الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 611

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 611
المشاهدات: 127756
تحميل: 5336


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 611 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127756 / تحميل: 5336
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 4

مؤلف:
العربية

سورة الأنعام

سورة محاربة أنواع الشرك والوثنية

قيل أنّ سورة الأنعام مكية ، وهي السورة التاسعة والستون في تسلسل نزول السور القرآنية ، إلّا أنّ هناك اختلافا بشأن عدد من آياتها ، يعتقد بعض أنّ تلك الآيات نزلت في المدينة ، لكن الأخبار الواصلة إلينا من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام تفيد بأن واحدة من مميزات هذه السورة هي أنّ آياتها جميعا نزلت في مكان واحد ، وعليه فكل آياتها مكية.

هدف هذه السورة الرئيسي ـ مثل أهداف السور المكية ـ توكيد الأصول الثلاثة : «التوحيد» و «النبوة» و «المعاد» ، ولكنها تؤكّد أكثر ما تؤكّد قضية عبادة الله الواحد ومحاربة الشرك والوثنية ، بحيث أنّ معظم آيات هذه السورة يخاطب المشركين وعبدة الأصنام ، وبهذا يتناول البحث في أكثر المواضع أعمال المشركين وبدعهم.

على كل حال ، فإن تدبر آيات هذه السورة والتفكير في استدلالاتها الحية الجلية ، يحيي روح التوحيد وعبادة الله في الإنسان ، ويحطم قواعد الشرك ويقتلع جذوره ، ولعل السبب في نزول هذه السورة في مكان واحد هو هذا التماسك المعنوي وإعطاء الأولوية لمسألة التوحيد.

ولعل هذا أيضا هو السبب لما نقرؤه من روايات عن فضل هذه السورة ، وإنّها عند نزولها رافقها سبعون ألف ملك ، وأنّ من يقرأها وترتوي روحه من ينبوع

٢٠١

التوحيد يستغفر له كل أولئك الملائكة.

إنّ التمعن في آيات هذه السورة يقضي على روح النفاق والتشتت بين المسلمين ، ويجعل الآذان سميعة ، والأعين بصيرة ، والقلوب عارفة.

ولكن العجيب أن نرى بعضهم يكتفي من هذه السورة بقراءة ألفاظها فقط ، ويعقد الجلسات لتلاوة آياتها من أجل حل المشاكل الشخصية ، فلو اهتمت هذه الجلسات بمحتوى السورة ، فلا تنحل المشاكل الخاصّة وحدها ، بل تنحل جميع مشاكل المسلمين العامّة أيضا ، ومن المؤسف جدا أنّ جمعا من الناس يعتبرون القرآن مجموعة من (الأوراد) التي لها خواص غامضة ومجهولة فيقرءونها بغير تمعن في مضامينها ، مع أن القرآن كلّه مدرسة ودروس ومنهج ويقظة ، ورسالة ووعي.

* * *

٢٠٢

الآيتان

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ )

( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ(2) )

التّفسير

تبدأ السّورة بالحمد لله والثناء عليه ، ثمّ تشرع بتوعية الناس على مبدأ التوحيد ، عن طريق خلق العالم الكبير (السموات والأرض) أولا ، ثمّ عن طريق خلق العالم الصغير (الإنسان) ثانيا :( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) الله الذي هو مبدأ الظّلمة والنّور ، وبخلاف ما يعتقده الثنويون ، وهو وحده خالق كل شيء :( وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ) .

غير أنّ الكافرين والمشركين ، بدلا من أن يتعلموا من هذا النظام الواحد درس التوحيد ، يصطنعون لله الشريك والشبيه :( ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ) (1) .

نلاحظ أنّ القرآن يذكر عقيدة المشركين بعد حرف العطف «ثم» الذي يدل في اللغة العربية على الترتيب والتراخي ، وهذا يدل على أن التوحيد كان في أوّل الأمر مبدأ فطريا وعقيدة عامّة للبشر ، بعد ذلك حصل الشرك كانحراف عن الأصل الفطري.

أمّا لماذا استعملت الآية كلمة «الخلق» بشأن السموات والأرض ، وكلمة

__________________

(1) «يعدلون» من «عدل» على وزن «حفظ» بمعنى التساوي ، وهي هنا بمعنى (العديل) أي الشريك والشبيه والمثيل.

٢٠٣

«جعل» بشأن النّور والظلمة ، فإنّ للمفسّرين في ذلك كلاما كثيرا ، ولكن أقربه إلى الذهن هو القول بأنّ «الخلق» يكون في أصل وجود الشيء ، و «الجعل» يكون بشأن الخصائص والآثار والكيفيات التي هي نتيجة لخلق تلك المخلوقات ، ولما كان النّور والظلمة حالتين تابعتين فقد عبّر عنهما بلفظة «جعل».

وروي عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في تفسير هذه الآية قوله : «وكان في هذه الآية ردّ على ثلاثة أصناف منهم ، لما قال :( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) فكان ردّا على الدهرية الذين قالوا : إنّ الأشياء لا بدء لها وهي دائمة ، ثمّ قال :( وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ) فكان ردّا على الثنوية الذين قالوا : إنّ النّور والظلمة هما المدبران.

ثمّ قال :( ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ) فكان ردّا على مشركي العرب الذين قالوا : إنّ أوثاننا آلهة»(1) .

هل الظّلمة من المخلوقات؟

تفيد الآية إنّه مثلما أن «النّور» من مخلوقات الله ، فإنّ «الظلمة» كذلك من مخلوقاته ، مع أنّ الفلاسفة والمختصين بالعلوم الطبيعية يعرفون أنّ الظلمة هي انعدام النّور ، ولهذا فلا يمكن اطلاق صفة «المخلوق» على المعدوم إذن ، كيف تعتبر الآية المذكورة الظلمة من المخلوقات؟

في ردّ هذا الاعتراض نقول.

أوّلا : الظّلمة ليس تعني دائما الظلام المطلق ، بل كثيرا ما تطلق على النّور الضعيف جدا بالمقارنة مع النّور القوي ، فنحن جميعا نقول ، مثلا ، ليل مظلم ، مع العلم بأنّ ظلام الليل ليس ظلاما مطلقا ، بل هو مزيج من نور النجوم الضعيف أو مصادر أخرى للنور ، وعلى هذا يكون مفهوم الآية هو أنّ الله جعل لكم نور النهار وظلام الليل ، فالأوّل نور قوي والآخر نور ضعيف جدا وواضح أنّ الظلمة ، بهذا المعنى ، تكون من المخلوقات.

وثانيا : صحيح أنّ الظلمة المطلقة أمر عدمي ، ولكن الأمر العدمي ـ في ظروف

__________________

(1) تفسير «نور الثقلين» ج 1 ، ص 701.

٢٠٤

خاصّة ـ يكون نابعا من أمر وجودي ، أي أنّ يوجد الظلمة المطلقة في ظروف خاصة لهدف معين ، لا بدّ أن يكون قد استعمل لذلك وسائل وجودية ، فإذا أردنا أنّ نجعل الغرفة مظلمة لتحميض صورة ـ مثلا ـ فعلينا أن نمنع النّور لكي تحصل الظلمة في تلك اللحظة المعينة ، وظلمة هذا شأنها ظلمة مخلوقة (مخلوقة بالتبع).

وإذا لم يكن (العدم المطلق) مخلوقا ، فإن (العدم الخاص) له نصيب من الوجود ، وهو مخلوق.

النّور رمز الوحدة ، والظلمة رمز التشتت :

الأمر الآخر الذي ينبغي الالتفات إليه هنا هو أنّ لفظة (نور) ترد في القرآن بصيغة المفرد ، بينما الظلمة تأتي بصيغة الجمع (ظلمات).

وقد يكون هذا إشارة لطيفة إلى حقيقة كون الظلام (المادي والمعنوي) مصدرا دائما للتشتت والانفصال والتباعد ، بينما النّور رمز التوحد والتجمع.

طالما شاهدنا أنّنا في الليلة الصيفية الظلماء نوقد سراجا في فناء الدار ، ثمّ لا تمضي إلّا دقائق حتى نرى مختلف أنواع الحشرات تتجمع حول السراج مؤلفة تجمعا حيا حول النّور ، ولكننا إذا أطفأنا السراج تفرقت الحشرات كل إلى جهة ، كذلك الحال في الشؤون المعنوية والاجتماعية. فنور العلم والقرآن والإيمان أساس الوحدة ، وظلام الجهل والكفر والنفاق أساس التفرق والتشتت.

قلنا : إنّ هذه السورة تسعى إلى لفت نظر الإنسان إلى العالم الكبير لتثبيت قواعد عبادة الله والتوحيد في القلوب ، توجه نظره أوّلا إلى العالم الكبير ، والآية التّالية تلفت نظره إلى العالم الصغير (الإنسان) فتشير إلى أعجب أمر ، وهو خلقه من الطين فتقول( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ) .

صحيح أنّنا ولدنا من أبوينا ، لا من الطين ، ولكن بما أنّ خلق الإنسان الأوّل كان من الطين ، فيصح أن نخاطب نحن أيضا على أننا مخلوقين من الطين.

وتستمر السورة فتشير إلى مراحل تكامل عمر الإنسان فتقول : إنّ الله بعد ذلك عين مدّة يقضها الإنسان على هذه الأرض للنمو والتكامل :( ثُمَّ قَضى أَجَلاً ) .

«الأجل» في الأصل بمعنى «المدّة المعينة» و «قضاء الأجل» يعني تعيين تلك

٢٠٥

المدّة أو إنهاءها ، ولكن كثيرا ما يطلق على الفرصة الأخيرة اسم «الأجل» ، فتقول ، مثلا : جاء أجل الدّين ، أي أنّ آخر موعد التسديد الدّين قد حل. ومن هنا أيضا يكون التعبير عن آخر لحظة من لحظات عمر الإنسان بالأجل لأنّها موعد حلول الموت.

ثمّ لاستكمال البحث تقول :( وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ) .

بعد ذلك تخاطب الآية المشركين وتقول لهم :( ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ) أي تشكون في قدرة الخالق الذي خلق الإنسان من هذه المادة التافهة (الطين) واجتاز به هذه المراحل المدهشة ، وتعبدون من دونه موجودات لا قيمة لها كالأصنام.

ما معنى الأجل المسمى؟

لا شك أنّ «الأجل المسمى» و «أجلا» في الآية مختلفتان في المعنى ، أمّا اعتبار الإثنين بمعنى واحد فلا ينسجم مع تكرار كلمة «أجل» خاصّة مع ذكر القيد : «مسمى» في الثّاني.

لذلك بحث المفسّرون كثيرا في الاختلاف بين التعبيرين ، والقرائن الموجودة في القرآن والرّوايات التي وصلتنا عن أهل البيتعليهم‌السلام تفيد أنّ «أجل» وحدها تعني غير الحتمي من العمر والوقت والمدّة ، و «الأجل المسمى» بمعنى الحتمي منها ، وبعبارة أخرى «الأجل المسمى» هو «الموت الطبيعي» و «الأجل» هو الموت غير الطبيعي.

ولتوضيح ذلك نقول : إنّ الكثير من الموجودات لها من حيث البناء الطبيعي والذاتي الاستعداد القابلية للبقاء مدّة طويلة ، ولكن قد تحصل خلال ذلك موانع تحول بينها وبين الوصول إلى الحد الطبيعي الأعلى ، افترض سراجا نفطيا يستطيع أنّ يبقى مشتعلا مدّة عشرين ساعة مع الأخذ بنظر الإعتبار سعته النفطية ، غير أن هبوب ريح قوية ، أو هطول المطر عليه أو عدم العناية به ، يكون سببا في قصر مدّة الإضاءة ، فإذا لم يصادف السراج أي مانع ، وظل مشتعلا حتى آخر قطرة من نفطه ثمّ انطفأ نقول : إنّه وصل إلى أجله المحتوم ، وإذا أطفأته الموانع قبل ذلك ، فيكون عمره «أجل» غير محتوم.

٢٠٦

والحال كذلك بالنسبة للإنسان ، فإذا توفرت جميع ظروف بقائه وزالت جميع الموانع من طريق استمرار حياته ، فإن بنيته تضمن بقاءه مدّة طويلة إلى حد معيّن ، ولكنّه إذا تعرض لسوء التغذية ، أو ابتلى بنوع من الإدمان ، أو إذا انتحر ، أو أعدم لجريمة ومات قبل تلك المدّة ، فإنّ موته في الحالة الاولى يكون أجلا محتوما ، وفي الحالة الثّانية أجلا غير محتوم.

وبعبارة أخرى : الأجل الحتمي يكون عند ما ننظر إلى «مجموع العلل التامّة». والأجل غير الحتمي يكون عند ما ننظر إلى «المقتضيات» فقط.

استنادا إلى هذين النوعين من الأجل يتّضح لنا كثير من الأمور ، من ذلك مثلا ما نقرؤه في الرّوايات والأحاديث من أن صلة الرحم تطيل العمر ، وقطعها يقصر العمر ، وواضح أنّ العمر هنا هو الأجل غير الحتمي.

أمّا قوله تعالى :( فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) (1) . فهو الأجل المحتوم ، أي أنّ الإنسان قد وصل إلى نهاية عمره ، وهو لا يشمل الموت غير المحتوم السابق لأوانه.

ولكن علينا أن نعلم ـ على كل حال ـ أنّ الأجلين يعينهما الله ، الأوّل بصورة مطلقة ، والثّاني بصورة معلقة أو مشروطة ، وهذا يشبه بالضبط قولنا : إنّ هذا السراج ينطفئ بعد عشرين ساعة بدون قيد ولا شرط ، ونقول إنّه ينطفئ بعد ساعتين إذا هبت عليه ريح ، كذلك الأمر بالنسبة للإنسان والأقوام والملل ، فنقول : إنّ الله شاء أن يموت الشخص الفلاني أو أن تنقرض الأمّة الفلانية بعد كذا من السنين ، ونقول إنّ هذه الأمّة إذا سلكت طريق الظلم والنفاق والتفرقة والكسل والتهاون فإنّها ستهلك في ثلث تلك المدّة ، كلا الأجلين من الله ، الأوّل مطلق والآخر مقيد بشروط.

جاء عن الإمام الصادقعليه‌السلام تعقيبا على هذه الآية قوله : «هما أجلان : أجل محتوم وأجل موقوف» كما جاء عنه في أحاديث أخرى أنّ الأجل الموقوف قابل للتقديم والتأخير ، والأجل الحتمي لا يقبل التغيير(2) .

__________________

(1) الأعراف ، 34.

(2) تفسير «نور الثقلين» ، ج 1 ، ص 504.

٢٠٧

الآية

( وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3) )

التّفسير

هذه الآية تكمل البحث السابق في التوحيد ووحدانية الله ، وترد على الذين يقولون بوجود إله لكل مجموعة من الكائنات ، أو لكل ظاهرة من الظواهر ، فيقولون : إله المطر ، وإله الحرب ، وإله السلم ، وإله السماء ، وما إلى ذلك ، تقول الآية :( وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ ) (1) أي كما أنّه خالق كل شيء فهو مدبر كل شيء أيضا ، وبذلك ترد الآية على مشركي الجاهلية الذين كانوا يعتقدون أنّ الخالق هو «الله» لكنّهم كانوا يؤمنون أنّ تدبير الأمور بيد الأصنام.

هنالك احتمال آخر في تفسير الآية ، وهو أنّها تعني حضور الله في كل مكان ، في السموات والأرض ، ولا يخلو منه مكان ، فليس هو بجسم ليشغل حيزا معينا ، بل هو المحيط بكل الأمكنة.

__________________

(1) ثمّة اختلاف بين المفسّرين حول إعراب هذه العبارة القرآنية والظاهر أنّ «هو» مبتدأ و «الله» خبر. و( فِي السَّماواتِ ) جار ومجرور متعلقان بفعل تدل عليه كلمة «الله» والتقدير : (هو المتفرد في السموات والأرض بالألوهية).

٢٠٨

من الطبيعي أن يكون الحاكم على كل شيء والمدبر لكل الأمور والحاضر في كل مكان عارفا بجميع الأسرار والخفايا ولهذا تقول الآية : إنّ ربّا كهذا( يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ ) .

قد يقال بأنّ (السرّ) و (الجهر) يشملان أعمال الإنسان ونواياه ، وعلى ذلك فلا حاجة لذكر( وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ ) .

ولكن ينبغي الالتفات إلى أنّ «الكسب» هو نتائج العمل والحالات النفسية الناشئة عن الأعمال الحسنة والأعمال السيئة ، أي أنّ الله يعلم أعمالكم ونواياكم ، كما يعلم الآثار التي تخلفها تلك الأعمال والنوايا في نفوسكم ، وعلى كل حال ، فانّ ذكر العبارة هذه يفيد التوكيد بشأن أعمال الإنسان.

* * *

٢٠٩

الآيتان

( وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5) )

التّفسير

قلنا : إنّ معظم الخطاب في سورة الأنعام موجه إلى المشركين ، والقرآن يستخدم شتى السبل لإيقاظهم وتوعيتهم ، فهذه الآية والآيات الكثيرة التي تليها تواصل هذا الموضوع.

تشير هذه الآية إلى روح العناد واللامبالاة والتكبر عند المشركين تجاه الحقّ وتجاه آيات الله فتقول :( وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ ) (1) .

أي أنّ أبسط شروط الهداية ـ وهو البحث والتقصي ـ غير موجود عندهم ، وليس فيهم أي اندفاع لطلب الحقيقة ، ولا يحسّون بعطش إليها ليبحثوا عنها ،

__________________

(1) كلمة «آية» نكرة ، ووردت في سياق النفي ، فيكون المعنى : إنّهم يعرضون عن كل آية ولا يفكرون فيها.

٢١٠

وحتى لو تدفّق ينبوع الماء الزلال عند عتبات بيوتهم لأعرضوا عنه ولما نظروا اليه وكذلك فهم يعرضون عن آيات «ربّهم» النازلة لتربيتهم وتكاملهم.

مثل هذه النفسية لا يقتصر وجودها على عهود الجاهلية ومشركي العرب ، فاليوم أيضا نجد من بلغ الستين من عمره ومع ذلك لم يجشم نفسه عناء ساعة واحدة من البحث والتحقيق في الله والدين ، وإن وقع بيده كتاب أو بحث في هذا الموضوع لم ينظر إليه ، وإن تحدث إليه أحد بهذا الشأن لم يصغ إليه ، هؤلاء هم الجهلاء المعاندون الغافلون الذين قد يظهرون أحيانا أمام الناس بمظهر العالم المتجبر!

ثمّ تشير الآية إلى نتيجة أعمالهم ، وهي : أنّهم عند ما رأوا الحقيقة كذبوها ، ولو أنّهم دققوا في آيات الله جيدا لرأوا الحقيقة وأدركوها وآمنوا بها :( فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ ) ، ولسوف تصلهم نتيجة هذا التكذيب والسخرية :( فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) .

في هاتين الآيتين إشارة إلى ثلاث مراحل من الكفر تتزايد في الشدّة على التوالي ، المرحلة الاولى هي مرحلة الإعراض ، ثمّ مرحلة التكذيب ، وأخيرا مرحلة الاستهزاء بآيات الله.

يدل هذا على أنّ الإنسان في كفره لا يتوقف في مرحلة واحدة ، بل يزداد باستمرار إنكارا للحق وعدواة له وابتعادا عن الله.

المقصود من التهديد المذكور في آخر الآية أنّ أوزار عدم الإيمان ستحيق بهم عاجلا أو آجلا في الدنيا والآخرة ، والآيات التّالية تؤكّد هذا التّفسير.

* * *

٢١١

الآية

( أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6) )

التّفسير

مصير الطّغاة :

ابتداء من هذه الآية وما بعدها يشرع القرآن بعرض خطّة تربوية مرحلية لإيقاظ عبدة الأصنام والمشركين تتناسب مع اختلاف الدوافع عند الفريقين ، يبدأ أوّلا بمكافحة عامل (الغرور) وهو من عوامل الطغيان والعصيان والانحراف المهمّة ، فيذكرهم بالأمم السالفة ومصائرهم المؤلمة ، وبذلك يحذر هؤلاء الذين غطت أبصارهم غشاوة الغرور ، ويقول :( أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً (1) وَجَعَلْنَا

__________________

(1) «المدرار» في الأصل من «در» اللبن ، ثم انتقل إلى ما يشبهه في النزول كالمطر والكلمة صيغة مبالغة ، وجملة «أرسلنا

٢١٢

الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ ) .

ولكنّهم لمّا استمروا على طريق الطغيان ، لم تستطع هذه الإمكانات إنقاذهم من العقاب الإلهي :( فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ ) .

أفلا ينبغي أنّ يكون علمهم بمصائر الماضين عبرة لهم ، توقظهم من نوم غفلتهم ، ومن سكرتهم؟ أليس الله الذي أهلك السابقين بقادر على أن يهلك هؤلاء أيضا؟

هاهنا بضع نقاط نلفت إليها الانتباه :

1 ـ على الرّغم من أن «قرن» تعني فترة طويلة من الزمن (مائة ، أو سبعين أو ثلاثين سنة) ، ولكنّها قد تعني أيضا ـ كما يقول اللغويون ـ القوم والجماعة في زمان معين (القرن من الاقتران بمعنى التقارب ، وبالنظر لأنّ أهل العصر الواحد أو العصور المتقاربة قريبون من بعضهم فقد يطلق عليهم وعلى زمانهم اسم القرن).

2 ـ يتكرر في القرآن القول بأنّ الإمكانات المادية الكثيرة تبعث على الغرور والغفلة لدى ضعفاء النفس من الناس كقوله تعالى :( إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى ) (1) لأنّهم بتوفر تلك الإمكانات عندهم يرون أنفسهم في غنى عن الله ، غافلين عن العناية الإلهية والإمدادات الربانية المغدقة عليهم في كل لحظة وثانية ، ولولاها لما استمروا على قيد الحياة.

3 ـ ليس هذا التحذير مختصا بعبدة الأصنام ، فالقرآن يخاطب ـ أيضا ـ اليوم العالم الصناعي الثري الذي أثملته الإمكانات المادية وملأته بالغرور ، ويحذره من نسيان الأقوام السابقة وممّا حاق بهم نتيجة ما ارتكبوه من ذنوب ، وكأني بالقرآن يقول للمغرورين في عالمنا اليوم : إنّكم ستفقدون كل شيء بانطلاق شرارة حرب عالمية أخرى ، لتعودوا إلى عصر ما قبل التمدن الصناعي اعلموا أنّ سبب

__________________

السماء» للزيادة في المبالغة.

(1) العلق ، 6 و 7.

٢١٣

تعاسة أولئك لم يكن شيئا سوى إثمهم وظلمهم واضطهادهم الناس وعدم إيمانهم وهذه عوامل ظاهرة في مجتمعكم أيضا.

حقا إنّ دراسة تاريخ فراعنة مصر ، وملوك سبأ وسلاطين كلدة وآشور ، وقياصرة الرّوم ، ومعيشتهم الباذخة الأسطورية وما كانوا يتقلبون فيه من نعم لا تعد ولا تحصى ، ثمّ رؤية عواقب أمورهم المؤلمة التي حاقت بهم بسبب ظلمهم الذي قوض أركان حياتهم ، فيها أعظم العبر والدروس.

* * *

٢١٤

الآية

( وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) )

التّفسير

منتهى العناد!

من عوامل انحرافهم الأخرى التكبر والعناد اللذين تشير إليهما ، هذه الآية ، أنّ المتكبر المكابر انسان عنيد في العادة ، لأنّ التكبر لا يسمح لهم بالاستسلام للحق والحقيقة ، والأفراد المتصفون بهذه الصفة يكونون عادة معاندين مكابرين ، ينكرون حتى الأمور الواضحة القائمة على الدليل والبرهان ، بل ينكرون حتى البديهيات ، كما نراه بأمّ أعيننا في المتكبرين من أبناء مجتمعاتنا.

يشير القرآن هنا إلى الطلب الذي تقدم به جمع من عبدة الأصنام (يقال أنّ هؤلاء هم نضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية ، ونوفل بن خويلد الذين قالوا لرسولاللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لن نؤمن حتى ينزل الله كتابا مع أربعة من الملائكة!) ويقول :( وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ) .

٢١٥

أي أنّ عنادهم قد وصل حدّا ينكرون فيه حتى ما يشاهدونه بأعينهم ويلمسونه بأيديهم فيعتبرونه سحرا لكيلا يستسلموا للحقيقة ، مع أنّهم في حياتهم اليومية يكتفون بعشر هذه الدلائل للإيمان بالحقائق ويقتنعون بها ، وما هذا بسبب ما فيهم من أنانية وتكبر وعناد.

وبهذه المناسبة فإنّ «القرطاس» هو كل ما يكتب عليه ، سواء أكان ورقا أو جلدا أو ألواحا ، أمّا إطلاقه اليوم على الورق فذلك لانتشار تداول الورق أكثر من غيره للكتابة.

* * *

٢١٦

الآيات

( وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) )

التّفسير

خلق المبررات :

من عوامل الكفر والإنكار الأخرى ، روح التحجج والبحث عن المبررات ، وعلى الرغم من أنّ لهذه الروح عوامل أخرى ، مثل التكبر والأنانية ، ولكنّه ينقلب بالتدريج إلى حالة نفسية سلبية ، تصبح بدورها عاملا من عوامل عدم التسليم للحق.

ومن جملة الحجج التي احتج بها المشركون على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأشار إليها القرآن في كثير من آياته ـ ومنها هذه الآية ـ هي أنّهم كانوا يقولون : لماذا يقوم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحده بهذا الأمر العظيم؟ لماذا لا يقوم معه بهذا الأمر أحد من غير

٢١٧

جنس البشر ، من جنس الملائكة؟ أيمكن لإنسان من جنسنا أنّ يحمل بمفرده هذه الرسالة على عاتقه؟( وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ) .

ولا مجال لهذا التحجج على نبوة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع كل هذه الدلائل الواضحة والآيات البيّنات ، ثمّ إنّ الملك ليس أقدر من الإنسان ولا يملك قابلية لحمل رسالة أكثر من قابلية الإنسان بل انّ قابلية الإنسان أكثر بكثير.

يرد القرآن عليهم بجملتين في كل منهما برهان :

الاولى :( وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ ) .

أي لو نزل ملك لمعاونة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهلك الكافرون ، وسبب ذلك ما مرّ في آيات سابقة ، وهو أنّه إذا اتخذت النبوة جانب الشهود والحس ، أي إذا تحول الغيب بنزول الملك إلى شهود ، بحيث يرى كل شيء عيانا ، غدت المرحلة هي المرحلة النهائية في إتمام الحجة ، إذ لا يكون ثمّة دليل أوضح منها ، وعلى ذلك فإن العصيان في هذه الحالة يستوجب العقاب القاطع ، ولكن الله للطفه ورحمته بعباده ، ولكي يمنحهم فرصة التأمل والتفكير ، لا يفعل ذلك إلّا في حالات خاصّة يكون فيها طالب الدليل على أتمّ استعداد ، أو في حالات يستحق فيها طالب الدليل الهلاك ، أي أنّه ارتكب ما يستوجب معه العقاب الإلهي ، في هذه الحالة يحقق له طلبه ، ثمّ إذا لم يستسلم صدر أمر هلاكه.

الثّانية : هي أنّ الرّسول الذي يبعثه الله لقيادة الناس وتربيتهم وليكون أسوة لهم ، لا بدّ أن يكون من جنس الناس أنفسهم وعلى شاكلتهم من حيث الصفات والغرائز البشرية ، أمّا الملك فلا يظهر لعيون البشر كما أنّه ليس بإمكانه أنّ يكون قدوة عملية لهم ، لأنّه لا يدري شيئا عن حاجاتهم وآلامهم ولا عن غرائزهم ومتطلباتها ، لذلك فإن قيادته لجنس يختلف عنه كل الاختلاف لا يحقق الهدف.

لذلك فالقرآن في الجواب الثّاني يقول : لو شئنا أن يكون رسولنا ملكا حسبما يريدون ، لوجب أن يتصف هذا الملك بصفات الإنسان وأن يظهر في هيئة إنسان :

٢١٨

( وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً ) (1) .

يتّضح ممّا قلنا أنّ جملة( لَجَعَلْناهُ رَجُلاً ) لا تعني : أنّنا سنجعله على هيئة انسان ، كما تصور بعض المفسّرين ، بل تعني : أنّنا نجعله على هيئة البشر في الصفات الظاهرية والباطنية ، ثمّ يستنتج من ذلك أنّهم ـ في هذه الحالة أيضا ـ كانوا سيعترضون الاعتراض نفسه ، وهو : لماذا أوكل الله مهمّة القيادة إلى بشر وأخفى عنّا وجه الحقيقة :( وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ ) .

«اللبس» بمعنى خلط الأمر وجعله مشتبها بغيره خافيا ، و «اللبس» بمعنى ارتداء اللباس ، ومن الواضح أنّ الآية تقصد المعنى الأوّل ، أي أنّنا لو أردنا أن نرسل ملكا لوجب أن يكون في صورة الإنسان وسلوكه ، وفي هذه الحالة سيعتقدون أنّنا خلطنا الأمر على الناس وأوقعناهم في الاشتباه ، ولكانوا يشكلون علينا الإشكالات السابقة ، بمثل ما يوقعون الجهلة من الناس في الخطأ والاشتباه ويلبسون وجه الحقيقة عنهم ، وعليه فإنّ نسبة «اللبس» والإخفاء إلى الله إنّما هي من وجهة نظرهم الخاصة.

وفي الختام يهون الأمر على رسوله ويقولون له :( وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) .

هذه الآية في الواقع تسلية لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطلب الله فيها منه أن لا تزعزعه الزعازع ، ويهدد في الوقت نفسه المخالفين والمعاندين ويطلب منهم أن يتفكروا في عاقبة أمرهم المؤلمة(2) .

* * *

__________________

(1) الضمير «جعلناه» يمكن أن يعود على الرّسول ، أو على من يرسل معه لإعانته على تثبيت النبوة وعلى الاحتمال الثّاني يكون اقتراحهم قد تحقق ، وعلى الأوّل قد تحقق أكثر ممّا طلبوه.

(2) «حاق» بمعنى أحاط به وحل به ، و «ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ » أي ما كانوا يستهزئون به من تهديد وإنذار يسمعونه من أنبياء الله مثل إنذار نوح وقومه بوقوع الطوفان ، فكان قومه من عبدة الأصنام يسخرون من ذلك. وعليه فلا ضرورة لتقدير كلمة «جزاء» كما يقول بعضهم ، إذ يكون المعنى : العقوبات التي كانوا يستهزئون بها حلت بهم.

٢١٩

الآية

( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) )

التّفسير

لكي يوقظ القرآن هؤلاء المعاندين المغرورين يسلك في هذه الآية سبيلا آخر فيأمر رسوله أن يوصيهم بالسياحة في أرجاء الأرض ليروا بأعينهم مصائر أولئك الذين كذبوا بالحقائق ، فلعل ذلك يوقظهم من غفلتهم( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) .

لا شك أنّ لرؤية آثار السابقين والأقوام التي هلكت بسبب إنكارها الحقائق تأثيرا أعمق من مجرّد قراءة كتب التّأريخ ، لأنّ هذه الآثار تجسد الحقيقة ناطقة ملموسة ، ولهذا استعمل جملة «أنظروا» ولم يقل «تفكروا».

ولعل استعمال «ثم» لعاطفة التي تفيد عادة التراخي الزمني يراد منه أن لا يتعجلوا في سيرهم وفي اطلاق أحكامهم ، عليهم أن يمعنوا النظر في تلك الآثار التي خلفتها الأقوام السالفة ويفكروا فيها ثمّ يأخذوا منها العبر ويروا عاقبة أعمال تلك الأمم.

٢٢٠