الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 611

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 611
المشاهدات: 127691
تحميل: 5335


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 611 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127691 / تحميل: 5335
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 4

مؤلف:
العربية

ملاحظات :

هنا لا بدّ من الالتفات إلى عدّة نقاط :

1 ـ لعل ذكر «التضرع» وهو الدعاء علانية ، و «الخفية» هي الدّعاء في السرّ ، إشارة إلى أنّ المصائب تختلف ، فالتي لم تصل مرحلة شديدة قد تستدعي الدعاء خفية ، وعند ما تكون شديدة تحمل المرء على أن يرفع يديه بالدعاء جهرا ، وقد يصاحب ذلك البكاء والصراخ ، أي أنّ الله يحل مشاكلكم خفيفها وشديدها.

2 ـ يرى بعضهم أنّ الآية تشير إلى أربع حالات نفسية في الإنسان ، كل واحدة منها ردة فعل معينة لظهور المشاكل : حالة «الدعاء» وحالة «التضرع» وحالة «الإخلاص» وحالة «تقديم الشكر عند النجاة من الأخطار».

ولكنّ الذي يؤسف له أن هذه الحالات تمر ببعض الناس مرورا خاطفا وكأنّه حالات اضطرارية في مواجهة الأخطار والمشاكل ، وبما أنّها ليست مصحوبة بالوعي والإدراك ، فإنّها تخفت وتنطفئ بمجرّد انتهاء الأزمة.

وبناء على ذلك ، فإن هذه الحالات ، وان تكن خاطفة ، تستطيع أن تكون دليلا على معرفة الله لمن عسر عليه ادراك الدلائل الأخرى.

3 ـ «الكرب» في الأصل بمعنى حفر الأرض وقلبها ، وكذلك تعني العقدة المحكمة الشد في حبل الدلو ، ثمّ أطلقت بعد ذلك على الغم والهم والحزن التي تقلب قلب الإنسان وتثقل عليه كالعقدة.

لذلك فإنّ ذكر «الكرب» بما له من المعنى الواسع الذي يشمل أنواع المشاكل والأزمات بعد ذكر «ظلمات البرّ والبحر» والتي تشمل جانبا من المشاكل فقط ، يعتبر من قبيل ذكر مفهوم عام بعد بيان مفهوم خاص (تأمل بدقة).

وهذا يجدر بنا أنّ نذكر حديثا تورده بعض التفاسير في هذه الآية : روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «خير الدعاء الخفي وخير الرزق ما يكفي»(لا الثروات الضخمة التي هي حصيلة حرمان الآخرين ، وتكون عبئا على كاهل

٣٢١

الإنسان) ، وروي أيضا أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ بقوم رفعوا أصواتهم بالدعاء فقال : «إنّكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا ، وإنّما تدعون سميعا قريبا»(1) .

يستفاد من هذا الحديث أنّ خير الدعاء ما كان خفيا مقترنا بتوجه وإخلاص.

* * *

__________________

(1) تفسير مجمع البيان ونور الثقلين في تفسير الآية.

٣٢٢

الآية

( قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) )

التّفسير

ألوان العذاب :

في الآيات السابقة التي تتضمن بيان التوحيد الفطري تتجلى محبّة الله لعباده ، وحنوه عليهم عند الشّدائد والصعاب ، واستجابته لدعواتهم.

وفي هذه الآية تركيز على التهديد بعذاب الله وعقابه ، من أجل إكمال طرق التربية والتهذيب ، أي أنّ الله وهو أرحم الراحمين وملجأ اللاجئين ، قهار منتقم مقابل الطغاة العصاة ، ففي هذه الآية يؤمر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتهديد المجرمين بثلاثة أنواع من العقاب : عذاب من فوق ، وعذاب من تحت ، وعقاب يتمثل في اختلاف الكلمة والحرب وإراقة الدماء :( قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) .

وفي الختام تقول الآية :( انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ) ، أي انظر كيف نوضح لهم المعالم والدلائل على أمل أن يفهموا الحقائق ويعودا إلى الله.

٣٢٣

بحوث

هنا أيضا لا بدّ من الإشارة إلى بعض النقاط :

1 ـ هنالك اختلاف بين المفسّرين بشأن المقصود من العذاب من فوق ومن تحت ، ويظهر أنّ لهاتين الكلمتين معاني واسعة ، فهما تشملان الجهتين الماديتين من السماء ومن الأرض كالصواعق والأمطار الغزيرة والعواصف المدمّرة التي يأتي من فوق ، والزلازل والانشقاقات الأرضية المدمرة وفيضانات الأنهر والبحار من تحت.

كذلك تشمل الآلام والمصائب التي ينزلها بعض الحكام والطبقات المتسلطة في المجتمع على رؤوس الشعوب ، وكذلك الآلام والعذاب الذي يسببه بعض الموظّفين الذين لا يعرفون واجبهم للناس ممّا قد لا يقل عما يسببه الحكام والطّبقات العليا من المجتمع.

وكذلك يحتمل أن تشمل أسلحة الحرب المخيفة في عصرنا التي تبيد حياة البشر بشكل وحشي من الأرض والجو ، وتحيل المدن خلال مدّة قصيرة إلى ركام وانقاض عن طريق القصف الجوي والهجوم الأرضي وزرع الألغام والغواصات المدمّرة داخل البحار.

2 ـ «يلبسكم» من «اللبس» بفتح اللام بمعنى الاختلاط والامتزاج ، لا من «اللبس» بضم اللام بمعنى ارتداء الملابس ، وعلى ذلك يكون معنى الآية : إنّه قادر على أن يجعل منكم جماعات مختلفة تختلط بعض ببعض.

يستنتج من هذا التعبير أنّ مسألة اختلاف الكلمة والتفرق في المجتمع لا تقل خطورتها عن العذاب السماوي والصواعق والزلازل ، وهو في الحقيقة كذلك ، بل قد يكون الخراب الناشئ من اختلاف الكلمة والتفرق أحيانا أشد وطأة ودمارا من الزلازل والصواعق ، كثيرا ما نلاحظ أنّ دولا عامرة يصيبها الفناء بسبب النفاق والتفرقة ، وهذه الكلمة تحذير لجميع مسلمي العالم!

٣٢٤

هنالك أيضا احتمال آخر في تفسير هذه الآية ، وهو ـ أنّ الله قد أشار ـ إلى جانب العذاب السماوي والأرضي ـ إلى لونين آخرين من العذاب : أحدهما : اختلاف العقيدة والفكر (وهو في الواقع مثل العذاب النازل من فوق) ، والآخر : هو الاختلاف في العمل والسلوك الاجتماعي الذي يؤدي إلى الحروب وإراقة الدماء (وهو أشبه بالعذاب الآتي من تحت).

وعليه ، فالآية تشير إلى أربعة ألوان من العذاب الطبيعي ، ولونين من العذاب الاجتماعي.

3 ـ لا بدّ من الانتباه إلى أن قوله تعالى :( أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ) (1) ، لا يعني أنّ الله يبتلي الناس ـ بدون مبرر ـ بالنفاق والاختلاف ، بل إنّ ذلك نتيجة سوء أعمالهم وغرورهم وأنانياتهم ، والانغماس في منافعهم الشخصية ، ممّا يثير روح النفاق والتفرقة بينهم ، وما نسبة ذلك إلى الله إلّا لأنّه جعل تلك الآثار من نتائج تلك الأعمال.

4 ـ على الرّغم من أنّ الخطاب في هذه الآية موجه إلى المشركين وعبدة الأصنام ، فإنّنا نستنتج أنّ المجتمع المشرك والمنحرف عن طريق التوحيد وعبادة الله ، يصاب بظلم الطبقات العليا ، وظلم الطبقات الدنيا المتهاونة في واجباتها ، كما تقع البشرية بين براثن الاختلاف العقائدية والمخاصمات الدموية في المجتمع ، كما هو حال المجتمعات المعاصرة التي تعبد أوثان الصناعة والثروة ، فهي رهين مصائب لا فكاك لها من مخالبها.

بعض الشعوب المسلمة تتحدث عن التوحيد وعبادة الله بأقوالها ، ولكنّها بأفعالها مشركة تعبد الأصنام. إن مصائر شعوب كهذا لا يختلف عن مصائر المشركين. وقد يكون حديث الإمام الباقرعليه‌السلام : «كل هذا في أهل القبلة» إشارة إلى هذا الاختلاف بين المسلمين ، فعند ما ينحرف المسلمون عن طريق التوحيد ،

__________________

(1) «شيعا» جمع «شيعة» بمعنى الجماعة.

٣٢٥

تأخذ الأنانية وحبّ الذات مكان الأخوة الإسلامية ، وتتغلب المصالح الشخصية على المصلحة العامّة ، ولا يفكر الفرد إلّا بنفسه وينسى الناس أوامر الله ونواهيه ، فيحيق بهم ما أحاق بأولئك.

* * *

٣٢٦

الآيتان

( وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) )

التّفسير

تكمل هاتان الآيتان البحث الذي جرى في الآيات السابقة عن الدعوة إلى الله والمعاد وحقائق الإسلام والخشية من عقاب الله.

الآية الأولى : تخبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ قومه ـ أي قريش وأهل مكّة ـ لم يصدقوا ما يقول مع أنّه صدق وحق وتؤكّده الأدلة العقلية المختلفة والفطرية :( وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُ ) (1) ثمّ يصدر الأمر إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ) أي إنّما أنا رسول ولست أضمن قبولكم.

في الآيات الكثيرة المشابهة لهذه الآية (كالآيات 107 ـ الأنعام ، 108 ـ يونس ، 41 ـ الزمر ، 6 ـ الشورى) يتبيّن أنّ المقصود من «وكيل» في هذه المواضع هو المسؤول عن الهداية العملية للأفراد والضامن لهم ـ لذلك فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لهم في هذه الآية : إنّ الأمر يعود إليكم ، فأنتم الذين يجب أن تتخذوا القرار

__________________

(1) الضمير في «به» يرجعه بعضهم إلى القرآن ، ويرجعه آخرون إلى العذاب الذي ورد في الآيات السابقة ، ولكنّ الظاهر إنّه يرجع إلى كل هذه وإلى تعاليم الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي كذبوا بها ، وتؤكّد ذلك الآية التّالية.

٣٢٧

النهائي في قبول الحقيقة أو ردّها ، فما أنا إلّا رسول أبلغ رسالة الله.

وفي الآية التّالية القصيرة ذات المعنى العميق تحذير لهم ، ودعوة إلى إختيار الطريق الصحيح ، و( لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) (1) أي أنّ كل خبر أخبركم به الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الدنيا أو في الآخرة موضع ومقر ، وسوف يتحقق في موعده المقرر ، وعندئذ ستعرفون ذلك.

* * *

__________________

(1) قد يكون «المستقر» المصدر الميمي بمعنى «الاستقرار» أو اسما لمكان وزمان بمعنى مكان الاستقرار ، بالمعنى الأوّل يكون إخبارا عن تحقيق وعد الله ، وبالمعنى الثاني الإخبار عن مكان تحققه وزمانه.

٣٢٨

الآيتان

( وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) )

سبب النّزول

جاء في تفسير مجمع البيان عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه عند ما نزلت الآية الأولى ونهي المسلمون عن مجالسة الكفار والذين كانوا يسخرون من آيات الله ، قال فريق من المسلمين إذا كان علينا أن نلتزم بهذا النهي في كل مكان فإنّه يمتنع علينا الذهاب إلى المسجد الحرام والطواف به (وذلك لأنّ أولئك كانوا منتشرين في أطراف المسجد ولا يفتأون يتناولون الآيات القرآنية بالكلام الباطل ، فحيثما نتوقف في أرجاء المسجد ثمّة احتمال أن يصل كلامهم الى مسامعنا). عندئذ نزلت الآية الثانية تأمر المسلمين في مثل هذه الحالات أن ينصحوهم ويهدوهم ويرشدوهم قدر إمكانهم.

إنّ ورود سبب نزول لهذه الآية لا يتعارض ـ كما قلنا من قبل ـ مع نزول

٣٢٩

السورة كلها مرّة واحدة ، إذ من المحتمل أن تكون هناك حوادث مختلفة في حياة المسلمين ، فتنزل سورة واحدة تختص كل مجموعة من آياتها ببعض تلك الحوادث.

التّفسير

اجتناب مجالس أهل الباطل :

بما أنّ المواضيع التي تتطرق إليها هذه السورة تتناول حال المشركين وعبدة الأصنام ، فهاتان الآيتان تبحثان موضوع آخر من المواضيع التي تتعلق بهم ، ففي البداية تقول للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ) (1) .

على الرغم من أنّ الكلام هنا موجه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّه لا يقتصر عليه وحده ، بل هو موجه إلى المسلمين كافة ، إنّ فلسفة هذا الحكم واضحة ، إذ لو اشترك المسلمون في مجالسهم ، لاستمر المشركون في خوضهم في آيات الله بالباطل نكاية بالمسلمين واستهزاء بكلام الله ولكنّ المسلمين إذا مروا دون أن يبالوا بهم ، فسيكفّون عن ذلك ويغيرون الحديث إلى أمور أخرى ، لأنّهم كانوا يتقصدون إيذاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين.

ثمّ تخاطب الآية رسول الله مؤكّدة أهمية الموضوع :( وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ (2) بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) أي إذا أنساك الشيطان هذا الأمر وجلست مع هؤلاء القوم سهوا ، فعليك ـ حالما تنتبه ـ أن تنهض فورا وتترك مجالسة الظالمين.

__________________

(1) «الخوض» كما يقول الراغب الأصفهاني في «مفرداته» هو الدخول في الماء والمرور فيه ، ثمّ استعير للورود في أمور أخرى ، وأكثر ما ترد في القرآن بشأن الدخول في موضوع باطل ما أساس له.

(2) غني عن القول بأن (لا تقعد) لا تعني النهي عن مجرّد الجلوس مع هؤلاء ، بل تعني النهي عن معاشرتهم في جميع حالات الجلوس والوقوف أو المسير.

٣٣٠

سؤالان :

هنا يبرز سؤالان :

الأوّل : هل يمكن للشّيطان أن يتسلط على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويسبب له النسيان؟وبعبارة أخرى ، كيف يمكن للنّبي مع عصمته وكونه مصونا عن الخطأ حتى في الموضوعات أن يخطئ وأن ينسى؟

في الإجابة على هذا السؤال يمكن القول بأنّ الخطاب في الآية وإن يكن موجها إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو يتحدث في الواقع مع اتباعه الذين يمكن أن ينسوا فيساهموا في اجتماعات المشركين الآثمة ، فهؤلاء عليهم حال انتباههم إلى ذلك أن يتركوا المكان ، أنّ مثل هذا الأسلوب كثير الحدوث في حياتنا اليومية وموجود في مختلف آداب العالم ، فأنت قد توجه الخطاب إلى أحدهم ولكنّ هدفك هو أن يسمع الآخرون ذلك كما يقول المثل : إياك أعني واسمعي يا جارة.

هناك مفسّرون آخرون مثل الطبرسي في مجمع البيان وأبي الفتوح في تفسيره المعروف يوردون جوابا آخر عن هذا السؤال خلاصته : إنّ السهو والنسيان في قضايا الأحكام ومقام حمل الرسالة من جانب الله غير جائزين بالنسبة للأنبياء ، أمّا في الحالات التي لا تؤدي إلى ضلال الناس فجائزان ، إلّا أنّ هذا الجواب لا يتفق مع ما هو مشهور عند متكلمينا من أن الأنبياء والأئمّة معصومون عن الخطأ ومصونون عن النسيان ، لا في قضايا الأحكام وحدها ، بل حتى في القضايا العادية أيضا.

السؤال الثّاني : يعتبر بعض علماء أهل السنة هذه الآية دليلا على عدم جواز التقية الدينية للقادة الدينيين ، وذلك لأنّ الآية تصرّح بالنهي عن اللجوء إلى التقية أمام الأعداء وتأمر بترك مجلسهم.

والجواب على هذا الاعتراض واضح ، فالشيعة لا يقولون بوجوب التقية دائما ، بل إنّ التقية في بعض الأحيان حرام ، إنّما ينحصر وجوبها في الظروف التي

٣٣١

تكون فيها للتقية وكتمان الحق منافع أكبر من منافع إظهاره ، أو تكون سببا في دفع خطر أو ضرر كبير.

الآية التّالية فيها استثناء واحد ، فإذا اشترك بعض المتقين في جلسات هؤلاء المشركين لكي ينهوهم عن المنكر على أمل أن يؤدي ذلك إلى انصراف أولئك عن الإثم ، فلا مانع من ذلك ، وأنّ آثام أولئك لا تسجل على هؤلاء ، لأنّ قصدهم هو الخدمة والقيام بالواجب :( وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) .

وهنالك تفسير آخر لهذه الآية ، والذي قلناه أكثر انسجاما مع ظاهر الآية ومع سبب النّزول.

وينبغي أن نعلم ـ في الوقت نفسه ـ إنّ الذين لهم أن يستفيدوا من هذا الاستثناء هم الذين تنطبق عليهم شروط الآية ، فيكونون متميزين بالتقوى ، وبعدم التأثر بهم ، وبالقدرة على التأثير فيهم.

سبق في تفسير الآية (140) من سورة النساء أن تطرقنا إلى هذا الموضوع وذكرنا مسائل أخرى أيضا.

* * *

٣٣٢

الآية

( وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) )

التّفسير

الذين اتّخذوا الدّين لعبا :

هذه الآية تواصل ما بحثته الآية السابقة ، وتأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يدع أولئك الذين يستهينون بأمر دينهم ، ويتخذون ممّا يلهون ويلعبون به مذهبا لهم ويغترون بالدنيا وبمتاعها المادي :( وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ) .

بديهي أنّ الأمر بترك هؤلاء لا يتعارض مع قضية الجهاد ، فللجهاد شروط ، ولإهمال الكفار شروط أخرى ، وكل واحد من هذين الحالين يجب أن يتحقق في ظروفه الخاصّة ، قد يستلزم الأمر ـ أحيانا ـ دفع المناوئين عن طريق عدم

٣٣٣

الاعتناء بهم ، وفي أحيان أخرى قد يقتضي الأمر الجهاد والتوسل بالسلاح ، أمّا القول بأنّ آيات الجهاد قد نسخت هذه الآية فغير صحيح.

وتشير هذه الآية إلى أنّ سلوكهم الحياتي من حيث المحتوى أجوف وواه ، فهم يطلقون اسم الدين على بعض الأعمال التي هي أشبه بلعب الأطفال ومجمون الكبار ، فهؤلاء غير جديرين بالمناقشة والمباحثة ، وعليه يؤمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يعرض عنهم ولا يعتني بدينهم الفارغ.

يتضح ممّا قلنا أنّ «دينهم» يعني «دين الشرك وعبادة الأصنام» الذي كانوا يدينون به ، أمّا القول بأنّ المقصود هو «الدين الحق» وإنّ إضافة الدين إليهم يستند إلى كون الدين فطريا ، فيبدو بعيد الاحتمال.

والاحتمال الآخر في تفسير الآية هو أن القرآن يشير إلى جمع من الكفار الذين كانوا يتعاملون مع دينهم كألعوبة وملهاة ، ولم ينظروا أبدا إلى الدين كأمر جاد يستوجب إمعان الفكر والتأمل ، أي أنّهم كانوا لا يؤمنون حقيقة حتى في معتقدات شركهم ، ولم يقيموا وزنا حتى لدينهم الذي لا أساس له.

على كل حال فالآية لا تخص الكفار وحدهم ، بل هي تشمل جميع الذين يتخذون من الأحكام الإلهية ومن المقدسات وسائل للتلهي وملء الفراغ وبلوغ الأهداف المادية الشخصية ، أولئك الذين يجعلون الدين آلة الدنيا ، والأحكام الإلهية العوبة أغراضهم الخاصّة.

ثمّ يؤمر الرّسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينبّههم إلى أعمالهم هذه وإلى أنّ هناك يوما لا بدّ لهم أن يستسلموا فيه لنتائج أعمالهم ولن يجدوا من ذلك مفرا :( وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ ) (1) .

__________________

(1) «البسل» هو حفظ الشيء ومنعه بالقوة والقهر ، والإبسال حمل المرء على التسليم ، كما تطلق الكلمة على الحرمان من الثواب ، أو أخذ الرهائن ، والجيش الباسل بمعنى القاهر الذي يحمل العدو على التسليم ، والمعنى في الآية هو تسليم المرء وخضوعه لأعماله السيئة.

٣٣٤

يوم لا شفيع ينفع ولا ولي سوى الله :( لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ ) .

إنّهم يؤمئذ في حال صعبة مؤلمة يرزحون في قيود أعمالهم بحيث إنّهم يرتضون أن يدفعوا أية غرامة (إن كان عندهم ما يدفعونه) ولكنّها لن تقبل منهم :( وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها ) (1) .

ذلك لأنّهم يكونون بين مخالب أعمالهم ، ولا فدية تنجيهم ، ولا توبة تنفعهم بعد أن فات الأوان :( أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا ) .

ثمّ يشار إلى جانب ممّا سيصيبهم من العذاب الأليم بسبب إعراضهم عن الحق والحقيقة :( لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ ) .

إنّهم يتعذّبون بالماء الحريق من الداخل ، ويكتوون بنار الجحيم.

يجدر الانتباه هنا إلى أن جملة( أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا ) هي بمثابة السبب الذي يمنع من قبول الغرامة ومن قبول أي شفيع وولي ، أي أن عقابهم ليس لعلة خارجية بحيث يمكن دفعها بشكل من الأشكال ، بل ينبع من داخل الذات وسلوكها وأعمالها ، إنّهم أسرى أعمالهم القبيحة ، لذلك لا مفر لهم ، لأنّ فرار المرء من أعماله وآثارها إنّما هو فرار من ذاته ، وهو غير ممكن.

غير أنّنا لا بدّ أن نعلم أنّ هذه الحالة من الشدّة والصعوبة وانعدام طريق العودة ورفض الشفاعة إنّما تكون بحق الذين أصروا على كفرهم واستمروا عليه ، كما يتبيّن من عبارة :( بِما كانُوا يَكْفُرُونَ ) (الفعل المضارع يفيد الاستمرارية).

* * *

__________________

(1) «العدل» بمعنى «المعادل» وهو ما يدفع جزاء وغرامة لقاء التحرر ، وهو أشبه في الواقع بما يفتدى به.

٣٣٥

الآيتان

( قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) )

التّفسير

كان المشركون يصرّون على دعوة المسلمين إلى العودة إلى الكفر وعبادة الأصنام ، فنزلت هذه الآية تأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالردّ عليهم ردّا يدحض رأيهم ويفند دعوتهم في جواب بصيغة الاستفهام الاستنكاري : أتريدون منّا أن نشرك مع الله ما لا يملك لنا نفعا فنعبده لذلك ، ولا يملك لنا ضررا فنخافه؟! :( قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا ) .

هذه الآية تشير إلى أنّ أفعال الإنسان تنشأ عادة عن دافعين ، فهي إمّا أن تهدف إلى استجلاب منفعة (مادية كانت أم معنوية) ، وأمّا إلى دفع ضرر (ماديا كان أم معنويا). فكيف يقدم الإنسان على أمر ليس فيه أي من هذين العاملين؟

٣٣٦

ثمّ يأتي باستدلال آخر على المشركين ، فيقول : إذا عدنا إلى عبادة الأصنام ، بعد الهداية الإلهية نكون قد رجعنا القهقهري ، وهذا يناقض قانون التكامل الذي هو قانون حياتي عام :( وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ ) (1) .

ثمّ يضرب مثلا لتوضيح الأمر ، فيقول : إنّ الرجوع عن التوحيد إلى الشرك أشبه بالذي أغوته الشياطين (أو غيلان البوادي التي كان عرب الجاهلية يعتقدون أنّه تمكن في منعطفات الطرق وتغوي السابلة وتضلهم عن الطريق) فتاه عن مقصده وظل حيرانا في الباديّة :( كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ ) بينما له رفاق يرشدونه إلى الصراط السوي المستقيم وينادونه : هلم إلينا ، ولكنّه من الحيرة والتيه بحيث لا يسمع النداء ، أو إنّه غير قادر على اتخاذ القرار :( لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا ) (2) .

وفي الختام يؤمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول : إنّ الهداية من الله وليس لنا إلّا أن نسلم لأمر الله ربّ العالمين :( قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ) .

وهذا دليل آخر على رفض دين المشركين ، إذ التسليم لا يكون إلّا لخالق الكون ومالكه وربّ عالم الوجود ، لا الأصنام التي لا دور لها في إيجاد هذا العالم وإدارته.

سؤال :

يبرز هنا هذا السؤال : لم يكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل البعثة من أتباع دين المشركين فكيف تقول الآية :( نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا ) ونحن نعلم أنّه لم يسجد قط

__________________

(1) «أعقاب» جمع «عقب» وهو مؤخر الرجل ، ورجع على عقبه بمعنى انثنى راجعا ، وهو هنا كناية عن الانحراف عن الهدف ، وهو ما يطلق عليه اليوم اسم «الرجعية».

(2) «استهوته» من «الهوى» وهو ميل النفس إلى الشهوة ، واستهوته بمعنى حملته على إتباع الهوى ، و «الحيرة» هي التردد في الأمر ، وفي الأصل : الجيئة والذهاب ، فالآية تشير إلى الذين يذهبون من الإيمان إلى الشرك مستلهمين تحركاتهم من الشيطان.

٣٣٧

لصنم ، إذ لم يرد هذا في جميع التواريخ التي كتبت عنه ، بل أن مقام العصمة لا يمكن أن يسمح بحدوثه؟

الجواب :

في الحقيقة تعتبر هذه الآية ممّا جاء على لسان جميع المسلمين ، لا على لسان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحده ، ولذلك جاءت الضمائر فيها بصيغة الجمع.

الآية التّالية ، تواصل شرح الدعوة الإلهية قائلة : إنّنا فضلا عن التوحيد ، فقد أمرنا بإقامة الصّلاة وبتقوى الله :( وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ ) .

وفي الختام يشار إلى المعاد وإلى أنّ الناس إلى الله يرجعون :( وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .

هذه الآيات القصار تكشف عن البرنامج الذي يدعو اليه الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمتألف من أربعة مبادئ ، تبدأ بالتوحيد وتنتهي بالمعاد ، وبينهما مرحلتان متوسطتان هما : تقوية الارتباط بالله ، والاتقاء من كل ذنب.

* * *

٣٣٨

الآية

( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) )

التّفسير

هذه الآية دليل على ما جاء في الآية السابقة ، وعلى ضرورة التسليم لله وإتّباع رسوله ، لذلك تقول :( هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ ) .

إنّ مبدأ عالم الوجود هو وحده الجدير بالعبادة ، وهو وحده الذي يجب الخضوع والتسليم له ، لأنّه خلق الأشياء لمقاصد حقّه.

المقصود من «الحق» في الآية هو الأهداف والنتائج والمنافع والحكم ، أي أنّ كل مخلوق قد خلق لهدف وغاية ومصلحة ، وهذه الآية تشبه الموضوع الذي تتناوله الآية (77) من سورة ص التي جاء فيها :( وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ) .

ثمّ يقول : إنّه فضلا عن كونه مبدع عالم الوجود ، فان يوم القيامة أيضا يقوم بأمره ، وإذا ما أصدر أمره بقيام ذلك اليوم فإنّه يتحقق فورا :( وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ

٣٣٩

فَيَكُونُ ) (1) .

يحتمل بعضهم أنّ هذه العبارة تشير إلى مبدأ الخلق وإيجاد عالم الوجود ، حيث خلق كل شيء بأمر الله ، ولكن بالنظر لأنّ الفعل «يقول» مضارع ، وهناك قبل هذه الآية إشارة إلى أصل الخلق ، وكذلك بالرجوع إلى الآيات التّالية ، يمكن القول بأنّ هذه العبارة تخص البعث ويوم القيامة.

سبق في تفسير الآية (117) من سورة البقرة في المجلد الأوّل أن قلنا إنّ( كُنْ فَيَكُونُ ) لا تعني إصدار أمر لفظي لشيء أن يكون فيكون ، بل تعني إنّه إذا شاء خلق شيء ، فإنّ إرادته تتحقق دون حاجة الى وجود أي عامل آخر ، فإذا شاء أن يتحقق الشيء فهو يتحقق فورا. وإذا شاء أن يتحقق تدريجيا فإنّ خطّة تحققه التدريجي تبدأ.

ثمّ يضيف : أنّ ما يقوله الله هو الحق ، أي أنّه مثلما كان مبدأ الخلق ذا أهداف ونتائج ومصالح ، كذلك سيكون يوم القيامة :( قَوْلُهُ الْحَقُ ) .

وفي ذلك اليوم الذي ينفخ فيه في صور ويبعث الناس يوم القيامة ، يكون الحكم والملك لله :( وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ) .

حكومة الله على عالم الوجود ومالكيته له قائمتان منذ بداية الخلق حتى نهايته وفي يوم القيامة ، ولا يختص ذلك بيوم القيامة وحده ، لكن هناك عوامل وأسبابا تؤثر في مسار هذه الدنيا وتقدمها نحو أهدافها ، لذلك قد يغفل الإنسان أحيانا عن وجود الله وراء هذه الأسباب والعوامل ، أمّا في ذلك اليوم الذي تتعطل فيه جميع الأسباب والعوامل ، فإنّ حكومة الله ومالكيته تكونان أجلى وأوضح من أي وقت سابق ، كما جاء في آية أخرى :( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ

__________________

(1) يختلف المفسرون في متعلق الظرف «يوم» ، فبعض يعلقه بجملة «خلق» وبعض يعلقه بجملة «اذكروا» المحذوفة ، ولكن لا يستبعد أن يكون متعلقا بجملة «يكون» ، فيصبح المعنى : يكون يوم القيامة يوم يقول له كن.

٣٤٠