الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل8%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 710

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 710 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 173231 / تحميل: 6077
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

مؤلف:
العربية

١
٢

٣
٤

الآيات

( الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) )

التفسير

غزوة حمراء الأسد :

قلنا أن جيش أبي سفيان المنتصر أسرع بعد انتصاره في معركة «أحد» على الجيش الإسلامي يغذ السير في طريق العودة إلى مكّة حتى إذا بلغ أرض «الروحاء» ندم على فعله، وعزم على العودة إلى المدينة للإجهاز على ما تبقى من فلول المسلمين ، واستئصال جذور الإسلام حتى لا تبقى له ولهم باقية.

ولما بلغ هذا الخبر إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر مقاتلي أحد أن يستعدوا للخروج إلى معركة اخرى مع المشركين ، وخص بأمره هذا الجرحى والمصابين حيث أمرهم بأن ينضموا إلى الجيش.

يقول رجل من أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد شهد أحدا : شهدت أحدا وأخ لي

٥

فرجعنا جريحين ، فلما أذن مؤذن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالخروج في طلب العدو قلنا :لا تفوتنا غزوة مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فو الله ما لنا دابة نركبها وما منّا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكنت أيسر جرحا من أخي ، فكنت إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة حتى انتهينا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى «حمراء الأسد».

فلما بلغ هذا الخبر أبا سفيان وأدرك صمود المسلمين ، والذي تجلّى في اشتراك الجرحى والمصابين خاف وأرعب ، ولعله ظن أنه أدركت المسلمين قوّة جديدة من المقاتلين وأتاهم المدد.

هذا وقد حدثت في هذا الموضع حادثة زادت من إضعاف معنوية المشركين ، وألقت مزيدا من الوهن في عزائمهم ، وهي أنه : مرّ برسول الله «معبد الخزاعي» وهو يومئذ مشرك، فلما شاهد النّبي وما عليه هو وأصحابه من الحالة تحركت عواطفه وجاشت ، فقال للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا محمّد والله لقد عزّ علينا ما أصابك في قومك وأصحابك ، ولوددنا أن الله كان أعفاك فيهم ، ثمّ خرج من عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى لقى أبا سفيان ومن معه بالرّوحاء وقد أجمعوا الرّجعة إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا رأى أبو سفيان معبدا قال : ما وراك يا معبد؟ قال : محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر قط مثله يتحرقون عليكم تحرقا ، وقد اجتمع عليه من كان تخلف عنه في يومكم ، وندموا على صنيعهم ، وفيه من الحنق عليكم ما لم أر مثله قط.

قال أبو سفيان : ويلك ما تقول؟ قال معبد : «فأنا والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل».

قال أبو سفيان : فو الله لقد أجمعنا الكرّة عليهم لنستأصلهم.

قال معبد : فأنا والله أنهاك عن ذلك.

فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه وقفل راجعا ومنسحبا إلى مكّة بسرعة ، وحتى يتوقف المسلمون عن طلبه وملاحقته ويجد فرصة كافية للانسحاب قال

٦

لجماعة من بني عبد قيس كانوا يمرون من هناك قاصدين المدينة لشراء القمح : «أخبروا محمّدا إنا قد أجمعنا الكرّة عليه وعلى أصحابه لنستأصل بقيتهم» ثمّ انصرف إلى مكّة.

ولما مرّت هذه الجماعة برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو بحمراء الأسد أخبره بقول أبي سفيان،فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حسبنا الله ونعم الوكيل» وبقي هناك ينتظر المشركين ثلاثة أيّام ، فلم ير لهم أثرا فانصرف إلى المدينة بعد الثالثة. والآيات الحاضرة تشير إلى هذه الحادثة وملابساتها(١) يقول سبحانه :( الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ) .

ويتبيّن من تخصيص جماعة معينة بالأجر العظيم في هذه الآية أنه كان هناك بينهم من لم يملك الإخلاص الكامل ، كما يمكن أن يكون التعبير بـ «منهم» إشارة إلى أن بعض المقاتلين في أحد امتنعوا ببعض الحجج عن تلبية نداء الرّسول والإسهام في هذه الحركة.

ثمّ أنّ القرآن الكريم يبيّن إحدى العلائم الحيّة لاستقامتهم وثباتهم إذ يقول :( الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) .

والمعنيون بالناس في قوله :( قالَ لَهُمُ النَّاسُ ) هم ركب عبد القيس ، أو نعيم بن مسعود الذي جاء بهذا الخبر على رواية اخرى.

ثمّ بعد ذكر هذه الاستقامة الواضحة وهذا الإيمان البارز يذكر القرآن الكريم نتيجة عملهم إذ يقول :( فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ ) وأية نعمة وأي فضل أعظم وأعلى من أن ينهزم الأعداء الخطرون أمامهم من دون أي صدام أو لقاء ويعود هؤلاء المقاتلون إلى المدينة سالمين.

يبقى أن نعرف أن الفرق بين النعمة والفضل ، يمكن أن يكون بأن النعمة هي

__________________

(١) نور الثقلين ومجمع البيان ، وتفسير المنار وكتب اخرى.

٧

الأجر بقدر الاستحقاق والفضل هو النفع الزائد على قدر الاستحقاق.

وتأكيدا لهذا الأمر يقول القرآن :( لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ ) مضافا إلى أنّهم( اتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ) أنه فضل عظيم ينتظر المؤمنين الحقيقيين ، والمجاهدين الصادقين.

التّربية الإلهية وعطاؤها السّريع :

إنّ مقارنة معنوية المسلمين في معركة «بدر» بمعنويتهم في حادثة «حمراء الأسد» التي مرّ تفصيلها ، أمر يدعو إلى الإعجاب لدى المرء ، إذ كيف استطاعت جماعة منكسرة لا تملك المعنوية العالية ، ولا العدد البشري الكافي ، مع ما يحمل أفرادها من الجراحات الثقلية والإصابات الفادحة أن تغير ملامحها في مدّة قد لا تزيد على يوم وليلة ، فتستعد وعلى درجة عالية من العزم والإرادة لطلب العدو وملاحقته ، ومواجهته مرة اخرى إلى درجة أن القرآن الكريم يقول عنهم :( الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) ثمّ استقاموا وصمدوا.

هذا هو أثر الإيمان بالهدف ، فكلّما ازدادت مصائب الإنسان المؤمن وازدادت مشكلاته ازدادت استقامته ، وتضاعف ثباته ، وشحذت عزيمته ، وفي الحقيقة تهيأت كل قواه المعنوية والمادية وتعبأت لمواجهة الخطر.

إن هذا التغير العجيب ، وهذا التحول السريع والعظيم في مثل هذه المدّة القصيرة يوقف الإنسان على مدى سرعة تأثير التربية القرآنية وعمقها ، ومدى فاعلية البيان النبوي الأخّاذ الذي يكاد يكون معجزة.

* * *

٨

الآية

( إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥) )

التّفسير

هذه الآية تعقيب على الآيات التي نزلت حول غزوة «حمراء الأسد» ، ولفظة «ذلكم» إشارة إلى الذين كانوا يخوفون المسلمين من قوّة قريش ، وبأس جيشهم لإضعاف معنويات المسلمين.

وعلى هذا الأساس يكون معنى هذه الآية هو : إن عمل نعيم بن مسعود ، أو ركب عبد القيس من عمل الشيطان لكي يخوفوا به أولياء الشيطان ، يعني أن هذه الوساوس إنما تؤثر في أتباع الشيطان وأوليائه خاصّة ، وأمّا المؤمنون الثابتون فلا تزل أقدامهم لهذه الوساوس مطلقا ، ولن يرعبوا ولن يخافوا أبدا ، وعلى هذا الأساس فأنتم لستم من أولياء الشيطان، فلا تخافوا هذه الوساوس ، ويجب أن لا تزلزلكم أو تزعزع إيمانكم.

إنّ التّعبير عن نعيم بن مسعود أو ركب عبد القيس ووصفهم بـ «الشّيطان» إمّا لكون عملهم ذلك من عمل الشيطان ومستلهم منه ومأخوذ من وحيه ، لأن القرآن يسمّي كل عمل قبيح وفعل مخالف للدين عمل شيطاني ، لأنه يتم بوسوسته،

٩

ويصدر عن وحيه إلى أتباعه.

وإمّا أن المقصود من الشّيطان هم نفس هؤلاء الأشخاص ، فيكون «هذا المورد» من الموارد التي يطلق فيها اسم «الشّيطان» على المصداق الإنساني له ، لأن للشيطان معنى وسيعا يشمل كل غاو مضل ، إنسانا كان أم غير إنسان كما نقرأ في سورة الأنعام الآية (١١٢) ،( وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ ) .

ثمّ أنّه سبحانه يقول في ختام الآية :( وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) يعني أن الإيمان بالله والخوف من غيره لا يجتمعان ، وهذا كقوله سبحانه في موضع آخر :( فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً ) (١) .

وعلى هذا الإساس فإن وجد في أحد الخوف من غير الله كان ذلك دليلا على نقصان إيمانه وتأثيره بالوساوس الشيطانية لأنّنا نعلم أنّه لا ملجأ ولا مؤثر بالذات في هذا الكون العريض سوى الله الذي ليس لأحد قدرة في مقابل قدرته.

وأساسا لو أن المؤمنين قارنوا وليهم (وهو الله سبحانه) بولي المشركين والمنافقين (الذي هو الشيطان) لعلموا أنّهم لا يملكون تجاه الله أية قدرة ، ولهذا لا يخافونهم قيد شعرة.

وخلاصة هذا الكلام ونتيجته هي أنّ الإيمان أينما كان ، كانت معه الشجاعة والشهامة ، فهما توأمان لا يفترقان.

* * *

__________________

(١) الجن : ١٣.

١٠

الآيتان

( وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) )

التّفسير

تسلية النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

الخطاب في قوله تعالى :( وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ) موجه إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فالله تعالى يسلي نبيّه في أعقاب أحداث «أحد» المؤلمة قائلا له : أيّها الرّسول( لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ) وكأنّهم يتسابقون إليه( إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً ) بل يضرّون بذلك أنفسهم ، وأساسا فالمتضرر والمنتفع إنّما هي الموجودات التي لا تملك من عند أنفسها شيئا حتى وجودها ، أمّا الله الأزلي الأبدي سبحانه فهو الغني المطلق ، فما الذي يعود به كفر الناس أو إيمانهم عليه سبحانه ، وأي أثر يمكن أن يكون لجهودهم ومحاولاتهم بالنّسبة إليه تعالى؟

إنّهم هم المنتفعون بإيمانهم إذ يتكاملون بهذا الإيمان ، وهم المتضررون

١١

بالكفر أيضا ، إذ يؤدي هذا الكفر إلى سقوطهم وانحطاطهم.

هذا مضافا إلى أن الله سوف لن ينسى مواقفهم المشينة ولن تفوته مخالفاتهم ، وسيصيبهم جزاء ما يعملونه يوم القيامة :( يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) .

وفي الحقيقة فإن الآية تقول : إذا كان هؤلاء يتسابقون في الكفر فليس ذلك لأنّ الله لا يقدر على كبح جماحهم ، بل لأنّ الله أراد أن يكونوا أحرارا في اتّخاذ المواقف وسلوك الطريق الذي يريدون ، ولا شك أنّ نتيجة ذلك هو الحرمان الكامل من المواهب الرّبانيّة في العالم الآخر.

وعلى هذا فالآية لا تنفي الجبر فحسب ، بل هي من الأدلة والبراهين السّاطعة على حرية الإرادة الإنسانية.

ثمّ يقرّر القرآن هذه الحقائق في الآية الثانية بشكل أكثر تفصيلا إذ يقول :( إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً ) يعنى ليس الّذين يتسابقون في طريق الكفر ويسارعون إليه هم وحدهم على هذا الحال ، بل كل الّذين يسلكون طريق الكفر بشكل من الأشكال ويشترون الكفر بالإيمان ، كل هؤلاء لن يضرّوا الله شيئا ، وإنّما يضرّون أنفسهم.

ويختم سبحانه الآية بقوله :( وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) هذا التفاوت في التعبير في خاتمة هذه الآية والآية التي قبلها حيث قال هناك :( وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) وقال هنا( وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) إنّما هو لأجل إن الذين جاء ذكرهم في الآية السابقة أسرع في المبادرة والتوجه نحو الكفر.

* * *

١٢

الآية

( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨) )

التّفسير

المثقلون بأوزارهم :

بعد تسلية النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الآيات السّابقة وتطمينه تجاه ما يقوم به أعداء الرسالة والحق من محاولات عدائية لا تحصى ، توجه سبحانه إلى الأعداء في هذه الآية بالخطاب،وأخذ يحدّثهم عن المصير المشؤوم الذي ينتظرهم ، (وهذه الآية ترتبط ـ في الحقيقة ـ بأحداث معركة «أحد» فهي مكملة للأبحاث التي مرّت حول هذه الواقعة ، لأن الحديث والخطاب تارة كان موجها إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخرى موجها إلى المؤمنين ، وها هو هنا موجه إلى الكفار والمشركين).

إنّ الآية الحاضرة التي يقول فيها سبحانه :( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي ) (١) ( لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ) تحذّر المشركين بأن عليهم أن لا يعتبروا ما أتيح لهم من إمكانات في العدّة والعدد ، وما

__________________

(١) نملي مشتقة من الإملاء ، وتغني المساعدة والإعانة وتستعمل في أكثر الموارد في إطالة المدّة والإمهال الذي هو نوع من المساعدة ، وقد جاءت في الآية الحاضرة بالمعنى الثاني.

١٣

يكسبونه من انتصارات في بعض الأحيان ، وما يمتلكونه من حرّية التصرف ، دليلا على صلاحهم ، أو علامة على رضا الله عنهم.

وتوضيح ذلك : إنّ المستفاد من الآيات القرآنية هو أنّ الله سبحانه ينبّه العصاة الذين لم يتوغّلوا في الخطيئة ولم يغرقوا في الآثام غرقا ، فهو سبحانه ينبّههم بالنذر تارة ، وبما يتناسب مع أعمالهم من البلاء والجزاء تارة أخرى ، فيعيدهم بذلك إلى جادة الحق والصواب. وهؤلاء هم الذين لم يفقدوا بالمرّة قابلية الهداية ، فيشملهم اللطف الإلهي ، فتكون المحن والبلايا نعمة بالنسبة إليهم ، لأنها تكون بمثابة جرس إنذار لهم تنبّههم من غفلتهم ، وتنتشلهم من غفوتهم كما يقول الله سبحانه :( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) (١) .

ولكن الذين تمادوا في الذنوب وغرقوا فيها ، وبلغ طغيانهم نهايته فإنّ الله يخذلهم،ويكلهم إلى نفوسهم ، أيّ أنّه يملي لهم لتثقل ظهورهم بأوزارهم ، ويستحقوا الحدّ الأكثر من العقوبة والعذاب المهين.

هؤلاء هم الذين نسفوا كلّ الجسور ، وقطعوا كلّ علاقاتهم مع الله ، ولم يتركوا لأنفسهم طريق لا العودة إلى ربّهم ، وهتكوا كل الحجب ، وفقدوا كل قابلية للهداية الإلهية ، وكل أهلية للّطف الرّباني.

إن الآية الحاضرة تؤكد هذا المفهوم وهذا الموضوع إذ تقول :( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ) .

ولقد استدلت بطلة الإسلام زينب الكبرى بنت الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام بهذه الآية في خطابها المدوي والساخن أمام طاغية الشام «يزيد بن معاوية» الذي كان من أظهر مصاديق العصاة والمجرمين الذين قطعوا جميع جسور العودة

__________________

(١) الروم ، ٤١.

١٤

على أنفسهم بما ارتكبوه من فظيع الفعال ، وما اقترفوه من شنيع الأعمال إذ قالت : «أظننت يا يزيد أنّ بنا على الله هوانا ، وبك عليه كرامة ، وأنّ ذلك لعظم خطرك عنده؟فشمخت بأنفك ، ونظرت في عطفك ، جذلان مسرورا ، حين رأيت الدنيا لك مستوثقة والأمور متّسقة ، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا ، فمهلا مهلا أنسيت قول اللهعزوجل :( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ) ».

جواب على سؤال :

إنّ الآية الحاضرة تجيب ضمنا على سؤال يخالج أذهان كثير من الناس وهو : لما ذا يرفل بعض العصاة والمجرمين في مثل هذا النعيم ، ولا يلقون جزاءهم العادل على إجرامهم؟

فإنّ القرآن الكريم يردّ على هذا التساؤل الشّائع قائلا : إنّ هؤلاء فقدوا كل قابلية للتغيير والإصلاح ، وهم بالتالي من الّذين تقتضي سنّة الخلق ومبدأ حرّية الإنسان واختياره أن يتركوا لشأنهم ، ويوكّلوا إلى أنفسهم ليصلوا إلى مرحلة السقوط الكامل ، ويستحقوا الحدّ الأكثر من العذاب والعقوبة.

هذا مضافا إلى ما يستفاد من بعض الآيات القرآنية من أنّه سبحانه قد يمدّ البعض بالنعم الوافرة وهو بذلك يستدرجهم ، أي أنّه يأخذهم فجأة وهم في ذروة التنعم ، ويسلبهم كلّ شيء وهم في أوج اللّذة والتمتع ، ليكونوا بذلك أشقى من كلّ شقي ، ويواجهوا في هذه الدنيا أكبر قدر ممكن من العذاب ، لأن فقدان هذا النعيم أشدّ وقعا على النفس،وأكثر مرارة كما نقرأ في الكتاب العزيز :( فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ ) (١) .

__________________

(١) الأنعام ، ٤٤.

١٥

ومثل هؤلاء ـ في الحقيقة ـ مثل الذي يتسلق شجرة ، فإنّه كلّما إزداد رقيا ازداد فرحا في نفسه ، حتى إذا بلغ قمتها فاجأته عاصفة شديدة ، فهوى على أثرها من ذلك المترفع الشاهق إلى الأرض فتحطمت عظامه ، فتبدل فرحه البالغ إلى حزن شديد.

لفتة أدبية :

يتبيّن ممّا قلناه في تفسير هذه الآية أن «اللام» في قوله سبحانه :( لِيَزْدادُوا إِثْماً ) «لام العاقبة» وليست «لام الغاية».

وتوضيح ذلك : إنّ العرب قد تستعمل اللام لبيان أن ما بعد اللام مراد للإنسان ومطلوب له كقوله :( لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) (١) .

ومن البديهي أن هداية الناس وخروجهم من الظّلمات إلى النّور مراد له سبحانه.

وقد تستعمل العرب «اللام» لا لبيان أن هذا هو مراد ومطلوب للشخص ، بل لبيان أن هذا نتيجة عمل المرء ومآل موقفه كقوله تعالى :( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ) (٢) ولا شك أنّهم إنما أخذوه ليكون لهم سرورا وقرّة عين. ولا يختص هذا الأمر باللغة العربية وآدابها ، بل هو مشهور في غيره من اللغات والآداب.

ومن هنا يتضح الجواب على تساؤل آخر يطرح نفسه هنا وهو : لما ذا قال سبحانه :( لِيَزْدادُوا إِثْماً ) الذي معناه ـ بحسب الظاهر ـ أي نريد أن يزدادوا إثما.

لأن هذا الإشكال والتساؤل إنّما يكون واردا إذا كانت اللام هنا لام الإرادة والغاية المبينة للعلّة والهدف ، لا «لام العاقبة» ليكون معنى قوله( لِيَزْدادُوا إِثْماً )

__________________

(١) إبراهيم ، ١.

(٢) القصص ، ٨.

١٦

هو : لتكون عاقبة أمرهم ازديادهم الإثم.

وعلى هذا يكون معنى الآية : نحن نمهلهم لتكون عاقبة أمرهم ازدياد ذنوبهم وأوزارهم من الإثم ، فالآية لا تدلّ على الجبر مطلقا ، بل هي خير دليل على حرية الإنسان واختياره.

* * *

١٧

الآية

( ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩) )

التّفسير

المسلمون في بوتقة الاختبار والفرز :

لم تكن قضية «المنافقين» مطروحة بقوّة قبل حادثة معركة «أحد» ولهذا لم يكن المسلمون يعرفون عدوا لهم غير الكفار ، ولكن الهزيمة التي أفرزتها «أحد» وما دبّ في المسلمين على أثرها من الضعف المؤقت مهّد الأرضية لنشاط المنافقين المندسّين في صفوف المسلمين ، وعلى أثر ذلك عرف المسلمون وأدركوا بأنّ لهم عدوا آخر أخطر يجب أن يراقبوا تحركاته ونشاطاته وهو «المنافقون» ، وكان هذا إحدى أهم معطيات حادثة «أحد» ونتائجها الإيجابية.

والآية الحاضرة التي هي آخر الآيات التي تتحدث ـ هنا ـ عن معركة «أحد» وأحداثها ، تبيّن وتستعرض هذه الحقيقة في صورة قانون عام إذ تقول :( ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) فلا بدّ أن تتميز

١٨

الصفوف ، وتتمّ عملية الفرز بين الطيب الطاهر ، والخبيث الرجس. وهذا قانون عام وسنة إلهية خالدة وشاملة ، فليس كلّ من يدعي الإيمان ، ويجد مكانا في صفوف المسلمين يترك لشأنه ، بل ستبلى سرائره ، وتنكشف حقيقته في الآخرة بعد الاختبارات الإلهية المتتابعة له.

وهنا يمكن أن يطرح سؤال (وهو السؤال الذي كان مطروحا بين المسلمين آنذاك أيضا حسب بعض الأحاديث والرّوايات) وهو : إذا كان الله عالما بسريرة كل إنسان وأسراره فلما ذا لا يخبر بها الناس ـ عن طريق العلم بالغيب ـ ويعرفهم بالمؤمن والمنافق؟

إنّ المقطع الثّاني من الآية وهو قوله :( وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ) يجيب على هذا السؤال. أي أن الله سبحانه لن يوقفكم على الأسرار ، لأن الوقوف على الأسرار ـ على عكس ما يظن كثيرون لا يحلّ مشكلة ، ولا يفكّ عقدة ، بل سيؤدي إلى الهرج والمرج والفوضى ، وإلى تمزق العلاقات الاجتماعية وانهيارها ، وانطفاء شعلة الأمل في النفوس وتبدده ، وتوقف الناس عن الحركة والنشاط والفعالية.

والأهم من كلّ ذلك هو أنّه لا بدّ أن تتضح قيمة الأشخاص من خلال المواقف العملية والسلوكية ، وليس عن أي طريق آخر ، ومسألة الاختبار الإلهي لا تعني سوى هذا الأمر ، ولهذا فإن الطريق الوحيد لمعرفة الأشخاص وتقويمهم هو أعمالهم فقط(١) .

ثمّ إنّ الله سبحانه يستثني الأنبياء من هذا الحكم إذ يقول :( وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ ) أي أنّه يختار في كل عصر من بين أنبيائه من يطلعهم على

__________________

(١) لقد مرّ طرح هذا السؤال بالتفصيل عند تفسير قوله تعالى :( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ ) وأجبنا هناك بأن الامتحان الإلهي ـ هو في الحقيقة ـ نوع من التربية العملية للبشر ، ولا يعني الاستخبار والاستعلام ، ولمزيد الاطلاع راجع ذلك البحث.

١٩

شيء من تلك الغيوب ويوقفهم على بعض الأسرار بحكم احتياج القيادة الرسالية إلى ذلك ، وتبقى الأعمال ـ مع ذلك كلّه ـ هي الملاك الوحيد والمعيار الخالد والمسار الأبدي لمعرفة الأشخاص وتمييزهم وتصنيفهم.

ومن هذه العبارة يستفاد أنّ الأنبياء ـ بحسب ذواتهم ـ لا يعرفون شيئا من الغيب،كما ويستفاد منها أنّ ما يعلمونه منه إنما هو بتعليم الله لهم واطلاعهم على شيء من الغيوب ، وعلى هذا الأساس يكون الأنبياء ممن يطلعون على الغيب ، كما أن مقدار علمهم بالغيب يتوقف على المشيئة الإلهية.

ومن الواضح والمعلوم أنّ المراد من المشيئة الإلهية في هذه الآية ـ كغيرها من الآيات ـ هو «الإرادة المقرونة بالحكمة» أي أنّ الله سبحانه يطلع على الغيب كلّ من يراه صالحا لذلك ، وتقتضي حكمته سبحانه ذلك.

ثمّ أنّه تعالى يذكرهم ـ في ختام الآية ـ بأن عليهم ـ وهو الآن في بوتقة الحياة، بوتقة الامتحان الكبير ، بوتقة التمييز بين الصالح والطالح ، والطيب والخبيث ، والمؤمن والمنافق ـ عليهم أن يجتهدوا لينجحوا في هذا الامتحان ويخرجوا مرفوعي الرؤوس من هذا الاختبار العظيم ، إذ يقول :( فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) .

ثمّ أن الملاحظة الملفتة للنظر والجديرة بالتأمل في هذه الآية التعبير عن المؤمن بالطيب،ومن المعلوم أن الطيب هو الباقي على أصل خلقته الذي لم تشبه الشّوائب ، ولم يدخل في حقيقة الغرائب. ولم تلوثه الكدورات ، فالماء الطاهر الطيب ، والثوب الطيب الطاهر وما شابه ذلك هو الذي لم تلوثه الكدورات ، ويستفاد من هذا أن الإيمان هو فطرة الإنسان الأصلية ، وهو جبلته الأولى.

* * *

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

حياته. فإذا مات، كان لورثته نقل السّاكن عن المسكن. وإن مات السّاكن وله ورثة، كان لورثته ذلك الى أن يمضي زمان حياة المسكن. وإن جعل له السّكنى مدة حياة السّاكن، كان ذلك ماضيا الى أن يتوفّاه الله تعالى. فإذا مات، رجع اليه أو الى ورثته، إن كان مات. وإن مات الذي جعل السّكنى، لم يكن لورثته إزعاجه، إلّا بعد أن تمضي مدّة حياته، ومتى أسكنه، ولم يذكر شيئا، كان له إخراجه أيّ وقت شاء.

وإذا أسكن إنسان غيره، لم يجز للسّاكن أن يسكن معه غيره إلّا ولده وأهله، ولا يجوز له سواهم. ولا يجوز للسّاكن أيضا أن يواجره، ولا أن ينتقل عنه، فيسكن غيره إلّا بإذن صاحب المسكن.

وللإنسان أن يحبس فرسه في سبيل الله، وغلامه أو جاريته في خدمة البيت الحرام، وبعيره في معونة الحاجّ والزّوار. وإذا فعل ذلك لوجه الله، لم يجز له تغييره. فإن عجزت الدّابة، أو دبرت، أو مرض الغلام أو الجارية، وعجزا عن الخدمة، سقط عنه فرضها. فإن عادا إلى الصّحّة، كان الشّرط فيها قائما حتى يموت العبد وتنفق الدّابّة.

وإذا جعل الإنسان خدمة عبده أو أمته لغيره مدّة من الزّمان، ثمَّ هو حرّ بعد ذلك، كان ذلك جائزا، وكان على المملوك الخدمة في تلك المدّة. فإذا مضت المدّة، صار حرّا. فإن أبق العبد

٦٠١

هذه المدّة، ثمَّ ظفر به من جعل له خدمته، لم يكن له بعد انقضاء تلك المدّة عليه سبيل. وإن كان صاحب الغلام أو الجارية جعل خدمته لنفسه مدّة من الزّمان، ثمَّ هو حرّ بعد ذلك، وأبق المملوك، انتقض ذلك التّدبير. فإن وجده بعد ذلك، كان مملوكا له، يعمل به ما شاء.

باب النحل والهبة

الهبة على ضربين، ضرب منها لصاحبها الرّجوع فيها، وضرب ليس له الرّجوع فيه.

فأمّا الذي ليس له فيه رجوع، فهو كلّ هبة وهبها الإنسان لذي رحمه، ولدا كان أو غيره، إذا كان مقبوضا. فإن لم يكن مقبوضا، جاز له الرّجوع فيه. وإن مات، كان ميراثا. إلّا أن تكون الهبة على ولده ويكونون صغارا، فإنّه لا يكون له فيها رجوع على حال، لأنّ قبضه قبضهم. فأمّا إذا كانوا كبارا، أو يكونون غير أولاده وإن كانوا صغارا، فإنّ له الرّجوع فيها ما لم يقبّض. فإن وهب للصّغير من ذوي أرحامه، وقبّضه وليّه، لم يكن له بعد ذلك رجوع فيها على حال.

وامّا الضّرب الآخر، وهو الذي له الرّجوع فيه، فهو كلّ هبة كانت على أجنبيّ، ولم يتعوّض منها، وكانت عينه قائمة،

٦٠٢

فإنّ له الرّجوع في ذلك، وإن كان قد قبّضها. وإن تعوّض عنها، لم يكن له الرّجوع فيها بعد ذلك، سواء كان ما تعوّض عنها قليلا أو كثيرا. وإن لم يتعوّض منها، واستهلكت الهبة، أو تصرّف فيها الموهوب له، لم يكن أيضا للواهب الرّجوع فيها على حال.

ويكره أن يرجع الإنسان فيما يهبه لزوجته، وكذلك يكره للمرأة الرّجوع فيما تهبه لزوجها. وما يهبه الإنسان لوجه الله، فلا يجوز له الرّجوع فيه على حال. وما تصدّق الإنسان به لوجه الله، فلا يجوز له أن يعود اليه بالبيع أو الهبة أو الصّدقة. وإن رجع اليه بالميراث، كان جائزا. وإذا أخرج الإنسان شيئا لوجه الله يتصدّق به، ففاته من يريد إعطاءه، فليتصدّق به على غيره ولا يردّه في ماله.

ولا بأس أن يفضّل الإنسان بعض ولده على بعض بالهبة والنّحلة، إلّا أنّه يكره ذلك في حال المرض، إذا كان الواهب معسرا. فإذا كان موسرا، لم يكن به بأس.

وإذا وهب الإنسان لبعض ولده شيئا، وكتب له بذلك كتاب ابتياع، ذكر فيه أنّه قبض الثّمن، ثمَّ مات، وطالبه الورثة بالثّمن أو اليمين بالله تعالى: أنّه سلّم الثّمن على الكمال، جاز له أن يحلف: أنّه قد سلّم الثّمن، ويورّي في نفسه ما يخرج به عن الكذب عند الله تعالى، وليس عليه في ذلك شي‌ء على حال.

٦٠٣

كتاب الوصايا

باب الحث على الوصية

قال الله تعالى:( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ، إِنْ تَرَكَ خَيْراً، الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ، حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) .

وروي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، انّه قال: « من مات بغير وصية، مات ميتة جاهليّة ».

وقال،صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما ينبغي لامرئ مسلم أن يبيت ليلة، إلّا ووصيّته تحت رأسه ».

وروى أبو الصباح الكنانيّ وأبو أسامة زيد الشحّام جميعا عن أبي عبد الله،عليه‌السلام ، أنّه قال: « الوصيّة حق على كلّ مسلم ».

وروي عنه أيضا،عليه‌السلام : انّه قال: « ما من ميّت تحضره الوفاة، إلّا ردّ الله عليه من سمعه وبصره وعقله للوصيّة، أخذ الوصيّة أو ترك، وهي الرّاحة التي يقال لها راحة الموت. فهي حقٌّ على كُلِّ مسلم ».

٦٠٤

وروى مسعدة بن صدقة ووهب بن وهب جميعا عن أبي عبد الله،عليه‌السلام ، انّه قال: قال رسول الله،صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الوصيّة تمام ما نقص من الزّكاة ».

وروى السّكونيّ عن أبي عبد الله،عليه‌السلام ، أنّه قال: « من لم يوصّ عند موته لذوي قرابته ممّن لا يرث، فقد ختم عمله بمعصية ».

وعنه عن أبي عبد الله عن أبيه عن آبائه عن عليّ،عليهم‌السلام ، أنّه قال: « من أوصى، ولم يحف ولم يضارّ، كان كمن صدّق به في حياته، وقال: ما أبالي: أضررت بورثتي أو سرقتهم ذلك المال ».

وروى سليمان بن جعفر الجعفريّ عن أبي عبد الله،عليه‌السلام : أنّه قال: قال رسول الله،صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من لم يحسن وصيته عند الموت، كان نقصا في مروّته وعقله ».

باب الأوصياء

ينبغي للمسلم أن يختار لوصيّته عاقلا مسلما عدلا حكيما، ولا يوصي الى سفيه ولا الى فاسق، ولا يوصي الى عبد وإن كان عدلا مرضيّا، لأنّه لا يملك مع سيّده شيئا. ولا بأس أن يوصي الى اثنين، أحدهما صغير والآخر كبير، بعد أن يكون الكبير كاملا عاقلا، ويجعل للعاقل النّظر في الحال، وللصّبيّ إذا بلغ

٦٠٥

فإن مات الصّبيّ، أو بلغ وكان فاسد العقل، كان للعاقل إنفاذ الوصيّة. وإذا أنفذ البالغ الكامل الوصيّة، كان ذلك جائزا. فإن بلغ الصّبيّ، ولم يرض بذلك، لم يكن له ذلك، إلّا أن يكون الكبير خالف شرط الوصيّة. ولا يجوز وصيّة المسلم الى كافر على حال. ويجوز وصيّة الكفّار بعضهم الى بعض. ولا بأس أن يوصي الإنسان الى امرأة إذا كانت عاقلة مأمونة.

وإذا وصّى الإنسان إلى نفسين، وشرط أن لا يمضيا الوصيّة إلّا بعد أن يجتمعا، لم يكن لكلّ واحد منهما الاستبداد بما يصيبه. فإن تشاحّا في الوصيّة والاجتماع، لم ينفّذ شي‌ء ممّا يتصرّفان فيه، إلّا ما يعود بمصلحة الورثة والكسوة لهم والمأكول. وعلى النّاظر في أمر المسلمين، حملهم على الاجتماع على تنفيذ الوصيّة، أو الاستبدال بهم إن رأى ذلك أصل في الحال. وإن لم يكن الموصي قد اشترط عليهما ذلك، جاز لكلّ واحد منهما أن يستبدّ بما يصيبه، ويطالب صاحبه بقسمة الوصيّة.

ولا بأس أن يوصي الإنسان إلى أولاده أو الى من يرثه أو الى زوجته. فإن أوصى إليهم، وكان فيهم صغار وكبار، كان للأكابر إنفاذ الوصيّة، وأن لا ينتظروا بلوغ الصّغار، إلّا أن يكون الموصي قد اشترط إيقاف الوصيّة إلى وقت بلوغ الصّغار، وكان الشّي‌ء الذي أوصى به يجوز تأخيره. فإن كان كذلك لم يجز لهم أن ينفّذوا شيئا منها إلّا بعد بلوغ الأصاغر منهم.

٦٠٦

وإذا وصّى الإنسان إلى غيره، كان بالخيار في قبول الوصيّة وردّها، إذا كان حاضرا شاهدا. فإن كان الموصى إليه غائبا، كان له ردّ الوصيّة ما دام الموصي حيّا. فإذا مات الموصي قبل أن يبلغ اليه الامتناع من قبول الوصيّة، لم يكن للوصيّ الغائب الامتناع من القيام بها.

وإذا حضر الوصيّ الوفاة وأراد أن يوصي الى غيره، جاز له أن يوصي اليه بما كان يتصرّف فيه من الوصيّة، ويلزم الموصى إليه القيام بذلك. وقال بعض أصحابنا: أنّه ليس له أن يوصي الى غيره بما كان يتصرّف فيه. فإذا مات، كان على النّاظر في أمر المسلمين أن يقيم من ينظر في ذلك. فإن لم يكن هناك إمام كان لفقهاء آل محمد العدول وذوي الآراء منهم أن يتصرّفوا في ذلك إذا تمكّنوا منه. فإن لم يتمكّنوا، فليس عليهم شي‌ء. ولست أعرف بهذا حديثا مرويّا.

وللموصي أن يستبدل بالأوصياء ما دام حيّا. فإذا مضى لسبيله، لم يكن لأحد أن يغيّر وصيّته، ولا يستبدل بأوصيائه. فإن ظهر من الوصيّ بعده خيانة، كان على النّاظر في أمر المسلمين أن يعزله ويقيم أمينا مقامه. وإن لم تظهر منه خيانة، إلّا أنّه ظهر منه ضعف وعجز عن القيام بالوصيّة، كان للنّاظر في أمر المسلمين أن يقيم معه أمينا ضابطا يعينه على تنفيذ الوصيّة، ولم يكن له عزله لضعفه. والوصيّ إذا خالف ما أمر به، كان ضامنا للمال.

٦٠٧

وإذا أمر الموصي الوصيّ أن يتصرّف في تركته لورثته، ويتّجر لهم بها، ويأخذ نصف الرّبح، كان ذلك جائزا، وحلال له نصف الرّبح.

وإذا كان للوصيّ على الميّت مال، لم يجز له أن يأخذه من تحت يده إلّا ما تقوم له به البيّنة. ومتى باع الوصيّ شيئا من التّركة لمصلحة الورثة، وأراد أن يشتريه لنفسه، جاز له ذلك، إذا أخذه بالقيمة العدل من غير نقصان.

وإذا مات إنسان من غير وصيّة، كان على النّاظر في أمر المسلمين أن يقيم له ناظرا ينظر في مصلحة الورثة، ويبيع لهم ويشتري، ويكون ذلك جائزا. فإن لم يكن السّلطان الذي يتولّى ذلك أو يأمر به، جاز لبعض المؤمنين أن ينظر في ذلك من قبل نفسه، ويستعمل فيه الأمانة، ويؤدّيها من غير إضرار بالورثة، ويكون ما يفعله صحيحا ماضيا.

باب الوصية وما يصح منها وما لا يصح

الوصيّة بالخمس أفضل من الوصيّة بالرّبع، وهي بالرّبع أفضل منها بالثّلث، ولا يجوز الوصيّة بأكثر من الثّلث. فإن وصّى إنسان بأكثر من الثلث، لم تمض الوصيّة إلّا في الثّلث، وتردّ فيما زاد عليه، إلّا أن يرضى الورثة بذلك. فإن وصّى بأكثر من الثّلث، ورضي به الورثة، لم يكن لهم بعد ذلك امتناع من

٦٠٨

إنفاذها لا في حال حياته ولا بعد وفاته.

وللإنسان أن يرجع في وصيّته ما دام فيه روح، ويغيّر شرائطها وينقلها من شي‌ء إلى شي‌ء ومن إنسان إلى غيره. وليس لأحد عليه فيه اعتراض.

وإذا دبّر مملوكه، كان ذلك مثل الوصيّة يجوز له الرّجوع فيه. فإن لم يرجع فيه، كان من الثّلث فإن أعتقه في الحال، مضى العتق وليس لأحد عليه سبيل.

وإذا أوصى الإنسان بوصيّة، ثمَّ أوصى بأخرى، فإن أمكن العمل بهما جميعا، وجب العمل بهما، وإن لم يمكن العمل بهما، كان العمل على الأخيرة دون الأولى.

وإذا أوصى بوصيّة، فليس لأحد مخالفته فيما أوصى به، ولا تغيير شي‌ء من شرائطها، إلّا أن يكون قد وصّى بما لا يجوز له أن يوصّي به، مثل أن يكون قد وصّى بماله في غير مرضات الله، أو أمر بإنفاقه في وجوه المعاصي: من قتل النفوس، وسلب الأموال، أو إعطائه الكفّار، أو إنفاقه على مواضع قربهم: من البيع، والكنائس، وبيوت النّيران. فإن فعل شيئا من ذلك، كان للوصيّ مخالفته في جميع ذلك، وصرف الوصيّة إلى الحقّ، وكان على إمام المسلمين معاونته على ذلك. فإن أوصى الإنسان لأحد أبويه، أو بعض قرابته شيئا من ثلثه، وجب إيصاله إليهم، وإن كانوا كفّارا ضلّالا.

٦٠٩

ولا بأس بالوصيّة للوارث إذا لم يكن بأكثر من الثّلث. فإن كانت بأكثر منه، ردّت الى الثّلث. وإذا أوصى بوصية، ثمَّ قتل نفسه، كانت وصيّته ماضية، لم يكن لأحد ردّها. فإن جرح نفسه بما فيه هلاكها، ثمَّ وصى، كانت وصيّته مردودة، لا يجوز العمل عليها. وإذا أوصى بوصيّة، ثمَّ قتله غيره خطأ، كانت وصيّته ماضية في ثلث ماله وثلث ديته. وإن جرحه غيره، ثمَّ وصّى، كان الحكم أيضا فيه مثل ذلك في أنّه تمضى الوصيّة في ثلث ماله وثلث ما يستحقّه من أرش الجراح.

وإذا وصّى الإنسان لعبده بثلث ماله، نظر في قيمة العبد قيمة عادلة: فإن كانت قيمته أقلّ من الثلث، أعتق، وأعطي الباقي. وإن كانت مثله، أعتق، وليس له شي‌ء، ولا عليه شي‌ء. وإن كانت القيمة أكثر من الثّلث بمقدار السّدس أو الرّبع أو الثّلث، أعتق بمقدار ذلك، واستسعي في الباقي لورثته. وإن كانت قيمته على الضّعف من ثلثه، كانت الوصيّة باطلة.

وإذا أوصى الإنسان بعتق مملوك له، وكان عليه دين، فإن كان قيمة العبد ضعفي الدّين، استسعي العبد في خمسة أسداس قيمته: ثلاثة أسهم للدّيّان، وسهمان للورثة، وسهم له، وإن كانت قيمته أقلّ من ذلك، بطلت الوصيّة. ومن وصّى لعبد غيره، لم تصحّ وصيّته.

فإن وصّى لمكاتب مشروط عليه، كان أيضا مثل ذلك. فإن لم يكن مشروطا عليه، جازت الوصيّة له بمقدار ما أدّى من

٦١٠

كتابته، لا أكثر من ذلك.

وإذا أوصى لأمّ ولده، أعتقت من نصيب ولدها، وأعطيت ما أوصى لها به.

وإذا أوصى الموصي بإخراج بعض الورثة من الميراث، لم يلتفت الى وصيّته وقوله، إذا كان مقرّا به قبل ذلك، أو كان مولودا على فراشه، لم يكن قد انتفى منه في حال حياته.

باب شرائط الوصية

من شرط الوصيّة أن يكون الموصي عاقلا حرّا ثابت العقل، سواء كان صغيرا أو كبيرا. فإن بلغ عشر سنين، ولم يكن قد كمل عقله، غير أنّه لا يضع الشّي‌ء إلّا في موضعه، كانت وصيته ماضية في المعروف من وجوه البرّ، ومردودة فيما لم يكن كذلك. ومتى كان سنّه أقلّ من ذلك، لم يجز وصيّته. وقد روي: أنّه إذا كان ابن ثمان سنين، جازت وصيّته في الشّي‌ء اليسير في أبواب البرّ. والأول أحوط وأظهر في الرّوايات.

وكذلك يجوز صدقة الغلام إذا بلغ عشر سنين، وهبته، وعتقه، إذا كان بالمعروف وفي وجه البرّ. وأمّا ما يكون خارجا عن ذلك، فليس بممضاة على حال.

وحدّ بلوغ الصّبيّ إمّا أن يحتلم أو يشعر أو يكمل عقله. فمتى حصل فيه شي‌ء من هذه الأوصاف، فقد دخل في حدّ الكمال،

٦١١

ووجب على وليّه تسليم ماله اليه وتمكينه من التّصرّف فيه، إلّا أن يكون سفيها ضعيف العقل، فإنّه لا يمكّن من التّصرّف على حال.

وحدّ بلوغ المرأة تسع سنين. فإذا بلغت ذلك، جاز تصرّفها في مالها بسائر أنواع التّصرّف، وأمرها نافذ فيه، إلّا أن تكون ضعيفة العقل سفيهة. فإذا كانت كذلك، فإنّها لا تمكّن من المال.

ومن شرط الوصيّة أن يشهد عليها الموصي نفسين عدلين مرضيّين لئلّا يعترض فيها الورثة. فإن لم يشهد أصلا، وأمكن الوصيّ إنفاذ الوصيّة، جاز له إنفاذها على ما أوصى به اليه.

ولا يجوز شهادة من ليس على ظاهر الإسلام في الوصيّة، إلّا عند الضّرورة وفقد المسلم. بان يكون الموصي في موضع لا يجد فيه أحدا من المسلمين ليشهده على وصيّته، فإنّه يجوز، والحال هذه، أن يشهد نفسين من أهل الذّمّة ممّن ظاهره الأمانة عند أهل ملّته. ولا يجوز شهادة غير أهل الذّمّة على حال.

ويجوز شهادة النّساء في الوصيّة عند عدم الرّجال. فإن لم لم تحضر إلّا امرأة واحدة، جازت شهادتها في ربع الوصيّة. فإن حضرت اثنتان جازت شهادتهما في النّصف، ثمَّ على هذا الحساب.

وإذا أشهد إنسان عبدين له على حمل بجارية أنّه منه،

٦١٢

وأعتقهما، فشهدا عند الورثة بذلك. فلم يقبلوا شهادتهما، واسترقّوهما وبيعا، ثمَّ أدركهما العتاق، فشهد للمولود بالنسب، قبلت شهادتهما على الورثة، ولا يسترقّهما المولود على حال.

باب الوصية المبهمة والوصية بالعتق والحج

إذا أوصى الإنسان يجزئ من ماله ولم يبيّنه، كان ذلك سبعا من ماله. وقد روي أنّه يكون العشر. والأوّل أوضح. فإن أوصى بسهم من ماله، كان ذلك الثّمن من جميع تركته. وقد روي: أنّه سهم من عشرة. والأوّل أكثر في الرّواية. وإن أوصى بشي‌ء، ولم يبيّن، كان ذلك السّدس من ماله.

فإن أوصى بثلث ماله في سبيل الله ولم يسمّ، أخرج في معونة المجاهدين لأهل الضّلال والكافرين. فإن لم يحضر مجاهد في سبيل الله، وضع في أبواب البرّ من معونة الفقراء والمساكين وأبناء السّبيل وصلة آل الرّسول. بل يصرف أكثره في فقراء آل محمّد،عليهم‌السلام ، ومساكينهم وأبناء سبيلهم، ويصرف ما بقي بعد ذلك في وجوه البرّ.

فإن أوصى بوصيّة، وجعلها أبوابا مسمّاة، فنسي الوصيّ بابا منها، فليجعل ذلك السّهم في وجوه البرّ.

وإذا أوصى الإنسان لغيره بسيف، وكان في جفن وعليه حلية، كان السّيف له بما فيه وعليه. وإذا أوصى بصندوق لغيره،

٦١٣

وكان فيه مال، كان الصّندوق بما فيه للذي أوصى له به. وكذلك إن أوصى له بسفينة، وكان فيها متاع، كانت السّفينة بما فيها للموصى له. وكذلك إن وصّى بجراب، وكان فيه متاع، كان الجراب بما فيه للموصى له، إلّا أن يستثني ما فيه. هذا إذا كان الموصي عدلا مأمونا. فإن لم يكن عدلا، وكان متّهما، لم تنفّذ الوصيّة في أكثر من ثلثه من الصّندوق والسّفينة والسّيف والجراب وما فيها.

وإذا أوصى الإنسان بشي‌ء معيّن لأعمامه وأخواله، كان لأعمامه الثّلثان ولأخواله الثّلث. فإن أوصى إنسان لأولاده، وكانوا ذكورا وإناثا، ولم يذكر كيفيّة القسمة فيهم، كان ذلك بينهم بالسّويّة. فإن قال هو بينهم على كتاب الله. كان( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) .

وإذا أوصى بثلث ماله لقرابته، ولم يسمّ أحدا، كان ذلك في جميع ذوي نسبه الرّاجعين الى آخر أب له وأم له في الإسلام، ويكون ذلك بين الجماعة بالسّويّة.

والوصيّة للجيران والعشيرة والقوم على ما ذكرناه في باب الوقوف على السّواء. والقول فيما يوصى للمسلمين أو المؤمنين أو العلويّين أو الطالبيّين أو غيرهم ممّن يتناولهم الاسم العامّ، على ما ذكرناه في باب الوقوف على السّواء.

ومن وصّى لحمل غير موجود، كانت الوصيّة ماضية. فإن

٦١٤

سقط الحمل أو مات، رجع ميراثا على ورثة الموصي. فإن وضعته أمّه حيّا، واستهلّ وصاح، ثمَّ مات، كان ما أوصى له به ميراثا لورثته دون ورثة الموصي. ومن أوصى لمعدوم غير موجود، كانت الوصيّة باطلة.

فإذا أوصى الإنسان بثلث ماله في مواليه، وكان له موال ولأبيه موال، كانت الوصيّة لمواليه خاصّة دون موالي أبيه. فإن سمّى لمواليه شيئا ولموالي أبيه شيئا آخر، ولم يبلغ ثلثه ذلك، كان النّقصان داخلا على موالي أبيه، ويوفّى مواليه ما سمّى لهم على الكمال.

وإذا وصّى المسلم بثلث ماله للفقراء، كان ذلك لفقراء المسلمين خاصّة. فإن أوصى الكافر للفقراء، كان ذلك لفقراء أهل ملّته دون غيرهم. وإذا أوصى الإنسان بثلث ماله في صدقة وعتق وحجّ، ولم يبلغ الثّلث ذلك، بدئ بالحجّ، لأنّه فريضة من فرائض الله تعالى. وما فضل بعد ذلك، جعل طائفة في العتق وطائفة في الصّدقة.

وإذا أوصى بعتق مملوك وبشي‌ء لقرابته، ولم يبلغ الثّلث ذلك، بدئ بعتق المملوك، وما فضل بعد ذلك، كان لمن وصّى له به. وإذا وصّى بعتق ثلث عبيده، وكان له عبيد جماعة، استخرج ثلثهم بالقرعة، وأعتقوا. وإذا قال: فلان وفلان وفلان من مماليكي أحرار بعد موتي، وكانت قيمتهم أكثر من الثّلث، بدئ بالأوّل فالأوّل إلى أن يستوفي الثّلث، وكان النّقصان

٦١٥

فيمن ذكرهم أخيرا. فإن ذكر جماعة من عبيده معدودين، ولم يميّزهم بصفة، ولا رتّبهم في القول، استخرجوا بالقرعة وأعتقوا.

وإذا أعتق مملوكا له عند موته، ولا يملك غيره، انعتق ثلثه، واستسعي فيما يبقى لورثته. وكذلك إن أعتق ثلث عبده استسعي فيما يبقى للورثة، إذا لم يكن له مال غيره. فإن كان له مال غيره أعتق الباقي من ثلثه.

وإذا أوصى بعتق نسمة مؤمنة، ولم يوجد كذلك، جاز أن تعتق من أفناء النّاس ممّن لا يعرف بنصب ولا عداوة. فإن وجدت مؤمنة، لم يجز غيرها. فإن اشتري نسمة على أنّهم مؤمنة، وأعتقت، ثمَّ ظهر بعد ذلك أنّها لم تكن كذلك، فقد مضى العتق، وأجزأ عن الوصيّ.

ومن أوصى بعتق رقبة، جاز أن يعتق عنه نسمة: رجلا كان أو امرأة، صغيرا كان أو كبيرا. وإذا أوصى بأن يعتق عنه رقبة بثمن معلوم، فلم يوجد بذلك القدر، ووجد بأكثر منه، لم يجب شراؤه، وتركت الوصيّة إلى وقت ما يوجد بالثّمن المذكور. وإن وجد بأقلّ من ذلك، اشتري، وأعطي الباقي ثمَّ أعتق.

وإذا أوصى الإنسان بعتق جميع مماليكه، له مماليك يخصّونه ومماليك بينه وبين غيره، أعتق من كا ن في ملكه، وقوّم

٦١٦

من كان في الشّركة، وأعطي شريكه حقّه، إن كان ثلثه يحتمل. فإن لم يحتمل، أعتق منهم بقدر ما يحتمله.

وإذا أوصى الإنسان أن يحجّ عنه، ولم يبيّن كم يحجّ عنه، فإنّه يجب أن يحجّ عنه ما بقي من ثلثه شي‌ء. وإذا أوصى أن يحجّ عنه كلّ سنة من ارتفاع ضيعة بعينها، فلم يرتفع كلّ سنة مقدار ما يحجّ به عنه، أجاز أن يجعل ارتفاع سنتين وثلاثة لسنة واحدة، وحجّ به عنه. وإذا قال: حجّوا عنّي حجّة واحدة فإن كانت حجّة الإسلام، حجّ عنه من أصل المال، وإن كانت تطوّعا، حجّ عنه من الثّلث. فإن لم يبلغ الثّلث مقدار ما يحجّ عنه من الموضع، حجّ به عنه من الموضع الذي يمكن ذلك فيه.

وإذا قال الموصي: أعط إنسانا كلّ سنة شيئا معلوما، فمات الموصى له، كان ما أوصى له لورثته، إلّا أن يرجع فيه الموصي. فإن رجع فيه، كان ذلك له، سواء رجع فيه قبل موت الموصى له أو بعد موته. فإن لم يرجع في وصيّته حتّى يموت، ولم يخلّف الموصى له أحدا، رجعت الوصيّة على ورثة الموصي.

وإذا قال الموصي: أعطوا فلانا كذا، ولم يقل إنّه له، ولا أمره فيه بأمر، وجب تسليمه اليه، وكان الأمر في ذلك اليه: إن شاء أخذه لنفسه، وإن شاء تصدّق به عنه، كلّ ذلك جائز له.

باب الإقرار في المرض والهبة فيه وغير ذلك

إقرار المريض جائز على نفسه للأجنبيّ وللوارث على كلّ حال،

٦١٧

إذا كان مرضيّا موثوقا بعدالته، ويكون عقله ثابتا في حال الإقرار، ويكون ما أقرّ به من أصل المال. فإن كان غير موثوق به، وكان متّهما، طولب المقرّ له بالبيّنة. فإن كانت معه بيّنة، أعطي من أصل المال. وإن لم يكن معه بيّنة، أعطي من الثّلث، إن بلغ ذلك. فإن لم يبلغ، فليس له أكثر منه.

ومتى أقرّ الإنسان بشي‌ء، وقال لوصيّه: سلّمه إليه، فإنّه له، وطالب الورثة الوصيّ بذلك. فإن كان المقرّ مرضيّا عند الوصيّ، جاز له أن ينكره ويحلف عليه، ويسلّم الشي‌ء الى من أقر له به. وإن لم يكن مرضيّا، لم يجز له ذلك، وعليه أن يظهره، وعلى المقرّ له البيّنة بأنّه له. فإن لم يكن معه بيّنة، كان ميراثا للورثة.

وإذا كان عليه دين، فأقرّ: أنّ جميع ما في ملكه لبعض ورثته، لم يقبل إقراره إلّا ببيّنة. فإن لم تكن مع المقرّ له بيّنة، أعطي صاحب الدّين حقّه أوّلا، ثمَّ ما يبقى يكون ميراثا.

وإذا قال: لفلان وفلان، لأحدهما عندي ألف درهم، فمن أقام البيّنة منهما، كان الحقّ له. فإن لم تكن مع واحد منهما بيّنة، كانت الألف بينهما نصفين.

وإذا أقرّ بعض الورثة بدين على الميّت، جاز إقراره على نفسه، ولزمه بمقدار ما يخصّه من الميراث لا أكثر من ذلك. فإن أقرّ اثنان بالدّين، وكانا مرضيّين، قبلت شهادتهما، وأجيزت على

٦١٨

باقي الورثة. وإن لم يكونا مرضيّين، ألزما من الدّين بمقدار ما يصيبهما من الميراث.

وأوّل ما يبدأ به من التّركة، الكفن ثمَّ الدّين ثمَّ الوصيّة ثمَّ الميراث.

وإذا كان على الميّت دين، وخلّف مالا دون ذلك، قضي بما ترك دينه، وليس هناك وصيّة ولا ميراث، ويكون ذلك بين أصحاب الدّين بالحصص. فإن وجد متاع بعض الدّيّان بعينه، وكان فيما بقي من تركته وفاء لدين الباقين، ردّ عليه متاعه بعينه، وقضي دين الباقين من التّركة. وإن لم يخلّف غير ذلك المتاع، كان صاحبه وغيره من الدّيّان فيه سواء، يقتسمون بينهم على قدر أموالهم.

وإذا قتل الإنسان وعليه دين، وجب على أوليائه أن يقضوا دينه من ديته، سواء كان قد قتل خطأ أو عمدا. فإن كان قد قتل عمدا، وأراد أولياؤه القود أو العفو، لم يكن لهم ذلك إلّا بعد أن يرضوا أصحاب الدّيون أولا. ثمَّ إن شاءوا بعد ذلك، قتلوه، وإن شاءوا، عفوا عنه، وإن شاءوا، قبلوا الدّية.

وإذا قال الموصي لوصيّه: اقض عنّي ديني، وجب عليه أن يبدأ به قبل الميراث. فإن تمكّن من قضائه، ولم يقضه، وهلك المال، كان ضامنا له، وليس على الورثة لصاحب الدين سبيل. وإن كان قد عزل من أصل المال، ولم يتمكّن من إعطائه

٦١٩

أصحاب الدّيون، وهلك من غير تفريط من جهته، كان لصاحب الدّين مطالبة الورثة بالدّين من الذي أخذوه.

ومن أقرّ أنّ عليه زكاة سنين كثيرة، وأمر إخراجها عنه، وجب أن تخرج من جميع المال، لأنّه بمنزلة الدّين، وما يبقى بعد ذلك يكون ميراثا. فإن كان عليه شي‌ء من الزّكاة، وكان قد وجب عليه حجّة الإسلام، ففرّط فيها، وخلّف دون ما تقضى عنه به الحجّة والزّكاة، حجّ عنه من أقرب المواضع، ويجعل ما بقي في أرباب الزّكاة.

وإذا أقرّ المريض بأنّ بعض مماليكه ولده، ولم يصفه بصفة، ولا عيّنه بذكر، ثمَّ مات، أخرج بالقرعة واحد منهم، ويلحق به، ويورّث.

وإذا لم يخلّف الميّت إلّا مقدار ما يكفّن به، كفّن به، ولم يقض به الدّين. فإن تبرّع إنسان بتكفينه، كان ما خلّف يقضى به الدّين.

والهبة في حال المرض صحيحة، إذا قبضها، ولم يكن للورثة الرّجوع فيها. فإن لم يقبّضها، ومات، كان ما وهب راجعا الى الميراث. وكذلك ما يتصدّق به في حال حياته.

والبيع في حال المرض صحيح كصحّته في حال الصحة، إذا كان المريض مالكا لرأيه وعقله. فإن كان المرض غالبا على عقله، كان ذلك باطلا.

٦٢٠

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710