الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل5%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 710

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 710 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 173445 / تحميل: 6085
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وهذه النظرية اختارها ابن البطريق (ت ٥٣٣ ـ ٦٠٠ هـ)(١) ، ووافقه عليها غيره .

وإذا ثبت أنّ معنى المولى هو الأولى بالشيء ، يكون ذلك هو المراد من آية الولاية ؛ لأنّه المعنى الوحداني والأصل للفظ الولي ، وتختلف الموارد بحسبها ، فيكون مفاد آية الولاية مفاد قوله تعالى :( النّبِيّ أَوْلَى‏ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) (٢) ، الأولى بالتصرّف ، ويشهد لذلك ما نقله ابن منظور في لسان العرب ، عن ابن الأثر قوله : ( وكأن الولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل ، وما لم يجتمع ذلك فيها لم ينطلق عليه اسم الوالي )(٣) ، وقريب من هذا المعنى ما ذكره بعض اللغويين في معاجمهم اللغوية .

الاستدلال على المستوى القرآني :

إنّ الآية المباركة :( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا ) تضمّنت دلالات وافرة لإثبات المطلوب ، ومراعاة للاختصار نكتفي بالإشارة المفهمة لبعض منها :

١ – إنّ صيغة التعبير في الآية الشريفة جعلت الولاية بمعنى واحد ، حيث قال :( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللهُ و ) فلو كانت ولاية الله تعالى تختلف عن ولاية( الّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) لكان الأنسب في التعبير أن تفرد بالذكر ولاية أخرى للمؤمنين ؛ لكي تحول

ـــــــــــــ

(١) عمدة عيون الأخبار ، ابن البطريق : ص ١١٤ ـ ١١٥ .

(٢) الأحزاب : ٦ .

(٣) لسان العرب : ابن منظور : ج ١٥ ص ٤٠٧ ؛ النهاية في غريب الحديث ، ابن الأثير : ج ٥ ص ٢٢٧ .

٦١

دون وقوع الالتباس ، نظير قوله تعالى :( قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (١) ، فكرّر لفظ الإيمان في الموضعين ؛ بسبب تكرّر معنى الإيمان وتغايره فيهما .

إذن لابد أن تكون الولاية في الآية المباركة بمعنى واحد في جميع الموارد التي ذكرت فيها ، وهي الأصالة لله تعالى ، وبالتبع لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وللذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون .

وولاية الله تعالى في الآية المباركة ولاية عامّة وشاملة لولاية التصرف ، والتدبير ، والنصرة وغيرها ، قال تعالى حكاية عن نبيّه يوسفعليه‌السلام :( أنت وليّي في الدّنيا والآخرة ) (٢) ، وقال عزّ وجلّ :( فَمَا لَهُ مِن وَلِيّ مِن بَعْدِهِ ) (٣) ، وغيرها من الآيات الدالة على ذلك .

٢ ـ إنّ الولاية التي هي بالأصل لله عزّ وجلّ جعلها لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتبع ، فلرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الولاية العامّة على الأمة ، من الحكم فيهم ، والقضاء في جميع شؤونهم ، وعلى الأمة التسليم والطاعة المطلقة بلا ضيق أو حرج ، كما في قوله تعالى :( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ ) (٤) ، وقوله تعالى :( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (٥) .

خصوصاً وإنّنا لا نجد القرآن يعدّ النبي ناصراً للمؤمنين ولا في آية واحدة .

ـــــــــــــ

(١) التوبة : ٦١ .

(٢) يوسف : ١٠١ .

(٣) الشورى : ٤٤ .

(٤) النساء : ٥٩ .

(٥) الأحزاب : ٣٦ .

٦٢

وهذا المعنى من الولاية الثابتة لله تعالى ورسوله ، عُطفت عليه ولاية :( الذين آمنوا ) ، وهذا يعني أنّ الولاية في الجميع واحدة ؛ لوحدة السياق وهي ثابتة لله عزّ وجلّ بالأصالة ، ولرسوله وللذين آمنوا بالتبع والتفضّل والامتنان .

إذن الولاية الثابتة في الآية لعليعليه‌السلام هي ولاية التصرّف ، وإنّ معنى الولي في الآية تعني الأولى بالتصرّف ، وممّا يؤكّد ذلك مجيء لفظ ( وليّكم ) مفرداً ونسب إلى الجميع بمعنى واحد ، والوجه الذي ذكره المفسّرون لذلك هو أنّ الولاية ذات معنى واحد ، لله تعالى أصالة ولغيره بالتبع .

الاستدلال على المستوى الروائي :

هناك عدّة من القرائن والشواهد الروائية لإثبات المطلوب :

أوّلاً : لو كانت الولاية الثابتة لعلي بن أبي طالبعليه‌السلام بمعنى النصرة ، لما وجد فيها مزيد عناية ومزيّة ومدح لعليعليه‌السلام ؛ لأنّها موجودة بين جميع المؤمنين :( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضَهُمْ أَولِياءُ بَعْضٍ ) (١) ، وعليعليه‌السلام كان متصفاً بهذه المحبّة والنصرة للمؤمنين منذ أن رضع ثدي الإيمان مع صنوه المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولكن لو أمعنّا النظر في الروايات الواردة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عقيب

ـــــــــــــ

(١) التوبة : ٧١ .

٦٣

نزول آية الولاية ، لوجدنا أنها تثبت مويّة ومنقبة عظيمة لعليعليه‌السلام ، ففي الرواية أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال بعد نزول الآية :( الحمد لله الذي أتمّ لعلي نعمه ، وهيّأ لعلي بفضل الله إيّاه ) (١) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد نزول الآية أيضاً :( مَن كنت مولاه فعلي مولاه ، اللّهمّ والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ) (٢) ، إذاً في الآية الكريمة مزيد عناية تفترق عن تولّي المؤمنين بعضهم لبعض ، وليس تلك المزيّة العظيمة إلاّ ولاية التصرّف والإمرة .

ثانياً : إنّ الولاية التي خصّها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليعليه‌السلام يوم غدير خم ، هي ولاية تدبير وتصرّف ؛ لأنّها نفس ولاية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا ما نلمسه من كيفية إعلان الولاية من قِبلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث قال :( ألست أولى بكم من أنفسكم ) ، وهذه الولاية ـ التي هي ولاية تصرّف ـ هي نفسها الولاية التي تثبتها الآية الشريفة :( إنّما وليّكم ... ) لعليعليه‌السلام .

من هنا نجد أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عقّب ـ بعد نزول آية الولاية في حقّ عليعليه‌السلام ـ بقوله :( مَن كنت مولاه فعلي مولاه اللّهم والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ) ،

ـــــــــــــ

(١) الدر المنثور ، السيوطي : ج ٣ ص ١٠٦ .

(٢) مسند أحمد : ج ١ ص ٨٤ ، ص ١١٨ ، ص ١١٩ ، ص ١٥٢ ، ص ٣٣١ ، ج ٤ ص ٢٨١ ، ص ٣٧٠ ، ص ٣٧٢ ، ج ٥ ص ٣٤٧ ، ص ٣٦٦ ، ص ٣٧٠ ، سنن ابن ماجه : ج ١ ، ص ٤٣ ح ١١٦ ؛ الترمذي : ج ٥ ص ٢٩٧ ؛ المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٠٩ ـ ١١٦ ، ص ١٣٤ ، ص ٣٧١ ، ص ٥٣٣ ؛ مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٧ ص ١٧ ، ج ٩ ص ١٠٤ ـ ص ١٠٨ ص ١٦٤ ؛ وقال فيه : ( عن سعيد بن وهب رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ) ؛ فتح الباري : ج ٧ ص ٦١؛ وقال فيه : ( فقد أخرجه الترمذي والنسائي وهو كثير الطرق جداً ، وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد ، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان ) ؛ صحيح ابن حبان : ج ١٥ ص ٣٧٦ وما بعد ، وغير ذلك من المصادر الكثيرة جداً ؛ فراجع .

٦٤

وهذا يكشف عن كون الولاية ولاية تصرّف ، لا سيّما إذا أخذنا بنظر الاعتبار ذلك الحشد المتنوع من الروايات الذي يؤكّد على علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، ويقرن طاعته بطاعة الله ورسوله ، كل ذلك يكشف عن أن ولايتهعليه‌السلام هي ولاية التصرّف ، وأنّه الأولى بالتصرّف ؛ لذا قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حق عليعليه‌السلام :( مَن أطاعني فقد أطاع الله ، ومَن عصاني فقد عصى الله ، ومَن أطاعك فقد أطاعني ، ومَن عصاك فقد عصاني ) ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(١) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( مَن يريد أن يحيا حياتي ويموت موتي ويسكن جنّة الخلد التي وعدني ربّي ؛ فليتولّ علي بن أبي طالب فإنّه لن يخرجكم من هدى ولن يدخلكم في ضلالة ) ، قال الحاكم أيضاً : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(٢) .

وعن عبد الرحمان بن عثمان قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو آخذ بضبع علي بن أبي طالب ، وهو يقول : (هذا أمير البررة ، قاتل الفجرة ، منصور مَن نصره مخذول مَن خذله ، ثم مدّ بها صوته ) ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(٣) .

وغيرها الكثير من الروايات التي تشاركها بالمضمون ذاته .

ثالثاً : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب من الله تعالى أن يشدّ عضده بأخيه

ـــــــــــــ

(١) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج٣ ص ١٢٨ ، تاريخ مدينة دمشق : ابن عساكر : ٤٢ : ص ٣٠٧ .

(٢) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٢٨ ـ ١٢٩ .

(٣) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٢٩ .

٦٥

عليعليه‌السلام ، كما شدّ الله تعالى عضد موسىعليه‌السلام بأخيه هارونعليه‌السلام ، فنزلت الآية :( إنّما وليّكم ) بشرى لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بجعل عليعليه‌السلام وليّاً وخليفة من بعده ، وهذا يدلل على أنّ الولاية لعليعليه‌السلام لم تكن مجرّد نصرة ومحبّة ، بل كانت ولاية أولوية بالأمر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما هو الحال في هارونعليه‌السلام ، باعتبار أولويته بالأمر والإمرة بعد موسىعليه‌السلام ، عندما خلّفه في قومه .

رابعاً : احتجاج أمير المؤمنينعليه‌السلام على أولويته بالأمر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بآية الولاية ، حيث قالعليه‌السلام مخاطباً لجمع من الصحابة في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أنشدكم الله : أتعلمون حيث نزلت : ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) ، وحيث نزلت : ( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، وحيث نزلت : ( وَلَمْ يَتّخِذُوا مِن دُونِ اللهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ) ، قال الناس : يا رسول الله : أخاصّة في بعض المؤمنين ، أم عامة لجميعهم ؟ فأمر الله عزّ وجل نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعلمهم ولاة أمرهم ، وأن يفسّر لهم من الولاية ما فسّر لهم من صلاتهم ، وزكاتهم ، وحجّهم ، فنصبني للناس بغدير خم ) (١) وهذا يكشف عن كون المراد بالآية هو الأولى .

وبذلك يتحصّل أنّ معنى الولي هو الأولى بالتصرّف ، وأنّ الآية بصدد جعل الولاية لعليعليه‌السلام بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ـــــــــــــ

(١) المناقب ، ابن المغازلي الشافعي : ص ٢٢٢ ، فرائد السمطين : ج ١ ص ٣١٢ ، ينابيع المودّة للقندوزي : ج ١ ص ٣٤٦ ، شواهد التنزيل ، الحسكاني : ج ٢ ص ٢٩٥ ، فرائد السمطين : ج ١ ص ٣١٢ .

٦٦

كيف تستدلّ الشيعة بشأن النزول ؟

الشبهة :

الشيعة يستدلّون بشأن نزول آية الولاية على الإمامة ؟

الجواب :

بعد أن أطبقت الأمّة وأجمع المحدّثون والمفسّرون على نزول الآية المباركة في الإمام عليعليه‌السلام مع صراحة الآية في إثبات الولاية ، ومباركة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للإمام عليعليه‌السلام بقوله :( الحمد لله الذي أتمّ لعلي النعمة ) ، لا يبقى أي مجال لمثل هذه التشكيكات والشبهات ، سواء كان الاستدلال بالآية استدلالاً مباشراً ، أم كان عن طريق شأن النزول ، الذي هو عبارة عن الأحاديث المتواترة والصحيحة والصريحة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي أمرنا الله تعالى بالتمسّك بها بقوله :( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (١) ، وعليه فلا ينبغي التهاون والتقليل من شأن هذه الأحاديث القطعيّة ، كما يظهر ذلك من كلام صاحب الشبهة .

ويمكن أن نحقق استيعاباً جيداً لمسألة ولاية علي بن أبي طالبعليه‌السلام ؛ وذلك من خلال الآيات القرآنية والنصوص النبوية التي تعرّضت لبيان هذا المعنى ، فضلاً عمّا أشاعته آية الولاية من مناخ سائد حيال هذه المسألة ، من تقديم التهاني والتبريكات من قِبل الصحابة إلى عليعليه‌السلام الصحابة وإنشاد الشعر والمديح بهذه المناسبة العظيمة ، وهذا يكفي لسدّ كل منافذ الريب والتشكيك ، ومعالجة ما يطرأ على الأذهان من التباسات .

ـــــــــــــ

(١) الحشر : ٧ .

٦٧

الخلاصة

لا مجال لمثل هذه التشكيكات ، بعد أن أجمعت الأمة على نزول الآية في شأن عليعليه‌السلام ، وسواء كان الاستدلال بالآية ذاتها أم من طريق شأن النزول الثابت قطعاً كونه بخصوص عليعليه‌السلام فهو يثبت المطلوب ، ولا معنى للإصغاء لمثل هذه الأوهام .

المعروف أنّ عليّاً فقير فكيف يتصدّق ؟

الشبهة :

إنّ علياً كان فقيراً فكيف يتصدّق بالخاتم إيتاءً للزكاة ؟

الجواب :

ما أكثر المدّعيات التي تُرفع من دون أي دليل ولا برهان يدعمها ، ومن أغرب المدّعيات التي تُثار للتشكيك في صحّة نزول آية الولاية في الإمام عليعليه‌السلام هذا الإشكال الآنف الذكر ، إلا أنّنا توخّياً لدرء مثل هذه التشكيكات التي تطرأ على بعض الأذهان نقول :

أوّلاً : إنّ لفظ الزكاة لغةً شامل لكل إنفاق لوجه الله تعالى ، ونلمس هذا المعنى في عدّة من الآيات المباركة ، وكقوله تعالى:( وَأَوْصَانِي بِالصّلاَةِ وَالزّكَاةِ مَادُمْتُ حَيّاً ) (١) ، وكذا ما قاله القرآن بحق إبراهيم وإسحاق ويعقوبعليهم‌السلام :( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزّكَاةِ ) (٢) ، وغيرها من الآيات التي تشاركها في المضمون ، ومن المعلوم أنّه ليس في شرائعهمعليهم‌السلام الزكاة المالية المصطلحة في الإسلام .

ـــــــــــــ

(١) مريم : ٣١ .

(٢) الأنبياء : ٧٣ .

٦٨

ومن هنا فقد استعمل القرآن لفظ الزكاة في الآية الشريفة بمعناها اللغوي الشامل لكل إنفاق لوجه الله تعالى أي الزكاة المستحبّة ( زكاة تطوّع ) ؛ ولذا نرى أنّ الجصاص ـ في أحكام القرآن ـ فهم أنّ المراد بالزكاة في الآية ، هي زكاة التطوّع ، حيث قال : ( قوله تعالى :( وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، يدلّ على أنّ صدقة التطوّع تسمّى زكاة ؛ لأنّ عليّاً تصدّق بخاتمه تطوّعاً ، وهو نظير قوله تعالى :( وَما آتَيْتُم مِن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ) (١) .

ثانياً : لو فرضنا أنّ المراد من الزكاة في الآية هي الزكاة الواجبة ، فليس من الغريب أن يمتلك الإمام عليعليه‌السلام أوّل نصاب من مال الزكاة وهو مقدار (٢٠٠ درهم) ، ومَن ملك ذلك لا يعدّ غنيّاً ، ولا يُطلق عليه اسم الغني شرعاً .

ثالثاً : بعد أن ثبت نزول الآية في الإمام عليعليه‌السلام بإجماع الأمة واتفاق المفسّرين والمحدّثين ، ولم ينكر أحد على الإمام عليعليه‌السلام تصدّقه بالخاتم ، وإنّما الكل فهم المزيّة والكرامة لهعليه‌السلام لا يبقى أي مجال للإنكار والتشكيك .

ومن هنا نلاحظ أنّ الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بادر المباركة للإمام عليعليه‌السلام عقيب نزول الآية الكريمة ، وقام الشعراء بإنشاء القصائد الطافحة بالمديح والثناء على الإمام عليعليه‌السلام ، كل ذلك نتيجة طبيعية للمناخ الذي أشاعته الآية في أوساط المسلمين ، من إثبات الولاية للإمام عليعليه‌السلام ، فإذا ثبت نزول الآية في الإمام عليعليه‌السلام بالدلائل والبيّنات القاطعة لا معنى للاستنكار والتشكيك ، خصوصاً وأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حمد الله على هذه النعمة التي اتمّها لعليعليه‌السلام ، وبارك الصحابة بأقوالهم وأشعارهم للإمام عليعليه‌السلام تلك المنقبة .

ـــــــــــــ

(١) أحكام القرآن ، الجصاص : ج ٢ ص ٥٥٨ .

٦٩

الخلاصة

١ – إنّ لفظ الزكاة شامل لكلّ إنفاق لوجه الله تعالى واستعملها القرآن بذلك .

٢ ـ لو سلّمنا أنّ لفظ الزكاة في الآية استعمل في الزكاة الواجبة التي هي أقلّ نصابها ٢٠٠ درهم ، فإنّ مَن يملك هذا المبلغ لا يُعدّ غنيّاً شرعاً .

٣ – قام الإجماع على نزول آية الولاية في حق الإمام عليعليه‌السلام ، ولم ينكر أحد آنذاك ما استنكره صاحب الشبهة ، بل أنشد الشعر والمديح والثناء على الإمام عليعليه‌السلام ، مع مباركة الصحابة .

آية البلاغ تدلّ على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبلّغ سابقاً

الشبهة :

إنّ استدلال الشيعة بآية البلاغ على الإمامة يبطل كل الاستدلالات السابقة التي يستدلّون بها ؛ لأنّ آية البلاغ مدنية ، فتدل على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبلّغ سابقاً .

الجواب :

أوّلاً : لابد أن نفهم كيفية تعاطي الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المفاهيم والمبادئ الإسلامية المهمّة التي تمثّل الأساس في منظومة الدين الإسلامي ، والتي ينبغي التأكيد عليها من قِبلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثر من غيرها ، ومن جملة المفاهيم الأساسية هي الإمامة ، حيث نلمس غاية الانسجام ومنتهى الملائمة بين جميع البيانات السابقة لإثبات الإمامة والتنصيص عليها ، فكل تلك المواقف والبيانات كانت تتناسب مع خطورة وأهميّة مبدأ كمبدأ الإمامة والولاية بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلابد من تأسيسه وتشييد أركانه وجعله وعياً إسلامياً عاماً ، وآية البلاغ جاءت ضمن ذلك السياق وتلك الخلفية ، فهي نزلت في ذلك الظرف لتحمل في طيّاتها العديد من الأمور المهمّة التي تتعلّق بحقيقة الإمامة ، منها :

٧٠

١ ـ أنّها جاءت لتصرّح بقضية مهمة جداً ، وهي أنّ ترك تنصيب علي بن أبي طالبعليه‌السلام للولاية مساوق لترك تبليغ الرسالة بأكملها ، وهذا ما يتجلّى واضحاً عند التأمّل في الآية :( وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ ) (١) ، وعلى ضوء ذلك تعرف السر في نزول هذه الآية المباركة في أواخر حياة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث تكشف عن أهمية الإمامة والولاية في المنظومة الدينية ، ومن هذا المنطلق يظهر لك سبب ذلك الحشد المتنوّع من النصوص القرآنية والروائية التي تؤكّد على ضرورة وأهمية موقع الإمامة في الإسلام بأجمعه ؛ ذلك لكي ينطلق الإسلام في قيادة جديدة تكون في جميع مجالاتها وآفاقها امتداداً للقيادة النبوية ، لتبقى المسيرة مستمرة والرسالة محفوظة .

وممّا يؤكّد أهمية الإمامة والولاية هو ما نجده واضحاً في أقوال الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد تبليغ مقام الولاية وتعيين الولي للناس ، حيث قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( فليبلّغ الشاهد الغائب ) (٢) ، فإنّ اهتمامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الشديد في إيصال خطابه الشريف إلى جميع المسلمين يكشف عن خطورة الأمر ، وأنّه ممّا تتوقّف عليه ديمومة الإسلام .

بالإضافة إلى ما يكتنف الآية المباركة من القرائن الحالية الكثيرة والواضحة الدالة على أهمية هذا الأمر ، وتأثيره المباشر على مسيرة الإسلام ، كنزولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حرّ الهجير والسماء صافية ، والمسلمون واقفون على الحصباء والرمضاء التي كادت تتوقّد من حرارة الشمس ، حتى أنّه نقل الرواة من حفّاظ الحديث وأئمّة التاريخ أنّه لشدّة الحر وضع بعض الناس ثوبه على رأسه ، وبعضهم استظلّ بمركبه ، وبعضهم استظلّ بالصخور ، ونحو ذلك .

ـــــــــــــ

(١) المائدة : ٦٧ .

(٢) كما جاء ذلك في أكثر المصادر الروائية والتفسيرية التي نقلت حديث الغدير ، وقد ذكر ابن حجر أنها (قد بلغت التواتر) ، لسان الميزان ، ابن حجر العسقلاني : ج ١ ص ٣ .

٧١

وكذلك أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برجوع مَن تقدّم ، وتقدّم مَن تأخّر .

مضافاً إلى حضور ذلك الجمع الغفير من الصحابة والمسلمين الذين حضروا لأداء مناسك الحج من سائر أطراف البلاد الإسلامية ، وغير ذلك من الأمور التي تدل على خطورة الأمر وأهميته .

٢ ـ إنّ آية البلاغ التي بلّغها الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أواخر حياته ، جاءت تحمل في طيّاتها الإشارة إلى قضية مهمة جداً في الدين الإسلامي ، وهي تحديد معالم أطروحة الإمامة في الإسلام ، مؤكّدة على أنّ الإمامة شاملة لكل الأبعاد القيادية السياسية منها والحكومية والمرجعية وغيرها ، وأنّ منصب الخلافة والحكومة يمثّل أحد أبعاد الإمامة ، وهذا هو موضع النزاع مع أتباع مدرسة الخلفاء ، حيث إنّهم يختزلون دور الإمام في الحاكمية فقط ، فإذا لم يستلم الحكومة لا يكون إماماً ، على خلاف معتقد الشيعة الإمامية الاثني عشرية ، التي تعتقد أنّ منصب الحاكمية يمثّل أحد أبعاد الإمامة لا جميعها .

٣ ـ إنّ آية البلاغ جاء تبليغها بصيغة الإعلان الرسمي للولاية والإمامة والتتويج العام للإمام عليعليه‌السلام أمام المسلمين ، ويشهد لذلك كيفية التبليغ ، حيث جمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس وأمر أن يردّ مَن تقدم منهم ومَن تأخّر عنهم في ذلك المكان ، وجمعت لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقتاب الإبل وارتقاها آخذاً بيد أخيه عليعليه‌السلام معمّماً له أمام الملأ صادعاً بإبلاغ الولاية ، ثم إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب بنفسه البيعة من الناس لعليعليه‌السلام ، وبادر الناس لبيعتهعليه‌السلام وسلّموا عليه بإمرة

٧٢

المؤمنين ، وهنّأوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّاًعليه‌السلام ، وأوّل مَن تقدّم بالتهنئة والبخبخة ، أبو بكر ثم عمر بن الخطاب وعثمان و...(١) ، وقد روى الطبري في كتابه الولاية بإسناده عن زيد بن أرقم أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( قولوا أعطيناك على ذلك عهداً من أنفسنا ، وميثاقاً بألسنتنا ، وصفقة بأيدينا ، نؤدّيه إلى أولادنا وأهلنا لا نبتغي بذلك بدلا ) (٢) .

ثم استئذان حسان بن ثابت من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لنظم أبيات في الواقعة تدل على أنّه لم يفهم من الحديث غير معنى الخلافة والولاية .

وكذلك يؤكّد كل ما قلناه احتجاج أمير المؤمنين عليعليه‌السلام بحديث الغدير في مواضع عديدة ، حيث كان يحتج على أولئك الذين تركوا وصيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقولهعليه‌السلام : (أنشدكم بالله أمنكم مَن نصّبه رسول الله يوم غدير خُم للولاية غيري ؟ قالوا : اللهم ، لا ) ، وفي موضع آخر ( قال :أنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مَن كنت مولاه ، فعلي مولاه ، اللّهمّ والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ، وانصر مَن نصره ، ليبلغ الشاهد الغائب ، غيري ؟ قالوا : اللّهمّ ، لا )(٣) .

ـــــــــــــ

(١) مسند أحمد : ج ٤ ص ٢٨١ ؛ المعيار والموازنة ، الإسكافي : ص ٢١٢ ؛ المعجم الكبير ، الطبراني : ج ٥ ص ٢٠٣ ؛ فيض القدير شرح الجامع الصغير : ج ٦ ص ٢٨٢ ح ١٢٠ ؛ تذكرة الخواص ، ابن الجوزي : ص ٣٦ ؛ نظم درر السمطين : ص ١٠٩ ؛ كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١٣ ص ١٣٤ ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ٥ ص ٨ ؛ المصنف لابن أبي شيبة الكوفي : ج ٧ ص ٥٠٣ ؛ شواهد التنزيل : الحاكم الحسكاني : ج ١ ص ٢٠٠ ؛ ثمار القلوب : ص ٦٣٧ ؛ وغيرها .

(٢) كتاب الولاية : محمد بن جرير الطبري : ص ٢١٤ ـ ٢١٦ .

(٣) انظر : مسند أحمد : ج ١ ص ٨٤ ؛ ج ٤ ص ٣٧٠ ؛ ج ٥ ص ٣٧٠ ؛ مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٩ ص ١٠٤ ، ص ١٠٧ ؛ المصنف ، أبي شيبة الكوفي : ج ٧ ص ٤٩٩ ؛ كتاب السنّة : عمرو بن أبي عاصم : ص ٥٩١ ، ص ٥٩٣ ؛ خصائص أمير المؤمنين ، النسائي : ص ٩٦ ؛ مسند أبي يعلى : ج ١ ص ٤٢٨ ـ ٤٢٩ ح ٥٦٧ ؛ ج ١١ ص ٣٠٧ ح ٦٤٢٣ ؛ المعجم الصغير : الطبراني : ج ١ ص ٦٤ ـ ٦٥ ؛ المعجم الأوسط : ج ٢ ص ٣٢٤ ؛ المعجم الكبير : ج ٥ ص ١٧١ ؛ كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١١ ص ٣٣٢ ؛ الصواعق المحرقة ، ابن حجر الهيتمي : ص ١٩٥ ؛ وغيرها .

٧٣

٤ ـ لم يكتف الله تبارك وتعالى بكل البيانات السابقة من النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أنزل في ولاية عليعليه‌السلام تلك الآيات الكريمة تتلى على مرّ الأجيال بكرةً وعشيّاً ؛ ليكون المسلمون على ذكر من هذه القضية في كل حين ، وليعرفوا رشدهم والمرجع الذي يجب عليهم أن يأخذوا عنه معالم دينهم ويتبعوه في قيادته .

٥ ـ لو اقتصر في تبليغ الإمامة على تلك البيانات الخاصة للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمقتصرة على حضور بعض الصحابة ؛ لضاعت وأصبحت روايات ضعافاً ، ولما وصلت إلينا بشكل واضح ومتواتر كما جاءتنا آيات وروايات البلاغ ؛ وذلك بسبب منع تدوين حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عهد الخلفاء ، ولتولّي بني أمية وأعداء أهل البيتعليه‌السلام تدوين الحديث فيما بعد .

الخلاصة

أوّلاً : إنّ تعاطي القرآن الكريم والرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المفاهيم الأساسية في الإسلام ـ كالإمامة ـ يختلف عن غيرها من المفاهيم الأخرى ؛ ولذا نجد أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكّد عليها مراراً وشيّد أركانها ، مستثمراً كل مناسبة يمكن استثمارها في ذلك ، ومن هنا نلتمس أسباب كثرة البيانات والتصريحات المتكرّرة من الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وذلك لكي يكون الاهتمام والتبليغ متناسباً مع أهمية ذلك الأمر ؛ ولذا نرى الانسجام والملائمة بين التبليغات النبوية ، والآيات القرآنية الواردة في هذا الصدد ، وبالخصوص آية البلاغ التي جاءت ضمن الاهتمامات القرآنية بمسألة الإمامة ، وقد حملت آية البلاغ العديد من المعطيات المهمة في مسألة الإمامة ، منها:

١ ـ إنّ الآية المباركة جاءت لتبيّن أنّ ترك تنصيب الإمام عليعليه‌السلام للولاية مساوق لترك تبليغ الرسالة بأجمعها ، كما هو واضح من قوله تعالى :( وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ ... ) وممّا يؤكّد أهمية هذا التبليغ للإمامة ملاحظة الظروف التي رافقت عملية التبليغ من شدّة الحرّ ، وأمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برجوع المتقدّم ولحوق المتأخّر ، والجمع الغفير الذي حضرها ، كل ذلك يدل على أهمية الأمر وخطورته .

٧٤

٢ ـ إنّ تبليغ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للآية في أواخر حياته جاء مؤكّداً على بيان أطروحة الإمامة في الإسلام ، وأنّها شاملة لكل الأبعاد القيادية السياسية والدينية والحقوقية والقضائية ، وأنّ منصب الخلافة والحكومة يمثّل أحد أبعاد الإمامة ، وهذا هو محل النزاع بين السنّة والشيعة ، حيث إنّ السنّة يختزلون دور الإمام في الحاكمية فقط .

٣ ـ إنّ آية البلاغ جاءت بصيغة الإعلان الرسمي لولاية الإمام عليعليه‌السلام كما هو واضح من خلال عملية التنصيب وطريقته ومباركة الصحابة له بالولاية وإنشاء الشعر ونحوها ، وكذلك احتجاجهعليه‌السلام بحديث الغدير في مناسبات عديدة على أحقّيّتهعليه‌السلام في الخلافة .

ثانياً : إنّ الله تعالى لم يقتصر على أمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتبليغ لولاية الإمام عليعليه‌السلام ، بل هنالك عدّة من الآيات جاءت مؤكّدة لتلك الولاية لتتلى بكرةً وعشياً على مرّ الأجيال ، وتكون شاهدة وحجّة عليهم .

ثالثاً : لو اقتصر في تبليغ الولاية على البيانات الخاصة المقتصرة على حضور بعض الصحابة ، سوف يُعرّضها ذلك للضياع ، لا سيّما مع ملاحظة منع تدوين السنّة ، أو تكون من الأخبار الضعاف ، ولذا كان تبليغها في واقعة الغدير كفيلاً بأن يجعلها تصل إلى حدّ التواتر وإجماع المسلمين ، الذي لا يمكن تجاوزه .

لا وجود لاسم علي في القرآن

الشبهة :

إنّ القرآن الكريم لم ينص على إمامة عليعليهم‌السلام وإلاّ لذكر اسمه فيه .

٧٥

تمهيد:

لكي تكون الإجابة واضحة لابد من الالتفات إلى نقطتين أساسيتين ، هما :

الأُولى : القرآن تبيان لكل شيء

لا ريب أن القرآن هو الكتاب المنزل لهداية الناس فيه تبيان كل شيء ، والسنّة النبوية مفصّلة ومبيّنة له ، قال تعالى :( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ ) (١) ، فأحدهما مكمّل للآخر ، والإسلام كلّه ، من عقائد وأحكام وسائر علومه وأُصوله موجود في القرآن الكريم ، أمّا شرحه وتفسيره وتجسيده ، فنجده في سنّة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خلال حديثه وسيرته المباركة ؛ ولذا نجد أنّ الله تعالى قرن طاعته بطاعة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما في قوله تعالى :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) (٢) ، وقوله عزّ وجلّ :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ) (٣) ، وكذلك قرن معصية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعصيته تعالى ، حيث

ـــــــــــــ

(١) النحل : ٤٤ .

(٢) النساء : ٥٩ .

(٣) الأنفال : ٢٠ .

٧٦

قال :( وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنّ لَهُ نَارَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فَيهَا أَبَداً ) (١) ، وقوله تعالى :( فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّي بَرِي‏ءٌ مّمّا تَعْمَلُونَ ) (٢) ، وقال تعالى أيضاً :( فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّى‏ يُحَكّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُوا تَسْلِيماً ) (٣) ، وغيرها من الآيات الكريمة .

الثانية : يجب اتباع ما أمر به الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

إنّ الله تعالى لم يجعل الخيرة للمؤمنين فيما يقضي الله ورسوله به ، كما في قوله تعالى :( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً مّبِيناً ) (٤) ، وبيّن الله تعالى أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجّة على الخلق في قوله وفعله ، وأنّ الله جعله إماماً يقتدى به ، فقال تعالى :( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (٥) ، وقال أيضاً :( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) (٦) ، وهذه مفردة مهمة جداً يجب الالتفات إليها جيداً .

وهناك روايات كثيرة متضافرة تؤكّد وتحث على الأخذ بسنّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتنهى عن الإعراض عن سنّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاكتفاء بالقرآن وحده ، وكان ذلك رائجاً ومعرفاً في أقوال الصحابة وتعاملهم ، من ذلك ما ورد في صحيح البخاري عن علقمة ، عن عبد الله قال : ( لعن الله الواشمات

ـــــــــــــ

(١) الجن : ٢٣ .

(٢) الشعراء : ٢١٦ .

(٣) النساء : ٦٥ .

(٤) الأحزاب : ٣٦ .

(٥) الحشر : ٧ .

(٦) النجم : ٣ ـ ٤ .

٧٧

الموتشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن ، المغيّرات خلق الله ، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها : أم يعقوب ، فجاءت فقالت : إنّه بلغني أنّك لعنت كيت وكيت ، فقال : ومالي لا ألعن مَن لعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومَن هو في كتاب الله ، فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول ، قال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه ، أما قرأت :( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (١) ؟ قالت : بلى ، قال : فإنّه قد نهى عنه )(٢) ، وكذا وردت هذه الرواية بنصها في صحيح مسلم(٣) .

ومن الروايات التي وردت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا المجال ، ما جاء في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه ، ومسند أحمد عن أبي عبد الله بن أبي رافع عن أبيه أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري ممّا أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا ندري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ) (٤) ، وفي مسند أحمد بلفظ( ما أجد هذا في كتاب الله ) (٥) .

ومنها ما ورد في مسند أحمد أيضاً ، عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا أعرفنّ أحداً منكم أتاه عنّي حديث وهو متكئ في أريكته ،

ـــــــــــــ

(١) الحشر : ٧ .

(٢) صحيح البخاري : ج ٣ ص ٢٨٤ ح ٤٨٨٦ .

(٣) صحيح مسلم : ج ٣ ص ١٦٧٨ ح ٢١٢٥ باب تحريم فعال الواصلة والمستوصلة .

(٤) انظر : سنن أبي داود السجستاني ، باب لزوم السنّة : ج ٤ ص ٢٠٥ ح ٤٦٠٥ ؛ سنن الترمذي : ج ٤ ص ١٤٤ ح ٢٨٠١ ، كتاب العلم ؛ باب ما نهى عنه ؛ سنن ابن ماجه ، المقدّمة : ج ١ ص ٦ ـ ٧ ، باب تعظيم حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتغليظ على مَن عارضه .

(٥) مسند أحمد : ج ٦ ص ٨ .

٧٨

فيقول : أتلوا عليّ به قرآناً ) (١) ، وقال حسان بن ثابت ، كما في مقدّمة الدارمي : ( كان جبريل ينزل على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسنّة كما ينزل عليه بالقرآن )(٢) ، إلى غير ذلك من الروايات والأقوال ، وإنّما هذه نبذة عمّا ورد في الحثّ على الأخذ بسنّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنهي عن مخالفته والتشديد على مَن يهمل السنّة بحجة الاكتفاء بكتاب الله .

وعلى هذا الأساس يتضح أنّ جميع أحكام الإسلام موجودة في القرآن الكريم ، إلاّ أنّه لا يمكن معرفة تفاصيلها والوقوف على حقائقها من دون الرجوع إلى سنّة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّنا في إقامة الصلاة ـ مثلاً ـ لا نعرف كيف نصلّي من دون أن نأخذ من حديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيفيّتها وشروطها وعدد ركعاتها وسجداتها وأذكارها ومبطلاتها ، وكذلك في الحج ، حيث لا يمكن أداء مناسكه من دون الرجوع إلى سنّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستيضاح شروطه وواجباته ومواقيته وأشواط الطواف وصلاته ، وتفاصيل السعي والتقصير وسائر مناسك الحج الأخرى .

إذن لابدّ من الرجوع إلى القرآن والسنّة النبوية معاً لأخذ تعاليم الإسلام منهما ، أمّا مَن أراد الاكتفاء بالقرآن وحده دون السنّة ، فأدنى ما نقول بحقّه : إنّه جاهل بما ورد في القرآن نفسه ، الذي يدعو لإطاعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (٣) ، وقد قال الألباني في هذا المجال : ( فحذار أيّها المسلم أن تحاول فهم القرآن مستقلاً

ـــــــــــــ

(١) مسند أحمد : ج ٢ ص ٣٦٧ ؛ سنن ابن ماجه ، المقدمة : ج ١ ص ٩ ـ ١٠ ح ٢١ ، باب تعظيم حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتغليظ على مَن عارضه .

(٢) سنن الدارمي ، المقدّمة : ج ١ ص ١٤٥ ، باب السنّة قاضية على كتاب الله .

(٣) الحشر : ٧ .

٧٩

عن السنّة ، فإنّك لن تستطيع ذلك ولو كنت في اللغة سيبويه زمانك )(١) ، فمقولة حسبنا كتاب الله مقولة مخالفة لصريح القرآن الكريم .

الجواب :

بعد تلك الإطلالة السريعة نقول لصاحب الشبهة بأنّ عدم ذكر اسم عليعليه‌السلام صريحاً في القرآن يرجع إلى الأسباب التالية :

أوّلاً : عدم ذكر الاسم لحكمة إلهيّة

إنّ عدم ذكر اسم علي في القرآن لعلّه لحكمة إلهية خفيت علينا ، إذ ما قيمة عقولنا كي تحيط بكل جوانب الحكم والمصالح الإلهية ، فكم من الأمور التي قد خفيت أو أُخفيت علينا مصالحها ، قال تعالى :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) (٢) ، والاعتراض على حكم الله تعالى خلاف التسليم والخضوع لأمره عزّ وجلّ .

ثانياً : الرسول الأكرم نصّ على إمامة عليعليه‌السلام

إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد نصّ على إمامة علي أمير المؤمنينعليه‌السلام باسمه الصريح كما في حديث الغدير المتواتر ، وحديث الدار ، وحديث المنزلة ، وغيرها في مواطن كثيرة جداً ، فإذا ثبت هذا بشكل قاطع عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو القرآن الناطق الذي لا ينطق عن الهوى ، وقد أقام الحجّة علينا بأنّ الإمام بعده عليعليه‌السلام تثبت إمامته بلا ريب ، وإذا لم يذكر القرآن اسم عليّ

ـــــــــــــ

(١) صفة صلاة النبي ، الألباني : ص ١٧١ .

(٢) المائدة : ١٠١ .

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

الآيتان

( إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤) )

سبب النّزول

ورد في سبب نزول هاتين الآيتين الكريمتين ، أنّ جماعة من المشركين قدموا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأعلنوا إسلامهم لكنّهم ـ لعدم تعودهم على طقس ومناخ المدينة ـ أصيبوا ببعض الأمراض ، فنصحهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يذهبوا إلى منطقة ذات مناخ جيد من الصحراء خارج المدينة ، كانت مرتعا لإبل الزكاة ، وأجاز لهم الانتفاع بلبن تلك الإبل بما يكفيهم،ففعلوا وتعافوا ممّا كانوا يعانون منه من الأمراض ، لكنّهم بدل أن يقدموا الشكر على صنيع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معهم ، وعمدوا إلى قتل الرعاة المسلمين والتمثيل بهم وسمل عيونهم، ونهبوا إبل الزكاة وارتدوا عن الإسلام إلى الشرك ، فأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإلقاء القبض عليهم والقصاص منهم بمثل ما ارتكبوه بحق أولئك الرعاة الأبرياء ، وجزاء لهم على جرائمهم فسملت عيونهم

٦٨١

وقطعت أوصالهم وقتلوا ، لكي يصبحوا عبرة لغيرهم فلا تسول لأحد نفسه أن يرتكب مثل هذه الجرائم الوحشية البشعة ، وقد نزلت الآيتان الأخيرتان وهما تبيّنان حكم الإسلام في هذه الجماعة(١) .

جزاء مرتكب العدوان :

تكمل الآية الأولى ـ من الآيتين الأخيرتين ـ البحث الذي تناولته الآيات السابقة حول قتل النفس ، وتبيّن جزاء وعقاب من يشهر السلاح بوجه المسلمين ، وينهب أموالهم عن طريق التهديد بالقتل أو بارتكاب القتل ، فتقول :( إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ) .

ومعنى قطع الأيدي والأرجل من خلاف هو أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى.

ويجدر الانتباه هنا إلى عدّة أمور ، وهي :

١ ـ إنّ المراد جملة( الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ) الواردة في الآية ـ كما تشير إليه أحاديث أهل البيت ويدل عليه سبب نزول الآية ـ هو ارتكاب العدوان ضد أرواح أو أموال الناس باستخدام السلاح والتهديد به ، سواء كان هذا العدوان من قبل قطاع الطرق خارج المدن أو داخلها ، وعلى هذا الأساس فإن الآية تشمل أيضا الأشرار الذين يعتقدون على أرواح الناس وأموالهم ونواميسهم.

والذي يلفت الانتباه في هذه الآية هو أنّها اعتبرت العدوان الممارس ضد البشر بمثابة إعلان الحرب وممارسة العدوان ضد الله ورسوله ، وهذه النقطة تبيّن بل تثبت مدى اهتمام الإسلام العظيم بحقوق البشر ورعاية أمنهم وسلامتهم.

٢ ـ المراد بقطع اليد أو الرجل ـ المذكور في الآية ، وكما أشارت إليه كتب

__________________

(١) تفسير المنار ، الجزء السادس ، ص ٣٥٣ ، وتفسير القرطبي ، ج ٣ ، ص ٢١٤٥.

٦٨٢

الفقه ـ هو القطع بنفس المقدار الذي ينفذ بحق السارق لدى قطع يده ، أي مجرّد قطع أربعة من أصابع اليد أو الرجل(١) .

٣ ـ هل أنّ العقوبات الأربع المذكورة في الآية لها طابع تخييري؟ أي هل أن الحكومة الإسلامية مخيرة في استخدام أي منهما بحق الفرد الذي تراه يستحق ذلك ، أم أن العقوبة يجب أن تتناسب ونوع الجريمة التي ارتكبها الفرد؟ أي إذ ارتكب الفرد المحارب جريمة قتل ضد أفراد أبرياء تطبق بحقّه عقوبة الإعدام ، وإن ارتكب سرقة عن طريق التهديد بالسلاح تنفذ فيه عقوبة قطع أصابع اليد أو الرجل ، وإذا ارتكب الجريمتين معا يكون عقابه الإعدام والصلب على الأعواد لفترة معينة لكي يعتبر به الناس ، وإذا شهر الفرد المحارب السلاح على الناس دون أن يراق أيّ دم أو تتم سرقة شيء يكون عقابه النفي إلى بلد آخر؟

لا شك أنّ الاحتمال الثّاني ـ وهو تطبيق العقوبة المتناسبة مع الجريمة أقرب إلى الحقيقة ، وقد أيد هذا المعنى ما ورد في أحاديث عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أيضا(٢) .

وبالرغم من أنّ بعض الأحاديث أشارت إلى أنّ الحكومة الإسلامية مخيرة في انتخاب أي من العقوبات الأربع الواردة ، لكننا ـ نظرا للأحاديث التي أشرنا إليها قبل قليل ـ نرى أنّ المراد من التخيير لا يعني أن تنتخب الحكومة الإسلامية واحدا من العقوبات المذكورة انتخابا اعتباطيا دون أن تأخذ نوع الجريمة بنظر الإعتبار ، حيث من المستبعد كثيرا أن تكون عقوبتا الإعدام والصلب متساويتين مع عقوبة النفي ، أو أن تكونا بمنزلة واحدة!

ويلاحظ هذا الأمر أيضا في الكثير من القوانين الوضعية المعاصرة بصورة واضحة،حيث تعين عقوبات مختلفة لنوع واحد من الجرائم ، وعلى سبيل المثال

__________________

(١) كنز العرفان في فقه القرآن ، ج ٢ ، ص ٣٥٢.

(٢) نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٦٢٢.

٦٨٣

نرى أن بعض الجرائم تتراوح عقوبتها بين ٣ سنين إلى ١٠ سنين من السجن ، والقاضي يتعامل في هذا المجال وفق ما يراه مناسبا لواقع الحال ، وليس وفق ما يشتهيه هو ، فتارة يكون المناسب في الجريمة أن تطبق العقوبة المشددة ، وأخرى يتناسب معها تخفيف العقوبة،نظرا للظروف المحيطة والملابسات الواردة في حالة ارتكاب الجريمة.

وهذا القانون الإسلامي الذي جاء بحق المحاربين ، يتفاوت فيه أسلوب العقاب ونوعه مع اختلاف الجريمة التي يرتكبها الفرد المحارب أو الجماعة المحاربة.

وغني عن القول أنّ العقوبات المشددة التي جاء بها الإسلام لقطاع الطريق تتوضح فلسفتها في الأهمية القصوى التي أعارها هذا الدين للدماء البريئة ، لكي يحول دون اعتداء الأفراد الأشقياء الأشرار القتلة على أرواح وأموال وأعراض الناس الأبرياء(١) .

وفي الختام تشير الآية إلى أن هذه العقوبات هي لفضح المجرمين في الدنيا ، وسوف لا يتوقف الأمر على هذه العقوبات ، بل سينالون يوم القيامة عقابا أشد وأقسى حيث تقول الآية :( ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ ) .

ويستدل من هذه الجملة القرآنية على أن العقوبات الإسلامية الدنيوية التي تنفذ في المجرمين لن تكون حائلا دون نيلهم لعقاب الآخرة ، ولكن طريق العودة والتوبة لا يغلق حتى بوجه مجرمين خطيرين كالذين ذكرتهم الآية إن هم عادوا إلى رشدهم وبادروا إلى إصلاح أنفسهم ، ولكي يبقى مجال التعويض عن الأخطاء مفتوحا تقول الآية الثانية :( إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ

__________________

(١) إن الأحكام التي تطرقنا إليها جاءت على شكل بحث تفسيري ملخص ، وتفاصيل هذه الأحكام وشروطها موجود في كتب الفقه.

٦٨٤

فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

والذي يظهر من هذه الآية هو أنّ العقاب والحدّ الشرعي يرفعان عن أولئك المجرمين في حالة انصرافهم طوعا عن ارتكاب الجريمة وندمهم قبل أن يلقى القبض عليهم فقط.

وبديهي أنّ توبة هؤلاء لا تسقط العقاب عنهم إن كانوا قد ارتكبوا جريمة قتل أو سرقة، إلّا في حالة ارتكاب جريمة التهديد بالسلاح فإن العقوبة تسقط إن هم تابوا وندموا قبل إلقاء القبض عليهم.

وبعبارة أخرى فإنّ التوبة في مثل هذه الجرائم لها تأثير في ما يخص الله فقط ، أمّا حق الناس فلا يسقط بالتوبة ما لم يرض صاحب الحق.

وهكذا فإنّ عقاب المحارب يكون أشدّ وأقسى من عقاب السارق أو القاتل العادي،فهو إن تاب نجا من العقوبة التي تشمله لكونه محاربا ، لكنه لا يتخلص من عقوبة السرقة والقتل العاديين.

وقد يطرأ هنا سؤال وهو كيف يمكن إثبات التوبة ما دامت هي عملية قلبية باطنية؟

والجواب هو : أن طرق إثبات التوبة في هذا المجال كثيرة وافرة ، وأحدها :أن يشهد عادلان على أنّهما سمعا توبة المجرم في مكان ما ، وأنّه تاب دون أن يرغمه أحد على التوبة،والآخر : أنّ يغير المجرم أسلوب حياته بشكل تظهر عليه آثار التوبة بجلاء.

* * *

٦٨٥

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(٣٥) )

التّفسير

حقيقة التوسل إلى الله :

توجه هذه الآية الخطاب إلى الأفراد المؤمنين ، تتضمن تكاليف ثلاثة يؤدي الالتزام بها وتطبيقها إلى نيل الفلاح ، وهذه التكاليف هي :

١ ـ إتّباع الحيطة والتقوى ، كما تقول الآية :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ) .

٢ ـ إختيار وسيلة للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى ، حيث تقول الآية :( وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) .

٣ ـ الجهاد في سبيل الله ، إذ تقول الآية :( وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ ) .

وستكون نتيجة الالتزام بهذه التكاليف الإلهية وتطبيقها نيل الفلاح ، بشرط تحقق الإسلام والإيمان فتقول الآية الكريمة في هذا المجال :( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) .

إنّ أهم موضوع سنتناوله بالبحث في هذه الآية ، هو الدعوة الموجهة للإنسان المؤمن لاختيار طريقة تؤدي إلى التقرب إلى الله سبحانه وتعالى.

٦٨٦

فكلمة «الوسيلة» في الأصل بمعنى نشدان التقرب أو طلب الشيء الذي يؤدي إلى التقرب للغير عن ميل ورغبة ، وعلى هذا الأساس فإن كلمة «الوسيلة» الواردة في هذه الآية لها معان كثيرة واسعة ، فهي تشمل كل عمل أو شيء يؤدي إلى التقرب إلى الله سبحانه وتعالى ، وأهم الوسائل في هذا المجال هي الإيمان بالله وبنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والجهاد في سبيل الله،والعبادات كالصّلاة والزكاة والصوم ، والحج إلى بيت الله الحرام وصلة الرحم والإنفاق في سبيل الله سرّا وعلانية وكذلك الأعمال الصالحة ـ كما يقول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام في خطبة له وردت في «نهج البلاغة» منها : «إنّ أفضل ما توسل به المتوسلين إلى الله سبحانه وتعالى الإيمان به وبرسوله والجهاد في سبيله فإنّه ذروة الإسلام وكلمة الإخلاص فإنّها الفطرة ، وإقامة الصّلاة فإنّها الملّة(١) ، وإيتاء الزكاة فإنّها فريضة واجبة، وصوم شهر رمضان فإنه جنة من العقاب ، وحج البيت واعتماره فإنهما ينفيان الفقر ، ويرحضان(٢) الذنب ، وصلة الرحم فإنها مثراة(٣) في المال ومنساة(٤) في الأجل وصدقة السرّ فإنّها تكفر الخطيئة ، وصدقة العلانية فإنّها تدفع ميتة السوء ، وصنائع المعروف فإنّها تقي مصارع الهوان ...»(٥) .

كما أن شفاعة الأنبياء والأئمّة والأولياء الصالحين تقرّب ـ أيضا ـ إلى الله وفق ما نصر عليه القرآن الكريم ، وهي داخلة في المفهوم الواسع لكلمة «الوسيلة» ـ وكذلك إتّباع النّبي والإمام والسير على نهجهما ، كل ذلك يوجب التقرب إلى الساحة الإلهية المقدسة. وحتى عند ما نقسم على الله بمقام الأنبياء والأئمّة والصالحين فأنّه يدلّ على حبّنا لهم والاهتمام بالدين الذي دعوا إليه ، هذا

__________________

(١) الملة شريعة الإسلام.

(٢) يرحضان يطهران أو يغسلان.

(٣) مثراة مكثرة.

(٤) منساة مطيلة.

(٥) نهج البلاغة ، الخطبة ١١٠.

٦٨٧

القسم يعتبر ـ أيضا ـ واحدا من المعاني الداخلة في المفهوم الواسع لكلمة «الوسيلة».

والذين خصصوا هذه الآية وقيدوها ببعض هذه المفاهيم لا يمتلكون في الحقيقة أي دليل على هذا التخصيص ، لأنّ كلمة «الوسيلة» تطلق في اللغة على كل شيء يؤدي إلى التقرب.

والجدير بالذكر هنا هو أنّ المراد من التوسل لا يعني ـ أبدا ـ طلب شيء من شخص النّبي أو الإمام ، بل معناه أن يبادر الإنسان المؤمن ـ عن طريق الأعمال الصالحة والسير على نهج النّبي والإمام ـ بطلب الشفاعة منهم إلى الله ، أو أن يقسم بجاههم وبدينهم (وهذا يعتبر نوعا من الاحترام لمنزلتهم وهو نوع من العبادة) ويطلب من الله بذلك حاجته،وليس في هذا المعنى أيّ أثر للشرك ، كما لا يخالف الآيات القرآنية الأخرى ، ولا يخرج عن عموم الآية الأخيرة موضوع البحث «فتدبّر».

التوسل في القرآن :

هناك آيات قرآنية أخرى تدل بوضوح على أنّ التوسل بمقام إنسان صالح عند الله،وطلب شيء من الله عن طريق التوسل بجاه هذا الإنسان عند الله ، لا يعتبر أمرا محظورا ولا ينافي التوحيد.

فنحن نقرأ في الآية (٦٤) من سورة النساء قوله تعالى :( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً ) .

كما نقرأ في الآية (٩٧) من سورة يوسف ، إنّ أخوة يوسف طلبوا من أبيهم أن يستغفر لهم الله ، فقبل يعقوب هذا الطلب ونفذه.

والآية (١١٤) من سورة التوبة تشير إلى موضوع استغفار إبراهيم لأبيه ، وهذا دليل على تأثير دعاء الأنبياء في حق الآخرين.

٦٨٨

وقد ورد هذا الموضوع في آيات قرآنية أخرى أيضا.

التّوسل في الرّوايات الإسلامية :

إنّ الروايات العديدة التي وردت عن طرق الشيعة والسنة تفيد بوضوح أنّ التوسل بالمعنى الذي عرضناه لا ريب ولا شبهة فيه ، بل أنّه يعد عملا جيدا أيضا ، وهذه الرّوايات كثيرة وقد نقلتها كتب عديدة ، ونحن نورد بعضا منها مما ورد في مصادر جمهور السنّة على سبيل المثال لا الحصر.

١ ـ جاء في كتاب «وفاء الوفا» لمؤلّفه العالم السنّي المشهور «السمهودي» إن طلب العون والشفاعة من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو التوسل إلى الله بجاه النّبي وشخصه جائز قبل أن يولدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعد ولادته ووفاته وفي عالم البرزخ وفي يوم القيامة ، ثمّ ينقل «السمهودي» في هذا المجال عن عمر بن الخطاب الرواية المعروفة التي تتحدث عن توسل آدمعليه‌السلام إلى الله بنبي الإسلام محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك لعلم آدم بأنّ هذا النّبي سيأتي إلى الوجود في المستقبل،ولعلمه بالمنزلة العظيمة التي يحظى بها عند الله ، فيقول آدم : «ربّ إنّي أسألك بحق محمّد لما غفرت لي»(١) .

ثمّ ينقل «السمهودي» حديثا آخر عن جماعة من رواة الحديث كالنسائي والترمذي،وهما عالمان مشهوران من أهل السنّة ، كدليل على جواز التوسل بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياتهوخلاصة هذا الحديث إنّ رجلا بصيرا طلب من النّبي أن يدعو له بشفاء مريضه، فأمره النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتلاوة هذا الدعاء : «اللهم إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبيّك محمّد نبيّ الرّحمة يا محمّد إنّي توجهت بك إلى ربّي في حاجتي لتقضي لي ، اللهم شفعه فيّ»(٢) .

__________________

(١) وفاء الوفاء ، ج ٣ ، ص ١٣٧١ ، في كتاب «التوصل إلى حقيقة التوسل» نقل الحديث المذكور أعلاه كواحد من دلائل النبوة ، ص ٢١٥.

(٢) كتاب (وفاء الوفاء) ، ص ١٣٧٢.

٦٨٩

وبعد هذا الحديث ينقل «السمهودي» حديثا ثالثا في جواز التوسل بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد وفاته ، فيذكر أن صاحب حاجة جاء في زمن عثمان إلى قبر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فجلس بجوار القبر ودعا الله بهذا الدعاء : «اللهم إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبيّنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبي الرحمة ، يا محمّد إنّي أتوجه بك إلى ربّك أن تقضي حاجتي».

ثمّ يضيف «السمهودي» إنّه لم تمض فترة حتى قضيت حاجة الرجل(١) .

٢ ـ أمّا صاحب كتاب «التوصل إلى حقيقة التوسل» الذي يعارض بشدة موضوع التوسل فهو ينقل (٢٦) حديثا من كتب ومصادر مختلفة ينعكس منها جواز التوسل ، ومع أنّه سعى في أن يطعن بإسناد تلك الأحاديث ، إلّا أنّ الواضح هو أنّه متى ما كانت الروايات كثيرة ـ في موضوع معين لدرجة التواتر ـ لا يبقى عند ذلك مجال للطعن، والتجريح في سند الحديث ، والروايات التي وردت في المصادر الإسلامية بشأن التوسل قد تجاوزت حدّ التواتر لكثرتها.

ومن هذه الأحاديث التي رواها صاحب الكتاب المذكور ، الحديث التالي : نقل «ابن حجر المكي» صاحب كتاب «الصواعق» عن الإمام «الشافعي»،وهو أحد أئمّة السنّة الأربعة المشهورين ، أنّه كان يتوسل إلى أهل بيت النّبي ويقول :

آل النّبي ذريعتي

وهم إليه وسيلتي

أرجو بهم أعطى غدا

بيد اليمين صحيفتي(٢)

وينقل صاحب كتاب «التوصل ...» أيضا عن (البيهقي) أن الجفاف أصاب المسلمين في أحد الأعوام من عهد الخليفة الثّاني ، فذهب بلال ومعه عدد من الصحابة إلى قبر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : «يا رسول الله استسق لأمتك فإنّهم

__________________

(١) وفاء الوفاء ، ص ١٣٧٣.

(٢) كتاب «التوصل ...» ، ص ٣٢٩.

٦٩٠

قد هلكوا ...»(١) .

ونقل أيضا عن «ابن حجر» من كتاب «الخيارات الحسان» أنّ الإمام الشافعي كان أثناء وجوده في بغداد يزور أبا حنيفة ويتوسل إليه في حوائجه(٢) .

ومن صحيح «الدارمي» ينقل صاحب كتاب «التوصل ...» أيضا ، أن بعض الصحابة في المدينة اشتكوا إلى عائشة ما يعانونه من الجفاف الشديد الذي أصاب البلدة في أحد الأعوام ، فأشارت عليهم أن يفتحوا فجوة في سقف المسجد على قبر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى ينزل الله المطر ببركة قبر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ففعلوا ذلك ونزل مطر غزير!

ونقل «الآلوسي» في تفسيره الكثير من الأحاديث والروايات الشبيهة بالأحاديث المارة الذكر،ولكنّه بعد إجراء تحليل ونقاش طويل حولها حتى أنّه تشدد في نقدها اضطر إلى الإذعان بها ، فذكر أنّه بعد البحث الذي أجراه لا يرى مانعا من التوسل إلى الله بمقام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سواء في حياته أو بعد وفاته ، ثمّ أطال البحث في هذا المجال، وقال بأنّ التوسل إلى الله بمقام غير النّبي لا مانع فيه ـ أيضا ـ شريطة أن يكون المتوسل به صاحب منزلة عندالله(٣) .

أما مصادر الشيعة فقد تناولت هذا الموضوع بشكل واضح ، لا نرى معه أي حاجة إلى نقل الأحاديث الواردة بهذا الصدد.

* * *

ملاحظات ضرورية :

نرى من الضروري ـ هنا ـ الإشارة إلى عدّة أمور :

__________________

(١) كتاب التوصل ، ص ٢٥٣.

(٢) كتاب التوصل ، ص ٣٣١.

(٣) روح المعاني ، (ج ٤ ـ ٦) ، ص ١١٤ ـ ١١٥.

٦٩١

١ ـ لقد أسلفنا القول بأنّ التوسل ليس معناه طلب الحاجة من النّبي أو الإمام ، بل المراد منه جعل النّبي أو الإمام شفيعا إلى الله في قضاء الحاجة ، وهذا الأمر ـ في الحقيقة ـ توجه إلى الله ، لأن احترام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما هو من أجل أنّه رسول الله والسائر على هداه،والعجب هنا أن يدعي البعض أن هذا التوسل نوع من الشرك ، في حين أنّ المعروف عن الشرك هو القول بوجود من يشارك الله سبحانه في صفاته وأعماله ، والتوسل الذي تحدثنا عنه لا صلة له مطلقا ولا تشابه مع الشرك.

٢ ـ يصرّ البعض وجود الفرق بين حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة المعصومينعليهم‌السلام وبين وفاتهم ، وكما رأيت فإنّ الكثير من الأحاديث السالفة كان يخص ما بعد وفاة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بالإضافة إلى ذلك فإن الفرد المسلم يعتقد بأن للنّبي والصالحين بعد وفاتهم حياة برزخية أوسع من الحياة الدنيا ، وقد صرّح القرآن في هذا المجال بخصوص حياة الشهداء، حيث أكّد أنّهم ليسوا أمواتا بل أحياء عند ربّهم(١)

٣ ـ وأصرّ آخرون على أنّ هناك فرقا بين طلب الدعاء من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين القسم على الله بجاه النّبي ، فهؤلاء يجيزون طلب الدعاء ولا يجيزون ما سواه ، في حين لا يوجد بين هذين الأمرين أي فرق منطقي.

٤ ـ يسعى البعض من كتاب وعلماء السنة وبالأخص «الوهابيون» منهم ، وبعناد خاص ، إلى الادعاء بضعف جميع الأحاديث الواردة في موضوع التوسل ، أو تجاهلها بشتى الحجج الواهية.

وهؤلاء يبحثون هذا الموضوع بأسلوب خاص يظهر من خلاله لكل ناظر محايد أنّهم اختاروا في البداية هذا الإعتقاد لأنفسهم ، ثمّ يحاولون ـ بعد ذلك ـ فرضه على الرّوايات الإسلامية ويعمدون بشكل من الأشكال إلى إزاحة كل من يخالف معتقدهم هذا عن طريقهم ، وهذا الأسلوب المشوب بالعصبية ومجافاة

__________________

(١) آل عمران ، ١٦٩.

٦٩٢

المنطق لا يقبل به أي باحث منصف مطلقا.

٥ ـ لقد بيّنا أنّ أحاديث التوسل قد وصلت بكثرتها إلى حد التواتر ، أي أنّها لوفرتها تغني الباحث عن التحقيق في أسانيدها ، إضافة إلى ذلك فإنّ من بين هذه الأحاديث الكثير من الروايات والأحاديث الصحيحة ، فلا يبقى بذلك لمن يريد الاعتراض على بعض الأسانيد أي مجال.

٦ ـ ويتبيّن ممّا قلناه سابقا أن لا تناقض بين الروايات التي وردت في تفسير الآية الأخيرة تلك التي تقول بأن النّبي دعا الناس إلى أن يطلبوا له الوسيلة من الله ، أو ما جاء عن الإمام عليعليه‌السلام في كتاب «الكافي» من أنّه قال : بأنّ (الوسيلة) هي أرفع وأسمى منزلة في الجنّة

فلا ينافي ما ذكرناه نحن في تفسير الآية ، لأنّ الوسيلة ـ كما أوضحنا ـ تشمل كل أنواع التقرب إلى الله ، وإن تقرب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الله ، وكذلك ما قيل عن أرفع منزلة في الجنّة ، هما من مصاديق الوسيلة.

* * *

٦٩٣

الآيتان

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧) )

التّفسير

تعقيبا على الآية السابقة التي كلّفت المؤمنين بالتقوى والجهاد وإعداد الوسيلة، جاءت الآيتان الأخيرتان وهما تشيران إلى مصير الكافرين ، وتؤكّدان أنّهم مهما بذلوا ـ حتى لو كان كل ما في الأرض أو ضعفه ـ في سبيل انتقاذ أنفسهم من عذاب يوم القيامة ، فلن يقبل منهم ذلك ـ وأنّهم سينالون العذاب الشديد ، فتقول الآية الكريمة في هذا المجال :( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

وقد وردت بنفس المضمون آية أخرى وهي الآية (٤٧) من سورة الرعد.

ويبيّن هذا الأسلوب القرآني أقصى درجات التأكيد فيما يخص العقوبات الإلهية التي لا يمكن ـ مطلقا ـ التخلص منها بأي ثروة أو قدرة مهما بلغت ، وحتى

٦٩٤

لو شملت جميع ما في الأرض أو ضعف ذلك ، وإن طريق الخلاص الوحيد يمكن ـ فقط ـ في اتّباع التقوى والجهاد في سبيل الله والقيام بالأعمال الصالحة.

بعد ذلك تشير الآية التالية إلى استمرار عذاب الله ، وتوضح أنّ الكافرين مهما سعوا للخروج من نار جهنم فلن يقدروا على ذلك ، وإنّ عذابهم ثابت وباق لا يتغير ، كما تقول الآية :( يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ ) .

وسنوافيكم بتفاصيل أكثر عن العقوبة الدائمة الأبدية ، وعن خلود الكفار في نار جهنم ، لدى تفسير الآية (١٠٨) من سورة هود ، بإذن الله.

* * *

٦٩٥

الآيات

( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠) )

التّفسير

عقوبة السّرقة :

لقد بيّنت آيات سابقة عقاب وحكم «المحارب» الذي يتعرض لأرواح وأموال ونواميس الناس عن طريق التهديد بالسلاح ، أمّا الآيات الثلاث الأخيرة فهي تبيّن حكم السارق والسارقة أي الفرد الذي يسرق خلسة أموال وممتلكات الناس ، فتقول الآية أوّلا:( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُم ) .

وقد قدمت هذه الآية الرجل السارق على المرأة السارقة ، بينما الآية التي ذكرت حد وعقوبة الزنا قد قدمت المرأة الزانية على الرجل الزاني ، ولعل هذا التفاوت ناشئ عن حقيقة أن السرقة غالبا ما تصدر عن الرجال ، بينما النساء الخليعات المستهترات يشكلن في الغالب العامل والعنصر المحفز للزنا!

٦٩٦

بعد ذلك تبيّن الآية أنّ العقوبة المذكورة هي جزاء من الله لجريمة السرقة المرتكبة من قبل الرجل أو المرأة ، حيث تقول :( جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ ) .

والحقيقة هي أنّ هذه الجملة القرآنية تشير.

أوّلا : إلى أنّ العقوبة المذكورة نتيجة لعمل الشخص السارق أو السارقة وأنّها شيء اكتسبه هو أو هي لنفسها.

وثانيا : إلى أنّ الهدف من تنفيذ هذه العقوبة هو وقاية المجتمع وتحقيق الحق والعدل فيه لأنّ كلمة «نكال» تعني العقوبة التي تنفذ لتحقيق الوقاية وترك المعصية ، وهذه الكلمة تعني في الأصل «اللجام» وتطلق أيضا على كل عمل يحول دون حصول الانحراف.

ولكي لا يتوهم الناس وجود الإجحاف في هذه العقوبة ، تؤكّد الآية ـ في آخرها ـ على أن الله عزيز ، أي قادر على كل شيء ، فلا حاجة له للانتقام من الأفراد ، وهو حكيم ـ أيضا ـ ولا يمكن أن يعاقب الأفراد دون وجود مبرر أو حساب لذلك ، حيث تقول الآية :( وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) .

أمّا الآية الثانية فهي تفتح لمن ارتكب هذه المعصية باب العودة والتوبة ، فتقول :( فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

والسؤال الوارد هنا هو : هل أنّ التوبة وحدها تكفي لغفران الذنب فقط ، أم أنّها تسقط عنه حد أو عقوبة السرقة أيضا؟

إنّ المعروف لدى فقهاء الشيعة أنّ مرتكب السرقة إن تاب قبل أن تثبت سرقته في محكمة إسلامية يسقط عنه حدّ السرقة أيضا ، أمّا إذا شهد عادلان على سرقته فإن التوبة لا تسقط عنه الحدّ.

والحقيقة هي أنّ التوبة ـ في هذه الحالة التي تطرقت لها الآية ـ هي تلك التي تتمّ قبل ثبوت الجرم في المحكمة ، ولو لا ذلك لتظاهر كل سارق بالتوبة لدى

٦٩٧

ثبوت الجرم عليه ، بغية إنقاذ نفسه من الحدّ أو العقوبة ، فلا يبقى ـ والحالة هذه ـ مبرر لإجراء الحدّ عليه بعد التوبة!

وبعبارة أخرى : إنّ التوبة الاختيارية هي تلك التي تتمّ قبل أن يثبت الجرم في المحكمة بينما التوبة الاضطرارية هي التوبة التي تصدر من الإنسان العاصي لدى مشاهدته العذاب الإلهي، أو لدى بلوغه حالة الاحتضار ، ومثل هذه التوبة لا قيمة لها مطلقا.

ثمّ توجه الآية الأخرى الخطاب إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتقول :( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

ويجدر الانتباه هنا إلى عدّة نقاط ، وهي :

أ ـ شروط معاقبة السارق :

لقد بيّن القرآن الكريم في الآيات الأخيرة التي تطرقت لحكم السرقة أساس للقضية،على عادته بالنسبة لسائر الأحكام ، وقد ترك التفصيل في ذلك إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

والذي يستدل من مجموع الروايات الإسلامية هو أن تنفيذ هذا الحد الإسلامي (أي قطع اليد) مقيد بشروط كثيرة ، لا يجوز ـ بدون تحققها ـ المباشرة بإجراء الحدّ ، ومن هذه الشروط.

١ ـ أن يكون الحدّ الأدنى لثمن الشيء المسروق مبلغ ربع دينار(١) .

٢ ـ أن تتمّ السرقة من مكان محفوظ ، أي أن تكون من دار أو محل للكسب أو من جيوب ومخابئ داخلية.

٣ ـ أن لا تكون السرقة في زمن الجفاف أو المجاعة التي يعاني الناس فيها

__________________

(١) الدينار الوارد في هذا الحكم يبلغ مثقالا شرعيا من الذهب المسكوك ويعادل ثمانية عشر حبة أي ثلاثة أرباع المثقال المتعارف.

٦٩٨

من الجوع لعدم حصولهم على المواد الغذائية.

٤ ـ أن يكون السارق ـ أثناء ارتكابه لجريمة السرقة ـ بالغا عاقلا حر الإرادة.

٥ ـ لا يطبق حدّ السرقة في حالة سرقة الأب من مال ولده ، أو الشريك من مال شريكه المخصوص بالشركة.

٦ ـ وقد استثنيت الفاكهة المسروقة من البساتين من حدّ السرقة.

٧ ـ كما استثنيت من ذلك حالة اشتباه السارق بين ماله ومال غيره.

وهناك شروط أخرى تطرقت إليها كتب الفقه في باب السرقة.

ويجب هنا التأكيد على أنّ السرقة حرام سواء تحققت الشروط المذكورة أعلاه فيها أو لم تتحقق ، وأما هذه الشروط فهي مختصة بموضوع الحدّ والعقوبة الخاصّة بالسرقة.

والسّرقة بأي شكل حصلت ، ومهما كان مبلغ وثمن الشيء المسروق ، حرام في الإسلام.

ب ـ المقدار الذي يجب قطعه من يد السّارق :

لقد اشتهر لدى فقهاء الشيعة ـ استنادا على روايات أهل البيتعليهم‌السلام ـ أنّ حدّ السرقة يتحقق بقطع أربع من أصابع يد السارق اليمنى فقط دون زيادة ، بينما قال فقهاء السنّة بأكثر من ذلك.

ج ـ حدّ السرقة وأقاويل اعداء الإسلام :

كثيرا ما كرر أعداء الإسلام أو حتى بعض المسلمين من الذين يجهلون أسرار التشريع الإسلامي ، أنّ هذه العقوبة الإسلامية تتسم بالعنف الشديد ، وأنّها لو نفذت في عصرنا الحاضر للزم أن تقطع أيدي الكثير من الناس ، وإن هذا

٦٩٩

سيؤدي بالإضافة إلى حرمان أفراد من أحد أعضاء جسمهم الحساسة سيؤدي إلى فضيحة الفرد طيلة حياته بسبب الأثر البارز الذي يخلفه حد السرقة مدى العمر.

وللردّ على هذا الاعتراض يجب الانتباه إلى الحقيقة التالية :

أوّلا : لقد بيّنا فيما سبق أن حكم السرقة ـ وفق الشروط التي ذكرناها ـ لا يشمل كل سارق ، فهذا الحكم يشمل فقط تلك المجموعة من السراق الذين يشكلون خطرا على المجتمع.

ثانيا : إنّ احتمال تنفيذ عقوبة السرقة يقل نظرا للشروط الخاصّة التي يجب توفرها حتى تثبت الجريمة على المتهم بالسرقة.

ثانيا : إنّ أكثر الاعتراضات التي يوردها الأفراد الذين يجهلون أو الذين لا يعرفون الكثير عن القوانين الإسلامية ، منشؤها النظرة الآحادية الجانب التي يرون ويبحثون بها الحكم الإسلامي بعيدا عن الأحكام الأخرى ، أي أنّهم يفترضون هذا الحكم في مجتمع بعيد كل البعد عن الإسلام.

فلو علمنا أنّ الإسلام ليس حكما واحدا فقط ، بل يشتمل على مجموعة كبيرة من الأحكام لو طبقت في مجتمع معين لأدت إلى تحقيق العدالة الاجتماعية ومكافحة الفقر والجهل ، ولأدت إلى تحقيق التعليم والتربية الصحيحين ، ولنشرت الوعي والورع والتقوى بين الناس ، وبهذا يتّضح لنا ندرة احتمال بروز حوادث تحتاج إلى تطبيق هذا الحكم أو العقوبة الإسلامية.

ويجب أن لا يجرنا هذا القول إلى الوهم بأنّ هذا الحكم الإسلامي لا يجب تطبيقه في المجتمعات المعاصرة ، بل المراد من قولنا هذا هو أن تؤخذ كل الشروط المذكورة بنظر الإعتبار أثناء إصدار الحكم في هذا المجال.

وخلاصة القول : إنّ الحكومة الإسلامية مكلّفة بأن توفر لكل أفراد الأمّة احتياجاتها الأولية وأن توفر لهم التعليم اللازم ، وتربي فيهم الملكات والخصال

٧٠٠

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710