الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 611

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 611 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 134959 / تحميل: 6373
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

مؤلف:
العربية

١
٢

٣

الآيتان

( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) )

سبب النّزول

وردت روايات عديدة في سبب نزول الآيتين الأخيرتين أوضحها ما نقل عن الإمام الباقرعليه‌السلام في هذا المجال ، وخلاصة ذلك أنّ أحد وجهاء اليهود في منطقة خيبر كان متزوجا ، فارتكب عملا غير شرعي ومخالفا للعفة مع امرأة

٤

متزوجة من عائلة خيبرية مشهورة ، فاغتم اليهود كيف ينفذون حكم التّوراة (الرجم) في وجيههم ذلك وفي شريكته في الذنب ، فأخذوا يبحثون عن حل لهذه المعضلة لينقذوهما من العقوبة المذكورة ، وفي نفس الوقت ليظهروا التزامهم بالأحكام الإلهية ، ودفعهم هذا الأمر إلى الاستعانة بأبناء طائفتهم الموجودين في المدينة المنورة ، وطلبوا منهم أن يسألوا عن حكم هذه الحادثة من النّبى محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (حتى إذا كان الحكم بسيطا وخفيفا أخذوا به ، وإذا كان شديدا تجاهلوه وتناسوه ، ولعلهم أرادوا بسؤالهم ذلك أن يلفتوا انتباه نبيّ الإسلام إلى أنفسهم وليظهروا أنفسهم بأنّهم أصدقاء للمسلمين).

ولهذا الغرض توجه عدد من وجهاء يهود المدينة للقاء النّبى محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسألهم النّبىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن كانوا سيقبلون بكل حكم يصدره ، فأجابوه بأنّهم قدموا إليه لهذا السبب! فنزل في تلك الأثناء حكم رجم مرتكب الزنا مع المرأة المحصنة ، لكن اليهود لم يبدوا استعدادا لقبول هذا الحكم ، بدعوى أنّ ديانتهم تخلو من مثله ، فرد عليهم النّبىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ هذا الحكم هو نفس ذلك الذي هو عندهم في التّوراة ، وسألهم إن كانوا يقبلون بحضور أحد علمائهم ليتلو عليهم حكم التّوراة في تلك القضية ليأخذوا به ، فوافقوا على ذلك ، فسألهم النّبي عن رأيهم في العالم اليهودي (ابن صوريا) الذي كان يقطن منطقة (فدك) فأجابوه بأنّه خير من يعرف التّوراة من اليهود.

فبعث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى هذا العالم ، فلمّا قدم عنده أقسم عليه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالله الواحد الأحد الذي أنزل التّوراة على موسى وفلق البحر لإنقاذ بني إسرائيل وأغرق عدوّهم فرعون وأنزل عليهم نعمه في صحراء سيناء ، أن يصدق القول إن كان حكم الرجم قد نزل في التّوراة في مثل تلك الواقعة أم لم ينزل؟ فأجاب العالم اليهودي (ابن صوريا) بأنّه مرغم بسبب القسم الذي أقسمه عليه النّبي أن يقول الحقيقة ويعترف بوجود حكم الرجم في التّوراة.

٥

فسأل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اليهود عن سبب احجامهم عن تطبيق الحكم المذكور ، فأجاب (ابن صوريا) بأنّهم كانوا يطبقون هذا الحكم بحقّ العامّة من أبناء طائفتهم ويصونون الأثرياء والوجهاء منهم من تنفيذ هذا الحكم بحقّهم ، فأدى هذا التهاون إلى انتشار الخطيئة المذكورة بين أثرياء اليهود حتى بادر إلى ارتكابها ابن عم لأحد رؤساء الطائفة ، فلم يطبق بحقه الحكم الشرعي بحسب العادة المتبعة لديهم ، وصادف في نفس ذلك الوقت أن ارتكب نفس الخطيئة أحد عامّة الناس من أبناء الطائفة ، فأرادوا تطبيق حكم الرجم بحقّه لكن أقاربه اعترضوا على ذلك ، وقالوا : إذا كان لا بدّ من تنفيذ هذا الحكم فيجب أن ينفذ بحق الاثنين (الوجيه اليهودي والشخص الآخر العادي) ، فعمد عند ذلك علماء الطائفة إلى سنّ حكم أخف من الرجم وهو أن يجلد الزناة ٤٠ جلدة وتسود وجوههم ويركبوا دابة ويطاف بهم في أزقة وأسواق المنطقة!

فأمر النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الفور أن يرجم ذلك الرجل الوجيه والمرأة الثرية أمام المسجد(١) وأشهد الله في ذلك الحين بأنّه هو أول شخص يحيي حكم الله بعد أن أماته اليهود.

في تلك الأثناء نزلت الآيتان الأخيرتان وتحدّثنا عن القضية المذكورة بالإيجاز.

التّفسير

التّحكيم بين الأنصار والأعداء :

تدلّ هاتان الآيتان والآيات التي تليهما ، على أنّ للقاضي المسلم الحق ـ في ظل شروطه خاصّة ـ في الحكم في جرائم الطوائف الأخرى من غير المسلمين ،

__________________

(١) ذكرت الرّوايات التي جاء بها (البيهقي) في الجزء الثامن من سننه ، ص ٢٦٦ أن علماء اليهود حين قدموا إلى النّبي كانوا قد جلبوا معهم الرجل والمرأة الزانيين.

٦

وسيأتي شرح هذا الموضوع في تفسير نفس هذه الآيات.

لقد بدأت الآية الاولى ـ من الآيتين الأخيرتين ـ الخطاب بعبارة( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ ) وقد وردت هذه العبارة في مكانين من القرآن : أوّلهما في الآية موضوع البحث ، والثّاني في الآية (٦٧) من نفس هذه السورة والتي تتعرض لقضية الولاية والخلافة. وربّما جاء استخدام هذا التعبير من أجل إثارة أكثر لدافع الشعور بالمسؤولية لدى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتعزيز ارادته ، ومخاطبته بأنّه هو رسول الله ، وعليه أن يستقيم ويصمد في إبلاغ الحكم المكلّف به.

بعد ذلك تطمئن الآية النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كتمهيد لبيان الحكم التالي ـ فتقول :( لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ) .

ويرى البعض أن عبارة( يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ) تختلف عن عبارة «يسارعون إلى الكفر» وذلك لأنّ العبارة الاولى تقال بشأن أفراد كافرين غارقين في كفرهم ، ويتسابقون فيما بينهم للوصول إلى آخر مرحلة من الكفر ، أمّا العبارة الثّانية فتقال في من يعيشون خارج حدود الكفر لكنّهم يتسابقون للوصول إليه(١) .

وبعد أن تذكر الآية تجاوزات المنافقين والأعداء الداخليين ، تتناول وضع الأعداء الخارجيين واليهود الذين كانوا سببا لحزن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتقول الآية :( وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا ) .

ثمّ تشير الآية إلى قسم من تصرفات هؤلاء المشوبة بالنفاق والرياء ، وفتؤكّد أنّهم إنّما يستمعون كلام النّبي لا لأجل أطاعته ، بل لكي يجعلوا من ذلك وسيلة لتكذيب النّبي والافتراء عليه حيث تقول الآية :( سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ) .

ولهذه الجملة القرآنية تفسير آخر ، هو أنّ هؤلاء اليهود يستمعون كثيرا إلى أكاذيب قادتهم وزعمائمهم ، لكنّهم لا يبدون استعدادا لاستماع قول الحق

__________________

(١) المنار ، ج ٦ ، ص ٣٨٨.

٧

والإذعان له(١) .

ثمّ تفضح الآية الصفة الثالثة لليهود ، فتبيّن أنّهم يتجسّسون على المسلمين لمصلحة قوم آخرين ممّن لا يحضرون الاجتماعات الإسلامية التي تعقد في مجلس النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتقول الآية :( سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ) .

وفي تفسير آخر لهذه الجملة قيل أن هؤلاء اليهود كانوا يستمعون إلى أوامر جماعتهم ـ فقط ـ وقد كلّفهم قومهم بأن يقبلوا ما وافق أهواءهم من أقوال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأن يخالفوا أو يرفضوا ما كان عكس ذلك من أقوالهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبناء على هذا السلوك فإنّ ما كان يظهر من طاعة هؤلاء لبعض أقوال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن في الحقيقة إلّا طاعة منهم لأقوال كبارهم ووجهائهم الذين أمروهم باتباع هذا الأسلوب ، ولذلك أشارت الآية على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يحزن لمخالفات هؤلاء ، فهم لم يحضروا عنده أبدا من أجل الاستماع إلى الحقّ واتّباعه!

ثمّ تذكر الآية انحرافا آخر لهؤلاء اليهود ، فتشير إلى تحريفهم لكلام الله سبحانه وتعالى من خلال تحريف الألفاظ أو تحريف المعاني الواردة في هذا الكلام ، فهم إن وجدوا في كلام الله حكما يخالف مصالحهم أوّلوه أو رفضوه جملة وتفصيلا ، كما تقول الآية :( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ ) (٢) .

والأعجب من ذلك أنّ هؤلاء قبل أن يحضروا مجلس النّبي كانوا يقررون كما يأمرهم كبارهم أنّهم إن تلقوا من محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حكما موافقا لميولهم وأهوائهم قبلوا به ، وإن كان مخالفا لهوى أنفسهم ردوه وابتعدوا عنه ، تقول الآية الكريمة :( يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ) .

فهؤلاء قد غرقوا في الضلال وتحجرت عقولهم لغاية أنّهم كانوا يرفضون كل شيء يخالف ما عندهم من أحكام محرفة ، دون أن يبذلوا جهدا أو عناء في التفكير

__________________

(١) في التّفسير الأوّل تكون اللاء في عبارة (للكذب) لام التعليل بينما في التّفسير الثّاني فهي لام التعدية.

(٢) تحدثنا عن أساليب التحريف التي اتبعها اليهود في تفسير الآية (١٣) من نفس هذه السورة.

٨

لمعرفة الحقيقة ، وقد أبعدتهم هذه الحالة عن طريق الرشاد وأخرجتهم من جادة الصوا ، بحيث لم يبق أمل في هدايتهم ، فاستحقوا بذلك عذاب الله ، ولم تعد تنفع فيهم شفاعة الشافعين ، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة :( وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئا ) وقد تدنست قلوب هؤلاء إلى درجة لم تعد قابلة للتطهير ، وحرمهم الله لذلك طهارة القلوب ، فتقول الآية :( أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ) وعمل الله مقرون بالحكمة دائما ، لأن من يقضي عمرا في الانحراف ويمارس النفاق والكذب ويخالف الحق ويرفض الحقيقة ، ويحرف قوانين الله لن يبقى له مجال للتوبة والعودة إلى الحق ، حيث تقول الآية الكريمة في هذا المجال :( لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ ) .

أمّا الآية الثّانية فتؤكّد ـ مرّة أخرى ـ على أن هؤلاء لديهم آذان صاغية لاستماع حديث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا لإطاعته بل لتكذيبه ، أو كما يقول تفسير آخر فإنّ هؤلاء آذانهم صاغية لاستماع أكاذيب كبارهم ، فتقول الآية :( سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ) وقد تكررت هذه الجملة في آيتين متتاليتين تأكيدا واثباتا لوجود هذه الصفة الشنيعة في هؤلاء.

كما أضافت الآية صفة شنيعة أخرى اتصف بها اليهود ، وهي تعودهم وادمانهم على أكل الأموال المحرمة والباطلة من الرّبا والرّشوة وغير ذلك ، حيث تقول الآية :( أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ) (١) .

ثمّ تخير الآية النّبي بين أن يحكم بينهم أو أن يتجنبهم ويتركهم ، حيث تقول الآية :فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) ولا يعني التخيير أن يستخدم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ميله ورغبته في اختيار أحد الأمرين المذكورين ، بل إن

__________________

(١) تعني كلمة (سحت) في الأصل نزع القشرة ، أو شدّة الجوع ، ثمّ أطلقت على كل مال غير مشروع ، أي محرم ، وبالأخص الرشوة ، لأن مثل هذه الأموال تنزع الصفاء والمودة عن المجتمع وتزيل عنه البركة والرخاء مثلما يؤدي نزع قشر الشجرة إلى ذبولها وجفافها وعلى هذا الأساس فإن لكلمة (سحت) معنى واسعا ، وإذا ورد في بعض الرّوايات مصداق خاص لها فلا يدل ذلك على اختصاص الكلمة بذلك.

٩

المراد من ذلك هو أن يراعي النّبي الظروف والملابسات المحيطة بكل حالة ، فإن رأى الوضع يقتضي الحكم بينهم حكم ، وإن رأى خلاف ذلك تركهم وأعرض عنهم.

ولكي تعزز الآية الاطمئنان في نفس النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إن هو ارتأى الإعراض عن هؤلاء لمصلحة أكّدت قائلة :( وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً ) .

كما أكّدت ضرورة اتباع العدل وتطبيقه إذا كانت الحالة تقتضي أن يحكم النّبي بين هؤلاء فقالت الآية :( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) .

وقد اختلف المفسّرون في قضية تخيير النظام الإسلامي بين الحكم في غير المسلمين بأحكام الإسلام أو الإعراض عنهم ، وهل أن هذا التخيير باق على قوته أو أنّه أصبح منسوخا؟

ويرى البعض أنّ الناس في ظل الحكم الإسلامي مشمولون من الناحيتين الحقوقية والجزائية بالقوانين الإسلامية ، سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين. وبناء على هذا الرأي فإن حكم التأخير إمّا أن يكون منسوخا وإمّا أنّه يخص غير الكفار الذميين ، أي يخض أولئك الكفار الذين لا يعيشون في ظل حكم اسلامي ، بل يرتبطون بالمسلمين باتفاقيات أو مواثيق ، أو يكون بينهم علاقات ود وتزاور.

ويعتقد مفسّرون آخرون أنّ الحاكم المسلم يكون مخيرا ـ حتى في الوقت الحاضر لدى التعامل مع غير المسلمين ، فهو إمّا أن يطبق فيهم الأحكام الإسلامية إذا اقتضت الضرورة والمصلحة ذلك ، وإمّا أن يعرض عنهم ويحيلهم إلى قوانينهم الخاصّة بهم ، بحسب ظروف وملابسات كل حالة «للاطلاع أكثر على تفاصيل هذا الحكم تراجع كتب الفقه».

* * *

١٠

الآية

( وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣) )

التّفسير

تتابع هذه الآية موضوع الحكم بين اليهود تطرقت إليه الآيتان السابقتان ، اللتان بيّنتا أنّ اليهود كانوا يأتون إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويطلبون منه الحكم فيهم ، وقد أظهرت هذه الآية الأخيرة الاستغراب من حالة اليهود الذين كانوا مع وجود التّوراة بينهم ، واحتوائها على حكم الله ، يأتون إلى النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويطلبون منه الحكم فيهم بالرغم من وجود التّوراة عندهم ، فتقول :( وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ) .

ويجب الانتباه إلى أنّ المقصود من الحكم في الآية هو حكم الرجم للزاني المحصن من الرجال والنساء والذي ورد في التّوراة أيضا ، في سفر التثنية الفصل الثّاني والعشرين.

والعجيب في أمر هؤلاء اليهود أنّهم مع وجود التّوراة بينهم وعدم اعترافهم بنسخها من قبل القرآن ورفضهم للشريعة الإسلامية ، كانوا حين يرون حكما في التّوراة لا يوافق ميولهم وأهوائهم يتركون ذلك الحكم ويبحثون عن حكم آخر في

١١

مصادر لم يقرّوا ولم يعترفوا بها.

والأعجب من ذلك أنّهم حين كانوا يطلبون التحكيم من نبي الإسلام بينهم ، كانوا لا يقبلون بحكمه إذا كان مطابقا لحكم التّوراة لكنه لم يوافق ميولهم ورغباتهم حيث تقول الآية :( ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ) وما ذلك إلّا لأن هؤلاء لم يكونوا بمؤمنين في الحقيقة ، ولو كانوا مؤمنين لما استهزءوا هكذا بأحكام الله ، حيث تؤكّد الآية قائلة :( وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ) .

وقد يرد اعتراض في هذا المجال وهو : إن الآية الشريفة تقرّ بوجود حكم الله في التّوراة ونحن نعلم عن طريق القرآن والرّوايات الإسلامية ، بأن التّوراة قد أصابها التحريف قبل ظهور نبي الإسلام محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

إنّ جوابنا على هذا الاعتراض هو أننا أوّلا : لا نقول بأن التحريف قد أصاب التّوراة كلّها ، بل نقر بوجود أحكام في التّوراة تطابق الحقيقة والواقع ، وحكم الرجم ـ الذي هو موضوع بحثنا الآن ـ من الأحكام التي لم تصبها يد التحريف في التّوراة.

ثانيا : إنّ التّوراة مهما كان حالها لا يعتبرها اليهود كتابا محرفا ، ولذلك فإن الغرابة هنا تكمن في رفض اليهود العمل بحكم الله مع وجوده في توراتهم.

* * *

١٢

الآية

( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤) )

التّفسير

إنّ هذه الآية والآية التي تليها تكملان البحث أو الموضوع الوارد في الآيات السابقة ، وتبيّن هذه الآية أهمية الكتاب السماوي الذي نزل على النّبي موسىعليه‌السلام أي التّوراة ، حيث تشير إلى أنّ الله أنزل هذا الكتاب وفيه الهداية والنّور اللذان يرشدان إلى الحق ، وأن النّور والضياء الذي فيه هو لإزاحة ظلمات الجهل من العقول فتقول الآية :( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ ) .

ولذلك فإنّ الأنبياء الذين أطاعوا أمر الله ، والذين تولوا مهامهم بعد نزول التّوراة كانوا يحكمون بين اليهود بأحكام هذا الكتاب ، تقول الآية الكريمة :( يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا ) .

١٣

كما أنّ علماء اليهود ووجاءهم ومفكريهم المؤمنين الأتقياء ، كانوا يحكمون وفق هذا الكتاب السماوي الذي وصل أمانة بأيديهم وكانوا شهودا عليه ، حيث تقول الآية :( وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ ) (١) .

ثمّ توجه الآية الخطاب إلى أولئك العلماء والمفكرين من اليهود الذين كانوا يعيشون في ذلك العصر ، فتطلب منهم أن لا يخافوا الناس لدى بيان أحكام الله ، بل عليهم أن يخافوا الله ، فلا تسول لهم أنفسهم مخالفة أوامره أو كتمان الحق ، وإن فعلوا ذلك فسيلقون الجزاء والعقاب ، فتقول الآية هنا :( فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ) .

ثمّ تحذر الآية من الاستهانة والاستخفاف بآيات الله ، فتقول :( وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً ) .

وحقيقة كتمان الحق وأحكام الله نابعة إمّا عن الخوف من الناس ، وإمّا بدافع المصلحة الشخصية ، وأيّا كان السبب فهو دليل على ضعف الإيمان وانحطاط الشخصية ، وقد أشير في الجمل القرآنية أعلاه إلى هذين السببين.

وتصدر الآية حكما صارما وحازما على مثل هؤلاء الأفراد الذين يحكمون خلافا لما أنزل الله فتقول :( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) .

وواضح أنّ عدم الحكم بما أنزل الله يشمل السكوت والابتعاد عن حكم الله الذي يؤدي بالناس إلى الضلال ، كما يشمل التحدث بخلاف حكم الله.

وواضح ـ أيضا ـ أنّ للكفر مراتب ودرجات مختلفة ، تبدأ من إنكار أساس وجود الله ويشمل عصيان أوامره ، لأنّ الإيمان الكامل يدعو ويحثّ الإنسان على

__________________

(١) لقد تطرقنا إلى معنى كلمة (رباني) ومصدرها لدى تفسير الآية (٨٠) من سورة آل عمران ، أمّا كلمة (أحبار) فهي صيغة جمع من (حبر) على وزن (فكر) فهي تعني كل أثر خير ، أطلقت على المفكرين الذين يخلفون أثارا خيرة في مجتمعهم ، ويطلق أيضا على حبر الدواة الذي يستعمل للكتابة لما فيه من أثر خير.

١٤

العمل وفق أوامر الله ، ومن لا عمل له ليس له ايمان كامل.

وتبيّن هذه الآية ـ أيضا ـ المسؤولية الكبرى التي يتحملها علماء ومفكر وأكل أمّة حيال العواصف الاجتماعية ، والأحداث التي تقع في بيئاتهم ، وتدعو بأسلوب حازم لمكافحة الانحرافات وعدم الخوف من أي بشر ـ كائنا من كان ـ لدى تطبيق أحكام الله.

* * *

١٥

الآية

( وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥) )

التّفسير

القصاص والعفو :

تشرح هذه الآية الكريمة قسما آخر من الأحكام الجنائية والحدود الإلهية التي وردت في التّوراة ، فتشير إلى ما ورد في هذا الكتاب السماوي من أحكام وقوانين تخص القصاص ، وتبيّن أن من يقتل إنسانا بريئا فإنّ لأولياء القتيل حق القصاص من القاتل بقتله نفسا بنفس. حيث تقول الآية في هذا المجال :( وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) .

كما بيّنت أن من يصيب عين انسان آخر ويتلفها ، يستطيع هذا الإنسان المتضرر في عينه أن يقتص من الفاعل ويتلف عينه ، إذ تقول الآية في هذا المجال :( وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ) .

١٦

وكذلك الحال بالنسبة للأنف والأذن والسن والجروح الأخرى ،( وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ ) .

وعلى هذا الأساس فإنّ حكم القصاص يطبق بشكل عادل على المجرم الذي يرتكب أحد الجرائم المذكورة ، دون الالتفات إلى عنصره أو قوميته أو طبقته الاجتماعية أو طائفته ، ولا مجال أبدا لاستخدام التمايز القومي أو الطبقي أو الطائفي لتأخير تطبيق حكم القصاص على الجاني.

وبديهي أنّ تطبيق حكم القصاص على المعتدي شأنه شأن الأحكام الإسلامية الأخرى ، مقيد بشروط وحدود ذكرتها كتب الفقه ، ولا يختص هذا الكلام ولا ينحصر ببني إسرائيل وحدهم ، لأنّ الإسلام ـ أيضا ـ جاء بنظيره كما ورد في آية القصاص في سورة البقرة ـ الآية (١٧٨).

وقد أنهت هذه الآية التمايز غير العادل الذي كان يمارس في ذلك الوقت حيث ذكرت بعض التفاسير أنّ تمايزا غريبا كان يسود بين طائفتين من اليهود ، هما بنو النضير وبنو قريظة الذين كانوا يقطنون المدينة المنورة في ذلك العصر ، لدرجة أنّه إذا قتل أحد أفراد طائفة بني النضير فردا آخر من طائفة بني قريظة فالقاتل لا ينال القصاص ، بينما في حالة حصول العكس فإن القاتل الذي كان من طائفة بني قريظة كان ينال القصاص إن هو قتل واحدا من أفراد طائفة بني النضير.

ولمّا امتد نور الإسلام إلى المدينة سأل بنو قريظة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هذا الأمر ، فأكّد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا فرق في الدماء بين دم ودم فاعترضت قبيلة بني النضير على حكم النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وادعت أنّ حكمه حطّ من شأنهم ، فنزلت الآية الأخيرة وبيّنت أنّ هذا الحكم غير مختص بالإسلام ، بل حتى الديانة اليهودية أوصت بتطبيق قانون القصاص بصورة عادلة(١) .

ولكي لا يحصل وهم أنّ القصاص أو المقابلة بالمثل أمر الزامي لا يمكن

__________________

(١) تفسير القرطبي ، الجزء الثّالث ، ص ٢١٨٨.

١٧

الحيدة عنه ، استدركت الآية بعد ذكر حكم القصاص فبيّنت أن الذي يتنازل عن حقه في هذا الأمر ويعفو ويصفح عن الجاني ، يعتبر عفوه كفارة له عن ذنوبه بمقدار ما يكون للعفو من أهمية( فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ) (١) .

ويجب الانتباه إلى أنّ الضمير الوارد في كلمة (به) يعود على القصاص ، وكانت الآية جعلت التصدق بالقصاص عطية أو منحة للجاني واستخدام عبارة «التصدق» والوعد الذي قطعه الله للمتصدق ، يعتبران عاملا محفزا على العفو والصفح ، لأنّ القصاص لا يمكنه أن يعيد للإنسان ما فقده مطلقا ، بل يهبه نوعا من الهدوء والاستقرار النفسي المؤقت ، بينما العفو الذي وعد به الله للمتصدق ، بإمكانه أن يعوضه عما فقده بصورة أخرى ، وبذلك يزيل عن قلبه ونفسه بقايا الألم والاضطراب ، ويعتبر هذا الوعد خير محفز لمثل هؤلاء الأشخاص.

وقد ورد عن الحلبي قال سألت أبا عبد الله ـ الإمام الصادق ـعليه‌السلام عن قوله اللهعزوجل :( فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَ ) قال : «يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما عفى»(٢) .

وتعتبر هذه الجملة القرآنية في الحقيقة خير جواب مفحم للذين يزعمون أن القصاص ليس بقانون عادل ، ويدعون أنّه يشجع روح الانتقام والمثلة.

والذي يفهم من الصياغة العامّة للآية هو أنّ جواز القصاص إنّما هو لإخافة وإرعاب الجناة وبالنتيجة لضمان الأمن لأرواح الناس الأبرياء ، كما أنّ الآية فتحت باب العفو والتوبة ، وبذلك أراد الإسلام أن يحول دون ارتكاب مثل هذه الجرائم باستخدام الروادع والحوافز كالخوف والأمل ، كما استهدف الإسلام من ذلك ـ أيضا ـ الحيلولة دون الانتقام للدم بالدم بقدر الإمكان ـ إذا استحق الأمر

__________________

(١) لقد أورد الكثير من المفسّرين احتمالا آخر ، وهو أن الضمير الوارد في كلمة «له» يعود على شخص الجاني ، بحيث يصبح المعنى أن الذي يتنازل عن حقه يرفع بذلك القصاص عن الجاني ويكون ذلك كفارة لعمل الجاني ، إلّا أن ظاهر الآية يدل على التفسير الذي أشرنا إليه أعلاه.

(٢) نور الثقلين ، الجزء الأول ، ص ٦٣٧.

١٨

ذلك.

وفي الختام تؤكّد الآية قائلة :( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) .

وأي ظلم أكبر من الانجرار وراء العاطفة الكاذبة ، وترك القاتل دون أن ينال قصاصه العادل بحجّة لا ضرورة في غسل الدم بالدم ، وفسح المجال للقتلة للتمادي بارتكاب جرائم قتل أخرى ، وبالنهاية الإساءة عبر هذا التغاضي إلى أفراد أبرياء ، وممارسة الظلم بحقّهم نتيجة لذلك.

ويجب الانتباه إلى أنّ التّوراة المتداولة حاليا قد اشتملت على هذا الحكم أيضا ، وذلك في الفصل الواحد والعشرين من سفر الخروج ، حيث جاء فيها أنّ النفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن واليد باليد والرجل بالرجل والحرق بالحرق والجرح بالجرح والصفعة بالصفعة (سفر الخروج ، الجمل ٢٣ و ٢٤ و ٢٥).

* * *

١٩

الآية

( وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) )

التّفسير

بعد الآيات التي تحدثت عن التّوراة جاءت هذه الآية ، وهي تشير إلى حال الإنجيل وتؤكّد بعثة ونبوة المسيحعليه‌السلام بعد الأنبياء الذين سبقوه ، وتطابق الدلائل التي جاء بها مع تلك التي وردت في التّوراة ، حيث تقول الآية :( وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ ) ولهذه الجملة القرآنية تفسير آخر وهو أنّ عيسى المسيحعليه‌السلام قد أقرّ بحقيقة كلّ ما نزل في التّوراة على النّبي موسىعليه‌السلام كاقرار جميع الأنبياءعليهم‌السلام بنبوة من سبقوهم من الأنبياء ، وبعدالة ما جاؤوا به من أحكام.

ثمّ تشير الآية الكريمة إلى إنزال الإنجيل على المسيحعليه‌السلام وفيه الهداية والنّور فتقول :( وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ ) وقد أطلق اسم النّور في القرآن المجيد على التّوراة والإنجيل والقرآن نفسه ، حيث نقرأ بشأن التّوراة قوله تعالى :( إِنَّا

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

يكون جاهلاً لسائر اللغات أيضاً، وعلى ذلك فليس للأُمّي إلّا معنى واحد وله مصاديق وأفراد حسب الظروف التي تستعمل الكلمة فيها، واطلاقه في الآية على من لم يعرف اللغات السامية لا يكون دليلاً على كونه موضوعاً لخصوص هذا المعنى، كما أنّ إطلاق الإنسان وإرادة فرد منه بالقرينة لا يكون دليلاً على كونه موضوعاً لذلك الفرد.

هذا هو خلاصة المقال في وصف الاُمّي الذي جاء توصيف النبي به في الذكر الحكيم وهناك آيات أُخر تثبت ذلك المعنى ( اُمّية النبي ) قال سبحانه:

( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) ( العنكبوت / ٤٨ ).

فالآية بحكم وقوع النكرة فيها في سياق النفي تفيد شمول السلب وعمومه لتلاوة أي كتاب وممارسة أية كتابة.

ثمّ إنّه سبحانه علّل هذا السلب بأنّه خير عون لنفي ريب المبطلين وشك المشكّكين إذ لو كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ممارساً للقراءة والكتابة قبل البعثة، لاتّهمه اليهود والنصارى والمشركون بأنّ الشريعة التي جاء بها تلقّاها عن طريق قراءة الصحف وتلاوتها، ولأجل صد هذا الريب وقلع جذور هذا الشك لم يُمكّن نبيّه عن تعلّم الكتابة والقراءة حتّى يكون ذا بيّنة قويّة على أنّ شريعته شريعة سماوية.

ومع أنّ النبي الأكرم عاش أربعين سنة بلا ممارسة للكتابة والقراءة فقد اتّهمه بعض المعاندين بأنّ قرآنه استنساخ منه لما تملى عليه، قال سبحانه:

( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إلّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا *وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الفرقان / ٤ و ٥ ).

وكان المعاند يبثّ بذر هذا الشك حتّى وافاه الوحي الإلهي بالنقد والرد بقوله

٨١

سبحانه:

( قُل لَّوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( يونس / ١٦ ).

ومعنى الآية إنّكم أيّها العرب تحيطون بتاريخ حياتي، فقد لبثت فيكم عمراً يناهز الأربعين فهل رأيتموني أقرأ كتاباً أو أخطّ صحيفة، فكيف ترمونني بالإفك الشائن بأنّه أساطير الأوّلين التي اكتتبتها وافتريتها على الله وأعانني على ذلك قوم آخرون ؟ فإذا كنتم واقفين على سيرتي وحياتي في الفترة الماضية فاعلموا أنّه منزّل من الله سبحانه كما أمر الله نبيّه أن يجبهم بقوله:

( قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( الفرقان / ٦ )

نعم ربّما يقال بأنّ قوله:( مَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ ) لا يدل على أنّ النبي كان أُمّياً بل فيها أنّه لم يكن يكتب الكتاب، وقد لا يكتب الكتاب من يحسنه كما لا يكتب من لا يحسنه(١) .

يلاحظ عليه: أنّ التعليل الوارد في الآية إنّما يصحّ وقوعه علّة لصدر الآية إذا كان النبي غير مستطيع لأن يقرأ ويكتب لا أن يكون عالماً بهما وإن لم يمارسهما، وذلك لأنّ التعليل بصدد إزالة الشك والريب في أنّه كتاب سماوي وليس من صنع النبي ولا يمت إليه بصلة وذلك إنّما يتحقّق إذا كان النبي أُمّياً محضاً غير قادر عليهما لا ما إذا كان عارفاً بهما ولكن تركهما لمصلحة أو لعلّة أُخرى.

* * *

__________________

(١) التبيان في تفسير القرآن: ج ٨ ص ٢١٦، طبع بيروت. ويظهر من الآلوسي في تفسيره أنّه إعتمد على هذا.

٨٢

وضع النبي بعد البعثة

اتّفق المحقّقون من السنّة والشيعة على أنّه كان أُمّياً قبل البعثة لا يحسن الكتابة والقراءة، وأمّا وضعه بعد البعثة وانّه هل بقي على ما كان عليه قبلها أو تغيّر وضعه وصار عارفاً بالكتابة والقراءة، وعلى فرض ثبوت معرفته بهما فهل مارسهما في بعض الفترات من عمره أو لا ؟ فهذه بحوث خارجة عن موضوع بحثنا لأنّ البحث في حياته وسيرته قبل البعثة وما ذكر يرجع إلى سيرته بعدها، ولعلّنا نرجع إلى تلك المسألة في المستقبل.

* * *

٧ ـ إيمان النبي قبل البعثة

لم يشك أحد من أهل التاريخ والسير في انّ النبي الأكرم كان على خط التوحيد قبل البعثة ويدل عليه مأثورات كثيرة والمسألة إتفاقية بين المسلمين ولا تحتاج إلى اطناب، وقد دلّت الآثار على أنّه كان يكافح الوثنيّة منذ نعومة أظفاره ومن إبّان طفوليته وشبابه.

روى صاحب المنتقى: انّ النبي لـمّا تمّ له ثلاث سنين، قال يوماً لوالدته أي مرضعته « حليمة السعديّة »: ما لي لا أرى أخويّ بالنهار ؟ قالت له: يا بُنيّ إنّهما يرعيان غنيمات.

قال: فما لي لا أخرج معهما ؟

قالت له: أتحبّ ذلك ؟

قال: نعم.

قالت حليمة السعدية: فلمّا أصبح محمّد دهّنته وكحّلته وعلّقت في عنقه

٨٣

خيطاً فيه جزع يماني فنزعه ثمّ قال لأُمّه: « مهلاً يا أُمّاه فإنّ معي من يحفظني »(١) .

ونكتفي في المقام بهذا المقدار وقد بسطنا الكلام في المأثورات حول توحيده وإيمانه في محلّه(٢) .

إنّما المهم تعيين الشريعة التي كان يطبّقها في أعماله الفردية والإجتماعية العبادية وغيرها.

الشريعة التي كان يتعبّد بها قبل البعثة

أمّا الشريعة التي كان يطبقها في أعماله فقد إختلفت الأنظار فيه وانتهت إلى أقوال واحتمالات:

١ ـ إنّه لم يكن يتعبّد بشريعة من الشرائع وإنّما يكتفي في أعماله الفردية والإجتماعية بما يوحي إليه عقله.

وهذا القول لا يُعرَّج عليه، إذ لم تكن أعماله منحصرة في المستقلّات العقليّة كالاجتناب عن البغي والظلم والتحنّن على اليتيم، والعطف على المسكين، بل كانت له أعمال عبادية لا تصحّ بدون الركون إلى شريعة لأنّه كان يخرج في شهر رمضان إلى « حراء » فيعتكف فيه وهل يمكن الاعتكاف بدون الاعتماد على شريعة، وقد رويت عن أئمّة أهل البيت: إنّه حجّ عشرين حجّة مستتراً(٣) ولم يكن البيع والربا ولا الخل والخمر ولا المذكّى والميتة ولا النكاح والسفاح عنده سواسية، فطبيعة الحال تقتضي أن يكون عارفاً بأحكام عباداته وأفعاله.

__________________

(١) المنتقى للكازروني، الباب الثاني من القسم الثاني، ونقله المجلسي في البحار: ج ١٥، ص ٣٩٢.

(٢) لاحظ « مفاهيم القرآن »: ج ٥ ص ٣٥١ ـ ٣٥٢.

(٣) الوسائل: ج ٨، الباب٤٥ ص ٨٧ ـ ٨٨.

٨٤

٢ ـ إنّه كان يعمل بشريعة إبراهيم وسننه وطقوسه المعروفة وهذا هو الذي كان السيّد العلّامة الطباطبائي يستظهره كأحقّ الأقوال بشهادة أنّ أجداد النبي واُسرة البيت الهاشمي وجميع الأحناف في الجزيرة العربية كانوا على دين إبراهيم ولم ينقل أحد من أهل السير تهوّدهم أو تنصّرهم.

ويتوجّه على هذا القول: إنّ لازم ذلك كونه عاملاً بالشريعة المنسوخة فإنّ الشريعتين اللاحقتين كشريعة الكليم والمسيح نسختا تلك الشريعة، إلّا أن يقال: إنّ سنن إبراهيمعليه‌السلام وطقوسه كانت باقية على ما هي عليها في الشرائع اللاحقة لها، وإنّما انقضت نبوّته، ولكن شريعته كانت باقية في غضون الشرائع اللاحقة، ولأجل ذلك صارت الشريعة الإبراهيميّة هي الأساس للشرائع اللّاحقة وإنّما زيد عليها في الفترات اللاحقة أحكام وأُصول أُخر جاء بها الكليم، أو المسيح أو النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

نعم يبقى على هذا القول إشكال آخر وهو أنّه لازم هذا القول أن يكون النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله جزء من أُمّة إبراهيمعليه‌السلام تابعاً له، واقتداء الفاضل بالمفضول غير صحيح عقلاً ولم يخصّ أحد تفضيله على سائر الأنبياء بوقت دون وقت، فيجب أن يكون أفضل في جميع الأوقات فلاحظ وتأمّل.

٣ ـ أن يكون تابعاً للشريعة الأخيرة وهي شريعة المسيح، وأمّا شريعة الكليم فلا شك أنّها كانت منسوخة بالشريعة اللاحقة، ولكن هذا الاحتمال مبني على أن يكون النبي واقفاً بشريعة المسيح ولم يكن له طريق إلّا مخالطة أهل الكتاب وعلمائهم، وحياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله لا تنسجم مع هذا الإحتمال، إذ لم يتعلّم منهم شيئاً ولم يسألهم.

٤ ـ إنّه كان يعمل حسب ما يُلهم ويوحى إليه سواء أكان مطابقاً لشرع من قبله أم مخالفاً، وسواء أكان مطابقاً لما بعث عليه من الشريعة فيما بعد أم لا ؟ وهذا هو أظهر الأقوال، ويؤيّد ذلك ما نقل عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال:

٨٥

«لَقَدْ قَرَنَ الله بِهِ مِنْ لَدُنْ اَنْ كَانَ فَطيماً اَعْظَمَ مَلك مِنْ مَلائِكتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَريقَ المَكَارِم وَمحَاسِنَ اَخْلاَقِ العَالم لَيْلِهِ ونَهارِهِ وَلَقَدْ كنْتُ اَتَّبَعهُ اتِّباعَ الفَصِيلِ اثرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لِي في كُلِّ يوْمٍ منْ أخْلاَقِهِ علماً فاَراه وَلا يَرَاه غَيرِي » (١) .

وعلى ذلك لا جدوى من البحث بعد ما كان العمل على ضوء ما يلهم ويؤيّد ذلك أنّه سبحانه أنعم على المسيح ويحيى بالنبوّة أيام صغرهما قال سبحانه حاكياً عن المسيح:

( قَالَ إِنِّي عبد الله آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ) ( مريم / ٣٠ ).

وقال سبحانه مخاطباً يحيى:

( يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيًّا ) ( مريم / ١٢ ).

ولازم ذلك، أنّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يُلْهم منذ صباه إلى أن بعثه الله سبحانه نبيّاً وهادياً للبشر وليس ذلك أمراً غريباً، وتؤيّد ذلك المأثورات المتضافرات في بدء نزول الوحي عليه فكان له الرؤية الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح، ثمّ حبّب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنّث فيه ـ وهو التعبّد ـ الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوّد لذلك ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتى جاءه الحقّ وهو في غار حراء، فجاءه الملك وقال: « اقرأ »(٢) .

خاتمة المطاف

نحن مهما جهلنا بشيء فلا يليق بنا الجهل بأنّ النبوّة منصب إلهي لا يتحمّله

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة رقم ١٨٧ طبعة عبده.

(٢) صحيح البخاري: ج ١ ص ٣، باب بدء الوحي إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والسيرة النبوية: ج ١ ص ٢٣٤.

٨٦

إلّا الأمثل فالأمثل من الناس، ولا يفاض إلّا لمن له مقدرة روحيّة عظيمة ولا يتهيّب عندما يتمثّل له رسول الرب وأمين الوحي ويميّز بين وحي الحقّ وكلامه ووسوسة الشياطين وإلقاءاتهم، ومن المعلوم أنّه عبء فادح ومسؤولية عظمى، لا يحملها إلّا من وقع تحت رعاية الله وتربيته، ولا تتحقّق تلك الغاية إلّا باقتران ملك من ملائكته يرشده إلى معالم الهداية، ويصونه من صباه إلى شبابه إلى كهولته عن كل سوء وخطأ حتّى تستعدّ نفسه لتمثّل أمين الوحي وتحمّل كلامه سبحانه. وهذا ما أشار إليه الإمام أمير المؤمنين في كلامه السابق فلاحظ.

٨٧

٨٨

(٤)

الوحي في القرآن الكريم

لقد تعرّفت على حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل البعثة وما ورد حولها من الآيات في القرآن الكريم، وبذلك تمّ بيان ما يرجع إلى الشطر الأوّل من حياته، وتسلسل البحث يدفعنا إلى البحث عن الشطر الثاني من حياته وهو ما يرجع إلى الحوادث التي مرّت عليه بعد البعثة ونزول الوحي عليه قبل هجرته إلى المدينة المنوّرة، وقد أقام بعد أن حباه الله بالنبوّة والرسالة قرابة ثلاثة عشر سنة يقود فيها أُمّته إلى الصلاح والفلاح بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادلهم بالتي هي أحسن.

ولمـّا ضاق عليه الأمر في موطنه الأوّل ودارت عليه الدوائر من قبل أعدائه وأعداء رسالته إضطرّ إلى مغادرة موطنه وألقى رحاله في مهجره أعني المدينة المنورة وبقي فيها زهاء عشر سنين إلى أن اختاره الله سبحانه إلى جواره، وبذلك طويت صفحات عمره المشرقة، وبقيت آثارها لامعة في سماء الإنسانيّة مشعلاً للهداية على مرّ العصور والتاريخ، وقد إجتازت مراحل ثلاثة:

١ ـ حياته قبل البعثة.

٢ ـ حياته بعد البعثة إلى الهجرة.

٣ ـ حياته بعد الهجرة حتى الإرتحال إلى الرفيق الأعلى.

فها نحن في رحاب المرحلة الثانية من مراحل حياته الشريفة وجاءت الحوادث في هذه المرحلة تترى وتقارع شخصيّته الصامدة وقبل أن نخوض في تحليل هذه

٨٩

الحوادث حسب التسلسل التاريخي على ضوء ما نستفيده من القرآن الكريم ونستوحيه من خلال آياته ; نذكر حادثة نزول الوحي عليه وتكليله بوسام النبوّة التي هي من هبات الله تعالى الجسيمة يمنحها لمن يشاء من عباده( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) .

الوحي لغة واصطلاحاً

الوحي في اللّغة هو الإلقاء في خفاء.نصّ على ذلك ابن فارس في المقاييس، ثم إنّ أئمّة اللّغة وإن ذكروا للوحي معان مختلفة لكن الجميع يرجع إلى أصل واحد وهو تعليم الغير بخفاء، قال ابن منظور: الوحي الإشارة، والكتابة، والرسالة، والإلهام والكلام الخفي وكل ما ألقيته إلى غيرك يقال وحيت إليه الكلام، والمستفاد من كلماتهم: أنّ الوحي هو الإعلام بخفاء بطريق من الطرق والعنصر المقوّم لمعنى الوحي هو الخفاء، وأمّا غيره كالسرعة على ما في مفردات الراغب فليس بمقوّم لمعنى الوحي، كما أَنّ الإشارة والكتابة والإلهام إلى القلب كلّها من طرق الوحي ووسائله.

وقد أُستعمل الوحي في القرآن الكريم في موارد مختلفة كلّها مصاديق وموارد لهذا المعنى الجامع وإنْ شئت قلت من قبيل تطبيق المعنى الكلّي على مصاديقه المختلفة المتنوّعة، وإليك البيان:

١ ـ تقدير الخلقة بالسنن والقوانين:

قال سبحانه:( ثُمَّ اسْتَوَىٰ إلى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ *فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ

٩٠

سَمَاءٍ أَمْرَهَا ) ( فصّلت / ١١ و ١٢ ).

فقوله سبحانه:( وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ أَمْرَهَا ) يحتمل وجهين:

( الأوّل ): أودع في كل سماء السنن والأنظمة الكونية وقدّر عليها دوامها إلى أجل معيّن. وبما أنّ السماوات تلقّت هذه السنن والنظم بالإشارة في خلقتها استعير في التعبير لفظ الوحي.

( الثاني ): إنّ الشعور والإدراك ساريان في جميع مراتب الوجود من أعلاه كواجبه إلى أدناه كالهيولي في عالم التكوين، ولكن كل حسب درجته ومرتبته، فالسماوات تلقّت ما أوحى إليها سبحانه بخفاء فقامت بامتثاله ما أوحى إليها من الوظائف.

ومن هذا القبيل قوله سبحانه:( إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا *وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا *وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا *يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا *بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا ) ( الزلزلة / ١ ـ ٥ ).

٢ ـ الإدراك بالغريزة:

قال سبحانه:( وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إلى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ *ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً ) ( النحل / ٦٨ و ٦٩ ).

فالأعمال المدهشة الخلّابة للعقول التي تقوم بها النحل في صنع بيوته والقيام بشؤون وظائفها ثمّ التجوّل بين البساتين، ومصّ رحيق الأنهار، ثمّ إيداعها في صفائح الشهد، شيء تتعلّمه بإيحاء من الله سبحانه وذلك بإيداع الغرائز الكفيلة بذلك، وبما أنّ تأثّر النحل بها بخفاء وبلا إلتفات من الشعور والإدراك اُطلق عليه لفظ الوحي.

ويحتمل أيضاً هناك معنى آخر ذكرناه في الوحي إلى السماء.

٩١

٣ ـ الإلهام والإلقاء في القلب:

وقد استعمل الوحي في الإلقاء إلى القلب في موارد في الذكر الحكيم.

منها قوله سبحانه:( وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ) ( القصص / ٧ ).

ومنها قوله:( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلى الحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي ) ( المائدة / ١١١ ).

ومنها قوله تعالى في شأن يوسفعليه‌السلام عِندما جعلوه في غيابت الجبّ، قال سبحانه:

( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) ( يوسف / ١٥ ).

إلى غير ذلك من الموارد.

٤ ـ الإشارة:

قال سبحانه:( فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ المِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) ( مريم / ١١ ).

وبما أنّه استخدم الإشارة في تفهيم مراده فأشبه فعله إلقاء الكلام بخفاء فصار ذلك مصحّحاً لاستعمال لفظ الوحي.

٥ ـ الإلقاءات الشيطانيّة:

قال سبحانه:( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) ( الأنعام / ١١٢ ).

ويعلم وجه استعمال الوحي هنا ممّا ذكرنا فيما سبق.

٩٢

٦ ـ كلام الله المنزّل على نبي من أنبيائه:

قال سبحانه:( كَذَٰلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وإلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( الشورى / ٣ ).

وقد عرّف هذا النوع من الوحي بأنّه تعليمه تعالى من اصطفاه من عباده كلّما أراد اطّلاعه على ألوان الهداية واشكال العلم ولكن بطريقة خفيّة غير معتادة للبشر.

وحصيلة البحث: أنّ للوحي معنى واحداً وله مصاديق متنوّعة وليست هي بمعان متكثّرة، وإنّ حقيقة الوحي تعليم غيبي لمن اصطفاه سبحانه من عباده، لا يشابه الطرق المألوفة بين العباد، وإنْ أردت المزيد من الإطّلاع فإليك البيان التالي:

قنوات المعرفة الثلاثة:

إنّ أمام الإنسان طرق ثلاثة للوصول إلى مقاصده:

الطريق الأوّل ـ يستفيد منه جموع الناس غالباً ـ بينما يستفيد طائفة خاصّة منهم من الطريق الثاني، ولا يستفيد من الطريق الثالث إلّا أفراد معدودين تكاملت عقولهم وتسامت أرواحهم وهي كالتالي:

١ ـ الطريق الحسّي والتجربي:

والمقصود منه الإدراكات والمعلومات الواردة إلى الذهن عن طريق الحواس الظاهريّة أو بفضل التجربة التي أسّست الحضارة المعاصرة عليها.

٢ ـ الطريق التعقّلي النظري:

إنّ المفكّرين يتوصّلون إلى كشف الاُمور الخارجة عن إطار الحسّ والتجربة عن طريق الإستدلال وإعمال النظر وإنهاء المجهولات إلى البديهيات، وقد توصّل

٩٣

البشر بهذا الطريق إلى المسائل الفلسفيّة الكلّية وما يضاهيها.

٣ ـ طريق الإلهام:

وهذا هو الطريق الثالث وهو فوق نطاق الحس والتعقّل. إنّه نوع جديد من المعرفة، ونمط متميّز من إدراك الحقائق ليس محالاً من وجهة نظر العلم، وإن كان يصعب على أصحاب الإتجاه المادي قبوله لكونه طريقاً خارجاً عن إطار الحسّ والتعقّل.

إنّ طريق التعرّف على حقائق الكون ـ في منهج المادّيين وأصحاب النزعة المادّية ـ ينحصر في قناتين لا غير وهما اللّذان سبق ذكرهما، في حين أنّ هناك حسب نظر الإلهيين قناة ثالثة أيضاً.

إنّ هذا الطريق الثالث أقوى اُسساً وأوسع آفاقاً عند من يدّعون الرسالة والنبوّة من جانب الله سبحانه، وأنّ نفوس اُولئك الأشخاص لتبدو أكثر صفاءً وطراوة وزهواً.

كلّما حصل ارتباط بين الله سبحانه وفرد من أفراد النوع الإنساني على نحو تلقّي الحقائق من دون توسيط الحواس وأعمال الفكر يسمّى بالإلهام تارة والإشراق اُخرى، وكلّما نتجت من هذا الإرتباط سلسلة تعاليم عامّة يطلق عليها اسم الوحي ويسمّى المتلقّي نبيّاً، ومن هنا اعتبر العلماء « الوحي » الطريقة المطمئنّة الوحيدة إلى المعرفة العامّة.

أنواع الوحي وأقسامه:

إنّ النبي تارة يتلقّى الوحي على نحو الإلهام في القلب، واُخرى يسمع عبارات وكلمات من وراء حجاب كسماع موسىعليه‌السلام كلام الله سبحانه في الطور، وثالثة تنكشف الحقائق له في عالم الرؤيا انكشاف النهار كرؤيا إبراهيم

٩٤

الخليلعليه‌السلام ذبح ولده إسماعيل، وقد ينزل عليه ملك من جانب الله تعالى معه كلامه سبحانه وهو الذي يسمّى بالروح الأمين.

وإلى الطرق الثلاثة: « سوى الرؤيا » اُشير بقوله سبحانه:( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إلّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ) وإلى نزول الملك بقوله:( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً ) وأمّا الرؤيا الصادقة فيكفي في ذلك قوله سبحانه حاكياً عن الخليلعليه‌السلام :( يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) ( الصافّات / ١٠٢ ).

فلو لم تكن رؤيا الخليل إدراكاً قطعيّاً واتّضح بها وجه الحقيقة كفلق الصبح لما أخبر ولده بها ولما أجابه الولد بالإمتثال طائعاً. نعم اُشير إلى الملك الحامل لكلام الله سبحانه بقوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ ) ( الشعراء / ١٩٣ و ١٩٤ ).

إنّ هناك من يحاول أن يفسّر الوحي بالاُصول المادّية والطرق الحسّية ولهم في ذلك آراء ونظريات يشبه كثيرها بكلام بعض المشركين في تقييم الوحي والقرآن الكريم، وإليك بيان هذه النظريات واحدة تلو الاُخرى.

١ ـ الوحي وليد النبوغ:

ويقولون: يتميّز بين أفراد الإنسان المتحضّر أشخاص يملكون فطرة سليمة، وعقولاً مشرقة تهديهم إلى ما فيه صلاح المجتمع وسعادة الإنسان، فيضعون قوانين فيها مصلحة المجتمع وعمارة الدنيا، والإنسان المتصدّي لهذه الوظيفة هو النبي، والفكر المترشّح من مكامن عقله وومضات نبوغه هو الوحي، والقوانين التي يسنّها لصلاح المجتمع هي الدين، والروح الأمين ( جبرئيل ) هو نفسه الطاهرة التي تفيض هذه السنن والقوانين إلى مراكز إدراكه، والكتاب السماوي هو كتابه الذي يتضمّن تلك السنن والقوانين، والملائكة التي تؤيّده في حلّه وترحاله هي القوى الطبيعية ،

٩٥

والشيطان الذي ينابذه وينادده هي النفس الأمّارة بالسوء.

أقول: إنّ تفسير النبوّة بالنبوغ وإن صيغ في قالب علمي جديد ليس نظرية جديدة بحدّ ذاتها، فإنّ جذوره تمتد إلى عصر المشركين المعاصرين للنبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّهم كانوا يحسّون بحالة الإنجذاب للقرآن وبلاغته الخلّابة فينسبونه إلى الشعر ويصفون قائله بالشاعر، قال سبحانه حاكياً عنهم:( بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ ) ( الأنبياء / ٥ ).

ويجيبهم القرآن بقوله:( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إلّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ) ( يس / ٦٩ ).

إنّ هذه النظرية إبتنت على إنكار ماوراء الطبيعة فصار الوجود عندهم مساوقاً للمادّة فلم يجدوا منتدحاً عن تفسير الوحي بما جاء في هذه النظرية.

إنّا إذا سبرنا تاريخ المصلحين في العالم نجدهم على فئتين.

فئة تتكلّم باسم الدين الإلهي وتخبر عن الله سبحانه وينسب كل ما يأمر وينهي إلى عالم الغيب ولا يرى لنفسه شأناً سوى كونه مبلّغاً لرسالات الله ومؤدّيا لبلاغها وإنذارها.

وفئة تتكلّم باسم المصلح الإجتماعي وينسب كل ما يتفوّه به إلى بنات فكره وعقله، فلو صحّت تلك النظرية لما كان لهذا التقسيم مفهوم صحيح وعندئذ يتساءل: لماذا نسبت الفئة الاُولى ما جاؤوا به من التعاليم إلى عالم الغيب مع أنّه من ومضات فكرتهم هذا، ومن جانب آخر: إنّ المصلحين بإسم الأنبياء كانوا رجالاً صادقين وصالحين لم يبدر منهم ما ينافي صدقهم وصلاحهم، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّهم كانوا يحسّون من صميم ذاتهم بأنّهم مبعوثون من جانبه سبحانه.

إنّ هذه النظرية التي تفسّر الوحي بالنبوغ وتوسّم الأنبياء بالنوابغ لم تدرس أحوال النوابغ والعلل والمبادئ التي يرتكز عليها النبوغ حتّى تقف على أنّ أحوال

٩٦

الأنبياء على طرف نقيض من أحوال النوابغ، فإنّ أفكار النوابغ تتوقّد وتزدهر تحت لواء المجتمعات الراقية، وتحت ظل الحضارات الإنسانية، وأمّا المجتمعات المتخلّفة فلو كانت تمتلك نوابغاً بالذات لاُخمد فيها ذكاؤهم وبارت فيها فطنتهم.

وأمّا الظروف التي كان يعيش فيها الأنبياء خصوصاً النبي الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله فقد كانت على نقيض هذا الجانب، فقد بعثصلى‌الله‌عليه‌وآله بين قوم يغطّون في سبات التخلّف والإنحطاط، فكيف يمكن تفسير النبوّة الخاتمة بالنبوغ مع هذا البون الشاسع بين ظروف النوابغ وظروف خاتم المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله .

أضف إلى ذلك: انّ النوابغ تسودهم العزلة والانزواء مع أنّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان بين الناس يعيش معهم في حياتهم الإجتماعية وإن لم يكن على سيرتهم وسلوكهم، فقد قضى عمره في الرعي والتجارة إلى أن بعثه الله سبحانه نبيّاً لهداية الاُمّة.

وأنّى للنوابغ الكتاب الذي حارت فيه العقول وخرست الألسن عن النطق بمثله ؟ وأين لهم هذه النظم والتشريعات الحيّة النابضة التي تتلائم وتنسجم مع جميع الحضارات الإنسانية، فهي كما وصفها شبلي شمّيل اللبناني المتوفّى عام ١٣٣٥ ه‍ ق في رسالته إلى صاحب المنار:

إلى السيّد محمد رشيد رضا صاحب ( المنار ):

أنت تنظر إلى محمّد كنبيّ وتجعله عظيماً، وأنا أنظر إليه كرجل وأجعله أعظم، ونحن وإن كنّا في الاعتقاد على طرفيّ نقيض، فالجامع بيننا العقل الواسع والإخلاص في القول، وذلك أوثق لنا لعرى المودّة ( الحق أولى أن يقال ):

دع من محمّد في صدى قرآنه

ما قد نحاء للحمة الغايات

إنّي وإن أك قد كفرت بدينه

هل أكفرن بمحكم الآيات ؟

أو ما حوت في ناصع الألفاظ من

حكم روادع للهوى وعظات

٩٧

وشرايع لو أنّهم عقلوا بها

ما قيّدوا العمران بالعادات ؟

نعم المدبّر والحكيم وإنّه

ربّ الفصاحة مصطفى الكلمات

رجل الحجى رجل السياسة والدهاء

بطل حليف النصر في الغارات

ببلاغة القرآن قد خلب النهى

وبسيفه أنحى على الهامات

من دونه الأبطال في كل الورى

من سابق أو غائب أو آت

٢ ـ الوحي ثمرة الأحوال الروحيّة:

هذه النظرية هي التي يعتمد عليها المستشرقون في تحليل نبوّة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وفسّرها من بينهم « اميل درمنغام »، وخلاصتها:

إنّ الوحي إلهام يفيض من نفس النبي الموحى إليه لا من الخارج، وذلك أنّ سريرته الطاهرة، وقوّة إيمانه بالله، والإعتقاد بوجوب عبادته، وترك ما سواها من عبادة وثنيّة وتقاليد وراثيّة موبوءة، يحدث في عقله الباطن، الرؤى والأحوال الروحيّة فيتصوّر ما يعتقد وجوبه، إرشاداً إليه، نازلاً عليه من السماء بدون وساطة، أو يتمثّل له رجل يلقّنه ذلك، يعتقد أنّه ملك من عالم الغيب، وقد يسمعه يقول ذلك ولكنّه إنّما يرى ويسمع ما يعتقده في اليقظة كما يرى ويسمع مثل ذلك في المنام الذي هو مظهر من مظاهر الوحي عند جميع الأنبياء، فكلّما يخبر به النبي انّه كلام اُلقى في روعه، أو ملك ألقاه على سمعه، فهو خبر صادق عنده(١) .

نبوّة أو أضغاث أحلام ؟!

وممّا يلاحظ على تلك النظرية إنّها ليست بشيء جديد وإن كانت ربّما تنطلي

__________________

(١) الوحي المحمدي: ص ٦٦.

٩٨

على السذج من الناس بأنّها نظرية جديدة ذات قيمة علمية.

إنّ الذكر الحكيم يحكي لنا مقالة المشركين في سالف عهدهم في حقّ النبي الأكرم وكتابه حيث كا نوا يحلّلون نبوّته والوحي المنزّل عليه، بأنّها أضغاث أحلام، قال تعالى حاكياً عنهم:( أَضْغَاثُ أَحْلامٍ ) أي أنّ ما يحكيه عن الله تبارك وتعالى إنّما هو وحي الأحلام يجري على لسانه، وعلى ذلك فليست تلك النظرية إلّا تفسير للنبوّة بالجنون الذي هو في مرتبة عالية وشديدة من تجلّي النزعات الخيالية فاستغلّه المستشرقون، واستعرضوه بثوب جديد يوهم السذّج أنّها تحليل علمي بني على أساس علمي رصين، ولكن المساكين غير واقفين على أنّه نفس النظرية الجاهلية التي جوبه بها النبي حيث قالوا:( يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) ( الحجر / ٦ ).

وقد حكيت هذه التهمة عن لسان المشركين في غير سورة. سبحانك يا ربِّ ما أعظم جناية الإنسان على الصالحين البالغين، ذروة الكمال في العقل والدراية حتى وسمهم هؤلاء المفترون تارة بالخبطة وأُخرى بالمسّ والجنون.

٩٩
١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611