الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 611

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 611 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135038 / تحميل: 6382
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ ) (١) .

وأمّا الإنجيل فقد أطلقت عليه الآية الأخيرة اسم النّور.

والقرآن ـ أيضا ـ حيث نقرأ قوله تعالى :( قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ ) (٢) .

فكما أنّ النّور يعتبر ـ في الحقيقة ـ ضرورة حتمية لجميع الموجودات من أجل أن تواصل حياتها ، كذلك تكون الأديان الإلهية والشرائع والكتب السماوية ضرورة حتمية لنضوج وتكامل بني الإنسان.

وقد ثبت من حيث المبدأ أنّ مصدر كل الطاقات والقوى والحركات وكل أنواع الجمال هو النّور ، فكذلك الحال في تعليمات الأنبياء وارشاداتهم ، فلولاها لساد الظلام كل القيم الإنسانية سواء الفردية منها أو الاجتماعية ، وهذا ما نلاحظه في المجتمعات المادية بكل وضوح.

لقد كرر القرآن الكريم في مجالات متعددة أنّ التّوراة والإنجيل هما كتابان سماويان ، ومع أن هذين الكتابين ـ دون شك ـ منزلان في الأصل من قبل الله سبحانه وتعالى ، لكنّهما ـ بالتأكيد ـ قد تعرضا بعد حياة الأنبياء إلى التحريف ، فحذفت منهما حقائق وأضيفت إليهما خرافات ، وأدى ذلك إلى أن يفقدا قيمتهما الحقيقية ، أو أنّ الكتب الأصلية تعرضت للنسيان والتجاهل وحلت محلها كتب أخرى حوت على بعض الحقائق من الكتب الأصلية(٣) .

وعلى هذا الأساس فإنّ كلمة النّور التي أطلقت في القرآن الكريم على هذين الكتابين ، إنما عنت التّوراة والإنجيل الأصليين الحقيقيين.

بعد ذلك تكرر الآية التأكيد على أن عيسىعليه‌السلام لم يكن وحده الذي أيد

__________________

(١) المائدة ، ٤٤.

(٢) المائدة ، ١٥.

(٣) راجع كتابي «الهدى إلى دين المصطفى» و «أنيس الأعلام» لمعرفة تفاصيل التحريف الوارد في الإنجيل والدلائل التأريخية على ذلك.

٢١

وصدق التّوراة ، بل أن الإنجيل ـ الكتاب السماوي الذي نزل عليه ـ هو الآخر شهد بصدق التّوراة حيث تقول الآية :( مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ ) .

وفي الختام تؤكّد الآية أنّ هذا الكتاب السماوي قد حوى سبل الرشاد والهداية والمواعظ للناس المتقين ، حيث تقول :( وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ) .

وتشبه هذه العبارة ، عبارة أخرى وردت في بداية سورة البقرة ، حين كان الحديث يدور عن القرآن الكريم ، حيث جاء قوله تعالى :( هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) .

إن هذه الصفة لا تنحصر بالقرآن وحده ، بل أن كل الكتب السماوية تحتوي على سبل الهداية للناس المؤمنين المتقين ، والمراد بالمتقين هم أولئك الذين يبحثون عن الحق والحقيقة والمستعدون لقبول الحق ، وبديهي أن الذين يغلقون أبواب قلوبهم إصرارا وعنادا بوجه الحق ، لن ينتفعوا بأي حقيقة أبدا.

والملفت للنظر في هذه الآية أيضا ، أنّها ذكرت أوّلا أنّ الإنجيل (فيه هدى) ثمّ كررت الآية كلمة (هدى) بصورة مطلقة ، وقد يكون المراد من هذا الاختلاف في التعبير هو بيان أنّ الإنجيل والكتب السماوية الأخرى تشتمل على دلائل الهداية للناس ـ جميعا ـ بصورة عامّة ، ولكنّها بصورة خاصّة ـ تكون باعثا لهداية وتربية وتكامل الأتقياء من النّاس الذي يتفكرون فيها بعمق وتدبر.

* * *

٢٢

الآية

( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧) )

التّفسير

الامتناع عن الحكم بالقانون الإلهي :

بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى نزول الإنجيل ، أكّدت الآية الأخيرة أنّ حكم الله يقضي أن يطبق أهل الإنجيل ما أنزله الله في هذا الكتاب من أحكام ، فتقول الآية :( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ ) .

وبديهي أنّ القرآن لا يأمر بهذه الآية المسيحيين أن يواصلوا العمل بأحكام الإنجيل في عصر الإسلام ، ولو كان كذلك لناقض هذا الكلام الآيات القرآنية الأخرى ، بل لناقض أصل وجود القرآن الذي أعلن الدين الجديد ونسخ الدين القديم ، لذلك فالمراد هو أنّ المسيحيين تلقوا الأوامر من الله بعد نزول الإنجيل بأن يعملوا بأحكام هذا الكتاب وأن يحكموها في جميع قضاياهم(١) .

وتؤكّد هذه الآية ـ في النهاية ـ فسق الذين يمتنعون عن الحكم بما أنزل الله

__________________

(١) إنّ الحقيقة التي أكّدها الكثير من المفسّرين هي أنّ جملة «قلنا» تكون مقدرة هنا في هذه الآية حيث يصبح مفهوم الآية كما يلي : «قلنا ليحكم أهل الإنجيل ...».

٢٣

من أحكام وقوانين فتقول :( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) .

ويلفت النظر اطلاق كلمة «الكافر» مرّة و «الظّالم» أخرى و «الفاسق» ثالثة ، في الآيات الأخيرة على الذين يمتنعون عن تطبيق أحكام الله ، ولعل هذا التنوع في اطلاق صفات مختلفة إنّما هو لبيان أنّ لكل حكم جوانب ثلاثة :

أحدها : ينتهي بالمشرع الذي هو الله.

والثّاني : يمس المنفذين للحكم (الحاكم أو القاضي).

الثّالث : يرتبط بالفرد أو الأفراد الذين يطبق عليهم الحكم.

أي أنّ كل صفة من الصفات الثلاث المذكورة قد تكون إشارة إلى واحد من الجوانب الثلاثة ، لأنّ الذي لا يحكم بما أنزل الله يكون قد تجاوز القانون الإلهي وتجاهله ، فيكون قد كفر بغفلته هذه ، ومن جانب آخر ارتكب الظلم والجور بابتعاده عن حكم الله ـ على انسان برىء مظلوم ، وثالثا : يكون قد خرج عن حدود واجباته ومسئوليته ، فيصبح بذلك من الفاسقين (لأنّ «الفسق» كما أوضحنا ، يعني الخروج عن حدود العبودية والواجب).

* * *

٢٤

الآية

( وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨) )

التّفسير

تشير هذه الآية إلى موقع القرآن بعد أن ذكرت الآيات السابقة الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء السابقين.

وكلمة «مهيمن» تطلق في الأصل على كل شيء يحفظ ويراقب أو يؤتمن على شيء آخر ويصونه ، ولمّا كان القرآن الكريم يشرف في الحفاظ على الكتب السماوية السابقة وصيانتها من التحريف اشرافا كاملا ، ويكمل تلك الكتب ، لذلك أطلق عليه لفظ «المهيمن» حيث تقول الآية :( وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً

٢٥

لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ) .

فالقرآن بالإضافة إلى تصديقه الكتب السماوية السابقة ، اشتمل ـ أيضا ـ على دلائل تتطابق ، مع ما ورد في تلك الكتب ، فكان بذلك حافظا وصائنا لها.

إنّ الكتب السماوية جاءت كلها متناسقة في المبادئ والهدف الواحد الذي تبنى تربية الإنسان والسمو به إلى مراتب الكمال المعنوي والمادي ، على الرغم من الفوارق الموجودة بين هذه الكتب والتي تنبع من مقتضى التكامل التدريجي للإنسان ، حيث أن كل شرعة جديدة ترتقي بالإنسان إلى مرحلة أسمى من مراحل الرقي والكمال الإنساني ، وتشتمل على خطط وبرامج أكثر شمولا وتطورا ، والإتيان بعبارة :( مُهَيْمِناً عَلَيْهِ ) بعد جملة( مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ ) يدل على هذه الحقيقة ، أي أنّ القرآن في الوقت الذي يصدّق الكتب السابقة ، يأتي في نفس الوقت ببرامج وخطط أكثر شمولا للحياة.

ثمّ تؤكّد على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انطلاقا من الحقيقة المذكورة ـ ضرورة الحكم بتعاليم وقوانين القرآن بين الناس ، حيث تقول( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ) .

وقد اقترنت هذه الجملة بالفاء التفريعية ، فتدلّ على شمولية أحكام الإسلام بالنسبة لأحكام الشرائع السماوية الأخرى ، ولا تعارض هنا بين هذا الأمر وبين ما سبق من أمر في أية سابقة والتي خيرت النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين الحكم بين اليهود أو تركهم لحالهم ، لأنّ هذه الآية ترشد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إن هو أراد أن يحكم بين أهل الكتاب ـ إلى أنّ عليه أن يحكم بتعاليم وقوانين القرآن بينهم.

ثمّ تؤكّد عليه أن يبتعد عن أهواء وميول أهل الكتاب ، الذين يريدون أن يطوعوا الأحكام الإلهية لميولهم ورغباتهم ، وأن ينفذ ما نزل عليه بالحق ، حيث تقول الآية :( وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ) .

ولأجل إكمال البحث تشير الآية إلى أن كل ملّة قد أفردت لها شرعة ونظام

٢٦

للحياة يهديها إلى السبيل الواضح ، حيث تقول :( لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً ) .

وكلمة «شرع» أو «الشريعة» تعني الطريق الذي يؤدي إلى الماء وينتهي به ، واطلاق كلمة «الشريعة» على الدين لأن الدين ينتهي بحقائق وتعاليم هدفها تطهير النفس الإنسانية وضمان الحياة السليمة للبشرية ، أمّا كلمة «النهج» أو «المنهاج» فتطلقان على الطريق الواضح.

نقل (الراغب) في كتابه (المفردات) عن ابن عباس قوله بأنّ الفرق بين كلمتي «الشرعة» و «المنهاج» هو أنّ الاولى تطلق على كل ما ورد في القرآن ، وأن المنهاج يطلق على ما ورد في سنّة النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وهذا الفرق مع كونه جميلا ، إلّا أنّنا لا نملك دليلا جازما لتأييده)(١) .

ثمّ تبيّن الآية أنّ الله لو أراد أن يجعل من جميع أبناء البشر أمّة واحدة ، تتبع دينا وشرعة واحدة لقدر على ذلك ، لكن هذا الأمر يتنافى مع قانون التكامل التدريجي ، وحركة مراحل التربية المختلفة ، فتقول :( وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ ) .

وجملة( لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ ) إشارة إلى ما قلناه سابقا من أنّ الله قد أودع لدى أفراد البشر استعدادات وكفاءات تنمو في ظل الاختبارات وفي ضوء تعاليم الأنبياء ، فعند ما يطوي بنو الإنسان مرحلة معينة ، يجعلهم الله في مرحلة أسمى وحين تنتهي مرحلة تربوية يأتي الله بمرحلة تربوية أخرى على يد نبي آخر ، كما يحصل بالضبط للمراحل التعليمية التي يمرّ بها الشاب في مدرسته.

__________________

(١) يعتقد البعض من كبار المفسّرين بوجود فرق بين «الدّين» و «الشريعة» ويقولون بأنّ الدين هو مبدأ التوحيد والمبادئ الأخرى المشتركة بين جميع الديانات ، لذلك يكون الدين واحدا في كل الأحوال والأزمنة ، والشريعة هي القوانين والأحكام والتعاليم التي تختلف أحيانا بين ديانة وأخرى لكنّنا لا نمتلك ـ أيضا ـ دليلا واضحا يؤيد هذا القول ، لأن هاتين الكلمتين استخدمتا في الكثير من الموارد للدلالة على معنى واحد.

٢٧

بعد ذلك تخاطب الآية ـ في الختام ـ جميع الأقوام والملل ، وتدعوهم إلى التسابق في فعل الخيرات بدل تبذير الطاقات في الاختلاف والتناحر ، حيث تقول :( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) مؤكدة أنّ الجميع يكون مرجعهم وعودتهم إلى الله الذي يخبرهم في يوم القيامة بما كانوا فيه يختلفون :( إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) .

* * *

٢٨

الآيتان

( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠) )

سبب النّزول

نقل بعض المفسّرين في سبب نزول هذه الآية عن ابن عباس قوله : أنّ رهطا من وجهاء اليهود تآمروا واتفقوا على الذهاب إلى النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغية حرفه عن الإسلام ، فذهبوا إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذكروا له أنّهم قوم من مفكري وعلماء اليهود ، وأنّهم إن اتبعوهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اقتدى بهم بالتأكيد بقية اليهود ، وزعموا أنّ بينهم وبين جماعة أخرى نزاع (في قضية قتل أو أمر آخر) وطلبوا من النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحكم في النزاع المزعوم لمصلحتهم ، ووعدوه أنّه إن استجاب لأمرهم يؤمنوا به ، فامتنع النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن إصدار حكم غير عادل ، فنزلت الآية المذكورة(١) .

__________________

(١) تفسير المنار ، ج ٦ ، ص ٤٢١.

٢٩

التّفسير

تكرر هذه الآية تأكيد الباريعزوجل على نبيّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أن يحكم بين أهل الكتاب طبقا لأحكام الله ، وأن لا يستسلم لأهوائهم ونزواتهم ، فتقول :( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ) .

والتكرار للأمر هنا إمّا أن يكون بسبب المواضيع التي اشتملت عليها الآية ، وإمّا لأنّ موضوع الحكم في هذه الآية يختلف عن موضوع الحكم في الآيات السابقة ، حيث كان موضوع الحكم في الآيات السابقة هو الزنا مع المحصنة ، وموضوع الحكم في هذه الآية هو القتل أو شيء آخر.

ثمّ تحذر الآية النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مؤامرة هؤلاء الذين أرادوا عدول النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن شرعة الحقّ والعدل ، وطالبته بأن يراقب تحركاتهم ، حيث تقول :( وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ ) .

وأكّدت هذه الآية استمرارا لخطابها لنبي الإسلام محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ هؤلاء الكتابيين إن لم يذعنوا لحكمه العادل فإنّ ذلك يكون دلالة على أن ذنوبهم وآثامهم قد طوقتهم فحرمتهم من التوفيق ، وأنّ الله يريد أن يعاقبهم ويعذبهم بسبب بعض ذنوبهم ، حيث تقول الآية :( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ) .

وسبب ذكر «بعض الذنوب» لا كلّها ، قد يكون لأنّ عقاب كل الذنوب لا يتم في الحياة الدنيا بل يذوق وبال بعضها ، والباقي منها يوكّل أمرها إلى العالم الثّاني ، أي بعد الموت.

ولم تصرّح هذه الآية بنوع الذنوب التي طوقت وأحاطت بهؤلاء ، ويحتمل أن تكون إشارة إلى المصير الذي أحاط بيهود المدينة ، بسبب الخيانات المتوالية التي مارسوها ، ممّا اضطرهم إلى ترك بيوتهم ومغادرة المدينة المنورة ، أو أن يكون فشل هؤلاء وحرمانهم من التوفيق نوعا من العقاب لهم على ذنوبهم السابقة ، لأنّ

٣٠

الحرمان من التوفيق يعتبر ـ بحد ذاته ـ نوعا من العقاب ، أي أن الذنوب المتتالية والعناد والإصرار على الذنب ، جزاؤهما الحرمان من الأحكام العادلة ، والتورط بالضّلال والحيرة متاهات الحياة.

وتشير الآية في النهاية إلى أنّ إصرار هؤلاء القوم من أهل الكتاب على باطلهم يجب أن لا يكون باعثا للقلق عند النّبي ، لأنّ الكثير من الناس منحرفون عن طريق الحق ، أي أنّهم فاسقون ، حيث تقول الآية :( وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ ) .

سؤال :

يمكن أن يعترض البعض بأنّ هذه الآية توحي باحتمال صدور الانحراف عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والعياذ بالله ، وأن الله يحذره من ذلك ، فهل أنّ هذا الأمر يتلائم ومنزلة العصمة التي يتمتع بها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

الجواب :

إنّ العصمة لا تعني مطلقا استحالة صدور الخطأ من المعصوم ، ولو كان كذلك لما بقيت لهم مكرمة أو فضل ، ومعنى العصمة هو أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّةعليهم‌السلام مع وجود احتمال صدور الذنب أو الخطأ منهم إلّا أنّهم لا يرتكبون الذنب أبدا وإن كان عدم ارتكاب الذنب من قبل المعصوم ناشئ عن التنبيه والتحذير والتذكير الإلهي للمعصوم ، أي أن التنبيه الإلهي يعتبر جزءا من عامل العصمة لدى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذي يحول دون ارتكاب الخطأ ، وسنبادر إلى توضيح موضوع العصمة لدي الأنبياء ـ بتفصيل أكثر ـ عند تفسير آية التطهير (الآية ٣٣ من سورة الأحزاب بإذن الله).

أمّا الآية الأخرى فتساءلت بصيغة استفهام استنكاري ، هل أنّ هؤلاء الذين يدّعون أنّهم اتباع الكتب السماوية يتوقعون أن تحكم بينهم (الخطاب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) بأحكام الجاهلية التي فيها أنواع التمايز المقيت؟ حيث تقول الآية :( أفَحُكْمَ

٣١

الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ) .

لكنّ أهل الإيمان لا يرون أي حكم أرفع وأفضل من حكم الله ، حيث تتابع الآية قولها :( وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) .

ولقد بيّنا ـ عند تفسير الآيات السابقة ـ أن نوعا من التمايز الغريب كان يسود الأوساط اليهودية بحيث لو أن فردا من يهود بني قريظة قتل فردا من يهود بني النضير لتعرض للقصاص ، بينما لو حصل العكس لم يكن ليطبق حكم القصاص في القاتل ، وقد شمل هذا التمايز المقيت ـ أيضا ـ حكم الغرامة والدية عند هؤلاء ، فكانوا يأخذون ضعف الدية من جماعة ، ولا يأخذونها من جماعة أخرى ، أو يأخذون أقل من الحدّ المقرر ، ولذلك استنكر القرآن هذا النوع من التمايز واعتبره من أحكام الجاهلية ، في حين أنّ الأحكام الإلهية تشمل البشر أجمعين وتطبق دون أي تمايز.

وجاء في كتاب «الكافي» عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام أنّه قال : «الحكم حكمان : حكم الله ، وحكم الجاهلية ، فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهلية»(١) .

وهكذا يتّضح أنّ أي مسلم يتبع الأحكام الوضعية ولا يلتزم بالأحكام والقوانين الإلهية السماوية إنّما يسير في الحقيقة في طريق الجاهلية.

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٦٤٠.

٣٢

الآيات

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣) )

سبب النّزول

نقل الكثير من المفسّرين أنّ (عبادة بن صامت الخزرجي) قدم إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد غزوة بدر وذكر له أن له حلفاء من اليهود ذوي عدة وعدد ، وأكّد للنبي أنّه يريد البراءة من صداقتهم ومن عهده معهم ما داموا يهددون المسلمين بالحرب ، وقال بأنّه يريد أن يكون حليفا لله ولنبيه دون سواهما ، أمّا عبد الله بن أبي فرفض التنصل من عهده مع اليهود ، واعتذر بأنّه يخشى المشاكل وادعى أنّه يحتاج إلى اليهود.

٣٣

وأظهر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خشيته على عبادة وعبد الله من صداقة اليهود مشيرا إلى أنّ خطر صداقة اليهود على عبد الله أكبر من خطرها على عبادة بن صامت ، فقال عبد الله بأنّه ما دام الأمر كذلك فإنّه سيتخلى عن صداقته وعهده مع اليهود ، فنزلت الآيات الأخيرة وهي تحذر المسلمين من التحالف مع اليهود والنصارى.

التّفسير

لقد حذرت الآيات الثلاث الأخيرة المسلمين ـ بشدّة ـ من الدخول في أحلاف مع اليهود والنصارى ، فالآية الاولى منها تمنع المسلمين من التحالف مع اليهود والنصارى أو الاعتماد عليهم (أي أنّ الإيمان بالله يوجب عدم التحالف مع هؤلاء إن كان ذلك لأغراض ومصالح مادية) حيث تقول الآية :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياء ) .

وكلمة «أولياء» صيغة جمع من «ولي» وهي مشتقة من مصدر «الولاية» وهي بمعنى التقارب الوثيق بين شيئين ، وقد وردت بمعنى «الصداقة» و «التحالف» و «الإشراف».

لكن بالنظر إلى سبب النّزول والقرائن الأخرى الموجودة ، فإنّ المراد ليس منع المسلمين من اقامة أي علاقات تجارية واجتماعية مع اليهود والنصارى ، بل المقصود هو منع المسلمين من التحالف مع هؤلاء أو الاعتماد عليهم في مواجهة الأعداء.

وكانت قضية التحالف رائجة في ذلك العصر بين العرب ، وكان يطلق على ذلك «الولاء».

والملفت للنظر في هذه الآية أنّها لم تعتمد تسمية «أهل الكتاب» لدى تحدثها عن اتباع الديانتين السماويتين المعروفتين ، بل استخدمت كلمتي «اليهود والنّصارى» وربّما يكون هذا إشارة إلى أنّ اليهود والنصارى لو كانوا يعملون

٣٤

بكتابيهم السماويين ، لكان اتباع هذين الدينين خير حليفين للمسلمين ، لكنّهم اتّحدوا معا ـ لا بأمر من كتابيهم ـ بل لأغراض سياسية وتكتلات عنصرية وأمثال ذلك.

بعد ذلك تبيّن الآية سبب هذا النهي في جملة قصيرة ، وتقول بأن هاتين الطائفتين إنّما هما أصدقاء وحلفاء أشباههما من اليهود والنصارى حيث تقول :( بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) أي أنّهما يهتمان بمصالحهما ومصالح أصدقائهما فقط ، ولا يعيران اهتماما لمصالح المسلمين ، ولذلك فإن أي مسلم يقيم صداقة أو حلفا مع هؤلاء فإنّه سيصبح من حيث التقسيم الاجتماعي والديني جزءا منهم ، حيث تؤكّد الآية في هذا المجال بقولها :( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) .

وبديهي أنّ الله لا يهدي الأفراد الظالمين الذين يرتكبون الخيانة بحق أنفسهم وإخوانهم وأخواتهم المسلمين والمسلمات ، ويعتمدون على أعداء الإسلام تقول الآية :( إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) .

وتشير الآية التّالية إلى الأعذار التي كان يتشبث بها أفراد ذوي نفوس مريضة لتبرير علاقاتهم اللاشرعية مع الغرباء ، واعتمادهم عليهم وتحالفهم معهم ، مبررين ذلك بخوفهم من الوقوع في مشاكل إن أصبحت القدرة يوما في يد حلفائهم الغرباء ، فتقول الآية :( فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ ) (١) .

ويذكر القرآن الكريم هؤلاء الضعفاء ذوي النفوس المريضة ردا على تعللهم في التخلي عن حلفهم مع الغرباء ، فيبيّن لهم أنّهم حين يحتملون أن يمسك اليهود والنصارى يوما بزمام القدرة والسلطة يجب أن يحتملوا ـ أيضا ـ أن ينصر الله

__________________

(١) إنّ كلمة (دائرة) مشتقة من المصدر (دور) أي الشيء الذي يكون في حالة دوران ، وبما أن القدرات المادية والحكومات هي في حالة دوران دائم على طول التّأريخ ، لذلك يقال لها (دائرة) كما تطلق هذه الكلمة ـ أيضا ـ على أحداث الحياة المختلفة التي تدور حول الأشخاص.

٣٥

المسلمين فتقع القدرة بأيديهم ، حيث يندم هؤلاء على ما أضمروه في أنفسهم ، كما تقول الآية :( فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ ) .

ويشتمل هذا الجواب القرآني ـ في الحقيقة على جانبين :

أوّلهما : أنّ أفكارا كهذه إنما تخرج من قلوب مريضة لأفراد تزلزل ايمانهم وأصبحوا يسيئون الظن بالله ، ولو لم يكونوا كذلك لما سمحوا لهذه الأفكار بأن تداخل نفوسهم.

أمّا الجانب الثّاني في هذا الجواب فهو مواجهتهم بنفس الحجة التي أوردوها لتعللهم ذلك ، إذ أنّ احتمالهم لوقوع السلطة بيد اليهود والنصارى يقابله ـ بالضرورة ـ احتمال آخر وهو انتصار المسلمين واستلامهم لمقاليد الأمور ، وبهذا لا يكون هناك أي مجال لتشبث هؤلاء بحلفهم مع أولئك أو الاعتماد عليهم.

وعلى أساس هذا التّفسير فإنّ كلمة (عسى) التي لها مفهوم الاحتمال والأمل ، تبقى في هذه الآية محتفظة بمعناها الأصلي لكن بعض المفسّرين قالوا بأنّها تعني هنا الوعد الجازم من قبل الله للمسلمين ، وهذا ما لا يتلائم وظاهر كلمة (عسى) البتة.

أمّا المراد من جملة( أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ ) التي جاءت بعد كلمة (الفتح) في هذه الآية فيحتمل أنّها تعني أنّ المسلمين ـ في المستقبل ـ إمّا أن يتغلبوا وينتصروا على أعدائهم عن طريق الحرب أو بدونها كأن تتوسع قدرتهم إلى درجة يضطر بعدها الأعداء إلى الخضوع والاستسلام للمسلمين دون الحاجة إلى الدخول في حرب.

وبتعبير آخر : كلمة (الفتح) تشير إلى الإنتصار العسكري للمسلمين ، وأنّ جملة( أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ ) إشارة إلى الانتصارات الاجتماعية والاقتصادية وما شابه ذلك.

٣٦

إنّ بيان هذا الاحتمال من قبل الله سبحانه وتعالى ، مع كونه ـعزوجل ـ عالما بجميع ما سيحصل في المستقبل ، يدل على أنّ الآية تشير إلى الانتصارات العسكرية والاجتماعية والاقتصادية التي سيحرمها المسلمون في المستقبل.

وتشير الآية في الختام إلى مصير عمل المنافقين ، وتبيّن أنّه حين يتحقق الفتح للمسلمين المؤمنين وتنكشف حقيقة عمل المنافقين يقول المؤمنون ـ بدهشة ـ : هل أنّ هؤلاء المنافقين هم أولئك الذين كانوا يتشدقون بتلك الدعاوى ويجلفون بالايمان المغلظة بأنّهم معنا ، فكيف وصل الأمر بهم إلى هذا الحدّ؟ حيث تقول الآية :( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ ) (١) .

إنّ هؤلاء لنفاقهم هذا ذهبت أعمالهم أدراج الرياح ، لأنّها لم تكن نابعة من نيّة خالصة صادقة ، ولهذا فقد أصبحوا من الخاسرين ـ سواء في هذه الدنيا أو الآخرة معا ـ حيث تؤكّد الآية هذا الأمر بقولها :( حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ ) .

والجملة الأخيرة تشبه ـ في الحقيقة ـ جوابا لسؤال مقدر ، وكأن شخصا يسأل : ماذا سيكون مصير هؤلاء؟

فيجاب بأنّ أعمالهم أدراج الرياح ، وستطوقهم الخسارة من كل جانب ، أي أنّ هؤلاء ـ حتى لو كانت لهم أعمال صدرت عنهم بإخلاص ونية صادقة ـ فهم لا يحصلون على أي نتيجة حسنة من تلك الأعمال الصالحة لانحرافهم صوب النفاق والشّرك بعد ذلك : وقد شرحنا هذا الأمر في الجزء الثّاني من تفسيرنا هذا عند تفسير الآية (٢١٧) من سورة البقرة.

__________________

(١) في هذه الآية تكون كلمة «هؤلاء» مبتدأ وخبرها جملة «الذين أقسموا بالله» أمّا جملة «جهد إيمانهم» فهي مفعول مطلق.

٣٧

الاعتماد على الغرباء :

على الرّغم من أنّ الواقعة ـ التي ذكرت سببا لنزول الآيات الأخيرة ـ تحدثت عن شخصين هما «عبادة بن الصامت» و «عبد الله بن أبي» إلّا أنّ ممّا لا شك فيه أنّ هذين الشخصين لا يشار إليهما باعتبارهما شخصيتين تاريختين ـ فحسب ـ بل لأنّهما يمثلان مذهبين فكريين واجتماعيين. يدعو أحدهما إلى التخلي عن التعاون والتحالف مع الغرباء ، وعدم تسليم زمام المسلمين بأيديهم ، وعدم الثقة بتعاونهم.

والمذهب الآخر يرى أنّ كل انسان أو شعب في هذه الدنيا المليئة بالمشاكل والأهوال يحتاج إلى من يتكئ ويعتمد عليه ، وأن الحاجة تدعو أحيانا إلى انتخاب الدّعم والسند من بين الغرباء بحجة أن الصداقة معهم لا تخلو من قيمة وفائدة ، ولا بدّ أن تظهر ثمارها في يوم من الأيّام.

وقد دحض القرآن الكريم رأي المذهب الثّاني بشدّة ، وحذر المسلمين بصراحة من مغبة الوقوع والتورط في نتائج مثل هذا النوع من التفكير ، لكن البعض من المسلمين ـ ومع الأسف ـ قد نسوا وتجاهلوا هذا الأمر القرآني العظيم ، فانتخبوا من بين الغرباء والأجانب من يعتمدون عليهم ، وقد أثبت التّأريخ أن كثيرا من النكبات التي أصابت المسلمين تنبع من هذا الاتجاه الخاطئ!

وبلاد الأندلس تعتبر دليلا حيّا وبارزا على هذا الأمر ، وتظهر كيف أن المسلمين بالاعتماد على قواهم الذاتية ـ استطاعوا أن يبنوا أكثر الحضارات ازدهارا في الأندلس ـ أسبانيا اليوم ـ لكنّهم نتيجة لاعتمادهم على قوى غريبة أجنبية فقدوا تلك المكتسبات العظيمة بكل سهولة.

والإمبراطورية العثمانية التي سرعان ما ذابت كذوبان الجليد في الصيف ، تعتبر دليلا آخر على هذه الدعوى.

كما أنّ التّأريخ المعاصر يشهد على ما أصاب المسلمين من خسائر ومصائب

٣٨

كبيرة بسبب انحرافهم عن رسالتهم واعتمادهم في كثير من الأمور على الأجانب الغرباء ، والعجب كل العجب من أن هذا السبات ما زال يلف العالم الإسلامي ، ولم توقظه بعد الكوارث والنكبات التي أصابته بسبب اعتماده على القوى الأجنبية.

على أي حال فإن الأجنبي أجنبي ، ومهما اشترك معنا في المصالح وتعاون معنا في مجالات محدودة فهو في النهاية يعتزل عنّا في اللحظات الحساسة ، وكثيرا ما تنالنا منه ـ أيضا ـ ضربات مؤثرة.

وما على المسلمين اليوم إلّا أن ينتبهوا أكثر من أي وقت مضى إلى هذا النداء القرآني ولا يعتمدوا على أحد سوى الله وقواهم الذاتية التي وهبها الله لهم.

لقد اهتمّ نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كثيرا بهذا الأمر ، حتى أنّه رفض مساعدة اليهود في واقعة «أحد» حين أعلن ثلاثمائة منهم استعدادهم للوقوف بجانب المسلمين ضد المشركين ، فأعادهم النّبي إلى حيث كانوا ولما يصلوا إلى منتصف الطريق ، وامتنع عن قبول عرضهم في حين أن مثل هذا العدد من الناس كان يمكن له أن يلعب دورا مؤثرا في واقعة أحد ، فلما ذا رفضهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

لقد رفضهم لأنّه لم يستبعد منهم أن يخذلوه ويخذلوا المسلمين في أحرج اللحظات وأكثرها خطورة أثناء الحرب ، ويتحولوا إلى التعاون مع العدوّ ويقضوا على ما تبقى من جيش المسلمين في ذلك الوقت.

* * *

٣٩

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤) )

التّفسير

بعد الانتهاء من موضوع المنافقين ، يأتي الكلام ـ في هذه الآية الكريمة ـ عن المرتدين الذين تنبّأ القرآن بارتدادهم عن الدين الإسلامي الحنيف ، وهذه الآية أتت بقانون عام يحمل إنذارا لجميع المسلمين ، فأكّدت أنّ من يرتد عن دينه فهو لن يضر الله بارتداده هذا أبدا ، ولن يضر الدين ولا المجتمع الإسلامي أو تقدمه السريع ، لأنّ الله كفيل بإرسال من لديهم الاستعداد في حماية هذا الدين ، حيث تقول الآية الكريمة :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ ) .

ثمّ تتطرق الآية إلى صفات هؤلاء الحماة الذين يتحملون مسئولية الدفاع العظيمة ، وتبيّنها على الوجه التّالي :

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

بمثلها وما يقابل العرض بمثله عندنا ، وعند المخالف بنقد البلد(١) .

مسألة ١٥١ : النصاب المعتبر في قيمة مال التجارة هنا هو أحد النقدين : الذهب أو الفضة دون غيرهما ، فلو اشترى بأحد النصب في المواشي مال التجارة وقصرت قيمة الثمن عن نصاب أحد النقدين ، ثم حال الحول كذلك فلا زكاة.

ولو قصر الثمن عن نصاب المواشي بأن اشترى بأربع من الإِبل متاع التجارة وكانت قيمة الثمن أو السلعة تبلغ نصاباً من أحد النقدين تعلّقت الزكاة به.

إذا عرفت هذا ، فالنصاب الأول قد عرفت أنّه عشرون ديناراً أو مائتا درهم ، فإذا بلغت القيمة أحدهما ثبتت الزكاة ، ثم الزائد إن بلغ النصاب الثاني وهو أربعة دنانير أو أربعون درهماً ثبتت فيه الزكاة وهو ربع عُشرة أيضاً ، وإلّا فلا ، ولم يعتبر الجمهور النصاب الثاني كالنقدين ، وقد سلف.

مسألة ١٥٢ : إذا اشترى سلعاً للتجارة في أشهر متعاقبة ، وقيمة كلّ واحد نصاب‌ يزكّي كلّ سلعة عند تمام حولها ، ولم يضمّ بعضها إلى بعض.

وإن كانت الاُولى نصاباً فحال حولها وهي نصاب وحال حول الثانية والثالثة وقيمة كلّ منهما أقلّ من نصاب أخذ من الأول الزكاة خمسة دراهم ، ومن الثاني والثالث من كلّ أربعين درهماً درهم.

ولو كان العرض الأول ليس بنصاب وكمل بالثاني نصاباً فحولهما من حين ملك الثاني ، ولا يضمّ الثالث إليهما ، بل ابتداء الحول من حين ملكه ، وتثبت فيه الزكاة - وإن كان أقلّ من النصاب الأول - إذا بلغ النصاب الثاني ، لأنّ قبله نصاباً.

مسألة ١٥٣ : إذا اشترى عرضاً للتجارة بأحد النقدين‌ ، وكان الثمن‌

____________________

(١) المجموع ٦ : ٦٦ - ٦٧ ، فتح العزيز ٦ : ٧٦.

٢٢١

نصاباً ، قال الشيخ : كان حولُ السلعة حولَ الأصل(١) ؛ وبه قال الشافعي ومالك وأحمد وأصحاب الرأي ، لأنّ زكاة التجارة تتعلّق بالقيمة وقيمته هي الأثمان نفسها لكنها كانت ظاهرةً فخفيت.

ولأنّ النماء في الغالب إنّما يحصل في التجارة بالتقليب ، فلو كان ذلك يقطع الحول لكان السبب الذي تثبت فيه الزكاة [ لأجله ](٢) مانعا منها(٣) .

ولو قيل : إن كان الثمن من مال تجارة بنى على حوله وإلاّ استأنف ، كان وجها.

ولو كان أقلّ من النصاب فلا زكاة ، فإن ظهر ربح حتى بلغ به نصاباً جرى في الحول من حين بلوغ النصاب عند علمائنا أجمع ، وهو أحد وجهي الشافعية ، والآخر : أنّه يبنى على الحول من حين الشراء ، لأنّه يعتبر النصاب في آخر الحول على الأقوى من وجهيه(٤) .

فروع :

أ - لو اشتراه بنصاب من السائمة فإن كانت للقُنية فالأقرب انقطاع حول السائمة ، ويبتدئ حول التجارة من يوم الشراء ؛ لاختلاف الزكاتين في القدر والتعلّق ، وهو أحد وجهي الشافعي ، وفي الآخر : يبني عليه كالنقدين(٥) .

وإن كانت للتجارة فالوجه البناء على حولها.

ب - البناء على حول الأصل إنّما يكون لو اشتراه بعين النصاب ، ولو‌

____________________

(١) الخلاف ٢ : ٩٤ ، المسألة ١٠٨ ، والمبسوط للطوسي ١ : ٢٢٠ - ٢٢١.

(٢) زيادة أثبتناها من المغني والشرح الكبير.

(٣) المغني ٢ : ٦٢٦ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٥ - ٦٣٦ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٦٧ ، المجموع ٦ : ٥٨ ، فتح العزيز ٦ : ٥٣ - ٥٤.

(٤) المهذب للشيرازي ١ : ١٦٧ ، المجموع ٦ : ٥٦ ، فتح العزيز ٦ : ٥٤.

(٥) المهذب للشيرازي ١ : ١٦٧ ، المجموع ٦ : ٥٦ ، فتح العزيز ٦ : ٥٤ ، حلية العلماء ٣ : ١٠١.

٢٢٢

اشتراه في الذمة ونقد النصاب في الثمن انقطع حول الثمن نقداً كان أو ماشيةً ، وابتدأ حول التجارة من يوم الشراء ، لأنّ النصاب لم يتعيّن للصرف إلى هذه الجهة.

ج - لو اشترى عرضاً للتجارة بعرض للقُنية كأثاث البيت كان حول السلعة من حين ملكها للتجارة ، وبه قال الشافعي وأحمد(١) .

وقال مالك : لا يدور في حول التجارة إلّا أن يشتريها بمال تجب فيه الزكاة كالذهب والفضة(٢) .

د - لو باع مال التجارة بالنقد من الذهب أو الفضة وقصد بالأثمان غير التجارة انقطع الحول ، وبه قال الشافعي(٣) ، لأنّه مال تجب الزكاة في عينه دون قيمته فانقطع الحول بالبيع به كالسائمة.

وقال أحمد : لا ينقطع ، لأنّه من جنس القيمة التي تتعلّق الزكاة بها فلم ينقطع الحول معها به(٤) .

والفرق : أنّ قصد التجارة انقطع ، وتعلّقت به حول زكاة اُخرى.

ولو قصد بالثمن التجارة ، فالأقرب عدم الانقطاع ، وبنى على حول الأول ؛ لأنّا لا نشترط في زكاة التجارة بقاء الأعيان بل القَيِم.

ه- لو أبدل عرض التجارة بما تجب الزكاة في عينه كالسائمة ولم يَنْو به التجارة لم يبن حول أحدهما على الآخر إجماعاً ؛ لأنّهما مختلفان ، وإن أبدله بعرض للقُنية بطل الحول.

و - لو اشتراه بنصاب من السائمة لم يبن على حوله إجماعاً ، لأنّهما مختلفان.

____________________

(١) المجموع ٦ : ٥٦ ، فتح العزيز ٦ : ٥٤ ، حلية العلماء ٣ : ١٠٢ ، المغني ٢ : ٦٢٧ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٧.

(٢) حلية العلماء ٣ : ١٠٣.

(٣ و ٤ ) المغني ٢ : ٦٢٦ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٦.

٢٢٣

ز - لا يشترط بقاء عين السلعة طول الحول إجماعاً ، بل قيمتها وبلوغ القيمة النصاب.

مسألة ١٥٤ : لا تجتمع زكاة التجارة والمالية في مالٍ واحد‌ اتّفاقاً ؛ لقولهعليه‌السلام : ( لا ثني(١) في الصدقة )(٢) .

فلو ملك نصاباً من السائمة فحال الحول ، والسوم ونية التجارة موجودان قدّمت زكاة المال عندنا ؛ لأنّها واجبة دون زكاة التجارة ؛ لاستحبابها.

ومن قال بالوجوب اختلفوا ، فالذي قاله الشيخ - تفريعاً على الوجوب - : تقديم المالية أيضاً(٣) ؛ وبه قال الشافعي - في الجديد - لأنّها أقوى ؛ لانعقاد الإجماع عليها واختصاصها بالعين فكانت أولى(٤) .

وقال أبو حنيفة والثوري ومالك وأحمد والشافعي في القديم : يزكّيه زكاة التجارة ، لأنّها أحظّ للمساكين ، لتعلّقها بالقيمة فتجب فيما زاد بالحساب ، لأنّ الزائد عن النصاب قد وجد سبب وجوب زكاته فتجب كما لو لم يبلغ بالسوم نصاباً(٥) .

ونمنع اعتبار ترجيح المساكين ، بل مراعاة المالك أولى ؛ لأنّ الصدقة مواساة فلا تكون سبباً لإِضرار المالك ولا موجبة للتحكّم في ماله.

____________________

(١) أي : لا تؤخذ الزكاة مرّتين في السنة. النهاية لابن الأثير ١ : ٢٢٤.

(٢) كنز العمّال ٦ : ٣٣٢ / ١٥٩٠٢.

(٣) الخلاف ٢ : ١٠٤ ، المسألة ١٢٠ ، والمبسوط للطوسي ١ : ٢٢٢.

(٤) الاُم ٢ : ٤٨ ، المجموع ٦ : ٥٠ ، فتح العزيز ٦ : ٨١ ، حلية العلماء ٣ : ١٠٠ ، المغني ٢ : ٦٢٧ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٨.

(٥) المبسوط للسرخسي ٢ : ١٧٠ ، المغني ٢ : ٦٢٧ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٨ ، المجموع ٦ : ٥٠ ، فتح العزيز ٦ : ٨١ ، حلية العلماء ٣ : ١٠٠ ، المنتقى للباجي ٢ : ١٢١ ، وفيها ما عدا المجموع قال مالك بوجوب زكاة العين ؛ على خلاف ما نسب إليه المصنّف ، وأمّا في المجموع فلم يتعرض النووي لقوله.

٢٢٤

فروع :

أ - لو انتفى السوم ثبتت زكاة التجارة وإن كان النصاب ثابتاً ، وكذا لو انتفى النصاب وحصل السوم ؛ لعدم التصادم.

ب - لو فقد شرط زكاة التجارة بأن قصر الثمن عن النصاب أو طلبت بخسارة وجبت زكاة المال إجماعاً ، لعدم التضاد.

ج - لو سبق تعلّق وجوب المالية بأن يملك أربعين من الغنم قيمتها دون مائتي درهم ثم صارت في نصف الحول تعدل مائتين قدّمت زكاة المال ، لثبوت المقتضي في آخر الحول ، السالم عن معارضة المانع.

وقال بعض الجمهور بتأخّر وجوب الزكاة حتى يتم حول التجارة ، لأنّه أنفع للفقراء(١) . وهو ممنوع.

وعلى ما اخترناه إذا تمّ حول التجارة لم يزك الزائد عن النصاب ، لأنّه قد زكّى العين فلا يتعلّق بالقيمة.

وقال بعض الجمهور : تجب زكاة التجارة في الزائد عن النصاب ، لوجود المقتضي فإنّه مال للتجارة حال عليه الحول وهو نصاب(٢) .

وهو ممنوع ؛ لوجود المانع وهو تعلّق الزكاة بالعين.

د - لو اشترى أرضاً أو نخلاً للتجارة فزرعت الأرض وأثمر النخل فاتّفق حولهما بأن يكون بدوّ الصلاح في الثمرة واشتداد الحبّ عند تمام الحول ، وكانت قيمة الأرض والنخل بمفردها نصابا للتجارة فإنّه يزكّي الثمرة والحبّ زكاة العشر ، ويزكّي الأصل زكاه القيمة ، ولا تثبت في الثمرة الزكاتان ، وبه قال أبو حنيفة وأبو ثور(٣) ، لأنّ زكاة العُشر أحظّ للفقراء فإنّ العُشر أكثر من ربع العُشر ، ولأنّ زكاة المال متّفق عليها.

____________________

(١ و ٢ ) المغني ٢ : ٦٢٧ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٩.

(٣) المغني ٢ : ٦٢٨ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٤١.

٢٢٥

وقال أحمد : يزكّي الجميع زكاة التجارة ؛ لأنّه مال تجارة فتجب فيه زكاتها كالسائمة(١) .

والفرق : زكاة السوم أولى ، على أنّا نقول بموجبه هناك.

ه- لو اشترى أربعين سائمة للتجارة فعارض بها(٢) في أثناء الحول بأربعين سائمة للتجارة أيضاً ، فإن شرطنا في المالية بقاء عين النصاب سقطت وثبتت زكاة التجارة ، لعدم المانع ، وإلّا أوجبنا زكاة المال.

ولو عارضها بأربعين للقُنية سقطت زكاة التجارة وانعقد حول المالية من المعارضة.

ولو اشترى أربعين للقُنية وأسامها ، ثم عراضها في أثناء الحول بأربعين سائمة للتجارة انعقد حول المالية أو التجارة - على الخلاف - من حين المعارضة.

و - عبد التجارة يخرج عنه الفطرة وزكاة التجارة على ما يأتي.

ز - لو اشترى معلوفة للتجارة ثم أسامها ، فإن كان بعد تمام الحول ثبتت زكاة التجارة في الحول الأوّل ، وانعقد حول الماليّة من حين الإسامة ، وإن كان في الأثناء احتمل زكاة التجارة عند تمام الحول ؛ لعدم المانع ، وانعقاد حول الماليّة من حين الإِسامة.

مسألة ١٥٥ : إذا نوى بعرض التجارة القُنية صار للقنية وسقطت الزكاة‌ عند علمائنا - وبه قال الشافعي وأحمد وأصحاب الرأي(٣) - لأنّ القُنية الأصل ، ويكفي في الردّ إلى الأصل مجرّد النيّة ، ولأنّ نيّة التجارة شرط لثبوت الزكاة في‌

____________________

(١) المغني ٢ : ٦٢٨ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٤١.

(٢) المعارضة : بيع المتاع بالمتاع لا نقد فيه. النهاية - لابن الأثير - ٣ : ٢١٤ « عرض ».

(٣) المجموع ٦ : ٤٩ - ٥٠ ، حلية العلماء ٣ : ١٠٠ ، المغني ٢ : ٦٢٨ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٠ - ٦٣١.

٢٢٦

العروض ، فإذا نوى القنية زال الشرط.

وقال مالك في رواية : لا يسقط حكم التجارة بمجرّد النية كما لو نوى بالسائمة العلف(١) .

والفرق أنّ الإِسامة شرط دون نيّتها فلا ينتفي الوجوب إلّا بانتفاء السوم.

وإذا صار العرض للقُنية بنيّتها فنوى به التجارة لم يصر للتجارة بمجرّد النية على ما قدّمناه ، وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي(٢) .

تذنيب : لو كانت عنده ماشية للتجارة نصف حول فنوى بها الإسامة وقطع نية التجارة انقطع حول التجارة واستأنف حولا للماليّة - وبه قال الثوري وأبو ثور وأصحاب الرأي(٣) - لأنّ حول التجارة انقطع بنيّة الاقتناء ، وحول السوم لا يبنى على حول التجارة.

والوجه : أنّها إن كانت سائمةً ابتداء الحول وجبت المالية عند تمامه - وبه قال إسحاق(٤) - لأنّ السوم سبب لوجوب الزكاة وجد في جميع الحول خالياً عن المعارض فتجب به الزكاة ، كما لو لم ينو التجارة.

مسألة ١٥٦ : المشهور عندنا وعند الجمهور أنّ نماء مال التجارة بالنتاج مال تجارة أيضاً‌ - وهو أحد قولي الشافعي(٥) - لأنّ الولد بعض الاُمّ فحكمه حكمها ، فلو اشترى جواري للتجارة فأولدت كانت الأولاد تابعةً لها ، هذا إذا لم تنقص قيمة الاُمّ بالولادة ، فإن(٦) نقصت جعل الولد جابراً بقدر قيمته ؛ لأنّ‌

____________________

(١) المغني ٢ : ٦٢٨ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣١ ، حلية العلماء ٣ : ١٠٠.

(٢) المغني ٢ : ٦٢٩ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣١ ، حلية العلماء ٣ : ٩٩ ، المجموع ٦ : ٤٨ ، فتح العزيز ٦ : ٤١.

(٣) المغني ٢ : ٦٢٩ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٢ - ٦٣٣.

(٤) المغني ٢ : ٦٢٩ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٣.

(٥) فتح العزيز ٦ : ٦٥.

(٦) في « ف » والطبعة الحجرية : فلو.

٢٢٧

سبب النقصان انفصاله.

وللشافعي قول آخر : إنّه ليس مالَ التجارة ؛ لأنّ الفائدة التي تحصل من عين المال لا تناسب الاستنماء بطريق التجارة(١) . وهو ممنوع.

إذا ثبت هذا ، فإنه يبتدئ بالحول في النتاج من حين انفصاله ، ولا يبني على حول الأصل ، خلافاً للشافعي(٢) ، وقد سبق(٣) .

فروع :

أ - لو اشترى من الماشية السائمة نصاباً للتجارة فنتجت ، فعندنا تقدّم زكاة المال ، ولا يتبع النتاج الاُمّهات في الحول ، فلم ينعقد سبب المالية في النتاج ، فيبقى سبب التجارة سالماً عن المعارض ، فينعقد حولها من حين الانفصال ، فتثبت الزكاة فيها بعد الحول ، ثم يعتبر حول المالية إن حصل السوم.

ب - لا يبنى النصاب هنا على نصاب الاُمّهات بمعنى أنه يقوّم النتاج بأحد النقدين فإن بلغت قيمته مائتي درهم أو عشرين ديناراً تعلّقت الزكاة به ، ولا يضمّ إلى الاُمّهات في النصاب ، لأنّ الاُمّهات لها زكاة بانفرادها ، ولا يكفي في اعتبار نصابها أربعون درهماً أو أربعة دنانير ، وإن كانت قيمة الاُمهات نصاباً فإشكال.

ج - لو اشترى حديقة للتجارة فأثمرت عنده ، وقلنا : إنّ ثمار التجارة مال تجارة ، أو اشتراها وهي مثمرة مع الثمار فبدا الصلاح عنده حكمنا بوجوب زكاة المال في الثمرة على ما قدّمناه.

ولا تسقط به زكاة التجارة عن قيمة الأشجار - وهو أحد وجهي‌

____________________

(١) فتح العزيز ٦ : ٦٥.

(٢) فتح العزيز ٦ : ٦٦.

(٣) سبق في المسألة ٣٤.

٢٢٨

الشافعية(١) - لأنّه ليس فيها زكاة مال حتى تسقط بها زكاة التجارة.

وفي الآخر : تسقط ، لأنّ المقصود منها ثمارها وقد أخذنا زكاتها(٢) .

وهو ممنوع.

وكذا لا تسقط عن أرض الحديقة.

وللشافعية طريقان : أحدهما : طرد الوجهين(٣) . والثاني : القطع بعدم السقوط ، لبُعد الأرض عن التبعية ؛ لأنّ الثمار خارجة عن الشجرة ، والشجرة حاصلة ممّا اُودع في الأرض لا من نفسها(٤) .

وأمّا الثمار التي اُخرج الزكاة المالية منها فإنّ حول التجارة ينعقد عليها أيضاً ، وتثبت الزكاة فيها في الأحوال المستقبلة للتجارة وإن كانت الماليّة لا تتكرر ، ويحسب ابتداء الحول للتجارة من وقت إخراج العشر بعد القطاف لا من وقت بدوّ الصلاح ، لأنّ عليه [ بعد ](٥) بدوّ الصلاح تربية [ الثمار ](٦) للمساكين ، فلا يجوز أن يحسب عليه وقت التربية.

د - لو اشترى أرضاً مزروعة للتجارة فأدرك الزرع ، والحاصل نصاب تعلّقت زكاة المال بالزرع ثم يبتدئ حول زكاة التجارة بعد التصفية ، وللشافعية الوجوه السابقة(٧) في الثمرة.

ولو اشترى أرضاً للتجارة وزرعها ببذر القُنية فعليه العُشر في الزرع ، وزكاة التجارة في الأرض ، ولا تسقط زكاة التجارة عن الأرض بأداء العُشر إجماعاً.

ه- الدَّين لا يمنع من زكاة التجارة كما لا يمنع من زكاة العين.

____________________

(١ و ٢ ) المجموع ٦ : ٥٢ ، فتح العزيز ٦ : ٨٣.

(٣) أي : الوجهان اللذان تقدّما آنفاً.

(٤) المجموع ٦ : ٥٢ ، فتح العزيز ٦ : ٨٣ - ٨٤.

(٥ و ٦ ) زيادة يقتضيها السياق.

(٧) سبق في المسألة ١٥٤ الوجهان للشافعي ، وانظر : فتح العزيز ٦ : ٨٣ ، والمجموع ٦ : ٥٢.

٢٢٩

الفصل الثاني

في باقي الأنواع التي تستحب فيها الزكاة‌

مسألة ١٥٧ : كلّ ما يخرج من الأرض من الغلّات غير الأربع تستحب فيها الزكاة‌ إن كان ممّا يكال أو يوزن كالعدس والماش والاُرز والذرّة وغيرها بشرط بلوغ النصاب في الغلّات الأربع - وهو خمسة أوسق - لعموم قولهعليه‌السلام : ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة )(١) .

والقدر المخرج هو العشر إن سقي سيحاً أو بعلاً أو عذياً ، ونصفه إن سقي بالقرب والدوالي كما في الغلّات.

ولو اجتمعا حكم للأغلب ، فإن تساويا قسّط ويؤخذ من نصفه العشر ومن نصفه نصف العُشر ، وتثبت بعد إخراج المؤن كالواجب.

ولا زكاة في الخُضراوات.

وفي ضمّ ما يزرع مرّتين في السنة كالذرّة بعضه مع بعض نظر ، وكذا الدّخن ، والأقرب : الضمّ ، لأنّها في حكم زرع عام واحد.

____________________

(١) صحيح البخاري ٢ : ١٣٣ ، صحيح مسلم ٢ : ٦٧٣ / ٩٧٩ ، سنن أبي داود ٢ : ٩٤ / ١٥٥٨ ، سنن الترمذي ٣ : ٢٢ / ٦٢٦ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٧٢ / ١٧٩٤ ، سنن الدارقطني ٢ : ٩٩ / ٢٠ ، مسند أحمد ٢ : ٤٠٣ ، و ٣ : ٩٧ ، وسنن البيهقي ٤ : ١٢١.

٢٣٠

ويدلّ على استحباب الزكاة بعد ما تقدّم : قول الصادقعليه‌السلام : « كلّ ما كيل بالصاع فبلغ الأوساق فعليه الزكاة » وقال : « جعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الصدقة في كلّ شي‌ء أنبتته الأرض إلّا الخضر والبقول وكلّ شي‌ء يفسد من يومه »(١) .

وقالعليه‌السلام وقد سأله زرارة في الذرة شي‌ء؟ فقال : « الذرّة والعدس والسّلت والحبوب فيها مثل ما في الحنطة والشعير ، وكلّ ما كيل بالصاع فبلغ الأوساق التي تجب فيها الزكاة فعليه فيه الزكاة»(٢) .

أمّا الخُضر فلا زكاة فيها إلّا أن تباع ، ويحول على ثمنها الحول ، وتكون الشرائط موجودةً فيه ، لقول الصادقعليه‌السلام : « ليس على الخضر ولا على البطيخ ولا على البقول وأشباهه زكاة إلّا ما اجتمع عندك من غلّة فبقي عندك سنة »(٣) .

وسأل زرارة الصادقعليه‌السلام هل في القَضْب(٤) شي‌ء؟ قال : « لا »(٥) .

وسأل الحلبي ، الصادقعليه‌السلام ما في الخضرة؟ قال : « وما هي؟ » قلت : القضب والبطيخ ومثله من الخضر. فقال : « لا شي‌ء عليه إلّا أن يباع مثله بمال فيحول عليه الحول ففيه الصدقة » وعن شجر العضاة(٦) من الفرسك(٧) وأشباهه فيه زكاة؟ قال : « لا » قلت : فثمنه(٨) ؟ قال : « ما حال‌

____________________

(١) التهذيب ٤ : ٦٥ / ١٧٦ ، والكافي ٣ : ٥١٠ / ٢.

(٢) التهذيب ٤ : ٦٥ / ١٧٧.

(٣) الكافي ٣ : ٥١١ / ١ ، التهذيب ٤ : ٦٦ / ١٧٩.

(٤) القضب : كلّ نبت اقتضب واُكل طريّاً. مجمع البحرين ٢ : ١٤٤ « قضب ».

(٥) التهذيب ٤ : ٦٦ / ١٨٠.

(٦) العضاة : كلّ شجر يعظم وله شوك. الصحاح ٦ : ٢٢٤٠ « عضه ».

(٧) الفرسك : ضرب من الخوخ ليس يتفلّق عن نواه. الصحاح ٤ : ١٦٠٣ « فرسك ».

(٨) في « ف » والتهذيب : قيمته.

٢٣١

عليه الحول من ثمنه فزكِّه »(١) .

مسألة ١٥٨ : لا تجب الزكاة في الخيل‌ بإجماع أكثر العلماء ، وبه قال - في الصحابة - عليعليه‌السلام وعمر وابنه ، وفي التابعين : عمر بن عبد العزيز وعطاء والنخعي والشعبي والحسن البصري ، وفي الفقهاء : مالك والشافعي والأوزاعي والليث بن سعد واحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو يوسف ومحمد(٢) .

لما رواه عليعليه‌السلام : « أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق »(٣) .

وقالعليه‌السلام : ( ليس في الجَبْهة ولا في النخّة ولا في الكسعة صدقة )(٤) والجبهة : الخيل ؛ والنخة : الرقيق ، والكسعة : الحمير(٥) .

وقال ابن قتيبة : هي العوامل من الإِبل والبقر والحمير.

ومن طريق الخاصة قول الباقرعليه‌السلام : « وليس في الحيوان غير هذه الثلاثة الأصناف شي‌ء »(٦) وعنى الإِبل والبقر والغنم.

وللأصل ، ولأنّ كلّ جنس لا تجب الزكاة في ذكورة إذا انفردت لا تجب في إناثه ، ولكونه كالحُمُر.

وقال أبو حنيفة : إن كانت ذكوراً وإناثاً وجب فيها ، وإن كانت إناثاً منفردة فروايتان ، وكذا إن كانت ذكوراً منفردة ؛ لما رواه الصادقعليه‌السلام عن الباقر‌

____________________

(١) الكافي ٣ : ٥١٢ / ٣ ، التهذيب ٤ : ٦٧ / ١٨٢.

(٢) المغني ٢ : ٤٨٦ - ٤٨٧ ، المجموع ٥ : ٣٣٩ ، بداية المجتهد ١ : ٢٥٢ ، بدائع الصنائع ٢ : ٣٤ ، حلية العلماء ٣ : ١٣.

(٣) سنن البيهقي ٤ : ١١٨ ، وشرح معاني الآثار ٢ : ٢٨ ، ومسند أحمد ١ : ١٢١ و ١٤٥.

(٤) سنن البيهقي ٤ : ١١٨ ، وغريب الحديث - للهروي - ١ : ٧.

(٥) قاله أبو عبيدة كما في غريب الحديث - للهروي - ١ : ٧.

(٦) التهذيب ٤ : ٢ / ٢ ، الاستبصار ٢ : ٢ / ٢.

٢٣٢

عليه‌السلام عن جابر أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ( في الخيل السائمة في كلّ فرس دينار )(١) .

ولأنّه يطلب نماؤه من جهة السوم فأشبه النعم(٢) .

والحديث محمول على الاستحباب ، والنعم يضحّى بجنسها ، وتجب(٣) فيها من عينها ، بخلاف الخيل.

مسألة ١٥٩ : أجمع علماؤنا على استحباب الزكاة في الخيل بشروط ثلاثة : السوم والأنوثة والحول ، لأنّ زرارة قال للصادقعليه‌السلام : هل في البغال شي‌ء؟ قال : « لا » فقلت : فكيف صار على الخيل ولم يصر على البغال؟ فقال : « لأنّ البغال لا تلقح ، والخيل الإِناث ينتجن ، وليس على الخيل الذكور شي‌ء » قال ، قلت : هل على الفرس والبعير يكون للرجل يركبها شي‌ء؟ فقال : « لا ، ليس على ما يعلف شي‌ء ، إنّما الصدقة على السائمة المرسلة في مرجها(٤) عامها الذي يقتنيها فيه الرجل ، فأمّا ما سوى ذلك فليس فيه شي‌ء »(٥) .

مسألة ١٦٠ : قدر المخرج عن الخيل‌ عن كلّ فرس عتيق ديناران في كلّ حول ، وعن البرذون دينار واحد عند علمائنا ، لقول الباقر والصادقعليهما‌السلام : « وضع أمير المؤمنينعليه‌السلام على الخيل العتاق الراعية في كلّ‌

____________________

(١) سنن البيهقي ٤ : ١١٩.

(٢) المغني ٢ : ٤٨٦ - ٤٨٧ ، بدائع الصنائع ٢ : ٣٤ ، حلية العلماء ٣ : ١٣ - ١٤ ، فتح الباري ٣ : ٢٥٥.

(٣) أي : تجب الزكاة.

(٤) ورد في النُسخ الخطية المعتمدة في التحقيق ، والطبعة الحجرية : مراحها. وما أثبتناه من المصادر ، والمرج : الموضع الذي ترعى فيه الدواب. الصحاح ١ : ٣٤٠ ، القاموس المحيط ١ : ٢٠٧ « مرج ».

(٥) الكافي ٣ : ٥٣٠ / ٢ ، التهذيب ٤ : ٦٧ - ٦٨ / ١٨٤.

٢٣٣

فرس في كلّ عام دينارين ، وجعل على البراذين ديناراً »(١) .

وقال أبو حنيفة : يتخيّر صاحبها إن شاء أعطى من كلّ فرس ديناراً ، وإن شاء قوّمها وأعطى ربع عُشر قيمتها ؛ لما رواه جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام عن أبيه الباقرعليه‌السلام عن جابر : ( أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ( في الخيل السائمة في كلّ فرس دينار )(٢) .

وهو دليل لنا لا له.

مسألة ١٦١ : العقار المتّخذ للنماء تستحب الزكاة في حاصله‌ ، ولا يشترط فيه الحول ولا النصاب ؛ للعموم ، بل يخرج ممّا يحصل منه ربع العُشر ، فإن بلغ نصاباً وحال عليه الحول وجبت الزكاة ، لوجود المقتضي ، ولا تستحب الزكاة في شي‌ء غير ذلك من الأثاث والأمتعة والأقمشة المتّخذة للقنية بإجماع العلماء.

____________________

(١) الكافي ٣ : ٥٣٠ / ١ ، التهذيب ٤ : ٦٧ / ١٨٣ ، الاستبصار ٢ : ١٢ / ٣٤.

(٢) بدائع الصنائع ٢ : ٣٤ ، المغني ٢ : ٤٨٦ - ٤٨٧ ، فتح الباري ٣ : ٢٥٥ ، حلية العلماء ٣ : ١٤ ، وانظر أيضاً : سنن البيهقي ٤ : ١١٩.

٢٣٤

٢٣٥

المقصد الرابع

في الإِخراج‌

وفيه فصول :

الأول : في من تخرج الزكاة إليه.

وفيه مباحث‌

٢٣٦

٢٣٧

الأول : في الأصناف‌

مسألة ١٦٢ : أصناف المستحقين للزكاة ثمانية‌ بإجماع العلماء ، وهُم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله :( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) (١) .

وقد اختلف الفقهاء في الفقراء والمساكين أيّهما أسوأ حالاً ، فقال الشيخ : الفقير : الذي لا شي‌ء له ، والمسكين هو : الذي له بُلغة من العيش لا تكفيه(٢) . فجعل الفقير أسوأ حالاً ، وبه قال الشافعي والأصمعي(٣) ، لأنّه تعالى بدأ به ، والابتداء يدلّ على شدّة العناية والاهتمام في لغة العرب.

ولأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله استعاذ من الفقر(٤) ، وقال : ( اللّهم أحيني مسكيناً ، وأمتني مسكيناً ، واحشرني في زمرة المساكين )(٥) .

____________________

(١) التوبة : ٦٠.

(٢) المبسوط للطوسي ١ : ٢٤٦ ، الجمل والعقود ( الرسائل العشر ) : ٢٠٦.

(٣) المجموع ٦ : ١٩٦ - ١٩٧ ، حلية العلماء ٣ : ١٥١ - ١٥٢ ، المغني ٧ : ٣١٣.

(٤) سنن النسائي ٨ : ٢٦١ ، سنن البيهقي ٧ : ١٢ ، المستدرك - للحاكم - ١ : ٥٤٠ - ٥٤١ ، مسند أحمد ٢ : ٣٠٥ ، ٣٢٥ ، ٣٥٤.

(٥) سنن الترمذي ٤ : ٥٧٧ / ٢٣٥٢ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٣٨١ / ٤١٢٦ ، سنن البيهقي ٧ : ١٢ ، المستدرك - للحاكم - ٤ : ٣٢٢.

٢٣٨

ولقوله تعالى( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ) (١) وهي تساوي جملة من المال.

ولأنّ الفقر مشتق من كسر الفقار وذلك مهلك.

وقال آخرون : المسكين أسوأ حالاً من الفقير(٢) . وبه قال أبو حنيفة والفراء وثعلب وابن قتيبة ، واختاره أبو إسحاق(٣) ؛ لقوله تعالى( أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ) (٤) وهو المطروح على التراب ، لشدّة حاجته ، ولأنّه يؤكّد به ، ولقول الشاعر :

أمّا الفقير الذي كانت حلوبته

وفق العيال فلم يترك له سبد(٥)

والمروي عن أهل البيتعليهم‌السلام هذا ، قال الصادقعليه‌السلام : « الفقير : الذي لا يسأل ، والمسكين أجهد منه ، والبائس أجهدهم »(٦) .

ولا فائدة للفرق بينهما في هذا الباب ؛ لأنّ الزكاة تدفع إلى كُلّ منهما ، والعرب تستعمل كلّ واحد منهما في معنى الآخر.

نعم يحتاج إلى الفرق بينهما في باب الوصايا والنذور وغيرهما ، والضابط في الاستحقاق : عدم الغنى الشامل لهما.

مسألة ١٦٣ : قد وقع الإِجماع على أنّ الغني لا يأخذ شيئاً من الزكاة‌ من‌

____________________

(١) الكهف : ٧٩.

(٢) منهم : الشيخ المفيد في المقنعة : ٣٩ ، وسلّار في المراسم : ١٣٢.

(٣) المبسوط - للسرخسي - ٣ : ٨ ، اللباب ١ : ١٥٣ - ١٥٤ ، المجموع ٦ : ١٩٦ ، حلية العلماء ٣ : ١٥٢ ، المغني ٧ : ٣١٣ ، تفسير غريب القرآن - لابن قتيبة - : ١٨٨ ، أحكام القرآن - للجصّاص - ٣ : ١٢٢.

(٤) البلد : ١٦.

(٥) البيت للراعي ، كما في تهذيب اللغة - للأزهري - ٩ : ١١٤.

(٦) الكافي ٣ : ٥٠١ / ١٦ ، التهذيب ٤ : ١٠٤ / ٢٩٧.

٢٣٩

نصيب الفقراء ؛ للآية(١) ، ولقولهعليه‌السلام : ( لا تحلّ الصدقة لغني )(٢) .

ولكن اختلفوا في الغنى المانع من الأخذ ، فللشيخ قولان ، أحدهما : حصول الكفاية حولاً له ولعياله(٣) ، وبه قال الشافعي ومالك(٤) ، وهو الوجه عندي ، لأنّ الفقر هو الحاجة.

قال الله تعالى( يا أَيُّهَا النّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ ) (٥) أي المحاويج إليه ، ومن لا كفاية له محتاج.

وقولهعليه‌السلام : ( لا تحلّ الصدقة إلّا لثلاثة : رجل أصابته فاقة حتى يجد سداداً من عيش ، أو قواماً من عيش )(٦) .

ومن طريق الخاصة قول الصادقعليه‌السلام : « لا تحل(٧) لغني » يعني الصدقة ، قال هارون بن حمزة فقلت له : الرجل يكون له ثلاثمائة درهم في بضاعته وله عيال ، فإن أقبل عليها أكلها عياله ولم يكتفوا بربحها؟ قال : « فلينظر ما يستفضل منها فيأكله هو ومن يسعه ذلك ، وليأخذ لمن لم يسعه من عياله »(٨) .

____________________

(١) التوبة : ٦٠.

(٢) سنن أبي داود ٢ : ١١٨ / ١٦٣٤ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٨٩ / ١٨٣٩ ، سنن الترمذي ٣ : ٤٢ / ٦٥٢ ، سنن النسائي ٥ : ٩٩ ، المستدرك - للحاكم - ١ : ٤٠٧ ، مسند أحمد ٢ : ١٦٤ ، ١٩٢ ، ٣٨٩ و ٥ : ٣٧٥.

(٣) الخلاف ، كتاب قسم الصدقات ، المسألة ٢٤ ، المبسوط للطوسي ١ : ٢٥٦.

(٤) المجموع ٦ : ١٩٣ ، حلية العلماء ٣ : ١٥٣ ، المغني ٢ : ٥٢٢ و ٧ : ٣١٥ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٨٩.

(٥) فاطر : ١٥.

(٦) صحيح مسلم ٢ : ٧٢٢ / ١٠٤٤ ، سنن أبي داود ٢ : ١٢٠ / ١٦٤٠ ، سنن الدارقطني ٢ : ١٢٠ / ٢ ، سنن الدارمي ١ : ٣٩٦ ، وفيها بدل ( لا تحل الصدقة ) : ( لا تحل المسألة ).

(٧) في المصدر : « لا تصلح ».

(٨) التهذيب ٤ : ٥١ / ١٣٠.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611