الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 611

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 611 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135033 / تحميل: 6382
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

الْعِقابِ ) . انّ العذاب الشديد غير مخالف لرحمته الواسعة ، كما لا يتوهّم أحدا انّ رحمته العامّة هي إعطاء الفرصة للظالمين ان يفعلوا ما يريدون. لانّه في هذه الموارد يكون شديد العقاب ، والحصول على نتائج هذه الصفتين للربّ يعني( لَذُو مَغْفِرَةٍ ) و( لَشَدِيدُ الْعِقابِ ) مرهون بسلوك الإنسان نفسه.

* * *

ملاحظتان

1 ـ لماذا التعجّب في الخلق الجديد؟

يستفاد من خلال آيات متعدّده في القرآن الكريم انّ من جملة مشاكل الأنبياء مع المشركين اثبات «المعاد الجسماني» لانّهم كانوا يتعجّبون دائما من هذا الموضوع وهو : كيف يبعث الإنسان من جديد بعد ان صار ترابا؟ كما اشارت اليه الآية السابقة( أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) وهناك سبع آيات اخرى تشير الى هذا الموضوع (الآية 35 و 82 من سورة المؤمنون 7 ـ 2 النمل 6 ـ 1 و 53 الصافات ـ 3 ق 7 ـ 4 الواقعة).

ومن هنا يتّضح انّ هذا التساؤل كان مهمّا بالنسبة إليهم حيث كانوا يكرّرونه في كلّ فرصة ، ولكن القرآن الكريم يجيبهم بعبارات قصيرة وقاطعة ، فمثلا الآية (29) من سورة الأعراف :( كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) تتكوّن من كلمات قليلة ولكنّها مفحمة لهم ، وفي مكان آخر يقول تعالى :( وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) لانّكم في الخلق الاوّل لم تكونوا شيئا امّا الآن فتوجد على الأقل عظام نخرة مع التراب المتبقّي منكم.

وفي بعض الأحيان يأخذ بأيدي الناس ويدعوهم الى التفكّر والإمعان في عظمة وقدرة الخالق( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ) .

٣٤١

2 ـ هل انّ الله يعفو عن الظالمين؟

قرانا في الآيات المتقدّمة انّ الله يعفو ويغفر للذين ظلموا ، وهذا الغفران غير لازم لمن يصرّ على ظلمه ، ولكنّه من باب إعطاء الفرصة لهم لان يصلحوا أنفسهم ، والّا فهو تعالى شديد العقاب.

ويمكن ان نستفيد من هذه الآية انّ الذنوب الكبيرة ـ ومن جملتها الظلم ـ قابلة للغفران (ولكن بتحقّق شروطها) ، وهو ردّ على قول المعتزلة بأنّ الذنوب الكبيرة لا يغفرها الله ابدا.

وعلى ايّة حال فـ «المغفرة الواسعة» و «العقاب الشديد» في الواقع تجعل كل المعترفين بوجود الله بين «الخوف» و «الرجاء» الذي يعتبر من العوامل المهمّة لتربية الإنسان ، فلا ييأس من رحمة الله لكثرة الذنوب ، ولا يأمن من العذاب لقلّتها.

ولهذا جاء في الحديث عن الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لو لا عفو الله وتجاوزه ما هنئ احد العيش ، ولولا وعيد الله وعقابه لاتّكل كلّ واحد»(1) .

ومن هنا يتّضح انّ الذين يقولون ـ أثناء ارتكابهم المعاصي ـ انّ الله كريم ، يكذبون في اتّكالهم على كرم الله ، فهم في الواقع يستهزءون بعقاب الله.

* * *

__________________

(1) مجمع البيان ، المجلد 5 و 6 ، ص 278 ـ تفسير القرطبي ، المجلّد السّادس ، ص 3514.

٣٤٢

الآية

( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ(7) )

التّفسير

ذريعة اخرى!

بعد ما أشرنا في الآيات السّابقة الى مسألة «التوحيد» و «المعاد» ، تتطرّق هذه الآية الى واحدة من اعتراضات المشركين المعاندين حول مسألة النبوّة :( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) .

ومن الواضح انّ احدى وظائف النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اظهار معاجزه لكي يدلّ على صدقه وصلته بالوحي الالهي ، والذي يبحث عن الحقيقة له الحقّ في المطالبة بالمعجزة أثناء شكّه وتردّده في تصديق الدعوة ، او تتّضح له دلائل النبوّة عن طريق آخر.

ولكن يجب ان نلتفت الى هذه النقطة وهي : انّ اعداء الأنبياء لم يكن لديهم حسن نيّة او اتّباع للحقّ عند طلبهم المعجزة ، بل لعنادهم وعدم تسليمهم للأمر الواقع ولذلك كانوا يقترحون بين فترة واخرى معاجز عجيبة وغريبة. وهذه ما

٣٤٣

يسمّى بـ «المعجزات الاخلاقية».

اقتراحهم للمعاجز لم يكن لكشف الحقيقة ، ولهذا لم يستجب الأنبياء لمطاليبهم ، وفي الحقيقة كانت هذه الفئة من الكفّار المعاندين يعتقدون انّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدّعي القدرة على انجاز اي عمل خارق للعادة ، وايّ واحد منهم يقترح عليه انجاز عمل ما سوف يلبّي مطاليبه.

ولكن الأنبياء كانوا يقولون لهم الحقيقة وهي انّ المعاجز بيد الله ، ورسالتنا هداية الناس.

ولذلك نقرا في تكملة الآية قوله تعالى :( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) .

* * *

بحثان

هنا يرد سؤالان :

1 ـ هل الآية «انّما أنت منذر ...» جواب للكفّار؟

كيف يمكن لجملة( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) ان تكون جوابا للكفّار عند طلبهم المعجزة؟

الجواب : بالاضافة الى ما قلناه سابقا فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليست له القدرة الغيبية المطلقة كي يطلبوا منه الاعجاز ، لانّ الوظيفة الاولى له هي إنذار أولئك الذين يسيرون في طريق الضلال ، والدعوة الى الصراط المستقيم ، وإذا ما احتاجت هذه الدعوة الى المعجزة فسوف يأتي بها النّبي ، ولكن لا يأتي بها للمعاندين البعيدين عن هذه المسيرة.

فمعنى الآية : انّ الكفّار نسوا انّ هدف الأنبياء الإنذار والدعوة الى الله ، واعتقدوا انّ وظيفتهم القيام بالمعاجز.

٣٤٤

2 ـ ما هو المقصود من جملة( لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) ؟

قال بعض المفسّرين : انّ هاتين الصفتين (منذر) و (هاد) صفتان للرسول ، فأصل الجملة تكون (أنت منذر وهاد لكلّ قوم).

ولكن هذا التّفسير خلاف الظاهر ، لانّ الواو في جملة( وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) تفصل بين جملة( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ) ولو كانت كلمة «هاد» قبل «لِكُلِّ قَوْمٍ » كان المعنى السّابق صحيحا. ولكن الأمر ليس كذلك.

والشيء الآخر هو انّ هدف الآية بيان انّ هناك قسمين من الدعوة الى الله : أحدهما ان يكون عمل الداعي هو الإنذار فقط. والآخر : ان يكون العمل هو الهداية.

وسوف تسألون حتما : ما هو وجه التفاوت بين (الإنذار) و (الهداية)؟ نقول في جواب هذا السؤال : انّ الإنذار للذين اضلّوا الطريق ودعوتهم تكون الى الصراط المستقيم ، ولكن الهداية والاستقامة للذين آمنوا.

وفي الحقيقة انّ المنذر مثل العلّة المحدثة ، امّا الهادي فبمنزلة العلّة الباقية وهذه هي التي تعبّر عنها بالرّسول والامام ، فالرّسول يقوم بتأسيس الشريعة والامام يقوم بحفظها وحراستها. (ليس من شكّ انّ الهداية في آيات اخرى مطلقة للرسول ، ولكن بقرينة المنذر في هذه الآية نفهم انّ المقصود من الهادي هو الشخص الحافظ والحامي للشريعة).

هناك روايات عديدة تؤكّد ما قلناه سابقا ، فقد قال الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «انا المنذر وعلي الهادي».

ولا بأس ان نشير الى عدّة من هذه الرّوايات :

1 ـ في ذيل هذه الآية من تفسير الفخر الرازي مرفوعا عن ابن عبّاس قال : وضع رسول الله يده على صدره فقال : «انا المنذر» ثمّ اومأ الى منكب عليعليه‌السلام وقال : (أنت الهادي بك يهتدي المهتدون من بعدي) هذه الرّواية ذكرها العلّامة

٣٤٥

«ابن كثير» في تفسيره ، والعلّامة «ابن الصبّاغ المالكي» في الفصول المهمّة ، و «الكنجي» الشافعي في كفاية الطالب و «الطبري» في تفسيره ، و «ابو حيّان الاندلسي» في تفسيره البحر المحيط ، وكذلك «العلّامة النيسابوري» في تفسيره الكشّاف ، وعدد آخر من المفسّرين.

2 ـ نقل «الحمويني» وهو من علماء اهل السنّة المعروفين في كتابه فرائد السمطين عن ابو هريرة قال «ان المراد بالهادي عليعليه‌السلام ».

3 ـ «مير غياث الدين» مؤلّف كتاب (حبيب السيّد) كتب يقول في المجلّد الثّاني صفحة 12 : «قد ثبت بطرق متعدّدة انّه لمّا نزل قوله تعالى :( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) قال لعلي : «انا المنذر وأنت الهادي بك يا علي يهتدي المهتدون من بعدي».

كما نقل هذا الحديث «الآلوسي» في (روح المعاني) و «الشبلنجي» في (نور الأبصار) والشيخ «سليمان القندوزي» في (ينابيع المودّة).

وبما انّ اكثر هذه الرّوايات مسنده الى ابن عبّاس فإنّه لم يكن الشخص الوحيد الذي روى ذلك ، فأبو هريرة نقل ذلك فيما ذكره الحمويني ، وحتّى علي نفسه ـ طبقا لما نقله الثعلبي ـ قد قال : «المنذر النّبي والهادي رجل من بني هاشم» يعني نفسه(1) .

لا شكّ انّ هذه الأحاديث لا تصرّح بالخلافة ، ولكن بالنظر الى ما تحتويه هذه الكلمة (الهداية) من المعنى الواسع ، فإنّها غير منحصرة بعليعليه‌السلام بل تشمل جميع العلماء واصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين كانوا يقومون بنفس المهمّة ، فإنّه يتّضح لنا تخصيص علي بن أبي طالبعليه‌السلام في هذه الرّوايات بهذا العنوان يدلّ على انّه المصداق البارز له ، وذلك لما يمتاز به من الخصوصيات ، وهذا المطلب لا يكون منفصلا عن خلافة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتما.

* * *

__________________

(1) للمزيد من الاطلاع راجع كتاب احقاق الحقّ ، المجلّد الثّالث ، ص 87 وما بعدها.

٣٤٦

الآيات

( اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) )

التّفسير

علم الله المطلق :

نقرا في هذه الآيات قسما من صفات الخالق ، والتي تكمل بحث التوحيد والمعاد ، فالحديث عن علمه الواسع ومعرفته بكلّ شيء ، هو ذاك العلم الذي يقوم عليه نظام التكوين وعجائب الخلقة وآيات التوحيد ، وهو العلم الذي يكون أساسا للمعاد والعدالة الالهيّة يوم القيامة وهذه الآيات استندت الى هذين القسمين : (العلم بنظام التكوين ، والعلم بأعمال العباد).

تقول الآية اوّلا :( اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى ) في رحمها ، سواء من أنثى الإنسان او الحيوان( وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ ) اي تنقص قبل موعدها المقرّر( وَما

٣٤٧

تَزْدادُ ) (1) اي يعلم بما تزيد عن موعدها المقرّر.

في تفسير هذه الجمل الثلاث هناك آراء مختلفة بين المفسّرين :

يعتقد البعض ـ انّها تشير ـ كما ذكرنا آنفا ـ الى وقت الولادة ، وهي على ثلاثة انواع : فمرّة يولد المولود قبل موعده. ومرّة في موعده ، واخرى بعد الموعد المقرّر. فالله يعلم كلّ ذلك ويعلم لحظة الولادة بالتحديد ، وهذه من الأمور التي لا يستطيع اي احد او جهاز ان يحدّد موعده ، وهذا العلم خاص بذات الله المنزّهة ، وسببه واضح لانّ استعدادات الأرحام والاجنّة مختلفة ، ولا احد يعلم بهذا التفاوت.

وقال بعض آخر : انّها تشير الى ثلاث حالات مختلفة للرحم ايّام الحمل ، فالجملة الاولى تشير الى نفس الجنين الذي تحفظه ، والجملة الثانية تشير الى دم الحيض الذي ينصبفي الرحم ويمصّه الجنين ، والجملة الثالثة اشارة الى الدم الاضافي الذي يخرج أثناء الحمل أحيانا ، او دم النفاس أثناء الولادة(2) .

وهناك عدّة احتمالات اخرى في تفسير هذه الآية دون ان تكون متناقضة فيما بينها ، ويمكن ان يكون مراد الآية اشارة الى مجموع هذه التفاسير ، ولكن الظاهر انّ التّفسير الاوّل اقرب ، بدليل جملة (تحمل) المقصود منها الجنين والجمل (تغيض) و (تزداد) بقرينة الجملة السابقة تشير الى الزيادة والنقصان في فترات الحمل.

روى الشيخ الكليني في الكافي عن الامام الصادقعليه‌السلام او الامام الباقرعليه‌السلام

__________________

(1) «تغيض» أصلها الغيض بمعنى ابتلاع السائل وهبوط مستوى الماء. وتأتي بمعنى النقصان والفساد ، و «الغيضة» المكان الذي يقف فيه الماء فيبتلعه ، و «ليلة غائضة» اي مظلمة.

(2) يقول صاحب الميزان مؤيّدا هذا الراي : إنّ بعض روايات ائمّة اهل البيت يؤيّد هذا الراي. وابن عبّاس ممّن يؤيّد هذا الراي ايضا ، ولكن بالنظر الى الرّوايات المنقولة في تفسير نور الثقلين في ذيل الآية فإنّ أكثرها يؤيّد ما قلناه في الراي الاوّل.

٣٤٨

في تفسير الآية انّ «الغيض كلّ حمل دون تسعة أشهر ، وما تزداد كلّ شيء حمل على تسعة أشهر». وفي تكملة الحديث يقول : «كلّما رأت المراة الدم الخالص في حملها فإنّها تزداد وبعدد الايّام التي زاد فيها في حملها من الدم»(1) .

( وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) ولكي لا يتصوّر احد انّ هذه الزيادة والنقصان بدون حساب ودليل ، بل انّ كلّ ساعة وثانية ولحظة لا تمرّ دون حساب ، كما انّ للجنين ودم الرحم حساب وكتاب ايضا. فالآية التي بعدها تؤكّد ما قلناه في الآية السابقة حيث تقول :( عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ) فعلمه بالغيب والشهادة لهذا السبب( الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ ) فهو يحيط بكلّ شيء ، ولا يخفى عنه شيء.

ولتكميل هذا البحث وتأكيد علمه المطلق يضيف القرآن الكريم :( سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ ) (2) وهذا هو الحقّ فالذي يوجد في كلّ مكان لا معنى للغيب والشهادة او الليل والنهار عنده ، فهو محيط بها وعالم بأخبارها بشكل متساو.

* * *

بحوث

1 ـ القرآن وعلم الاجنّة

أشار القرآن المجيد مرارا الى مسألة الجنين وعجائب تكوينه ليكون احد الادلّة على التوحيد ومعرفة الله وعلمه المطلق ، وبالطبع فإنّ علم الاجنّة واحد من العلوم الحديثة وكان سابقا عبارة عن معلومات اوّليّة محدودة ثمّ توسعت في هذا العصر. ولكن بتقدّم العلم والمعرفة حدثت قفزة في هذا المجال كشف عن

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 2 ، صفحة 485.

(2) «سارب» من سرب على وزن ضرر ، بمعنى الماء الجاري ، ويقال للشخص الذاهب الى عمل ايضا.

٣٤٩

كثير من اسرار هذا العالم الساكن والهادىء وعن كثير من عجائبه بحيث نستطيع ان نقول : انّ اكبر درس للتوحيد ومعرفة الله كامن في تكوين الجنين ومراحل تكامله.

فمن هذا الذي يرعى هذا الكائن المخفي وبتعبير القرآن واقع «في ظلمات ثلاث» الذي يمتاز بالظرافة ودقّة التكوين وان يوصل له المقدار اللازم من الغذاء ويرشده مراحل حياته؟

وعند ما تقول الآية السابقة :( اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى ) فليس المقصود من علمه بالذكر والأنثى فقط ، بل بكلّ خصائصه والطاقة الكامنة فيه ، هذه الأشياء لا يستطيع احد وبأي وسيلة ان يتعرّف عليها ، وعلى هذا فإنّ وجود هذا النظام الدقيق والمعقّد للجنين ومراحل تكامله لا يمكن ان يكون بدون صانع عالم وقدير.

2 ـ كلّ شيء له مقدار

نحن نقرا في آيات مختلفة من القرآن الكريم انّ كلّ شيء له حدّ محدود ولا يتجاوزه ، ففي الآية (3) من سورة الطلاق يقول تعالى :( قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ) وفي الآية 21 سورة الحجر يقول تعالى :( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) والآية التي نحن بصددها( وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) .

كلّ هذه تشير الى انّه ليس هناك شيء في العالم بدون حساب ، حتّى الموجودات في الطبيعة التي نعتبرها في بعض الأحيان غير مهمّة ، فإنّ وجودها على أساس حساب دقيق ، علمنا بذلك ام لم نعلم ، وأساسا فإنّ معنى حكمة الله هو ان يجعل لكلّ ما في الكون حدّا ومقدارا ونظاما.

وكلّ ما حصلناه اليوم من اسرار الكون بواسطة العلوم يؤكّد هذه الحقيقة ، فمثلا نرى انّ دم الإنسان ـ الذي هو المادّة الحياتية لوجود الإنسان والذي يقوم

٣٥٠

بنقل المواد الضروريّة اللازمة لخلايا الجسم ـ يتركّب من عشرين مادّة او اكثر ، وبنسب ثابتة دقيقة بحيث لو تمّ اي تغيير فيها لتعرّضت سلامة الإنسان للخطر ، ولهذا السبب ولمعرفة النقص الحاصل في الجسم يقومون بتحليل الدم وقياس نسبة السكر والدهن وسائر مركّبات الدم الاخرى ، ويتمّ تشخيص العلّة بواسطة معرفة زيادة او نقصان هذه النسب ، وليس دم الإنسان وحده له هذه الميزة ، بل كلّ ما في الوجود له نفس هذه الدقّة في النظام.

ولا بدّ هنا من التنبيه على انّ ما يظهر لنا في بعض الأحيان من عدم النظام في عالم الوجود هو في الواقع ناتج من قصور في علومنا ومعرفتنا ، فالإنسان الذي يؤمن بالله لا يمكن ان يتصوّر ذلك ، وبتطوّر العلوم تتأكّد لنا هذه الحقيقة.

وكي نستطيع ان نتعلّم هذا الدرس وهو انّ المجتمع الانساني الذي هو جزء من عالم الوجود إذا أراد له العيش بسلام ، فعليه ان يجعل شعار( كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) يسود جميع جوانبه ، ويجتنب الإفراط والتفريط في اعماله وتخضع جميع مؤسساته الاجتماعية للحساب والموازين.

3 ـ الغيب والشهادة سواء عند الله

استندت هذه الآيات الى انّ الغيب والشهادة معلومان عند الله ، فهما مفهومان نسبيان وتستخدمان للكائن الذي علمه ووجوده محدود ، وعلى سبيل المثال نحن نمتلك حواسا ذات مدى نسبي ، فمتى ما كان الشيء داخلا في هذا المدى فهو شاهد بالنسبة لنا ، وما كان خارجا عنه فهو غيب ، فلو فرضنا انّ أبصارنا لها قدرة غير محدودة ويمكنها النفوذ في باطن الأشياء وإدراكها ، فإنّ كلّ شيء يعتبر شاهد عندنا.

وبما انّ كلّ شيء له حدّ محدود غير الذات الالهيّة ، فإنّ لغير الله تعالى غيب وشهادة ، ولانّ ذات الله غير محدودة ووجوده عام ومطلق فإنّ كلّ شيء بالنسبة

٣٥١

اليه شهادة ، ولا معنى للغيب بالنسبة اليه ، وإذا ما قلنا ـ انّ الله عالم الغيب والشهادة فهو ما نعتبره نحن غيب وشهادة ، امّا هو فهما عنده سواء. لنفترض انّنا ننظر ما في أيدينا في النهار ، فهل نجهل ما فيها؟! جميع الكون في مقابل علم الله أوضح من هذا واظهر.

4 ـ الآثار التربوية في إدراكنا لعلم الله

أثناء قراءتنا للآيات الماضية التي تقول : انّ الله يعلم السرّ والجهر من القول وحركاتكم في الليل والنهار وكلّها مشهودة عنده ، هل نجد في أنفسنا ايمانا بهذه الحقيقة؟ لو كنّا مؤمنين بذلك حقّا ونشعر بأنّ الله تعالى مطّلع علينا فإنّ هذا الايمان والاحساس الباطني يبعث على تغيير عميق في روحنا وفكرنا وقولنا وضمائرنا؟.

نقل عن الامام الصادقعليه‌السلام في جوابه لمن سأله عن طريقتهم في الحياة قال : «علمت انّ الله مطلع عليّ فاستحييت».

كما نشاهد كثيرا من المواقف من تأريخ المسلمين وحياتهم تتجلّى فيها هذه الحقيقة ، يقال : دخل أب وابنه في بستان ، فتسلّق الأب شجرة ليقطف ثمارها دون اذن صاحبها ، بينما بقي الابن أسفل الشجرة لمراقبة الأوضاع. وفجأة صاح الابن الذي كان مؤمنا ومتعلّما ونادى أباه بأن ينزل بسرعة ، عندها خاف الأب ونزل فورا وسأل من الذي رآني؟ قال : الذي هو فوقنا ، فنظر الأب الى الأعلى فلم يجد أحدا ، وسأل من الذي رآني؟ قال : الذي هو فوقنا ، فنظر الأب الى الأعلى فلم يجد أحدا ، فقال الابن : كان قصدي هو الله المحيط بنا جميعا ، كيف يمكن ان تخاف ان يراك الإنسان ، ولا تخاف ان يراك الله؟! اين الايمان؟!

* * *

٣٥٢

الآية

( لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11) )

التّفسير

المعقّبات الغيبية!

علمنا في الآيات السابقة انّ الله بما انّه عالم الغيب والشهادة فإنّه يعلم أسرار الناس وخفاياهم ، وتضيف هذه الآية انّه مع حفظ وحراسة الله لعبادة فإنّ( لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ ) (1) .

ولكي لا يتصوّر احد انّ هذا الحفظ بدون شروط وينغمس في المزلّات ، او يرتكب الذنوب الموجبة للعقاب ، ومع كلّ ذلك ينتظر من الله او الملائكة ان يحفظوه ، يعلّل القرآن ذلك بقوله :( إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما

__________________

(1) هناك حديث بين المفسرين في ان الضمير (له) لمن يعود ، وكما تشير الآية فإنه يعود للإنسان كما تؤكد عليه الآيات السابقة ، ولكن بعضهم قال : يعود للنبي او لله. وهذا يخالف ما جاء في ذيل الآية [فتأمل].

٣٥٣

بِأَنْفُسِهِمْ ) .

وكي لا يتبادر الى الأذهان انّه مع وجود الملائكة الحافظة فأيّ معنى للعذاب او الجزاء؟ هنا تضيف الآية( وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ ) ولهذا السبب فإنّه حين صدور العذاب الالهي على قوم او امّة ، فسوف ينتهي دور المعقّبات ويتركون الإنسان عرضة للحوادث

* * *

بحوث

1 ـ ما هي المعقّبات؟

«المعقّبات» كما جاء في مجمع البيان للعلّامة الطبرسي وكما قاله بعض المفسّرين جمع (معقبة) وهي بدورها جمع (معقّب) ومعناه المجموعة التي تعمل بشكل متناوب ومستمر. والظاهر من الآية انّ الله سبحانه وتعالى امر مجموعة من الملائكة بأن يحفظوا الإنسان في الليل والنهار ومن بين يديه ومن خلفه.

انّ الإنسان ـ بدون شك ـ معرّض في حياته الى كثير من الحوادث الروحية والجسمية ، فالامراض والمتغيّرات في السّماء والأرض محيطة بالإنسان ، وخصوصا في مرحلة الطفولة التي لا يدرك فيها ما يجري حوله ويكون هدفا سهلا للإصابة بها ، فقد يتعجّب الإنسان كيف ينجو الطفل وينمو من بين جميع هذه الحوادث ، وخصوصا في العوائل التي لا تدرك هذه المسائل وتعاني من قلّة الامكانيات كأبناء الريف الذين يعانون من الحرمان والفقر وهم معرضون للامراض اكثر من غيرهم.

وإذا ما امعنّا النظر في هذه المسائل فسوف نجد انّ هناك قوى محافظة ، تحفظ الإنسان في مقابل هذه الحوادث كالدرع الواقي.

وكثيرا ما يتعرّض الإنسان الى حوادث خطرة ويتخلّص منها بشكل

٣٥٤

اعجازي تجعله يشعر انّ كلّ ذلك ليس صدفة وانّما هناك قوى محافظة تحميه.

وهناك كثير من الأحاديث المنقولة عن ائمّة المسلمين تؤكّد ذلك ومن جملتها : الحديث المروي عن الامام الباقرعليه‌السلام في تفسير هذه الآية يقول : «يحفظ بأمر الله من ان يقع في ركي او يقع عليه حائط او يصيبه شيء ، حتّى إذا جاء القدر خلوا بينه وبينه يدفعونه الى المقادير ، وهما ملكان يحفظانه بالليل وملكان من نهار يتعاقبانه».

وفي حديث آخر عن الامام الصادقعليه‌السلام يقول : «ما من عبد الّا ومعه ملكان يحفظانه فإذا جاء الأمر من عند الله خليا بينه وبين امر الله».

ونقرا في نهج البلاغة عن امير المؤمنينعليه‌السلام «انّ مع كلّ انسان ملكين يحفظانه فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه».

كما نقرا في نهج البلاغة في وصف الملائكة من الخطبة الاولى «ومنهم الحفظة لعباده».

انّ عدم إدراكنا لوجود المعقّبات عن طريق الحسّ او التجربة العلمية ليس دليلا على عدم وجودهم ، لانّه غير منحصر في هذا المجال فقط ، فالقرآن الكريم والمصادر المعرفية الاخرى اشارت الى امور كثيرة وراء الحسّ والتي لا يمكن إثباتها بالطرق العادية. واكثر من ذلك ما قلنا سابقا من انّنا نتعرّض في حياتنا الى كثير من المخاطر والتي لا يمكن النجاة منها الّا بوجود هذه القوى المحافظة (ورأيت في حياتي بعض من هذه النماذج المحيّرة ، والتي كانت بالنسبة لي كشخص صعب التصديق دليلا على وجود هذا المعقّب اللامرئي).

2 ـ التغيير يبدأ من النفس (قانون عام)

تبيّن الجملة( إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ ) والتي جاءت في موردين متفاوتين في القرآن الكريم ، انّها قانون عام ، قانون حاسم ومنذر!

٣٥٥

هذا القانون الذي هو واحد من القوانين الاساسيّة لعلم الاجتماع في الإسلام ، يقول لنا : انّ ما يصيبكم هو من عند أنفسكم ، وما أصاب القوم من السعادة والشقاء هو ممّا عملت أيديهم ، وما يقال من الحظّ والصدفة وما يحتمله المنجّمون ليس له أساس من الصحّة ، فالأساس والقاعدة هي ارادة الامّة إذا أرادت العزّة والافتخار والتقدّم ، او العكس ان أرادت هي الذلّة والهزيمة ، حتّى اللطف الالهي او العقاب لا يكون الّا بمقدّمة. فتلك ارادة الأمم في تغيير ما بأنفسهم حتّى يشملهم اللطف او العذاب الالهي.

وبتعبير آخر : انّ هذا الأصل القرآني الذي يبيّن واحدا من اهمّ المسائل الاجتماعية في الإسلام ، يؤكّد لنا ان اي تغيير خارجي للأمم مرتبط بالتغيير الداخلي لها ، واي نجاح او فشل يصيب الامّة ناشئ من هذا الأمر ، والذين يبحثون عن العوامل الخارجية لتبرير اعمالهم وتصرّفاتهم ويعتبرون القوى المستعمرة والمتسلّطة هي السبب في شقائهم يقعون في خطأ كبير ، لانّ هذه القوى الجهنميّة لا تستطيع ان تفعل شيئا إذا لم تكن لديها قدرة ومركز في داخل المجتمع.

المهمّ ان نطهّر مجتمعاتنا من هذه المقرّات والمراكز للمستعمرين ولا نجعلها تنفذ في داخل مجتمعنا ، فهؤلاء بمنزلة الشياطين ، ونحن نعلم انّ الشيطان ليس له سبيل على عباد الله المخلصين ، فهو يتسلّط على الذي مهّد له السبيل في داخله.

يقول هذا الأصل القرآني : انّنا يجب ان نثور من الداخل كي ننهي حالة الشقاء والحرمان ، ثورة فكرية وثقافية ، ثورة ايمانيّة وأخلاقية ، وأثناء وقوعنا في مخالب الشقاء يجب ان نبحث فورا عن نقاط الضعف فينا ، ونطهّر أنفسنا منها بالتوبة والرجوع الى الله ونبدأ حياة جديدة مفعمة بالنّور والحركة ، كي نستطيع في ظلّها ان نبدّل الهزيمة الى نصر ، لا ان نخفي نقاط الضعف وعوامل الهزيمة هذه ونبحث عنها في خارج المجتمع ونظلّ ندور في الطرق الملتوية.

٣٥٦

هناك كتب ومؤلّفات كثيرة كتبت عن عوامل انتصار المسلمين الأوائل ثمّ تضعضع سلطانهم بعد حين ، وكثير من تلك الأبحاث ظلّت تتعثّر في الطرق الملتوية ، ولكن إذا ما أردنا ان نستلهم من الأصل أعلاه والصادر من منبع الوحي فيجب ان نبحث عن ذاك النصر او تلك الهزيمة وعن عواملها الفكرية والعقائدية والاخلاقية في المسلمين. ففي الثورات المعاصرة ومن جملتها الثورة الاسلامية في ايران ، او ثورة الجزائر او ثورة المسلمين الافغان ، نشاهد بوضوح انطباق هذا الأصل القرآني عليها. فقبل ان تغيّر الدول المستعمرة والمستكبرة طريقتها في التعامل معنا ، غيّرنا نحن ما بأنفسنا فتغيّر كلّ شيء.

وعلى ايّة حال فهذا درس ليومنا ولغدنا ولمستقبلنا ولكلّ المسلمين والأجيال القادمة. ونحن نرى انّ القيادات المنتصرة فقط هي التي استطاعت ان تقود وتغيّر شعوبها على أساس هذا الأصل الخالد ، وفي تاريخ المسلمين والإسلام شواهد على ذلك كثيرة.

* * *

٣٥٧

الآيات

( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) )

التّفسير

قسم آخر من دلائل عظمة الله :

يتطرّق القرآن الكريم مرّة ثانية الى آيات التوحيد وعلائم العظمة واسرار الخلقة. فهذه الآيات تحاول ان تقرّب العلاقة بين الإنسان وربّه من خلال الاشارة الى بعض الظواهر الطبيعيّة بشكل موجز وعميق المعنى لكي يشعّ نور الايمان في

٣٥٨

قلوب الناس ، فتشير اوّلا الى البرق( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً ) فالبرق بشعاعه يبهر العيون من جانب ، ويحدث صوتا مخيفا وهو الرعد من جانب آخر ، وقد يسبّب أحيانا الحرائق للناس وخصوصا في المناطق الصحراوية فيبعث على خوفهم ومن جانب آخر فإنّه يسبّب هطول الأمطار ويروي ظمأ الصحراء ويسقي المزروعات فيطمع فيه الناس ، وبين هذا الخوف والرجاء تمرّ عليهم لحظات حسّاسة. ثمّ تضيف الآية( وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ ) القادرة على ارواء ظمأ الاراضي الزراعية.

بركات الرعد والبرق :

نحن نعلم انّ ظاهرة البرق في المفهوم العلمي هي اقتراب سحابتين إحداهما من الاخرى ، وهما تحملان شحنات سالبة وموجبة ، فيتمّ تفريغ الشحنات بين السحابتين فتحدث شرارة عظيمة ، ويحدث مثل ذلك عند اقتراب سلكين أحدهما سالب والآخر موجب ، وإذا كنّا قريبين منهما فإنّنا نسمع صوتا خفيفا ، ولكن لاحتواء الغيوم على شحنات هائلة من الالكترونات فانّهما تحدثان صوتا شديدا يسمّى الرعد.

وإذا ما اقتربت سحابة تحمل الشحنة الموجبة من الأرض التي تحتوي على شحنات سالبة فستحدث شرارة تسمّى بالصاعقة ، وخطورتها تكمن في انّ الأرض والمناطق المرتفعة تعتبر راس السلك السالب ، حتّى الإنسان في الصحراء يمكن ان يمثّل هذا السلك فيحدث تفريغ للشحنات يحوّل الإنسان الى رماد في لحظة واحدة ، ولهذا السبب عند وقوع البرق والرعد في الصحراء يجب ان يلجأ الإنسان الى شجرة او حائط او الى الجبال او الى اي مرتفع آخر ، او ان يستلقي في ارض منخفضة.

وعلى ايّة حال فإنّ للبرق ـ الذي يسمّى في بعض الأحيان مزاح الطبيعة ـ

٣٥٩

فوائد جمّة عرفت من خلال ما كشفه العلم الحديث. ونشير هنا الى ثلاثة منها :

1 ـ السقي : ـ من الطبيعي انّ البرق تتولّد منه حرارة عالية جدّا قد تصل بعض الأحيان الى (15) الف درجة مئوية ، وهذه الحرارة كافية لان تحرق الهواء المحيط بها ، وفي النتيجة يقلّ الضغط الجوي ، فيسبّب سقوط الأمطار. ولهذا السبب نرى هطول الأمطار الغزيرة بعد حدوث البرق.

وهذه في الواقع واحدة من وظائف البرق (السقي).

2 ـ التعقيم : ـ ونتيجة للحرارة العالية التي يسبّبها البرق فسوف يزداد مقدار الاوكسجين في قطرات الماء ، ويسمّى هذا الماء بالماء الثقيل او الماء المؤكسد (2 O 2 H ) ومن آثاره قتل المكروبات ، ولهذا السبب يستعمل لغسل الجروح ، فعند نزول هذه القطرات الى الأرض سوف تبيد بيوض الحشرات والآفات الزراعية ، ولهذا السبب يقال انّ السنة الكثيرة الآفات الزراعية هي السنة القليلة البرق والرعد.

3 ـ التغذية والتسميد : ـ تتفاعل قطرات الماء مع الحرارة العالية للبرق لتنتج حامض الكاربون ، وعند نزولها الى الأرض وتركيبها مع محتوياتها تضع نوعا من السّماد النباتي ، فتتمّ تغذية النبات من هذا الطريق.

يقول بعض العلماء : انّ مقدار ما ينتجه البرق من الاسمدة في السنة يصل الى عشرات الملايين من الاطنان ، وهذه كميّة كبيرة جدّا.

وعلى ايّة حال نرى من خلال ظاهرة طبيعيّة صغيرة كلّ هذه المنافع والبركات ، فهي تقوم بالسقي ورشّ السموم والتغذية ، فيمكن ان تكون دليلا واضحا لمعرفة الله ، كلّ ذلك من بركات البرق. كما انّه يمكن ان يكون البرق عاملا مهمّا في إشعال الحرائق من خلال الصاعقة ، وقد تحرق الإنسان او الأشجار ، ومع انّها نادرة الحدوث ويمكن الوقاية منها ، فهي مع ذلك عامل خوف للناس ، فمفهوم الخوف والطمع للبرق قد يكون اشارة الى جميع هذه الأمور.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

الآيات

( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠) )

التّفسير

التملّص من المسؤولية بحجة «الجبر» :

عقيب الكلام المتقدم عن المشركين في الآيات السابقة ، أشار في هذه الآيات إلى طائفة من استدلالاتهم الواهية ، مع ذكر الأجوبة عنها.

فيقول أوّلا : إنّ المشركين سيقولون في معرض الإجابة عن اعتراضاتك عليهم في مجال الإشراك بالله ، وتحريم الأطعمة الحلال : إنّ الله لو أراد أن لا نكون

٥٠١

مشركين ، وأن لا يكون آباؤنا وثنيين ، وأن لا نحرّم ما حرّمنا لفعل :( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ ) .

ويلاحظ نظير هذه العبارة في آيتين أخريين من الكتاب العزيز ، في سورة النحل الآية٣٥ :( وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ ) . وفي سورة الزخرف الآية (٢٠) :( وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ) .

وهذه الآيات تفيد أن المشركين ـ مثل كثير من العصاة الذين يريدون التملص من مسئولية العصيان تحت ستار الجبر ـ كانوا يعتقدون بالجبر ، وكانوا يقولون : كلّ ما نفعله فإنّما هو بإرادة الله ومشيئته وإلّا لما صدرت منّا مثل هذه الأعمال.

وفي الحقيقة أرادوا تبرئة أنفسهم من جميع هذه المعاصي ، وإلّا فإنّ ضمير كل إنسان عاقل يشهد بأن الإنسان حرّ في أفعاله وغير مجبور ، ولهذا إذا ظلمه أحد انزعج منه ، وأخذه ووّبخه ، بل وعاقبه إذا قدر.

وكل ردود الفعل هذه تفيد أنّه يرى المجرم حرّا في عمله ومختار ، فهو ليس على استعداد لأنّ يغض الطرف عن ردود الفعل هذه بحجّة أنّ الظلم الواقع عليه من قبل ذلك الشخص مطابق لإرادة الله ومشيئته (تأمل بدقة).

نعم هناك احتمال في هذه الآية ، وهو أنّهم كانوا يدّعون أنّ سكوت الله على عبادتهم للأصنام وتحريمهم لطائفة من الحيوانات دليل على رضاه ، لأنّه إذا لم يكن راضيا بها وجب أن يمنعهم عنها بنحو من الأنحاء.

وكانوا يريدون ـ بذكر عبارة( وَلا آباؤُنا ) ـ أن يسبغوا على عقائدهم الفارغة لون القدم والدوام ، ويقولون : إنّ هذه الأمور ليست بجديدة ندعيها نحن بل كان ذلك دائما.

ولكن القرآن تصدّى لجوابهم وناقشهم بشكل قاطع ، فهو يقول أوّلا : ليس

٥٠٢

هؤلاء وحدهم يفترون على الله مثل هذه الأكاذيب :( كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) (١) ولكنّهم ذاقوا جزاء افتراءاتهم :( حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا ) .

فهؤلاء ـ في الحقيقة ـ كانوا يكذبون في كلامهم هذا ، كما أنّهم يكذّبون الأنبياء ، لأنّ الأنبياء الإلهيين نهوا البشرية ـ بصراحة ـ عن الوثنية والشرك وتحريم ما أحلّه الله ، فلا آباؤهم سمعوا ذلك ولا هؤلاء ، مع ذلك كيف يمكن أن نعتبر الله راضيا بهذه الأعمال؟ ولو كان سبحانه راضيا بهذه الأمور فكيف بعث أنبياءه للدعوة إلى التوحيد؟!

إنّ دعوة الأنبياء ـ في الأساس ـ أقوى دليل على حرية الإرادة الإنسانية ، وإختيار البشر.

ثمّ يقول سبحانه : قل لهم يا محمّد : هل لكم برهان قاطع ومسلّم على ما تدّعونه؟ هاتوه إن كان( قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا ) .

ثمّ يضيف في النهاية : إنّكم ما تتبعونه ليس سوى أوهام وخيالات فجة :( إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ) .

وفي الآية اللاحقة يذكر دليلا آخر لإبطال ادعاء المشركين ، ويقول : قل : إنّ الله أقام براهين جلية ودلائل واضحة وصحيحة على وحدانيته ، وهكذا أقام أحكام الحلال والحرام سواء بواسطة أنبيائه أو بواسطة العقل ، بحيث لم يبق أي عذر لمعتذر :( قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ) .

وعلى هذا الأساس لا يمكن أن يدعي أحد أبدا أنّ الله أمضى ـ بسكوته ـ عقائدهم وأعمالهم الباطلة ، وكذلك يسعهم قط أن يدّعوا أنّهم كانوا مجبورين ، لأنّهم لو كانوا مجبورين لكان إقامة الدليل والبرهان ، وإرسال الأنبياء وتبليغهم ودعوتهم لغوا ، إنّ إقامة الدليل دليل على حرية الإرادة.

على أنّه يجب الانتباه إلى أنّ «الحجة» الذي هو من «حجّ» يعني القصد ،

__________________

(١) «كذب» في اللغة تأتي بمعنيين تكذيب الغير ، وكذلك فعل الكذب.

٥٠٣

وتطلق «الحجة» على الطريق الذي يقصده الإنسان ، ويطلق على البرهان والدليل«الحجة» أيضا ، لأنّ القائل يقصد إثبات مدعاه للآخرين عن طريقه.

ومع ملاحظة لفظة «بالغة» يتّضح أنّ الأدلة التي أقامها الله للبشر عن طريق العقل والنقل وبواسطة العلم والفكر ، وكذا عن طريق إرسال الأنبياء واضحة لا لبس فيها من جميع الجهات ، بحيث لا يبقى أي مجال للترديد والشك لأحد ، ولهذا السبب نفسه عصم الله سبحانه أنبياءه من كل خطأ ليبعدهم عن أي نوع من أنواع التردد والشك في الدعوة والإبلاغ.

ثمّ يقول في ختام الآية : ولو شاء الله أن يهديكم جميعا بالجبر لفعل :( فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ ) .

وفي الحقيقة فإنّ هذه الجملة إشارة إلى أنّ في مقدور الله تعالى أن يجبر جميع أبناء آدم على الهداية ، بحيث لا يكون لأحد القدرة على مخالفته ، ولكن في مثل هذه الصورة لم يكن لمثل هذا الإيمان ولا للأعمال التي تصدر في ضوء هذا الإيمان الجبري القسري أية قيمة ، إنّما فضيلة الإنسان وتكامله في أن يسلك طريق الهداية والتقوى بقدميه وبإرادته وإختياره.

وعلى هذا الأساس لا منافاة أصلا بين هذه الجملة والآية السابقة التي ورد فيها نفي الجبر.

إنّ هذه الجملة تقول : إنّ إجبار الناس الذي تدّعونه أمر ممكن ومقدور لله تعالى ، ولكنّه لن يفعله قط ، لأنّه يخالف الحكمة وينافي المصلحة الإنسانية.

وكان المشركون قد تذرّعوا بالقدرة والمشيئة الإلهيتين لاختيار مذهب الجبر ، على حين أن القدرة والمشيئة الآلهيتين حق لا شبهة فيهما ، بيد أنّ نتيجتهما ليست هي الجبر والقسر ، بل إنّ الله تعالى أراد أن نكون أحرارا ، وأن نسلك طريق الحق باختيارنا وبمحض إرادتنا.

جاء في كتاب الكافي عن الإمام الكاظمعليه‌السلام أنّه قال :

٥٠٤

«إنّ لله على الناس حجّتين حجّة ظاهرة وحجّة باطنة ، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة ، وأمّا الباطنة فالعقول»(١) .

وجاء في أمالي الصّدوق عن الإمام الصّادقعليه‌السلام لمّا سئل عن تفسير قوله تعالى :( فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ) أنه قال : «إنّ الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة : عبدي أكنت عالما ، فإن قال : نعم ، قال له : أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال : كنت جاهلا ، قال له : أفلا تعلّمت حتى تعمل؟ فيخصمه ، فتلك الحجّة البالغة»(٢) .

إنّ من البديهي أنّ المقصود من الحديث المذكور ليس هو أنّ الحجّة البالغة منحصرة في حوار الله تعالى مع عباده يوم القيامة ، بل إنّ لله حججا بالغة عديدة من مصاديقها ما جاء في الحديث المذكور من الحوار بين الله وبين عباده ، لأن نطاق الحجج الإلهية البالغة واسع يشمل الدنيا والآخرة.

وفي الآية التّالية ـ ولكي يتضح بطلان أقوالهم ، ومراعاة لأسس القضاء والحكم الصحيح ـ دعا المشركين ليأتوا بشهدائهم المعتبرين لو كان لهم ، لكي يشهدوا لهم بأنّ الله هو الذي حرّم الحيوانات والزروع التي ادّعوا تحريمها ، لهذا يقول :( قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا ) .

ثمّ يضيف قائلا : إذا كانوا لا يملكون مثل هؤلاء الشهداء المعتبرين (ولا يملكون حتما) بل يكتفون بشهادتهم وادّعائهم أنفسهم فقط ، فلا تشهد معهم ولا تؤيدهم في دعاويهم :( فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ ) .

اتضح ممّا قيل إنّه لا تناقض قطّ في الآية لو لوحظت مجموعة ، وأمّا مطالبتهم بالشاهد في البداية ثمّ أمره تعالى بعدم قبول شهاداتهم ، فلا يستتبع إشكالا ، لأنّ المقصود هو الإشعار بأنّهم عاجزون عن إقامة الشهود المعتبرين

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٧٧٤.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٧٧٦.

٥٠٥

على القطع واليقين ، لأنّهم لا يمتلكون أيّ دليل من الأنبياء الإلهيين والكتب السماوية يسند تحريم هذه الأمور ، ولهذا فإنّهم وحدهم الذين يدّعون هذه الأمور سيشهدون ، ومن المعلوم أنّ مثل هذه الشهادة مرفوضة.

هذا مضافا إلى أنّ جميع القرائن تشهد بأنّ هذه الأحكام ما هي إلّا أحكام مصطنعة مختلفة نابعة عن محض الهوى والتقليد الأعمى ، ولا اعتبار لها مطلقا.

ولذلك قال في العبارة اللاحقة :( وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ، وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ) (١) .

يعني أنّ وثنيتهم ، وإنكارهم للقيامة والبعث ، والخرافات ، وإتباعهم للهوى ، شواهد حيّة على أنّ أحكامهم هذه مختلقة أيضا ، وأنّ ادّعاهم في مسألة تحريم هذه الموضوعات من جانب الله لا قيمة له ، ولا أساس له من الصحة.

* * *

__________________

(١) «يعدلون» مشتق من مادة «عدل» بمعنى الشريك والتشبيه ، وعلى هذا الأساس فإنّ مفهوم جملة «وهم بربّهم يعدلون» هم أنّهم كانوا يعتقدون بشريك وشبيه الله سبحانه.

٥٠٦

الآيات

( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣) )

التّفسير

الأوامر العشرة :

بعد نفي أحكام المشركين المختلفة التي مرّت في الآيات المتقدمة ، أشارت

٥٠٧

هذه الآيات الثلاثة إلى أصول المحرمات في الإسلام ، وذكرت الذنوب الرئيسية الكبيرة في عشرة أقسام ببيان مقتضب ، عميق وفريد ، ودعت المشركين إلى أن يحضروا عند النّبي ويستمعوا إلى ما يتلى عليهم من المحرمات الإلهية الواقعية ، ويتركوا المحرمات المختلقة جانبا.

يقول أوّلا :( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ) .

١ ـ( أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ) .

٢ ـ( وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) .

٣ ـ( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ ) أي بسبب الفقر والحرمان لأنّنا( نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) .

٤ ـ( وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ) أي لا تقربوها فضلا عن أن لا ترتكبوها.

٥ ـ( وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ ) فلا تسفكوا الدّماء البريئة ، ولا تقتلوا النفوس التي حرم الله قتلها إلّا ضمن قوانين العقوبات الإلهية ، فيجوز أن تقتلوا من أذن الله لكم بقتله.

ثمّ إنّه تعالى بعد ذكر هذه الأقسام الخمسة يقول لمزيد من التأكيد :( ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) فلا ترتكبوها.

٦ ـ( وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ) فلا تقربوا مال اليتيم إلّا بقصد الإصلاح حتى يبلغ أشده ويستوي.

٧ ـ( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ ) فلا تطففوا ولا تبخسوا.

وحيث أن الإنسان ـ مهما دقق في الكيل والوزن ـ قد يزيد أو ينقص بما لا يمكن أن تضبطه الموازين والمكاييل المتعارفة لقلته وخفائه ، لهذا عقب على ما قال بقوله :( لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ) .

٨ ـ( وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى ) فلا تنحرفوا عن جادة الحق عند

٥٠٨

الشهادة أو القضاء أو أمر آخر حتى ولو كان على القريب ، فاشهدوا بالحق ، واقضوا بالعدل.

٩ ـ( وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ) ولا تنقضوه.

وأمّا ما هو المراد من العهد الالهي المذكور في هذه الآية؟ فقد ذهب المفسّرون إلى احتمالات عديدة فيه ، ولكن مفهوم الآية يشمل جميع العهود الالهيّة «التكوينية» و «التشريعية» والتكاليف الالهية وكل عهد ونذر ويمين.

ثمّ إنّه سبحانه يقول في ختام هذه الأقسام الأربعة ـ للتأكيد :( ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) .

١٠ ـ( وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) إن طريقي هذا هو طريق التوحيد ، طريق الحق والعدل ، طريق الطهر والتقوى فامشوا فيه ، واتبعوه ، واسلكوه ولا تسلكوا الطرق المنحرفة والمتفرقة ، فتؤدي بكم إلى الانحراف عن الله وإلى الاختلاف ، والتشرذم ، والتفرق ، وتزرع فيكم بذور الفرقة والنفاق.

ثمّ يختم جميع هذه الأقسام وللمرّة الثّالثة ـ لغرض التأكيد بقوله :( ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) .

بحوث

إنّ هاهنا عدّة نقاط يجب أن نقف عندها ، وهي :

١ ـ الشروع بالتوحيد والختم بنبذ الاختلاف

إنّ الملاحظ في هذه الآيات أنّ هذه التعاليم والأوامر العشرة بدأت بتحريم الشرك الذي هو في الواقع المنشأ الأصلي لجميع المفاسد الاجتماعية والمحرمات الالهية ، وانتهت ـ أيضا ـ بالدّعوة إلى نبذ التفرق والاختلاف الذي

٥٠٩

يعدّ هو الآخر نوعا من الشرك العملي.

إنّ هذا الموضوع يكشف عن أهمية مسألة التوحيد في جميع الأصول والفروع الإسلامية ، وبالتالي يكشف عن أن التوحيد ليس مجرّد أصل عقائدي بحت ، بل يمثّل روح التعاليم الإسلامية برمتها.

٢ ـ التأكيدات المتتابعة

لقد تكرّرت عبارة( ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ ) للتأكيد عند ختام كل آية من الآيات الثلاث ، مع فوارق في الفواصل طبعا ، فقد ختمت العبارة في الآية الأولى بجملة :( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) ، وفي الآية الثّانية بجملة :( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) وفي الآية الثّالثة بجملة :( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) .

ويبدو أنّ هذه التعابير المختلفة إشارة إلى النقطة التّالية وهي : أنّ المرحلة الأولى عند تلقّي أيّ حكم من الأحكام هو مرحلة «التعقل» أي فهم ذلك الحكم وإدراكه.

والمرحلة الثّانية هي : مرحلة «التذكر» وهضم ذلك الحكم وامتصاص مفاده واستيعاب محتواه.

والمرحلة الثّالثة هي : المرحلة النهائية ، وهي مرحلة العمل والتطبيق ، وقد أسماها القرآن بمرحلة «التقوى».

صحيح أنّ كل واحدة من هذه العبارات (والمراحل) جاءت بعد ذكر عدّة تعاليم من التعاليم العشرة ، إلّا أنّه من الواضح أنّ هذه المراحل لا تختص بأحكام معيّنة ، لأنّ كل حكم من الأحكام ، وكل تعليم من التعاليم بحاجة إلى «التعقل» و «التذكر» و «التقوى والعمل» ، إنّما هي رعاية جهات الفصاحة والبلاغة ، التي اقتضت توزيع هذه التأكيدات (والمراحل) في أثناء تلك التعاليم العشرة.

٥١٠

٣ ـ التعاليم والأوامر الخالدة

لعلّنا في غنىّ عن التذكير بأنّ هذه التعاليم والأوامر العشرة لا تختص بالدين الإسلامي ، بل كان نظيرها في جميع الشرائع المتقدمة عليه وإن كانت قد حظيت في الإسلام بعناية أكبر وأوسع.

وفي الحقيقة أنّ هذه التعاليم ممّا يدركه العقل السويّ والضمير السليم بوضوح وجلاء وبعبارة أخرى : هي من «المستقلات العقلية» ولهذا فإنّها كما ذكرت في القرآن الكريم ، تلاحظ بشكل أو بآخر في شرائع الأنبياء الآخرين(١) .

٤ ـ أهمية الإحسان إلى الوالدين

إنّ ذكر مسألة الإحسان للوالدين ـ بعد مكافحة الشرك مباشرة ، وقبل ذكر تعاليم مهمّة مثل حرمة قتل النفس والأمر بالعدل ـ يدلّ على الأهمية القصوى التي يحظى بها حق الوالدين في التعاليم الإسلامية.

ويتّضح هذا الأمر أكثر عند ما نرى أن القرآن الكريم ذكر بدل تحريم أذى الوالدين الذي يلائم سياق هذه الآية في استعراضها للمحرمات ، مسألة الإحسان إليهما ، يعني أنّه ليس إزعاج الوالدين وإيذاؤهما محرّما فقط ، بل يجب الإحسان إليهما.

والأجمل من هذا كلّه أنّ كلمة «الإحسان» عدّيت بحرف «الباء» فقال :( وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) ونحن نعلم أن الإحسان قد يعدّى بإلى وقد يعدّى بالباء ، فإذا عدّ بإلى كان معناه : الإحسان إلى الآخر سواء كان بصورة مباشرة ، أو مع الواسطة. ولكنّه عند ما يعدّى بالباء يكون معناه : الإحسان بصورة مباشرة ومن دون واسطة.

وعلى هذه الأساس فإنّ هذه الآية تؤكّد أنّ موضوع الإحسان إلى الوالدين

__________________

(١) راجع الآية (١٣) من سورة الشورى.

٥١١

من الأهمية البالغة بحيث يجب على الإنسان أن يباشر الإحسان بنفسه إلى الوالدين(١) .

٥ ـ قتل الأولاد من الإملاق والجوع

يستفاد من هذه الآيات أنّ العرب في العهد الجاهلي لم يقتصروا على قتل البنات ووأدهن بسبب بعض العصبيات الخاطئة فحسب ، بل كانوا يقتلون أولادهم الذين كانوا يعدّون ثروة كبرى في المجتمع يومذاك ، وذلك بسبب الفقر وخشيتهم من الفاقة ، أيضا. والله تعالى يلفت نظرهم إلى مائدة النعم الإلهيّة الواسعة التي يستفيد منها حتى أضعف الموجودات ، ونهاهم سبحانه عن ذلك.

ولكن هذا العمل الجاهلي ـ وللأسف البالغ ـ يتكّرر الآن في عصرنا في صورة أخرى ، إذ نلاحظ كيف يعمد الناس إلى قتل الأطفال الأبرياء وهم أجنّة عن طريق «الكور تاج» والإجهاض بحجة النقصان الاحتمالي في المواد الغذائية.

إنّ إسقاط الجنين وإن كان يبرّر الآن بأدلة وحجج أخرى أيضا ، إلّا أنّ مسألة الفقر ومسألة نقصان المواد الغذائية ، هي من أدلتها الأصليّة.

هذه المسألة والمسائل المشابهة الأخرى تشير إلى أنّ العهد الجاهلي يتكّرر في شكل آخر ، وأنّ «جاهلية القرن العشرين» أكثر وحشية من جاهلية ما قبل الإسلام.

٦ ـ ما هو المقصود من الفواحش؟

«الفواحش» جمع «فاحشة» يعني ما عظم قبحه من الذنوب. وعلى هذا الأساس فإنّ نقض العهد ، والتطفيف والشرك وما شابه ذلك وإن كانت من الذنوب

__________________

(١) تفسير المنار ، ج ٨ ، ص ١٨٥.

٥١٢

الكبار ، إلّا أنّ ذكرها في مقابل الفواحش إنّما هو لأجل التفاوت المفهومي بينها.

٧ ـ لا تقربوا هذه الذّنوب

في الآيات الحاضرة ورد التعبير بجملة لا تقربوا في موضعين ، وقد تكرر هذا الموضوع (وهذا النهي) في القرآن لبعض الذنوب الأخر أيضا ، ويبدو أنّ هذا التعبير قد ورد في مجال الذنوب المثيرة كالزنا ، وأموال اليتامى وما شابهها ، لهذا يحذّر الناس من الاقتراب إليها لكي لا يقعوا تحت إثارتها.

٨ ـ الذّنوب الظاهرة والباطنة

لا شك في أنّ جملة( ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ) تشمل كل الذنوب القبيحة الظاهرة ، والخفية ، ولكن جاء في بعض الأحاديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام «ما ظهر هو الزنا وما بطن هو المخالّة» (أي اتخاذ الخليلات والصديقات سرّا وخفيّة) ولكنّه واضح أنّ ذكر هذه الموارد إنّما هو بيان المصداق الواضح ، لا أنّه يعني انحصارها فيها.

٩ ـ الوصايا العشر عند اليهود

نلاحظ في التّوراة في الفصل ٢٠ ـ سفر الخروج أحكاما عشرة تعرف عند اليهود بالوصايا ، وهي تبدأ من الجملة الثانية وتنتهي عند السابعة عشرة من ذلك الفصل.

ولكن بالمقارنة بين الوصايا العشر ، وبين ما جاء في الآيات الحاضرة يتضح أنّ فرقا واسعا وبونا شاسعا بين هذين البرنامجين ، وعلى أنّه لا يمكن الاطمئنان إلى أنّ التّوراة الحاضرة لم تنحرف في هذا المجال ، كما تعرضت للتحريف في الأقسام الأخرى. ولكنّ ما هو مسلّم هو أنّ الوصايا العشر الموجودة في التّوراة

٥١٣

وإن كانت مشتملة على المسائل اللازمة ، إلّا أنّها أقل مستوى بكثير ـ من حيث السعة والأبعاد الأخلاقية ، والاجتماعية والعقيدية ـ من مفاد الآيات الحاضرة.

١٠ ـ كيف غيّرت هذه الآيات وجه المدينة المنورة؟

لقد وردت في بحار الأنوار ، وكذا في كتاب أعلام الورى قصّة جميلة تحكي عن تأثير هذه الآيات البالغ في نفوس المستمعين ، وها نحن ندرج هنا القصة المذكورة باختصار وفقا لما جاء في بحار الأنوار برواية علي بن إبراهيم.

قدم أسعد بن زرارة ، وذكوان بن عبد قيس مكّة في موسم من مواسم العرب وهما من الخزرج ، وكان بين الأوس والخزرج حرب قد بقوا فيها دهرا طويلا ، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار ، وكان آخر حرب بينهم يوم بعاث ، وكانت الغلبة فيها للأوس على الخزرج ، فخرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكّة يسألون الحلف على الأوس وكان أسعد بن زرارة صديقا لعتبة بن ربيعة فنزل عليه ، وقصّ عليه ما جاء من أجله فقال عتبة بن ربيعة في جواب أسعد : بعدت دارنا من داركم ، ولنا شغل لا نتفرغ لشيء ، قال أسعد : وما شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم؟ قال عتبة : خرج فينا رجل يدّعي أنّه رسول الله ، سفّه أحلامنا ، وسبّ آلهتنا ، وأفسد شبابنا ، وفرق جماعتنا.

فقال له أسعد : من هو منكم؟ قال : ابن عبد الله بن عبد المطلب ، من أوسطنا شرفا ، وأعظمنا بيتا.

فلمّا سمع أسعد وذكوان ذلك ، أخذا يفكّران فيه ، ووقع في قلبهما ما كانا يسمعانه من اليهود ، أنّ هذا أوان نبي يخرج بمكّة يكون مهاجره بالمدينة.

فقال أسعد : أين هو؟

قال عتبة : جالس في الحجر (حجر إسماعيل) وأنّهم (أي المسلمون) لا يخرجون من شعبهم إلّا في المواسم ، فلا تسمع منه ، ولا تكلّمه ، فإنّه ساحر يسحرك بكلامه ، وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب.

٥١٤

فقال أسعد لعتبة : فكيف أصنع ، وأنا محرم للعمرة لا بدّ لي أن أطوف بالبيت؟

قال : ضع في أذنيك القطن.

فدخل أسعد المسجد ، وقد حشا أذنيه بالقطن فطاف بالبيت ورسول الله جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم ، فنظر إليه نظرة فجازه.

فلمّا كان في الشّوط الثّاني قال في نفسه : ما أجد أجهل منّي. أيكون مثل هذا الحديث بمكّة فلا أتعرّفه حتى أرجع إلى قومي فأخبرهم؟ فأخذ القطن من أذنيه ورمى به ، وقال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنعم صباحا. فرفع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأسه إليه ، وقال : قد أبدلنا الله به ما هو أحسن من هذا ، تحية أهل الجنّة ، السلام عليكم.

فقال له أسعد : إلى م تدعو يا محمّد؟

قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إلى شهادة أن لا إله إلّا الله ، وأنّي رسول الله ، وأدعوكم إلى ...(ثمّ تلاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الآيات الثلاثة المبحوثة هنا والتي تتضمن التعاليم العشرة).

فلمّا سمع أسعد هذا قال له : أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّك رسول الله ، يا رسول الله بأبي أنت وأمي أنا من أهل يثرب من الخزرج ، وبيننا وبين إخوتنا من الأوس حبال مقطوعة ، فإن وصلها الله بك ، ولا أجد أعزّ منك ، ومعي رجل من قومي ، فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن يتمّم الله لنا أمرنا فيك.

والله يا رسول الله ، لقد كنّا نسمع من اليهود خبرك ، ويبشروننا بمخرجك ، ويخبروننا بصفتك ، وأرجو أن تكون دارنا دار هجرتك عندنا فقد أعلمنا اليهود ذلك ، فالحمد لله الذي ساقني إليك ، والله ما جئت إلّا لنطلب الحلف على قومنا ، وقد آتانا الله بأفضل ممّا أتيت له.

ثمّ أسلم رفيق أسعد ـ ذكوان ـ أيضا ـ ثمّ طلبا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبعث معهم رجلا يعلمهم القرآن ، ويدعو الناس إلى أمره ، ويطفئ الحروب ، فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معهما إلى المدينة «مصعب بن عمير» ومنذئذ أسست قواعد الإسلام في المدينة وتغير وجه يثرب(١) .

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، الطبعة الجديدة ، ج ١٩ ، ص ٨ و ٩ و ١٠.

٥١٥

الآيات

( ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧) )

التّفسير

رد حاسم على المتحججين والمتعلّلين :

في الآيات السابقة دار الحديث عن عشرة من أحكام الإسلام الأساسية التي تشكّل ـ في الحقيقة ـ أساسا وقاعدة للكثير من الأحكام الإسلامية ،

٥١٦

ويستفاد من قوله تعالى :( أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ) ونظائره ، أنّ هذه الأحكام لم تكن مختصّة بدين معنين أو شريعة خاصّة ، خاصّة وأنّها من الأصول والمبادئ التي يحكم بها العقل ويؤيّدها من دون تلكؤ أو تأخير ، وبهذا يكون مضمون الآيات السابقة هو بيان الأحكام التي لم تكن مختصّة بالإسلام ، بل هي موجودة ومقررة في جميع الأديان.

ثمّ قال عقيب ذلك في هذه الآيات :( ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ ) فقد أتممنا نعمتنا على المحسنين والذين سلّموا لأمره واتبعوه.

وممّا قيل يتّضح معنى كلمة «ثمّ» تستعمل في اللغة العربية عادة في «العطف مع التراخي» ويكون معنى الآية هو : أنّنا آتينا هذه التعاليم والوصايا العامّة للأنبياء السابقين أوّلا ، ثمّ آتينا موسى كتابا سماويا وبيّنا فيه هذه التعاليم والبرامج وغيرها من التعاليم والبرامج اللازمة.

وبهذا لا حاجة إلى ما ذهب إليه بعض المفسّرين من التوجيهات المختلفة ، والضعيفة أحيانا في هذا المجال.

كما تتّضح هذه النقطة أيضا ، وهي أنّ عبارة :( الَّذِي أَحْسَنَ ) إشارة إلى جميع المحسنين ، والذين يستجيبون للحق ، ويقبلون بالأوامر الإلهية.

( وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ ) فإن فيه كلّ شيء ممّا يحتاج إليه المجتمع ، وممّا له أثر في تكامل الإنسان وتر شيده.

( وَهُدىً وَرَحْمَةً ) أي أنّ في هذا الكتاب الذي نزل على موسى مضافا إلى ما سبق : هدى ورحمة.

إنّ جميع هذه البرامج ، ما هي إلّا لكي يؤمنوا بيوم القيامة ، وبلقاء الله ، ولكي يطهّروا عن طريق الإيمان بالمعاد أفكارهم ، وأقوالهم ، وأعمالهم ويزكوها :( لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ) .

هذا ، ويمكن أن يقال : إذا كانت شريعة موسى شريعة كاملة (كما يستفاد من

٥١٧

كلمة «تماما») فما الحاجة إلى شريعة عيسى ، وإلى الشريعة الإسلامية؟

ولكن يجب أن يعلم أنّ كلّ شريعة من الشرائع إنّما تكون شريعة جامعة وكاملة بالنسبة لعصرها ، ومن المستحيل أن تنزل شريعة ناقصة من جانب الله تعالى.

بيد أنّ هذه الشريعة التي تكون كاملة بالنسبة إلى عصر معيّن يمكن أن تكون ناقصة غير كاملة بالنسبة إلى العصور اللاحقة ، كما أنّ البرنامج الكامل الجامع المعدّ لمرحلة الدراسة الابتدائية ، يكون برنامجا ناقصا بالنسبة إلى مرحلة الدراسة المتوّسطة ، وهذا هو السرّ في إرسال الأنبياء المتعددين بالكتب السماويّة المختلفة المتنوعة حتى ينتهي الأمر إلى آخر الأنبياء وآخر التعاليم.

نعم إذ تهيّأ البشر لتلقّي التعاليم النهائية ، وصدرت إليهم تلك التعاليم والأوامر ، لم يبق حاجة ـ بعد ذلك ـ إلى دين جديد ، وكان شأنهم حينئذ شأن المتخّرجين الذين يمكنهم بما عندهم من معلومات الحصول على نجاحات علمية عن طريق المطالعة والتأمل.

إن أتباع مثل هذه الشريعة ، ومثل هذا الدين (النهائي) لن يحتاجوا إلى دين جديد ، وإنّما يكتسبون طاقة حركتهم وتقدمهم من نفس ذلك الدين الإلهي.

كما أنّه يستفاد من هذه الآية أيضا أنّ القضايا المرتبطة بالقيامة قد وردت في التّوراة الأصلية بالقدر الكافي. وإذا لم نلاحظ اشارة إلى قضايا الحشر والمعاد في التّوراة الفعلية والكتب الحاضرة المرتبطة بها إلّا نادرا ، فالظاهر أنّ ذلك بسبب تحريف اليهود وأصحاب الدنيا الذين كانوا يرغبون في قلّة التحدّث في القيامة وقلّة السماع عنها.

على أنّه قد وردت في التّوراة الفعلية مع ذلك إشارات عابرة ومختصرة إلى مسألة القيامة ، ولكنّها قليلة إلى درجة دفع بالبعض إلى القول : إنّ اليهود لا يعتقدون بالمعاد والقيامة أساسا ، ولكن هذا الكلام أشبه بالمبالغة من الواقع

٥١٨

والحقيقة.

كما أنّه يجب أيضا أن نلفت نظر القارئ إلى أنّ المراد من إلقاء الله الذي ورد في الآيات القرآنية ليس هو اللقاء الحسي والرؤية البصرية ، بل المراد هو نوع من الشهود الباطني ، واللقاء الروحاني ، الذي يتحقق في يوم القيامة على أثر التكامل الإنساني الحاصل للأشخاص ، أو المقصود منه هو : مشاهدة الثواب والعقاب في العالم الآخر.

الآية اللاحقة تشير إلى نزول القرآن وتعليماته القيمة ، وبذلك أكملت البحث المطروح في الآية السابقة ، يقول تعالى :( وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ ) فهذا الكتاب الذي أنزلناه كتاب عظيم الفائدة ، عظيم البركة ، وهو المنبع لكلّ أنواع الخير والبركة.

ولمّا كان الأمر كذلك وجب اتباعه بصورة كاملة ، ووجب التزود بالتقوى ، والتجنب عن مخالفته ، لتشملكم رحمة الله ولطفه( فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) .

وفي الآية الثالثة أبطل سبحانه جميع المعاذير والتحججات وسدّ جميع طرق التملّص والفرار في وجه المشركين ، فقال لهم أوّلا : لقد أنزلنا هذا الكتاب مع هذه المميزات لكي لا تقولوا : لقد نزلت الكتب السماوية على الطائفتين السابقتين (اليهود والنصارى) وكنّا عن دراستها غافلين ، وليس تمرّدنا على أوامر الله لكونها موجودة عند غيرنا من الأمم ، ولم يبلغنا منها شيء :( أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا ، وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ ) (١) .

ثمّ إنّه سبحانه ينقل عنهم ـ في الآية اللاحقة ـ نفس ذلك التحجج ولكن بصورة أوسع ، ومقرونا هذه المرّة بنوع أشدّ من الغرور والصّلف وهو : أنّ القرآن الكريم لو لم ينزل عليهم لكان من الممكن أن يدّعوا أنّهم كانوا أكثر استعدادا من

__________________

(١) «أن تقولوا» معناه «لئلّا تقولوا» ونظير ذلك كثير في لغة العرب.

٥١٩

أية أمّة أخرى لقبول الأمر الإلهي :( أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ ) .

والآية المتقدّمة كانت تعكس ـ في الحقيقة ـ هذا التحجج وهو : أنّ عدم اهتدائنا إنّما هو بسبب غفلتنا وجهلنا بالكتب السماوية ، وهذه الغفلة وهذا الجهل ناشئ عن أنّ هذه الكتب نزلت على الآخرين ، ولم تنزل علينا.

أمّا هذه الآية فتعكس صفة الإحساس بالتفوق والادّعاء الفارغ الذي كانوا يدّعونه عن تفوّق العنصر العربيّ على غيرهم.

وقد نقل نظير هذا المعنى في سورة فاطر في الآية (٤٢) عن مقالة المشركين في شكل مسألة قاطعة وليس من باب القضية الشرطية وذلك عند ما يقول :( وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً ) .

وعلى أية حال فإنّ القرآن يقول في معرض الرّد على هذه الادعاءات أن الله سبحانه سدّ عليكم كل سبل التملص والفرار ، وأبطل جميع الذرائع والمعاذير ، لأنّ الله آتاكم كل الآيات ، وأقام كل الحجج المقرونة بالهداية الإلهية وبالرحمة الربانية لكم :( فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ ) .

والملفت للنظر أنّه استعمل لفظ «البينة» بدل الكتاب السماوي ، وهو إشارة إلى أنّ هذا الكتاب السماوي واضح المعالم ، بيّن الحقائق من جميع الجهات ، ومقرون بالدلائل القاطعة ، والبراهين الساطعة اللامعة.

ومع ذلك( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها ) .

و «صدف» من «الصدف» ويعني الإعراض الشديد ـ من دون تفكير ـ عن شيء ، وهو إشارة إلى أنّهم لم يكونوا ليعرضوا عن آيات الله فحسب ، بل كانوا يبتعدون عنها ـ أيضا ـ من دون أن يفكروا فيها أدنى تفكير. ربّما استعملت هذه اللفظة بمعنى آخر وهو منع الآخرين أيضا.

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611