الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل3%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 611

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 611 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 136992 / تحميل: 6547
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

على أممهم ، بينما نجدهم في هذه الآية ينكرون كل علم ويوكلون كل شيء إلى الله.

ولكن ليس في هذا اختلاف ولا تضاد ، بل هو يحكي عن مرحلتين ، في المرحلة الاولى وهي التي تشير إليها الآية التي نحن بصددها ، يظهر الأنبياء الأدب بإزاء سؤال الله ، فينفون العلم عن أنفسهم ، ويوكلون كل شيء إلى علم الله ، ولكنّهم في المراحل التّالية يبيّنون ما يعرفونه عن أممهم ويشهدون ، وهذا يكاد يشبه المعلم الذي يطلب من تلميذه أن يجيب على سؤال فيظهر التلميذ التأدب أوّل الأمر ويقول : أن علمه لا شيء بالنسبة لعلم المعلم ، ثمّ بعد ذلك يدلي بما يعرف.

والسؤال الآخر : كيف ينفي الأنبياء العلم عن أنفسهم مع أنّهم إضافة إلى العلوم العادية يعلمون الكثير من الحقائق الخفية التي علمها الله لهم.

رغم أنّ للمفسّرين كلاما كثيرا في جواب هذا السؤال ، نرى أنّ الموضوع واضح وهو أنّ الأنبياء يرون علمهم لا شيء بالنسبة لعلم الله ، والحقّ كذلك ، فوجودنا لا شيء بالنسبة لوجود الله الأبدي وعلمنا لا وزن له بإزاء علم الله ، فمهما يكن «الممكن» فإنّه لا يكون شيئا بإزاء «الواجب» ، وبعبارة أخرى : إنّ علم الأنبياء ، وإن كان في حد ذاته غزيرا ، لكنه لا شيء بالقياس إلى علم الله.

في الحقيقة ، العالم الحقيقي هو الذي يكون حاضرا وناظرا في كل مكان وزمان ، وعارفا بتركيب كل ذرة من ذرات العالم ، وبكل أجزاء هذا العالم المترابط في وحدة واحدة ، وهذه صفة تختص بالله سبحانه.

يتّضح ممّا قلنا أنّ هذه الآية ليست دليلا على نفي كل علم بالغيب عن الأنبياء والأئمّة كما زعم بعضهم ، وذلك لأن «علم الغيب» بالذات يختص بمن يكون حاضرا في كل مكان وزمان ، وأمّا غيره تعالى فإنّه لا علم له بالغيب سوى ما يعلمه الله.

وهذا مأخوذ من آيات عديدة في القرآن ، منها الآية (٢٦) من سورة الجن :

١٨١

( عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ ) والآية (٤٩) من سورة هود :( تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ) .

يستفاد من هذه الآيات وأمثالها أنّ علم الغيب مختص بذات الله ، ولكنّه يعلّمه لمن يشاء وبالقدر الذي يشاء.

* * *

١٨٢

الآية

( إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠) )

التّفسير

نعم الله على المسيح :

هذه الآية والآيات التّالية لها حتى آخر سورة المائدة تختص بسيرة حياة السيد المسيحعليه‌السلام والنعم التي أسبغها الله عليه وعلى أمّته ، يبيّنها الله هنا لتوعية المسلمين وايقاظهم فتقول الآية :( إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ ) .

١٨٣

ومعنى «إذ قال» : واذكر إذ قال.

وحسب هذا التّفسير ، تشرع هذه الآيات ببحث مستقل له جانبه التربوي للمسلمين ويرتبط بهذه الدنيا ، إلّا أن عددا من المفسّرين ـ كالطبرسي والبيضاوي وأبي الفتوح والرازي ـ يرون أنّ هذه الآية تابعة للآية السابقة وتتعلق بالحوار الذي يدور بين الله والأنبياء يوم القيامة ، وعلى هذا يكون الفعل الماضي «قال» بمعنى «يقول» المضارع ، غير أنّ هذا يخالف ظاهر الآية ، خاصّة وأنّ تعداد النعم التي أنزلت على شخص ما يستهدف إحياء روح الاعتراف بالجميل والشكر فيه ، وهذا لإمكان له يوم القيامة.

ثمّ تشرع الآية بذكر النعم :( إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) .

لقد بحثنا معنى «روح القدس» في المجلد الأوّل من هذا التّفسير بحثا مستفيضا وأحد الاحتمالات المقصودة هو أنّه إشارة إلى ملك الوحي ، جبرائيل ، والاحتمال الآخر هو تلك القوة الغيبية التي كانت تعين عيسى على إظهار المعجزات وعلى تحقيق رسالته المهمّة ، وهذا المعنى موجود في غير الأنبياء أيضا بدرجة أضعف.

من نعم الله الأخرى :( تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً ) أي أنّ كلامك في المهد ، مثل كلامك وأنت كهل ، كلام ناضج ومحسوب ، لا كلام طفل غر.

ثمّ أيضا :( وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ ) إنّ ذكر التّوراة والإنجيل بعد ذكر كلمة كتاب مع أنّهما من الكتب السماوية ، إنّما هو من باب التفصيل بعد الإجمال.

ومن النعم الأخرى :( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي ) .

ومع ذلك فإنّك تشفي بإذن الله الأعمى بالولادة والمصاب بالمرض الجلدي البرص :( وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ) .

١٨٤

ثمّ( وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي ) .

وأخيرا كان من نعمي عليك بأن منعت عنك أذي بني إسرائيل يوم قام الكافرون منهم بوجهك ووسموا ما تفعل بأنّه السحر ، فدفعت أذى أولئك المعاندين اللجوجين عنك وحفظتك حتى تسير بدعوتك :( وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ) .

يستلفت النظر في هذه الآية أنّها تكرر «باذني» أربع مرات لكيلا يبقى مكان للغلو في المسيحعليه‌السلام وادعاء الألوهية له ، أي أنّ ما كان يحققه المسيحعليه‌السلام بالرغم من إعجازه وإثارته الدهشة ومشابهته للأفعال الإلهية ، لم يكن ناشئا منه ، بل كان من الله وباذنه ، فما كان عيسى سوى عبد من عبيد الله ، مطيع لأوامره ، وما كان له إلّا ما يستمده من قوة الله الخالدة.

وقد يسأل سائل : إنّ كانت هذه النعم كلها قد أسبغت على عيسىعليه‌السلام فلما ذا تعتبر الآية هذه النعم قد أسبغت على أمّه أيضا؟

لا شك أنّ كل موهبة تصل الابن تكون قد وصلت الأم أيضا ، فكلاهما من اصل واحد ، ومن شجرة واحدة.

وكما ذكرنا في ذيل الآية (٤٩) من سورة آل عمران ، فإن هذه الآية والآيات المشابهة دلائل على ولاية أولياء الله التكوينية ، ففي تاريخ حياة المسيحعليه‌السلام ينسب إليه إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، ولكن بأمر الله وإذنه.

يتّضح من هذا أنّ من الممكن أن ينعم الله على من يشاء قدرة كهذه تمكنه من التصرف بعالم التكوين والقيام بأمثال هذه الأعمال أحيانا ، إنّ تفسير هذه الآية بأنّها تشير إلى دعاء الأنبياء واستجابة الله لدعائهم هو خلاف ظاهر الآية ، وأنّ ما نقصده بولاية أولياء الله التكوينية هو هذا الذي قلناه آنفا ، إذ ليس ثمّة دليل على أكثر من هذا المقدار (انظر تفسير سورة آل عمران الآية (٤٩) لمزيد من التوضيح).

* * *

١٨٥

الآيات

( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ(١١٥) )

التّفسير

قصّة نزول المائدة على الحواريين :

تعقيبا على ما جاء في الآيات السابقة من بحث حول ما أنعم الله به على المسيحعليه‌السلام وأمّه يدور الحديث هنا حول النعم التي أنعم الله بها على الحواريين ، أي أصحاب المسيحعليه‌السلام .

ففي البداية تشير الآية إلى ما أوحي إلى الحواريين أن يؤمنوا بالله وبرسوله

١٨٦

المسيحعليه‌السلام فاستجابوا( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ ) .

إن للوحي في القرآن معنى واسعا لا ينحصر في الوحي الذي ينزل على الأنبياء ، بل أن الإلهام الذي ينزل على قلوب الناس يعتبر من مصاديقه أيضا ، لذلك جاء هذا المعنى في الآية (٧) من سورة القصص بشأن أم موسى التي أوحي إليها(١) بل إن الكلمة تطلق في القرآن حتى على الغرائز التكوينية عند الحيوان ، كالنحل.

وهناك احتمال أن يكون المقصود هو الإيحاء الذي كان يلقيه المسيحعليه‌السلام بواسطة المعاجز في نفوسهم.

لقد تناولنا الحواريين وأصحاب المسيحعليه‌السلام بالبحث في تفسير آية (٥٢) آل عمران هذا التّفسير.

ثمّ تذكر الآية نزول المائدة من السماء :( إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ ) .

«المائدة» تعني في اللغة الخوان والسفرة والطبق ، كما تعني الطعام الذي يوضع عليها وأصلها من «ميد» بمعنى التحرك والاهتزاز ، ولعل سبب إطلاق لفظة المائدة على السفرة والطعام هو ما يلازمها من تحريك وانتقال.

شعر المسيحعليه‌السلام بالقلق من طلب الحواريين هذا الذي يدل على الشك والتردد ، على الرغم من كل تلك الأدلة والآيات ، فخاطبهم و( قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) .

ولكنّهم سرعان ما أكّدوا للمسيحعليه‌السلام أن هدفهم برىء ، وأنّهم لا يقصدون العناد واللجاج ، بل يريدون الأكل منها (مضافا إلى الحالة النّورانية في قلوبهم المترتبة على تناول الغذاء السماوي لأنّ للغذاء ونوعيته اثر مسلّم في روح الإنسان)( قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا ، وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ

__________________

(١)( وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ )

١٨٧

عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ ) .

فبيّنوا قصدهم أنّهم طلبوا المائدة للطعام ، ولتطمئن قلوبهم به لما سيكون لهذا الطعام الإلهي من أثر في الروح ومن زيادة في الثقة واليقين.

ولمّا أدرك عيسىعليه‌السلام حسن نيّتهم في طلبهم ذاك ، عرض الأمر على الله :( قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) .

من الواضح هنا أنّ الأسلوب الذي عرض به عيسى بن مريم الأمر على الله كان أليق وأنسب ، ويحكي عن روح البحث عن الحقيقة ورعاية الشؤون العامّة للمجتمع.

فاستجاب الله لهذا الطلب الصادر عن حسن نية وإخلاص ،( قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ ) .

فبعد نزول المائدة تزداد مسئوليات هؤلاء وتقوى الحجة عليهم ، ولذلك فإنّ العقاب سيزداد أيضا في حالة الكفر والانحراف.

ملاحظات :

هنا لا بدّ من التحقيق في عدّة نقاط من هذه الآيات الكريمة :

١ ـ ما القصد من طلب المائدة؟

لا شك أنّ الحواريين لم يكونوا مدفوعين بقصد شيء في طلبهم هذا ، ولا هم كانوا يريدون المشاكسة والمعاندة ، بل كانوا يرغبون في بلوغ مرحلة الاطمئنان الأقوى وإبعاد ما بقي من رواسب الشك والوسوسة من أعماقهم ، فكثيرا ما يحدث أنّ إنسانا يتأكد من أمر بالمنطق وحتى بالتجربة ، ولكن إذا كان الأمر مهما جدّا فإنّ بقايا من الشك والتردد تظل في ثنايا قلبه ، لذلك فهو شديد الرغبة في أن تتكرر تجاربه واختباراته ، أو أن تتبدل استدلالاته المنطقية والعلمية إلى مشاهدات عينية تقتلع من أعماق قلبه جذور تلك الشكوك والوساوس ، ولهذا

١٨٨

نرى إبراهيمعليه‌السلام ، على ما كان عليه من مقام ويقين يسأل الله أن يرى المعاد رأي العين لكي يتبدل إيمانه العلمي إلى «عين اليقين» وإلى «شهود».

ولكن أسلوب طلب الحواريين تميز بشيء من الفضاضة لذلك ظن عيسىعليه‌السلام أنّهم بصدد البحث عن الأعذار والحجج ، فاعترضهم وبعد أن شرحوا له حقيقة موقفهم وافق على طلبهم.

٢ ـ ما المقصود بعبارة( هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ) ؟

لا شك أنّ ظاهر هذا الكلام يوحي بأنّ الحواريين كانوا يشكون في قدرة الله على إنزال مائدة ، إلّا أنّ المفسّرين المسلمين لهم آراء أخرى في تفسيرها ، منها أنّ هذا الطلب وقع في بداية أمرهم وقبل أن يتعرفوا على جميع صفات الله.

ورأي آخر يقول : إنّ سؤالهم يعني : هل يرى الله أن من المصلحة أن ينزل عليهم مائدة من السماء؟ كأن يقول شخص : لا أستطيع أن أعهد إلى فلان بكل ثروتي ، ولا يعني أنّه ليس بقادر على ذلك ، بل يعني أنّه لا يرى مصلحة في الأمر.

ورأي ثالث يقول : أن «يستطيع» تعني «يستجيب» لأن مادة (طوع) تعني الانقياد ، فإذا وردت من باب (الاستفعال) فيمكن أن تفيد المعنى نفسه ، فيكون المعنى : هل يستجيب الله لطلبنا بشأن إنزال مائدة من السماء؟

٣ ـ ما هي تلك المائدة السماوية؟

لم يذكر القرآن شيئا عن محتوياتها ، ولكن يستفاد من بعض الأحاديث ، وخاصة الحديث المروي عن الإمام الباقرعليه‌السلام ، أن تلك المائدة كانت تحوي أرغفة من الخبر ومقدارا من السمك ، ولعل سبب طلب هذه المعجزة كان ما سمعوه عن المائدة السماوية التي نزلت على بني إسرائيل باعجاز من موسىعليه‌السلام فطلبوا هم أيضا من عيسىعليه‌السلام مثل ذلك.

٤ ـ هل نزلت عليهم مائدة؟

رغم أنّ الآيات المذكورة تكاد تصرح بنزول المائدة ، فالله لا يخلف وعده ، ولكن العجيب أنّ بعض المفسّرين يشكون في نزول المائدة ، ويقولون : أنّ

١٨٩

الحواريين حين عرفوا عظم المسؤولية التي سوف تقع عليهم بعد نزول المائدة ، تخلوا عن طلبهم ، ولكن الواقع أنّ المائدة قد نزلت فعلا.

٥ ـ ما العيد؟

«العيد» في اللغة من «العود» أي الرجوع ، لذلك فذكرى الأيّام التي تنداح فيها المشاكل عن قوم أو مجتمع وتعود أيام الفوز والهناء الأوّل تكون عيدا. كذلك هي الأعياد الإسلامية فبعد شهر من طاعة الله في صوم رمضان ، أو بعد أداء فريضة الحج العظيم ، يعود إلى النفس طهرها وصفاؤها الأولين الفطريين ، ويزول التلوث عن الفطرة ، فيكون العيد ، ولما كان يوم نزول المائدة يوم العودة إلى الفوز والطهارة والإيمان بالله ، فقد سمّاه المسيحعليه‌السلام عيدا.

وقد ورد في الأخبار أنّ نزول المائدة كان في يوم الأحد ، ولعل هذا هو سبب الاحترام الذي يكنه المسيحيون لهذا اليوم.

إنّنانقرأ لأمير المؤمنين عليعليه‌السلام قوله : «وكل يوم لا يعصى الله فيه فهو يوم عيد»(١) .

وفي هذا إشارة إلى الموضوع نفسه ، لأنّ يوم ترك المعصية هو يوم فوز وطهارة وعودة إلى الفطرة الاولى.

٦ ـ لماذا العقاب الشديد؟

هنا أمر مهم ينبغي ألا نغفل عنه ، وذلك أنّه عند ما يبلغ الإيمان مرحلة الشهود وعين اليقين أي عند ما ترى الحقيقة رأي العين ، ولا يبقى مكان لأي شك أو تردد ، فإنّ مسئولية المرء تزداد وتثقل ، لأنّ هذا المرء لم يعد ذلك الذي كانت تنتابه الوساوس والشكوك من قبل ، بل هو امرؤ ورد مرحلة جديدة من الإيمان وتحمل المسؤولية ، فأقل تقصير أو غفلة من جانبه يستدعي العقاب الشديد ، ولهذا فإنّ مسئولية الأنبياء وأولياء الله أشد وأثقل ، بحيث أنّهم كانوا في خشية دائمة منها ، إننا في الحياة اليومية نصادف نماذج من هذا القبيل أيضا ، فمثلا يعلم كل شخص

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة ٤٢٨.

١٩٠

أنّ في بلده أو مدينته جياعا يتحمل مسئوليتهم ، ولكنه عند ما يرى بعينيه إنسانا بريئا يتضور جوعا ويتألم سغبا ، فلا شك أنّ درجة مسئوليته تكون عندئذ أعلى.

٧ ـ «العهد الجديد» والمائدة.

في الأناجيل الأربعة الموجودة حاليا لا نجد كلاما عن المائدة كما في القرآن ، عدا ما جاء في إنجيل يوحنا ، في الباب (٢١) ، حول استضافة المسيح الإعجازية جمعا من الناس بالخبز والسمك ، ولكننا بقليل من التفحص ندرك أنّ ذلك لا علاقة له بالمائدة التي نزلت من السماء للحواريين(١) .

ثمّة كلام في كتاب «أعمال الرسل» وهو من كتب العهد الجديد ، يدور حول نزول مائدة على أحد الحواريين واسمه بطرس ، ولكن هذا أيضا ليس هو الموضوع الذي نحن بصدده ، غير أنّنا نعلم أن كثيرا من الحقائق التي نزلت على عيسىعليه‌السلام لا أثر لها في الأناجيل السائدة ، كما أن كثيرا ممّا نراه في هذه الأناجيل لم ينزل على المسيحعليه‌السلام (٢) .

* * *

__________________

(١) «الهدى إلى دين المصطفى» ، ج ٢ ، ص ٢٣٩.

(٢) نفس المصدر.

١٩١

الآيات

( وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) )

التّفسير

براءة المسيح من شرك أتباعه :

هذه الآيات تشير إلى حديث يدور بين الله والمسيح يوم القيامة ، بدليل أنّنا بعد بضع آيات نقرأ :( هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ) ولا شك أنّه يوم القيامة.

ثمّ أنّ جملة( فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) دليل آخر على أنّ الحوار

١٩٢

قد جرى بعد عهد نبوة المسيحعليه‌السلام ، والفعل «قال» الماضي لا يتعارض مع ما ذهبنا إليه ، لأنّ القرآن مليء بذكر أمور عن يوم القيامة استعمل فيها الزمن الماضي ، وهو إشارة إلى أنّ وقوعه حتمي ، أي أنّ مجيئه فى المستقبل على درجة من الثبوت والحتمية بحيث أنّه يبدو وكأنّه قد وقع فعلا ، فيستعمل له صيغة الماضي.

على كل حال تقول الآية الاولى :( وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ) .

لا ريب أنّ المسيحعليه‌السلام لم يقل شيئا كهذا ، بل دعا إلى التوحيد وعبادة الله ، أنّ القصد من هذا الاستفهام هو استنطاقه أمام أمّته وبيان إدانتها.

فيجيب المسيحعليه‌السلام بكل احترام ببضع جمل على هذا السؤال :

١ ـ أوّلا ينزّه الله عن كل شرك وشبهة :( قالَ سُبْحانَكَ ) .

٢ ـ ثمّ يقول :( ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ ) أي ما لا يحق لي قوله ولا يليق بي أن أقوله.

فهو في الحقيقة لا ينفي هذا القول عن نفسه فحسب ، بل ينفي أن يكون له حق في قول مثل هذا القول الذي لا ينسجم مع مقامه ومركزه.

٣ ـ ثمّ يستند إلى علم الله الذي لا تحده حدود تأكيدا لبراءته فيقول :( إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) (١) .

٤ ـ( ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ) ، لا أكثر من ذلك.

٥ ـ( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (٢) .

__________________

(١) إطلاق كلمة «نفس» على الله لا يعني الروح ، فمن معاني النفس الذات.

(٢) في معنى «توفى» وكونها لا تعني موت المسيحعليه‌السلام أنظر ذيل الآية (٥٥) من سورة آل عمران في المجلد الثّاني.

١٩٣

أي كنت أحول دون سقوطهم في هاوية الشرك مدّة بقائي بينهم ، فكنت الرقيب والشاهد عليهم ، ولكن بعد أن رفعتني إليك ، كنت أنت الرقيب والشاهد عليهم.

٦ ـ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ، أي على كل حال فالأمر أمرك والإرادة إرادتك ، إن شئت أن تعاقبهم على انحرافهم الكبير فهم عبيدك وليس بامكانهم أن يفروا من عذابك ، فهذا حقّك بإزاء العصاة من عبيدك ، وإن شئت أن تغفر لهم ذنوبهم فإنّك أنت القوي الحكيم ، فلا عفوك دليل ضعف ، ولا عقابك خال من الحكمة والحساب.

* * *

هنا يتبادر إلى الذهن سؤالان :

١ ـ هل يوجد في تاريخ المسيحية ما يدل على أنّهم اتّخذوا من (مريم) معبودة؟ أم أنّهم إنّما قالوا فقط بالتثليث أو الآلهة الثلاثة : (الإله الأب) و (الإله الابن) و (روح القدس) على اعتبار أن (روح القدس) هو الوسيط بين (الإله الأب) و (الإله الابن) وهو ليس (مريم).

للإجابة على هذا السؤال نقول : صحيح أنّ المسيحيين لم يؤلهوا مريم ، ولكنّهم كانوا يؤدون أمام تمثالها طقوس العبادة ، كالوثنيين الذي لم يكونوا يعتبرون الأصنام آلهة ، ولكنّهم كانوا يعتبرونها شريكة لله في العبادة.

وهناك فرق بين «الله» بمعنى الخالق ، وال «إله» بمعنى المعبود ، وكانت (مريم) عند المسيحيين (آلهة) لا أنّها بمثابة «الله».

يقول أحد المفسّرين : إنّ المسيحيين على اختلاف فرقهم ، وإن لم يطلقوا كلمة (إله) أو معبود على مريم ، واعتبروها أم الإله لا غير ، فهم في الواقع يقدمون لها

١٩٤

طقوس الدعاء والعبادة ، سواء أطلقوا عليها هذا الاسم أم لم يطلقوه ، ثمّ يضيف قائلا : قبل مدّة صدر في بيروت العدد التاسع من السنة السابقة من مجلة (المشرق) المسيحية بمناسبة الذكرى الخمسين للبابا (بيوس التاسع) وفيها مواضيع مثيرة عن السيدة مريم ، منها تصريح بأنّ كلتا الكنيستين الشرقية والغربية تعبدان (مريم).

وفي العدد الرّابع عشر من السنة الخامسة من الجملة نفسها مقال بقلم (الأب انستانس الكرملي) حاول فيه أن يعثر عن أصول عبادة مريم حتى في العهد القديم ، فراح يفسر حكاية الأفعى (الشيطان) والمرأة (حواء) باعتبارها حكاية مريم(١) .

وعليه فإنّ عبادة مريم موجودة بينهم.

٢ ـ السؤال الثّاني : كيف يتحدث المسيحعليه‌السلام عن مشركي أمّته بعبارات يشم منها رائحة الشفاعة لهم فيقول :( وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ؟ أيكون المشرك أهلا للشفاعة والغفران؟

في الجواب نقول : لو كان قصد عيسىعليه‌السلام هو الشفاعة لهم لكان عليه أن يقول :

فإنك أنت الغفور الرحيم لأن غفران الله ورحمته هما اللذان يناسبان مقام الشفاعة ، ولكنّنا نراه يقول( فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) من هذا يتّضح أنّه لم يكن في مقام الشفاعة لهم ، بل كان يريد أن ينفي عن نفسه أي اختيار وأن يوكل الأمر كلّه إلى الله ، إن شاء عفا ، وإن شاء عاقب ، وكل مشيئة منه سبحانه تستند إلى حكمة.

ثمّ ربّما كما بينهم جماعة أدركت خطأها وسارت على طريق التوبة ، فتكون هذه الجملة قد قيلت بحقها.

* * *

__________________

(١) تفسير «المنار» ، ج ٧ ، ص ٢٦٣.

١٩٥

الآيتان

( قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠) )

التّفسير

الفوز العظيم :

بعد الحوار الذي جرى بين الله والمسيحعليه‌السلام يوم القيامة ـ كما شرحناه في تفسير الآيات السابقة ـ تقول الآية( قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ) .

طبيعي أنّ المقصود من هذا هو أنّ الصدق في القول والعمل في هذه الدنيا هو الذي ينفع في الآخرة ، لأنّ الصدق في الآخرة ـ التي لا تكليف فيها ـ لا ينفع شيئا ثمّ أنّ الوضع في تلك الحياة مختلف بحيث لا يستطيع أحد إلّا أن يقول الصدق ، حتى المذنبون يعترفون بسيئات ما عملوا ، وعلى هذا فلا وجود للكذب يوم القيامة.

وعليه ، فإنّ الذين أنجزوا ما كلّفوا من مسئولية ورسالة ولم يسيروا إلّا في

١٩٦

وعليه ، فإنّ الذين أنجزوا ما كلّفوا من مسئولية ورسالة ولم يسيروا إلّا في طريق الصدق ، مثل المسيحعليه‌السلام وأتباعه الصادقين ، أو أتباع سائر الأنبياء الآخرين الذين التزموا الصدق سينالون ثوابهم.

يتّضح لنا من هذا بأنّ جميع الأعمال الصالحات يمكن أن تنطوي تحت عنوان الصدق في القول والفعل ، وأنّه الرصيد الذي ينفع يوم القيامة لا غير.

وهؤلاء الصادقون :( لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ) وخير من هذه النعمة المادية أنّهم :( رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ) ولا شك أنّ هذه النعمة الكبرى التي تجمع بين النعم المادية والنعم المعنوية شيء عظيم :( ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

يلفت النظر أنّ الآية ، بعد ذكر بساتين الجنّة ونعمها الكثيرة ، تذكر نعمة رضي الله عن عباده ، ورضى عباده عنه وتصف ذلك بأنّه الفوز العظيم ، وهذا يدل على مدى أهمية هذا الرضى المتبادل ، فقد يكون امرؤ غارقا في أرفع نعم الله ، ولكنّه إذا أحس بأنّ مولاه ومعبوده ومحبوبه ليس راضيا عنه ، فإن جميع تلك النعم والهبات تصير علقما في ذائقة روحه.

كما يمكن أن يتوفر لامرئ كل شيء ، ولكنه لا يكون راضيا ولا قانعا بما عنده ، فمن الواضح أنّ هذه النعم بأجمعها غير قادرة على إسعاد تلك الروح ، بل تكون دائما معرضة لعذاب قلق غامض واضطراب نفسي مستمر يقضيان على الراحة النفسية التي هي من أعظم نعم الله.

ثمّ إذا كان الله راضيا عن امرئ فإنّه يعطيه كل ما يريد ، فإذا أعطاه كل ما يريد فإنّه يكون راضيا عن ربّه أيضا ، من هنا فإنّ أعظم النعم هي أن يرضى الله عن الإنسان ويرضى الإنسان عن ربّه.

وفي آخر الآية إشارة إلى امتلاك الله كل شيء وسيطرته على السموات والأرض وما فيها ، وأنّ قدرته عامّة تشمل كل شيء :( لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

١٩٧

وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

هذه الآية ، في الواقع ، تعتبر سبب رضى عباد الله عن الله ، وذلك لأنّ الذي يملك كل شيء في عالم الوجود له القدرة أن يعطي عباده ما يريدون وأن يغفر لهم وأن يفرحهم ويرضيهم ، كما تتضمن إشارة إلى عدم صدق أعمال النصارى في عبادة مريم ، لأنّ العبادة جديرة بأن تكون لمن يحكم عالم الخليقة بأكمله ، لا مريم التي لا تزيد عن كونها مخلوقة مثلهم.

* * *

١٩٨

سورة الأنعام

مكيّة

وفيها مائة وخمس وستون آية

١٩٩
٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611