الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 611

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 611
المشاهدات: 127700
تحميل: 5335


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 611 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127700 / تحميل: 5335
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 4

مؤلف:
العربية

فيما يتعلق بالسير والسياحة في الأرض وتأثيره في إيقاظ الأفكار انظر تفسير الآية (137) من سورة آل عمران في هذا التّفسير.

* * *

٢٢١

الآيتان

( قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) )

التّفسير

يواصل القرآن مخاطبة المشركين ، ففي الآيات السابقة دار الكلام حول التوحيد وعبادة الله الأحد وهنا يدور الحديث عن المعاد ، وبالإشارة إلى مبدأ التوحيد يواصل القول عن المعاد بطريقة رائعة ، هي طريقة السؤال والجواب ، والسائل والمجيب كلاهما واحد ، وهو من الأساليب الأدبية الجميلة.

يتكون الاستدلال هنا على المعاد من مقدمتين :

أوّلا : يقول :( قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) . ثمّ يقول مباشرة : أجب أنت بلسان فطرتهم وروحهم :( قُلْ لِلَّهِ ) ، فبموجب هذه المقدمة يكون كل عالم الوجود ملكا لله وبيده وتدبيره.

٢٢٢

ثانيا : إنّ الله هو وحده مصدر كل رحمة ، وهو الذي أوجب على نفسه الرحمة ، ويفيض بنعمه على الجميع :( كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) .

أيمكن لربّ هذا شأنه أن يقطع سلسلة حياة البشر نهائيا بالموت فيوقف التكامل واستمرار الحياة؟ أيتفق هذا مع مبدأ كون الله «فياضا» و «ذا رحمة واسعة»؟ أيمكن أن يكون قاسيا على عباده بهذا الشكل ، وهو مالكهم ومدبر شؤونهم ، بحيث أنّهم بعد مدّة يفنون ويتبدلون إلى لا شيء؟

طبعا لا ، إذ أنّ رحمته الواسعة توجب عليه أن يسير بالكائنات ـ وخاصة البشر ـ في طريق التكامل ، بمثل ما يجعل برحمته من البذرة الصغيرة الزهيدة شجرة ضخمة قوية ، أو يحيلها إلى شجيرة ورد جميلة ، كما أنّه بفيض رحمته يبدل النطفة التافهة إلى انسان كامل ، هذه الرحمة نفسها توجب أن يرتدي الإنسان ـ الذي عند امكانية الخلود ـ لباس حياة جديدة بعد موته في عالم أوسع ، تدفعه يد الرحمة في سيره التكاملي الأبدي ، لذلك يقول بعد هاتين المقدمتين :( لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ ) .

إنّ الآية تبدأ بالاستفهام التقريري الذي يراد به انتزاع الإقرار من السامع ، ولمّا كان هذا الأمر مسلما به بالفطرة ، كما كان المشركون يعترفون بأنّ مالك عالم الوجود ليس الأصنام ، بل الله ، فإنّ الجواب يرد مباشرة ، وهذا أسلوب جميل في عرض مختلف المسائل.

في مواضع أخرى من القرآن يستدل على المعاد بطرق أخرى ، بطريق قانون العدالة ، وقانون التكامل ، والحكمة الإلهية ، ولكن الاستدلال بالرحمة استدلال جديد جاءت به هذه الآية.

في نهاية الآية إشارة إلى مصير المشركين المعاندين وعاقبتهم ، فهؤلاء الذين أضاعوا رأس مال وجودهم في سوق تجارة الحياة ، لا يؤمنون بهذه الحقائق :( الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) .

٢٢٣

ما أعجب هذا التعبير! فقد يخسر المرء أحيانا ثروته أو مركزه أو أي نوع آخر من أنواع رأس المال ، ففي هذه الحالات يكون قد خسر شيئا ، ولكن هذا الشيء الذي خسره لا يكون جزءا من وجوده ، أي أنّه خارج وجوده ، أمّا أعظم الخسائر التي هي في الواقع الخسارة الحقيقية ، فهي عند ما يخسر الإنسان أصل وجوده.

إنّ أعداء الحقيقة والمعاندين يخسرون تماما رأس مال العمر ورأس مال الفكر والعقل والفطرة وجميع المواهب الروحية والجسمية التي كان ينبغي لهم أن يستخدموها في طريق الحقّ للوصول إلى مرحلة التكامل ، وعندئذ لا يبقي رأس المال ولا صاحبه.

لقد ورد هذا التعبير في عدد من آيات القرآن الكريم ، وهي تعبيرات مرعبة عن المصير المؤلم الذي ينتظر منكري الحقيقة والمذنبين الملوثين.

سؤال :

قد يقال : إنّ الحياة الأبدية تكون مصداقا للرّحمة بالنسبة للمؤمنين فقط ، أمّا لغيرهم فهي لا تعدو أن تكون شقاء وتعاسة.

الجواب :

لا شك أنّ الله هو الذي يوفر فرص الرحمة ، فهو الذي خلق الإنسان ، ووهب له العقل ، وأرسل له الأنبياء لقيادته وهدايته ، ومنحه مختلف أنواع النعم ، وفتح أمامه طريقا للحياة الخالدة ، فهذه كلّها ألوان من الرحمة.

والإنسان في غضون مسيرته للوصول إلى ثمرات هذه الرحمة إذا انحرف عن طريق وحول هذه الرحمة إلى عذاب وشقاء ، فإنّ ذلك لا يخرجها عن كونها رحمة ، بل الإنسان هو الملوم على الانحراف عنها وتبديلها إلى عذاب وألم.

الآية الثّانية تكمل في الواقع الآية السابقة ، فالآية السابقة تشير إلى أنّ الله مالك كلّ شيء يستوعبه ظرف «المكان» :( قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) ...؟

٢٢٤

أمّا هذه الآية فتشير إلى ملكية الله لما يستوعيه ظرف «الزمان» الوسيع ، وتقول :( وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ) .

في الواقع ، عالم المادة هذا يتحدد بالزمان والمكان ، فكل الكائنات التي تقع ضمن ظرف المكان والزمان ـ أي عالم المادة كله ـ ملك لله.

وليس الليل والنهار مختصين ـ طبعا ـ بالمنظومة الشمسية ، فإنّ لجميع كائنات السماوات والأرض ليلا ونهارا ، بعضها له نهار دائم بلا ليل ، ولبعضها ليل بلا نهار ، ففي الشمس ـ مثلا ـ نهار دائم ، فهناك ضوء دائم بلا ظلام ، وفي بعض الكواكب الخامدة ، التي لا نور فيها ولا تجاوز النجوم ، ليل دائم سرمدي ، وهذه كلّها مشمولة بالآية المذكورة.

لا بدّ هنا أن نلاحظ أنّ «سكن» والسكونة تعني التوقف والاستقرار في مكان ما ، سواء أكان ذلك الموجود الساكن في حالة حركة أو سكون ، نقول مثلا : فلان «ساكن» في المدينة الفلانية ، أي أنّه مستقر هناك ، مع أنّه يمكن أن يكون متحركا في شوارعها.

كما يحتمل أن تقابل «السكون» في هذه الآية «الحركة» ، ولمّا كان السكون والحركة من الحالات النسبية ، فإنّ ذكر أحدهما يغنينا عن ذكر الآخر ، وعليه يصبح معنى الآية هكذا : كل ما هو كائن في الليل والنهار وظرف الزمان ساكنا كان أم متحركا ، ملك لله.

وبهذا يمكن أن تكون الآية إشارة إلى أحد أدلة التوحيد ، لأنّ «الحركة» و «السكون» حالتان عارضتان وحادثتان طبعا ، فلا يمكن أن تكونا قديمتين أزليتين ، لأنّ الحركة تعني وجود الشيء في مكانين مختلفين خلال زمانين ، والسكون يعني وجود الشيء في مكان واحد خلال زمانين ، وعليه فإنّ الالتفات إلى الحالة السابقة كامن في ذات الحركة والسكون. ونحن نعلم أنّ الشيء إذا كانت له حالة سابقة لا يمكن أن يكون أزليا.

٢٢٥

نستنتج من هذا الكلام أنّ الأجسام لا تخلو من الحركة والسكون ، وأنّ ما لا يخلو من الحركة والسكون لا يمكن أن يكون أزليا ، وعليه فكل جسم حادث ، وكل حادث لا بدّ من محدث (خالق).

ولكن الله ليس جسما ، فلا حركة له ولا سكون ، ولا زمان ولا مكان ، ولذلك فهو أبدي أزلي.

وفي نهاية الآية ، وبعد ذكر التوحيد ، تشير الآية إلى صفتين بارزتين في الله فتقول :( وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) ، أي أنّ اتساع عالم الوجود ، والكائنات في آفاق الزمان والمكان لا تحول أبدا دون أن يكون الله عليما بأسرارها ، بل إنّه يسمع نجواها ، ويعلم حركة النملة الضعيفة على الصخرة الصمّاء في الليلة الظّلماء في أعماق واد سحيق صامت ، وإنّه ليدرك حاجاتها وحاجات غيرها ، ويعلم ما تفعل.

* * *

٢٢٦

الآيات

( قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) )

التّفسير

لا ملجأ غير الله!

من المفسّرين من يذكر أنّ سبب نزول الآية هو أنّه جاء جمع من أهل مكّة إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : يا محمّد ، إنّك تركت دين قومك ، ولم يكن ذلك إلّا بسبب فقرك ، فاقبل منّا نصف أموالنا تكن غنيا على أن نترك آلهتنا وشأنها وتعود إلى ديننا ، فنزلت هذه الآية ترد عليهم(1) .

سبق أن قلنا : إنّ آيات هذه السورة نزلت مرّة واحدة في مكّة ، كما جاء في

__________________

(1) تفسير أبي الفتوح الرازي وتفسير «مجمع البيان» في ذيل تفسير الآية.

٢٢٧

الأخبار المروية ، لذلك لا يمكن أن يكون لكل منها سبب نزول خاص ، غير أنّ أحاديث كانت قد جرت قبل نزول هذه السورة بين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمشركين وبعض هذه الآيات تشير إلى تلك الأحاديث ، لذلك ليس ثمّة ما يمنع أن تكون أحاديث من هذا القبيل أيضا قد جرت بين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمشركين ، فيشير القرآن في هذه الآيات إلى أحاديثهم ويرد عليهم.

* * *

على كلّ حال ، الهدف من نزول هذه الآيات هو إثبات التوحيد ومحاربة الشرك وعبادة الأصنام فالمشركون ، وإن اعتقدوا أنّ الله هو خالق العالم ، كانوا يتخذون من الأصنام ملجأ لأنفسهم ، ولربّما اتخذوا صنما لكل حاجة معينة ، فلهم إله للمطر ، وإله للظلام ، وإله للحرب والسلم ، وإله للرزق ، وهذا هو تعدد الأرباب الذي ساد اليونان القديم.

ولكي يزيل القرآن هذا التفكير الخاطئ ، يأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن( قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ ) .

فإذا كان هو خالق عالم الوجود كله دون الاستناد إلى قدرة أخرى ، وهو الذي يرزق مخلوقاته ، فما الذي يدعو الإنسان إلى أن يتخذ من دونه وليا وربّا؟وإنّ كل الأشياء غيره مخلوقات وهي بحاجة إليه في كل لحظات وجودها ، فكيف يمكن لها أن تقضي حاجة الآخرين؟

هذه الآية تستعمل كلمة «فاطر» في حديثها عن خالق السموات والأرض ، وأصل «الفطر» و «الفطور» هو الشق ، يروى عن ابن عباس أنّه قال : ما عرفت معنى فاطر السموات والأرض إلّا عند ما رأيت اعرابيين يتنازعان على بئر قال أحدهما : «أنا فطرتها» أي أنا أحدثتها وأوجدتها.

٢٢٨

ولكننا اليوم أقدر من ابن عباس على معرفة معنى «فاطر» بالاستعانة بالعلوم الحديثة ، أنّه تعبير ينسجم مع أدق النظريات العلمية الحديثة عن تكون العالم ، لقد أظهرت دراسات العلماء أنّ العالم الكبير (الكون) والعالم الصغير (المنظومة الشمسية) كانت كلها كتلة واحدة تشققت على أثر الإنفجارات المتتالية ، وتكونت المجرات والمنظومات والكرات ، وفي الآية (30) من سورة الأنبياء بيان أوضح لهذا الأمر :( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ) .

والنقطة الأخرى التي ينبغي ألا نغفل عنها في هذه الآية هو أنّها تقتصر على توكيد اتصاف الله باطعام مخلوقاته ورزقهم ، ولعل ذلك إشارة إلى أنّ أقوى حاجات الإنسان في حياته المادية هي حاجته إلى «لقمة العيش» كما يقال ، وهذه اللقمة هي التي تحمل الناس على الخضوع لأصحاب المال والقوّة ، وقد يصل خضوعهم لأولئك حدّ العبودية ، ففي هذا يقرر القرآن رزق الناس بيد الله لا بيد هؤلاء ولا بيد الأصنام ، فأصحاب المال والقوّة هم أنفسهم محتاجون إلى الطعام ، وأنّ الله هو وحده الذي يطعم الناس ولا يحتاج إلى طعام.

وفي آيات أخرى نرى القرآن يؤكّد مالكية الله ورزاقيته بإنزال الأمطار وإنبات النباتات ، وذلك لكي يزيل من أذهان البشر كليا فكرة اعتمادهم على مخلوقات مثلهم.

ثمّ للردّ على أولئك المشركين الذين كانوا يدعون رسول الله إلى الانضمام إليهم ، يؤكّد القرآن على ضرورة رفض دعوة هؤلاء انطلاقا من مبدأ نهي الوحي الإلهي عن ذلك ، إضافة إلى نهي العقل :( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (1) .

__________________

(1) جملة( إِنِّي أُمِرْتُ ) من قبيل الخطاب غير المباشر ، وجملة «ولا تكونن» خطاب مباشر ، ولعل هذا الانتقال يقصد به القول بأنّ الابتعاد عن الشرك واستنكاره أهم بكثير من أن يكون المرء أول المسلمين ، ولذا جاء موضوع تجنب الشرك في خطاب مباشر ومؤكد بنون التوكيد الثقيلة.

٢٢٩

لا شك أنّ أنبياء الله والصالحين من أقوامهم سبقوا النّبي الخاتم في استسلامهم لأمر الله وعليه فإن قوله تعالى :( إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ) يعني أوّل مسلم من أمّة الرسالة الخاتمة.

كما أنّ هذا إشارة إلى أمر تربوي مهم أيضا ، وهو أنّ كل قائد ينبغي أن يكون في تطليق تعاليم دينه قدوة وطليعة ، عليه أن يكون أوّل المؤمنين برسالته ، وأوّل العاملين بها ، وأكثر الناس اجتهادا فيها ، وأسرعهم إلى التضحية في سبيلها.

الآية التّالية فيها توكيد أشدّ لهذا النهي الإلهي عن إتّباع المشركين :( قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) (1) أي يأمر الله رسوله أن يقول بأنّه ليس مستثنى من القوانين الإلهية ، وأنّه يخاف ـ إن ركن إلى المشركين ـ عذاب يوم القيامة.

ومن هذه الآية نفهم أيضا أنّ شعور الأنبياء بالمسؤولية يفوق شعور الآخرين بها.

ولكي يتّضح أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يستطيع شيئا بغير الاستناد إلى لطف الله ورحمته ، فكل شيء بيد الله وبأمره ، وحتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه يترقب بعين الرجاء رحمة الله الواسعة ، ومنه يطلب النجاة والفوز :( مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ) .

هذه الآيات تبيّن منتهي درجات التوحيد ، وترد على الذين كانوا يرون للأنبياء سلطانا مستقلا عن ارادة الله ، كما فعل المسيحيون عند ما جعلوا من المسيحعليه‌السلام المخلّص والمنقذ ، فتقول لهم : إنّ الأنبياء أنفسهم يحتاجون إلى رحمة الله مثلكم.

* * *

__________________

(1) يلاحظ أنّ تركيب عبارة الآية يقتضي أن تأتي جملة «أخاف» بعد جملة «إن عصيت ربى» لأنّها جواب الشرط ، غير أنّ تقديمها يفيد التأكيد على عظم إحساس رسول الله بالمسؤولية أمام أوامر الله تعالى.

٢٣٠

الآيتان

( وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) )

التّفسير

قدرة الله القاهرة :

قلنا إنّ هدف هذه السّورة هو استئصال جذور الشرك وعبادة الأصنام ، وهاتان الآيتان تواصلان تحقيق ذلك.

فالقرآن يتساءل أوّلا : لماذا تتوجهون إلى غير الله ، وتلجأون إلى معبودات تصطنعونها لحل مشاكلكم ودفع الضر عن أنفسكم واستجلاب الخير لها؟ بينما لو أصابك أدنى ضرر فلا يرفعه عنك غير الله ، وإذا أصابك الخير والبركة والفوز والسعادة فما ذلك إلّا بقدرة الله ، لأنّه هو القادر القوي :( وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (1) .

__________________

(1) «الضر» هو كل نقيصة يتعرض لها الإنسان إمّا في الجسم مثل نقص عضو والمرض ، وإمّا في النفس مثل الجهل والسفاهة والجنون ، وإمّا في أمور أخرى مثل ذهاب المال أو المقام أو الأبناء.

٢٣١

في الواقع إنّ سبب الاتجاه إلى غير الله إمّا لتصورهم أنّ ما يتجهون إليه مصدر الخيرات ، وإمّا لاعتقادهم بقدرته وأنّه يدرأ عنهم المصائب ويحل لهم مشاكلهم ، والخضوع إلى حد العبادة لذوي السلطان والمال والقوة ينشأ من أحد هذين الدافعين ، هذه الآية تبيّن أنّ إرادة الله حاكمة على كل شيء ، فإذا منع عن أحد نعمة ، أو منح أحدا نعمة ، فما من قدرة في العالم تستطيع أن تغير ذلك ، فلما ذا إذن يطأطئون رؤوسهم خضوعا لغيره؟

إنّ استعمال «يمسسك» في الخير والشر ، وهي من «مسّ» ، تشير إلى أنّ الخير والشر ـ مهما قلّ ـ لا يكون إلّا بإرادته وقدرته.

ثمّ إنّ الآية المذكورة تدحض فكرة «الثنويين» القائلين بمبدأي «الخير» و «الشر» وعبادتهما ، وتقول إنّ الإثنين كليهما من جانب الله ، ولكننا سبق أن قلنا أن ليس ثمّة شيء اسمه «الشر المطلق».

وعليه فعند ما ينسب الشر إلى الله فإنّما يقصد به على الظاهر «سلب النعمة» وهو بحدّ ذاته «خير» ، فهو إمّا أن يكون للإيقاظ والتربية والتعليم وكبح حالات الغرور والطغيان والذاتية ، أو لمصالح أخرى.

وفي الآية التي تليها إكمال للبحث ، فيقول :( وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ ) .

«القاهر» و «الغالب» وإن كانا بمعنى واحد ، إلّا أنّهما من جذرين مختلفين ، «القهر» يطلق على ذلك النصر الذي يتحقق دون أن يتمكن الطرف المقهور من إبداء أية مقاومة ، وفي كلمة «الغلبة» لا يوجد هذا المعنى ، وقد تحصل بعد المقاومة ، وبعبارة أخرى : القاهر يقال لمن يكون تسلطه على الطرف الآخر من الشمول بحيث إنّه لا يستطيع المقاومة مطلقا كصبّ سطل من الماء على جذوة صغيرة من النّار فيطفؤها فورا.

يرى بعض المفسّرين أنّ «القهر» تستعمل حيث يكون المقهور كائنا عاقلا ،

٢٣٢

ولكن «الغلبة» أوسع منها وتشمل النصر على الكائنات غير العاقلة أيضا(1) .

وعليه إذا كانت الآية السابقة تشير إلى شمول قدرة الله إزاء المعبودات الزائفة الأخرى وأصحاب القوّة ، فذلك لا يعني أنّه مضطر إلى الدخول مدّة في صراع مع تلك القوى كي يتغلب عليها ، بل يعني أنّ قدرته قاهرة ، وقد جاء تعبير( فَوْقَ عِبادِهِ ) لتأكيد هذا المعنى.

وعلى هذا ، كيف يمكن لإنسان واع أن يعرض عن ربّ العالمين ويتجه إلى كائنات وأشخاص لا يملكون بذواتهم أية قدرة ، وما يملكونه من قوّة زهيدة إنّما مصدرها الله أيضا.

ولإزالة كل وهم قد يخطر لأحدهم بأنّ الله قد يسيء استعمال قدرته غير المتناهية كما هو الحال في ذوي القدرة من البشر ، يقول القرآن :( وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ) أي أنّه صاحب حكمة وكل أعماله محسوبة ، لأنه خبير وعالم ولا يخطئ في استعمال قدرته أبدا.

ونقرأ في حالات «فرعون» أنّه عند ما هدد بقتل بني إسرائيل ، قال :( وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ ) (2) أي أنّه اتّخذ من قدرته القاهرة ـ وإن تكن ضعيفة ـ وسيلة للظلم وغمط حقوق الآخرين ، إلّا أنّ الله الحكيم الخبير بتلك القدرة القاهرة منزّه عن أن يظلم حتى أصغر مخلوقاته.

ومن نافلة القول أنّ تعبير( فَوْقَ عِبادِهِ ) هو التفوق في المقام لا في المكان ، إذ ليس لله مكان محدد.

ومن العجيب جدا أنّ بعض ذوي العقول المتحجرة اتّخذ من هذه الآية دليلا على تجسيم الله سبحانه ، على الرغم من عدم وجود أي شك في أنّ هذا التعبير معنوي يدل على تفوق الله من حيث القدرة على عبيده وحتى فرعون ـ مع كونه

__________________

(1) تفسير «الميزان» ج 7 ، ص 34.

(2) الأعراف ، 127.

٢٣٣

بشرا ذا جسم ـ يستعمل الكلمة نفسها لإظهار تفوقه السلطوي ، لا تفوقه المكاني (تأمل بدقّة).

* * *

٢٣٤

الآيتان

( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) )

التّفسير

أعظم الشّاهدين :

يذكر جمع من المفسّرين أنّ عددا من مشركي مكّة جاؤوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : كيف تكون نبيّا ولا نرى أحدا يؤيدك؟ وحتى اليهود والنصارى الذين سألناهم ، لم يشهدوا بصحة أقوالك بحسب ما عندهم في التّوراة والإنجيل ، فهات من يشهد لك على رسالتك ، والآيتان المذكورتان تشيران إلى هذه الواقعة.

في مواجهة هؤلاء المخالفين المعاندين الذين يغمضون أعينهم عن رؤية كل تلك الدلائل على صدق الرسالة ، ويطلبون مزيدا من الشواهد ، يؤمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن :( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً ) .

٢٣٥

أهناك شهادة أعظم من شهادة ربّ العالمين؟( قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ) وهل هناك دليل أكبر من هذا القرآن؟ :( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ ) ، هذا القرآن الذي لا يمكن أن يكون وليد فكر بشري ، خاصّة في تلك الظروف الزّمانية والمكانية ، هذا القرآن الذي يضمّ مختلف الشواهد على إعجازه ، فألفاظه معجزة ، ومعانيه معجزة ، أليس هذا الشاهد الكبير وحده كاف لأن يكون تصديقا إلهيا للدعوة!!.

يستفاد من هذه العبارة أيضا أنّ القرآن أعظم معجزة وأكبر شاهد على صدق دعوة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثمّ يشير إلى هدف نزول القرآن ويقول :( لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) أي أنّ القرآن قد نزل عليّ لكي أنذركم ، وأنذر جميع الذين يصل إليهم ـ عبر تاريخ البشر ، وعلى امتداد الزمان وفي أرجاء العالم كافة ـ كلامي ، وأحذرهم من عواقب عصيانهم.

يلاحظ هنا أنّ الكلام مقتصر على الإنذار مع أنّ خطابات القرآن تجمع غالبا بين الإنذار والبشرى ، والسبب في ذلك يعود إلى أنّ الكلام موجه هنا إلى أفراد معاندين مصرين على المكابرة ، ولا يمكن أن نتصور في الواقع عبارة أوجز وأشمل لبيان المقصود من هذه العبارة ، وما فيها من دقّة وسعة يزيل كل إيهام في عدم اختصاص دعوة القرآن بالعرب أو بزمان أو مكان معينين.

بعض العلماء استدلوا بهذا التعبير وأمثاله على ختم النّبوة برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهذه الجملة تعني أنّ الرّسول قد بعث إلى جميع الذين تصلهم دعوته ، وهذا يشمل جميع الذين يردون الحياة حتى نهاية العالم.

وتفيد الأحاديث الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام أنّ مفهوم إبلاغ القرآن لا يعني مجرّد وصول نصوصه إلى الأقوام الأخرى فحسب ، بل أنّ المفهوم يشمل وصول ترجماته بمختلف اللغات إلى تلك الأقوام.

جاء عن الإمام الصّادقعليه‌السلام أنّه عند ما سئل عن هذه الآية قال : «بكل

٢٣٦

لسان»(1) .

كما أنّ من أصول الفقه المسلم بها هو مبدأ «قبح العقاب بلا بيان» وهذا ما تفيده الآية المذكورة.

فقد ثبت في أصول الفقه أنّه ما دام الحكم لم يبلغ شخصا ، فإنّه لا يتحمل مسئولية تنفيذه (إلّا إذا كان مقصرا في استيعاب الحكم) ، فهذه الآية تقول بأنّ الذين تصلهم الدعوة يتحملون مسئوليتها ، أمّا الذين لم تصلهم الدعوة ، بدون تقصير ، فلا مسئولية عليهم.

في تفسير (المنار) رواية عن أبيّ بن كعب قال : أتي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأسارى فقال لهم : هل دعيتم إلى الإسلام؟ قالوا : لا ، فخلى سبيلهم ، ثمّ قرأ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) ، ثمّ قال : خلوا سبيلهم حتى يأتوا مأمنهم من أجل أنّهم لم يدعوا(2) .

ومن هذه الآية نفهم ـ أيضا أنّ إطلاق كلمة «شيء» على الله جائز ، إلّا أنّه شيء لا كالأشياء المخلوقة المحدودة ، بل هو خالق ولا تحده حدود.

ثمّ أمر الله رسوله أن يسألهم :( أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى ) . ويأمره أن :( قُلْ لا أَشْهَدُ ، قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ) .

ذكر العبارات الأخيرة في الآية له هدف نفسي هام ، وهو أنّ المشركين قد يتصورون حدوث تزلزل في نفس النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أثر كلامهم ، فيتركون المجلس آملين ، ويبشرون أصحابهم بإمكان أن يعيد محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النظر في دعوته.

فهذه الجمل الصريحة الحاسمة تقضي على أمل المشركين وتحيله إلى يأس ، وتبيّن لهم أنّ الأمر أعظم ممّا يظنون ، وأنّه لم يداخله أدنى شك في دعوته ، ولقد دلت التجارب على أنّ ذكر أمثال هذه العبارات الجازمة والحاسمة في ختام كل

__________________

(1) تفسير «البرهان» ، وتفسير «نور الثقلين» ، ج 1 ، ص 707 ذيل الآية.

(2) تفسير «المنار» ، ج 7 ، ص 341.

٢٣٧

بحث له أثر عميق في تحقيق الهدف النهائي.

أمّا الذين قالوا : إنّ أهل الكتاب لم يشهدوا لنبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّ الآية التي بعدها ترد عليهم وتقول :( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ ) أي أن معرفتهم به لا تقتصر على مبدأ ظهوره ودعوته فحسب ، بل إنّهم يعرفون حتى التفاصيل والخصائص وعلاماته الدقيقة أيضا ، وعليه ، إذ قال جمع من أهل مكّة : إنّهم رجعوا إلى أهل الكتاب فلم يجدوا عندهم علما بالنّبي ، فإنّهم إمّا أن يكونوا قد كذبوا ولم يتحققوا من الأمر ، أو أنّ أهل الكتاب قد أخفوا عنهم الحقائق ولم يطلعوهم عليها ، وهذا الكتمان تشير إليه آيات أخرى من القرآن (لمزيد من التوضيح انظر المجلد الأوّل من هذا التّفسير في ذيل الآية (146) من سورة البقرة).

والآية تعلن في آخر مقاطعها النتيجة النهائية :( الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) أي أنّ الذين لا يؤمنون بالنّبي ـ مع كل ما تحيطه من دلائل وعلامات واضحة ـ هم فقط أولئك الذين خسروا كل شيء في تجارة الحياة.

* * *

٢٣٨

الآيات

( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) )

التّفسير

أشدّ الظّلم :

تواصل هذه الآيات المنهج القرآني في مقارعة الشرك وعبادة الأصنام بشكل شامل ، تقول الآية الاولى بصراحة وبصورة استفهام استنكاري :( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ ) ؟

الجملة الأولى ـ في الواقع ـ إشارة إلى إنكار التوحيد ، والثّانية إشارة إلى إنكار النّبوة حقّا لا ظلم أكبر من أن يتخذ المرء قطعة جماد لا قيمة لها ، أو إنسانا ضعيفا مثله شريكا لربّ لا تحدّه ، حدود ، وله الحكم على كل عالم الوجود ، فهذا ظلم من جهات ثلاث : ظلم لذات الله بالقول بوجود شريك له ، وظلم للشخص

٢٣٩

نفسه بالحط من قدره إلى حد السجود والخضوع لقطعة حجر أو خشب ، وظلم بحق المجتمع الذي يسبب له الشرك والتشتت والتفرق والابتعاد عن روح الوحدة والتوحد.

فلا شك إذن في أنّ أي ظالم ـ وعلى الأخص أولئك الذين لظلمهم جوانب متعددة ـ لا يمكن أن يرى السعادة والفلاح :( إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) .

إنّ لفظة «الشّرك» لم ترد صراحة في الآية ، ولكن بأخذ الآيات السابقة واللّاحقة لها بنظر الاعتبار التي تدور حول الشرك ، يتّضح أنّ القصد من كلمة «افتراء» هو القول بوجود شريك لله سبحانه.

وممّا يلفت النظر أنّ القرآن يصف في خمسة عشر موضعا بعض الناس بأنّهم من أظلم الناس في سياق الاستفهام : «ومن أظلم ...» أو «فمن أظلم ...» وعلى الرغم من أنّ معظم تلك الآيات تتناول الشرك وعبادة الأصنام وإنكار آيات الله ، أي أنّها تدور حول التوحيد ، فإنّ بعضا آخر منها يدول حول أمور أخرى ، مثل( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ) (1) .

وقول سبحانه( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ ) (2) .

هنا يثار هذا السّؤال : كيف يمكن أن تكون كل طائفة من هؤلاء أظلم الناس ، في حين أنّ صفة (الأظلم) لا يمكن أن تنطبق إلّا على طائفة واحدة منها؟

نقول في الجواب : كل هذه الحالات تستقي ـ في الحقيقة ـ من منبع واحد ، وهو الشرك والكفر والعناد. فمنع الناس من ذكر الله في المساجد والسعي في خرابها دليل على الكفر والشرك ، وكتمان الشهادة أي كتمان الحقائق المؤدي إلى حيرة الناس وضلالهم ، هو معلم من معالم الشرك وإنكار وحدانية الله.

الآية التّالية تشير إلى مصير المشركين يوم القيامة مبيّنة أنّهم باعتمادهم على

__________________

(1) البقرة ، 114.

(2) البقرة ، 140.

٢٤٠