الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل3%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 611

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 611 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135031 / تحميل: 6382
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

الآيتان

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢) )

سبب النّزول

الأقوال في سبب نزول هاتين الآيتين مختلف في مصادر الحديث والتّفسير ، ولكن الذي ينسجم أكثر مع سبب نزول هاتين الآيتين ، هو ما جاء في تفسير «مجمع البيان» عن علي بن أبي طالبعليه‌السلام قال : خطب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «إنّ الله كتب عليكم الحج» فقام عكاشة بن محصن وقيل سراقة بن مالك فقال : أفي كلّ عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه حتى عاد مرّتين أو ثلاثا ، فقال رسول الله : «ويحك ما يؤمنك أن أقول : نعم ، والله لو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت ما استطعتم ، ولو تركتم لكفرتم ، فاتركوني كما تركتكم ، فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن

١٦١

شيء فاجتنبوه»(١) .

ينبغي ألا يظن أحد بأن سبب نزول هاتين الآيتين ـ كما سنتطرق إلى ذلك في تفسيرهما ـ يعني غلق أبواب السؤال وباب تفهم الأمور بوجوه الناس ، لأنّ القرآن في آياته يأمر الناس صراحة بالرجوع إلى أصحاب الخبرة في فهم الأمور :( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (٢) بل المقصود هو الأسئلة التافهة والتحجج ، والإلحاح المؤدي غالبا إلى تشويش أفكار الناس وقطع التسلسل الفكري للخطيب.

التّفسير

الأسئلة الفضولية :

لا شك أنّ السّؤال مفتاح المعرفة ، ولذلك من قلّت أسئلته قلت معرفته ، وفي القرآن وفي الرّوايات الكثير من التوكيد على الناس أن يسألوا عمّا لا يعرفون ، ولكن لكل قاعدة استثناء ، ولهذا المبدأ التربوي الأساس استثناءاته أيضا ، منها أن هناك أحيانا بعض المسائل التي يكون إخفاؤها أفضل لحفظ النظام الاجتماعي ولمصلحة أفراد المجتمع ، ففي أمثال هذه الحالات لا يكون الإلحاح في السؤال عنها والسعي لكشف النقاب عن حقيقتها بعيدا عن الفضيلة فحسب ، بل يكون مذموما أيضا مثلا : يرى معظم الأطباء ضرورة كتمان الأمراض الصعبة الشفاء والمخيفة عن المريض نفسه ، وقد يخبرون أهله شريطة أنّ يلتزموا كتمان الأمر عن المريض ، والسبب هو أن التجارب قد دلت على أنّ المريض إذا عرف أنّ مرضه لا يشفى بسرعة انتابه الرعب والهلع وقد يؤخر ذلك شفاءه ، إن لم يكن مرضه مهلكا فعلى

__________________

(١) تفسير «مجمع البيان» وتفسير «الدر المنثور» و «المنار» في ذيل الآية المذكورة مع بعض الاختلاف.

(٢) النحل ، ٤٣.

١٦٢

المريض أنّ لا يلح في إلقاء الأسئلة على طبيبه العطوف ، لأنّ هذا الإلحاح قد يحرج الطبيب ، فيصرّح للمريض بما لا ينبغي أنّ يصارحه به تخلصا من هذا الإصرار واللجاج.

كذلك الناس عموما ، فهم في التعامل فيما بينهم يحتاجون إلى أن يحسن بعضهم الظن ببعض ، فللحفاظ على هذا الرصيد الهام خير لهم ألّا يعرفوا خفايا الآخرين ، إذ أن لكل امرئ نقاط ضعيفه ، فانكشاف نقاط ضعف الناس يضرّ بالتعاون فيما بينهم فقد يكون امرؤ ذو شخصية مؤثرة قد ولد في عائلة واطئة ومنحطة ، وإذا انكشف هذا فقد تتزلزل آثاره الوجودية في المجتمع ، لذلك ينبغي على الناس ألا يلحوا في السؤال والتفتيش في هذا المجال.

كما أنّ الكثير من الخطط والمناهج الاجتماعية يلزمها الكتمان حتى يتمّ تنفيذها ، فالإعلان عنها يعتبر ضربة تؤخر سرعة إنجاز العمل.

هذه وأمثالها نماذج لما لا يصح فيه الإلحاح في السؤال ، وعلى القادة أن لا يفشوا أمثال هذه الأسرار ما لم يقعوا تحت ضغط شديد.

والقرآن في هذه الآية يشير إلى الموضوع نفسه ويقول :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) .

ولكن إلحاح بعض الناس بالسؤال من جهة ، وعدم الإجابة على أسئلتهم من جهة أخرى ، قد يثير الشكوك والريب عند الآخرين بحيث يؤدي الأمر إلى مفاسد أكثر ، لذلك تقول الآية :( وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ ) فيشق عليكم الأمر.

أمّا قصر افشائها على وقت نزول القرآن ، فذلك لأنّ تلك التساؤلات كانت متعلقة بمسائل ينبغي أن تنزل أجوبتها عن طريق الوحي.

ثمّ لا تحسبوا الله غافلا عن ذكر بعض الأمور إن سكت عنها ، فقد( عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) .

١٦٣

يقول عليعليه‌السلام : «إنّ الله افترض عليكم فرائض فلا تضيعوها ، وحدّ لكم حدودا فلا تعتدوها ، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت لكم عن أشياء ولم يدعها نسيانا فلا تتكلفوها»(١) .

سؤال :

قد يسأل سائل : إذا كان إفشاء هذه الأمور يتعارض مع مصلحة الناس ، فلما ذا يماط اللثام عنها على أثر الإلحاح؟

الجواب :

السبب هو ما قلناه من قبل ، فالقائد إذا لزم الصمت رغم الإلحاح بالسؤال ، فقد تنجم عن ذلك مفاسد أخطر ، ويثار سوء ظن يشوب أذهان الناس ، مثل صمت الطبيب إزاء إلحاح المريض في السؤال عن مرضه ، فإن ذلك يثير شكوك المريض ، وقد يحمله على الظن بأن الطبيب لم يشخص مرضه بعد ، فيهمل استعمال ما يصفه له من علاج ، عندئذ لا يسع الطبيب إلّا أن يفشي له سرّ مرضه ، ولو سبب له ذلك بعض المشاكل.

الآية التي بعدها تؤكّد هذه الحقيقة ، وتبيّن أنّ أقواما سابقين كانت لهم أسئلة كهذه ، وبعد أن سمعوا أجوبتها خالفوها وعصوا :( لقَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ ) .

وللمفسّرين أقوال مختلفة بشأن تلك الأقوام ، منهم من ذهب إلى أن الأمر يخص تلامذة عيسىعليه‌السلام عند ما طلبوا مائدة من السماء ، فعند ما تحقق لهم ما أرادوا عصوا ، ويقول بعض : إنّها حكاية مطالبة النّبي صالحعليه‌السلام بمعجزة ، ولكن الظاهر أن هذه الاحتمالات بعيدة عن الصواب ، لأنّ الآية تتحدث عن «سؤال» عن مجهول يراد الكشف عنه ، لا عن «طلب» شيء ، ولعل استعمال كلمة «سؤال» في كلا الحالين هو سبب هذا الخطأ.

__________________

(١) «مجمع البيان» ، ذيل الآية المذكورة.

١٦٤

قد تكون تلك الأقوام من بني إسرائيل أمروا بذبح بقرة للتحقيق في أمر جريمة (انظر شرح ذلك في المجلد الأوّل من هذا التّفسير) فراحوا يمطرون موسى بالأسئلة عن خصائص البقرة ومميزاتها ممّا لم يكن قد نزل بشأنها أي شيء ، ولكنّهم بسؤالاتهم المتكررة التي لم تكن ضرورية أخذوا يشقون على أنفسهم ، بحيث أن العثور على تلك البقرة الموصوفة أصبح من الصعوبة بمكان وتحملوا الكثير من النفقات في سبيل ذلك ، حتى كادوا أن ينصرفوا عن التنفيذ.

في تفسير قوله تعالى :( ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ ) احتمالان :

الأوّل : أنّ المقصود بالكفر هو العصيان ، كما سبقت الإشارة إليه.

والثّاني : هو أنّ الكفر قصد بمعناه المعروف ، وذلك لأن سماع الإجابات المزعجة التي تثقل على السامع قد تدفع به إلى إنكار أصل الموضوع وصلاحية المجيب ، كأن يسمع مريض جوابا لا يروقه من طبيبه ، فيؤدي ردّ الفعل به إلى إنكار صلاحية الطبيب واتهامه بعدم الفهم مثلا أو بالهرم ونسيان المعلومات.

في ختام هذا البحث نجد لزاما أن نكرر ما قلناه في بدايته ، وهو أنّ هذه الآيات لا تمنع أبدا إلقاء الأسئلة المنطقية التربوية والبناءة ، بل تتحدد بالأسئلة التي لا لزوم لها ، وبالتعمق في أمور لا ضرورة للتعمق فيها والتي من الأفضل بل من اللازم ـ أحيانا ـ بقاؤها في طي الكتمان.

* * *

١٦٥

الآيتان

( ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤) )

التّفسير

في الآية الاولى إشارة إلى أربعة «بدع» كانت سائدة في الجاهلية ، فقد كانوا يضعون على بعض الحيوانات علامات وأسماء لأسباب معينة ويحرمون أكل لحومها ولا يجيزون شرب لبنها أو جز صوفها أو حتى امتطاءها ، كانوا أحيانا يطلقون سراح هذه الحيوانات تسرح وتمرح دون أن يعترضها أحد ، أي أنّهم كانوا يطلقونها سائبة دون أن يستفيدوا منها شيئا ، لذلك يقول الله تعالى :( ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ ) .

١٦٦

بحوث

١ ـ «البحيرة» هي النّاقة التي ولدت خمسة أبطن خامسها أنثى ـ وقيل ذكر ـ فيشقون أذنها ، وتترك طليقة ولا تذبح.

«البحيرة» من مادة «بحر» بمعنى الواسع العريض ، ولهذا سمي البحر بحرا ، وتسمية الناقة بالبحيرة جاءت من شق أذنها شقا واسعا عريضا.

٢ ـ «السائبة» هي الناقة التي تكون قد ولدت اثني عشر بطنا ـ وقيل عشرة أبطن ـ فيطلقونها سائبة ولا يمتطيها أحد ، ولها أن ترعى حيثما تشاء وترد حيثما تشاء دون أن يعترضها أحد ، وقد يحلبونها أحيانا لإطعام الضيف ، و «السائبة» من مادة «سيب» أي جريان الماء أو المشي بحرّية.

٣ ـ «الوصيلة» هي الشاة التي ولدت سبعة أبطن ـ وقيل أنّها التي تلد التوائم ، من مادة «وصل» وكانوا يحرمون ذبحها.

٤ ـ «الحام» واللفظة اسم فاعل من مادة «حمى» ، ويطلق على الفحل الذي يتخذ للتلقيح ، فإذا استفيد منه في تلقيح الأناث عشر مرات وولدن منه ، قالوا : لقد حمى ظهره ، فلا يحق لأحد ركوبه ، ومن معاني «الحماية» المحافظة والحيلولة والمنع.

هناك احتمالات أخرى وردت عند المفسّرين وفي الأحاديث بشأن تحديد هذه المصطلحات الأربعة ، لكن القاسم المشترك بين كل هذه المعاني هو أنّها تدل جميعا على حيوانات قدّمت خدمات كبيرة لأصحابها في «النتاج» فكان هؤلاء يحترمونها ويطلقون سراحها لقاء ذلك.

صحيح أنّ عملهم هذا ضرب من العرفان بالجميل ومظهر من مظاهر الشكر ، حتى نحو الحيوانات ، وهو بهذا جدير بالتقدير والإجلال ، ولكنّه كان تكريما لا معنى له لحيوانات لا تدرك ذلك.

كما كان ـ فضلا عن ذلك ـ مضيعة للمال وإتلافا لنعم الله وتعطيلها عن

١٦٧

الاستثمار النافع ، ثمّ أنّ هذه الحيوانات ، بسبب هذا الاحترام والتكريم ، كانت تعاني من العذاب والجوع والعطش لأنّه قلما يقدم أحد على تغذيتها والعناية بها.

ولما كانت هذه الحيوانات كبيرة في السن عادة ، فقد كانت تقضي بقية أيّامها في كثير من الحرمان والحاجة حتى تموت ميتة محزنة ، ولهذا كله وقف الإسلام بوجه هذه العادة!

إضافة إلى ذلك ، يستفاد من بعض الرّوايات والتفاسير أنّهم كانوا يتقربون بذلك كله ، أو بقسم منه إلى أصنامهم ، فكانوا في الواقع ينذرون تلك الحيوانات لتلك الأصنام ، ولذلك كان إلغاء هذه العادات تأكيدا لمحاربة كل مخلفات الشرك.

والعجيب في الأمر ، أنّهم كانوا يأكلون لحوم تلك الحيوانات إذا ما ماتت موتا طبيعيا (وكأنّهم يتبركون بها) وكان هذا عملا قبيحا آخر(١) .

ثمّ تقول الآية :( وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ ) قائلين أنّ هذه قوانين إلهية دون أن يفكروا في الأمر ويعقلوه ، بل كانوا يقلدون الآخرين في ذلك تقليدا أعمى :( وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) .

الآية الثّانية تشير إلى منطقهم ودليلهم على قيامهم بهذه الأعمال :( وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا ) .

في الواقع ، كان كفرهم وعبادتهم الأصنام ينبع من نوع آخر من الوثنية ، هو التسليم الأعمى للعادات الخرافية التي كان عليها أسلافهم ، معتبرين ممارسات أجدادهم لها دليلا قاطعا على صحتها ، ويرد القرآن بصراحة على ذلك بقوله :( أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ ) .

أي لو كان أجدادكم الذين يستندون إليهم في العقيدة والعمل من العلماء والمهتدين لكان اتباعكم لهم إتباع جاهل لعالم ، لكنكم تعلمون أنّهم ، لا يعلمون أكثر منكم ولعلهم أكثر تخلفا منكم ، ومن هنا فإنّ تقليدكم إيّاهم تقليد جاهل

__________________

(١) تفسير «نور الثقلين» ، ج ١ ، ص ٦٨٤.

١٦٨

لجاهل ، وهو فوض ومذموم في ميزان العقل.

تركيز القرآن في هذه الآية على كلمة «أكثر» يدل على أنّه كانت في ذلك المحيط الجاهلي المظلم فئة ـ وإن قلت ـ على قدر من الفهم بحيث تنظر بعين الاحتقار والاشمئزاز إلى تلك الممارسات.

وثن اسمه «الأسلاف» :

من الأمور التي كانت سائدة في الجاهلية والتي تكررت الإشارة إليها في القرآن التفاخر بالآباء والأجداد وإجلالهم إلى حدّ التقديس الأعمى وإتباع أفكارهم وعاداتهم وتقاليدهم. وليس هذا مقصورا على الجاهلية الاولى ، فهو موجود بين كثير من الأقوام المعاصرة ، ولعلّه أحد أسباب اشاعة الخرافات وانتقالها من جيل إلى جيل ، وكان «الموت» يضفي هالة من القدسية والاحترام والإجلال على الأسلاف.

لا شك أنّ روح الاعتراف بالجميل ورعاية المبادئ الإنسانية توجب علينا احترام الماضين من آبائنا وأجدادنا ، ولكن لا أن نعتبرهم معصومين عن كل خطأ ومصونين عن كل نقد وتجريح لأفكارهم وسلوكهم فنتبع خرافاتهم ونقلدهم فيها تقليدا أعمى ، ليس هذا في الواقع سوى لون من ألوان الوثنية والمنطق الجاهلي ، إنّنا من الممكن أن نحترم أفكارهم وتقاليدهم المفيدة ، ونحطم في الوقت نفسه عاداتهم غير الصحيحة ، خاصّة وأن الأجيال الحديثة أوسع علما وأعمق معرفة من الأجيال السابقة بسبب مضي الزمن وتقدم العلم والتجربة ، وما من عقل رصين يجيز تقليد الماضين تقليدا أعمى.

ومن العجيب أن نرى بعض العلماء وأساتذة الجامعة يعيشون هذا اللون من التقديس الأعمى لعادات السلف ، فيبلغ بهم التعصب القومي إلى التمسك بعادات وتقاليد ما أنزل الله بها من سلطان متبعين بذلك منطق العرب في جاهليتهم الاولى.

١٦٩

تناقض بلا مبرّر :

جاء في تفسير «الميزان» و «الدر المنثور» عن عدد من الرواة منهم الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» وعن غيره ، عن أبي الأحوص عن أبيه ، قال : أتيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خلقان من الثياب ، فقال لي : «هل لك من مال؟» قلت : نعم ، قال : «من أي المال؟» قلت : من كل المال ، من الإبل والغنم والخيل والرقيق ، قال : «فإذا أتاك الله ، فلير عليك». أي لا ينبغي أن تعيش كالمساكين مع انك صاحب ثروة.

ثمّ قال : «تنتج إبلك وافية آذانها؟» قلت : نعم وهل تنتج الإبل إلّا كذلك؟قال : «فلعلك تأخذ موسى فتقطع آذان طائفة منها وتقول : هذه بحر ، وتشق آذان طائفة منها وتقول : هذه الصرم؟» قلت : نعم ، قال : «فلا تفعل ، إن كل ما أتاك الله لك حل ، ثمّ قال : ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام»(١) .

نفهم من هذه الرواية أنّهم كانوا يجمدون قسما من أموالهم ، ولكنّهم في الوقت نفسه كانوا يقتصدون في ملبسهم ، بل ويبخلون فيه ، وهذا نوع من التناقض الذي لا مسوغ له.

* * *

__________________

(١) تفسير «الميزان» ، ج ٦ ، ص ١٧٢.

١٧٠

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) )

التّفسير

كلّ امرئ مسئول عن عمله :

دار الحديث في الآية السابقة حول تقليد الجاهليين آباءهم الضالين ، فأنذرهم القرآن بأن تقليدا كهذا لا ينسجم مع العقل والمنطق ، فمن الطبيعي أن يتبادر إلى أذهانهم السؤال : إنّنا إذا كان علينا أن ننفصل عن أسلافنا في هذه الأمور ، فما ذا سيكون مصيرهم؟ثمّ إذا نحن أقلعنا عن هذه التقاليد فما مصائر الكثير من الناس الذين ما يزالون متمسكين بها وواقعين تحت تأثيرها فكان جواب القرآن :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) .

ثمّ يشير إلى موضوع البعث والحساب ومراجعة حساب كل فرد :( إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

١٧١

ردّ على اعتراض :

أثار بعضهم شبهة حول هذه الآية ، فظن أنّ بين هذه الآية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ وهو من التشريعات الإسلامية الصريحة المسلم بها ـ ضرب من التضاد أو التناقض ، إذ أن هذه الآية تقول( عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) .

هناك أحاديث وروايات تدل على أنّ هذا الموضوع أثار شبهة حتى في عصر نزول الآية يقول (جبير بن نفيل) : كنت في جمع من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالسين بحضرته ، وكنت أحدثهم سنا ، وكان الحديث يدور حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقاطعتهم وقلت : ألم يأت في القرآن( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) (أي بهذه الآية لا يبقى ما يوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وإذا بالحاضرين يجمعون على توبيخي وتقريعي قائلين : كيف تقتبس آية من القرآن دون أن تعرف معناها وتفسيرها؟ فندمت على ما قلت أشد الندم ، وعادوا إلى بحثهم السابق.

وعند انفضاض المجلس التفتوا إلى قائلين : إنّك شاب حدث السن ، قمت بتفصيل آية من القرآن عما حولها بغير أن تعرف معناها.

وقد يطول بك العمر حتى ترى كيف يحيط البخل بالناس ويسيطر عليهم ، وتسيطر عليهم أهواؤهم ويعتدّ كل منهم برأيه ، فلتحذر يومئذ من أن يضرّك من ضل منهم (أي أنّ الآية تشير إلى ذلك الزمان).

واليوم نجد الراكنين إلى الدعة وطلاب الراحة ، عند ما يدور الحديث حول القيام بهاتين الفريضتين الإلهيتين الكبيرتين ـ الأمر بالمعروف ـ والنهي عن المنكر ـ يتذرعون بهذه الآية ويحرفونها عن موضعها ، مع أنّنا بقليل من الدقّة في النظر ندرك ألّا تضاد بين هاتين الفريضتين وما جاء في هذه الآية :

فأوّلا : تبيّن الآية أنّ كل امرئ يحاسب على انفراد ، وأنّ ضلال الآخرين من

١٧٢

الأسلاف وغير الأسلاف لا يؤثر في هداية الذين اهتدوا ، حتى وإن كانوا قريبين قرب الأخ أو الأب أو الابن ، لذلك فلا تتبعوهم وانجوا بأنفسكم (لاحظ بدقّة).

وثانيا : تشير هذه الآية إلى الحالة التي لا يكون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أي أثر ، أو تكون شروط فاعليتهما غير متوفرة ، ففي أمثال هذه الحالات يشعر بعض المؤمنين بالألم ، ويتساءلون عمّا ينبغي لهم أن يفعلوه ، فتجيبهم الآية : لا تثريب عليكم ، فقد أديتم واجبكم ، إذ( لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) .

نجد هذا المعنى في الحديث الذي ذكرناه أعلاه ، وكذلك في بعض الأحاديث الأخرى فقد سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هذه الآية فقال : «ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر ، فإذا رأيت دنيا مؤثرة وشحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخويصة نفسك وذر عوامهم»(١) .

وهناك روايات أخرى بالمضمون نفسه وتفيد هذه الحقيقة ذاتها.

فخر الدين الرازي ـ حسب عادته ـ يذكر عدة أوجه في الإجابة على السؤال المذكورة ، ولكنّها تكاد تعود كلها إلى الأمر الذي ذكرناه ، ولعله ذكرها جميعا لبيان كثرة عددها.

على كلّ حال ، لا شك أنّ مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أركان الإسلام التي لا يمكن التغاضي عنها بأي شكل من الأشكال ، ولا تسقط إلّا عند اليأس من تأثيرها أو من توفر شروطها.

* * *

__________________

(١) تفسير «نور الثقلين» ، ج ١ ، ص ٦٨٤.

١٧٣

الآيات

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨) )

سبب النّزول

جاء في «مجمع البيان» وبعض التفاسير الأخرى في سبب نزول هذه الآيات أنّ أحد المسلمين ، ويدعى (ابن أبي مارية) ومعه اخوان مسيحيان من العرب

١٧٤

يدعيان (تميم) ، (عدي) خرجوا من المدينة للتجارة ، وفي الطريق مرض (ابن أبي مارية) المسلم ، فكتب وصية أخفاها في متاعه ، وعهد بمتاعه إلى رفيقيه ـ النصرانيين ـ في السفر ، وطلب منهما أن يسلماه ، إلى أهله ، ثمّ مات ففتح النصرانيان متاعه واستوليا على الثمين والنفيس فيه ، وسلما الباقي إلى الورثة ، وعند ما فتح الورثة متاعه لم يجدا فيه بعض ما كان ابن أبي مارية قد أخذه معه عند سفره وفجأة عثروا على الوصية ، ووجدوا فيها ثبتا بكل الأشياء المسروقة ، ففاتحوا المسيحيين بالموضوع ، فأنكرا وقالا : لقد سلمناكم كل ما سلمه لنا ، فشكوا الرجلين إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنزلت هذه الآيات تبيّن حكم القضية.

غير أن سبب النّزول المذكور في «الكافي» يقول : إنّهما أنكرا أوّلا وجود متاع آخر ، ووصل الأمر إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولما لم يكن هناك دليل ضدهما طلب منهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحلفا اليمين ، وبرأهما ، ولكن بعد أيّام قليلة ظهر بعض المتاع المسروق عند الرجلين فثبت كذبهما ، فبلغ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانتظر حتى نزلت الآيات المذكورة ، عندئذ أمر أولياء الميت بالقسم ، وأخذ الأموال دفعها إليهم.

التّفسير

من أهم المسائل التي يؤكّدها الإسلام هي مسألة حفظ حقوق الناس وأموالهم وتحقيق العدالة الاجتماعية هذه الآيات تبيّن جانبا من التشريعات الخاصّة بذلك ، فلكيلا تغمط حقوق ورثة الميت وأيتامه الصغار ، يصدر الأمر للمؤمنين قائلا :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ ) .

المقصود بالعدل هنا العدالة ، وهي تجنب الذنوب الكبيرة ونظائرها ، ولكن يحتمل من معنى الآية أيضا أنّ يكون المقصود من العدالة : الأمانة في الشؤون

١٧٥

المالية ، إلّا إذا ثبت بدلائل أخرى ضرورة توفر شروط أخرى في الشاهد.

و «منكم» تعني من المسلمين بإزاء غير المسلمين ، الذين تأتي الإشارة إليهم في العبارة التّالية من الآية.

لا بدّ من القول بأنّ القضية هنا لا تتعلق بالشهادة العادية المألوفة ، بل هي شهادة مقرونة بالوصاية ، أي أن هذين وصيان وشاهدان في الوقت نفسه ، أمّا الاحتمال القائل باختيار شخص ثالث كوصي بالإضافة إلى الشاهدين هنا ، فإنه خلاف ظاهر الآية ويخالف سبب نزولها ، لأنّنا لاحظنا أنّ ابن أبي مارية لم يكن يرافقه في السفر غير اثنين اختارهما وصيين وشاهدين.

ثمّ تأمر الآية : إذا كنتم في سفر ووافاكم الأجل ولم تجدوا وصيّا وشاهدا من المسلمين فاختاروا اثنين من غير المسلمين :( أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ ) .

وعلى الرغم من عدم وجود ما يفهم من الآية أنّ اختيار الوصي والشاهد من غير المسلمين مشروط بعدم وجودهما من المسلمين ، فهو واضح ، لأنّ الاستعاضة تكون عند ما لا تجد من المسلمين من توصيه ، كما أنّ ذكر قيد السفر يفيد هذا المعنى أيضا ، وعلى الرغم من أنّ (أو) تفيد «التخيير» عادة ، إلّا أنّها هنا ـ وفي كثير من المواضع الأخرى ـ تفيد «الترتيب» ، أي اخترهما أوّلا من المسلمين ، فإن لم تجد ، فاخترهما من غير المسلمين.

وغني عن القول أنّ المقصود من غير المسلمين هم أهل الكتاب من اليهود والنصاري طبعا ، لأنّ الإسلام لم يقم وزنا في أية مناسبة للمشركين وعبدة الأصنام مطلقا.

ثمّ تقرر الآية حمل الشاهدين عند الشهادة على القسم بالله بعد الصّلاة ، في حالة الشك والتردد :( تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ ) .

ويجب أنّ تكون شهادتهما بما مفاده : إنّنا لسنا على استعداد أن نبيع الحقّ

١٧٦

بمنافع مادية ، فنشهد بغير الحقّ حتى وإن كانت الشهادة ضد أقربائنا :( لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى ) وإننا لن نخفي أبدا الشهادة الإلهية ، وإلّا فسنكون من المذنبين :( وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ ) .

ولا بدّ أن نلاحظ ما يلي :

أوّلا : إنّ هذه التفاصيل في أداء الشهادة إنّما تكون عند الشك والتردد.

وثانيا : لا فرق بين المسلم وغير المسلم في هذا كما يبدو من ظاهر الآية ، وإنّما هو في الحقيقة ـ وسيلة لإحكام أمر حفظ الأموال في إطار الاتهام ، وليس في هذا ما يناقض القبول بشهادة عدلين بغير تحليف ، لأنّ هذا يكون عند انتفاء الشك في الشاهدين ، لذلك فلا هو ينسخ الآية ولا هو مختص بغير المسلمين (تأمل بدقّة).

ثالثا : الصّلاة بالنسبة لغير المسلمين يقصد بها صلاتهم التي يتوجهون فيها إلى الله ويخشونه ، أمّا بالنسبة للمسلمين فيقول بعض : إنّها خاصّة بصلاة العصر ، وفي بعض الرّوايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام إشارة إلى ذلك ، إلّا أنّ ظاهر الآية هو الإطلاق ويشمل الصلوات جميعها ، ولعل ذكر صلاة العصر في رواياتنا يعود إلى جانبه الاستحبابي ، إذ أنّ الناس يشتركون أكثر في صلاة العصر ، ثمّ ان وقت العصر كان الوقت المألوف للتحكيم والقضاء بين المسلمين.

رابعا : اختيار وقت الصّلاة للشهادة يعود إلى أنّ المرء في هذا الوقت يعيش آثار الصّلاة التي( تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (١) وأنّه في هذا الظرف الزماني والمكاني يكون أقرب إلى الحقّ ، بل قال بعضهم : إنّ من الأفضل أن تكون الشهادة في «مكّة» عند الكعبة وبين «الركن» و «المقام» باعتباره من أقدس الأمكنة ، وفي المدينة تكون جنب قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي الآية التّالية يدور الكلام على ثبوت خيانة الشاهدين إذا شهدا بغير

__________________

(١) العنكبوت ، ٤٥.

١٧٧

الحقّ ، كما جاء في سبب نزول الآية ، فالحكم في مثل هذه الحالة ـ أي عند الاطلاع على أن الشاهدين قد ارتكبا إثمّ العدوان على الحقّ واضاعته ـ هو أن تستعيضوا عنهما باثنين آخرين ممن ظلمهما الشاهدان الأولان (أي ورثة الميت) فيشهدان لإحقاق حقهما :( فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ ) .

يذهب العلّامة الطبرسي في «مجمع البيان» إلى أنّ هذه الآية تعتبر من حيث المعنى والإعراب من أعقد الآيات وأصعبها ، ولكن بالالتفات إلى نقطتين نجد أنّها ليست بتلك الصعوبة والتعقيد.

فالنّقطة الاولى : هي أن معنى «استحق» هنا بقرينة كلمة «إثم» هو إثمّ العدوان على حق الآخرين.

والنّقطة الثّانية : هي أنّ «الأوليان» تعني هنا «الأولان» أي الشاهدان اللذان كانا عليهما أنّ يشهدا أوّلا ولكنّهما انحرفا عن طريق الحقّ.

وعليه يكون المعنى : إذا ثبت أنّ الشاهدين الأولين ارتكبا مخالفة ، فيقوم مقامهما اثنان آخران ممن وقع عليهم ظلم الشاهدين الأولين(١) .

ثمّ تبيّن ما ينبغي على هذين الشاهدين أن يفعلاه( فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) .

لمّا كان أولياء الميت على علم بالأموال والأمتعة التي أخذها معه عند سفره أو التي يملكها عموما ، فيمكن أن يشهدوا على أنّ الشاهدين الأولين قد خانا وظلما ، وتكون هذه الشهادة حسية مبنية على القرائن ، لا حدسية.

والآية الأخيرة ، في الحقيقة ، بيان لحكمة الأحكام التي جاءت في الآيات السابقة بشأن الشهادة وهي أنّه إذا أجريت الأمور بحسب التعاليم ، أي إذا طلب

__________________

(١) على هذا يكون إعراب «آخران» مبتدأ ، وجملة «يقومان مقامهما» خبر ، و «أوليان» فاعل «استحقا» و «من الذين» أي من ورثة الميت الذين وقع عليهم الظلم ، والجار والمجرور صفة «آخران» «تأمل بدقّة».

١٧٨

الشاهدان للشهادة بعد الصّلاة بحضور جمع ، ثمّ ظهرت خيانتهما ، وقام اثنان آخران من الورثة مقامهما للكشف عن الحقّ ، فذلك يحمل الشهود على أن يكونوا أدق في شهادتهم ، خوفا من الله أو خوفا من الناس :( ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ ) .

في الواقع سيكون هذا سببا في الخشية من المسؤولية أمام الله وأمام الناس ، فلا ينحرفان عن محجة الصواب.

ولتوكيد الأحكام المذكورة يأمر الناس قائلا :( اتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ) .

* * *

١٧٩

الآية

( يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ(١٠٩) )

التّفسير

هذه الآية ، في الحقيقة ، تكملة للآيات السابقة ، ففي ذيل تلك الآيات الخاصّة بالشهادة الحقّة والشهادة الباطلة ، كان الأمر بالتقوى والخشية من عصيان أمر الله ، وفي هذه الآية تذكير بذلك اليوم الذي يجمع الله الرسل فيه ويسألهم عن رسالتهم ومهمتهم وعمّا قاله الناس ردا على دعواتهم( يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ ) .

لقد نفوا عن أنفسهم العلم ، وأوكلوا جميع الحقائق إلى علم الله و( قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) وعليه فإنكم أمام علام الغيوب وأمام محكمة هذا شأنها ، فاحذروا أن تنحرف شهادتكم عن الحقّ والعدل(١) .

هنا يبرز سؤالان : الأوّل : إنّ ما يستفاد من الآيات القرآنية أنّ الأنبياء شهداء

__________________

(١) يتّضح من هذا أن( يَوْمَ ) مفعول به لفعل محذوف تفسيره الآية السابقة وتقدير «اتقوا يوم».

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611