الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 611

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 611 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 134360 / تحميل: 6312
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

٢

السلطة التنفيذيّة

المراد بالسلطة التنفيذيّة في مصطلح اليوم هو هيئة الوزراء، وما يتبعها من دوائر ومديريّات منتشرة في أنحاء البلاد، ويكون مهمّتها تنفيذ ما يقرّره مجلس الشورى من تصميمات، وقرارات، ومخطّطات في شتّى حقول الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، وبالتالي يقع على عاتقها مهمّة إدارة البلاد بصورة مباشرة، وهذه السطة لا تتحدّد ـ في عصرنا ـ بتشكيلات محدّدة كمّاً أو كيفاً بحيث لا تتعدّاها بل تختلف من بلد إلى بلد، ومن زمن إلى زمن فهي تزيد أو تنقص، وتضاف مديريّة أو تحذف، أو يدمج بعض في بعض تبعاً للحاجة.

وهيئة الوزراء التي تتصدّر هذه السلطة إمّا أن :

أ ـ ينتخبها الحاكم الأعلى المنتخب للبلاد رأساً.

ب ـ أو ينتخبها مجلس الشورى.

ج ـ أو تنتخبها الاُمّة مباشرةً، وإن كان هذا نادراً.

وعلى أي تقدير فإنّ الذي لا بدّ منه هو أن تكون السلطة التنفيذيّة ـ وفي مقدمتها الوزراء موضع رضا الاُمّة، وذلك يحصل بإحدى الطرق المذكورة، وإن كان الدارج الآن

٢٨١

هو انتخابها عن طريق الحاكم الأعلى، مع موافقة مجلس الشورى.

وإنّما يجب أن تكون هذه السلطة موضع رضا الاُمّة لأنّها تتسلّم زمام السلطة المباشرة على نفوس الناس وأموالهم وأرواحهم، وهذا التسلّط والتصرّف يؤول إلى الاستبداد إذا لم يكن منوطاً برضا الناس، وموافقتهم وإرادتهم.

وهذا هو ما أكّد عليه الدين الإسلاميّ في نظامه السياسيّ، فقد أشار الإمام عليّ ابن أبي طالبعليه‌السلام إلى ذلك ـ في عهده المعروف للأشتر النخعيّ لـمّا ولاّه على مصر حيث وصّاه بأن يتحرّى رضا الرعيّة إذ قال: « وليكن أحبّ الاُمور أليك أوسطها في الحقِّ، وأعمَّها في العدل، وأجمعها لرضا الرَّعيَّة، فإنَّ سخط الخاصَّة ـ يُجحفُ برضا العامّة، وإنَّ سخط الخاصَّة يُغتفرُ مع رضا العامّة »(١) .

هذا والحديث عن السلطة التنفيذيّة يستدعي البحث في ثلاثة اُمور :

أوّلاً: إثبات ضرورة وجود هذه السلطة في الحياة الاجتماعيّة جنباً إلى جنب مع السلطة التشريعيّة، والحاكم الأعلى للبلاد.

ثانياً: استعراض ما كانت عليه هذه السلطة في ( العهد النبوي ) خاصّةً وما آلت إليه فيما بعد.

ثالثاً: بيان الكيفيّة التي يجب أن تكون عليه الآن.

وإليك بيان هذه الاُمور تدريجياً.

ضرورة السلطة التنفيذيّة :

لا ريب أنّ القوانين الإسلاميّة التي شرّعها الله سبحانه للبشريّة وأنزلها عليهم، وكذا ما يستنبطه الفقهاء والمجتهدون أو تقرّره السلطة التشريعيّة من برامج على ضوء التعاليم الإسلاميّة لم تكن إلّا لإدارة المجتمع. فلم يكن تشريع كلّ تلك الشرائع، ولا

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة (٥٣).

٢٨٢

وضع جميع تلك البرامج عملاً اعتباطيّاً، بل كانت لأجل التنفيذ والتطبيق، وتنظيم الحياة الاجتماعيّة وفقها، فالقانون مهما كان راقياً وصالحاً ليس بكاف وحده في إصلاح المجتمع وإصلاح شؤونه، بل لا بدّ من إجرائه، وتنفيذه في الصعيد العمليّ.

إنّ الكتاب والسنّة زاخران بأحكام حقوقيّة ومدنيّة وجزائيّة وسياسيّة كثيرة وواسعة الأطراف والأبعاد وهي غير خافية على كلّ من له أدنى إلمام بهذين المصدرين الإسلاميّين العظيمين.

ففيهما الأمر الصريح والأكيد بقطع يد السارق:( فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) ( المائدة: ٣٨ ) وجلد الزاني والزانية:( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ) ( النور: ٢ ).

إلى غير ذلك من القوانين والحدود. ولقد حثّ الشارع الكريم على إجراء هذه الحدود وتنفيذ هذه القوانين، والتعاليم حثّاً أكيداً لا يترك لمتعلّل عذراً فقد ورد عن الإمام عليّعليه‌السلام أنّه قال: « سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: لن تقدس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقَّه من القوي غير متعتع »(١) .

وروى ابن أبي الحديد المعتزليّ أنَّه خرج رجل من أهل الشام في وقعة صفين فنادى بين الصفّين: يا عليّ ابرز أليّ، فخرج إليه عليّعليه‌السلام فقال: إنّ لك يا عليّ لقدماً في الإسلام والهجرة، فهل لك في أمر أعرضه عليك يكون فيه حقن دماء المسلمين وتأخّر هذه الحروب حتّى ترى رأيك ؟ فقالعليه‌السلام : « وما هو ؟ » قال: ترجع إلى عراقك فنخلّي بينك وبين العراق، ونرجع نحن إلى شامنا فتخلّي بيننا وبين الشام ؟ فقال عليّعليه‌السلام : « قد عرفت ما عرضت إنّ هذه لنصيحة وشفقة، ولقد أهمَّني هذا الأمر وأسهرني وضربت أنفه وعينه، فلم أجد إلّا القتال أو الكفر بما أنزل الله على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

إنّ الله تعالى ذكره لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون، لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر فوجدت القتال أهون عليَّ من معالجة في الأغلال في جهنَّم »(٢) .

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة (٥٣).

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢: ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

٢٨٣

ولـمـّا سرقت المرأة المخزوميّة ما سرقت ـ في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وأراد اُسامة بن زيد الشفاعة في حقّها، فكلّم النبيّ في أمرها، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أتشفع في حدّ من حدود الله » ؟!

ثمّ قام فخطب وقال: « أيّها الناسُ إنَّما هلك الَّذين من قبلكُم أنَّهم كانوا إذا سرق فيهم الشَّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضَّعيف أقاموا عليه الحدَّ »(١) .

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « ساعة إمام عادل أفضل من عبادة سبعين سنة وحدّ يقام لله في الأرض أفضل من مطر أربعين صباحاً »(٢) .

وفي حديث مفصّل وقضية مطوّلة قال الإمام عليّعليه‌السلام : « أللّهم إنّك قلت لنبيّك فيما أخبرته من دينك: يا محمّد من عطَّل حدَّاً من حدودي فقد عاندني وطلب بذلك مضادَّتي »(٣) .

وقال الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أيضاً: « لابدَّ للنَّاس من إمام يقوم بأمرهم وينهاهم ويقيم فيهم الحدود ويجاهد فيهم العدوَّ، ويقسّم الغنائم ويفرض الفرائض أبواب ما فيه صلاحهم ويحذّرهم ما فيه مضارّهم، إذا كان الأمر والنهي أحد أسباب بقاء الخلق وإلاّ سقطت الرغبة والرهبة ولم يرتدع ويفسد التدبير وكان ذلك سبباً لهلاك العباد فتمام أمر البقاء والحياة في الطَّعام والشَّراب والمساكن والنكاح من النّساء والحلال الأمر والنَّهي »(٤) .

وعن الإمام الباقر محمد بن عليّعليه‌السلام : « إنّ الله تعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الاُمّةُ ـ إلى يوم القيامة ـ إلّا أنزله في كتابه، وبيَّنه لرسوله. وجعل لمن تعدَّى الحدَّ حدَّاً »(٥) .

وعنهعليه‌السلام أيضاً أنّه قال: « حدّ يقام في الأرض أزكى فيها من مطر أربعين

__________________

(١) صحيح مسلم ٥: ١١٤.

(٢) وسائل الشيعة ١٨: ٣٠٨، والخراج: ١٦٤.

(٣) وسائل الشيعة ١٨: ٣٠٨.

(٤) رسالة المحكم والمتشابه للسيد المرتضى نقلاً عن تفسير النعمانيّ: ٥٠.

(٥) وسائل الشيعة ١٨: ٣١١.

٢٨٤

ليلة وأيّامها »(١) .

وعنهعليه‌السلام أيضاً أنه قال: « لا تبطل حدود الله في خلقه ولا تبطل حقوق المسلمين بينهم »(٢) .

وقال الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إقامة حدّ خير من مطر أربعين صباحاً »(٣) .

وقال الإمام الكاظم موسى بن جعفرعليه‌السلام في تفسير قول الله عز وجل:( يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ) ( الروم: ١٩ ): « ليس يحييها بالقطر، ولكن يبعث الله رجالاً فيحيون العدل فتحيا الأرض لأحياء العدل، لإقامة الحدّ فيه أنفع في الأرض من القطر أربعين صباحاً »(٤) .

إلى غير ذلك من الأحاديث الصريحة التي تحث على إجراء الحدود، مضافاً إلى الآيات القرآنيّة الكريمة التي تحثّ بدورها على العمل بأحكام الله سبحانه، دون فرق بين ما تعلّق منها بالفرد أو المجتمع وتندّد بالذين يعلمون الكتاب، ويعرفون ما فيه من التعاليم والأحكام ولا يعملون بها.

بيد أنّ تنفيذ الأحكام والقوانين المتعلّقة بالمجتمع، وإجراء الحدود لا يمكن أن يفوّض إلى عامّة الناس وسوادهم فلا يعني ذلك إلّا شيوع الفوضى، وضياع الحقوق، واضطراب الحدود بين الافراط والتفريط، ولهذا لابدّ من جهاز تنفيذيّ خاصّ يتولّى هذه المهمّة الاجتماعيّة الحساسّة ويقوم بهذا الدور الخطير.

ومن العجيب أنّ موضوع الهيئة التنفيذيّة رغم كونه من أبرز ما أشار إليه الإسلام بل وصرّح به في نظام الحكومة الإسلاميّة ؛ قد تعرّض لتجاهل بعض الباحثين حول الإسلام بل وإنكارهم ؛ فقد أخذ بعض المستشرقين ـ فيما أخذ ـ على الإسلام فقدانه لجهاز تنفيذيّ ونظام حكوميّ يضمن تنفيذ القوانين، ويضفي على الإسلام طابع المنهج

__________________

(١ و ٢) وسائل الشيعة ١٨: ٣٠٨، ٣١٥.

(٣ و ٤) نفس المصدر: ٣٠٨.

٢٨٥

الصالح لقيادة البشريّة حتّى في الصعيد السياسيّ فقال ما ملخّصه: « إنّ الإسلام مشتمل على قوانين وسنن رفيعة تتكفّل سعادة المجتمع فرديّاً واجتماعيّاً بيد أنّ ما جاء به الإسلام لا يتجاوز حدود التوصية الاخلاقيّة والإرشاد المعنويّ دون أن يكون لديه ما يضمن تنفيذها من سلطات وأجهزة، فإنّنا لم نلمس في التعاليم الإسلاميّة الموجودة أي إشارة إلى هيئة تنفيذيّة تقوم بإجراء الأحكام، وتنفيذ القوانيين ولذلك تعتبر الشريعة الإسلاميّة غير كافية من هذه الناحية، وعاجزةً عن التطبيق ».

هذا هو خلاصة ماقاله بعض المستشرقين، ولكن لو رجع صاحب هذه المقالة إلى الكتاب والسنّة، ولاحظ ما طفحت به الكتب الفقهيّة الإسلاميّة من سياسات اجتماعيّة، وحقوق مدنيّة، وتدابير جزائيّة عهد إجراؤها إلى الحاكم الإسلامي ؛ للمس وجود الهيئة التنفيذيّة في النظام الإسلاميّ بجوهره وحقيقته وإن لم يكن بتفصيله المتعارف الآن.

فأيّ تصريح بوجود الجهاز التنفيذيّ أكثر صراحةً من إيكال قسم كبير من القضايا الاجتماعيّة، والاُمور الجزائيّة إلى ( الحاكم الشرعي ) حيث نجد الكتب الفقهيّة زاخرةً بعبارات: عزّره الحاكم، أدّبه الحاكم، نفاه الحاكم، طلّق عنه الحاكم، حبسه الحاكم، خيّره الحاكم(١) . وما شابه من الاُمور المخوّلة إلى الحاكم الإسلاميّ، وهو يوحي بوجود جهاز تنفيذيّ في النظام الإسلاميّ، لأنّ أكثر تلك المهام هي من صلاحيات السلطة التنفيذيّة المتعارفة الآن.

هذا مضافاً إلى أنّ موضوع ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) الذي يؤكّد عليهما الدين الإسلاميّ أشدّ تأكيد يعتبر من أوضح الأدلّة على لزوم مثل هذا الجهاز التنفيذيّ حتّى يمكن القول ـ بدون مبالغة ـ أنّ المقصود بالقائمين بهذه الفريضة الكبرى، والوظيفة العظمى هو ( الهيئة التنفيذيّة ).

__________________

(١) راجع هذا الجزء: ٢٣ ـ ٣٠.

٢٨٦

الآمرون بالمعروف هم السلطة التنفيذيّة :

إنّ النظر العميق في فريضة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) وأحكامهما ومسائلهما، وشروطهما يقضي بأنّ الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر هم ( السلطة التنفيذيّة ) التي تقع على عاتقها مهمّة إجراء الأحكام، وتنفيذها وصيانتها في المجتمع الإسلاميّ. ولابدّ ـ قبل إثبات هذا الأمر ـ من تقديم مقدّمة حول هذه الفريضة الإسلاميّة العظمى فنقول: تعتبر وظيفة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) أصلاً مبتكراً، وفريضةً بديعةً جاء بها الإسلام وهي ممّا لم يعهد لها نظير في الأنظمة الوضعيّة البشريّة فقد فرض الدين الإسلاميّ ـ بموجب هذه الفريضة ـ على أتباعه أن ينشروا الخير والمعروف بين الناس، ويزجروا عن الشرّ والمنكر، ولا يكونوا متفرّجين أو ساكتين اتّجاه ما يجري في المجتمع ويقع من إظهار المنكر أو تضييع للمعروف.

ولقد انطلق الإسلام ـ في إيجابه لهذه الفريضة العظيمة ـ من حقيقة اجتماعيّة مسلّمة وهي: أنّ أعضاء المجتمع الواحد الذين يعيشون في بيئة واحدة، مشتركون في المصير فلو كان هناك خير لعمّ الجميع ولم يقتصر على فاعله، ولو كان هناك شرّ لشمل الجميع أيضاً ولم يختصّ بمرتكبه. ومن هناك يجب أن تتحدّد تصرّفات الأفراد في هذا المجتمع، وتتحدّد حريّاتهم بمصالح الاُمّة، ولا تتخطّاها.

ولقد شبّه الرسول الأكرم وحدة المصير للمجتمع الواحد بأحسن تشبيه حيث مثّل أفراد المجتمع بركاب سفينة في عرض البحر، إذا تهددها خطر تهدّد الجميع ولم يختصّ بأحد دون أحد ولذلك لا يجوز لأحد ركّابها أن يثقب موضع قدمه بحجّة أنّه مكان يختصّ به. ولا يرتبط بالآخرين، لأنّ ضرر هذا العمل يعود إلى الجميع ولا يعود إليه خاصّةً. وهذا هو أفضل تشبيه لاشتراك المجتمع الواحد في المصير، والمسير(١) .

كما أنّه لو أصيب أحد أفراد المجتمع بالوباء لم يجز له أن يتجوّل في البلاد بحجّة

__________________

(١) راجع روض الجنان للشيخ أبي الفتوح الرازيّ.

٢٨٧

أنّه حرّ ؛ لأنّ ذلك يعرّض سلامة الآخرين للخطر، فلا بدّ أن يتحدّد تجوّله، تجنيباً للمجتمع من كوارث ذلك المرض.

إنّ هذه الأمثلة وأشباهها توضّح أهميّة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) ومكانتهما ومدى أثرهما في سلامة المجتمع واستقامته وصلاحه، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نظارة عموميّة، ورقابة صارمة تمنع من تفشّي المنكر وتساعد على نمو الخير، وازدهاره. وهما إلى جانب ذلك سبب قويّ في بقاء الدين، واستمرار الرسالة الإلهيّة.

ولقد وردت في التأكيد على هذه المهمّة الخطيرة آيات قرآنيّة كثيرة، وأحاديث، تأمر الجميع بالقيام بالدعوة إلى الخير، وإنكار المنكر، وهي معلومة وواضحة لكلّ من له أدنى إلمام بالشريعة الإسلاميّة.

نعم، ربّما يُتوهّم من بعض الآيات خلاف ذلك، وهي تلك الآيات التي يتمسّك بها بعض طلاب الراحة والعافية واتّباع الهوس لسدّ باب التبليغ والدعوة، أو للتخلّص من تحمّل مشكلاتها، وصعوبتها، ومن تلك الآيات قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( المائدة: ١٠٥ ).

وقد رفع المفسّرون النقاب عن وجه هذه الآية وفسّرها الأمين الطبرسيّ في تفسيره مجمع البيان بقوله: « إنّ الآية لا تدل على جواز ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل توجب أنّ المطيع لربّه لا يؤخذ بذنوب العاصي »(١) .

بيد أنّ لنا توضيحاً آخر لمفاد هذه الآية وهو: أنّ الآية تشير إلى سيرة عقلائيّة وقضيّة عقليّة وهي أنّ على من يريد إصلاح المجتمع أن يبدأ بنفسه ثمّ يتعرّض لإصلاح الآخرين فما لم يصلح المرء نفسه ليس له أن يؤدّب غيره، وإلى ذلك يشير الإمام عليّعليه‌السلام قائلاً: « من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تأديبهُ بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلمُ نفسه ومؤدّبها أحقّ بالإجلال من معلّم الناس

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ٣: ٢٥٤.

٢٨٨

ومؤدّبهم »(١) .

وبالجملة أنّ الآية ناظرة إلى الاجتماعات الفاسدة الغارقة في الفساد والانحراف فإنّ الطريق الوحيد لإصلاحها هو الابتداء بإصلاح الذات وعدم توقّع أي إصلاح للغير قبل ذلك ؛ وأن لا يترك إصلاح نفسه بحجّة أنّ المجتمع فاسد وإليه يشير قوله سبحانه:( لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) ويؤيد ذلك قول النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء ».

فقيل: يا رسول، من الغرباء ؟ فقال: « الَّذين يصلحون إذا أفسد الناس من سنَّتي »(٢) .

وهذا الحديث يرفع التوهّم حول الآية خصوصاً إذا قرئ قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يصلحون » بصيغة اللازم، فإلى هذا المعنى تشير الآية المذكورة. وعلى أي تقدير فالآية لا ترتبط بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا تمتّ بهما بصلة.

ولقد كفى في أهميّة هذه الوظيفة أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد بلغا من الأهميّة والأثر حتّى صارا أفضل من الجهاد إذ قال الإمام عليّعليه‌السلام : « وما أعمال البرّ كلّها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلّا كنفثة في بحر لجّيّ »(٣) .

ووجه هذه الأفضليّة على الجهاد وسائر أعمال البرّ هو أنّ ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) بكلا قسميه ( الفرديّ والاجتماعيّ ) كما سيوافيك بيانهما مكافحة داخليّة، والجهاد كفاح خارجيّ. والاُولى متقدّمة على الثانية، فلو لم يصلح الداخل لم يصلح الخارج، وما دام الداخل غير مستعدّ للإصلاح لا يمكن للمسلمين أن يخطوا أيّة خطوة لإصلاح الخارج.

كما ويؤكّد ضرورة إنكار المنكر وحرمة تركه قوله تعالى:( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي

__________________

(١) نهج البلاغة: ـ الحكم ـ الرقم (٧٣).

(٢) جامع الاُصول ١٠: ٢١٢، أخرجه الترمذي.

(٣) نهج البلاغة: قصار الحكم الرقم (٣٧٤).

٢٨٩

الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ) ( النساء: ١٤٠ ).

فهذه الآية تدلّ على أنّ السكوت على المنكر يوجب أن يكون الساكت على الذنب كالمرتكب له، ولأجل ذلك قال الإمام عليّعليه‌السلام : « إنَّما يجمع الناسُ الرِّضى والسَّخطُ وإنَّما عقر ناقة ثمود رجُل واحد فعمَّهُم الله بالعذاب لـمّا عمّوهُ بالرِّضى »(١) .

ثمّ إنّ الغور في هذه الوظيفة الإسلاميّة ومعرفة شروطها وفروعها وآثارها الحيويّة يستدعي إفراد رسالة مفصّلة خاصّة بذلك.

غير أنّنا نقتصر هنا على ذكر ما يرتبط ببحثنا وهو إثبات وجود ( السلطة التنفيذيّة ) في نظام الحكم الإسلاميّ فنقول: إنّ النظر في مهمّة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) يقضي بأنّ الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر يتمثّلون ـ في الحكومة الإسلاميّة ـ في ( الهيئة التنفيذيّة ) فليست هذه السلطة في حقيقة الأمر إلّا القائمين بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على صعيدهما الاجتماعيّ العموميّ. والوقوف على هذا المطلب يحتاج إلى التنبيه على أنّ فريضة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) تنقسم إلى وظيفتين :

١. وظيفة فرديّة.

٢. وظيفة اجتماعيّة عموميّة.

وهما يختلفان ماهيّةً وشروطاً حسبما نعرف ذلك من الكتاب والسنّة كما سيوافيك بيانه.

أمّا الكتاب فنجده يوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تارةً على المجتمع، أي على كلّ فرد فرد من أعضاء الاُمّة الإسلاميّة، وتارةً على جماعة خاصّة من المجتمع الإسلاميّ وإلى القسم الأوّل ( الفردي ) يشير قوله تعالى:( وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة (٢٠١).

٢٩٠

أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة: ٧١ ).

وقوله تعالى:( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ ) ( التوبة: ١١٢ ).

وقوله سبحانه:( كُنتُمْ خَيْرَ أمّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ ) ( آل عمران: ١١٠ ).

إلى غير ذلك من الآيات، والخطابات الموجّهة إلى المجتمع بصورة عامّة.

وإلى القسم الثاني تشير الآيات التي تضع هذه الوظيفة على عاتق جماعة خاصّة وتعبّر عنها ب‍ ( أمّة ) وفي ذلك قوله سبحانه:( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أمّة يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) ( العمران: ١٠٤ ).

ومن المعلوم أنّ الاُمّة عبارة عن جماعة خاصّة تجمعهم رابطة العقيدة ووحدة الفكر، وهي وإن كانت تطلق أحياناً على الفرد الواحد كقوله سبحانه:( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أمّة قَانِتًا للهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( النحل: ١٢٠ ) لكنه إطلاق واستعمال غير شائع فلا تحمل الآية عليه. وقد فسّر الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام هذه الآية بقوله: « وسُئل عن الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أواجب هو على الاُمّة جميعاً ؟ فقال: لا، فقيل لهُ: ولم ؟ قال: إنَّما هُو على القوي الـمـُطاع العالم بالمعروف من المنكر لا على الضَّعيف والدَّليلُ على ذلك كتاب الله عزَّ وجلَّ قوله:( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أمّة يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ) فهذا خاص غير عام كما قال الله عزَّ وجلَّ:( وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أمّة يَهْدُونَ بِالحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) ( الأعراف: ١٥٩ ) ولم يقل: على أمّة موسى ولا على كُلِّ قومه، وهم يومئذ اُمم مختلفة والاُمّة واحد فصاعداً كما قال الله عزَّ وجلَّ:( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أمّة قَانِتًا للهِ ) »(١) .

__________________

(١) وسائل الشيعة ١١: ٤٠٠.

٢٩١

وقوله تعالى:( إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) ( الحج: ٤١ ).

فهذه الآية تشير ـ بوضوح ـ إلى أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المذكورين في الآية هو من النوع الذي يحتاج إلى المكنة والقدرة والسلطة، فالوصف فيه وصف للمؤمنين الذين تمكّنوا من السلطة وبالتالي فهو وصف للجهاز الحاكم والسلطة التنفيذيّة، ولا يمكن إرجاعه إلى عامّة المسلمين لأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتوجّبين على الكافة لا يختصّ بظرف المكنة في الأرض، ولا يتقيد بقيد السلطة، بل تجب مراتبه قلباً ولساناً في جميع الأحوال بل يمكن أن يقال أيضاً إنّ الدعوة والتبليغ حتى باللسان على قسمين :

قسم يمكن أن يقوم به كلّ مسلم عارف بضروريات الإسلام من واجبها وحرامها.

وقسم لا يمكن أن يقوم به إلّا فرقة من كلّ طائفة ممّن صرفوا أوقاتهم وأعمارهم في تعلّم الدين بعمقه وتفاصيله وجزئيّاته، وإلى ذلك يشير قوله تعالى:( وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) ( التوبة: ١٢٢ ).

وقد سئل الإمام الصادقعليه‌السلام عن قول رسول الله: « اختلافُ أُمّتي رحمة » فقال: « صدقوا في هذا النَّقل » فقلت: إن كان أختلافهم رحمةً فاجتماعهم عذاب قال: « ليس حيثُ تذهب وذهبوا، إنَّما أراد قولُ الله تعالى:( فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) فأمرهُم الله أن ينفروا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويختلفوا إليه فيتعلّموا ثمَّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم، إنّما أرادهم من البلدان لا اختلافهم في الدين إنّما الدّينُ واحد »(١) .

__________________

(١) تفسير البرهان ٢: ١٧٢ ومعاني الاخبار: ١٥٧ وعلل الشرائع ١: ٦٠ وقد نقلها صاحب الوسائل في ٨: ١٠١ ـ ١٠٢.

٢٩٢

وأمّا الأحاديث والأخبارُ الواردة في شأن وظيفة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر فهي أيضاً تُقسِّم هذه الفريضة إلى قسمين :

قسم لا يحتاج القيام به الى جهاز خاص وقدرة وتمكّن، لأنّه لا يتجاوز القلب واللسان والوجه. وقسم يتوقّف القيام به على الجهاز والقوَّة والسّلطة.

وإلى القسم الأوّل يشير ما روي عن الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام إذ قال: « من ترك إنكار المنكر بقلبه ولسانه فهو ميّت بين الأحياء »(١) .

وعنهعليه‌السلام أيضاً قال: « أمرنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرَّة »(٢) .

وقالعليه‌السلام أيضاً: « أدنى الإنكار أن تلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرّة »(٣) .

وعن الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام إذ قال: « حسبُ المؤمن غيراً ( أي غيرة ) إذا رأى منكر أن يعلم الله عزَّ وجلَّ من قلبهُ إنكاره »(٤) .

وهذا القسم من الأحاديث الحاثَّة على الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر يشملُ كلّ فرد من أفراد المسلمين ولا يتجاوز القلب والوجه واللسان ويمكن لأيِّ فرد من الأفراد القيام به ؛ إذ لا يحتاج إلى تكلّف مؤنة، ولا توفّر قوَّة وسلطة وهو بالتالي يعمُّ كلّ مسلم آمراً ومأموراً حاكماً ومحكوماً.

وأمّا القسم الثاني ؛ وهي الأحاديث التي تجعل الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر دعامةً لأقامة الفرائض، وسبيلاً إلى أمن الطرق والمسالك، وردِّ المظالم، وردع الظَّالم، ووسيلةً إلى عمارة الأرض والانتصاف من الأعداء وهي اُمور لا تتحقّق إلّا بجهاز قادر متمكِّن فهي كالتالي :

قال الإمام محمّد بن علي الباقرعليه‌السلام : « إنَّ الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض والنَّهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء بها

__________________

(١ و ٢) وسائل الشيعة ١١: ٤٠٤، ٤١٣.

(٣ و ٤) وسائل الشيعة ١١: ٤١٣، ٤٠٩.

٢٩٣

تأمن المذاهب، وتحلّ المكاسب، وتردّ المظالم وتعمّر الأرض، وينتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر »(١) .

ومن المعلوم أنّ الأمر والنّهي المؤدّيين إلى أمان الطّرق والمسالك وعمارة الأرض والانتصاف من الأعداء للمظلومين لا يتيسّر إلّا بجهاز تنفيذيّ قويّ، وسلطة إجرائيّة قادرة تتحمّل عبء الأمر والنّهي على المستوى العموميّ وبواسطة الأجهزة والتشكيلات، هذا مضافاً إلى أنّ ذكر الأنبياء في الحديث لعلّه يوحي بأنّ الأمر والنهي المذكورين هنا هو ما كان مقروناً بالحاكميّة والسلطة على غرار ما كان للأنبياء: حيث كانوا يمارسون مهمّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ غالباً ـ من موقع السلطة والحاكميّة والولاية لا من موقع الفرد ومن موضع التبليغ ومجرد الوعظ والإرشاد الفرديّ.

وعن النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « لا تزال اُمّتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البرِّ فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسلّط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء »(٢) .

وقال الإمام عليّعليه‌السلام : « إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام مع ردِّ المظالم، ومخالفة الظالم وقسمه الفيء وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقّها »(٣) .

ومن البين أنّ مخالفة الظالم وردعه وإيقافه عند حدّه، وتقسيم المال بين المسلمين بصورة عادلة وأخذ الصدقات والموارد الماليّة، الذي يعني التنظيم الاقتصاديّ على المستوى العام للمجتمع، لا يتأتّى عن طريق الأمر والنهي الفرديين والمنحصرين في إطار الموعظة بل يحصل ويتحقّق بوجود جهاز تنفيذيّ حاكم وسلطة إجرائيّة تتولّى إدارة دفّة البلاد وفق تعاليم الإسلام، فإنّ مثل هذا الأمر والنهي يحتاج إلى استعمال القوّة

__________________

(١ و ٢) وسائل الشيعة ١١: ٣٩٥، ٣٩٨.

(٣) وسائل الشيعة ١١: ٤٠٣، وقد ورد مثلها عن الإمام الحسين بن عليّ في تحف العقول: ١٧١ ( طبعة بيروت ).

٢٩٤

لإجراء الحدود والعقوبات وتنفيذ الأحكام الجزائيّة، وهي اُمور لا يمكن أن تتحقّق إلّا في ظلّ سلطة وجهاز تنفيذيّ.

من هنا ؛ تكون الوظيفة العموميّة وما يترتّب عليها من الحبس والتأديب والقصاص وما شابه ؛ مقتضية لوجود سلطة تنفيذيّة يعهد إليها الأمر والنهي الاجتماعيين العموميين، الذين فيهما صلاح عامّة الناس، واستقامة اُمورهم عامّة ويمكن إستفادة هذا المطلب من كلام للسيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام إذ قالت: « والأمرُ بالمعروف مصلحة للعامَّة »(١) .

إذ أي أمر بالمعروف يمكن أن يكون مصلحة للعامّة إذا لم يكن القائم به جهاز ذو قدرة وسلطان يقوم بذلك عن طريق التشكيلات والتنفيذ العام.

كما ويمكن استفادة ذلك أيضاً من كلام الإمام عليّعليه‌السلام إذ قال: « أخذ الله على العُلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم وسغب مظلوم »(٢) .

فكيف يمكن منع الظالم من ظلمه، ومنع المستغلّ من الاستئثار بلقمة الفقير، إلّا بجهاز وسلطة خاصّة، فليس العلماء المذكورون في هذا الحديث إلّا ذلك الجهاز التنفيذيّ القادر على الإجراء.

وكذا يستفاد هذا الأمر من كلام آخر للإمامعليه‌السلام وهو يتحدّث عن الوالي وماله وما عليه: « أللّهم إنّك تعلم أنّه لم يكن الّذي كان منّا منافسةً في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام ولكن لنردَّ المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطَّلة من حدودك »(٣) .

__________________

(١) بلاغات النساء لابن طيفور ـ المتوفّى عام ( ٣٨٠ ه‍ ) ـ ص ١٢، ومعاني الأخبار: ٣٣٦.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة (٣).

(٣) نهج البلاغة: الخطبة (١٢٧) شرح عبده، وقد ورد نظيره عن الإمام الحسين بن عليّ إذ قال: « أللّهم إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام ولكن لنرى المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك » راجع تحف العقول: ١٧٢ ( طبعة بيروت ).

٢٩٥

فكيف يمكن أمان المظلومين، وإقامة الحدود المعطّلة وإظهار الإصلاح العام في البلاد وتطبيق سنن الله وأحكامه بلا استثناء إلّا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المعتمدين على السلطة والناشئين عن جهاز تنفيذيّ ؟

إذ كيف يمكن قيام الفرد أو الأفراد بكلّ ذلك وهو بحاجة إلى قدرة وتمكّن ونفوذ أمر وسلطان ؟

ويمكن تأييد ضرورة وجود هذه السلطة واختصاص هذا النوع من ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) الذي يتجاوز القلب والوجه واللسان ويتعدّاه إلى ( اليد ) وإستعمال القوة والسلطة ؛ بتنديد الله بالربانيّين والأحبار الذين تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهم المسؤولون عن ذلك لأنّهم كانوا في مقام الإمرة وفي موقع السلطة فقال الله تعالى:( وَتَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) ( المائدة: ٦٢ ـ ٦٣ ).

وقد أشار الإمام عليّعليه‌السلام إلى تفسير هذه بقوله: « أمّا بعد فإنّه إنّما هلك من كان قبلكم حينما عملوا من المعاصي ولم ينههم الرَّبانيون والأحبار عن ذلك وأنَّهم لـمّا تمادوا في المعاصي ولم ينههم الرَّبانيون والأحبار عن ذلك نزلت بهم العقوبات »(١) .

وهكذا تفيد نصوص الكتاب والسنّة وجود نوعين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ أحدهما وظيفة جميع الأفراد والآخر وظيفة سلطة قادرة

وبذلك يجمع بين الطائفتين من الآيات والروايات اللتين يضع قسم منها هذه الوظيفة على عاتق الجميع، وقسم منها على عاتق جماعة خاصّة ؛ فالأوّل راجع إلى الوظيفة الفرديّة منهما، فهو الذي يجب على الجميع، والثاني راجع إلى الوظيفة الاجتماعيّة التي تختصّ باُمّة متمكّنة من السلطة.

وممّا يدلّ على هذا إلى جانب تلك النصوص فتاوى الفقهاء ـ في باب الحدود ـ

__________________

(١) وسائل الشيعة ١١: ٣٩٥.

٢٩٦

والتي تضافرت على أنّه لو وجب قتل مسلم قصاصاً لم يجز لأحد أن يقتص منه غير ولي الدم بإذن الحاكم أو الحاكم نفسه، فلو قتله غيره كان عليه القود، ولا يتوهّم أنّ من وجب عليه إجراء الحدّ، يكون مهدور الدم بالنسبة إلى كلّ واحد فإنّه توهّم باطل فإنّ من وجب عليه الحد والقصاص على أقسام :

١. إمّا أن يكون مهدور الدم لكلّ أحد كساب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو الكافر الحربيّ، فإنّه إذا قتله المسلم أو الذمي لا قود عليهما. ولكنّهما يعزّران لتدخلهما في أمر الحاكم.

٢. أن يكون مهدور الدم بالنسبة إلى المسلمين كالمرتد الفطريّ، فإذا قتله المسلم لا قود عليه، ولو قتله الذميّ فعليه قود، ومع ذلك فيعزّر المسلم لو قتله للتدخّل المذكور.

٣. أن يكون مهدور الدم بالنسبة إلى من له القصاص ( أي وليّ الدم ) ومن إليه القصاص ( أي الحاكم ) كالقاتل المسلم ظلماً فلا يجوز لغير ولي الدم أو الحاكم قتله(١) .

٤. أن يكون مهدور الدم بالنسبة إلى من إليه الحكم، كاللائط والزاني المحصن.

كما أنّ ممّا يدلّ على وجود نوعين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أنّ الفقهاء ذكروا للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر شروطاً أربعة هي :

١. أن يكون عارفاً بالمعروف من المنكر.

٢. أن يحتمل تأثير إنكاره فلو غلب على ظنّه أو علم أنّه لا يؤثّر لم يجب عليه شيء.

٣. أن يكون الفاعل للمنكر مصرّاً على الاستمرار فلو لاحت منه إمارة الامتناع أو قلع عنه، سقط الإنكار.

٤. أن لا يكون في الإنكار مفسدة، فلو ظنّ توجّه الضرر إليه، أو إلى ماله أو إلى أحد من المسلمين سقط(٢) .

__________________

(١) راجع جواهر الكلام ونظائر هذه المسألة من ص ١٥٩ ـ ١٩٨ الجزء ٤١.

(٢) شرائع الإسلام: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

٢٩٧

ومن المعلوم ؛ أنّ الشرط الثاني ( احتمال التأثير ) والثالث ( الإصرار على المنكر ) من شروط القسم الفرديّ من فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا الاجتماعيّ منهما إذ لا يعتبر في الاجتماعيّ من هذه الفريضة احتمال التأثير، بل للحاكم أن يجري الحدود والعقوبات المقرّرة فيقتصّ من القاتل أو الجارح، ويقطع يد السارق سواء أكان هناك تأثير أم لا.

كما أنّ للحاكم أن يجري الحدود والعقوبات المقرّرة سواء كرّر المجرم أم لم يكرّر جريمته ومعصيته، ولأجل هذا يجب التمييز والفصل بين الأمر والنهي الفردي، والأمر والنهي الاجتماعيّ العموميّ لاختلافهما في الشروط والغايات. ولا شكّ أنّ هذه المغايرة والتمايز يكشف ـ وبمعونة ما سبق وما يأتي من الأدّلة ـ عن أنّ القسم الثاني من هذه الفريضة هو من شأن سلطة تنفيذيّة وجهاز حكم وليس من شأن الأفراد.

دفع إشكال حول الأمر والنهي :

ربما يتوهّم أحد أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينطويان على مجرّد طلب فعل المعروف وطلب ترك المنكر وهذا ممّا لا يتحقّق في إجراء حدّ القتل أو الرجم على المحكوم بهما، فكيف يمكن أن نعتبرهما من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟

ولكن هذا الإشكال مدفوع بأنّ الطلب الإنشائي الذي هو من قبيل المفهوم، وإن لم يكن موجوداً في إجراء حدّ القتل والرجم لكنّه فيه واقعيّة الطلب وحقيقته وأثره، إذ باجراء هذين الحدّين تنعدم المنكرات واقعاً، ولو بالنسبة للآخرين، وهذا نظير قوله سبحانه:( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة: ١٧٩ ) فإن قتل القاتل وإن كان سلباً لحياته لكنّه إحياء للنفوس الاُخرى. وهو هدف القصاص، ولأجل ذلك كانت العرب تقول في مورد القصاص « القتل أنفى للقتل ».

وخلاصة القول أنّ الأثر المطلوب من إجراء الحدود وإن كان منفيّاً بالنسبة إلى الجاني نفسه ولكنّه موجود بالنسبة إلى المجتمع.

٢٩٨

هذا وممّا يؤكد وجود نوعين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنّ علماء الإسلام ذكروا للمحتسب وهو من يقوم بالأمر والنهي الاجتماعيّين شروطاً لا تعتبر في القسم الفرديّ من هذه الفريضة.

فقد قال ابن الاخوة القرشيّ في كتابه معالم القربة في أحكام الحسبة :

الحسبة من قواعد الاُمور الدينيّة، وقد كان أئمّة الصدر الأوّل يباشرونها بأنفسهم لعموم صلاحها وجزيل ثوابها وهي: أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله وإصلاح بين الناس، قال الله تعالى:( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إلّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ) ( النساء: ١١٤ ).

والمحتسب من نصبه الإمام أو نائبه للنظر في أحوال الرعيّة والكشف عن اُمورهم ومصالحهم ( وفي نسخة اُخرى: وبياعاتهم ومأكولهم ومشروبهم ومساكنهم وطرقاتهم ) وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.

ومن شروط المحتسب أن يكون: ( مسلماً ) ( حرّاً ) ( بالغاً ) ( عاقلاً ) ( عدلاً ) ( قادراً )(١) .

ومن المعلوم أنّ ( الحريّة ) و ( البلوغ ) و ( العدالة ) ليست شروطاً في القسم الفرديّ من وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فهذا التباين في الشرائط والصلاحيّات يكشف ـ بوضوح ـ عن تنوّع وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى نوعين مختلفين: فرديّ، وعموميّ، والأوّل هو وظيفة كلّ فرد من أفراد المسلمين، بينما يختصّ الثاني بجهاز وسلطة ويتطلّب وجودها في الحياة الإسلاميّة.

وظيفة المحتسب والسلطة التنفيذيّة :

وممّا يدلّ على اختصاص القسم الاجتماعيّ من وظيفة ( الأمر بالمعروف والنهي

__________________

(١) معالم القربة في أحكام الحسبة لابن الاخوة: ٧.

٢٩٩

عن المنكر ) والمسمّى بالحسبة، بالسلطة التنفيذيّة ؛ مطالبة الإمام عليّعليه‌السلام أحد ولاته على بعض الأمصار بأن يقوم بها ـ وهو في موقع الحكم ـ باعتبار أنّ ذلك أحد مسؤوليّاته ووظائفه وهو يتولّى اُمور المسلمين إذ قال: « من الحقّ عليك حفظُ نفسك والاحتسابُ على الرَّعيّة بجهدك فإنّ الّذي يصلُ إليك من ذلك ( أي من جانب الله ) أفضلُ من الّذي يصلُ بك ( أي من جانب الناس ) ».

وقد أشار صاحب كتاب معالم القربة في أحكام الحسبة فروقاً بين المحتسب والمتطوّع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ قال: ( وأمّا ما بين المحتسب المتولّي من السلطان وبين المنكر المتطوّع من عدّة أوجه :

أحدها: أنّ فرضه متعيّن على المحتسب ـ بحكم الولاية ـ وفرضه على غيره داخل تحت فرض الكفاية.

الثاني: أنّ قيام المحتسب به من حقوق تصرّفه الذي لا يجوز أن يتشاغل عنه بغيره، وقيام المتطوّع به من نوافل عمله الذي يجوز أن يتشاغل عنه بغيره.

الثالث: أنّه منصوب للاستعداء إليه في ما يجب إنكاره، وليس المتطوّع منصوباً للاستعداء.

الرابع: على المحتسب إجابة من استعداه وليس على المتطوّع إجابته.

الخامس: أنّ له أن يتّخذ على الإنكار أعواناً لأنّه عمل هو له منصوب، وإليه مندوب وليكون له أقهر، وعليه أقدر، وليس للمتطوّع أن يتّخذ لذلك أعواناً.

السادس: أنّ له أن يعزّر في المنكرات الظاهرة ولا يتجاوز بها الحدود، وليس للمتطوّع أن يعزّر.

السابع: أن يرتزق على حسبته من بيت المال وليس للمتطوّع أن يرتزق على إنكار منكر إلى غير ذلك.

فهذه وجوه الفرق بين من يحتسب بولاية السلطان ( أي يقوم بالقسم الاجتماعيّ

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

الآيات

( وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) )

التّفسير

في هذه الآيات إشارة إلى النعم التي أسبغها الله على إبراهيم ، وهي تتمثل في أبناء صالحين وذرية لائقة ، وهي من النعم الإلهية العظيمة.

يقول سبحانه :( وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ) ولم تذكر الآية ابن إبراهيم الآخر إسماعيل ، بل ورد اسمه خلال حديث آية تالية ، ولعل السبب يعود إلى أنّ ولادة إسحاق من (سارة) العقيم العجوز تعتبر نعمة عجيبة وغير متوقعة.

ثمّ يبيّن أنّ مكانة هذين لم تكن لمجرّد كونهما ولدي نبي ، بل لإشعاع نور الهداية في قلبيهما نتيجة التفكير السليم والعمل الصالح :( كُلًّا هَدَيْنا ) .

٣٦١

ثمّ لكيلا يتصور أحد أنه لم يكن هناك من يحمل لواء التوحيد قبل إبراهيم ، وأنّ التوحيد بدأ بإبراهيم ، يقول :( وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ ) .

إنّنا نعلم أن نوحا هو أوّل أولي العزم من الأنبياء الذين جاؤوا بدين وبشريعة.

فالإشارة إلى مكانة نوح ، وهو من أجداد إبراهيم ، والإشارة إلى فريق من الأنبياء من أبنائه وقبيلته ، إنّما هي توكيد لمكانة إبراهيم المتميزة من حيث «الوراثة والأصل» و «الذّرية».

وعلى أثر ذلك ترد أسماء عدد من الأنبياء من أسرة إبراهيم :( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ ) ، ثمّ يبيّن أن منزلة هؤلاء ناشئة من أعمالهم الصالحة وهم لذلك ينالون جزاءهم :( وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) .

هناك كلام كثير بين المفسّرين بشأن الضمير في( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ ) هل يعود إلى إبراهيم ، أم إلى نوح؟ غير أنّ أغلبهم يرجعه إلى إبراهيم ، والظاهر أنّه لا مجال للشك في عودة الضمير إلى إبراهيم ، لأنّ الكلام يدور على ما وهبه الله لإبراهيم ، لا لنوحعليهما‌السلام ، كما أنّ الرّوايات التي سوف نذكرها تؤيد هذا الرأي.

النقطة الوحيدة التي حدت ببعض المفسّرين إلى إرجاع الضمير إلى نوح هي ورود ذكر «يونس» و «لوط» في الآيات التّالية ، إذ المشهور في التّأريخ أنّ «يونس» لم يكن من أبناء إبراهيم ، كما أنّ «لوطا» كان ابن أخي إبراهيم أو ابن أخته.

غير أنّ المؤرخين ليسوا مجمعين على نسب «يونس» ، فبعضهم يراه من أسرة إبراهيم(١) وآخرون يرونه من أنبياء بني إسرائيل(٢) .

ثمّ إنّ الجاري عند المؤرخين أن يحفظوا النسب من جهة الأب ، ولكن ما

__________________

(١) تفسير الآلوسي ، ج ٧ ، ص ١٨٤.

(٢) دائرة المعارف فريد وجدي ، ج ١٠ ، ص ١٠٥٥ ـ في مادة «يونس».

٣٦٢

الذي يمنع من أن ينتسب «يونس» من جهة أمّه إلى إبراهيم ، كما هي الحال بالنسبة إلى عيسى الذين نقرأ اسمه في الآيات؟

أمّا «لوط» فهو ، وإن لم يكن من أبناء إبراهيم ، فقد كان من أسرته ، فالعرب تطلق لفظة «لأب» على «العم» ، وكذلك تعتبر ابن الأخ أو ابن الأخت من «ذرية» المرء. وعلى هذا ليس لنا أن نتغاضى من ظاهر هذه الآيات فنعيد الضمير إلى نوح ، وهو ليس موضوع القول هنا.

في الآية الثانية يرد ذكر زكريا ويحيى وعيسى والياس على أنّهم جميعا كانوا من الصالحين ، أي أنّ مكانتهم المرموقة ليست من باب المجاملة الإجبارية ، بل هي بسبب أعمالهم الصالحة في سبيل الله :( وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ) .

الآية الثالثة تذكر أربعة آخرين من الأنبياء والقادة الإلهيين ، وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط الذين رفعهم ربّهم درجات على أهل زمانهم :( وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ ) .

لم يتفق المفسّرون بشأن اسم «اليسع» فقد قال بعض : إنّه اسم عبري أصله «يوشع» ثمّ أضيفت إليه الألف وللام وأبدلت الشين سينا ، وبعض يرى أنّه اسم عربي من الفعل المضارع «يسع» وعلى كل حال هو اسم أحد الأنبياء من نسل إبراهيم.

وفي الآية الأخيرة إشارة عامّة إلى آباء الأنبياء المذكورين وأبنائهم وإخوانهم ممن لم ترد أسماؤهم بالتفصيل وهم جميعا من الصالحين الذين هداهم الله :( وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .

* * *

٣٦٣

ملاحظات

هنا لا بدّ من الإشارة إلى بعض النقاط :

١ ـ أبناء النّبي :

في هذه الآيات اعتبر عيسى من أبناء إبراهيم (وباحتمال من أبناء نوح) مع انّنا نعلم أنّ اتصاله بهما إنّما هو من جهة الأم ، وهذا دليل على أنّ سلسلة النسب تتقدم من جهة الأب والأم تقدما متساويا ، ولذلك فإنّ الأحفاد من الابن أو البنت هم ذرية المرء وأولاده.

وعلى هذا فإنّ أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، وهو جميعا من أحفاد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ابنته يعتبرون أبناء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

إنّ جاهلية ما قبل الإسلام لم تكن تعترف للمرأة بأية مكانة أو قيمة ، وكان النسب عندهم ما اتصل من جهة الأب فقط ، غير أنّ الإسلام أبطل هذه العادة الجاهلية ، ومن المؤسف أنّ بعض أصحاب الأقلام الذين في نفوسهم شيء تجاه أئمة أهل البيتعليهم‌السلام ، سعوا إلى إنكار هذا الموضوع ، وحاولوا العودة إلى الجاهلية بالامتناع عن نسبة أبناء فاطمة إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورفضوا اطلاق عبارة «ابن رسول الله» عليهم إحياء للتقاليد الجاهلية.

هذا الموضوع نفسه كان قد عرض للمناقشة على عهود الأئمّة ، فكانوا يجيبونهم بهذه الآية باعتبارها الدليل الدامغ والردّ الحاسم على ما يفترون.

من ذلك ما جاء في «الكافي» وفي تفسير العياشي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «والله لقد نسب الله عيسى بن مريم في القرآن إلى إبراهيمعليه‌السلام من قبل النساء ثمّ تلا :( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ ) إلى آخر الآيتين ، وذكر عيسى.

وفي تفسير العياشي عن أبي الأسود قال : أرسل الحجاج إلى يحيى بن معمر قال : بلغني أنّك تزعم أنّ الحسن والحسين من ذرية النّبي تجدونه في كتاب الله ، وقد قرأت كتاب الله من أوّله إلى آخره فلم أجده ، قال : أليس تقرأ سورة الأنعام :

٣٦٤

( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ ) حتى بلغ( يَحْيى وَعِيسى ) أليس عيسى من ذرية إبراهيم وليس له أب؟ قال : صدقت.

وفي (عيون أخبار الرضا) في باب جمل من أخبار موسى بن جعفرعليه‌السلام مع هارون الرشيد ومع موسى بن المهدي حديث طويل بينه وبين هارون وفيه ثمّ قال : كيف قلتم : إنّا ذريّة النّبي ، والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يعقب ، وإنّما العقب للذكر ، لا للأنثى وأنتم ولد لابنته ، ولا يكون لها عقب ، فقلت : «أسألك بحق القرابة والقبر ومن فيه إلّا ما اعفيتني من هذه المسألة» فقال : لا ، أو تخبرني بحجّتكم فيه يا ولد علي ، وأنت يا موسى يعسوبهم وإمام زمانهم ، كذا أنهى إلي ، وليست أعفيك في كل ما أسألك عنه حتى تأتيني فيه بحجّة من كتاب الله ، وأنتم تدعون معشر ولد علي أنّه لا يسقط عنكم منه شيء لا ألف ولا واو ، إلّا تأويله عندكم ، واحتججتم بقولهعزوجل :( ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ) واستغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم ، فقلت : «تأذن لي في الجواب؟» قال : هات ، فقلت : «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم :( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى ) من أبو عيسى يا أمير المؤمنين؟ قال : ليس لعيسى أب ، فقلت : «إنّما الحق بذراري الأنبياء من طريق مريمعليها‌السلام ، وكذلك ألحقنا بذراري النّبي من قبل أمنا فاطمةعليها‌السلام »(١) .

يلفت النظر أنّ بعض المتعصبين من أهل السنة تطرقوا إلى هذا الموضوع عند تفسيرهم لهذه الآية ، منهم الفخر الرازي في تفسيره حيث استدل بها أن الحسن والحسين من ذرية النّبي ، لأنّ الله ذكر عيسى من ذرية إبراهيم مع أنّه يرتبط به عن طريق الأم فقط(٢) .

وصاحب المنار الذي لا يقل تعصبا عن الفخر الرازي يقول : بعد أن ينقل

__________________

(١) تفسير (نور الثقلين) ، ج ١ ، ص ٧٤٣.

(٢) تفسير الفخر الرازي ، ج ١٣ ، ص ٦٦.

٣٦٥

كلام الرازي ، أنّ في هذا الباب حديثا كره البخاري في صحيحه عن أبي بكر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال مشيرا إلى الحسن بن عليعليه‌السلام : «إنّ ابني هذا سيد» بينما كانت لفظة (ابن) عند عرب الجاهلية لا تطلق على ابن البنت ثمّ يضيف ، لهذا السبب ، اعتبر الناس أولاد فاطمة أولاد رسول الله وعترته وأهل بيته.

لا شك أنّ أبناء البنت وأبناء الابن هم أبناء المرء ولا فرق بينهما ، ولا هي قضية اختص بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحده ، وما سبب الاعتراض على هذا إلّا التعصب وإلّا التمسك بالأفكار الجاهلية ، ولهذا نجد جميع التشريعات الإسلامية ، كالزواج والإرث ، لا تفرق بينهما ، إنّ الاستثناء الوحيد في هذا الباب هو في موضوع الخمس الذي ورد في كتب الفقه ، حيث جعل لمن تحصل فيه عنوان السيادة.

٢ ـ لماذا وردت أسماء الأنبياء في ثلاث مجموعات في ثلاث آيات؟

يحتمل بعض المفسّرين أنّ المجموعة الأولى : داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون هؤلاء الستة ، كانوا بالإضافة إلى نبوتهم يمسكون بيدهم القيادة وزمان الحكم ، ولعل ورود( كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) إشارة إلى الأعمال الصالحة التي قاموا بها أثناء حكمهم.

أمّا المجموعة الثّانية : زكريا ويحيى وعيسى والياس ، فهم بالإضافة إلى نبوتهم كانوا معروفين بالزهد واعتزال الدنيا ، فجاء تعبير :( كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ) بعد ذكر أسمائهم.

والمجموعة الثّالثة : إسماعيل واليسع ويونس ولوط ، فهم يشتركون في كونهم قاموا برحلات طويلة وهاجروا في سبيل نشر دعوة الله ، وعبارة( كلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ ) (إذ اعتبرنا الإشارة إلى هؤلاء الأربعة ، لا لجميع من ورد ذكرهم في هذه الآيات الثلاث) تعتبر إشارة إلى هجرة هؤلاء في أرجاء الأرض وبين الأقوام المختلفة.

٣٦٦

٣ ـ أهمية الأبناء الصالحين في تعريف شخصية الإنسان :

وهذا موضوع آخر يستنتج من هذه الآيات ، فلإضفاء الأهمية على شخصية إبراهيمعليه‌السلام بطل تحطيم الأصنام ، يشير الله إلى شخصيات إنسانية عظيمة كانوا من ذريّته في العصور المختلفة ، ويصفهم بصفات جليلة ، بحيث نجد من بين مجموع خمسة وعشرين نبيّا ورد ذكرهم في القرآن ، ستة عشر منهم من ذرية إبراهيم ، وواحدا من أجداده ، وهذا في الواقع درس كبير للمسلمين كافة لكي يدركوا أنّ أبناءهم جزء من كيانهم وشخصيتهم ، وأنّ لقضاياهم التربوية والإنسان أهمية كبيرة جدا.

٤ ـ جواب على اعتراض :

لعل الذين يقرءون :( وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) يستنتجون أنّ آباء الأنبياء لم يكونوا جميعا من المؤمنين وأنّ منهم من لم يكن موحدا ، كما يقول بعض المفسّرين من أهل السنة عند تفسير هذه الآية ، ولكنّنا يجب أن نلاحظ أنّ تعبير( اجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ ) بالقرينة الموجودة في هذه الآيات تعني مقام النبوة وحمل الرسالة ، وبهذا يتهاوى الاعتراض ، أي أنّ معنى هذه الآية سيكون هكذا : إنّنا قد اخترنا بعضا منهم لمقام النبوة ، وهذا لا يعني أنّ الآخرين لم يكونوا موحدين وفي الآية (٩٠) من هذه السورة وردت لفظة «الهداية» بمعنى النبوة(١) .

* * *

__________________

(١) «من آبائهم» جار ومجرور متعلقان أمّا بجملة «فضلنا» الواردة في الآية السابقة أو بمحذوف تفسره الجملة التّالية فيكون الأصل «اجتبينا من آبائهم» ينبغي الالتفات إلى أن «من» في الآية تبعيضية حسب الظاهر.

٣٦٧

الآيات

( ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠) )

التّفسير

ثلاثة امتيازات مهمّة :

بعد ذكر مجموعات الأنبياء في الآيات السابقة ، تتناول هذه الآيات الخطوط العامّة لحياتهم ، وتبدأ القول :( ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) .

أي أنّ هؤلاء على الرغم من صلاحهم واسترشادهم بقوة العقل والفكر في سيرهم الحثيث على طريق الهداية ، شملتهم عناية الهداية الإلهية ، وأخذت بأيديهم وإلّا فاحتمال انحرافهم وانحراف كل انسان موجود دائما.

ولكيلا يحسب البعض أنّ هؤلاء قد أجبروا على السير في هذا الطريق ، أو

٣٦٨

يظن أنّ الله ينظر إلى هؤلاء نظرة خاصّة واستثنائية دونما سبب ، يقول القرآن عنهم :( وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

فهم إذن مشمولون بهذا القانون الإلهي الذي يسري على غيرهم بغير محاباة.

الآية التّالية تشير إلى ثلاثة امتيازات مهمّة هي أساس جميع امتيازات الأنبياء ، وهي قوله :( أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ) .

ولا يعني هذا أنّهم جميعا كانوا من أصحاب الكتب السماوية ، ولكن الكلام يدور على المجموع ، فنسب الكتاب إلى المجموع أيضا ، وهذا كقولنا : الكتاب الفلاني ذكر العلماء وكتبهم ، أي كتب من له تأليف منهم.

أمّا المقصود من «الحكم» فثمّة احتمالات ثلاثة :

١ ـ الحكم بمعنى «العقل والإدراك» ، أي : إنّنا فضلا عن إنزال كتاب سماوي عليهم فقد وهبناهم القدرة على التعقل والفهم ، إذ أن وجود الكتاب بغير وجود القدرة على فهمه فهما كاملا عميقا لا جدوى فيه.

٢ ـ بمعنى «القضاء» أي أنّهم باستنباط القوانين الإلهية من تلك الكتب السماوية كانوا قادرين على أن يقضوا بين الناس بامتلاكهم لجميع شروط القاضي العادل.

٣ ـ بمعنى «الحكومة» والإمساك بزمان الإدارة ، بالإضافة إلى مقام النّبوة ، إنّ الدليل على المعاني المذكورة ـ بالإضافة إلى المعنى اللغوي الذي ينطبق عليها ـ هو أنّ كلمة «الحكم» قد وردت بهذه المعاني نفسها أيضا في آيات أخرى من القرآن(١) .

وليس ثمّة ما يمنع من أنّ يشمل استعمال الكلمة في هذه الآية المعاني الثلاثة مجتمعة ، فالحكم أصلا ـ كما يقول «الراغب» في «مفرداته» هو المنع ،

__________________

(١) جاءت في الآية (١٢) من سورة لقمان بمعنى العلم والفهم ، وفي الآية (٢٢) من سورة ص بمعنى القضاء ، وفي الآية (٢٦) من سورة الكهف بمعنى الحكومة.

٣٦٩

ومن ذلك العقل الذي يمنع من وقوع الأخطاء والمخالفات ، وكذلك القضاء الصحيح يمنع من وقوع الظلم ، والحكومة العادلة تقف بوجه الحكومات غير العادلة ، فهي قد استعملت في المعاني الثلاثة.

قلنا من قبل إنّ جميع الأنبياء لم يكونوا يحظون بهذه الامتيازات كلها ، وإسناد حكم إلى الجمع لا يعني شموله جميع أفراد ذلك الجمع ، بل قد يكون لبعض أفراده ، ومن ذلك مسألة إيتاء الكتاب لهؤلاء الأنبياء.

ثمّ يقول : لئن رفضت هذه الجماعة (أي المشركون وأهل مكّة) تلك الحقائق ، فإن دعوتك لن تبقى بغير استجابة ، إذ إنّنا قد أمرنا جمعا آخر لا بقبولها فحسب ، بل وبالحفاظ عليها فهم لا يسلكون طريق الكفر أبدا ، بل يتبعون الحقّ :( فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ ) .

جاء في تفسير «المنار» وتفسير «روح المعاني» عن بعض المفسّرين أنّ المقصود بالقوم هم الفرس ، وقد أسرعوا في قبول الإسلام وجاهدوا في سبيل نشره ، وظهر فيهم العلماء في شتى العلوم والفنون الإسلامية وألفوا الكثير من الكتب(١) .

الآية الأخيرة تجعل من منهاج هؤلاء الأنبياء العظام قدوة رفيعة للهداية تعرض على رسول لاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتقول له :( أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) (٢) .

تؤكّد هذه الآية مرّة أخرى على أن أصول الدعوة التي قام بها الأنبياء

__________________

(١) يحتمل أيضا أن يكون المراد من «هؤلاء» هم الأنبياء أنفسهم ، أي إذا افترضنا المستحيل ، وقلنا أنّ هؤلاء الأنبياء العظام تخلوا عن أداء الرسالة الإلهية ، فإنّ الرسالة كانت تواصل سيرها على أيدي قوم آخرين ، هنالك تعبيرات مماثلة في القرآن ، كما جاء في الآية (٦٥) من سورة الزمر( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) .

(٢) الهاء في «اقتده» ليست ضميرا ، بل هي هاء السكت التي تلحق الكلمة المتحركة عند الوقف ، مثل همزة الوصل التي يؤتى بها إذا كان حرف الابتداء في الكلمة ساكنا ، وهي تسقط عند الوصل ، مثل هاء السكت غير أنّ هذه الهاء بقيت في الكتابة القرآنية من باب الاحتياط وارتوى الوقف هنا لكي تظهر هاء السكت.

٣٧٠

واحدة ، بالرغم من وجود بعض الاختلافات الخاصّة والخصائص اللازمة التي تقتضيها الحاجة في كل زمان ومكان ، وكل دين تال يكون أكمل من الدين السابق. بحيث تستمر مسيرة الدروس العلمية والتربوية حتى تصل إلى المرحلة النهاية ، أي الإسلام.

ولكن ما المقصود من أمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يهتدي أولئك الأنبياء؟

يقول بعض المفسّرين : إنّ المقصود قد يكون هو الصبر وقوة التحمل والثبات في مواجهة المشاكل ، ويقول بعض آخر إنّه «التوحيد وإبلاغ الرسالة» ولكن يبدو أنّ للهداية معنى واسعا يشمل التوحيد وسائر الأصول العقائدية ، كما يشمل الصبر والثبات وسائر الأصول الأخلاقية والتربوية.

يتّضح ممّا سبق أنّ هذه الآية لا تتعارض مع القول بأنّ الإسلام ناسخ الأديان والشرائع السابقة ، إذ أنّ النسخ إنّما يشمل جانبا من أحكام تلك الشرائع لا الأصول العامّة للدعوة.

ثمّ يؤمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول للنّاس إنّه مثل سائر الأنبياء لا يتقاضى أجرا لقاء عملية تبليغ الرسالة :( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ) .

ليس الاقتداء بالأنبياء وبسنتهم الخالدة هو وحده الذي يوجب عليّ عدم طلب الأجر ، بل أنّ هذه الدين الطاهر الذي جئتكم به وديعة إلهية أضعها بين أيديكم ، وطلب الأجر على ذلك لا معنى له.

ثمّ إنّ هذا القرآن وهذه الرسالة والهداية إن هي إلّا إيقاظ وتوعية للناس جميعا :( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ ) .

إنّ النعم العامّة الشاملة مثل نور الشمس والهواء والأمطار هي أمور عامّة وعالمية ، لاتباع ولا تشترى ، ولا أجر يعطى لقاءها ، هذه الهداية أو الرسالة ليست خاصّة ومقصورة على بعض دون بعض حتى يمكن طلب الأجر عليها ، (ممّا قيل في تفسير هذه العبارة يتضح الترابط بينها وبين عبارات الآية الأخرى ، وبين ما

٣٧١

سبقها من آيات).

كما يتّضح من هذه الآية الأخيرة أنّ الدين الإسلامي ليس قوميا ولا إقليميا ، وإنّما هو دين عالمي عام.

* * *

٣٧٢

الآية

( وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) )

سبب النّزول

الغافلون عن الله :

روي عن ابن عباس أنّ جمعا من اليهود قالوا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا محمّد أحقا أنزل الله عليك كتابا؟ فقال : نعم ، فقالوا : قسما بالله إنّه لم ينزل عليك كتابا من السماء(١) .

هنالك أقوال أخرى في سبب نزول هذه الآية ، ولكنّنا سنعرف فيما بعد أنّ ما قلناه أقرب وأنسب.

__________________

(١) تفاسير مجمع البيان وأبي الفتوح الرازي والمنار في تفسير الآية.

٣٧٣

التّفسير

يختلف المفسّرون حول كون هذه الآية واردة بشأن اليهود أو المشركين ، ولمّا لم تكن لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباحثات مع اليهود في مكّة ، بل بدأت في المدينة ، وهذا السورة مكّية ، لذلك يرى بعضهم أنّ هذه الآية قد نزلت في المدينة ، إلّا أنّها وضعت في هذه السّورة المكية بأمر من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولهذا في القرآن ما يشابهه.

لاتضاح الحقيقة يجب أن نتعرف أوّلا على تفسير الآية الإجمالي ، ثمّ نبحث عمن تتحدث عنه الآية ، وعمّا تستهدفه.

في البداية تقول الآية : إنّهم لم يعرفوا الله معرفة صحيحة وأنكروا نزول كتاب سماوي على أحد :( وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ) .

فيأمر الله رسوله أن( قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ ) .

ذلك الكتاب الذي جعلتموه صحائف متناثرة ، تظهرون منه ما ينفعكم وتخفون ما تظنونه يضرّكم :( تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً ) .

إنّكم تتعلمون من هذا الكتاب السماوي أمورا كثيرة لم تكونوا أنتم ولاءاباؤكم تعلمون عنها شيئا :( وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ ) .

وفي ختام الآية يؤمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يذكر الله وأن يترك أولئك في أباطيلهم وعنادهم ولعبهم :( قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ) .

إذا كانت هذه الآية قد نزلت في المدينة وكان اليهود هم المعنيين بها ، يكون المعنى أنّ جمعا من اليهود كانوا ينكرون نزول كتاب سماوي على الأنبياء.

ولكن هل يمكن أن ينكر اليهود ـ اتباع التّوراة ـ نزول كتاب سماوي؟ نعم ، وسيزول عجبك إذا علمت المسألة التّالية : لو أمعنا النظر في العهد الجديد

٣٧٤

(الإنجيل) والعهد القديم (التّوراة والكتب الملحقة بها) نجد أنّ كل هذه الكتب تفتقر إلى المسحة السماوية ، أي أنّها ليست خطابا موجها من الله إلى البشر ، بل إنّها مقولات وردت على ألسنة تلامذة موسى والمسيحعليهما‌السلام وأتباعهما على شكل سرد لحوادث تاريخية وسير ، والظاهر أنّ اليهود والمسيحيين اليوم لا ينكرون ذلك ، إذ أنّ حكاية موت موسى وعيسى وحوادث كثيرة أخرى وقعت بعدهما وردت في هذه الكتب ، لا باعتبارها تنبؤات عن المستقبل ، بل سردا لحوادث ماضية ، فهل يمكن لكتب مثل هذه أن تكون قد نزلت على موسى وعيسى؟!

كل ما في الأمر أنّ المسيحيين واليهود يعتقدون أنّ هذه الكتب قد كتبت بأيدي أناس عندهم أخبار عن الوحي ، فاعتبروها كتبا مقدسة خالية من الخطأ ويمكن الاعتماد عليها.

بناء على هذا يتضح لنا لماذا كان هؤلاء ينتابهم العجب لدى سماعهم أسلوب القرآن بشكل خطاب من الله إلى النّبي وإلى عباد الله؟ وكما قرأنا في سبب نزول هذه الآية فإنّهم قد انتابهم العجب فسألوا الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن كان الله قد أنزل عليه ـ حقا ـ كتاب ، ثمّ أنكروا هذا الأمر كليا ونفوا أن يكون أي كتاب قد نزل على أحد ، حتى على موسى.

غير أنّ الله يردّ عليهم قائلا : إنّكم ـ أنفسكم ـ تعتقدون أن ألواحا ومواضيع قد نزلت على موسى ، أي إنّ الكتاب الذي بين أيديكم وان لم يكن كتابا سماويا إلّا أنّكم تؤمنون ـ على الأقل ـ بأنّ شيئا مثل هذا قد نزل من قبل الله ، وأنتم تظهرون قسما منه وتخفون كثيرا منه : وعلى ذلك فلا يبقى مجال للشك في إمكان إنكار اليهود نزول كتاب سماوي.

أمّا إذا كانت الآية كسائر آيات هذه السّورة تخصّ المشركين ، فيكون المعنى أنّهم أنكروا نزول أي كتاب سماوي لانكار ونفي دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن الله يبيّن

٣٧٥

لهم منطقيا أنّهم لا يستطيعون إنكار ذلك كليا بالنظر لنزول التّوراة على موسى ، وأنّ المشركين ـ وإن لم يدينوا بدين اليهود ـ كانوا يعتبرون الأنبياء السابقين وإبراهيم ، وموسى أيضا على أقوى احتمال ـ أنبياء في عصورهم وأقاليمهم ، لذلك فهم عند ظهور نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لجأوا إلى أهل الكتاب يبحثون عندهم في كتبهم عن أمارات ودلائل تتنبأ بظهور هذا النّبي ، فلو لم يكونوا يؤمنون بأنّ تلك الكتب نازلة من السماء ، لما لجأوا إليها يطلبون ما طلبوا ، لذلك فهم بعد أن سألوا اليهود ، أظهروا ما كانت فيه مصلحتهم ، وأخفوا ما عداه (كعلامات ظهور النّبي الجديد المذكورة في تلك الكتب) ، وعلى هذا يمكن تطبيق هذه الآية على أقوال مشركي مكّة أيضا.

لكن التّفسير الأوّل أقرب إلى سياق الآية وسبب النّزول وما فيها من ضمائر.

ملاحظات :

هنا لا بدّ من الإشارة إلى بضع نقاط :

١ ـ «قراطيس» جمع «قرطاس» من أصل يوناني حسب قول بعضهم ، وهو «ما يكتب فيه» كما يقول «الراغب» في «مفرداته» وبناء على ذلك فإن الورق العادي وجلود الحيوانات والأشجار وأمثالها التي كانت تستخدم في الكتابة قديما ، تنضوي تحت هذه الكلمة.

٢ ـ قد يسأل سائل : لماذا تذم الآية اليهود كتابتهم الوحي الإلهي على القراطيس ، وهل في تلك ما يوجب الذم؟

وجوابا على ذلك نقول : إنّ الذم لم يكن لهذا السبب ، إنّما السبب هو أنّهم كتبوه على قراطيس متفرقة بحيث يمكنهم أن يظهروا منه ما تقتضيه منافعهم ، وأن يخفوا ما يؤدي إلى ضررهم.

٣ ـ إنّ عبارة( وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) في الواقع إشارة إلى أنّ من يعرف

٣٧٦

الله معرفة صحيحة لا يمكن أن ينكر إرساله الهداة والمرشدين ومعهم الكتب السماوية إلى البشر ، لأنّ حكمة الله توجب :

أوّلا : أن يعين الإنسان في مسيرته المليئة بالمنعطفات لبلوغ هدفه التكاملي الذي خلق من أجله وإلّا انتقض الهدف من الخلقة ، وهذا الهدف لا يمكن تحقيقه بغير الوحي والكتب السماوية والتعاليم السليمة من كل خطأ وسهو.

ثانيا : كيف يمكن لربوبية الله ذات الرحمة العامّة والخاصّة أن تترك الإنسان وحيدا في طريق سعادته المليء بمختلف الموانع والعقبات والمتاهات ، فلا يرسل إليه قائدا ومرشدا يحمل التعاليم الشاملة للأخذ بيده وتوجيهه ، وعليه فإن حكمته ورحمته توجبان إرسال الرسل وإنزال الكتب السماوية.

لا شك أن معرفة حقيقة الذات الالهية المقدسة وكنه صفاته غير ممكنة ، وهذه الآية لا تقصد هذا الحدّ من معرفة الله ، وإنّما تريد أن تقول : لو حصل الإنسان على المقدار الميسور من معرفة الله فلا يبقي شك بأن مثل هذا الربّ لا يمكن أن يترك عباده بدون هاد ودليل وكتاب سماوي.

* * *

٣٧٧

الآية

( وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢) )

التّفسير

تعقيبا على البحث الذي دار في الآيات السابقة حول كتاب اليهود السماوي ، تشير هذه الآية إلى القرآن باعتباره كتابا سماويا آخر ، والواقع أنّ ذكر التّوراة مقدمة لذكر القرآن لإزالة كل عجب وتخوف من نزول كتاب سماوي على فرد من البشر ، فتبدأ بالقول :( وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ ) وهو كتاب «مبارك» لأنّه مصدر كل خير وبركة وصلاح وتقدم ، ثمّ إنّه يؤكّد الكتب التي نزلت قبله :( مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ) ، والمقصود من أنّ القرآن يصدق الكتب التي بين يديه هو أنّ جميع الإشارات والإمارات التي وردت فيها تنطبق عليه.

وهكذا نجد علامتين على أحقّية القرآن وردتا في عبارتين : الأولى : وجود علامات في الكتب السابقة تخبر عنه ، والثّانية : محتوى القرآن نفسه الذي يضم كل خير وبركة وسعادة ، وبناء على ذلك فصدق القرآن يتجلى في محتواه من جهة ، وفي المستندات التّأريخية من جهة أخرى.

٣٧٨

ثمّ يبيّن القرآن هدف نزوله وهو توجيه الإنذار والتحذير لأم القرى (مكّة) والساكنين حولها وتنبيههم إلى مسئولياتهم وواجباتهم :( وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها ) (١) .

«الإنذار» اخبار فيه تخويف من ترك الواجبات والمسؤوليات وهذا من أهم أهداف القرآن ، خاصّة بالنسبة للطغاة المعاندين.

وفي الختام تقرر الآية أنّ الذين يعتقدون بيوم القيامة ، يوم الحساب والجزاء ، سيصدقون بهذا الكتاب ، ويؤدون فريضة الصّلاة ولا يفرطون فيها :( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ ) .

* * *

بحوث

نلفت الانتباه هنا إلى النقاط التّالية :

١ ـ الإسلام دين عالمي

تبيّن آيات القرآن المختلفة بما لا يدع مجالا للشك أنّ الإسلام دين عالمي ، من ذلك :( لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) (٢) و( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ) (٣) . و( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ) (٤) وغيرها كثير في القرآن ، ولكلّها تؤكّد هذه الحقيقة ، وإنّه لمما يثير الانتباه أنّ معظم هذه الآيات قد نزلت في مكّة يوم لم يكن الإسلام قد تخطى حدود تلك المدينة.

ولكن فيما يخص الآية التي نحن بصددها ، يظهر لنا السؤال التالي : إنّ الآية

__________________

(١) يختلف المفسّرون في الجملة التي يمكن أن نعطف عليها جملة «ولتنذر» ولعلها معطوفة على جملة محذوفة بمعنى «لتبشر» أو مثلها.

(٢) الأنعام ، ١٩.

(٣) الأنعام ، ٩٠.

(٤) الأعراف ، ١٥٨.

٣٧٩

توجه الإنذار والهداية إلى ام القرى ومن حولها ، فكيف ينسجم هذا مع القول بأنّ الإسلام عالمي؟

في الحقيقة أنّ هذا الاعتراض جاء أيضا على لسان اليهود وغيرهم من أتباع الأديان الأخرى ظانين أنّهم قد أصابوا من عالمية الإسلام مقتلا ، باعتبار أنّ الآية تحدد مكانه بمنطقة خاصّة هي مكّة وأطرافها(١) .

الجواب :

يتّضح الجواب من هذا الاعتراض بالانتباه إلى نقطتين ، بحيث ندرك أنّ هذه الآية ، فضلا عن كونها لا تتعارض مع عالمية الإسلام ، هي واحد من أدلة عالميته أيضا : القرية بلغة القرآن اسم لكل موضع يجتمع فيه الناس ، سواء كان مدينة كبيرة أم قرية صغيرة ، ففي سورة يوسف ـ مثلا ـ جاء على لسان اخوة يوسف يخاطبون أباهم :( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها ) (٢) ونحن نعلم أنّهم كانوا قد رجعوا لتوهم من عاصمة مصر حيث حجز عزيز مصر أخاهم (بنيامين) كذلك نقرأ :( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) (٣) . بديهي أنّ المقصود هنا ليس القرى في الأرياف ، بل هو كل منطقة مسكونة في العالم.

ومن جهة أخرى هناك روايات عديدة تقول : إنّ اليابسة قد انتشرت من تحت الكعبة ، وهو ما أطلق عليه اسم «دحو الأرض».

كما أنّنا نعلم أنّه في البداية هطلت أمطار غزيرة فغطّى الماء الكرة الأرضية برمتها ، ثمّ غاض الماء شيئا فشيئا واستقر في المنخفضات ، وظهرت اليابسة من

__________________

(١) ورد اعتراض بعض المستشرقين بهذا الشأن ذكره صاحب المنار ، ج ٧ ، ص ٦٢١ ، وفي تفسير في ظلال القرآن ، ج ٣ ، ص ٣٠٥.

(٢) يوسف ، ٨٢.

(٣) الأعراف ، ٩٦.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611