الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 611

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 611
المشاهدات: 127744
تحميل: 5336


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 611 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127744 / تحميل: 5336
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 4

مؤلف:
العربية

معيشتهم والوصول إلى لقمة العيش.

فيرد القرآن على ذلك مبينا أنّنا حتى لو فرضنا أنّهم كذلك ، فان حسابهم على الله ، ما دام هؤلاء قد آمنوا وأصبحوا في صفوف المسلمين ، فلا يجوز طردهم بأي ثمن ، وبهذا يقف في وجه إحتجاج أشراف قريش.

وشاهد هذا التّفسير ما جاء في حكاية النّبي نوحعليه‌السلام التي تشبه حكاية أشراف قريش ، فأولئك كانوا يقولون لنوح :( أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ) فيرد عليهم نوح قائلا :( وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ، وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ) (1) .

من هنا يجب على الأنبياء أن يتقبلوا كل امرئ يظهر الإيمان بدون أي تمييز ومن أية طبقة كان فكيف بالمؤمنين الأطهار الذين لا يريدون إلّا وجه الله ، وكل ذنبهم هو أنّهم فقراء صفر اليدين من الثروة ، ولم يتلوثوا بالحياة الدنيئة لطبقة الأشراف!

امتياز كبير للإسلام :

إنّنا نعلم أنّ دائرة صلاحيات رجال الدين المسيحيين المعاصرين قد اتسعت اتساعا مضحكا بحيث إنّهم أعطوا أنفسهم حق غفران الذنوب ، فبإمكانهم طرد الأشخاص وتكفيرهم أو قبولهم لأتفه الأمور.

إلّا أنّ القرآن ، في هذه الآية وفي آيات أخرى ينفي صراحة أن يكون لأحد الحقّ ، بل ولا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه في أن يطرد أحدا أظهر إيمانه ولم يفعل ما يوجب إخراجه من الإسلام ، وأن غفران الذنوب والحساب بيد الله وحده ، ولا يحق لأحد التدخل في هذا أبدا.

والكلام هنا على «الطرد الديني» لا «الطرد الحقوقي» فلو كانت إحدى

__________________

(1) الشعراء ، الآيات 111 ـ 114.

٣٠١

المدارس وقفا على طبقة خاصّة من الطلاب ، وقبل أحدهم فيها لتوفر شروط القبول فيه ، ثمّ فقد بعض تلك الشروط ، فان طرده وإخراجه من تلك المدرسة لا مانع فيه ، كذلك لو أنّ مدير مدرسة أعطيت له صلاحيات معينة لغرض إدارة شؤونها ، فله كل الحقّ في الاستفادة من تلك الصلاحيات لحفظ النظام ورعاية مصالح المدرسة (فما ورد في حديث صاحب تفسير المنار عند تفسيره الآية ممّا يخالف هذا المعنى ناشي من الاشتباه بين الطرد الديني والطرد الحقوقي).

الآية الثّانية يحذر فيها القرآن أصحاب المال والثروة من أن هذه الأمور اختبار لهم ، فإذا لم يجتازوا الامتحان فعليهم أن يتحملوا العواقب المؤلمة ، فالله يمتحن بعضهم ببعض :( وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ) .

«الفتنة» تعني هنا الامتحان(1) وأي إمتحان أصعب ممّا يمر به الأغنياء الذين كانوا قد اعتادوا لسنوات طويلة على الترفع على الطبقات الدنيا ، فلا يشاركونهم أفراحهم وأتراحهم ، بل حتى أنّهم يبعدون قبور موتاهم عن قبورهم ، أمّا الآن فيطلب منهم أن يتخلوا عن كل ذلك وأن يحطموا كل تلك العادات والسنن ، ويكسروا القيود والسلاسل ليلتحقوا بدين طلائعه من الفقراء ومن يسمون بالطبقة الدنيا.

ثمّ تضيف الآية أنّ الأمر يصل بهؤلاء إلى أنّهم ينظرون إلى المؤمنين الصادقين نظرة احتقار( لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا ) (2) ؟!

ثمّ تجيب الآية على المعترضين مؤكدة أنّ هؤلاء الأشخاص أناس شكروا نعمة التشخيص الصحيح بالعمل ، كما أنّهم شكروا نعمة دعوة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقبولها ، فأي نعمة أكبر ، وأي شكر أرفع ، ولذلك رسخ الله الإيمان في قلوبهم :( أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ) .

* * *

__________________

(1) لمزيد من الشرح انظر المجلد الثّاني في تفسير الآيتين 191 و 193 من سورة البقرة.

(2) أشرنا في تفسير الآية 164 من سورة آل عمران إلى أنّ «المنة» تعني في الأصل النعمة يهبها الله.

٣٠٢

الآيتان

( وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) )

التّفسير

يرى بعض المفسّرين أنّ الآية نزلت بشأن الذين نهت الآيات السابقة عن طردهم وإبعادهم ، ويرى بعض آخر أنّها نزلت في فريق من المذنبين قدموا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : إنّهم قد أذنبوا كثيرا ، فسكت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى نزلت الآية.

ومهما يكن سبب نزول الآية ، فالذي لا شك فيه أنّ معناها واسع وشامل ، لأنّها تبدأ أوّلا بالطلب من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يطرد المذنبين مهما عظمت ذنوبهم ، بل عليه أن يستقبلهم ويتقبلهم :( وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) .

يحتمل أن يكون هذا السّلام من الله بوساطة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو أنّه من الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة ، وهو ـ على كلا الاحتمالين دليل على القبول والترحيب

٣٠٣

والتفاهم والمحبّة.

ثمّ تقول الآية( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) .

«كتب» تأتي في كثير من الأحيان كناية عن الإلزام والتعهد ، إذ إنّ من نتائج الكتابة توكيد الأمر وثبوته.

وفي الجزء الأخير من الآية ـ وهو توضيح وتفسير لرحمة الله ـ يتحدث بلهجة عاطفية :( أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وقد سبق القول(1) أنّ «الجهالة» في مثل هذه المواضع تعني طغيان الشهوة وسيطرتها ، والإنسان بسبب هذه الأهواء المستفحلة ، لا بسبب عدائه لله وللحق ـ يفقد المقدرة العقيلة والسيطرة على الشهوات ، مثل هذا الشخص ـ وإن كان عالما بالذنب والحرمة ـ يسمى جاهلا ، لأنّ علمه مستتر وراء حجب الأهواء والشهوات ، وهذا الشخص مسئول عن ذنوبه ، ولكنّه يسعى لإصلاح نفسه وجبران أخطائه لأنّ أفعاله لم تكن عن روح عداء وخصام.

تأمر الآية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يطرد أي شخص مؤمن مهما تكن طبقته وظروفه وعنصره ، بل عليه أن ينظر إلى الجميع بعين المساواة ، وأن يحتضنهم ويعمل على إصلاحهم حتى وإن كانوا ملوثين بالذنوب.

الآية التّالية ومن أجل توكيد هذا الموضوع تشير إلى أنّ الله سبحانه يوضح آياته وأوامره توضيحا بيّنا لكي يتبيّن طريق الباحثين عنه والمطيعين له ، كما يتبيّن طريق الآثمين المعاندين من أعداء الله :( وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ) (2) .

__________________

(1) المجلد الثّالث من هذا التّفسير.

(2) جملة «ولتستبين» معطوفة في الواقع على جملة محذوفة تدرك بالقرينة ، فيكون المعنى لتستبين سبيل المؤمنين المطيعين ولتستبين سبيل المجرمين.

٣٠٤

من الواضح في هذه الآية أنّ «المجرم» ليس كل مذنب ، لأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكلّف في هذه الآية أن يتقبل المذنبين الذين يقبلون عليه ، مهما يكن جرمهم الذي ارتكبوه عن جهل ، وعليه فان المجرمين هنا هم أولئك المذنبون المعاندون الذين لا يستسلمون للحق.

أي بعد هذه الدعوة العامّة إلى الله ، التي تشمل حتى المجرمين النادمين يتّضح بشكل كامل طريق المعاندين الذين لا يرجعون عن عنادهم.

* * *

٣٠٥

الآيات

( قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) )

التّفسير

الإصرار العقيم :

ما يزال الخطاب في هذه الآيات موجها إلى المشركين وعبدة الأصنام المعاندين ـ كدأب معظم آيات هذه السورة ـ يبدو من سياق هذه الآيات أنّهم دعوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى اعتناق دينهم ، الأمر الذي يستدعي نزول الآية :( قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) (1) .

__________________

(1) استعمال «الذين» التي هي للجمع المذكر العاقل ، لا للإشارة إلى الأصنام ، يدل على أنّ الكلام يجري وفق وجهة نظر المشركين.

٣٠٦

جملة «نهيت» التي وردت بصيغة الماضي ومبنية للمجهول تشير إلى أنّ النهي عن عبادة الأصنام ليس أمرا جديدا ، بل كان دائما قائما وسيبقى كذلك.

ثمّ بجملة( قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ ) يجيب بوضوح على إصرارهم العقيم ، بالنظر لأنّ عبادة الأصنام لا تتفق مع المنطق ولا مع الأدلة العقلية ، لأنّ العقل يدرك بسهولة أن الإنسان أشرف من الجماد ، فكيف يمكن للإنسان أن يخضع لأي مخلوق آخر فضلا عن المخلوق الأدني؟ هذا مع أنّ هذه الأصنام هي من صنع الإنسان نفسه فكيف يتخذ الإنسان ما خلقه بنفسه معبودا يعبده ويلجأ إليه في كل مشاكله؟ وبناء على ذلك ، فإنّ منشأ عبادة الأصنام ليس سوى التقليد الأعمى والإتّباع المقيت للأهواء والشهوات.

وفي ختام الآية يؤكّد القرآن مرّة أخرى على أنّه إذا فعل ذلك( قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ) .

الآية التّالية تتضمّن جوابا آخر ، وهو :( قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ) .

«البيّنة» أصلا ما يفصل بين شيئين بحيث لا يكون بينهما تمازج أو اتصال ، ثمّ أطلقت على الدليل والحجة الواضحة ، لأنّها تفصل بين الحق والباطل.

وفي المصطلح الفقهي تطلق «البيّنة» على الشاهدين العدلين ، غير أنّ معنى الكلمة اللغوي واسع جدا ، وشهادة العدل واحد من تلك المعاني ، وكذلك كانت المعجزة بيّنة لأنّها تفصل بين الحق والباطل ، وإذا قيل للآيات والأحكام الإلهية بينات فلكونها من مصاديق الكلمة الواسعة.

وعليه ، فرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤمر في هذه الآية أن يقول : إنّ دليلي في قضية عبادة الله ومحاربة الأصنام واضح وبيّن ، وان تكذيبكم وإنكاركم لا يقللان من صدق الدليل.

ثمّ يشير إلى حجّة واهية أخرى من حججهم ، وهي أنّهم كانوا يقولون : إن

٣٠٧

كنت على حق فعلا فعجل بالعقاب الذي تتوعدنا به ، فيقول لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ) ، لأنّ الأعمال والأوامر كلها بيد الله :( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) .

وبعد ذلك يقول مؤكدا : إنّ الله هو الذي :( يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ ) .

بديهي أنّ القادر على أن يفصل بين الحق والباطل على خير وجه هو الذي يكون أعلم الجميع ، ومن السهل عليه التمييز بين الحق والباطل ، ثمّ تكون له القدرة الكافية على استخدام علمه ، وهاتان الصفتان (العلم والقدرة) هما من صفات الذات الإلهية اللامحدودة ، وعليه فإنّهعزوجل خير من يقص الحق ، أي يفصل الحق من الباطل.

الآية التّالية تأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول لهؤلاء الجماعة الملحاحة العنيدة الجاهلة : لو أن ما تطلبونه مني على عجل كان في سعتي وقدرتي ، وأجبتكم إليه لانتهى الأمر ، ولم يعد بيني وبينكم شيء :( قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ) .

ولكيلا يظنوا أن عقابهم قد طواه النسيان ، يقول في النهاية( وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ) وسوف يعاقبهم في الوقت المناسب.

* * *

بحوث

هنا لا بدّ من ذكر بعض النقاط :

1 ـ يستفاد من آيات القرآن أنّ كثيرا من الأمم الماضية طلبوا مثل هذا الطلب من أنبيائهم ، وهو : إذا كنت صادقا فيما تقول فلما ذا لا ترسل علينا العقاب الذي تتوعدنابه؟

٣٠٨

قوم نوحعليه‌السلام طلبوا منه ذلك( قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) (1) ونظير ذلك جاء على لسان قوم صالح(2) وكذلك فعل قوم عاد مع نبيّهم هود(3) .

ويستفاد من سورة الإسراء أنّ هذا الطلب قد تكرر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى أنّهم قالوا له : إننا لا نؤمن لك( أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً ) (4) .

كان الدافع إلى هذه الطلبات غير المعقولة السخرية والاستهزاء ، أو الرغبة في رؤية المعجزة ، وفي كلتا الحالتين كان الطلب أحمقا ، إذ في الحالة الثانية يكون تحقق الطلب سببا في إبادتهم ، ولا يكون ثمّة مجال للاستفادة من ظهور المعجزة ، وفي الحالة الأولى كان لدى الأنبياء أدلة بينة توفر ـ على الأقل ـ احتمال التصديق عند كل ناظر بصير ، فكيف يمكن مع هذا الاحتمال أن يطلب أحد القضاء على نفسه ، أو أن لا يأخذ المسألة مأخذ الجد ، غير أنّ التعصب والعناد بلاء عظيم يقفان بوجه كل فكر ومنطق.

2 ـ إنّ معنى( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) واضح ، أي أنّ كل أمر في عالم الخلق والتكوين وفي عالم الأحكام والتشريع بيد الله ، وبناء على ذلك إذا كان لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقوم بمهمّة فذلك أيضا بأمر من الله.

فإذا أحيا المسيحعليه‌السلام ميتا ـ مثلا ـ فهو بإذن الله ، وكذلك كل منصب ـ بما في ذلك القيادة الإلهية والتحكيم والقضاء ـ إذا أوكل إلى أحد ، فإنّما هو بأمر الله تعالى.

ولكنّ الذي يؤسف له أنّ هذه الآية الواضحة استغلت على مدى التّأريخ ، فمرّة تمسك بها الخوارج في قضية «الحكمين» التي أرادوها هم وأمثالهم في

__________________

(1) هود ، 32.

(2) الأعراف ، 77.

(3) الأعراف ، 70.

(4) الإسراء ، 91.

٣٠٩

حرب «صفين» فكانت «كلمة حق أريد بها باطل» كما قال الإمام عليعليه‌السلام ، حتى أصبح شعارهم (لا حكم إلّا لله).

لقد كانوا من الجهل والبلاهة إنّهم حسبوا أن من حكم بأمر الله والإسلام في أمر من الأمور يكون قد خالف( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) بينما كانوا يقرءون القرآن كثيرا ، ولكن لا يفهمونه إلّا قليلا ، فالقرآن نفسه في موضوع الاحتكام العائلي يصرح باختيار حكم من جانب الزوجة وحكم من جانب الزوج :( فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها ) (1) .

واعتبر بعض آخر هذه الآية ـ كما يقول الفخر الرازي في تفسيره ـ دليلا على الجبرية ، قائلين إنّنا إذا قبلنا بأنّ الأوامر في عالم الخلق بيد الله ، فلا يبقى لأحد مجال للاختيار.

ولكنّنا نعلم أنّ حرية إرادة عباد الله وحرية اختيارهم هي أيضا ، بأمر من الله الذي شاء أن يكونوا أحرارا في إختيار ما يعملون ، لكي يحملهم مسئولية أعمالهم والتكاليف الملقاة على عواتقهم.

3 ـ «يقص» في اللغة ترد بمعنى القطع ، وفي القاموس : «قص الشعر والظفر أي قطع منهما بالمقص أي المقراض» ، وعلى هذا يكون معنى و «يقص الحق» إنّ الله يقطع الحق عن الباطل ويفصل بينهما ، ولذلك يتلوها بقوله :( هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ ) للتوكيد ، فالفعل «يقص» هنا لا يعني سرد حكاية ، كما ظن بعض المفسّرين.

* * *

__________________

(1) النساء ، 35.

٣١٠

الآيات

( وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62) )

التّفسير

أسرار الغيب :

في هذه الآيات يدور الكلام حول علم الله وقدرته وسعة حكمه وأمره ، وهي تشرح ما أجملته الآيات السابقة.

٣١١

تشرع الآية في الكلام على علم الله فتقول :( وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُو ) .

«مفاتح» جمع «مفتح» (بكسر الميم وفتح التاء) وهو المفتاح ، أمّا إذا كانت بفتح الميم فهي بمعنى الخزانة التي تختزن فيها الأشياء.

وعلى الأوّل يكون المعنى : إنّ جميع مفاتيح الغيب بيد الله.

وعلى الثّاني يكون المعنى : إنّ جميع خزائن الغيب بيد الله.

ويحتمل أن يكون المعنيان قد اجتمعا في عبارة واحدة ، وكما هو ثابت في علم الأصول ، فإن استعمال لفظة واحدة لعدة معان لا مانع منه ، وعلى كل حال فهاتان الكلمتان متلازمتان ، لأنّه حيثما كانت الخزانة كان المفتاح.

وأغلب الظن أنّ «مفاتح» بمعنى «مفاتيح» لا بمعنى «خزائن» لأنّ الهدف هو بيان علم الله ، فتكون المفاتيح وسائل لمعرفة مختلف الذخائر وهو أنسب بالآية ، وفي موضعين آخرين في القرآن ترد كلمة «مفاتح» بمعنى المفاتيح(1) .

ثمّ لتوكيد ذلك أكثر يقول :( وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) .

«البرّ» كل مكان واسع فسيح ، وتطلق على اليابسة ، «والبحر» كذلك تعني المحل الواسع الذي يتجمع فيه الماء ، وتطلق على البحار والمحيطات وعلى الأنهر العظيمة أحيانا.

فالقول بأنّ الله يعلم ما في البر والبحر ، كناية عن إحاطته بكل شيء ، وهذه الإحاطة بما في البرّ والبحر إنّما تمثل في الحقيقة جانبا من علمه الأوسع.

فهو عالم بحركة آلاف الملايين من الكائنات الحية ، الكبيرة والصغيرة ، في أعماق البحار.

وهو عالم بارتعاش أوراق الأشجار في كل غابة وجبل.

وهو عالم بمسيرة كل برعمة وتفتح أوراقها.

__________________

(1)( ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ) (القصص ، 76) و( أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ ) (النّور ، 61).

٣١٢

وهو عالم بجريان النسيم في البوادي ومنعطفات الوديان.

وهو عالم بعدد خلايا جسم الإنسان وكريات دمه.

وهو عالم بكل الحركات الغامضة في الإلكترونات في قلب الذّرة.

وهو عالم بكل الحركات الغامضة في الإلكترونات في قلب الذّرة.

وهو عالم بكل الأفكار التي تمرّ بتلافيف أدمغتنا حتى أعماق أرواحنا نعم أنّه عالم بكل ذلك على حدّ سواء.

لذلك فإنّه يؤكّد ذلك مرّة أخرى فيقول :( وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها ) .

أي أنّه يعلم عدد الأوراق ولحظة انفصال كل ورقة عن غصنها وطيرانها في الهواء ، حتى لحظة استقرارها على الأرض ، كل هذا جلي أمام علم الله.

كذلك لا تختفي حبّة بين طيات التراب إلّا ويعلمها الله ويعلم كل تفاصيلها :( وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ ) .

التركيز هنا ـ في الحقيقة ـ على نقطتين حساستين لا يمكن أن يتوصل إليهما الإنسان حتى لو أمضى ملايين السنين من عمره يرتقي سلم الكمال في صنع أجهزته وأدواته المدهشة.

ترى من ذا الذي يستطيع أن يعرف كم تحمل الرياح معها في هبوبها على مختلف أصقاع الأرض في الليل والنهار ، من أنواع البذور المنفصلة عن نباتاتها؟ وإلى أين تحملها وتنشرها ، أو تدسها في التراب حيث تبقى سنوات مختفية ، حتى يتهيأ لها الماء فتنبت وتنمو؟

من ذا الذي يعلم كم من هذه البذور في كل أنحاء الدنيا تحمل عن طريق الإنسان أو الحشرات في كل ساعة من نقطة إلى نقطة أخرى؟

أي دماغ الكتروني هذا الذي يستطيع أن يحصي عدد أوراق الشجر التي تسقط كل يوم من أشجار الغابات؟ انظر إلى غابة من الغابات في الخريف ، وخاصّة بعد مطر شديد أو ريح عاصفة ، وتطلع إلى مشهد سقوط الأوراق المتواصل البديع ، عندئذ تتكشف لك هذه الحقيقة ، وهي أنّ علوما من هذا القبيل

٣١٣

لن تكون يوما في متناول يد الإنسان.

إنّ سقوط الورقة ـ في الحقيقة ـ هو لحظة موتها ، بينما سقوط البذرة في مكمنها من الأرض هو لحظة بدء حياتها ، وما من أحد غير الله يعلم بنظام هذا الموت وهذه الحياة ، وحتى أنّ كل خطوة تخطوها البذرة نحو حياتها وانبعاثها وتكاملها خلال اللحظات والساعات ، جلية في علم الله.

إنّ لهذا الموضوع أثرا «فلسفيا» وآخر «تربويا» : أمّا أثره الفلسفي ، فينفي رأي الذين يحصرون علم الله بالكليات ، ويعتقدون أنّه لا يعلم عن الجزئيات شيئا ، وفي الآية هنا تأكيد على أنّ الله يعلم الكليات والجزئيات كلها.

أمّا أثره التربوي فواضح ، لأنّ الإيمان بهذا العلم الواسع لله يقول للإنسان : إنّ جميع أسرار وجودك ، وأعمالك ، وأقوالك ونياتك ، وأفكارك كلّها بيّنة أمام الله ، فإذا آمن الإنسان حقّا بهذا ، فكيف يمكن له أن لا يكون رقيبا على نفسه ويسيطر على أعماله وأقواله ونياته!

وفي ختام الآية يقول تعالى :( وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) .

تبيّن هذه العبارة القصيرة سعة علم الله اللامحدود وإحاطته بكل الكائنات بدون أي استثناء ، إذ أن «الرطب» و «اليابس» لا يقصد بهما المعنى اللغوي ، بل هما كناية عن الشمول والعمومية.

وللمفسّرين آراء متعددة في معنى : «كتاب مبين» ، ولكنّ الأقوى أنّه كناية عن علم الله الواسع ، أي انّ كل الموجودات مسجلة في علم الله اللامحدود ، كما أنّه تفسر بكونه «اللوح المحفوظ» نفسه ، إذ لا يستبعد أن يكون اللوح المحفوظ هو صفحة علم الله.

وثمّة احتمال آخر عن معنى «كتاب مبين» وهو أنّه عالم الخلق وسلسلة العلل والمعلولات التي كتب فيها كل شيء.

٣١٤

جاء فيما روي عن أهل البيتعليهم‌السلام أنّ «الورقة» الساقطة بمعنى الجنين الساقط ، و «الحبّة» بمعنى الابن ، و «ظلمات الأرض» بمعنى رحم الأمّ ، و «رطب» ما بقي حيا من النطفة ، و «يابس» ما تلاشى من النطفة(1) .

لا شك أنّ هذا التّفسير لا ينسجم مع الجمود على المعاني اللغوية للآية ، إذ إنّ معنى «الورقة» و «الحبّة» و «ظلمات الأرض» و «الرّطب» و «اليابس» معروف ، ولكنّ أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام بهذا التّفسير أرادوا أن يوسعوا من آفاق نظرة المسلمين إلى القرآن ، وأن لا ينحصروا في إطار الألفاظ ، بل يتوسعوا في نظرتهم حين توجد قرائن على هذا التوسع.

الرّواية أعلاه تشير إلى أنّ معنى «الحبّة» لا ينحصر في بذور النباتات ، بل يشمل أيضا بذور النطف الإنسانية.

في الآية الثانية ينتقل الكلام إلى إحاطة علم الله بأعمال الإنسان وهو الهدف الأصلي وإلى بيان قدرة الله القاهرة ، لكي يستنتج الناس من هذا البحث الدروس التربوية اللازمة فتبدأ بالقول بأنّ الله هو الذي يقبض أرواحكم في الليل ، ويعلم ما تعملون في النهار :( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ) .

«توفى» تعني استرجع ، فالقول بأنّ النوم هو استرجاع للروح يعود إلى أنّ النوم أخو الموت ، كما هو معروف ، فالموت تعطيل كامل لجهاز الدماغ ، وانقطاع تام في ارتباط الروح بالجسد ، بينما النوم تعطيل قسم من جهاز الدماغ وضعف في هذا الارتباط ، وعليه فالنوم مرحلة صغيرة من مراحل الموت(2) .

«جرحتم» من «جرح» وهي هنا بمعنى الاكتساب ، أي أنّكم تعيشون تحت ظل قدرة الله وعلمه ليلا ونهارا ، وانّ الذي يعلم بانفلاق الحبّة ونموها في باطن الأرض ، ويعلم بسقوط أوراق الأشجار وموتها في أي مكان وزمان ، يعلم

__________________

(1) تفسير البرهان ، ج 1 ، ص 528.

(2) هناك شرح أو فى لهذا في المجلد الثاني.

٣١٥

بأعمالكم أيضا.

ثمّ يقول : إنّ نظام النوم واليقظة هذا يتكرر ، فأنتم تنامون في الليل( ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ) (1) أي ثمّ يوقظكم في النهار وتستمر هذه العملية حتى نهاية حياتكم.

ويبيّن القرآن النتيجة النهائية لهذا المبحث بالشكل التالي :( ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

وفي الآية الثّالثة توضيح أكثر لإحاطة علم الله بأعمال عباده وحفظها بكل دقة ليوم الحساب ، بعد أن يسجلها مراقبون مرسلون لإحصاء أعمالهم :( وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ) .

سبق أن قلنا إنّ «القاهر» هو المتسلط الغالب المهيمن الذي لا تقف أمامه أية قوّة ، ويرى بعضهم هذه الكلمة تستعمل حيث يكون المقهور عاقلا.

أمّا كلمة «الغالب» فليست فيها هذه الخصوصية ، فهي عامّة واسعة المعنى.

«حفظة» جمع «حافظ» وهم هنا الملائكة الموكّلون بحفظ أعمال الناس ، كما جاء في سورة الإنفطار ، الآيات 10 ـ 13 :( إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ ) .

ويرى بعض المفسّرين أنّهم لا يحفظون أعمال الإنسان ، بل هم مأمورون بحفظ الإنسان نفسه من الحوادث والبلايا حتى يحين أجله المعين ، ويعتبرون( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ) بعد «حفظة» قرينة تدل على ذلك ، كما يمكن اعتبار الآية (11) من سورة الرعد دليلا عليه كذلك(2) .

ولكنّ بالتدقيق في مجموع الآية التي نحن بصددها نتبيّن أنّ القصد من الحفظ هنا هو حفظ الأعمال ، أمّا بشأن الملائكة الموكّلين بحفظ الناس فسوف

__________________

(1) الضمير في «فيه» يعود على «النهار» و «يبعثكم» بمعنى يوقظكم وينهضكم ، و «أجل مسمى» هو العمر المحدد لكل فرد.

(2) تفسير الميزان ، ج 7 ، ص 134.

٣١٦

نشرحه بإذن الله عند تفسير سورة الرعد.

ثمّ يبيّن القرآن الكريم أن حفظ الأعمال يستمر حتى نهاية الأعمار وحلول الموت :( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا ) .

وتبيّن الآية في النهاية أنّ هؤلاء الملائكة لا يقصرون ولا يفرطون في مهمتهم ، فلا يتقدمون لحظة ولا يتأخرون في موعد قبض الروح.

ويحتمل أيضا أنّ هذه الصفة ترتبط بالملائكة الذين يحفظون حساب أعمال البشر ، فهم في حفظهم للحساب لا يصدر منهم أدنى تقصير أو قصور ، والآية تركز على هذا القسم بالذات.

في الآية الاخيرة يشير القرآن الكريم إلى آخر مراحل عمل الإنسان ، فيقول :( ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ ) أي عادوا إلى الله بعد أنّ طووا مرحلة حياتهم ، واختتم ملفهم الحاوي على كل شيء.

وفي تلك المحكمة يكون النظر في القضايا وإصدار الأحكام بيد الله :( أَلا لَهُ الْحُكْمُ ) .

وعلى الرغم من كل تلك الأعمال والملفّات المتراكمة عن أفراد البشر طوال تاريخهم الصاحب فانّ الله سريع في النظر فيها :( وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ ) .

لقد جاء في بعض الرّوايات : «إنّه سبحانه يحاسب جميع عباده في مقدار حلب شاة» أي أنّ ذلك لا يتجاوز فترة حلب شاة(1) .

وكما قلنا في تفسير الآية (202) من سورة البقرة ، إنّ إجراء الحساب من السرعة بحيث إنّه يمكن أن يتمّ في لحظة واحدة بالنسبة للجميع ، بل إن ذكر فترة حلب شاة في الرواية المذكورة يقصد منه بيان قصر الزمن اللازم لذلك ، وعلى هذا نقرأ في رواية أخرى : «إن الله تعالى يحاسب الخلائق كلّهم في مقدار لمح

__________________

(1) مجمع البيان ، ج 3 ، ص 313.

٣١٧

البصر»(1) .

والدليل على ذلك هو ما ذكرناه في تفسير هذه الآية ، وهو أنّ أعمال الإنسان تؤثر في وجوده وفي وجود الكائنات المحيطة به ، تماما مثل الماكنة التي تسجل مقدار حركتها في عداد متصل بها.

وبتعبير أوضح ، لو كانت هناك أجهزة دقيقة جدا لاستطاعت أن تسجّل في عين الإنسان عدد النظرات الآثمة ، وعلى الألسنة عدد الأكاذيب والافتراءات والتهم والطعون التي اقترفتها ، أي أن كل عضو من أعضاء الجسم فيه ـ بالإضافة إلى روحه ـ جهاز حاسب يكشف الحساب في لحظة واحدة.

وإذا جاء في بعض الرّوايات أنّ محاسبة المسؤولين والأغنياء تطول يوم القيامة فإن هذا لا يعني في الواقع طول زمن الحساب ، بل هو طول زمن المحاسبة عليهم ، إذ لا بدّ لهم من الإجابة على الأسئلة الكثيرة التي تلقى عليهم بشأن الأعمال التي ارتكبوها ، أي أن ثقل مسئولياتهم ولزوم إجابتهم على الأسئلة لإتمام الحجّة عليهم هي التي تطيل زمن محاكمتهم.

يؤلف مجموع هذه الآيات درسا تربويا كاملا لعباد الله في إحاطة علمه تعالى بأصغر ذرات هذا العالم وبأكبرها وقدرته وقهره لعباده ومعرفته بجميع أعمال البشر ، وقيام كتبة أمناء بحفظ أعمال الناس وقبض أرواحهم في لحظات معينة بالنسبة لكل منهم ، وبعثهم يوم القيامة ، ومن ثمّ محاسبتهم محاسبة دقيقة وسريعة.

كيف يمكن أن يؤمن الشخص بمجموع هذه المسائل ثمّ لا يراقب أعماله ، يظلم دون وازع ، ويكذب ويفتري ويعتدي على الآخرين؟

هل يجتمع كل هذا مع الإيمان والاعتقاد على صعيد واحد؟

* * *

__________________

(1) المصدر نفسه ، ج 1 ، ص 298.

٣١٨

الآيتان

( قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) )

التّفسير

النّور الّذي يضيء في الظلّام :

مرّة أخرى يأخذ القرآن بيد المشركين ويتوغّل بهم إلى أعماق فطرتهم ، وهناك في تلك الأغوار المحفوفة بالأسرار الغامضة يريهم نور التوحيد وعبادة الواحد الأحد ، فيقول للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قل لهم :( قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) ؟

إنّ الظلام يكون حسيا أحيانا ومعنويا أحيانا أخرى ، الظلام الحسي هو الذي يكون عند انقطاع النّور انقطاعا تاما ، أو يضعف بحيث لا يرى شيء ، أو يرى بالجهد الجهيد ، والظلام المعنوي هو المشاكل والصعوبات ذات النهايات المظلمة الغامضة ، الجهل الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية ، والانحرافات والفساد الأخلاقي التي لا يمكن التكهن بعواقبها السيئة ، أو التي تجر إلى التعاسة والشقاء كلّها ظلام.

٣١٩

إنّ الظلام بذاته مخيف مثير للأوهام والتخيلات ، فهجوم الكثير من الحيوانات الخطرة وسطوة اللصوص والمجرمين يقع تحت جنح الظلام ، أنّ لكل امرئ ذكرياته عن هذه الحالات ، فعند هبوط الظلام تنشط الأوهام وتخرج منها الأشباح المرعبة ، فيستولي الخوف والهلع على العامّة من الناس.

الظلام من العدم ، والإنسان يهرب بطبيعته من العدم ويخافه ، ولهذا نراه يخاف الظلام.

وإذا حدثت في هذا الظلام حوادث واقعية مرعبة ، كأن يكون الإنسان مسافرا في البحر ، وتحاصره في ليلة ظلماء الأمواج الهائلة والدوامات المائية ، فإنّ خوفه من ذلك يكون أضعاف ما لو حدث ذلك بالنهار ، لأنّ الإنسان في مثل هذه الظروف يجد أبواب النجاة مسدودة في وجهه ، وهكذا لو كان في ليلة حالكة الظلام يسير في الصحراء فيضل الطريق ويسمع زمجرة الوحوش المفترسة من هنا وهناك وهي تبحث عن فريسة ، في مثل هذه اللحظات ينسى الإنسان كل شيء ولا يعود يتذكر شيئا سوى نفسه ، والنّور الذي يسطع في أعماقه ويجذبه نحو المبدأ قادر على إزالة ما يعتوره من بلاء وضيق ، هذه الحالات تفتح نوافذ على عالم التوحيد ومعرفة الله ، لذلك يقول في أمثال هذه الحالات :( تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ) .

وتعقدون ـ وأنتم في تلك الحالة ـ عهدا وميثاقا على أنفسكم ، وتقولون :( لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) .

ثمّ تأمر الآية النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخبرهم أنّ الله سوف ينجيهم من هذه ومن غيرها من الأخطار ، وقد فعل ذلك من قبل مرارا ، ولكنّهم بعد زوال الخطر عنهم يعودون إلى طريق الشرك والكفر :( قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ) .

٣٢٠