الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 611

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 611 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 134904 / تحميل: 6368
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

مؤلف:
العربية

١
٢

٣

الآيتان

( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) )

سبب النّزول

وردت روايات عديدة في سبب نزول الآيتين الأخيرتين أوضحها ما نقل عن الإمام الباقرعليه‌السلام في هذا المجال ، وخلاصة ذلك أنّ أحد وجهاء اليهود في منطقة خيبر كان متزوجا ، فارتكب عملا غير شرعي ومخالفا للعفة مع امرأة

٤

متزوجة من عائلة خيبرية مشهورة ، فاغتم اليهود كيف ينفذون حكم التّوراة (الرجم) في وجيههم ذلك وفي شريكته في الذنب ، فأخذوا يبحثون عن حل لهذه المعضلة لينقذوهما من العقوبة المذكورة ، وفي نفس الوقت ليظهروا التزامهم بالأحكام الإلهية ، ودفعهم هذا الأمر إلى الاستعانة بأبناء طائفتهم الموجودين في المدينة المنورة ، وطلبوا منهم أن يسألوا عن حكم هذه الحادثة من النّبى محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (حتى إذا كان الحكم بسيطا وخفيفا أخذوا به ، وإذا كان شديدا تجاهلوه وتناسوه ، ولعلهم أرادوا بسؤالهم ذلك أن يلفتوا انتباه نبيّ الإسلام إلى أنفسهم وليظهروا أنفسهم بأنّهم أصدقاء للمسلمين).

ولهذا الغرض توجه عدد من وجهاء يهود المدينة للقاء النّبى محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسألهم النّبىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن كانوا سيقبلون بكل حكم يصدره ، فأجابوه بأنّهم قدموا إليه لهذا السبب! فنزل في تلك الأثناء حكم رجم مرتكب الزنا مع المرأة المحصنة ، لكن اليهود لم يبدوا استعدادا لقبول هذا الحكم ، بدعوى أنّ ديانتهم تخلو من مثله ، فرد عليهم النّبىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ هذا الحكم هو نفس ذلك الذي هو عندهم في التّوراة ، وسألهم إن كانوا يقبلون بحضور أحد علمائهم ليتلو عليهم حكم التّوراة في تلك القضية ليأخذوا به ، فوافقوا على ذلك ، فسألهم النّبي عن رأيهم في العالم اليهودي (ابن صوريا) الذي كان يقطن منطقة (فدك) فأجابوه بأنّه خير من يعرف التّوراة من اليهود.

فبعث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى هذا العالم ، فلمّا قدم عنده أقسم عليه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالله الواحد الأحد الذي أنزل التّوراة على موسى وفلق البحر لإنقاذ بني إسرائيل وأغرق عدوّهم فرعون وأنزل عليهم نعمه في صحراء سيناء ، أن يصدق القول إن كان حكم الرجم قد نزل في التّوراة في مثل تلك الواقعة أم لم ينزل؟ فأجاب العالم اليهودي (ابن صوريا) بأنّه مرغم بسبب القسم الذي أقسمه عليه النّبي أن يقول الحقيقة ويعترف بوجود حكم الرجم في التّوراة.

٥

فسأل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اليهود عن سبب احجامهم عن تطبيق الحكم المذكور ، فأجاب (ابن صوريا) بأنّهم كانوا يطبقون هذا الحكم بحقّ العامّة من أبناء طائفتهم ويصونون الأثرياء والوجهاء منهم من تنفيذ هذا الحكم بحقّهم ، فأدى هذا التهاون إلى انتشار الخطيئة المذكورة بين أثرياء اليهود حتى بادر إلى ارتكابها ابن عم لأحد رؤساء الطائفة ، فلم يطبق بحقه الحكم الشرعي بحسب العادة المتبعة لديهم ، وصادف في نفس ذلك الوقت أن ارتكب نفس الخطيئة أحد عامّة الناس من أبناء الطائفة ، فأرادوا تطبيق حكم الرجم بحقّه لكن أقاربه اعترضوا على ذلك ، وقالوا : إذا كان لا بدّ من تنفيذ هذا الحكم فيجب أن ينفذ بحق الاثنين (الوجيه اليهودي والشخص الآخر العادي) ، فعمد عند ذلك علماء الطائفة إلى سنّ حكم أخف من الرجم وهو أن يجلد الزناة ٤٠ جلدة وتسود وجوههم ويركبوا دابة ويطاف بهم في أزقة وأسواق المنطقة!

فأمر النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الفور أن يرجم ذلك الرجل الوجيه والمرأة الثرية أمام المسجد(١) وأشهد الله في ذلك الحين بأنّه هو أول شخص يحيي حكم الله بعد أن أماته اليهود.

في تلك الأثناء نزلت الآيتان الأخيرتان وتحدّثنا عن القضية المذكورة بالإيجاز.

التّفسير

التّحكيم بين الأنصار والأعداء :

تدلّ هاتان الآيتان والآيات التي تليهما ، على أنّ للقاضي المسلم الحق ـ في ظل شروطه خاصّة ـ في الحكم في جرائم الطوائف الأخرى من غير المسلمين ،

__________________

(١) ذكرت الرّوايات التي جاء بها (البيهقي) في الجزء الثامن من سننه ، ص ٢٦٦ أن علماء اليهود حين قدموا إلى النّبي كانوا قد جلبوا معهم الرجل والمرأة الزانيين.

٦

وسيأتي شرح هذا الموضوع في تفسير نفس هذه الآيات.

لقد بدأت الآية الاولى ـ من الآيتين الأخيرتين ـ الخطاب بعبارة( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ ) وقد وردت هذه العبارة في مكانين من القرآن : أوّلهما في الآية موضوع البحث ، والثّاني في الآية (٦٧) من نفس هذه السورة والتي تتعرض لقضية الولاية والخلافة. وربّما جاء استخدام هذا التعبير من أجل إثارة أكثر لدافع الشعور بالمسؤولية لدى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتعزيز ارادته ، ومخاطبته بأنّه هو رسول الله ، وعليه أن يستقيم ويصمد في إبلاغ الحكم المكلّف به.

بعد ذلك تطمئن الآية النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كتمهيد لبيان الحكم التالي ـ فتقول :( لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ) .

ويرى البعض أن عبارة( يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ) تختلف عن عبارة «يسارعون إلى الكفر» وذلك لأنّ العبارة الاولى تقال بشأن أفراد كافرين غارقين في كفرهم ، ويتسابقون فيما بينهم للوصول إلى آخر مرحلة من الكفر ، أمّا العبارة الثّانية فتقال في من يعيشون خارج حدود الكفر لكنّهم يتسابقون للوصول إليه(١) .

وبعد أن تذكر الآية تجاوزات المنافقين والأعداء الداخليين ، تتناول وضع الأعداء الخارجيين واليهود الذين كانوا سببا لحزن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتقول الآية :( وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا ) .

ثمّ تشير الآية إلى قسم من تصرفات هؤلاء المشوبة بالنفاق والرياء ، وفتؤكّد أنّهم إنّما يستمعون كلام النّبي لا لأجل أطاعته ، بل لكي يجعلوا من ذلك وسيلة لتكذيب النّبي والافتراء عليه حيث تقول الآية :( سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ) .

ولهذه الجملة القرآنية تفسير آخر ، هو أنّ هؤلاء اليهود يستمعون كثيرا إلى أكاذيب قادتهم وزعمائمهم ، لكنّهم لا يبدون استعدادا لاستماع قول الحق

__________________

(١) المنار ، ج ٦ ، ص ٣٨٨.

٧

والإذعان له(١) .

ثمّ تفضح الآية الصفة الثالثة لليهود ، فتبيّن أنّهم يتجسّسون على المسلمين لمصلحة قوم آخرين ممّن لا يحضرون الاجتماعات الإسلامية التي تعقد في مجلس النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتقول الآية :( سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ) .

وفي تفسير آخر لهذه الجملة قيل أن هؤلاء اليهود كانوا يستمعون إلى أوامر جماعتهم ـ فقط ـ وقد كلّفهم قومهم بأن يقبلوا ما وافق أهواءهم من أقوال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأن يخالفوا أو يرفضوا ما كان عكس ذلك من أقوالهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبناء على هذا السلوك فإنّ ما كان يظهر من طاعة هؤلاء لبعض أقوال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن في الحقيقة إلّا طاعة منهم لأقوال كبارهم ووجهائهم الذين أمروهم باتباع هذا الأسلوب ، ولذلك أشارت الآية على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يحزن لمخالفات هؤلاء ، فهم لم يحضروا عنده أبدا من أجل الاستماع إلى الحقّ واتّباعه!

ثمّ تذكر الآية انحرافا آخر لهؤلاء اليهود ، فتشير إلى تحريفهم لكلام الله سبحانه وتعالى من خلال تحريف الألفاظ أو تحريف المعاني الواردة في هذا الكلام ، فهم إن وجدوا في كلام الله حكما يخالف مصالحهم أوّلوه أو رفضوه جملة وتفصيلا ، كما تقول الآية :( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ ) (٢) .

والأعجب من ذلك أنّ هؤلاء قبل أن يحضروا مجلس النّبي كانوا يقررون كما يأمرهم كبارهم أنّهم إن تلقوا من محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حكما موافقا لميولهم وأهوائهم قبلوا به ، وإن كان مخالفا لهوى أنفسهم ردوه وابتعدوا عنه ، تقول الآية الكريمة :( يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ) .

فهؤلاء قد غرقوا في الضلال وتحجرت عقولهم لغاية أنّهم كانوا يرفضون كل شيء يخالف ما عندهم من أحكام محرفة ، دون أن يبذلوا جهدا أو عناء في التفكير

__________________

(١) في التّفسير الأوّل تكون اللاء في عبارة (للكذب) لام التعليل بينما في التّفسير الثّاني فهي لام التعدية.

(٢) تحدثنا عن أساليب التحريف التي اتبعها اليهود في تفسير الآية (١٣) من نفس هذه السورة.

٨

لمعرفة الحقيقة ، وقد أبعدتهم هذه الحالة عن طريق الرشاد وأخرجتهم من جادة الصوا ، بحيث لم يبق أمل في هدايتهم ، فاستحقوا بذلك عذاب الله ، ولم تعد تنفع فيهم شفاعة الشافعين ، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة :( وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئا ) وقد تدنست قلوب هؤلاء إلى درجة لم تعد قابلة للتطهير ، وحرمهم الله لذلك طهارة القلوب ، فتقول الآية :( أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ) وعمل الله مقرون بالحكمة دائما ، لأن من يقضي عمرا في الانحراف ويمارس النفاق والكذب ويخالف الحق ويرفض الحقيقة ، ويحرف قوانين الله لن يبقى له مجال للتوبة والعودة إلى الحق ، حيث تقول الآية الكريمة في هذا المجال :( لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ ) .

أمّا الآية الثّانية فتؤكّد ـ مرّة أخرى ـ على أن هؤلاء لديهم آذان صاغية لاستماع حديث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا لإطاعته بل لتكذيبه ، أو كما يقول تفسير آخر فإنّ هؤلاء آذانهم صاغية لاستماع أكاذيب كبارهم ، فتقول الآية :( سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ) وقد تكررت هذه الجملة في آيتين متتاليتين تأكيدا واثباتا لوجود هذه الصفة الشنيعة في هؤلاء.

كما أضافت الآية صفة شنيعة أخرى اتصف بها اليهود ، وهي تعودهم وادمانهم على أكل الأموال المحرمة والباطلة من الرّبا والرّشوة وغير ذلك ، حيث تقول الآية :( أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ) (١) .

ثمّ تخير الآية النّبي بين أن يحكم بينهم أو أن يتجنبهم ويتركهم ، حيث تقول الآية :فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) ولا يعني التخيير أن يستخدم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ميله ورغبته في اختيار أحد الأمرين المذكورين ، بل إن

__________________

(١) تعني كلمة (سحت) في الأصل نزع القشرة ، أو شدّة الجوع ، ثمّ أطلقت على كل مال غير مشروع ، أي محرم ، وبالأخص الرشوة ، لأن مثل هذه الأموال تنزع الصفاء والمودة عن المجتمع وتزيل عنه البركة والرخاء مثلما يؤدي نزع قشر الشجرة إلى ذبولها وجفافها وعلى هذا الأساس فإن لكلمة (سحت) معنى واسعا ، وإذا ورد في بعض الرّوايات مصداق خاص لها فلا يدل ذلك على اختصاص الكلمة بذلك.

٩

المراد من ذلك هو أن يراعي النّبي الظروف والملابسات المحيطة بكل حالة ، فإن رأى الوضع يقتضي الحكم بينهم حكم ، وإن رأى خلاف ذلك تركهم وأعرض عنهم.

ولكي تعزز الآية الاطمئنان في نفس النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إن هو ارتأى الإعراض عن هؤلاء لمصلحة أكّدت قائلة :( وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً ) .

كما أكّدت ضرورة اتباع العدل وتطبيقه إذا كانت الحالة تقتضي أن يحكم النّبي بين هؤلاء فقالت الآية :( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) .

وقد اختلف المفسّرون في قضية تخيير النظام الإسلامي بين الحكم في غير المسلمين بأحكام الإسلام أو الإعراض عنهم ، وهل أن هذا التخيير باق على قوته أو أنّه أصبح منسوخا؟

ويرى البعض أنّ الناس في ظل الحكم الإسلامي مشمولون من الناحيتين الحقوقية والجزائية بالقوانين الإسلامية ، سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين. وبناء على هذا الرأي فإن حكم التأخير إمّا أن يكون منسوخا وإمّا أنّه يخص غير الكفار الذميين ، أي يخض أولئك الكفار الذين لا يعيشون في ظل حكم اسلامي ، بل يرتبطون بالمسلمين باتفاقيات أو مواثيق ، أو يكون بينهم علاقات ود وتزاور.

ويعتقد مفسّرون آخرون أنّ الحاكم المسلم يكون مخيرا ـ حتى في الوقت الحاضر لدى التعامل مع غير المسلمين ، فهو إمّا أن يطبق فيهم الأحكام الإسلامية إذا اقتضت الضرورة والمصلحة ذلك ، وإمّا أن يعرض عنهم ويحيلهم إلى قوانينهم الخاصّة بهم ، بحسب ظروف وملابسات كل حالة «للاطلاع أكثر على تفاصيل هذا الحكم تراجع كتب الفقه».

* * *

١٠

الآية

( وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣) )

التّفسير

تتابع هذه الآية موضوع الحكم بين اليهود تطرقت إليه الآيتان السابقتان ، اللتان بيّنتا أنّ اليهود كانوا يأتون إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويطلبون منه الحكم فيهم ، وقد أظهرت هذه الآية الأخيرة الاستغراب من حالة اليهود الذين كانوا مع وجود التّوراة بينهم ، واحتوائها على حكم الله ، يأتون إلى النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويطلبون منه الحكم فيهم بالرغم من وجود التّوراة عندهم ، فتقول :( وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ) .

ويجب الانتباه إلى أنّ المقصود من الحكم في الآية هو حكم الرجم للزاني المحصن من الرجال والنساء والذي ورد في التّوراة أيضا ، في سفر التثنية الفصل الثّاني والعشرين.

والعجيب في أمر هؤلاء اليهود أنّهم مع وجود التّوراة بينهم وعدم اعترافهم بنسخها من قبل القرآن ورفضهم للشريعة الإسلامية ، كانوا حين يرون حكما في التّوراة لا يوافق ميولهم وأهوائهم يتركون ذلك الحكم ويبحثون عن حكم آخر في

١١

مصادر لم يقرّوا ولم يعترفوا بها.

والأعجب من ذلك أنّهم حين كانوا يطلبون التحكيم من نبي الإسلام بينهم ، كانوا لا يقبلون بحكمه إذا كان مطابقا لحكم التّوراة لكنه لم يوافق ميولهم ورغباتهم حيث تقول الآية :( ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ) وما ذلك إلّا لأن هؤلاء لم يكونوا بمؤمنين في الحقيقة ، ولو كانوا مؤمنين لما استهزءوا هكذا بأحكام الله ، حيث تؤكّد الآية قائلة :( وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ) .

وقد يرد اعتراض في هذا المجال وهو : إن الآية الشريفة تقرّ بوجود حكم الله في التّوراة ونحن نعلم عن طريق القرآن والرّوايات الإسلامية ، بأن التّوراة قد أصابها التحريف قبل ظهور نبي الإسلام محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

إنّ جوابنا على هذا الاعتراض هو أننا أوّلا : لا نقول بأن التحريف قد أصاب التّوراة كلّها ، بل نقر بوجود أحكام في التّوراة تطابق الحقيقة والواقع ، وحكم الرجم ـ الذي هو موضوع بحثنا الآن ـ من الأحكام التي لم تصبها يد التحريف في التّوراة.

ثانيا : إنّ التّوراة مهما كان حالها لا يعتبرها اليهود كتابا محرفا ، ولذلك فإن الغرابة هنا تكمن في رفض اليهود العمل بحكم الله مع وجوده في توراتهم.

* * *

١٢

الآية

( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤) )

التّفسير

إنّ هذه الآية والآية التي تليها تكملان البحث أو الموضوع الوارد في الآيات السابقة ، وتبيّن هذه الآية أهمية الكتاب السماوي الذي نزل على النّبي موسىعليه‌السلام أي التّوراة ، حيث تشير إلى أنّ الله أنزل هذا الكتاب وفيه الهداية والنّور اللذان يرشدان إلى الحق ، وأن النّور والضياء الذي فيه هو لإزاحة ظلمات الجهل من العقول فتقول الآية :( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ ) .

ولذلك فإنّ الأنبياء الذين أطاعوا أمر الله ، والذين تولوا مهامهم بعد نزول التّوراة كانوا يحكمون بين اليهود بأحكام هذا الكتاب ، تقول الآية الكريمة :( يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا ) .

١٣

كما أنّ علماء اليهود ووجاءهم ومفكريهم المؤمنين الأتقياء ، كانوا يحكمون وفق هذا الكتاب السماوي الذي وصل أمانة بأيديهم وكانوا شهودا عليه ، حيث تقول الآية :( وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ ) (١) .

ثمّ توجه الآية الخطاب إلى أولئك العلماء والمفكرين من اليهود الذين كانوا يعيشون في ذلك العصر ، فتطلب منهم أن لا يخافوا الناس لدى بيان أحكام الله ، بل عليهم أن يخافوا الله ، فلا تسول لهم أنفسهم مخالفة أوامره أو كتمان الحق ، وإن فعلوا ذلك فسيلقون الجزاء والعقاب ، فتقول الآية هنا :( فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ) .

ثمّ تحذر الآية من الاستهانة والاستخفاف بآيات الله ، فتقول :( وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً ) .

وحقيقة كتمان الحق وأحكام الله نابعة إمّا عن الخوف من الناس ، وإمّا بدافع المصلحة الشخصية ، وأيّا كان السبب فهو دليل على ضعف الإيمان وانحطاط الشخصية ، وقد أشير في الجمل القرآنية أعلاه إلى هذين السببين.

وتصدر الآية حكما صارما وحازما على مثل هؤلاء الأفراد الذين يحكمون خلافا لما أنزل الله فتقول :( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) .

وواضح أنّ عدم الحكم بما أنزل الله يشمل السكوت والابتعاد عن حكم الله الذي يؤدي بالناس إلى الضلال ، كما يشمل التحدث بخلاف حكم الله.

وواضح ـ أيضا ـ أنّ للكفر مراتب ودرجات مختلفة ، تبدأ من إنكار أساس وجود الله ويشمل عصيان أوامره ، لأنّ الإيمان الكامل يدعو ويحثّ الإنسان على

__________________

(١) لقد تطرقنا إلى معنى كلمة (رباني) ومصدرها لدى تفسير الآية (٨٠) من سورة آل عمران ، أمّا كلمة (أحبار) فهي صيغة جمع من (حبر) على وزن (فكر) فهي تعني كل أثر خير ، أطلقت على المفكرين الذين يخلفون أثارا خيرة في مجتمعهم ، ويطلق أيضا على حبر الدواة الذي يستعمل للكتابة لما فيه من أثر خير.

١٤

العمل وفق أوامر الله ، ومن لا عمل له ليس له ايمان كامل.

وتبيّن هذه الآية ـ أيضا ـ المسؤولية الكبرى التي يتحملها علماء ومفكر وأكل أمّة حيال العواصف الاجتماعية ، والأحداث التي تقع في بيئاتهم ، وتدعو بأسلوب حازم لمكافحة الانحرافات وعدم الخوف من أي بشر ـ كائنا من كان ـ لدى تطبيق أحكام الله.

* * *

١٥

الآية

( وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥) )

التّفسير

القصاص والعفو :

تشرح هذه الآية الكريمة قسما آخر من الأحكام الجنائية والحدود الإلهية التي وردت في التّوراة ، فتشير إلى ما ورد في هذا الكتاب السماوي من أحكام وقوانين تخص القصاص ، وتبيّن أن من يقتل إنسانا بريئا فإنّ لأولياء القتيل حق القصاص من القاتل بقتله نفسا بنفس. حيث تقول الآية في هذا المجال :( وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) .

كما بيّنت أن من يصيب عين انسان آخر ويتلفها ، يستطيع هذا الإنسان المتضرر في عينه أن يقتص من الفاعل ويتلف عينه ، إذ تقول الآية في هذا المجال :( وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ) .

١٦

وكذلك الحال بالنسبة للأنف والأذن والسن والجروح الأخرى ،( وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ ) .

وعلى هذا الأساس فإنّ حكم القصاص يطبق بشكل عادل على المجرم الذي يرتكب أحد الجرائم المذكورة ، دون الالتفات إلى عنصره أو قوميته أو طبقته الاجتماعية أو طائفته ، ولا مجال أبدا لاستخدام التمايز القومي أو الطبقي أو الطائفي لتأخير تطبيق حكم القصاص على الجاني.

وبديهي أنّ تطبيق حكم القصاص على المعتدي شأنه شأن الأحكام الإسلامية الأخرى ، مقيد بشروط وحدود ذكرتها كتب الفقه ، ولا يختص هذا الكلام ولا ينحصر ببني إسرائيل وحدهم ، لأنّ الإسلام ـ أيضا ـ جاء بنظيره كما ورد في آية القصاص في سورة البقرة ـ الآية (١٧٨).

وقد أنهت هذه الآية التمايز غير العادل الذي كان يمارس في ذلك الوقت حيث ذكرت بعض التفاسير أنّ تمايزا غريبا كان يسود بين طائفتين من اليهود ، هما بنو النضير وبنو قريظة الذين كانوا يقطنون المدينة المنورة في ذلك العصر ، لدرجة أنّه إذا قتل أحد أفراد طائفة بني النضير فردا آخر من طائفة بني قريظة فالقاتل لا ينال القصاص ، بينما في حالة حصول العكس فإن القاتل الذي كان من طائفة بني قريظة كان ينال القصاص إن هو قتل واحدا من أفراد طائفة بني النضير.

ولمّا امتد نور الإسلام إلى المدينة سأل بنو قريظة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هذا الأمر ، فأكّد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا فرق في الدماء بين دم ودم فاعترضت قبيلة بني النضير على حكم النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وادعت أنّ حكمه حطّ من شأنهم ، فنزلت الآية الأخيرة وبيّنت أنّ هذا الحكم غير مختص بالإسلام ، بل حتى الديانة اليهودية أوصت بتطبيق قانون القصاص بصورة عادلة(١) .

ولكي لا يحصل وهم أنّ القصاص أو المقابلة بالمثل أمر الزامي لا يمكن

__________________

(١) تفسير القرطبي ، الجزء الثّالث ، ص ٢١٨٨.

١٧

الحيدة عنه ، استدركت الآية بعد ذكر حكم القصاص فبيّنت أن الذي يتنازل عن حقه في هذا الأمر ويعفو ويصفح عن الجاني ، يعتبر عفوه كفارة له عن ذنوبه بمقدار ما يكون للعفو من أهمية( فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ) (١) .

ويجب الانتباه إلى أنّ الضمير الوارد في كلمة (به) يعود على القصاص ، وكانت الآية جعلت التصدق بالقصاص عطية أو منحة للجاني واستخدام عبارة «التصدق» والوعد الذي قطعه الله للمتصدق ، يعتبران عاملا محفزا على العفو والصفح ، لأنّ القصاص لا يمكنه أن يعيد للإنسان ما فقده مطلقا ، بل يهبه نوعا من الهدوء والاستقرار النفسي المؤقت ، بينما العفو الذي وعد به الله للمتصدق ، بإمكانه أن يعوضه عما فقده بصورة أخرى ، وبذلك يزيل عن قلبه ونفسه بقايا الألم والاضطراب ، ويعتبر هذا الوعد خير محفز لمثل هؤلاء الأشخاص.

وقد ورد عن الحلبي قال سألت أبا عبد الله ـ الإمام الصادق ـعليه‌السلام عن قوله اللهعزوجل :( فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَ ) قال : «يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما عفى»(٢) .

وتعتبر هذه الجملة القرآنية في الحقيقة خير جواب مفحم للذين يزعمون أن القصاص ليس بقانون عادل ، ويدعون أنّه يشجع روح الانتقام والمثلة.

والذي يفهم من الصياغة العامّة للآية هو أنّ جواز القصاص إنّما هو لإخافة وإرعاب الجناة وبالنتيجة لضمان الأمن لأرواح الناس الأبرياء ، كما أنّ الآية فتحت باب العفو والتوبة ، وبذلك أراد الإسلام أن يحول دون ارتكاب مثل هذه الجرائم باستخدام الروادع والحوافز كالخوف والأمل ، كما استهدف الإسلام من ذلك ـ أيضا ـ الحيلولة دون الانتقام للدم بالدم بقدر الإمكان ـ إذا استحق الأمر

__________________

(١) لقد أورد الكثير من المفسّرين احتمالا آخر ، وهو أن الضمير الوارد في كلمة «له» يعود على شخص الجاني ، بحيث يصبح المعنى أن الذي يتنازل عن حقه يرفع بذلك القصاص عن الجاني ويكون ذلك كفارة لعمل الجاني ، إلّا أن ظاهر الآية يدل على التفسير الذي أشرنا إليه أعلاه.

(٢) نور الثقلين ، الجزء الأول ، ص ٦٣٧.

١٨

ذلك.

وفي الختام تؤكّد الآية قائلة :( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) .

وأي ظلم أكبر من الانجرار وراء العاطفة الكاذبة ، وترك القاتل دون أن ينال قصاصه العادل بحجّة لا ضرورة في غسل الدم بالدم ، وفسح المجال للقتلة للتمادي بارتكاب جرائم قتل أخرى ، وبالنهاية الإساءة عبر هذا التغاضي إلى أفراد أبرياء ، وممارسة الظلم بحقّهم نتيجة لذلك.

ويجب الانتباه إلى أنّ التّوراة المتداولة حاليا قد اشتملت على هذا الحكم أيضا ، وذلك في الفصل الواحد والعشرين من سفر الخروج ، حيث جاء فيها أنّ النفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن واليد باليد والرجل بالرجل والحرق بالحرق والجرح بالجرح والصفعة بالصفعة (سفر الخروج ، الجمل ٢٣ و ٢٤ و ٢٥).

* * *

١٩

الآية

( وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) )

التّفسير

بعد الآيات التي تحدثت عن التّوراة جاءت هذه الآية ، وهي تشير إلى حال الإنجيل وتؤكّد بعثة ونبوة المسيحعليه‌السلام بعد الأنبياء الذين سبقوه ، وتطابق الدلائل التي جاء بها مع تلك التي وردت في التّوراة ، حيث تقول الآية :( وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ ) ولهذه الجملة القرآنية تفسير آخر وهو أنّ عيسى المسيحعليه‌السلام قد أقرّ بحقيقة كلّ ما نزل في التّوراة على النّبي موسىعليه‌السلام كاقرار جميع الأنبياءعليهم‌السلام بنبوة من سبقوهم من الأنبياء ، وبعدالة ما جاؤوا به من أحكام.

ثمّ تشير الآية الكريمة إلى إنزال الإنجيل على المسيحعليه‌السلام وفيه الهداية والنّور فتقول :( وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ ) وقد أطلق اسم النّور في القرآن المجيد على التّوراة والإنجيل والقرآن نفسه ، حيث نقرأ بشأن التّوراة قوله تعالى :( إِنَّا

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

فكذلك في هذه الحالة يعتبر الشيك حوالةً من المَدين لدائنه على البنك، غير أنّ المحوّل عليه ليس مَديناً للمُحيل، ولهذا يصطلح الفقهاء على ذلك بالحوالة على البريء، وهي عندي حوالة صحيحة تنفذ بالقبول من البنك، فإذا قبل البنك الشيك أعتبر ذلك قبولاً منه للحوالة، فتشتغل ذمّته للمُحال في ذمّة المحوِّل، ويصبح المحوِّل مَديناً للبنك - المحوِّل عليه - بقيمة الحوالة.

فمَديونيّة محرّر الشيك للبنك لا تقوم هنا على أساس الاقتراض لكي يتوقّف على القبض، بل على أساس قبول البنك للحوالة، ولمّا كان البنك بريئاً فبقوله للحوالة وانتقال دَين المحوِّل إلى ذمّته يصبح دائناً للمحوِّل بنفس المقدار(١) .

وهكذا يتّضح أنّه يصحّ استعمال الشيكات على البنك كأداة وفاءٍ على أساس الحوالة، سواء كان لمحرّر الشيك رصيد دائن في حسابه الجاري، أو كان حسابه الجاري على المكشوف.

وهناك قيود مَدينة يجريها البنك دون تفويضٍ من العميل، كالعمولات المختلفة، وأجرة البريد، والرسم الدوري لكشوف الحسابات البيانية.

وكلّ هذا صحيح ؛ لأنّ العميل تشتغل ذّمته بأُجرة المثل للبنك لقاءَ الخدمات المصرفية، بما فيها كشوف الحسابات البيانية، وأجرة البريد التي يتكلّفها البنك بأمرٍ صريحٍ أو ضمنيّ موجبٍ للضمان من العميل. وبموجب المقاصّة القهرية بين الدَينين يقوم البنك بخصم قيمة هذه الأجور من الرصيد الدائن لعميله.

____________________

(١) بناءً على أنّ المحوِّل يضمن للمحوّل عليه البريء بسبب إشغاله لذمّته الذي يحصل بمجرّد قبول البريء للحوالة. وأمّا إذا كان الضمان بسبب تسبيب المحوّل لتلف المال على البريء خارجاً فلا يكون الضمان فعلياً إلاّ بعد الدفع.(المؤلّف قدس‌سره ).

١٠١

اندماج أكثر من صفتين في شخصٍ واحد:

وهناك حالات في سحب الشيك على البنك تندمج فيها صفتان في جهةٍ واحدة، ومن هذا القبيل حالة سحب العميل على البنك شيكاً لأمره، أي لأمر العميل نفسه، فهو في هذه الحالة يمثّل مركزَي الساحب والمستفيد، والمدلول الفقهيّ لهذه العملية هو أنّ الساحب يحاول استيفاء قيمة الشيك المسحوب من دَينه على البنك، وليس تحريره للشيك إلاّ لكي يستخدم كوثيقةٍ على الوفاء عند تقديمه لدى البنك وسحب قيمته منه.

ومن هذا القبيل أيضاً حالة سحب العميل شيكاً لأمر البنك، وبهذا يمثّل البنك مركزَي المسحوب عليه والمستفيد، والمدلول الفقهيّ لهذه العملية هو أنّ الساحب كان قد أصبح مَديناً للبنك بأيِّ سببٍ من الأسباب، فوقعت المقاصّة في حدود ذلك الدَين بين دائنية البنك هذه ودائنية العميل المتمثِّلة في رصيده الدائن في الحساب الجاري، وليس الشيك في هذه الحالة إلاّ وثيقةً على وقوع هذه المقاصّة بين ذمّتي البنك والعميل، وكلّ ذلك جائز شرعاً.

الودائع لأجَل (الثابتة):

وهي مبالغ يستهدف أصحابها من وضعها في البنك الحصول على فوائدها ما داموا ليسوا بحاجةٍ ماسّةٍ إليها في الوقت القريب، ولا يجوز سحبها من البنك إلاّ بعد مدّةٍ يتّفق عليها العميل مع البنك، ويجدّد عقد إيداعها في نهاية المدّة إذا رغب المودِع في إبقاء الوديعة، كما يتّفق في أكثر الأحيان.

وهذه الودائع تمثِّل في الحقيقة قروضاً ربويةً محرَّمة، ولهذا يتمنع عنها البنك اللاربوي، ويحوّلها إلى ودائع بالمعنى الفقهيّ الكامل لوديعةٍ قد أودعها

١٠٢

أصحابها في البنك ريثما يجدون مجالاً لتوظيفها واستثمارها على أساس المضاربة. وقد مرّ تفصيل ذلك في الأطروحة التي قدّمناها.

ودائع التوفير:

يقصد بها كلّ حسابٍ في دفترٍ واجب التقديم عنه كلّ سحبٍ أو إيداع. وهي قسم من الودائع الادّخارية، غير أنّ العادة جرت على تمكين الموفِّرين من السحب عليها متى شاءوا، أو ضمن شروطٍ خاصّة.

والبنك اللاربوي لا يرفض قبول ودائع التوفير هذه، ولا يختلف عن البنوك الربوية في إعطاء فرصة السحب للموفِّرين متى أرادوا ذلك، ويقوم باستثمار هذه الودائع عن طريق المضاربة، كما يستثمِر الودائع الثابتة.

ولكنّ موقف البنك اللاربوي من ودائع التوفير يختلف عن موقفه من الودائع الثابتة في أمرين، كما أوضحنا ذلك في الفصل الأوّل:

أحدهما : تمكينه من السحب على ودائع التوفير متى أراد الموفِّر، خلافاً للودائع الثابتة التي يشترط فيها على المودِع أن تظلّ في حوزته مدّةً لا تقلّ عن ستّة أشهر.

والآخر : أنّ البنك اللاربوي يقتطع من كلّ وديعة توفيرٍ نسبةً معيّنةً يعتبرها قرضاً، ويحتفظ بها كسائلٍ نقدي، ولا يدخلها في مجال المضاربة والاستثمار، كما مرّ بنا في الأطروحة.

الودائع الحقيقية:

وهي عبارة عن أشياء معيّنةٍ يَوَدّ أصحابها أن يحتفظوا بها، ويتجنّبوا مخاطر السرقة والضياع والحريق ونحو ذلك، فيودعونها لدى البنك على أن يستردّوها

١٠٣

بعد ذلك بنفس مظهرها المادّي، وقد يقوم البنك لهذا الغرض بإعداد خزائنٍ خاصّةٍ ويؤجرها لعملائه، ويتقاضى لقاء ذلك أجراً منهم.

وهذه الودائع هي ودائع بالمعنى الفقهيّ الكامل، وعلى هذا الأساس يجوز للبنك أن يأخذ أجرةً لإنجاز العملية، سواء كانت لقاءَ منفعة الخزينة الحديدية التي تحفظ فيها وديعة العميل، أو لقاءَ نفس عمل البنك في تحصينها والحفاظ عليها.

الأهمّية الاقتصادية للودائع المصرفية

تتلخّص الأهميّة الاقتصادية للودائع المصرفية في البنوك القائمة في النقاط الثلاث التالية:

١ - إنّ الودائع المصرفية بالرغم من أنّها مجرّد قيدٍ في سجّلات البنك يتضمّن حساباً لأحد العملاء تعتبر وسيلةً هامّةً من وسائل الدفع، لِمَا تحيط بها من الضمانات القوية المشتقّة من عنصر الثقة في البنوك وإن لم يعترف لها القانون بصفة النقد في التداول، ولهذا ليس هناك إجبار على قبول الوفاء بها، كما هو الحال في النقود الأخرى، ولكنّ عدم اعترافه هذا لم يمنع عن اتّساع نطاق التعامل بالودائع المصرفية، وذلك بنقل ملكيّتها من شخصٍ لآخر عن طريق استعمال الشيكات، وبذلك تزداد وسائل الدفع في المجال التجاري والاقتصادي.

٢ - إنّ الودائع المصرفية تمثِّل على الأغلب أموالاً كانت عاطلةً قبل إيداعها إلى البنك، وأتيح لها عن طريق إيداعها في البنك دخول مجال الإنتاج والاستثمار على شكل قروضٍ مصرفيةٍ لرجال الأعمال، وبذلك أصبح بإمكانها أن تساهم بدور كبيرٍ في إنعاش اقتصاد البلاد ونموّه الصناعي والتجاري.

٣ - إنّ الودائع المصرفية تمنح البنك القدرة على خلق الائتمان بدرجةٍ أكبر

١٠٤

من كمّية تلك الودائع، والائتمان يخلق بدوره الوديعة المصرفية أيضاً، وهكذا تزداد بهذا الشكل كميّة الودائع المصرفية، وبالتالي تكثر وسائل الدفع التي تعوَّض عن النقود، وكلّما كثرت وسائل الدفع اتّسعت الحركة التجارية ونمت.

ويجب أن نحدِّد موقف الشريعة الإسلامية، وبالتالي وضع البنك اللاربوي تجاه هذه النقاط الثلاث.

الودائع المصرفية وسائل دفع:

أمّاالنقطة الأولى فبالإمكان أن تعتبر الودائع المصرفية وسائل دفعٍ عن طريق استعمال الشيكات. ونظراً إلى أنّ وسيلة الدفع هي نفس الوديعة المصرفية لا الشيك، وإنّما الشيك مجرّد أمرٍ بالسحب على الرصيد المودَع، والوديعة ليست إلاّ ديناً في ذمّة البنك للمودِع فاتّخاذها وسيلةَ دفع يعني اتّخاذ الدَين وسيلةَ دفع ن ولهذا يصبح استعمال الودائع بدلاً عن النقود جائزاً في الحدود التي يجوز التعامل ضمنها بالدَين. ولكي نعرف هذه الحدود نقسّم التعامل بالدَين إلى قسمين:

أحدهما : التعامل به كأسلوب لوفاء دَينٍ آخر عن طريق الحوالة، فالمَدين يمكنه أن يُحيل دائنه على مدينه، وبذلك يكون قد استخدم الدَين الذي يملكه في وفاء دائنه وإبراء ذمّته من ناحيته، وهذا صحيح شرعاً كما تقدّم، وبذلك يجوز استعمال الشيك كأداة وفاء.

والآخر : التعامل به كوسيلة دفعٍ ينصّب عليها العقد مباشرة، كأن يشتري الدائن بالدَين الذي يملكه في ذمّة مَدينه بضاعةً، أو يهب ذلك الدين لشخصٍ آخر، وهذا التعامل يُحكم بصحّته أحياناً ويُحكم ببطلانه أحياناً من الناحية الشرعية.

فمثلاً: شراء الدائن بضاعةً بما يملكه من دَينٍ في ذمّة مَدينه صحيح شرعاً

١٠٥

إذا لم تكن البضاعة المشتراة مؤجّلة، وإلاّ بطل الشراء ؛ لأنّه يكون من بيع الدَين وهو باطل.

ومثال آخر: هبة الدائن للدَين الذي يملكه في ذمّة شخصٍ آخر صحيحةٌ شرعاً إذا كان الموهوب له نفس المَدين، وأمّا إذا كان شخصاً آخر فالهبة باطلة عند من يرى من الفقهاء أنّ قبض الموهوب له للمال الموهوب شرط في صحة الهبة، فلا يجوز للموهوب له، على هذا، التصرّف في الدَين الذي وهبه له الدائن قبل الوفاء وقبض الدائن له، أو قبض الموهوب له بالوكالة عن الدائن.

وعلى هذا الأساس نعرف أنّ التعامل بالشيك كأداة وفاءٍ لدَينٍ سابقٍ صحيح شرعاً. وأمّا التعامل به كموضوعٍ ينصبّ عليه العقد مباشرةً لكي تكون الوديعة المصرفية نفسها هي موضع التعامل، فهذا يصحّ أحياناً، ولا يصحّ أحياناً.

ولكنّ التعامل بالشيك كموضوعٍ ينصبّ عليه العقد مباشرةً يعتبر باطلاً دائماً إذا كان السحب بالشيك من دون رصيدٍ دائنٍ للساحب ؛ إذ لا يوجد عندئذٍ للساحب شيء حقيقيّ يملكه ممّا يعبّر عنه الشيك لكي به بضاعةً مثلاً أو يهبه. ورصيد المدين في حسابه الجاري ليس إلاّ مجرّد قرضٍ من البنك، والقرض لا يملكه المقترض إلاّ بالقبض، فلا معنى للتعامل به وهبته وشراء بضاعةٍ به مثلاً قبل أن يقبض مباشرةً أو توكيلاً.

والغالب من التعامل بالشيكات في الحياة الاعتيادية هو التعامل بالشيكات كأداة فاء، وهو صحيح لِمَا عرفت.

دور البنك اللاربوي في توظيف الأموال العاطلة:

وأمّاالنقطة الثانية ، وهي أنّ البنك يؤدّي بنشاطه إلى تجميع الأموال العاطلة وتوظيفها، فسوف تظلّ صادقةً على البنك اللاربوي كما صدقت على البنوك

١٠٦

الربوية. وإنّما الفارق بينهما في أسلوب التوظيف، فبينما يتمّ التوظيف في البنوك الربوية على أساس إقراض المستثمِرين يتمّ في البنك اللاربوي على أساس المشاركة معهم عن طريق المضاربة.

خلق الائتمان بدرجةٍ أكبرَ من كمّية الودائع:

وبالنسبة إلىالنقطة الثالثة ، وهي قدرة البنك على خلق الائتمان بدرجةٍ أكبر من كمّية الودائع، يجب أن نتساءل: هل يتاح للبنك اللاربوي أن يخلق الائتمان، وبالتالي الدائنية، بدرجةٍ أكبر من كمّية الودائع الموجودة لديه فعلاً ؟

والجواب بالإيجاب، ولكن على شرط أن تكون الدائنية التي يخلقها البنك مستندةً إلى سببٍ شرعيّ، لا إلى سببٍ غير مشروع. ولتمييز السبب المشروع من غيره نقارن بين الحالات الثلاث التالية:

١ - نفترض أنّ كمّية الودائع الموجودة لدى البنك هي (١٠٠٠) دينار، فيتقدّم إليه شخصان يطلب كلّ واحدٍ منهما قرضاً قدره (١٠٠٠) دينار، وحيث إنّ البنك يعلم أنّهما سوف يودِعان ما يقترضانه لديه مرّةً أخرى وسوف لن يسحبا ودائعهما معاً في وقتٍ واحدٍ، فهو يرى أنّه بإمكانه أن يلتزم لكلّ واحدٍ منهما بقرضٍ قدره (١٠٠٠) دينار، وبذلك يعتبر نفسه دائناً ب- (٢٠٠٠) دينار بينما ليس لديه في خزائن ودائعه إلاّ (١٠٠٠) دينار.

٢ - نفترض أنّ كمّية الودائع الموجودة لدى البنك (١٠٠٠) دينار، فيتقدّم شخص طالباً قرضاً قدره (١٠٠٠) دينار، فيقرضه البنك المبلغ المطلوب ويتسلّفه المقترِض ويدفعه إلى دائنه وفاءً لدينه، فيتسلّمه الدائن ويودِعه بدوره في البنك، فيتقدّم شخص آخر طالباً اقتراض (١٠٠٠) دينارٍ من البنك فيقرضه ويدفع إليه المبلغ، وبذلك يصبح البنك دائناً ب- (٢٠٠٠) دينار، بينما لم يكن لديه في خزانة

١٠٧

ودائعه إلاّ (١٠٠٠) دينار.

٣ - نفترض أنّ كمّية الودائع الموجودة لدى البنك (١٠٠٠) دينار، فتتقدّم إليه حوالتان من شخصين ليس لهما أيّ رصيدٍ لديه، كلّ منهما يحوِّل دائنه على البنك ب- (١٠٠٠) دينارٍ، والبنك يعرف أنّه إذا قبل الحوالتين معاً فسوف لن يتعرّض لخطر المطالبة ب- (٢٠٠٠) دينار ؛ لأنّ الدائَنين سوف لن يسحبا دَينَهما في وقتٍ واحد، وعلى هذا الأساس يتقبّل البنك كلتا الحوالتين، فيصبح بذلك دائناً لكلٍّ من المحوِّلَين ب- (١٠٠٠) دينار، ويتقاضى فوائد (٢٠٠٠) دينارٍ من القرض، بينما لم يكن لديه إلاّ (١٠٠٠) دينارٍ من الودائع.

ونحن إذا فحصنا هذه الحالات الثلاث وجدنا أنّ دائنية البنك ب- (٢٠٠٠) دينارٍ في الحالة الأولى نشأت من قرضين التزم بهما لشخصين، ولكنّ القرضين لم يتوفّر فيهما القبض اللازم شرعاً في كلّ قرض ؛ لأنّ كلّ واحدٍ من المقترِضَين لم يحصل من البنك إلاّ على مجرّد الالتزام له ب- (١٠٠٠) دينار، أي على قيدٍ في رصيده المَدين فيعتبر القرض باطلاً، وبالتالي لا يعتبر البنك دائناً للشخصين ب- (٢٠٠٠) دينار، وإنّما يعتبر دائناً بالقدر الذي يتمّ تسليمه لهما من المبلغ.

وفي الحالة الثانية نشأت دائنية البنك ب- (٢٠٠٠) دينارٍ من قرضَين أيضاً، غير أنّ القرضَين هنا يتوفّر فيهما القبض ؛ لأنّ كلّ واحدٍ من المقترِضَين قد قبض المبلغ الذي اقترضه كاملاً، فيعتبر القرضان صحيحين، ويكون البنك دائناً شرعاً ب- (٢٠٠٠) دينار.

وفي الحالة الثالثة نشأت دائنية البنك ب- (٢٠٠٠) دينارٍ للمحوِّلَين من قبوله بحوالتيهما، لا من عقد القرض، والحوالة صحيحة شرعاً، فيعتبر البنك دائناً ب- (٢٠٠٠) دينارٍ للمحوِّلَين ومديناً في نفس الوقت ب- (٢٠٠٠) دينارٍ لدائني المحوِّلَين.

١٠٨

ويتّضح ممّا سبق أنّ دائنية البنك بأكبرَ من الكمّية الموجودة من الودائع لديه فعلاً أمر جائز شرعاً إذا وجد السبب الشرعيّ للدائنية، وهو الإقراض الذي يتوفّر فيه قبض المقرِض المبلغ كما في الحالة الثانية، أو قبول الحوالة كما في الحالة الثالثة. وأمّا إذا لم يتحقّق السبب الشرعيّ للدائنية من إقراضٍ مع القبض، أو قبول الحوالة، أو غيرهما من الأسباب الشرعية فلا مبرِّر للدائنية كما في الحالة الأولى، فإنّ مجرّد التزام البنك ب- (٢٠٠٠) دينارٍ لكلٍّ من الشخصَين وتقييد المبلغ في الرصيد المَدين لحسابه الجاري في سجلاّته الخاصّة لا يخلق دَيناً ودائناً ومَديناً.

ويجب أن يعلم بهذا الصدد أنّنا حين نؤكِّد على بطلان القرض في الحالة الأولى لعدم توفّر القبض، ونربط صحة القرض بقبض المبلغ المقترَض، لا نريد بالقبض فصله نهائياً عن البنك المقرِض، بل بإمكان العميل الذي يطلب قرضاً قدره ألف دينارٍ مثلاً أن يقبض هذا المبلغ ثمّ يودِعه في حسابه الجاري في البنك، ويكون القرض في هذه الحالة صحيحاً ؛ لأنّه قرض مقبوض.

وقد يقال: إنّ العميل بإيداعه المبلغ مرّةً أخرى في البنك يكون قد أقرضه للبنك ؛ لأنّ الإيداع إقراض من الناحية الفقهية، فيصبح العميل دائناً للبنك بألف، أي بنفس قيمة المبلغ الذي اقترضه منه، وبذلك تحصل المقاصّة الجبرية بين الدَينيَن وتتلاشى دائنية البنك، وهذا يعني أنّ البنك لا يمكنه أن يحتفظ بدائنّيته لعميله ما لم ينفصل المبلغ المقترَض نهائياً عن البنك.

والجواب على هذا القول: أنّ العميل بقبضه للمبلغ مباشرةً أو توكيلاً يصبح مديناً للبنك بألف دينارٍ مثلاً، وبإيداعه المبلغ مرّةً أخرى في حسابه الجاري في البنك وإن خلق ديناً جديداً له من البنك إلاّ أنّ الدَينَين لا يسقطان بالمقاصّة ؛ لأنَّ العادة في القرض الذي تسلّمه العميل من البنك أن يكون مؤجّلاً إلى مدّةٍ محدّدة، بينهما لا يكون القرض المتمثِّل في إيداع العميل للمبلغ في حسابه الجاري مؤجّلاً.

١٠٩

ولهذا لا يتمكّن العميل من سحبه متى شاء. وما دام أحد الدَينَين مؤجّلاً دون الآخر فلا تحصل المقاصّة بينهما، ولا يسقطان بالتهاتر ؛ لأنّ من شروط التهاتر اتّفاق الدَينَين في ذلك. وعلى هذا الأساس تكون دائنية البنك بألف دينارٍ شرعية، وتظلّ على شرعيّتها إذا قبض العميل المبلغ المقترَض ثم أودعه في البنك مرّةً أخرى في حسابه الجاري، ويظلّ البنك دائناً حتّى يحلّ الأجل، فتحصل المقاصّة ويسقط الدَينان بالتهاتر.

التحصيل

إنّ قيام البنوك بقبول ودائع العلاء جعلها تتصدّى لإتمام جميع التسويات التي تترتّب على ذلك بعمولةٍ أو بدون عمولة، وعلى هذا الأساس تمارس البنوك تسوية الديون عن طريق المقاصّة، أو الترحيل في الحساب دون حاجةٍ إلى تداول كمّياتٍ كبيرةٍ من العملة، وما يترتّب على ذلك من نقل وتكاليف وتعرّضٍ لمخاطر السرقة والضياع. وتتمثّل التسويات التي تقوم بها البنوك في: تحصيل الشيكات، وتحصيل الكمبيالات، والتحصيلات المستندية، وقبول الشيكات والكمبيالات.

تحصيل الشيكات:

تقدّم منّا في الحديث عن الحساب الجاري أنّ أحد أساليب الإيداع هو: أن يتقدّم أحد العملاء إلى البنك بشيكٍ مسحوبٍ لمصلحته على حساب محرّر الشيك في البنك، فيقوم البنك بخصم قيمته من حساب المسحوب عليه وترحيلها إلى حساب المستفيد بالشيك ؛ بعد التأكّد من صحة الشيك من الناحية الشكلية ،

١١٠

وتصديق قسم مراكز العملاء على وجود رصيدٍ للمحرّر يسمح بخصم قيمة الشيك منه.

والشيك قد يكون مسحوباً على نفس المركز أو الفرع الذي يقوم بتحصيله لحساب المستفيد، وقد يكون مسحوباً على فرعٍ آخر من فروع البنك، وقد يكون مسحوباً على بنكٍ آخر.

ففي الحالة الأولى نواجه في علمية تحصيل الشيك حوالةً واحدةً من محرّر الشيك لدائنه، أي المستفيد من الشيك على البنك المدَين للمحرّر.

وفي الحالة الثانية لا توجد إلاّ حوالة واحدة أيضاً ؛ لأنّ مركز البنك وكلّ فروعه لها ذمّة واحدة شرعاً لوحدة المالك والمَدين.

وأمّا في الحالة الثالثة فهناك حوالة من صاحب الشيك على البنك المسحوب عليه، والمفروض أنّ الذي يقوم بتحصيل الشيك هو بنك آخر، فإذا فرضنا أنّ البنك الآخر حصّل قيمة الشيك من البنك الأوّل بتسجيل قيمة الشيك في الرصيد المَدين للبنك الأوّل في سجلاّته لكي يستوفي بعد ذلك بالمقاصّة، فإنّ معنى ذلك أنّ البنك الأول الذي أصبح بتحرير الشيك عليه مَديناً للمستفيد من الشيك بقيمته قد أحال المستفيد من الشيك - ضمناً أو إجازةً - على البنك الآخر، مديناً كان البنك الآخر للأول أو بريئاً، وهذه حوالة ثانية، فعملية التحصيل حينئذٍ تتمّ خلال حوالتين.

ويمكن تكييف العملية نفسها على أساس حوالةٍ وبيع. أمّا الحوالة فهي حوالة صاحب الشيك للمستفيد على البنك المسحوب عليه، وبموجب هذه الحوالة يصبح المستفيد مالكاً لقيمتها في ذمّة البنك المحوَّل عليه.

وأمّا البيع، فيمارسه المستفيد نفسه بعد أن أصبح مالكاً لقيمة الشيك في ذمّة البنك المسحوب عليه، إذ يبيع ما يملكه في ذمّة ذلك البنك بإزاء مبلغِ نقديّ

١١١

يتسلّمه من البنك الذي دفع إليه الشيك لتحصيله، ويكون هذا من بيع الدين. وسواء كيَّفنا العملية فقهياً على أساس أنّها حوالتان أو حوالة بدَينٍ ثمّ بيع الدَين، فإنّ كلّ ذلك صحيح وجائز شرعاً.

وهل بإمكان البنك من الناحية الشرعية أن يتقاضى عمولةً - أجرة - على تحصيل الشيك ؟

وللجواب على هذا السؤال يجب أن نميِّز بين الحالات المتقدّمة: ففي الحالة الثالثة التي كيّفنا فيها العملية على أساس حوالتين متعاقبتين يجوز للبنك المحصّل أن يأخذ من المستفيد أُجرةً على قيامه بتحصيل قيمة الشيك له عن طريق اتّصاله بالبنك المسحوب عليه وطلب تحويل قيمة الشيك عليه(١) .

وأمّا في الحالة الأولى فساحب الشيك على البنك إمّا أن يكون قد سحبه على رصيده الدائن، أو سحبه لحسابه الجاري على المكشوف مع البنك. فإن كان قد سحبه على رصيده الدائن فالحوالة تصبح من الحوالة على مَدين، والحوالة على مَدينٍ ليست بحاجةٍ إلى قبول المَدين للحوالة، بل تنفذ بمجرّد سحب الشيك عليه، ويكون البنك مَديناً للمستفيد ويجب عليه وفاء دينه أو إضافته إلى رصيده الدائن، ولا يمكن للمَدين أخذ أجرة على وفاء دائنه. ويستثنى حالة ما إذا شرط البنك على كلّ دائن حين تولّد دينه أن لا ينقل ملكية الدَين عن طريق الحوالة إلاّ

____________________

(١) نقصد هنا دراسة إمكان أخذ العمولة من وجهة نظر الفقه الإسلامي. وأمّا ما هو واقع في البنوك الربوية، فهو عدم أخذ عمولةٍ على تحصيل الشيك إلاّ إذا كان مسحوباً على بنكٍ أو جهةٍ في بلدٍ آخر غير البلد الذي يوجد فيه البنك المحصِّل للشيك. وعلى هذا الأساس، فإنّ أيّ بنكٍ آخر يقوم كالبنك اللاربوي لا يمكن له من الناحية الواقعية أن يفرض أجرة على تحصيل الشيك إلاّ في الحدود المتّبعة في الواقع المعاش. (المؤلّف قدس‌سره ).

١١٢

بإذنه، وحينئذٍ يكون بإمكان البنك أن يأخذ أجرة وعمولةً في مقابل قبوله بالحوالة وإسقاطه الشرط.

وأمّا إذا كان الساحب قد سحب قيمة الشيك من حسابه الجاري على المكشوف فالشيك في هذه الحالة يعني الحوالة على بريء الذمّة، والبريء يمكنه أن لا يقبل الحوالة إلاّ بأجرٍ من المحوِّل، أي المستفيد من الشيك، وليس ذلك من الفائدة التي يتقاضاها الدائن من المَدين ؛ لأنّ الأجر هنا يتقاضاه المَدين من الدائن في مقابل قبوله للحوالة وبأن يصبح مَديناً.

وهكذا يتلخّص: أنّ العمولة على تحصيل الشيك جائز إذا كان الشيك مسحوباً على بنكٍ آخر غير البنك المحصّل، أو على البنك المحصّل دون رصيدٍ دائنٍ للساحب. وأمّا إذا كان مسحوباً على البنك المحصّل مع رصيدٍ دائنٍ للساحب، فلا يجوز للبنك أخذ العمولة على تحصيل قيمة الشيك من المستفيد إلاّ في حالة ارتباط البنك مع عملائه الدائِنين منذ البدء بقرارٍ يقضي بعدم التحويل عليه بدون إذنه.

وقد درسنا حتّى الآن حكم العمولة في الحالة الثالثة والأولى، أي في حالة كون البنك المسحوب عليه غير البنك المحصّل (وهذه هي الحالة الثالثة)، وفي حالة كون الشيك مسحوباً على نفس البنك ونفس الفرع الطالب من قبل المستفيد بتحصيل قيمة الشيك (وهذه هي الحالة الأولى).

وبقي علينا أن نعرف حكم العمولة في الحالة الثانية، وهي: ما إذا كان المسحوب عليه الشيك فرع البنك في البصرة مثلاً، والمطالب بتحصيل قيمة ذلك الشيك هو فرع نفس البنك في الموصل، فهل بإمكان الفرع في الموصل أن يتقاضى عمولةً على تحصيل قيمة الشيك ؟

إنّ الفروع تمثّل وكلاء متعدّدين لجهةٍ واحدةٍ وهي أصحاب البنك، فكلّ

١١٣

فرعٍ هو وكيل للجهة العامة التي تملك البنك، وكل رصيدٍ دائنٍ في فرعٍ من فروع البنك هو في الحقيقة دَين على تلك الجهة العامة، فصاحب الشيك على فرع البنك في البصرة هو دائن لتلك الجهة بحكم إيداعه مبلغاً معيّناً من النقود لدى فرع البصرة وفتحه حساباً جارياً عنده، فإذا سحب شيكاً على فرع البصرة لصالح دائنه فقد حوّل في الحقيقة دائنه على الجهة العامة التي تمثّلها الفروع جميعاً، وهو من الحوالة على مَدين، ولكنّ تلك الجهة العامة غير ملزمةٍ بدفع الدَين إلى المستفيد إلاّ في نفس المكان الذي وقع فيه عقد القرض بين الساحب وبينها، أي البصرة ؛ لأنّ المفروض أنّ الحساب الجاري للساحب مفتوح مع فرع البصرة، فلا يلزم على الجهة التي تمثّلها كلّ فروع البنك أن تسدِّد الدَين المحوَّل عليها إلاّ في نفس مكان الفرع الذي وقع قيه القرض، أي الإيداع وفتح الحساب الجاري.

وعلى هذا الأساس يصبح بإمكان البنك - إذا طولب فرعه في الموصل بخصم قيمة الشيك المسحوب من عمليه على فرعه في البصرة - أن يطالب بعمولة وأجرة لقاءَ تسديد الدَين في غير المكان الذي وقع فيه عقد القرض - الإيداع - بينه وبين العميل الساحب للشيك.

التحصيل المستند:

قد يستغني المصدَّر للبضاعة عن الاعتماد الذي يطلب المستورِد فتحه لصالح المصدِّر عادةً ثقةً منه بالمستورد، وتعويلاً على وعده الشخصي بتسليم الثمن عند تسليم مستَندَات البضاعة. وفي هذه الحالة يقدِّم المصدِّر إلى مصرفه المستندات المتّفق عليها بينه وبين المستورد، ويتولّى البنك إرسال هذه المستندات إلى مراسله في بلد المستورد، ويطلب منه تسليم مستندات الشحن

١١٤

إلى المستورد مقابل دفع ثمن البضاعة، وعندما يسدّد المستورد يُخطر البنك المراسل بنكَ المصدِّر بما يفيد تحصيل القيمة وقيدها في الحساب الجاري له.

وهذه خدمة جائزة يقوم بها البنك بقصد تسهيل التبادل التجاري، ومؤدّاها توسّط البنك في إيصال مستندات الشحن إلى المستورد عن طريق مراسله في بلد ذلك المستورد وتسلّم الثمن عن طريق المراسل، ونظراً إلى أنّ الثمن الذي يتسلّمه المراسَل يدخل في الحساب الجاري لبنك المصدِّر لدى البنك المراسَل فهذا يعني أنّ بنك المصدّر يقرض هذا المبلغ ويودعه في حسابه الجاري لدى المراسَل، أي يقرضه للبنك المراسَل ثمّ يقوم بتسديد دَينه للمصدِّر بدفع قيمة الثمن إليه نقداً، أو إن شاءَ اكتفى بتقييده في حسابه الجاري باعتباره دَيناً للمصدِّر على البنك ؛ لأنّ كلّ دَينٍ للعميل على البنك يمكن أن ينشئ إيداعاً جديداً في الحساب الجاري.

وللبنك أن يأخذ عمولةً من المصدِّر لقاءَ قيامه بخدمة التوسّط في إيصال المستندات وتسلّم الثمن عن طريق مراسَله في الخارج، كما أنّ له أن يقيّد على المصدِّر ما تحمّله من نفقات، كأجرة البريد ونحوها ممّا يتطلّبه من التوسّط المذكور ؛ لأنّ هذا التوسط تمّ بأمر المصدِّر فيتحمّل ضمان ما أنفق لأجله.

كما أنّ البنك الذي يقوم بالتحصيل يتحمّل عادةً فائدةً من قبل البنك في بلد المصدِّر خلال الفترة من شحن البضاعة حتى تسليمها للمستورد، وهو يقوم بتحميلها بدوره على المستورد، وهذا جائز أيضاً ؛ لأنّ الفائدة التي يحمِلها بنك المصدِّر على البنك الذي يقوم بتحصيل الثمن، مهما كانت أسبابها غيرُ مشروعة، إنّما تفرض على البنك المحصّل لقيامه بالوساطة بين المصدّر والمستورد، فبإمكان البنك المحصّل أن يمتنع عن القيام بالتحصيل ما لم يلتزم المستورد بتحمّل تلك الفائدة ويتعهّد بتدارك ما تكبّده من خسارة.

١١٥

عمليات التحويل الداخلي:

إذا اتّفق أنّ شخصاً في بلدٍ أصبح مَديناً لشخصٍ في بلدٍ آخر فبإمكانه بدلاً عن إرسال شيكٍ إليه بالبريد مثلاً أن يستعمل طريقة الحوالة المصرفية، وهي عبارة عن أمرٍ كتابيٍّ يصدِّره العميل المَدين إلى البنك لدفع مبلغٍ من النقود إلى شخصٍ آخر في جهةٍ أخرى، فيتولّى البنك المأمور الاتّصال بفرعه أو مراسله في الجهة المحدّدة لتنفيذ أمر عمليه، ويتّصل الفرع أو البنك المحوَّل إليه حينئذٍ بالمستفيد طالباً منه الحضور إلى البنك لتسلّم قيمة الحوالة، أو يقوم البنك بنفسه بتقييد المبلغ في الحساب الجاري للمستفيد إذا كان هذا الحساب موجوداً وإرسال إشعارٍ بذلك إلى المستفيد.

ويمكن تكييف هذا التحويل من الناحية الفقهية على عدّة أوجه:

فأولاً: يمكن أن نفسِّر العملية بأنّها محاولة من العميل المحوِّل لاستيفاء دَينه الذي له ذمّة البنك، فبدلاً عن أن يطالبه بدفع قيمة الدَين إليه فوراً يطلب منه تسديد الدَين عن طريق دفع قيمته إلى المحوِّل إليه الدائن للمحوِّل ؛ لكي تبرأ بهذا الدفع ذمّة البنك تجاه المحوِّل وذمّة المحوِّل تجاه المحوَّل إليه.

وثانياً: يمكن أن نفسِّر العملية بأنّها محاولة من البنك المأمور بالتحويل لتسديد الدين الثابت للمحوَّل إليه على المحوِّل ؛ وذلك عن طريق الاتّصال بفرعه أو مراسله وأمره بدفع قيمة ذلك الدين، ونظراً إلى أنّ ذلك وقع بطلبٍ من الآمر بالتحويل المَدين فيصبح هذا الآمر ضامناً للبنك قيمة الدَين الذي سدّده عنه، وتحصل المقاصّة بين دَائنيّة البنك الآمر بالتحويل نتيجةً لتسديد دَينه ودائنيّة الآمر للبنك المتمثّلة في رصيده الدائن.

١١٦

وثالثاً: يمكن أن نفسِّر العملية بأنّها حوالة بالمعنى الفقهي(١) . فالآمر بالتحويل مَدين، والمستفيد من الحوالة دائن، فذاك يحيل هذا على البنك المأمور بالتحويل، فيصبح البنك بموجب هذه الحوالة مَديناً للمستفيد، وهو بدوره قد يحيل المستفيد على بنكٍ آخر مراسلٍ له في البلد الذي يقيم فيه المستفيد، فتتمّ بذلك حوالة ثانية يصبح بموجبها البنك المراسل مَديناً للمستفيد. وقد يكون للبنك الأوّل فرع يمثّله في بلد إقامة المستفيد فيتّصل به ويأمره بالدفع، ولا يكون هذا حوالةً ثانية ؛ لأنّ الفرع ممثّل للبنك المَدين، وليس له ذمّة أخرى ليحال عليها الدَين من جديد.

ورابعاً: يمكن أن نفسِّر العملية بأنّها حوالة بالمعنى الفقهي، ولكنّ المحوِّل ليس هو الآمر بالتحويل كما فرضنا في التفسير السابق، بل البنك المأمور بالتحويل نفسه بوصفه مَديناً للآمر بما له من رصيدٍ دائنٍ في ذلك البنك، فيحيله على مراسله في بلد إقامة المستفيد، فيصبح البنك المراسل هو المدين للآمر بالتحويل، فيقوم الآمر بالتحويل بدوره بإحالة دائنه المقيم في بلد البنك المراسل على ذلك البنك، ويكلِّف البنك الذي يتعامل معه بتبليغه ذلك.

والأكثر انسجاماً مع واقع العملية كما تجري فعلاً هو التفسير الثالث دون التفاسير الثلاثة الأخرى ؛ لأنّ التفسيرين الأوَّلَين لا يجعلان المستفيد من الآمر بالتحويل دائناً بالفعل للبنك المراسل، وإنّما هو مخوَّل في أخذ قيمة دينه منه، فلا يتاح له أن يأمره بترحيل القيمة إلى حسابه دون قبض، خلافاً للتفسير الثالث الذي تتمّ فيه دائنيّة المستفيد بمجرّد قبوله للتحويل.

____________________

(١) راجع الملحق (٦) للتوسّع من الناحية الفقهية في تبرير أخذ العمولة على تحصيل الشيك في هذه الحالة. (المؤلّف قدس‌سره ).

١١٧

كما أنّ التفسير الرابع لا ينطبق على حالة ما إذا كان المراسل للبنك المأمور بالتحويل فرعاً له؛ إذ في هذه الحالة لا معنى لأنْ يحوِّل البنك المأمور دائنه عليه. وعلى أيّ حالٍ فالعملية صحيحة وجائزة شرعاً.

أخذ العمولة على التحويل:

عرفنا سابقاً أنّ البنك يجوز له أن يتقاضى عمولةً على تحصيل قيمة الشيك المسحوب على بنكٍ آخر أو فرعٍ آخر، ولا يجوز أن يتقاضى عمولةً على تحصيل قيمة الشيك المسحوب على الرصيد الدائن للساحب في نفس البنك والفرع الذي يقوم بالتحصيل إلاّ في حالات اشتراطٍ معيّنة. ونريد أن نعرف الآن حكم العمولة على التحويل، فهل يجوز للبنك أن يتقاضى عمولةً من المحوِّل على التحويل ؟

والجواب بالإيجاب مهما كان التخريج الفقهي لعميلة التحويل.

وتفصيل ذلك : أنّ عملية التحويل إذا كانت تعني أنّ البنك يريد أن يسدّد الدَين الذي عليه للآمر بالتحويل عن طريق دفعه إلى دائنه - كما تقدّم في الوجه الأوّل من أوجه التكييف الفقهي للعملية - فهو يأخذ عمولةً لقاءَ تسديده للدَين في مكانٍ آخر غير مكان القرض الذي نشأ بينه وبين الآمر بالتحويل، فالبنك وإن كان مَديناً للآمر بالتحويل، والمَدين وإن كان ملزماً بتسديد دينه دون عوض، ولكنّه غير ملزم بالدفع في أيّ مكانٍ يقترحه الدائن، فإذا أراد الدائن منه أن يسدِّد دَينه في مكانٍ معيّنٍ غير المكان الطبيعي للوفاء كان من حقّ البنك أن يتقاضى عمولةً على ذلك.

وإذا كانت عملية التحويل تعني محاولة البنك المأمور لتسديد دين المستفيد على الآمر - كما مرّ في الوجه الثاني لتكييفها الفقهي - فمن الواضح أنّ هذه الخدمة

١١٨

يؤدّيها البنك لعميله ويتقاضى عليها عمولة، وقيمة هذه الخدمة هي عبارة عن قيمة المبلغ المدفوع وفاءً عن ذمّة الآمر بالتحويل زائداً قيمة دفعه في مكانٍ آخر لم يكن ليتيسّر للآمر بالتحويل الدفع فيه إلاّ بنفقات.

وإذا كانت عملية التحويل تقوم على أساس الحوالة، بأن يُحيل الآمر بالتحويل دائنَه الموجود في بلدٍ آخر على البنك كما مرَّ في الوجه الثالث للتكييف الفقهي، فالآمر بالتحويل:

إمّا أن يكون حسابه مع البنك على المكشوف.

وإمّا أن يكون له رصيد دائن يتمثّل في حسابٍ جارٍ مع البنك.

وإمّا أن يكون قد تقدّم الآن حين أراد التحويل بمبلغٍ من النقود ليسلّمها إلى البنك ويكلّفه بالتحويل.فإن كان حسابه على المكشوف، فالبنك بريء، والحوالة حوالة على بريء.

وإن كان له رصيد دائن سابق، فالبنك مَدين والحوالة على مَدين، وفي كلتا الحالتين يجوز للبنك أن يأخذ عمولةً حتى لو كان مَديناً ؛ لأنّه غير ملزمٍ بقبول الدفع في مكانٍ آخر، والحوالة على المدين لا تعني إلزامه بالدفع في مكانٍ معيّنٍ لم يفرضه عقد القرض الذي نشأت مَدينيّته على أساسه، فيأخذ البنك عمولةً لقاءَ الدفع في مكانٍ معيّن.

وأمّا إذا تقدّم الآمر بالتحويل بالمبلغ فعلاً إلى البنك، فهذا يعني أنّ عقد القرض سوف ينشأ فعلاً، ويصبح البنك بموجبه مديناً والآمر بالتحويل دائناً ؛ لكي يُتاح له توجيه الآمر إلى البنك، وفي هذه الحالة يمكن للبنك أن يشترط في عقد القرض على الآمر بالتحويل أن لا يحيل الآمر دائنه عليه إلاّ بإذنه، أو إلاّ إذا دفع إليه عمولةً معيّنة، وهو شرط سائغ ؛ لأنّه لمصلحة المَدين على الدائن، لا العكس.

١١٩

وأخيراً، إذا كانت عملية التحويل قائمةً على أساس الوجه الرابع في تكييفها، وهو أن البنك المأمور هو المحوّل لعملية الآمر باعتباره دائناً له على بنكٍ مراسلٍ له في بلدٍ آخر، فيجوز للبنك أن يأخذ العمولة وإن كان مديناً ؛ لأنّ المدين غير ملزمٍ بهذا النوع من الوفاء، بل يمكنه تسديد الدَين بدفعه نقداً، فإذا أراد الدائن منه هذا النوع الخاصّ من الوفاء أمكنه الامتناع ما لم تدفع إليه عمولة خاصّة(١) .

التحويل المقترن بدفع مبلغٍ من النقود:

تقدّم أنّ الآمر بالتحويل قد يكون له رصيد سابق لدى البنك المأمور بالتحويل، وقد ينشأ القرض بينهما فعلاً تمهيداً لإنجاز عملية التحويل ؛ بأن يدفع الآمر بالتحويل فعلاً قيمة التحويل نقداً إلى البنك ويأمره بالتحويل، فينشأ عقد القرض في هذه الحالة، وهو جائز كما تقدّم، ويجوز للبنك أن يأخذ عمولةً لقاءَ قبوله بالدفع في مكانٍ آخر، أو بحكم شرطٍ يدرجه في نفس عقد القرض يفرض فيه على الدائن أن لا يوجّه إليه تحويلاً إلاّ بإذنه.

التحويل لأمره:

قد يريد شخص أن يحصل على مبلغٍ من النقود في بلدةٍ أخرى، فيدفع إلى البنك في البلدة الأُولى قيمة المبلغ نقداً، ثمّ يتسلّمه في البلدة الأخرى من أحد فروع البنك أو من بنكٍ آخر مراسل.

____________________

(١) راجع للتوسّع في المناقشة الفقهية الملحق (٧) في آخر الكتاب. (المؤلّف قدس‌سره ).

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611