد بني إسرائيل أنّهم لاقوا عقابهم ، إذ استجاب الله دعاء نبيه موسىعليه‌السلام ، فحرم عليهم دخول الأرض المقدسة ، المليئة بالخيرات مدّة أربعين عاما ، وفي هذا المجال تقول الآية القرآنية الكريمة :( قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً ) .

وزادهم عذابا إذ كتب عليهم التيه والضياع في البراري والقفار طيلة تلك الفترة ، حيث تقول الآية في ذلك :( يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ) وقد سميت الصحراء التي تاه فيها بنو إسرائيل باسم «التيه» أيضا ، وكانت جزءا من صحراء سيناء ، كما ذكرنا في الجزء الأوّل من تفسيرنا هذا.

بعد ذلك تذكر الآية أنّ ما نال بني إسرائيل من عذاب في تلك المدة ، كان مناسبا لما فعلوه ، وتطلب من موسىعليه‌السلام أن لا يحزن على المصير الذي لا قوه حيث تقول الآيةالكريمة :( فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ ) .

__________________

(1) الكهف ، 50.

٦٦٧

وربما كان سبب ورود الجملة الأخيرة ، هو أنّ موسىعليه‌السلام قد ثارت عاطفته بعد أن علم بالعذاب الذي كتبه الله على بني إسرائيل ، فطلب من الله العفو لقومه ـ كما ورد في التوراة المتداولة ـ فأجابه برد سريع أوضح له أن بني إسرائيل يستحقون ذلك العذاب ، وهم لا يستحقون العفو الإلهي لأنّهم أناس فاسقون وعصاة ، متكبرون ، ومن كان هذا شأنه سيلاقي ـ حتما ـ مثل هذا المصير.

ويجب الانتباه إلى أنّ حرمان بني إسرائيل من الدخول إلى الأرض المقدسة ، لم يكن له طابع للانتقام (كما أن جميع العقوبات الإلهية ليس فيها طابع انتقامي ، بل هي إما أن تكون لأجل تقويم شخصية الفرد ، أو تكون نتيجة لأخطائه ومعاصيه.

وقد اشتمل هذا الحرمان على فلسفة خاصّة ، حيث تحرر بنو إسرائيل بعد معاناة طويلة قاسوها في ظل الكبت والقمع الفرعوني اللذين خلفا فيهم عقد الإحساس باحتقار النفس والذل والضعة والنقص ، لذلك فهم لم يبدوا استعدادا لتطهير أنفسهم وأرواحهم في تلك الفترة بعد التحرر وفي ظل قيادة وزعامة نبيّهم موسىعليه‌السلام كما لم يكونوا مستعدين لتلك القفزة المعنوية التي كان من شأنها أن تهيء لهم حياة جديدة مقرونة بالفخر والعز والسؤدد ، وجوابهم لموسىعليه‌السلام ـ الذي اشتمل على رفضهم الدخول إلى ميدان الجهاد التحرري في الأرض المقدسة ـ خير دليل على هذه الحقيقة.

لذلك كان من الضروري أن يعاني بنو إسرائيل من التيه والضياع في الصحراء ، ليزول الجيل الضعيف العاجز منهم بشكل تدريجي وليحل محله جيل جديد في محيط الصحراء،محيط الحرية وفي أحضان التعاليم الإلهية ، وقد صقلت نفوسهم حياة الصحراء القاسية الضارية ، ووهبت لأرواحهم وأنفسهم القوة والقدرة ، وأعدتهم لخوض غمار ذلك الجهاد ليقيموا حكومة الحق في تلك الأرض المقدسة!

* * *

٦٦٨

الآيات

( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ ) ( الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29) )

التّفسير

أوّل حادثة قتل على الأرض :

لقد تناولت هذه الآيات الثلاث الأخيرة قصّة ولدي آدمعليه‌السلام وكيف قتل أحدهما أخاه الآخر ، ولعل وجه الصلة بين هذه الآيات والآيات التي سبقتها في شأن بني إسرائيل،هو غريزة «الحسد» التي كانت دائما أساسا للكثير من مخالفات وانتهاكات بني إسرائيل حيث يحذرهم الله في هذه الآيات من مغبة وعاقبة الحسد الوخيمة القاتلة ، التي تؤدي أحيانا إلى أن يعمد أخ إلى قتل أخيه! والآية تقول في هذا المجال لنبيّ الله أن يتلو على قومه قصّة ولدي آدم :( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ ) .

٦٦٩

ولعل استخدام كلمة «بالحق» في هذه الآية جاء للإشارة إلى أن القصّة المذكورة قد أضيفت لها خرافات مختلفة ، ولبيان أنّ القرآن الكريم جاء بالقصة الحقيقية التي حصلت بين ولدي آدمعليه‌السلام .

ولا شك أنّ كلمة «آدم» الواردة في الآية ، تشير إلى أبي البشرية الحاضرة ، وإنّ ما ذهب إليه البعض مع أنّها إشارة إلى شخص من بني إسرائيل اسمه «آدم» لا أساس له من الواقع ، لأنّ هذه الكلمة استخدمت مرارا في القرآن للدلالة على اسم أبي البشرية ، فلو صحّ الافتراض الأخير لوجب أن تشتمل الآية ـ أو الآيات ـ التي بعدها على قرينة تصرف الاسم عن مسماه الحقيقي الأوّل ، ولا يمكن لآية( مِنْ أَجْلِ ذلِكَ ) التي سيأتي تفسيرها قريبا، أن تكون قرينة على الافتراض المذكور كما سيأتي تفصيله.

وتواصل الآية سرد القصّة فتقول :( إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ )

وقد أدت هذه الواقعة إلى أن يهدد الأخ ـ الذي لم يتقبل الله القربان منه ـ أخاه بالقتل ويقسم أنّه قاتله لا محالة ، كما جاء في قوله تعالى في الآية :( قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ) أما الأخ الآخر فقد نصح أخاه مشيرا إلى أن عدم قبول القربان منه إنّما نتج عن علّة في عمله،وأنّه ليس لأخيه أي ذنب في رفض القربان ، مؤكدا أنّ الله يقبل أعمال المتقين فقط حيث تقول الآية :( قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) .

وأكد له أنّه لو نفذ تهديده وعمد إلى قتله ، فإنه ـ أي الأخ الذي تقبل الله منه القربان ـ لن يمد يده لقتل أخيه ، فهو يخاف الله ويخشاه ، ولن يرتكب أو يلوث يده بمثل هذا الإثم حيث تقول الآية :( لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ ) .

وأضاف هذا الأخ الصالح ـ مخاطبا أخاه الذي أراد أن يقتله ـ أنّه لا يريد أن

٦٧٠

يتحمل آثام الآخرين ، قائلا له :( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ (1) بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ) (أي لأنّك إن نفذت تهديدك فستتحمل ذنوبي السابقة أيضا ، لأنّك سلبت مني حق الحياة وعليك التعويض عن ذلك ، ولما كنت لا تمتلك عملا صالحا لتعوض به ، فما عليك إلّا أن تتحمل إثمي أيضا،وبديهي أنك لو قبلت هذه المسؤولية الخطيرة فستكون حتما من أهل النار، لأنّ النار هي جزاء الظالمين) كما تقول الآية :( فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ ) .

نقاط مهمّة يجب الانتباه لها :

1 ـ إن القرآن الكريم لم يذكر في هذه الآية ـ ولا في آيات أخرى ـ أي اسم لأبناء آدمعليه‌السلام : لكن الروايات الإسلامية تدل على أن ولدي آدم المذكورين في هذه الآية كان اسم أحدهما «هابيل» والآخر «قابيل» وقد ورد في سفر التكوين من التوراة في الباب الرابع أنّ ولدي آدم المذكورين اسمهما «قائن» و «هابيل».

وقد ذكر المفسّر المعروف «أبو الفتوح الرازي» أن هذين الاسمين قد وردا بألفاظ مختلفة ، فالاسم الأوّل جاء فيه «هابيل» و «هابل» و «هابن» ، «أما الاسم الثّاني فجاء فيه «قابيل» و «قايين» و «قابل» و «قابن» أو «قبن» ، وعلى أي صورة كان الاسم فإنّ الاختلاف بين الروايات الإسلامية ونص التوراة بخصوص اسم «قابيل» نابع عن الاختلاف اللغوي ، ولا يشكل أمرا مهما في هذا المجال.

والغريب في الأمر أنّ أحد الكتاب المسيحيين قد أورد الاختلاف المذكور دليلا اعترض به على القرآن ، فقال : إنّ القرآن أورد لفظة «قابيل» بدل «قائن»! والجواب هو أنّ مثل هذا الاختلاف اللغوي أمر شائع وبالأخص في مجال الأسماء ـ فمثلا كلمة «إبراهيم» الواردة في القرآن قد وردت في التوراة على شكل «أبراهام» ، كما أنّ القرآن الكريم لم يأت مطلقا باسم «هابيل» و «قابيل»

__________________

(1) إن كلمة «تبوء» مشتقة من المصدر «بواء» أي «العودة».

٦٧١

وقد ورد هذان الاسمان في الروايات الإسلامية فقط(1) .

2 ـ إنّ المعروف عن «القربان» هو أنّه كل شيء يحصل به التقرب إلى الله ، لكن القرآن الكريم لم يذكر شيئا عن ماهية القربان الذي قدمه ولدا آدم ، بينما نقلت الروايات الإسلامية ـ والتوراة في سفر التكوين ، الباب الرابع ـ أن «هابيل» كان يمتلك ماشية فاختار أفضل أغنامه ومنتوجاتها للقربان المذكور ، وأن «قابيل» الذي كان صاحب زرع،قد اختار لقربانه أردأ الأنواع من زرعه.

3 ـ لم يرد في القرآن أي توضيح عن الأسلوب الذي عرف به ابنا آدم قبول قربان أحدهما ورفض قربان الآخر عند الله ـ والذي ورد في هذا المجال هو ما نقلته بعض الروايات الإسلامية من أنّ هذين الشخصين كانا قد وضعا قربانهما على قمة جبل ، فنزلت صاعقة فأحرقت قربان هابيل دلالة على قبوله ، وبقي قربان قابيل على حاله لم يمسه شيء ، وكانت لهذه العلامة سابقة معروفة أيضا.

لكن بعض المفسّرين يعتقدون أنّ قبول ورفض القربانين إنّما أعلنا عن طريق الوحي لآدمعليه‌السلام ، وما كان سبب ذلك غير أنّ هابيل كان إنسانا ذا سريرة نقية يحبّ التضحية والعفو في سبيل الله فتقبل الله لذلك قربانه ، بينما كان قابيل رجلا ملوث القلب حسودا معاندا فرفض الله قربانه ، والآيات التالية توضح حقيقة ما جبلت عليه نفسا هذين الأخوين من خير وشر.

4 ـ يستنتج من هذه الآيات ـ بصورة جلية ـ أنّ مصدر أولى النزاعات والجرائم في العالم الإنساني هو «الحسد» ويدلنا هذا الموضوع على خطورة هذه الرذيلة الأخلاقية وأثرها العجيب في الأحداث الاجتماعية.

* * *

__________________

(1) وقد كتب العلّامة الفقيد الشّيخ «محمّد جواد البلاغي» رسالة في هذا المجال سماها بـ «الأكاذيب الأعاجيب» جمع فيها أكاذيب من نمط الكذبة التي جاء ذكرها أعلاه.

٦٧٢

الآيتان

( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) )

التّفسير

التّستر على الجريمة :

تواصل هاتان الآيتان بقية الواقعة التي حصلت بين ابني آدمعليه‌السلام ، فتبيّن الآية الأولى منهما أن نفسي قابيل هي التي دفعته إلى قتل أخيه فقتله ، حيث تقول :( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ ) .

ونظرا لأنّ كلمة «طوع» تأتي في الأصل من «الطاعة» لذلك يستدل من هذه العبارة على أن قلب «قابيل» بعد أن تقبل الله قربان أخيه هابيل أخذت تعصف به الأحاسيس والمشاعر المتناقضة ، فمن جانب استعرت فيه نار الحسد وكانت تدفعه إلى الانتقام من أخيه «هابيل» ومن جانب آخر كانت عواطفه الإنسانية وشعوره الفطري يقبح الذنب والظلم والجور وقتل النفس ، يحولان دون قيامه بارتكاب الجريمة ، لكن نفسه الأمارة بالسوء تغلبت رويدا رويدا على مشاعره

٦٧٣

الرادعة فطوعت ضميره الحي وكبلته بقيودها وأعدته لتقل أخيه ، وتدل عبارة «طوعت» مع قصرها على جميع المعاني التي ذكرناها لأنّ عملية التطويع كما نعلم لا تتمّ في لحظة واحدة، بل تحصل بشكل تدريجي وعبر صراعات مختلفة.

وتشير الآية ـ في آخرها ـ إلى نتيجة عمل «قابيل» فتقول( فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ ) فأين ضرر أكبر من أن يشتري الإنسان لنفسه عذابا سيلازمه إلى يوم القيامة،ويشمل عذاب الضمير وعقاب الله والعار والأبدي.

وقد حاول البعض الاستدلال من كلمة «أصبح» على أن جريمة القتل قد وقعت ليلا، في حين أنّ كلمة «أصبح» من حيث معناها اللغوي لا تنحصر في زمن معين ليلا مكان أم نهارا ، بل تدل على حدوث شيء ما ، كما جاء في الآية (103) من سورة آل عمران في قوله تعالى :( ... فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً ) .

وتفيد بعض الروايات المنقولة عن الإمام الصّادقعليه‌السلام أن قابيل حين قتل أخاه ترك جثته في العراء حائرا لا يدري ما يفعل بها ، فلم يمض وقت حتى حملت الوحوش المفترسة على جثة «هابيل» فاضطر «قابيل» (ربّما نتيجة لضغط وجداني شديد) إلى حمل جثة أخيه مدة من الزمن لإنقاذها من فتك الوحوش ، لكن الطيور الجارحة أحاطت به وهي تنتظر أن يضعها على الأرض للهجوم عليها ثانية وفي تلك الأثناء بعث الله غرابا (كما تصرّح الآية) فأخذ يحفر الأرض ويزيح التراب ليدفن جسد غراب ميت آخر ، أو ليخفي جزءا من طعامه ـ كما هي عادة الغربان ـ وليدل بذلك «قابيل» كيف يدفن جثة أخيه،حيث تقول الآية الكريمة ،( فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ ) (1) .

__________________

(1) جاء في مجمع البيان أنّ كلمة «يبحث» معناها في الأصل هو البحث عن شيء في التراب ثمّ استعملت في مختلف أنواع البحوث ، أمّا كلمة «سوأة» فهي تعني كل شيء يستاء الإنسان من رؤيته ، ولذلك تطلق أحيانا على جسد الميت ، وعلى عورة الإنسان ، ويجب الانتباه هنا إلى أنّ الفاعل في جملة «ليريه» قد يكون هو الله،أي أنّ الله

٦٧٤

ولا غرابة في أن يتعلم إنسان شيئا من طير من الطيور ، فالتاريخ والتجربة يدلان على أنّ للكثير من الحيوانات مجموعة من المعلومات الغريزية تعلمها منها البشر على طول التاريخ ، مكملا بذلك معلوماته ومعارفه ، وحتى بعض الكتب الطبيّة تذكر أنّ الإنسان مدين في جزء من معلوماته الطيبة للحيوانات! ثمّ تشير الآية الكريمة إلى أنّ قابيل استاء من غفلته وجهله ، فأخذ يؤنب نفسه كيف أصبح أضعف من الغراب فلا يستطيع دفن أخيه مثله،فتقول الآية :( قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي ) .

وكانت العاقبة أن ندم قابيل على فعلته الشنيعة كما تقول الآية :( فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ) .

فهل كان ندمه على جريمته ، خوفا من افتضاح أمره أمام أبويه؟ أو ربّما أخوته الآخرين الّذين كانوا سيلومونه على فعلته؟ أم أنّ ندمه كان إشفاقا على نفسه ، لأنه حمل جسد أخيه القتيل لفترة دون أن يعلم ما ذا يفعل به أو كيف يدفنه؟

أم كان سبب الندم هو ما يشعر به الإنسان ـ عادة ـ من قلق واستياء بعد ارتكاب كل عمل قبيح؟

مهما كانت أسباب الندم ودوافعه لدى «قابيل» فذلك لا يعني أنّه تاب من فعلته وجريمته التي ارتكبها ، فالتوبة معناها أن لا يعاود الإنسان المذنب تكرار الذنب ، خوف من الله واستقباحا للذنب ، ولم يشر القرآن الكريم إلى صدور مثل هذه التوبة عن «قابيل»،وقد تكون الآية التالية إشارة إلى عدم صدور التوبة عنه.

ورد في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «لا تقتل نفس ظلما إلّا كان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها لأنّه كان أوّل من سن القتل»(1) .

__________________

أراد أن يري «قابيل» كيف يدفن أخاه ، وذلك احتراما لـ «هابيل» ويحتمل أن يكون الغراب هو الفاعل في الجملة المذكورة.

(1) مسند أحمد بن حنبل كما جاء في تفسير «في ضلال القرآن» ، ج 2 ، ص 703 ، في تفسير الآية.

٦٧٥

ويستدل من هذا الحديث أيضا على أنّ من سنّ سنّة سيئة ، سيبقى يتحمل وزرها ما دامت باقية في الدنيا.

ممّا لا ريب فيه أنّ قصّة ولدي آدمعليه‌السلام قصّة حقيقية ، يثبتها ظاهر الآيات القرآنية الأخيرة والروايات الإسلامية ، كما أنّ عبارة «بالحق» الواردة في هذه القصّة القرآنية تعتبر شاهدا على هذا الأمر ، وعلى هذا الأساس فإنّ الأقوال التي افترضت لهذه القصّة طابعا رمزيا من قبيل التشبيه أو الكناية أو القصّة المفترضة لا أساس لها مطلقا.

ولا مانع من أن تكون هذه القصّة الحقيقية مثالا من الصراع الدائم الذي يطغى على المجتمعات البشرية ، حيث يقف في أحد جانبيه أناس جبلوا على الطهارة والصفاء والإيمان والعمل الصالح المقبول عند الله ، وفي الجانب الآخر يقف أفراد تدنسوا بالانحراف وجبلوا على الحقد والحسد والضغينة والبغضاء والعمل الشرير.

وكم هو العدد الكبير من أولئك الإبرار الأخيار الذين ذاقوا حلاوة الشهادة على أيدي هؤلاء الأشرار الذين سيدركون ـ في النهاية ـ فظاعة الأعمال الآثمة التي ارتكبوها،وسيسعون إلى إخفائها والتستر عليها ، فتظهر لهم في مثل هذه اللحظات آمالهم السوداء الشبيهة بالغراب ـ المذكور في الآية القرآنية الأخيرة ـ فتحثّهم وتدفعهم إلى إخفاء جرائمهم ، لكنّهم سوف لا يجنون في النهاية غير الخيبة والخسران.

* * *

٦٧٦

الآية

( مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) )

التّفسير

وحدة الإنسانية وكرامتها :

إنّ هذه الآية تقوم باستخلاص نتيجة إنسانية كلية بعد الآيات التي تطرقت إلى قصّة ولدي آدمعليه‌السلام .

ففي البداية تشير الآية إلى حقيقة اجتماعية تربوية مهمّة ، وهي أن قتل أيّ إنسان،إن لم يكن قصاصا لقتل إنسان آخر ، أو لم يكن بسبب جريمة الإفساد في الأرض ، فهو بمثابة قتل الجنس البشري بأجمعه ، كما أنّ إنقاذ أيّ إنسان من الموت ، يعد بمثابة إنقاذ الإنسانية كلّها من الفناء ، حيث تقول الآية الكريمة :( مِنْ أَجْلِ (1) ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ

__________________

(1) إن كلمة «أجل» التي هي على وزن «نخل» تعني في الأصل الجريمة ، وقد شاع استعمالها فيما بعد في كل عمل له عاقبة سيئة ، ثم استعملت لكل عمل ذي عاقبة ، وهي الآية تستخدم للتعليل أو بيان علة الشيء.

٦٧٧

فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ) .

ويرد هنا سؤال وهو : كيف يكون قتل إنسان واحد مساويا لقتل الناس جميعا، وكيف يكون إنقاذ إنسان من الموت بمثابة إنقاذ الإنسانية جمعاء من الفناء؟

ولقد وردت أجوبة عديدة من قبل المفسّرين على هذا السّؤال جاء في تفسير «التبيان» ستة أجوبة عليه ، وفي «مجمع البيان» خمسة أجوبة ، وفي «كنز العرفان» أربعة أجوبة ، ولكن بعضا من هذه الأجوبة يبتعد كثيرا عن معنى هذه الآية.

وكما قلنا في بداية تفسير هذه الآية ، فإنّها تتحدث عن حقيقة اجتماعية تربوية، لأنّه: أوّلا : إن من يقتل إنسانا بريئا ويلطخ يده بدم بريء يكون ـ في الحقيقة ـ مستعدا لقتل أناس آخرين يساوونه في الإنسانيه والبراءة ، فهو ـ في الحقيقة ـ إنسان قاتل، وضحيته إنسان آخر بريء ، ومعلوم أنّه لا فرق بين الأبرياء من الناس من هذه الزاوية.

كما أنّ أي إنسان يقوم ـ بدافع حب النوع الإنساني ـ بإنقاذ إنسان آخر من الموت ، يكون مستعدا للقيام بعملية الإنقاذ الإنسانية هذه بشأن أيّ إنسان آخر ، فهذا الإنسان المنقذ يحبّ إنقاذ الناس الأبرياء ، لذلك لا فرق لديه بين إنسان بريء وآخر مثله.

ونظرا لكلمة «فكأنّما» التي يستخدمها القرآن في هذا المجال ، فإننا نستدل بأن موت وحياة إنسان واحد ، مع أنّه لا يساوي موت وحياة المجتمع ، إلّا أنّه يكون شبيها بذلك.

وثانيا : إنّ المجتمع يشكل في الحقيقة كيانا واحدا ، وأعضاؤه أشبه بأعضاء الجسد الواحد ، وأنّ أي ضرر يصيب أحد أعضائه يكون أثره واضحا ـ بصورة أو بأخرى ـ في سائر الأعضاء ، ولأنّ المجتمع البشري يتشكل من الأفراد ، لذلك

٦٧٨

فإن فقدان أي فرد منهم يعتبر خسارة للجميع الإنساني الكبير ، لأنّ هذا الفقدان يترك أثرا بمقدار ما كان لصاحبه من أثر في المجتمع ، لذلك يشمل الضرر جميع أفراد المجتمع.

ومن جانب آخر فإن إحياء فرد من أفراد المجتمع ، يكون ـ لنفس السبب الذي ذكرناه ـ بمثابة إحياء وإنقاذ جميع أفراد المجتمع ، لأنّ لكل إنسان أثر بمقدار وجوده في بناء المجتمع الإنساني وفي مجال رفع احتياجاته ، فيكون هذا الأثر قليلا بالنسبة للبعض وكثيرا بالنسبة للبعض الآخر.

وحين نقرأ في الروايات أنّ جزاء وعقاب قاتل النفس المحرمة ، يكون كجزاء قاتل جميع أفراد البشر ، إنّما ذلك إشارة لهذا المعنى الذي ذكرناه ، ولا يعني أنّ الناس متساوون مع بعضهم في كل الجهات ، ولذلك نقرأ في تفسير هذه الروايات ـ أيضا ـ أن عقاب القاتل يتناسب مع عدد الأفراد الذين قتلهم تناسبا طريدا قلة وزيادة.

وتبيّن هذه الآية بجلاء أهمية حياة وموت الإنسان في نظر القرآن الكريم ، وتتجلى عظمة هذه الآية أكثر حين نعلم أنّها نزلت في محيط لم يكن يعير أي أهمية لدماء أفراد الإنسانية.

وتلفت الانتباه في هذا المجال روايات عديدة ذكرت أنّ هذه الآية مع أنّها تتحدث ـ أو يشير ظاهرها ـ إلى الحياة والموت الماديين ، إلّا أنّ الأهمّ من ذلك هو الموت والحياة المعنويين ، أي إضلال الفرد أو إنقاذ من الضلال ،وقد سأل شخص الإمام الصّادقعليه‌السلام عن تفسير هذه الآية فأجابهعليه‌السلام قائلا : «من حرق أو غرق ـ ثمّ سكتعليه‌السلام ـ ثمّ قال : تأويلها الأعظم أنّ دعاها فاستجابت له».

وفحوى قول الإمام الصّادقعليه‌السلام في هذه الرواية هو الإنقاذ من الحريق أو الغرق ثمّ يستطرد الإمامعليه‌السلام ـ بعد سكوت ـ فيبيّن أن التأويل الأعظم لهذه الآية هو دعوة الغير إلى طريق الحق والخير أو الباطل والشر ، وتحقق القبول من

٦٧٩

الجانب الآخر المخاطب بهذه الدّعوة(1) .

والسوال الآخر الذي يمكن أن يرد في هذا المجال أيضا ، هو عن سبب ورود اسم بني إسرائيل بالذات في هذه الآية ، مع أنّها تشمل حكما لا يخص هذه الطائفة؟

ويمكن القول في الجواب بأن سبب الإتيان باسم بني إسرائيل في هذه الآية هو أن هذه الطائفة قد شاعت بينها حوادث القتل وإراقة الدماء ، وبالأخص ما كان منها ناشئا عن الحسد وحبّ الذات والأنانية وحبّ التسلط ، وما زال الذين يتعرضون للقتل على أيدي هذه الطائفة ـ في الوقت الحاضر ـ هم الأبرياء من الناس غالبا ، ولهذا السبب ورد هذا الحكم الإلهي ـ لأوّل مرّة ـ في سيرة بني إسرائيل!

وتشير الآية في آخرها ـ إلى انتهاكات بني إسرائيل ، فتؤكّد أن هذه الطائفة على الرغم من ظهور الأنبياء بينهم يحملون الدلائل الواضحة لإرشادهم ، إلّا أنّ الكثير منهم قد نقضوا وانتهكوا القوانين الإلهية ، واتبعوا سبيل الإسراف في حياتهم ، حيث تقول الآية :( وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ) .

ويجدر الانتباه إلى أنّ كلمة «إسراف» لها معان واسعة ، تشمل كل تجاوز أو تعد عن الحدود ، ولو أنّها تستخدم في الغالب في مجال الهبات والنفقات.

* * *

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 1 ، ص 620 وقد وردت في هذا المجال روايات أخرى بنفس المضمون.

٦٨٠