الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل5%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 710

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 710 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 173429 / تحميل: 6085
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

«تزوج الأخ بأخته».

ومن البديهي أن حرمة شيء تتوقف على تحريم الله سبحانه له ، فما الذي يمنع من أن توجب الضرورات الملحة والمصالح المعينة أن يبيح شيئا في زمان ، ويحرمه بعد ذلك في زمن آخر.

غير أنّه قد صرّح في أحاديث أخرى بأن أبناء آدم لم يتزوجوا بأخواتهم ، وتحمل بشدّة على من يرى هذا الرأي ويذهب هذا المذهب.

ولو كان علينا عند تعارض الأحاديث أن نرجح ما وافق منها ظاهر القرآن لوجب أن نختار الطائفة الأولى ، لأنّها توافق ظاهر الآية الحاضرة كما عرفت قبل هذا.

ثمّ أنّ هاهنا احتمالا آخر يقول : إن أبناء آدم تزوجوا بمن تبقى من البشر الذين سبقوا آدم ونسله ، لأن آدم ـ حسب بعض الروايات ـ لم يكن أوّل إنسان سكن الأرض.

وقد كشفت الدراسات والتحقيقات العلمية اليوم أن النوع الإنساني كان يعيش في الأرض منذ عهد ضارب في القدم ، في حين لم يمر على تاريخ ظهور «آدم» في الأرض زمن طويل ، فلا بدّ إذن من القبول النظرية التي تقول : بأنّه كان يعيش في الأرض قبل آدم بشر آخرون قارن غياب آخر بقاياهم ظهور آدمنا ، فما المانع من أن يكون «أبناء آدم» قد تزوجوا ببقايا النوع البشري السابق الذي كان في أواخر انقراضه؟

ولكن هذا الاحتمال هو أيضا لا يتوافق وظاهر الآية الحاضرة (وهذا البحث يحتاج إلى توسع أكثر لا يسعه هذا المجال).

الدّعوة إلى العناية بالرّحم :

بعد ذكر ما بين أبناء النوع الإنساني من وشيجة القربى قال سبحانه :( وَاتَّقُوا

٨١

اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ ) (١) ( بِهِ وَالْأَرْحامَ ) .

إنّ أهمية التقوى ، ودورها في بناء قاعدة المجتمع الصالح سببت في أن تذكر مجددا في نهاية الآية الحاضرة ، وأن يدعو سبحانه الناس إلى التزام التقوى ، غاية الأمر أنّه تعالى أضاف إليها جملة أخرى إذ قال :( اتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ ) أي اتقوا الله الذي هو عندكم عظيم ، وتذكرون اسمه عند ما تطلبون حقوقكم وحوائجكم فيما بينكم.

ثمّ أنّه يقول : «والأرحام» وهو عطف على «الله» ، ولهذا كانت القراءة المعروفة هي نصب «والأرحام» فيكون معناها : واتقوا الأرحام ، ولا تقطعوا صلاتكم بهم.

إنّ ذكر هذا الموضوع هنا يدل أوّلا على الأهمية الفائقة التي يعطيها القرآن الكريم لمسألة الرحم ووشيجة القربى إلى درجة أنّه يذكر اسم الأرحام بعد ذكر اسم الله سبحانه، وهو إشارة ـ ثانيا ـ إلى الأمر الذي ذكر في مطلع الآية ، وهو أنكم جميعا من أب واحد وأمّ واحدة ، وهذا يعني ـ في الحقيقة ـ أنّ جميع أبناء آدم أقرباء وأرحام ، وهذا الارتباط والترابط يستوجب أن يتحاب الجميع ويتوادوا دون تفريق أو تمييز بين عنصر وآخر ، وقبيلة وأخرى ، تماما كما يتحاب أفراد القبيلة الواحدة.

ثمّ يختم الآية بقوله :( إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ) .

والرقيب أصله من الترقب ، وهو الانتظار من مكان مرتفع ، ثمّ استعمل بمعنى الحافظ والحارس ، لأن الحراسة من لوازم الترقب والنظارة.

وارتفاع مكان الرقيب قد يكون من الناحية الظاهرية بكون الرقيب يرقب على مكان مرتفع ، ويمارس النظارة من ذلك الموقع ، وقد يكون من الناحية

__________________

(١) تساءلون : من مادة تسائل ، وتسائل بالله من قولهم أسألك بالله أن تفعل كذا. وهذا يدل على تعظيم الناس لله تعالى.

٨٢

المعنوية.

يقول سبحانه :( إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ) أي أنّه يحصي عليكم نياتكم وأعمالكم، ويعلم بها ويراها جميعا ، كما أنه هو الذي يحفظكم أمام الحوادث (والتعبيرب«كان» المفيد للماضي ، إنّما هو للتأكيد).

* * *

٨٣

الآية

( وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢) )

سبب النّزول

روي أنّ رجلا من بني غطفان كان معه مالا كثير لابن أخ له يتيم ، فلما بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه عنه ، فخاصمه إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت :( وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ ) فلما سمع الغطفاني ذلك ارتدع وقال : أعوذ بالله من الحوب الكبير(١) .

التّفسير

لا للخيانة في أموال اليتامى :

كثيرا ما يحدث في المجتمعات البشرية أن يفقد أطفال صغارءاباءهم بسبب الحوادث والنكبات والكوارث ، فتلك حالة كثيرا ما تقع ، فإن المجتمعات المريضة التي تعاني من صراعات وحروب ونزاعات داخلية مستمرة مثل المجتمع الجاهلي العربي يقع فيها هذا الأمر بنسبة أكبر ، ولذلك يكثر فيها عدد الأيتام ، وهو ما يجب أن تهتمّ به الحكومة الإسلامية،بل ويهتمّ به كل المسلمين ،

__________________

(١) الدّر المنثور ، ج ٢ ، ص ١١٧.

٨٤

فيتكفّلوا أمر اليتامى وشؤونهم.

وفي هذه الآية ثلاثة تعاليم بشأن أموال اليتامى.

١ ـ( وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ ) أي يجب أن تعطوا اليتامى عند رشدهم أموالهم المودعة عندكم ، ويكون تصرفكم في هذه الأموال على نحو تصرف الأمين والنّاظر والوكيل لا على نحو تصرّف المالك.

٢ ـ( وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ) أي لا تأخذوا أموالهم الطّيبة وثرواتهم الجيدة وتضعوا بدلها من أموالكم الخبيثة والمغشوشة وهذا التعليم ـ في الحقيقة ـ يهدف إلى المنع ممّا قد يرتكبه بعض القيمين على أموال اليتامى من أخذ الجيد من مال اليتيم والرفيع منه وجعل الخسيس والرديء مكانه ، بحجّة أن هذا التبديل يضمن مصلحة اليتيم ، أو لأنّه لا تفاوت بين ماله والبديل ، أو لأن بقاء مال اليتيم يؤول إلى التلف والضياع وغير ذلك من الحجج والمعاذير.

٣ ـ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ ) يعني لا تخلطوا أموال اليتامى مع أموالكم بحيث تكون نتيجتها تملك الجميع ، أو أنّ المراد لا تخلطوا الجيد من أموالهم بالردى من أموالكم بحيث تكون نتيجتها الإضرار باليتامى وضياع حقوقهم ، ولفظة «إلى» في العبارة بمعنى (مع) في الحقيقة.

ما ذا يعني الحوب؟ :

ثمّ إنّه سبحانه ، لبيان أهمية هذا الموضوع والتأكيد عليه يختم الآية بقوله :( إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً ) .

يقول الرّاغب في مفرداته : «الحوبة حقيقتها هي الحاجة التي تحمل صاحبها على ارتكاب الإثم» وحيث أن العدوان على أموال اليتامى ينشأ ـ في الأغلب ـ من الحاجة، أو بحجّة الحاجة استعمل القرآن الكريم مكان لفظة الإثم في هذه الآية لفظة «الحوب» للإشارة إلى هذه الحقيقة.

٨٥

إنّ ملاحظة الآيات القرآنية المختلفة ـ في هذا المجال ـ تكشف عن أن الإسلام يولي هذا الموضوع أهمية كبرى ، ويهدد الخائنين في أموال اليتامى بالعقوبات الشديدة ، ويدعو القيمين على اليتامى بكلمات صريحة وجازمة إلى مراقبة أموالهم والمحافظة عليها مراقبة شديدة، ومحافظة بالغة ، وسيأتي تفصيل كلّ هذا في نفس هذه السورة في الآيات القادمة ، وفي ذيل الآيات (١٥٢) من سورة الأنعام ، و (٣٤) من سورة الإسراء.

إنّ اللهجة القوية التي اتسمت بها هذه الآيات قد تركت من التأثير البالغ في نفوس المسلمين بحيث خافوا أن يخالطوا اليتامى وأن يشتركوا معهم في الطعام ، ولهذا كانوا يهيئون طعاما خاصّا لأنفسهم ولأولادهم ، وطعاما مستقلا لليتامى ولا يخالطون طعام اليتامى بطعامهم خشية الإجحاف بهم ، وقد شقّ هذا على الجميع ـ اليتامى والأولياء ـ ولهذا أمرهم سبحانه في الآية (٢٢٠) من سورة البقرة قائلا( وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ ) أي إن كان في مخالطتهم لطعام اليتيم بطعامهم خير ومصلحة لليتيم فلا بأس(١) .

* * *

__________________

(١) وللتوسع والتفصيل الأكثر راجع ما ذكرناه في تفسير هذه الآية في سورة البقرة في الجزء الثاني من هذا التّفسير.

٨٦

الآية

( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣) )

سبب النّزول

لقد نقل لهذه الآية سبب نزول خاص ، فقد كان المتعارف في العهد الجاهلي قبل الإسلام أن يتكفل أغلب الناس في الحجاز أمر اليتيمات ، ثمّ يتزوجون بهنّ ، ثمّ يمتلكون أموالهنّ ، وربما ينكحوهنّ بدون صداق أو بصداق أقل من شأنهنّ ، بل وربّما يتركوهنّ لأدنى سبب أو كراهية بكل سهولة ، وبالتالي لم يكونوا يعطونهنّ ما يليق بهنّ ـ كزوجات ـ بل وحتى كبقية النساء العاديات ـ من الاحترام والمكانة ، فنزلت هذه الآية توصي أولياء اليتيمات إذا أرادوا الزواج بهنّ أن يلاحظوا جانب العدل معهن ، وإلّا فليختاروا الأزواج من غيرهنّ(١) .

يقول سبحانه في هذه الآية :( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ) وقد جاء هذا الكلام بعد ما جاء في الآية السابقة من الحث على حفظ أموال اليتامى من التلف وعدم التفريط فيها،

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٥ و ٦.

٨٧

فجاءت هذه الآية لتنوه بحق آخر من حقوقهم ، وهو هذه المرّة يتعلق باليتيمات خاصّة.

التّفسير

بملاحظة ما ذكرناه في سبب النزول يتّضح تفسير هذه الآية والمراد منها ، كما يتّضح الجواب أيضا على السؤال المطروح هنا ، وهو : لما ذا تبتدئ الآية بذكر اليتامى ، وتنتهي بمسألة الزواج ، ويرتفع ما قد يتوهم من المنافاة بين تلك البداية ، وهذه النهاية ، فالبداية والنهاية كلتاهما تتعلقان بمسألة الزواج ، غاية ما في الباب أنّ الآية تقول : إذا لم يمكنكم الزواج باليتيمات ومعاشرتهنّ على أساس من العدل والقسط فالأفضل أن تتركوا الزواج بهنّ ، وتتزوجوا بغيرهنّ من النساء تجنبا لظلم اليتيمات والإجحاف بحقوقهنّ ، والجور عليهنّ.

فالذي يستفاد من ذات الآية ـ وإن اختلفت وجهات نظر المفسرين وكثرت أقوالهم وتعددت في المراد منها ـ هو ما ذكرناه في سبب النزول ، وهو أن الخطاب موجه إلى أولياء اليتيمات اللاتي جاء الحثّ في الآية السابقة على حفظ أموالهنّ ضمن اليتامى.

فهذه الآية تعليم آخر ووصية أخرى بهم ، ولكنّها هذه المرّة تتعلق بمسألة الزواج باليتيمات ، وإن على أوليائهنّ أن يعاملوهنّ في مسألة الزواج على أساس من العدل والقسط كما يعاملونهنّ في مسألة المال ، فعليهم أن يراعوا في أمر الزواج مصلحة اليتيمة ، وإلّا فمن الأحسن أن يدعوا الزواج بهنّ ، ويختاروا الأزواج من غيرهنّ من النساء.

هذا وممّا يؤيد ويوضح هذا التّفسير ما جاء في الآية (١٢٧) من نفس هذه السّورة(١) حيث حثّ سبحانه على التزام العدل في الزواج باليتيمات ، وسيأتي

__________________

(١) وهو قوله تعالى :( وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ ) .

٨٨

تفصيل ذلك في محله.

كما أن ثمّة أحاديث نقلت في الكتب المختلفة تشهد بهذا الاتجاه ، وتؤيد هذا التّفسير(١)

وما نقل عن الإمام عليعليه‌السلام من الأخبار بسقوط أو حذف شيء كثير من القرآن بين مطلع هذه الآية ، ونهايتها غير معتبر من حيث السند أصلا ، فهذه الأحاديث وما يشابهها من الأحاديث التي تدل على حذف شيء من الآيات القرآنية وإسقاطها أو وقوع التحريف فيه إمّا أنّها من موضوعات أعداء الإسلام وخصومه والمنافقين بغية الحط من اعتبار القرآن وأهميته ومكانته ، وإمّا لأنّها ناشئة من عجز البعض عن التوفيق بين صدر الآية وذيلها وفهم الارتباط الطبيعي بينهما ، ولهذا توهّموا بأنّ هناك حذفا وإسقاطا وقد تطور هذا الوهم حتى اتّخذ صورة الحديث المروي والخبر المنقول ، في حين يتّضح الارتباط الوثيق بين هذه الجمل والعبارات بالتأمل والتدبر والإمعان.

«مثنى» و «ثلاث» و «رباع» :

وتعني «مثنى» في اللّغة اثنتين اثنتين ، و «ثلاث» ثلاثا ثلاثا ، و «رباع» أربعا أربعا ، وحيث أنّ الخطاب في هذه الآية موجّه إلى المسلمين كافة ، كان المعنى : إن عليكم أن تنصرفوا عن الزواج باليتيمات تجنبا من الجور عليهنّ ، وأن تتزوجوا بالنساء اللاتي لا تسمح مكانتهنّ الاجتماعية والعائلية بأن تجوروا عليهنّ ، وتظلموهنّ ، ويجوز لكم أن تتزوجوا منهنّ باثنتين أو ثلاث أو أربع ، غاية ما في الأمر حيث أنّ الخطاب هنا موجّه إلى عامّة المسلمين ، وكافتهم عبر بالمثنى ، والثلاث ، والرّباع إذ لا شك في أن تعدد الزوجات ـ بالشروط الخاصّة ـ لا يشمل أكثر من أربع نساء.

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٤٣٨ وتفسير المنار في تفسير هذه الآية.

٨٩

ولا بدّ من التنبيه إلى أن «الواو» هنا أتت بمعنى «أو» ، فليس معنى هذه الجملة هو أنّه يجوز لكم أن تتزوجوا باثنتين وثلاث وأربع ليكون المجموع تسع زوجات ، لأن المراد لو كان هذا لوجب أن يذكر ذلك بصراحة فيقول : وانكحوا تسعا لا أن يذكره بهذه الصورة المتقطعة المبهمة.

هذا مضافا إلى أنّ حرمة الزّواج بأكثر من أربع نسوة من ضروريات الفقه الإسلامي،وأحكامه القطعية المسلمة.

وعلى كلّ حال فإنّ الآية الحاضرة دليل صريح على جواز تعدد الزوجات. طبعا بشروطها التي سنذكرها قريبا.

ثمّ أنّه سبحانه عقب على ذلك بقوله :( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً ) أي التزوج بأكثر من زوجة إنّما يجوز إذا أمكن مراعاة العدالة الكاملة بينهنّ ، أمّا إذا خفتم أن لا تعدلوا بينهن ، فاكتفوا بالزوجة الواحدة لكي لا تجوروا على أحد.

ثمّ يقول :( أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) أي يجوز أن تقتصروا على الإماء اللاتي تملكونهنّ بدل الزوجة الثانية لأنهنّ أخف شروطا (وإن كن يجب أن يحظين ويتمتعن بما لهنّ من الحقوق أيضا).

ويقول :( ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا ) أي أن هذا العمل (وهو الاقتصار على زوجة واحدة أو الاقتصار على الإماء وعدم التزوج بزوجة حرّة ثانية) أحرى بأن يمنع من الظلم والجور ، ويحفظكم من العدوان على الآخرين (وسيكون لنا حديث مفصل عن الرّق في الإسلام عند تفسير الآيات المناسبة إن شاء الله).

ما هو المقصود من العدل بين الزوجات؟ :

قبل الخوض في بيان فلسفة تعدد الأزواج في الشريعة الإسلامية يجب أن يتّضح أوّلا المراد من العدل بين الأزواج الذي هو من شروط جواز التعدد ، فما هو المقصود من العدل هنا يا ترى؟

٩٠

أهي العدالة في الجوانب المادية كالمضاجعة وتوفير وسائل العيش وتحقيق الرّفاه والمتطلبات المعيشية؟ أم أنّ المراد أيضا هو العدالة في نطاق القلب والعواطف والأحاسيس الإنسانية؟ وبعبارة صريحة : العدالة في الحبّ والرغبة ، مضافا إلى العدالة في الجوانب المادية؟

لا شكّ أنّ مراعاة العدالة في الميل القلبي ، والحبّ ، والرغبة شيء خارج عن نطاق القدرة البشرية.

فمن ذا يستطيع أن يضبط حبّه من جميع الجوانب ، ويعطيه الحجم الذي يريد ، والحال أنّ موجباته وعوامله خارجة عن نطاق قدرته ، وإطار إرادته؟

ولهذا لم يوجب سبحانه مراعاة مثل هذه العدالة حيث قال سبحانه في الآية ١٢٩ من نفس هذه السّورة ـ النساء :( وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ) أي لا يمكنكم مهما أردتم أن تعدلوا بين الأزواج في الميل القلبي ، والحبّ والمودّة.

إذن فلا ضير في الحبّ والميل القلبي الذي لا يوجب تفضيل بعض الأزواج في المواقف العملية ، وعلى هذا الأساس فإن ما يجب على الرجل مراعاته هو العدالة بين أزواجه في الجوانب العملية الخارجية أي في نوع التعامل العملي خاصّة إذ يستحيل مثل هذه المراعاة في المجال العاطفي.

من هذا الكلام يتّضح بجلاء إن الذين أرادوا من ضمّ قوله تعالى :( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً ) إلى قوله تعالى في الآية (١٢٩) :( وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ) أن يستنتجوا حرمة تعدد الأزواج مطلقا بحجّة استحالة مراعاة العدالة بينهن قد وقعوا في خطأ كبير ، لأن العدالة المستحيلة مراعاتها ـ كما أسلفنا ـ هي العدالة في المجال العاطفي ، ـ وليس هذا من شرائط جواز التعدد في الأزواج ، بل إن من شرائط جوازه هو مراعاة العدالة في المجال العملي.

٩١

ويشهد بذلك ما جاء في ذيل الآية (١٢٩) من نفس هذه السّورة حيث يقول سبحانه :( فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ ) أي أنّكم إذ لا تقدرون على مراعاة المساواة الكاملة في محبّة الزوجات وودّهنّ ، فلا أقل أن لا تميلوا في حبّ بعض الأزواج ميلا شديدا يحملكم على أن تذروا التي لا تميلون إليها ، فلا هي ذات زوج ولا أيم.

وخلاصة القول ونتيجته ، هي أن الذين أمسكوا بقسم من هذه الآية ، ونسوا القسم الآخر وتورطوا في رفض تعدد الزوجات في خطأ يدهش كل محقق ، ويستغرب منه كل باحث.

أضف إلى ذلك أن مسألة جواز تعدد الأزواج بشرائطها على درجة من الثبوت والوضوح في الفقه الإسلامي ومصادره الشيعية والسنية بحيث لا يبقى مجال للجدل ، ولا محل للنقاش ، بل هو من ضروريات الفقه الإسلامي ومسلماته ، وبديهياته. ولنعطف عنان البحث الآن إلى معرفة فلسفة هذا القانون الإسلامي.

تعدد الزّوجات ضرورة اجتماعية :

لقد أجازت الآية الحاضرة تعدد الزوجات (ولكن بشرائط ثقيلة وفي حدود معينة) وقد أثارت هذه الإباحة جماعة ، فانطلقوا يوجهون إليها الاعتراضات والإشكالات ، وتعرض هذا القانون الإسلامي لهجمة كبيرة من المعارضين الذين تسرعوا في إصدار الحكم عن هذا القانون الإسلامي متأثرين بالأحاسيس ، ودون أن يتناولوه بالدرس والتمحيص ، والتأمل والتحقيق. وكان الغربيون أكثر هذه الجماعة معارضة لهذا القانون وهجوما عليه ، متسائلين كيف يجوز للإسلام أن يسمح للرجال أن يقيموا لأنفسهم حريما ويتخذوا زوجات متعددة على نحو ما كان شائعا في الجاهلية؟

٩٢

كلّا ، إنّ الإسلام لم يسمح لأحد بأن يقيم حريما بالمعنى الذي تصورتم ، ولا أنّه أباح تعدد الزوجات دون قيد أو شرط ، ودون حدّ أو قانون.

ولتوضيح هذه الحقائق نقول : إن دراسة البيئات المختلفة قبل الإسلام تكشف لنا أنّ تعدد الزوجات دونما عدد معين كان أمرا عاديا وشائعا ، لدرجة أنّ بعض الوثنيين أسلموا وتحت الرجل منهم عشر زوجات أو أقل ، من هنا لم تكن مسألة تعدد الزّوجات ممّا أبدعه الإسلام ، نعم إنّ ما فعله الإسلام هو وضع هذا الأمر في إطار الحاجة والضرورة الحيوية الإنسانية ، وتقييده بطائفة من القيود والشروط الثقيلة.

إنّ قوانين الإسلام وتشريعاته تدور على محور الحاجات الإنسانية ، وتقوم على أساس مراعاة الضرورات الحيوية في دنيا البشر ، لا الدعاية الظاهرة ولا المشاعر الموجهة توجيها غير صحيح ، ومسألة تعدد الزوجات من هذا القبيل أيضا ، فقد لوحظت هي الاخرى من هذه الزاوية ، لأنّه لا أحد يمكنه أن ينكر أنّ الرجال أكثر تعرضا من النساء لخطر الفناء والموت بسبب كثرة ما يحيط بهم من الحوادث ، المختلفة.

فالرجال يشكلون القسم الأكبر من ضحايا الحروب ، والمعارك.

كما أنّه لا يمكن إنكار أنّ أعمار الرجال من الناحية الجنسية أطول من أعمار النساء في هذا المجال ، فالنساء يفقدون القدرة الجنسية (والقدرة على الإنجاب) في سن معين من العمر قريب ، في حين يبقى الرجال متحفظين بهذه الطاقة والقدرة مدّة أطول بكثير.

كما أنّ النساء ـ في فترة العادة الشهرية وشيء من فترة الحمل ـ يعانين من موانع جنسية بصورة عملية في حين لا يعاني الرجل من أي مانع جنسي من هذا النوع.

هذا كلّه مضافا إلى أن هناك نساء يفقدون أزواجهنّ لبعض الأسباب ، فلا

٩٣

يتيسر لهن أن يجلبن اهتمام نظر الرجال إلى أنفسهن كزوجة أولى ، فإذا لم يسمح بتعدد الزوجات ، وجب أن تبقى تلك النسوة بلا أزواج ، كما نقرأ ذلك في الصحف المختلفة حيث يشكو هذا النوع من النساء الأرامل من صعوبات الحياة ومشكلات العيش بسبب تحديد مسألة تعدد الأزواج أو إلغائها بالمرّة ، وحيث يعتبرن المنع من التعدد نوعا من القوانين الظالمة الجائرة والمعادية لهنّ.

بالنظر إلى هذه الحقائق ، وعند ما يضطرب التوازن بين عدد النساء والرجال نجد أنفسنا مضطرين لأن نختار أحد طرق ثلاث هي :

١ ـ أن يقنع كل رجل بزوجة واحدة فقط في جميع الحالات والموارد ، ويبقى العدد الإضافي من النساء بلا أزواج إلى آخر أعمارهن ، ويكبتن حاجاتهنّ الفطرية ويقمعن غرائزهنّ الباطنية الملتهبة.

٢ ـ أن يتزوج الرجل بامرأة واحدة بصورة مشروعة ثمّ يترك حرّا لإقامة علاقات جنسية مع من شاء وأراد من النساء اللائي فقدن أزواجهن لسبب وآخر على غرار اتّخاذ الأخدان والعشيقات.

٣ ـ أن يسمح لمن يقدر أن يتزوج بأكثر من واحدة ولا يقع في أية مشكلة من الناحية «الجسمية» و «المالية» و «الخلقية» من جراء هذا الأمر ، كما ويمكنه أن يقيم علاقات عادلة بين الزوجات المتعددة وأولادهن ، أن يسمح لهم بأن يتزوجوا بأكثر من واحدة (على أن لا يتجاوز عدد الأزواج أربعا) ، وهذه هي ثلاث خيارات وطرق لا رابع لها.

وإذا أردنا اختيار الطريق الأوّل يلزم أن نعادي الفطرة والغريزة البشرية ، ونحارب جميع الحاجات الروحية والجسمية لدى البشر ، ونتجاهل مشاعر هذه الطّائفة من هذه النّسوة،هذه الحرب والمعركة التي لن يكون فيها أي انتصار ، وحتى لو نجح هذا الطرح وكتب له التوفيق ، فإن ما فيها من الجوانب اللاإنسانية أظهر من أن تخفى على أحد.

٩٤

وبعبارة أخرى أن تعدد الزوجات في الموارد الضرورية يجب أن لا ينظر إليه أو يدرس من منظار الزوجة الأولى ، بل يجب أن يدرس من منظار الزوجة الثانية أيضا.

إنّ الذين يعالجون هذه المسألة وينظرون إلى خصوص مشاكل الزوجة الأولى في صورة تعدد الزوجات هم أشبه بمن يطالع مسألة ذات زوايا ثلاث من زاوية واحدة ، لأن مسألة تعدد الزوجات ذات ثلاث زوايا ، فهي يجب أن تطالع من ناحية الرجل ، ومن ناحية الزوجة الأولى ، ومن ناحية الزوجة الثانية أيضا ، ويجب أن يكون الحكم بعد ملاحظة كل هذه الزوايا في المسألة ، ويتمّ على أساس مراعاة مصلحة المجموع في هذا الصعيد.

وإذا اخترنا الطريق الثاني وجب أن نعترف بالفحشاء والبغاء بصورة قانونية ، هذا مضافا إلى أن النساء العشيقات اللائي يجعلن أنفسهنّ في متناول هؤلاء الرجال لإرواء حاجتهم الجنسية يفتقدن كل ضمانة وكل مستقبل ، ويعني ذلك سحق شخصيتهنّ سحقا كاملا ـ في الحقيقة ـ إذ يصبحن حينئذ مجرد متاع يقتنى عند الحاجة ويترك عند ارتفاعها دون التزام ومسئولية ، ولا شك أن هذه الأمور ممّا لا يسمح به أي عاقل مطلقا.

وعلى هذا الأساس لا يبقى إلّا الطريق الثالث ، وهو الطريق الذي يلبي الحاجات الفطرية والغريزية للنساء ، كما أنه يجنب هذه الطائفة من النساء ويحفظهنّ من عواقب الفحشاء والانزلاق إلى الفساد ، وبالتالي ينقذ المجتمع من مستنقع الآثام والذنوب.

على أن من الواجب أن نلتفت إلى أنّ السماح بتعدد الزوجات مع أنّه ضرورة اجتماعية في بعض الموارد ومع أنّه من أحكام الإسلام القطعية ، إلّا أن توفير شرائطه يختلف اختلافا كبيرا عن الأزمنة الماضية ، لأن الحياة كانت في العصور

٩٥

السابقة ذات نمط بسيط ومواصفات سهلة ، ولهذا كانت رعاية المساواة والعدالة بين الزوجات المتعددات أمرا ممكنا وميسرا لأكثر الناس ، في حين يجب على الذين يريدون الأخذ بهذا القانون الإسلامي في هذا العصر أن يراعوا مسألة العدالة من جميع الجوانب ، وأن يقدموا على هذا الأمر إذا كانوا قادرين على الوفاء بجميع شروطه.

وبالجملة يجب أن لا يقدم أحد على هذا العمل بدافع الهوى والهوس.

هذا والملفت للنظر هنا هو أن الذين يعارضون مبدأ تعدد الزوجات (كالغربيين) قد واجهوا طوال تأريخهم ظروفا ألجأتهم إلى هذا المبدأ بصورة واضحة.

ففي الحرب العالمية الثانية برزت حاجة شديدة في البلاد التي تعرضت لويلات الحرب هذه وبالأخص ألمانيا ، إلى هذا الموضوع مما دفع بطائفة من المفكرين في سياق البحث عن حلّ لهذه المشكلة إلى إعادة النظر في مسألة المنع عن تعدد الزوجات ، إلى درجة أنّهم طلبوا من الجامع «الأزهر» بالقاهرة البرنامج الإسلامي حول تعدد الزوجات للدراسة ، ولكنهم اضطروا ـ وتحت ضغوط شديدة من جانب الكنائس ـ إلى التوقف عن المضي في دراسة هذا البرنامج ، وكانت النّتيجة هو تفشي الفحشاء والفساد الجنسي الشديدين في جميع البلاد التي تعرضت للحرب وويلاتها.

هذا بغض النظر عن أنّه لا يمكن إنكار ما يحس به طائفة من الرجال من الميل إلى اتّخاذ زوجات متعددة ، فإن كان هذا الميل والرغبة ناشئين من الهوى والهوس لم يكن جديرا بالنظر ، أمّا إذا كانا ناشئين عن عقم الزوجة عن إنجاب الأولاد من جانب ، ورغبة الرجل الشديدة في الحصول على أبناء له ـ كما هو الحال في كثير من الموارد ـ من جانب آخر ، فهو ميل ورغبة منطقيان وجديران

٩٦

بالاهتمام والرعاية.

كما أنّه لو كانت الرغبة في تعدد الزوجات ناشئة من الميل الجنسي الشديد لدى الرجل وعدم قدرة الزوجة الأولى على تلبية هذا الميل كما ينبغي ، ولهذا يرى الرجل نفسه مضطرا إلى اتخاذ زوجة ثانية حتى لا يقدم على إشباع هذه الحاجة من طريق غير مشروع لإمكان إشباعه من طريق مشروع ، وفي هذه الصورة أيضا لا يمكن إنكار منطقية هذا الميل لدى الرجل ، ولهذا تكون إقامة العلاقات مع النساء المتعددات أمرا رائجا عمليا حتى في البلاد التي تحظر تعدد الزوجات ، فيعقد الرجل الواحد علاقات غير مشروعة مع نساء عديدات.

إن المؤرخ الفرنسي المعروف «غوستاف لوبون» يعتبر قانون تعدد الزوجات الذي يقرّه الإسلام ضمن حدود وشروط خاصّة ـ من مزايا هذا الدين ، ويكتب عند المقارنة بينه وبين طريقة العلاقات الجنسية الحرّة غير المشروعة الرائجة في الغرب قائلا : «وفي الغربحيث الجو والطبيعة لا يساعدان على تعدد الزوجات ، وبرغم أنّ القوانين الغربية تمنع التعدد، ولكن الغربيين قلما تقيدوا بهذه القوانين وخرقوها بعلاقاتهم السرّية الآثمة.

ولا أرى سببا لجعل مبدأ تعدد الزوجات الشرعي عند الشرقيين أدنى مرتبة من مبدأ تعدد الزوجات السري عند الأوروبيين ، بل أرى ما يجعله أسنى منه»(١)

طبعا لا يمكننا إنكار أنّ هناك بعض أدعياء الإسلام ممن يستخدمون هذا القانون الإسلامي من دون مراعاة الروح الإسلامية فيه فيتخذون حريما كلّه فساد وفجور ويتعدون على حقوق أزواجهم ، بيد أنّ هذا ليس هو عيب في هذا القانون الإسلامي ولا يجوز اعتبار أعمالهم القبيحة وأفعالهم الرخيصة هذه من الإسلام ، فهي ليست من أحكام الإسلام في شيء. ترى أي حكم أو قانون جيد

__________________

(١) حضارة العرب ، ص ٣٩٨.

٩٧

من الأحكام والقوانين لم يستغله النفعيون والمصلحيون استغلالا سيئا؟

سؤال

ثمّ إنّ هاهنا من يسأل أنّه قد تتوفر الشرائط والكيفيات المذكورة أعلاه بالنسبة إلى امرأة أو نساء ، فهل يجوز أن نسمح لها أن تختار لنفسها زوجين كما نسمح للرجال ذلك؟

الجواب

إنّ الجواب على هذا السؤال ليس صعبا كما يمكن أن يتصور ، وذلك :

أوّلا : إنّ الرغبة الجنسية لدى الرجال (على خلاف ما هو شائع بين السواد من الناس) أقوى وأشدّ بأضعاف من النساء ، وأن المرض النفسي الذي تصرّح به أكثر الكتب النفسية والطبية هو «البرود الجنسي» لدى المرأة في حين أن الأمر في الرجال هو العكس،ولا يقتصر هذا الأمر على البشر ، ففي عالم الحيوانات كذلك نجد ذكورها أسبق إلى إظهار الميول الجنسية من إناثها.

ثانيا : إنّ تعدد الزوجات للرجال لا ينطوي على أية مشاكل اجتماعية وحقوقية ، في حين أنّ السماح بتعدد الأزواج للنساء (أي لو أنّنا سمحنا لامرأة أن تتزوج برجلين) يسبب مشاكل كثيرة أبسطها هو ضياع النسب ، إذ لا يعرف في هذه الصورة إلى من ينتسب الولد ، ولا شك أن مثل هذا الولد المجهول الأب لن يحظى باهتمام أي واحد من الرجال ، بل ويعتقد بعض العلماء أن الولد المجهول الأب قلّما يحظى حتى بحبّ الأمّ واهتمامها به ، وبهذه الصورة يصاب الولد الناشئ من مثل المرأة ذات الزوجين بحرمان مطلق من الناحية العاطفية،كما أنّه يكون ـ بطبيعة الحال ـ مجهول الحال من الناحية الحقوقية أيضا.

ولعلّه لا يحتاج إلى التذكير بأن التوسل بوسائل منع الحمل للحيلولة دون انعقاد النطفة، وحصول ولد لا يورث الاطمئنان مطلقا ، ولا يكون دليلا قاطعا

٩٨

على عدم حمل الزوجة بولد ، لأن ثمّة كثيرا من النساء يستخدمن هذه الوسائل، أو يخطئن في استخدامها فيلدن وينجبن أولادا ، ولهذا لا يمكن لأية امرأة أن تسمح لنفسها بأن تتزوج بأكثر من رجل اعتمادا على هذه الوسائل.

لهذه الأسباب لا يمكن أن يكون السماح للمرأة بتعدد الأزواج أمرا منطقيا ، في حين أنّه بالنسبة للرجال ـ ضمن الشروط المذكورة سابقا ـ أمر منطقي ، وعملي أيضا.

* * *

٩٩

الآية

( وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً(٤) )

التّفسير

«النّحلة» في اللغة تعني الدّين ، كما أنّها بمعنى العطية أيضا ، يقول الرّاغب الأصفهاني في مفرداته : «واشتقاقه فيما أرى أنه من النحل نظرا منه إلى فعله فكان نحلته أعطيته النحل».

و «صدقاتهن» جمع الصداق وهي بمعنى المهر والآية الحاضرة التي جاءت بعد البحث المطروح في الآية السابقة حول انتخاب الزّوجة تتضمن إشارة إلى إحدى حقوق النساء المسلّمة ، وتؤكّد قائلة :( وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً ) أي أعطوا المهر للزوجة كمّلا واهتموا بذلك كما تهتمون بما عليكم من ديون فتؤدونها كاملة دون نقص (وفي هذه الصورة نكون قد أخذنا لفظة النّحلة بمعنى الدّين).

وأمّا إذا أخذنا لفظة النّحلة بمعنى العطية والهبة فيكون تفسير الآية المذكورة بالنحو التالي : «أعطوا النساء كامل مهرهنّ الذي هو عطية من الله لهنّ لأجل أن يكون للنساء حقوق أكثر في المجتمع وينجبر بهذا الأمر ما فيهنّ من ضعف

١٠٠

جسمي نسبي».

ثمّ بعد أن يأمر الله سبحانه ـ بصراحة ـ في مطلع الآية بأن تعطى للنساء مهورهن كاملة ودون نقصان حفظا لحقوقهنّ ، يعمد في ذيل هذه الآية إلى بيان ما من شأنه احترام مشاعر كلا الطرفين ، ومن شأنه تقوية أواصر الودّ والمحبّة والعلاقة القلبية ، وكسب العواطف إذ يقول :( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ) أي لو تنازلت الزوجة عن شيء من المهر ووهبته للزوج عن طيب نفسها جاز للزوج أكل الموهوب له ، وإنّما أقرّ الإسلام هذا المبدأ لكيلا تكون البيئه العائلية والحياة الزوجية ميدانا لسلسلة من القوانين والمقررات الجافة ، بل يكون مسرحا للتلاقي العاطفي الإنساني ، وتسود في هذه الحياة المحبّة جنبا إلى جنب مع المقررات والأحكام الحقوقية المذكورة.

الصّداق دعامة اجتماعية للمرأة :

لمّا كانت المرأة ـ في العصر الجاهلي ـ لم تحظ بأية قيمة أو مكانة كان الرجل إذا تزوج امرأة ترك أمر صداقها ـ الذي هو حقها المسلّم ـ إلى أوليائها ، فكان أولياؤها يأخذون صداقها ، ويعتبرونه حقّا مسلّما لهم لا لها ، وربّما جعلوا التزوج بامرأة صداقا لامرأةأخرى ، مثل أن يزوج الرجل أخته بشخص على أن يزوج ذلك الشخص أخته بذلك الرجل ، وكان هذا هو صداق الزوجتين.

ولقد أبطل الإسلام كل هذه التقاليد والأعراف الظالمة ، واعتبر الصداق حقّا مسلّما خاصا بالمرأة ، وأوصى الرجال مرّات عديدة وفي آيات الكتاب العزيز برعاية هذا الحق للمرأة.

على أنه ليس للصداق حدّ معين في الإسلام ، فهو أمر يتبع اتفاق الزوجين ، وإن تأكد في روايات كثيرة على التخفيف في المهور ، ولكن هذا لا يكون حكما إلزاميا ، بل هو أمر مستحب.

١٠١

وهاهنا ينطرح هذا السؤال ، وهو إذا كان الرجل والمرأة يستفيدان من الزواج بشكل متساو ، وكانت رابطة الزوجية قائمة على أساس مصالح الطرفين فلما ذا يجب على الرجل أن يدفع مبلغا ـ قليلا أو كثيرا ـ إلى المرأة بعنوان الصداق والمهر؟ ثمّ ألا ينطوي هذا الأمر على إساءة إلى شخصية المرأة ، ألا يسبغ هذا الأمر صبغة البيع والشراء على مشروع الزواج؟

إنّ هذه الأمور هي التي تدفع بالبعض إلى أن يعارضوا بشدّة مبدأ المهر ومسألة الصداق ، ويقوى هذا الاتجاه لدى المتغربين خاصّة ما يجدونه من عدم الأخذ بهذا المبدأ في الزيجات الغربية ، في حين أن حذف الصداق والمهر من مشروع الزواج ليس من شأنه رفع شخصية المرأة فقط ، بل يعرض وضعها للخطر.

وتوضيح ذلك هو ، أنّه صحيح أنّ المرأة والرجل يستفيدان من مشروع الزواج ، وإقامة الحياة الزوجية على قدم المساواة ، ولكن لا يمكن إنكار أنّ الأكثر تضررا لدى افتراق الزوج عن زوجته هي المرأة ، وذلك :

أوّلا : إنّ الرجل ـ بحكم قابلياته الجسدية الخاصّة ـ يمتلك ـ عادة ـ سلطانا ونفوذا وفرصا أكثر في المجتمع ، وهذه هي حقيقة ساطعة مهما حاول البعض إنكارها عند الحديث حول المرأة ، ولكن الوضع الاجتماعي وحياة البشر ـ حتى في المجتمعات الغربية والأوروبية التي تحظى فيها النساء بما يسمّى بالحرّية الكاملة ترينا بوضوح ـ وكما هو مشهود للجميع ـ إنّ الفرص وأزمة الأعمال المربحة جدّا هي في الأغلب في أيدي الرجال.

هذا مضافا إلى أنّ أمام الرجال إمكانيات أكثر لاختيار الزوجات ، وإقامة حياة عائلية جديدة بينما لا تتوفر مثل هذه الإمكانيات للمرأة ، فإن النساء الثيبات ـ خاصّة تلك التي يصبن بهذه الحالة بعد مضي شطر من أعمارهنّ ،

١٠٢

وفقدان شبابهنّ وجمالهنّ ـ يمتلكن فرصا أقل للحصول على أزواج لهنّ.

بملاحظة هذه النقاط يتضح أنّ الإمكانات التي تخسرها المرأة بالزواج أكثر من الإمكانات التي يفقدها الرجل بذلك ، ويكون الصداق والمهر ـ في الحقيقة ـ بمثابة التعويض عن الخسارة التي تلحق بالمرأة ، ووسيلة لضمان حياتها المستقبلية ، هذا مضافا إلى أنّ المهر والصداق خير وسيلة رادعة تردع الرجل عن التفكير في الطلاق والإفتراق.

صحيح أنّ المهر ـ في نظر القوانين الإسلامية يتعلق بذمّة الرجل من لحظة انعقاد الرابطة الزوجية وقيامها بين الرجل والمرأة ، ويحق للمرأة المطالبة به فورا ، ولكن حيث أن الغالب هو أن يتخذ الصداق صفة الدّين المتعلق في الذمّة يكون لذلك بمثابة توفير للمرأة تستفيد منه في مستقبلها ، كما يعتبر خير دعامة لحفظ حقوقها ، إلى جانب أنه يساعد على حفظ الرابطة الزوجية من التبعثر والتمزق (طبعا هناك استثناءات لهذا الموضوع ، ولكن ما ذكرناه صادق في أغلب الموارد).

وأمّا تفسير البعض لمسألة المهر بنحو خاطئ ، واعتبار الصداق أنّه من قبيل ثمن المرأة فلا يرتبط بالقوانين الإسلامية ، لأن الإسلام لا يعطي للصداق الذي يقدمه الرجل إلى المرأة صفة الثمن كما لا يعطي المرأة صفة البضاعة القابلة للبيع والشراء ، وأفضل دليل على ذلك هو صيغة عقد الزواج الذي يعتبر فيه الرجل والمرأة كركنين أساسيين في الرابطة الزوجية ، في حين يقع الصداق والمهر على هامش هذا العقد ، ويعتبر أمرا إضافيا ، بدليل صحّة العقد إذا لم يرد في صيغة البيع والشراء وغير ذلك من المعاملات المالية إذ بدونه تبطل هذه المعاملات (طبعا لا بدّ من الانتباه إلى أن على الزوج ـ إذا لم يذكر الصداق ضمن عقد الزواج ـ أن يدفع إلى المرأة مهر المثل في صورة الدخول بها).

١٠٣

من كلّ ما قيل نستنتج أنّ المهر بمثابة جبران للخسارة اللاحقة بالمرأة ، وبمثابة الدعامة القوية التي تساعد على احترام حقوق المرأة ، لا أنّه ثمن المرأة ، ولعل التعبير بالنّحلة التي هي بمعنى العطية في الآية إشارة إلى هذه النقطة.

* * *

١٠٤

الآيتان

( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (6) )

التّفسير

الآيات الحاضرة تكملة للأبحاث المرتبطة باليتامى ، التي مرّت في الآيات السّابقة.

يقول الله سبحانه :( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) بل انتظروا رشدهم ، ونضجهم في المسائل الاقتصادية لكي لا تتعرض أموالكم للتلف والفناء.

من هو السّفيه؟ :

قال الرّاغب في المفردات : «السّفه خفّة في البدن (يحصل بسببها عدم التعادل في المشي) ومنه قيل زمام سفيه أي كثير الاضطراب ، واستعمل في خفّة

١٠٥

النفس لنقصان العقل في الأمور الدّنيوية ، والأخروية».

ولكنّ من الواضح أنّ المراد من السّفه في الآية الحاضرة هو عدم الرشد اللازم في الأمور الاقتصادية بحيث لا يستطيع الشخص من تدبير شؤونه الاقتصادية وإصلاح ماله على الوجه الصحيح ، ولا يتمكن من ضمان منافعه في المبادلات والمعاملات المالية ، أي أنّه عرضة للغبن والضرّر ، ويدل على هذا المعنى ما جاء في الآية الثانية إذ يقول سبحانه :( فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ) .

وعلى هذا الأساس فإنّ الآية الحاضرة وإن كانت تبحث حول اليتامى ، لكنّها تتضمّن حكما كليا وقانونا عامّا لجميع الموارد ، وهو أنّه لا يجوز لأحد مطلقا أن يعطي أموال من يتولى أمره ، أو ترتبط به حياته بنوع من الارتباط ، إليه إذا كان سفيها غير رشيد ، ولا فرق في هذا الحكم بين الأموال الخاصّة والأموال العامّة (وهي أموال الحكومة الإسلامية) ويشهد على هذا الموضوع ـ مضافا إلى سعة مفهوم الآية ـ وخاصّة كلمة «السّفيه» روايات منقولة عن أئمّة الدين في هذا الصدد.

ففي رواية عن الإمام الصّادقعليه‌السلام نقرأ أنّ شخصا يدعى إبراهيم بن عبد الحميد يقول : سألت أبا عبد الله عن قول الله :( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) قال : «كلّ من يشرب المسكر فهو سفيه(1) فلا تعطوهم أموالكم».

وفي رواية أخرى نجد النهي عن اختيار شارب الخمر لجعله أمينا على الأموال.

وخلاصة القول أنّنا نجد توصيف شارب الخمر بالسفه في أحاديث كثيرة وموارد متعددة ، وهذا التعبير إنّما هو لأن شارب الخمر فقد رأس ماله المادي ورأس ماله المعنوي ، وأي سفيه أشدّ من أن يعطي الإنسان ماله ، وعقله أيضا ،

__________________

(1) تفسير البرهان ، ج 1 ، في ذيل هذه الآية.

١٠٦

ويبتاع الجنون ويضحي في هذا السبيل بكل طاقاته البدنية والروحية ، ويتسبب في أضرار اجتماعية كثيرة وكبيرة.

ثمّ أنّنا نلاحظ أن رواية أخرى تصف كلّ من لا يوثق به بالسفيه ، وتنهي من تسليم الأموال الخاصّة والعامّة إليه ، فعن يونس بن يعقوب قال : سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن قوله:( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) قال : «من لا تثق به(1) ».

ومن هذه الرّوايات يتبيّن أنّ للفظة السفيه معنى واسعا ، وأن النهي يشمل تسليم الأموال الخاصّة والعامّة إليهم ، غاية ما في الأمر أن هذا النهي يكون في بعض الموارد نهي تحريم ، وفي بعض الموارد الاخرى التي لا تشتد فيها درجة السفه يكون نهي كراهة.

وهنا ينطرح سؤال وهو ، إذا كانت هذه الآية في مورد أموال اليتامى فلما ذا قال تعالى:( أَمْوالَكُمُ ) ولم يقل «أموالهم»؟

يمكن أن تكون النكتة والسرّ في هذا التعبير هو بيان مسألة اجتماعية واقتصادية مهمّة في المقام وهي أن الإسلام يعتبر الأفراد في المجتمع بمثابة فرد واحد بحيث لا يمكن أن تنفصل مصالح فرد عن مصالح الآخرين ، وهكذا تكون خسارة فرد عين خسارة الآخرين ، ولهذا السبب أتى القرآن في هذا المقام بضمير المخاطب بدل ضمير الغائب إذ قال : «أموالكم» ولم يقل «أموالهم» ، يعني أنّ هذه الأموال ـ في الحقيقة ـ ليست مرتبطة باليتامى فقط،بل هي مرتبطة بكم أيضا ، فإذا لحق بها ضرّر ، يكون ذلك الضرّر قد لحق بكم بصورة غير مباشرة أيضا ، ولهذا يجب أن تحرصوا في حفظها كل الحرص.

ثمّ إنّ هناك تفسيرا آخر لهذا التعبير وهو أن المقصود من «أموالكم» ، هو أموال نفس الأولياء لا أموال اليتامى ، فيكون المعنى إذا أردتم مساعدة الأيتام الذين لم يرشدوا ربّما أعطيتهم شيئا من أموالكم ـ تحت تأثير العاطفة والإشفاق

__________________

(1) تفسير البرهان ، ج 1 ، ذيل الآية المبحوثة وهكذا في تفسير نور الثقلين.

١٠٧

ـ إليهم ، واخترتموهم لبعض الأعمال التي لا يقدرون عليها فلا تفعلوا ذلك ، بل عليكم أن تعملوا شيئا آخر مكان هذا العمل الغير العقلائي ، وهو أن تقوموا بالإنفاق على مأكلهم وملبسهم ومسكنهم حتى يبلغوا سن الرشد ، فإذا بلغوا هذه المرتبة ، وحصلت لديهم البصيرة الكافية أعطوهم ما شئتم ، وانتخبوهم لما تريدون من الأعمال.

وهذا في الواقع درس اجتماعي كبير يعلمه القرآن لنا حيث ينهانا عن تشغيل من لا يقدر على بعض الأعمال فيها ، وذلك بدافع مساعدتهم وتحت تأثير الإشفاق والعاطفة،لأن هذه الأعمال وإن كانت تنطوي على بعض الأرباح القليلة ، ولكنّها من الممكن أن تجرّ على المجتمع أضرارا وويلات كبيرة ، فلا بدّ إذن من إدارة أمور هذه الطائفة من المجتمع عن طريق تقديم المساعدات الغير المعوضة إليهم أو تشغيلهم في أمور سهلة وصغيرة.

من هنا يتّضح أنّ بعض قاصري النظر يختارون الضعفاء والقصر لبعض المسؤوليات التبليغية والدينية إرفاقا بهم وإشفاقا عليهم وهذا لا شك من أضرّ الأعمال ، وأكثرها بعدا عن العقل والمنطق الصحيح.

أموالكم قوام لكم :

ثمّ أنّ القرآن الكريم يصف الأموال المذكورة في مطلع الآية الحاضرة بقوله :( الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً ) هو تعبير جميل ورائع جدا عن الأموال والثّروات ، فهي قوام الحياة الناس والمجتمع ، وبدونها لا يمكن للمجتمع الوقوف على قدميه ، فلا يصحّ إعطاؤها إلى السفهاء والمسرفين الذين لا يعرفون إصلاحها ، بل ربّما أفسدوها وأتلفوها وألحقوا بسبب ذلك أضرارا كبيرة بالمجتمع.

ومن هذا التعبير نعرف جيدا ما يوليه الإسلام من الاهتمام بالأمور والشؤون الاقتصادية والمالية ، وعلى العكس نقرأ في الإنجيل الحاضر : «فقال يسوع

١٠٨

لتلاميذه : الحق أقول لكم أنّه يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت السماوات»(1) في حين يرى الإسلام أنّ الأمّة الفقيرة لا تستطيع أبدا الوقوف على قدميها. وأنّه لعجيب أن نرى تلك الطائفة بلغت إلى ما بلغت من المراتب في عالمنا الراهن في حقول التقدم الاقتصادي مع ما هم عليه من التعاليم الخاطئة ، في حين نعاني من هذا الوضع المأسوي مع ما نملك من التعاليم الحيوية العظيمة.

غير أنّه لا داعي للعجب ، فهم تركوا تلك الخرافات والأضاليل ـ في الحقيقة ـ فوصلوا إلى ما وصلوا ، بينما تركنا نحن هذه التعاليم الراقية فوقعنا في هذه الحيرة ، والتخلف.

تعليمان في شأن اليتامى :

ثمّ أن الله سبحانه يأمر ـ في شأن اليتامى ـ بأمرين مهمين هما :

أوّلا : رزق اليتامى وإكسائهم من أموالهم حتى يبلغوا سن الرشد إذ يقول :( وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) .

والجدير بالنظر هو أنّ الله تعالى عبّر في هذه الآية بلفظة «فيها» أي في أموال اليتامى لا «منها» أي من أموالهم إذ المفهوم من هذا التعبير هو أن تدبير شؤون اليتامى والإنفاق عليهم يجب أن يتمّ من أرباح أموالهم ، إذ لو قال سبحانه : وارزقوهم منها لفهم من ذلك أنّ على الولي أن يقتطع من أصل أموالهم شيئا فشيئا ، وهذا يعنى أن يفقد اليتامى شيئا كبيرا من أموالهم حينما يبلغون ويصلون إلى سن الرشد ، ولكن القرآن الكريم باستبداله لفظة «منها» بلفظة «فيها» يكون قد أوصى أولياء اليتامى بأن يحرصوا كلّ الحرص على أموال اليتامى ، ويحاولوا الإنفاق من أرباح رؤوس أموالهم وذلك باسترباح هذه الأموال واستثمارها ولو بقدر نفقات اليتامى كيما تبقى هذه الأموال على حالها حين بلوغهم سن الرشد.

__________________

(1) إنجيل متى الإصحاح ، 19 ـ 23.

١٠٩

ثانيا : مخاطبة اليتامى والتكلم معهم بقول طيب ورقيق إذ قال سبحانه :( وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) كيما يزيلوا بمثل هذا القول المعروف ما يشعر به اليتامى من نقصان روحي وعقد نفسية ، كما يساعدوا بذلك على ترشيدهم وبلوغهم حدّ الرشد العقلي ، حتى يتمتعوا عند البلوغ بالرشد العقلي اللازم ، وبهذا الطريق يكون بناء شخصية اليتيم وترشيده عقليا من وظائف الأولياء ومسئولياتهم أيضا.

تعليم آخر في شأن اليتامى وأموالهم :

هاهنا تعليم آخر في شأن اليتامى وأموالهم ، إذ يقول سبحانه :( وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ ) فإذا بلغوا سن الرشد الذي آنستم فيه قدرتهم على إدارة أموالهم والتصرف فيها بنحو معقول فأعطوهم أموالهم :( فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ) وها هنا نقاط لا بدّ من الالتفات إليها.

1 ـ إنّه يستفاد من التعبير بـ «حتى» أنّه يجب اختبار اليتامى قبل بلوغ سنّ النكاح ، وأن يتمّ هذا الأمر بصورة مستمرة ومتكررة حتى يعرف بلوغهم حدّ النكاح ويتبيّن أنّهم بلغوا الحدّ اللازم من الرشد العقلي اللازم لإدارة الأمور المالية على الوجه الصحيح.

كما أنّه يستفاد ـ ضمنا ـ أنّ المراد من الاختبار والابتلاء هو التربية التدريجية والمستمرة لليتامى ، وهذا يعني أن لا تتركوا اليتامى وتهملوهم حتى يبلغوا سن الرشد ثمّ تعمدوا إلى إعطائهم أموالهم ، بل لا بدّ أن تهيئوهم ـ قبل البلوغ ـ للحياة المستقلة وذلك بالبرامج التربوية العملية.

وأمّا أنّه كيف يمكن اختبار اليتيم فطريقه هو أن يعطى مقدارا من المال ، فيتّجر به ويشتري ويبيع مع نظارة الولي بنحو لا يسلب اليتيم استقلاله فإذا تبيّن أنّه قادر على الاتجار والتعامل كما ينبغي ومن دون أن يغبن ، وجب تسليم أمواله

١١٠

إليه وإلّا فلا بدّ أن تستمر تربيته وإعداده حتى يبلغ تلك الدرجة التي يستطيع فيها أن يستقل بإدارة شؤونه وتدبير معيشته ، وأخذ زمام حياته المستقبلية بيده.

2 ـ إنّ التعبير بجملة( إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ ) إشارة إلى أن الرشد المطلوب هو أن يبلغ اليتيم إلى درجة القدرة على الزواج ، وواضح أن الذي يقدر على الزواج لا بدّ أنّه يقدر على تشكيل عائلة ، ولا شك أنّ الإنسان بدون امتلاكه لرأس مال لا يتوصل إلى أهدافه ، ولهذا فإن بداية الحياة العائلية تتزامن مع بداية الحياة الاقتصادية المستقلة.

وبعبارة أخرى أنّ الثروة لا تعطى إليهم إلّا عند ما يصلون إلى البلوغ الجسمي، فيحتاجون إلى المال بشدّة ويصلون إلى البلوغ الفكري ، ويتمكنون من المحافظة على أموالهم في وقت واحد.

3 ـ إنّ التعبير بجملة( آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً ) إشارة إلى أنّه يجب أن يتأكد من رشدهم ، لأنّ الإيناس بمعنى المشاهدة والرؤية وهذه المادة مشتقة من مادة «الإنسان» الذي في معانيه ناظر العين وعدستها التي بها تبصر (والرؤية إنّما تتمّ بالاستعانة من إنسان العين ـ في الحقيقة ـ ولهذا عبر عن المشاهدة بالإيناس).

ثمّ أنّه سبحانه قال :( وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا ) وهو تأكيد آخر للأولياء بأن لا يسلموا الأموال إلى اليتامى قبل أن يكبروا بأن يحافظوا على أموال اليتامى ولا يتلفوها أبدا.

ثمّ أنه تعالى يردف هذا التأكيد بقوله :( وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) وبهذا أذن الله تعالى للأولياء بأن يأخذوا لأنفسهم من أموال اليتامى لقاء ما يتحملون من أتعاب في حفظها ، وحراستها ، على أن يراعوا جانب العدل والإنصاف فيما يأخذونه بعنوان الأجرة ، هذا إذا كان الولي فقيرا ، أما إذا كان غنيّا فلا يأخذ من مال اليتيم شيئا أبدا.

وقد وردت في هذا الصدد كذلك روايات توضح وتبيّن ما أشير إليه من

١١١

مضمون الآية.

ومن هذه الأحاديث ما روي عن الإمام الصّادقعليه‌السلام إذ قال : «فذلك رجل يحبس نفسه عن المعيشة ، فلا بأس أن يأكل بالمعروف إذا كان يصلح لهم فإن كان المال قليلا (ولا يستغرق ذلك وقتا كبيرا) طبعا فلا يأكل منه شيئا».(1)

ثمّ يقول سبحانه :( فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ) لكي لا يبقى أي مجال للاتهام والتنازع ، وهذا هو آخر حكم في شأن الأولياء واليتامى جاء ذكره في هذه الآية.

واعلموا أنّ الحسيب الواقعي هو الله تعالى ، والأهم من ذلك هو أن حسابكم جميعا عنده لا يخفى عليه شيء أبدا ولا يفوته صغير ولا كبير فإذا بدرت منكم خيانة خفيت على الشهود فإنّه سبحانه سيحصيها عليكم ، وسوف يحاسبكم عليها ويؤاخذكم بها :( وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً ) .

* * *

__________________

(1) البرهان ، ج 1 ، ص 344 ، الحديث 9.

١١٢

الآية

( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) )

سبب النّزول

كانت العرب في الجاهلية تورث الذكور دون الإناث ، وكانوا يعتقدون أنّه لا يرث من لا يطاعن بالرماح ولا يقدر على حمل السلاح ، ولا يذود عن الحريم والمال ، ولهذا كانوا يحرمون النساء والأطفال عن الإرث ، ويورثون الرجال الأباعد ، ولو كان من الورثة من هو أقرب منهم.

حتى إذا مات أنصاري يدعى «أوس بن ثابت» وقد ترك صغارا من بنات وأولاد ، فاقتسم أبناء عمومته «خالد» و «عرفجة» أمواله بينهم ولم يورثوا زوجته وأولاده الصغار من تركته أبدا ، فشكت زوجته إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يكن في ذلك حكم إلى ذلك الحين ، فنزلت هذه الآية فاستدعى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذينك الشخصين ، وأمرهما بأن لا يتصرفا في أموال الأنصاري ، وأن يتركا تلك الأموال إلى ورثة الميت من الطبقة الأولى وهم زوجته وأولاده ، بانتظار أن تنزل آيات أخرى توضح كيفية تقسيمها بين هؤلاء الورثة.

١١٣

التّفسير

خطوة أخرى لحفظ حقوق المرأة :

هذه الآية ـ في الحقيقة ـ خطوة أخرى على طريق مكافحة العادات والأعراف الخاطئة التي تؤدي إلى حرمان الأطفال والنساء من حقوقهم المسلّمة الطبيعية ، وعلى هذا الأساس تكون هذه الآية مكملة للأبحاث التي مرّت في الآيات السابقة ، لأن العرب الجاهليين كانوا ـ حسب تقاليدهم وأعرافهم الظالمة ـ يمنعون النساء والصغار من حق الإرث ، ولا يسهمون لهم من المواريث ، فأبطلت هذه الآية هذا التقليد الخاطئ الظالم إذ قال سبحانه :( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ، وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ ) .

ثمّ قال سبحانه في ختام هذه الآية بغية التأكيد على الموضوع( نَصِيباً مَفْرُوضاً ) حتى يقطع الطريق على كل تشكيك أو ترديد في هذا المجال.

ثمّ أنّ الآية الحاضرة ـ كما هو ملاحظ ـ تذكر حكما عامّا ، وشاملا لجميع الموارد،ولهذا فإن ما يتصوره البعض من أنّ الأنبياء لا يورثون ، أي أنّهم إذا تركوا شيئا من ثروة ومال لم يرثهم أقرباؤهم ، خلاف الآية (طبعا المقصود من الأموال التي يتركها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي تلك الأموال الخاصّة به ، وأمّا الأموال المتعلقة ببيت المال الذي هو من حق المسلمين عامّة ، فالحكم الإسلامي فيها هو صرفها في مواردها.

كما أنّه يتبيّن من إطلاق الآية الحاضرة والآيات الاخرى التي تأتي في ما بعد حول الإرث أنّ القول بالتعصيب (وهو إعطاء شيء من التركة إلى عصبة الميت وهم من ينتسبون إليه من طرف الأب ، وذلك في بعض الموارد كما يذهب إليه علماء السنة) يخالف هو أيضا ما جاء به القرآن الكريم من تعاليم في مجال

١١٤

الإرث ، لأن ذلك يستلزم حرمان النساء من الميراث في بعض الموارد ، وهذا ضرب من التمييز الجاهلي الذي رفضه الإسلام وأبطله بالآية الحاضرة والآيات المشابهة لها.

* * *

١١٥

الآية

( وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) )

التّفسير

حكم أخلاقي :

نزلت الآية الحاضرة بعد قانون تقسيم الإرث حتما إذ تقول :( وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ ) .

وعلى هذا الأساس يتضمّن محتوى هذه الآية حكما أخلاقيا استحبابيا في شأن طبقات محجوبة عن الإرث بسبب وجود طبقات أقرب منها إلى المورث ، فالآية تقول : إذا حضر مجلس تقسيم الإرث جماعة من الأقرباء من الطبقة الثانية والثالثة ، وكذا بعض اليتامى والمساكين فارزقوهم من الإرث ، وبهذا تكونون قد منعتم من تحرك شعور الحسد والبغضاء لدى من يمكن أن يثور لديهم ذلك الشعور بسبب حرمانهم من الإرث ، ولا شك أنّ هذا العمل من شأنه أن يقوي أواصر القرابة الإنسانية بينكم.

إنّ كلمتي «اليتامى» و «المساكين» وإن ذكرتا بنحو مطلق في هذه الآية ، غير أن الظاهر هو أنّ المراد منهما هم اليتامى والمساكين من قربى الميت ، لأنّ الأقرب

١١٦

يحجب ـ في قانون الإرث ـ الأبعد من الإرث ، وعلى هذا فلو حضر أحد من هذه الطبقات قسمة الميراث فإنّه ينبغي أن يعطي الورثة له شيئا من الميراث هدية (يتوقف مقدارها على إرادة الوراث على أن يكون ذلك من مال الورثة الكبار دون الصغار).

هذا ويحتمل جماعة من المفسرين أن يكون المراد من اليتامى والمساكين في هذه الآية هو مطلق اليتامى والمساكين سواء كانوا من قرابة الميت أم لا ، ولكن هذا الاحتمال يبدو بعيدا في النظر ، لأن الأجانب ليس لهم طريق إلى المجالس العائلية غالبا.

كما أنّه يعتقد بعض المفسّرين أن الآية تتضمن حكما وجوبيا لا استحبابيا ، بيد أن هذا الأمر فيها على نحو الوجوب ، وجب تعيين وتحديد ما يلزم إعطاؤه لهاتين الطائفتين ، في حين ترك الأمر فيه إلى إرادة الورثة.

ثمّ أنّه سبحانه يختم هذه الآية بدستور أخلاقي إذ يقول :( وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) يعني أنّه مضافا إلى تقديم مساعدة مادية إلى هؤلاء أشفعوا ذلك بموقف أخلاقي واستفيدوا من المعين الإنساني لكسب مودّتهم ، وحتى لا يبقى في قلوبهم أي شعور عدائي تجاهكم ، وهذا الدستور علامة أخرى ودليل آخر على أن الأمر بإعطاء شيء من الميراث إلى اليتامى والمساكين إنما هو على نحو الندب لا الوجوب.

من كل ما ذكرناه اتّضح أنّه لا مبرر أبدا لأن يقال أن الحكم المذكور في هذه الآية منسوخ بالآيات التي تعين السهام في الإرث ، لعدم وجود أية منافاة وتعارض بين هذه الآية وتلك الآيات المحددة للأسهم.

* * *

١١٧

الآية

( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9) )

التّفسير

دعوة إلى العطف على اليتامى :

يشير القرآن الكريم ـ بهدف إثارة مشاعر العطف والإشفاق لدى الناس بالنسبة إلى اليتامى ـ إلى حقيقة يغفل عنها الناس أحيانا ، وتلك الحقيقة هي : إن على الإنسان أن يعامل يتامى الآخرين كما يحبّ أن يعامل الناس يتاماه.

تصوروا مشهد أطفال فقدوا آباءهم وأمهاتهم يعيشون تحت كفالة شخص قاسي القلب خائن لا يرعى مشاعرهم ، كما لا يراعي جانب العدالة في حقّهم.

أجل تصوروا هذا المشهد المؤلم ، كم يؤلمكم ويحزنكم ذلك؟ هل تحبّون مثل ذلك لأبنائكم الصغار من بعدكم؟ كلا حتما ، فكما تحبّون ورثتكم فأحبّوا ورثة غيركم ويتاماهم ، وأحزنوا لما يحزنهم.

وعلى هذا يكون مفهوم قوله سبحانه :( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ ) هو أنّ الذين يخافون على مستقبل أولادهم الصغار عليهم أن يخافوا مغبة الخيانة في شؤون اليتامى ويخافوا مغبة إيذائهم.

١١٨

وأساسا : إنّ القضايا الاجتماعية تنتقل في شكل سنة من السنن ـ من اليوم إلى الغد، ومن الغد إلى المستقبل البعيد ، فالذين يروّجون في المجامع سنة ظالمة مثل إيذاء اليتامى فإن ذلك سيكون سببا لسريان هذه السنة على أولادهم وأبنائهم أيضا ، وعلى هذا لا يكون مثل هذا الشخص قد أذى يتامى الآخرين وورثتهم فقط ، بل فتح باب الظلم على أولاده ويتاماه أيضا.

لهذا وجب أن يتجنب أولياء اليتامى مخالفة الأحكام الإلهية ، ويتقوا الله في اليتامى ويقولوا لهم قولا عدلا موافقا للشرع والحق ، قولا ممزوجا بالعواطف الإنسانية والمشاعر الأخوية، لكي يندمل بذلك ما في قلوب أولئك من الجراح ، وينجبر ما في أفئدتهم من الكسر، وإلى هذا يشير قوله سبحانه :( فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ) .

إنّ هذا التعليم الإسلامي الرفيع المذكور في العبارة السابقة إشارة إلى ناحية نفسية في مجال تربية اليتامى ـ جديرة بالاهتمام والرعاية ، وهي : إنّ حاجة الطفل اليتيم لا تنحصر في الطعام والكساء ، بل مراعاة مشاعرهم وأحاسيسهم القلبية هو الأهم ، وهو ذو تأثير كبير جدّا في بناء مستقبلهم ، لأن الطفل اليتيم إنسان كغيره ، يجب أن يحصل على غذائه اللازم من الناحية العاطفية ، فيجب أن يحظى بالحنو والرعاية كما يحظى بذلك أي طفل آخر في حضن أبيه وأمّه. أنه ليس «حمل» يخرج مع القطيع للرعي عند الصباح ، ويعود عند الغروب ، بل هو إنسان يجب ـ مضافا إلى الرعاية الجسدية ـ أن يحظى بالرعاية الروحية،والعناية العاطفية ، وإلّا نشأ قاسيا مهزوما ، عديم الشخصية ، بل وحاقدا خطيرا.

إيضاح ضروري :

عن عبد الأعلى مولى آل سام قال قال أبو عبد اللهعليه‌السلام مبتدءا : «من ظلم سلّط الله عليه من يظلمه ، أو على عقبه ، أو على عقب عقبه ، قال (أي الراوي) فذكرت في

١١٩

نفسي فقلت : يظلم (و) هو يتسلط على عقبه وعقب عقبه؟ فقال لي قبل أن أتكلم : إن الله يقول :( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ ) ».

إنّ السؤال الذي خالج ذهن الراوي يخالج نفسه أذهان كثيرين ، فيتساءلون :كيف يحمل البارئ تعالى جزاء شخص على شخص آخر ، بل وما ذا فعل أبناء العاصي حتى يبتلوا بمن يظلمهم ، ويتحملوا وزر ما جناه والدهم؟

إنّ جواب هذا السؤال يتضح من الإيضاح الذي ذكر في الحديث السابق وهو أن ما يرتكبه الأشخاص في المجتمع من أعمال تتخذ شكل السنة شيئا فشيئا ، وينتقل إلى الأجيال اللاحقة ، وعلى هذا الأساس فإن الذين يظلمون اليتامى في المجتمع ، ويرسون قواعد هذا السلوك الظالم سيصاب أبناؤهم بلهيب هذه البدعة يوما ما أيضا ، ويعدّ هذا في الحقيقة أحد الآثار الوضعية التكوينية لمثل هذا العمل ، وأمّا نسبته إلى الله فهي لأجل أن جميع الآثار التكوينية وكل خواص العلّة والمعلول منسوبة إلى الله ومستندة إليه تعالى ، ولا يظلم ربّك أحدا أبدا.

وخلاصة القول : إذا ساد الظلم في المجتمع فإنّه سوف يسري ويصيب الظالم وأولاده أيضا.

* * *

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710