الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 611

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 611
المشاهدات: 127704
تحميل: 5335


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 611 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127704 / تحميل: 5335
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 4

مؤلف:
العربية

لعل من المفيد أن نشير إلى أنّ نفي هاتين الصفتين «الحفاظ والوكالة» عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعني نفي الإجبار على دفع ضرر أو اجتلاب نفع ، وإلّا فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يدعوهم ـ ضمن تبليغه الرسالة ـ إلى عمل الخير وترك الشر بصورة طوعية واختيارية.

إنّ الفكرة التي تسود هذه الآيات تستلفت النظر ، فهي تقول : إنّ الإيمان بالله وبتعاليم الإسلام لا يكون عن طريق الإكراه والإجبار ، بل يكون عن طريق المنطق والاستدلال والنفوذ إلى أفكار الناس وأرواحهم ، فالإيمان بالإكرام لا قيمة له ، لأنّ المهم هو أن يدرك الناس الحقيقة فيتقبلوها بإرادتهم واختيارهم.

كثيرا ما يؤكّد القرآن حقيقة كون الإسلام بعيدا عن كل عنف وخشونة ، كتلك الأعمال التي كانت ترتكبها الكنيسة في القرون الوسطى(1) ، ومحاكم تفتيش العقائد.

أمّا صلابة الإسلام في مواجهة المشركين فسوف نبحثها ـ إن شاء الله في بداية تفسير سورة البراءة.

* * *

__________________

(1) «القرون الوسطى» هي فترة الألف سنة التي امتدت بين القرن السادس الميلادي حتى نهاية القرن الخامس عشر ، كما يطلق عليها اسم «الفترة المظلمة» التي مرت على أوروبا والمسيحية ، والجدير بالذكر أنّ «العصر الذهبي الإسلامي» يقع في منتصف القرون الوسطى.

٤٢١

الآية

( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108) )

التّفسير

تناولت الآيات السابقة موضوع قيام تعاليم الإسلام على أساس المنطق ، وقيام دعوته على أساس الاستدلال والإقناع لا الإكراه ، وهذه الآية تواصل نفس التوجيهات فتنهى عن سبب ما يعبد الآخرون ـ أي المشركون ـ لأنّ هذا سوف يدعوهم إلى أن يعمدوا هم أيضا ـ ظلما وعدوانا وجهلا ـ إلى توجيه السب إلى ذات الله المقدسة :( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ) .

يروى أنّ بعض المؤمنين كانوا يتألمون عند رؤيتهم عبادة الأصنام ، فيشتمون أحيانا الأصنام أمام المشركين ، وقد نهى القرآن نهيا قاطعا عن ذلك ، وأكّد التزام قواعد الأدب واللياقة حتى في التعامل مع أكثر المذاهب بطلانا وخرافة.

إنّ السبب واضح ، فالسّب والشّتم لا يمنعان أحدا من المضي في طريق

٤٢٢

الخطأ ، بل إنّ التعصب الشديد والجهل المطبق الذي يركب هؤلاء يدفع بهم إلى التمادي في العناد واللجاجة وإلى التشبث أكثر بباطلهم ، ويستسهلون إطلاق ألسنتهم بسبّ مقام الرّبوبية جل وعلا ، لأنّ كل أمّة تتعصب عادة لعقائدها وأعمالها كما تقول العبارة التّالية من الآية :( كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ) .

وفي الختام تقول الآية :( ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

بحوث

هنا ينبغي الانتباه إلى ثلاث نقاط :

1 ـ هذه الآية نسبت إلى الله تزيين الأعمال الحسنة والسيئة لكل شخص ، وقد يثير هذا عجب بعضهم ، إذ كيف يمكن أن يزين الله أعمال المرء السيئة في نظره؟

سبق أن أجبنا مرات على مثل هذه الأسئلة فأمثال هذه التعبيرات تشير إلى صفة العمل وأثره ، أي أنّ الإنسان عند ما يقوم بعمل ما بصورة متكررة ، فإنّ قبح عمله يتلاشى في نظره شيئا فشيئا ، ويتخذ شكلا جذابا ، ولما كان علّة العلل وسبب الأسباب وخالق كل شيء هو الله ، وأنّ جميع التأثيرات ترجع إليه ، فإنّ هذه الآثار تنسب أحيانا في القرآن إلى الله (تأمل بدقّة).

وبعبارة أوضح ، إنّ عبارة( زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ) تفسر هكذا : لقد أقحمناهم في نتائج سوء أفعالهم إلى الحد الذي أصبح القبيح جميلا في نظرهم.

يتضح من هذا أنّ القرآن ينسب ـ أحيانا ـ تزيين الأعمال إلى الشيطان ، وهذا لا يتعارض مع ما قلناه ، لأنّ الشيطان يوسوس لهم لكي يرتكبوا الأعمال القبيحة ، وهم يستسلمون لوسوسة الشيطان ، فتكون النتيجة أنّهم يلاقون عاقبة أعمالهم السيئة ، وبالتعبير العلمي نقول : إنّ السببية من الله ، ولكنّ هؤلاء هم الذين يوجدون

٤٢٣

السبب ، مدفوعين بوسوسة الشيطان (تأمل بدقّة)(1) .

2 ـ الأحاديث الإسلامية ـ أيضا ـ تواصل منطق القرآن في ترك سبّ الضالين والمنحرفين ، فقد أمر كبار قادة الإسلام بضرورة الاستناد إلى المنطق والاستدلال دائما ، وبلزوم تجنب شتم عقائد الآخرين ، وقد جاء في نهج البلاغة أنّ الإمام عليعليه‌السلام خاطب فريقا من أصحابه الذين كانوا يسبون أتباع معاوية في حرب صفين ، فقال : «إني أكره لكم أن تكونوا سبابين ، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر»(2) .

3 ـ قد يعترض بعضهم قائلا : كيف يمكن لعبدة الأصنام أن يسبوا الله مع أنّهم في الغالب يؤمنون بالله ويعتبرون الأصنام مجرّد شفعاء إلى الله.

ولكنّنا إذا أمعنا النظر في حالة العامّة المعاندين المتعصبين أدركنا أنّ هذا ممكن ولا عجب فيه ، فإنّ أمثال هؤلاء إذا أثير غضبهم سعوا للانتقام والإثارة بأي ثمن كان ، حتى وإن كان ذلك بالإساءة إلى عقائد مشتركة يقول الآلوسي في «روح المعاني» إنّ بعض العوام من الجهلة عند ما سمع بعض الشيعة يسب الشّيخين أزعجه ذلك فراح يسب علياعليه‌السلام ، وإذا سئل عمّا دعاه إلى سب الإمام عليعليه‌السلام الذي يحترمه ، قال : كنت أريد أن أنتقم من ذلك الشيعي ، ولم أجد ما يغضبه ويثيره خيرا من هذا ، فحملوه على أن يتوب عما فعل(3) .

* * *

__________________

(1) في ثمانية مواضع من القرآن نسب تزيين الأعمال إلى الشيطان ، وفي عشرة مواضع جاء التعبير بصيغة ـ المبني للمجهول «زين» ، وفي موضعين إثنين نسب إلى الله ، وممّا سبق أن قلناه يتضح معنى هذه الحالات الثلاث.

(2) نهج البلاغة ، الكلام 206.

(3) الآلوسي ، «تفسير روح المعاني» ، ج 7 ، ص 218.

٤٢٤

الآيتان

( وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) )

سبب النّزول

قيل في نزول هذه الآية : إنّ قريش قالت : يا محمّد تخبرنا أنّ موسى كانت معه عصا يضرب بها الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عينا ، وتخبرنا أنّ عيسى كان يحيي الموتى وتخبرنا أنّ ثمود كانت لهم ناقة فأتنا بآية من الآيات كي نصدقك ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أي شيء تحبون أن آتيكم به؟ قالوا : اجعل لنا الصفا ذهبا ، وابعث لنا بعض موتانا ، حتى نسألهم عنك أحق ما تقول أم باطل ، وأرنا الملائكة يشهدون لك ، أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا!! فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فإن فعلت بعض ما تقولون ، أتصدقونني؟» قالوا : نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين ، وسأل المسلمون رسول الله أن ينزلها عليهم حتى يؤمنوا.

فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعو الله تعالى أن يجعل الصفا ذهبا ، فجاء جبرئيلعليه‌السلام

٤٢٥

فقال له : إن شئت أصبح الصفا ذهبا ، ولكن إنّ لم يصدقوا عذبتهم ، وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بل يتوب تائبهم» فأنزل الله تعالى الآيتين.

التّفسير

وردت في الآيات السابقة أدلة كثيرة كافية على التوحيد ، وردّ الشرك وعبادة الأصنام ، ومع ذلك فإنّ فريقا من المشركين المعاندين المتعصبين لم يرضخوا للحق ، وراحوا يعترضون وينتقدون ، من ذلك أنّهم أخذوا يطلبون من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القيام بخوارق عجيبة وغريبة يستحيل بعضها أساسا (مثل طلب رؤية الله) ، زاعمين كذبا أنّ هدفهم من رؤية تلك المعجزات هو الإيمان ، في الآية الأولى ، يقول القرآن :( أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها ) (1) .

وفي الردّ عليهم يشير القرآن إلى حقيقتين : يأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوّلا أن يقول لهم :( قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ ) ، أي أن تحقيق المعجزة لا يكون وفق مشتهياتهم ، بل إنّها بيد الله وبأمره.

ثمّ يخاطب المسلمين البسطاء الذين تأثروا بإيمان المشركين فيقول لهم :( وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ ) (2) مؤكدا بذلك أنّ هؤلاء المشركين كاذبون في قسمهم.

كما أنّ مختلف المشاهد التي جرت بينهم وبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تؤكّد حقيقة

__________________

(1) «الجهد» بمعنى السعي وبذل الطاقة ، والمقصود هنا الجهد في توكيد القسم.

(2) المفسّرون غير متفقين على «ما» ، أهي استفهامية أم نافية؟ وكذلك فيما يتعلق بتركيب الجملة ، بعضهم يقول إنّ «ما» استفهامية استنكارية ، ولو كانت كذلك لكان معنى الآية : أنّى لكم أن تعلموا إنّهم لا يؤمنون إن رأوا معجزة ، أي إنّه قد يؤمنون ، وهذا خلاف ما تريده الآية ، لذلك اعتبر بعضهم «ما» نافية ، وهو الأقرب إلى الذهن ، فيكون معنى الآية : أنتم لا تعلمون إنّهم حتى إذا تحققت لهم المعجزات لا يؤمنون ، وعلى ذلك يكون فاعل «يشعر» مقدر بمعنى «شيء» وللفعل «يشعر» مفعولان «كم» و( أَنَّها ) (تأمل بدقّة).

٤٢٦

أنّهم لم يكونوا يبحثون عن الحق ، بل كان هدفهم من كل ذلك أن يشغلوا الناس ويبذروا في نفوسهم الشك والتردد.

الآية التّالية تبيّن سبب عنادهم وتعصبهم ، فتقول :( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) أي أنّهم بإصرارهم على الانحراف والسير في طريق ملتو وتعصبهم الناشئ عن الجهل ورفض التسليم للحق ، أضاعوا قدرتهم على الرؤية الصحيحة والإدراك السليم ، فراحوا يعيشون في متاهات الضلال والحيرة.

هنا أيضا نسب هذا الفعل إلى الله كما سبق من قبل ، وهو في الواقع نتيجة أعمالهم وسوء فعالهم ، وما نسبة ذلك إلى الله إلّا لأنّه علّة العلل ومبدأ عالم الوجود ، وكل خصيصة في أي شيء إنّما هي بإرادته ، وبعبارة أخرى : إنّ الله جعل من النتائج الحتمية للعناد والتعصب الأعمى والانحراف أن يكون لها مثل هذا الأثر ، وهو انحراف الإنسان شيئا فشيئا في هذا الطريق ، فلا يعود يدرك الأمور إدراكا سليما.

ثمّ تشير الآية في الخاتمة إلى أنّ الله ، يترك أمثال هؤلاء في حالتهم تلك لكي يشتد ضلالهم وتزداد حريتهم :( وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) (1) .

نسأل الله أن يجنبنا الابتلاء بمثل هذا الضلال والحيرة الناتجة عن أعمالنا السيئة ، وأن يمنحنا النظرة السليمة الكاملة لكي نرى الحقيقة ناصعة لا غبش عليها.

* * *

__________________

(1) «يعمهون» من «عمه» بمعنى الحيرة والشك.

٤٢٧
٤٢٨

الجزء الثامن

من

القرآن الكريم

٤٢٩
٤٣٠

الآية

( وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) )

التّفسير

لماذا لا يرعوي المعاندون؟

هذه الآية تتبع سابقاتها في تعقيب الحقيقة نفسها ، وهدف هذه الآيات هو بيان كذب أولئك الذين طلبوا تحقيق معجزات عجيبة وغريبة يستحيل تحقق بعضها كما مرّ (مثل رؤية الله جهرة).

فهم يظنون أنّهم بطلبهم تلك المعجزات العجيبة سوف يزعزعون أفكار المؤمنين ويزلزلون عقائد الباحثين عن الحق ويشغلونهم عن ذلك.

فيصرّح القرآن في الآية المذكورة قائلا :( وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا ) (1) .

__________________

(1)( حَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ ) تعني : حققنا لهم كل طلباتهم ، فالحشر بمعنى الجمع ، وقبلا بمعنى أمامهم وقبالتهم ، وقد تكون «قبل» جمع «قبيل» بمعنى تجميع الملائكة والأموات أمامهم جماعات.

٤٣١

ثمّ يؤكّد ذلك أنّهم لا يمكن أن يؤمنوا إلّا في حالة واحدة وهي أن يجبرهم الله بإرادته على الإيمان :( إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) إلّا أنّ إيمانا كهذا لا ينفع في تربيتهم ولا يؤثر في تكاملهم وفي النهاية يقول :( وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ) .

هناك كلام مختلف بين المفسّرين عمّن يعود إليهم الضمير «هم» في هذه العبارة ، فقد يعود إلى المؤمنين الذين أصروا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحقق للمشركين طلباتهم ويأتيهم بكل معجزة يريدونها.

وذلك لأنّ معظم هؤلاء المؤمنين كانوا يجهلون زيف الكفار في دعواهم ، ولكنّ الله كان عالما بأنّهم كاذبون ، ولذلك لم يجبهم إلى طلباتهم ، إلّا أنّ دعوة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يمكن أن تخلو ـ طبعا ـ من معجزة ، فقد حقق الله في مواضع خاصّة معجزات مختلفة على يده.

والاحتمال الآخر هو أنّ الضمير «هم» يعود إلى الكفار أصحاب الطلبات أنفسهم ، أي أنّ أكثرهم يجهل قدرة الله على تحقيق كل أمر خارق للعادة ، ولعلهم يعتبرون قدرته محدودة لذلك كانوا يصفون معاجز الرّسول بالسحر ، يقول سبحانه :( وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ) (1) فهم قوم معاندون وجاهلون وينبغي أن لا يهتم أحد بكلامهم.

* * *

__________________

(1) الحجر ، 14 و 15.

٤٣٢

الآيتان

( وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) )

التّفسير

وساوس الشياطين :

تشير هذه الآية إلى أنّ أمثال هؤلاء المعاندين اللجوجين المتعصبين الذين أشارت إليهم الآيات السابقة ، لم يقتصر وجودهم على عهد نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل إنّ الأنبياء السابقين وقف في وجوههم أعداؤهم من شياطين الإنس والجن :( وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ ) ، لا عمل لهم سوى الكلام المنمق الخادع يستغفل به بعضهم بعضا ، يلقونه في غموض أو يهمس به بعض لبعض :( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ) .

ولكن : لو أراد الله لمنع هؤلاء بالإكراه عن ذلك ولحال دون وقوف هؤلاء الشياطين وأمثالهم بوجه الأنبياء :( وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ ) .

بيد أنّ الله لم يشأ ذلك ، لأنّه أراد أن يكون الناس أحرارا ، وليكون هناك مجال لاختبارهم وتكاملهم وتربيتهم ، إنّ سلب الحرية والإكراه لا يأتلف مع هذه

٤٣٣

الأغراض ، ثمّ إنّ وجود أمثال هؤلاء الأعداء المعاندين المتعصبين لا يضر المؤمنين الصادقين ، شيئا ، بل يؤدي بشكل غير مباشر إلى تكامل الجماعة المؤمنة ، لأنّ التكامل يسير عبر التضاد ، ووجود عدو قوي له تأثير على تعبئة الطاقات البشرية وتقوية الإرادة.

لذلك يأمر الله نبيّه في آخر السورة أن لا يلقى بالا إلى أمثال هذه الأعمال الشيطانية :( فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ ) .

ملاحظات :

نسترعي الانتباه إلى النقاط التّالية :

1 ـ في هذه الآية ينسب الله إلى نفسه وجود شياطين الإنس والجن في قبال الأنبياء بقوله :( وَكَذلِكَ جَعَلْنا ) واختلف المفسّرون في معنى هذه العبارة ، ولكن كما سبق أن شرحنا جميع أعمال الناس يمكن أن تنسب إلى الله ، لأنّ ما يملكه الناس إنّما هو من الله ، فقدرتهم منه ، وكذلك حرية اختيارهم وإرادتهم ، لذلك فان أمثال هذه التعبيرات لا يمكن أن تعني سلب حرية الإنسان واختياره ، ولا أنّ الله قد خلق بعض الناس ليتخذوا موقف العداء من الأنبياء ، إذ لو كان الأمر كذلك لما توجهت إليهم أية مسئولية بشأن عدائهم للأنبياء ، لأنّ عملهم في هذه الحالة يعتبر تنفيذا لرسالتهم ، والأمر ليس كذلك بالطبع.

ولا يمكن إنكار ما لوجود أمثال هؤلاء الأعداء ـ المختارين طبعا ـ من أثر بنّاء غير مباشر في تكامل المؤمنين ، وبتعبير آخر : يستطيع المؤمنون الصادقون أن ينتزعوا من وجود الأعداء أثرا إيجابيا متخذين منه وسيلة لرفع مستواهم ووعيهم وإعدادهم للمقاومة ، لأنّ وجود العدو يحفز الإنسان لاستجماع قواه.

2 ـ للشياطين (جمع شيطان) معنى واسع يشمل كل طاغ معاند مؤذ ، لذلك يطلق القرآن على الوضيع الخبيث الطاغي من البشر اسم الشيطان ، كما نلاحظ في هذه الآية حيث ذكر شياطين الإنس وغير الإنس الذين لا نراهم ، أمّا «إبليس»

٤٣٤

فهو اسم خاص للشيطان الذي وقف بوجه آدمعليه‌السلام وهو في الحقيقة رئيس جميع الشياطين ، وعليه فالشيطان اسم جنس ، وإبليس اسم على خاص(1) .

3 ـ( زُخْرُفَ الْقَوْلِ ) يعني الكلام المعسول الخادع الذي يعجبك ظاهره وهو في الباطن قبيح(2) و «الغرور» هو الغفلة في اليقظة.

4 ـ تعبير( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ ) فيه إشارة لطيفة إلى أنّهم في أقوالهم وأفعالهم الشيطانية يرسمون خططا غامضة يبتادلونها فيما بينهم سرّا لئلا يعرف الناس شيئا عن أعمالهم حتى ينفذوا خططهم كاملة ، أنّ من معاني «الوحي» الهمس في الأذن.

الآية التّالية تشير إلى نتيجة كلام الشياطين المزخرف الخادع فتقول : أخيرا سيستمع الذين لا إيمان لهم ـ أي الذين لا يؤمنون بيوم القيامة ـ إلى تلك الأقوال وتميل قلوبهم إليها :( وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ) (3) .

«لتصغى» من «الصغو» وهو الميل إلى شيء ، ولكنّه في الأغلب ميل ناشئ عن طريق السمع ، فإذا استمع أحد إلى كلام مع الموافقة ، فهو «الصغو» و «الإصغاء».

ثمّ يقول : إنّ نهاية هذا الميل هو الرضاع التام ـ بالمناهج الشيطانية( وَلِيَرْضَوْهُ ) .

وختام كل ذلك كان ارتكاب أنواع الذنوب والأعمال القبيحة :( وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ ) .

* * *

__________________

(1) انظر المجلد الأوّل بهذا الشأن.

(2) «زخرف» تعني أصلا الزينة والذهب الذي يستخدم للزينة ، ثمّ أطلقت على الكلام ذي الظاهر الجميل المزين.

(3) يختلف المفسّرون في إعراب هذه الآية ، وفي ما عطفت عليه جملة «ولتصغي» أمّا الأقرب إلى مفهوم الآية فهو أن الجملة معطوفة على «يوحى» ولامها «لام العاقبة» أي إنّ عاقبة أمر الشياطين ستكون أنّهم يوحي بعضهم إلى بعض كلاما خادعا فيميل إليه الذين لا إيمان لهم ، وقد تكون معطوفة على محل «غرورا» وهي مفعول لأجله (إذ أنّ الإنسان ينخدع أوّلا ثمّ يميل إلى ما انخدع به) فتأمل بدقّة.

٤٣٥

الآيتان

( أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) )

التّفسير

هذه الآية في الواقع هي نتيجة الآيات السابقة ، إذ تقول : بعد كل تلك الأدلة والآيات الواضحة التي تؤكّد التوحيد :( أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً ) (1) ؟ وهو الذي أنزل هذا الكتاب السماوي العظيم الذي فيه كل احتياجات الإنسان التربوية ، وما يميز بين الحق والباطل والنّور والظلمة ، والكفر والإيمان :( وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً ) .

وليس الرّسول والمسلمون وحدهم يعلمون أنّ هذا الكتاب قد نزل من الله ، بل إنّ أهل الكتاب (اليهود والنصارى) يعلمون ذلك أيضا ، لأنّ علائم هذا الكتاب

__________________

(1) «الحكم» القاضي والحاكم ، وبعضهم يراه مساويا للحاكم من حيث المعنى ، ولكن يرى بعضهم ، ومنهم الشيخ الطوسيرحمه‌الله ، أنّ الحكم من لا يحكم بغير الحق ، أمّا الحاكم فقد يحكم بكليهما ، ويرى آخرون ، ومنهم صاحب المنار أنّ الحكم من يختاره الطرفان للحكم ، وليس الحاكم كذلك.

٤٣٦

السماوي قرءوها في كتبهم ويعلمون أنّه نزل من الله بالحق :( وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ ) .

وعلى ذلك لم يبق مجال للشك فيه ، وكذلك أنت أيّها النّبي لا تشك فيه أبدا ،( فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) .

هنا يبرز هذا السؤال : هل كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يداخله أدنى شك ليخاطب بمثل هذا القول؟

والجواب : هو ما سبق أن قلناه في مثل هذه الحالات ، وهو أن المخاطب في الحقيقة هم الناس ، وما مخاطبة النّبي مباشرة إلّا لتوكيد الموضوع وترسيخه ، وليكون التحذير للناس أقوى وأبلغ.

الآية التّالية تقول :( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) .

«الكلمة» بمعنى القول ، وتطلق على كل جملة وكل كلام مطولا كان أم موجزا ، وقد تطلق على الوعد ، كما في الآية :( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ (الْحُسْنى) عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا ) (1) ، لأنّ الشخص عند ما يعد يتلفظ ببعض الكلمات المتضمنة لمفهوم الوعد.

وقد يأتي بمعنى الدين والحكم والأمر للسبب نفسه.

أمّا بالنسبة لاستعمالها في هذه الآية فقيل إنّها تعني القرآن ، وقيل إنّها دين الله ، وقيل : وعد النصر الذي وعد الله نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وليس بين هذه تعارض ، فقد تكون الآية أرادت هذه المعاني جميعا ، ولأنّ الآيات السابقة كانت تشير إلى القرآن ، فتفسير الكلمة بالقرآن أقرب.

فيكون معنى الآية إذن : إنّ القرآن ليس موضع شك بأيّ شكل من الأشكال ، فهو كامل من جميع الجهات ولا عيب فيه ، وكل أخباره وما فيه من تواريخ صدق ،

__________________

(1) الأعراف ، 136.

٤٣٧

وكل أحكامه وقوانينه عدل.

وربّما يكون معنى «كلمة» هنا هو الوعد الذي جاء في العبارة التّالية( لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ ) إذ يتكرر هذا التعبير في القرآن الكريم كقوله تعالى :( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) (1) وقوله سبحانه( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ) (2) ، في أمثال هذه الآيات تكون الآية التّالية بيانا للوعد الذي ورد من قبل تحت لفظة «كلمة».

وعلى ذلك يكون معنى الآية : لقد تحقق وعدنا بالصدق وبالعدل ، وهو أنّه ليس لأحد القدرة على تبديل أحكام الله.

وقد تتضمن الآية كل هذه المعاني.

وإذا كانت الآية تعني القرآن ، فذلك لا يتعارض مع كون القرآن لم يكن قد اكتمل نزوله حينذاك ، إذ المقصود هو أن ما نزل منه كان متكاملا ولا عيب فيه.

ويستند بعض المفسّرين إلى هذه الآية لاثبات عدم تحريف القرآن ، لأنّ تعبير( لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ ) تعني أنّ أحدا لا يستطيع أن يحدث في القرآن تبديلا أو تغييرا ، لا في لفظه ، ولا في إخباره ، ولا في أحكامه ، وأنّ هذا الكتاب السماوي الذي يجب أن يبقى حتى نهاية العالم هاديا للناس سيبقى محفوظا ومصونا من أغراض الخائنين والمحرفين.

* * *

__________________

(1) هود ، 119.

(2) الصافات ، 171 و 172.

٤٣٨

الآيتان

( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) )

التّفسير

نعلم أنّ آيات هذه السورة نزلت في مكّة ، يوم كان المسلمون قلّة في العدد ، ولعل قلّتهم هذه وكثرة المشركين وعبدة الأصنام كانت مدعاة لتوهم بعضهم أنّه إذا كان دين أولئك باطلا فلم كثر أتباعه؟! وإذا كان دين الإسلام حقّا ، فما سبب قلّة معتنقيه؟

ولدفع هذا التوهم يخاطب الله نبيّه بعد ذكر أحقيّة القرآن في الآيات السابقة قائلا :( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) .

وفي الجملة التّالية يبيّن سبب ذلك ، وهو أنّهم لا يتبعون المنطق والتفكير السليم ، بل هم يتبعون الظنون التي تخالطها الأهواء والأكاذيب ويمتزج بها الخداع والتخمين :( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ) (1) .

__________________

(1) «الخرص» هو كل قول أطلق عن ظن وتخمين ، وأصله من تخمين كمية الثمر على الأشجار عند استئجار البستان ، وأمثال

٤٣٩

فيكون مفهوم الآية الشريفة أنّ الأكثرية لا يمكن أنّ تكون وحدها الدليل على طريق الحق ، ومن هذا نستنتج أنّه يجب التوجه إلى الله وحده لمعرفة طريق الحق ، حتى لو كان السائرون في هذا الطريق قلّة في العدد.

والدليل على ذلك يرد في الآية التّالية التي تؤكّد على أنّ الله عليم بكل شيء ولا مكان للخطأ في علمه ، فهو أعرف بطريق الهداية ، كما هو أعرف بالضالين وبالسائرين على طريق الهداية :( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) (1) .

هنا يبرز سؤال : يفهم من الآية أنّ الله سبحانه أعلم بطريق الهداية ، فهل هناك من يعلم طريق الهداية بدون هدى الله حتى كون الله هو الأعلم؟!

والجواب : إنّ الإنسان قادر ـ بلا شك ـ أن يتوصل بعقله إلى بعض الحقائق ، ويدرك طريق الهداية والضلالة إلى حد ما ، غير أنّ مديّات ضوء العقل لها حدود ، وقد يظل بعض الحقائق خارج نطاق تلك الحدود ، ثمّ إنّ معلومات الإنسان قد يعتورها الخطأ ، فيكون لذلك بحاجة إلى مرشدين وهداة إلهيين ، لذلك فتعبير «الله أعلم» صحيح ، وإن يكن قياسا مع الفارق.

لا أهمية للكثرة العددية :

على العكس ممّا يظنّه بعضهم بأنّ الكثرة العددية توافق الصواب دائما فإنّ القرآن ينفي هذا في كثير من آياته ، ولا يقيم للكثرة «العددية» أي وزن ، بل يرى ـ في الحقيقة ـ إنّ الكثرة «الكيفية» هي المقياس ، لا الكثرة «الكمية» على الرغم من أنّ المجتمعات المعاصرة لم تجد لإدارة الحياة الاجتماعية طريقا سوى

__________________

ذلك ، ثمّ أطلق على كل ظن وتخمين قد يطابق الواقع وقد لا يطابقه ، والكلمة تستعمل في الكذب أيضا ، وقد تكون في الآية بكلا المعنيين.

(1) صيغة التفضيل تتعدى عادة بالباء ، فكان المفروض أن يقال «أعلم بمن يضل» ولكن الباء حذفت هنا و «من يضل» منصوبة بنزع الخافض.

٤٤٠