الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 611

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 611 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135067 / تحميل: 6382
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

مجرى واحداً يدلّ الكتاب العزيز على ثبوتها دلالة لا مدفع لها إلّا ما تكلّفه بعض الناس من التأويل تحذّراً من لزوم خرق العادة و تعطّل قانون العلّيّة العامّ، و قد مرّ في الجزء الأوّل من هذا الكتاب استيفاء البحث عن الإعجاز و خرق العادة.

و بعد ذلك كلّه فالآية التالية لا تخلو عن إشعار أو دلالة على حياتهعليه‌السلام و عدم توفيه بعد.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) .( إِنْ ) نافية و المبتدأ محذوف يدلّ عليه الكلام في سياق النفي، و التقدير: و إن أحد من أهل الكتاب إلّا ليؤمننّ، و الضمير في قوله:( بِهِ ) و قوله:( يَكُونُ ) راجع إلى عيسى، و أمّا الضمير في قوله( قَبْلَ مَوْتِهِ ) ففيه خلاف.

فقد قال بعضهم: إنّ الضمير راجع إلى المقدّر من المبتدأ و هو أحد، و المعنى: و كلّ واحد من أهل الكتاب يؤمن قبل موته بعيسى أي يظهر له قبيل الموت عند الاحتضار أنّ عيسى كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عبده حقّاً و إن كان هذا الإيمان منه إيماناً لا ينتفع به، و يكون عيسى شهيداً عليهم جميعاً يوم القيامة سواء آمنوا به إيماناً ينتفع به أو إيماناً لا ينتفع به كمن آمن به عند موته.

و يؤيّده أنّ إرجاع ضمير:( قَبْلَ مَوْتِهِ ) إلى عيسى يعود إلى ما ورد في بعض الأخبار أنّ عيسى حيّ لم يمت، و أنّه ينزل في آخر الزمان فيؤمن به أهل الكتاب من اليهود و النصارى، و هذا يوجب تخصيص عموم قوله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ) من غير مخصّص، فإنّ مقتضى الآية على هذا التقدير أن يكون يؤمن بعيسى عند ذلك النزول من السماء الموجودون من أهل الكتاب دون المجموع منهم، ممّن وقع بين رفع عيسى و نزوله فمات و لم يدرك زمان نزوله، فهذا تخصيص لعموم الآية من غير مخصّص ظاهر.

و قد قال آخرون: إنّ الضمير راجع إلى عيسىعليه‌السلام و المراد به إيمانهم به عند نزوله في آخر الزمان من السماء، استناداً إلى الرواية كما سمعت.

هذا ما ذكروه، و الّذي ينبغي التدبّر و الإمعان فيه هو أنّ وقوع قوله:( وَ يَوْمَ

١٤١

الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) في سياق قوله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) ظاهر في أنّ عيسى شهيد على جميعهم يوم القيامة كما أنّ جميعهم يؤمنون به قبل الموت، و قد حكى سبحانه قول عيسى في خصوص هذه الشهادة على وجه خاصّ، فقال عنه:( وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ ) (المائدة: ١١٧).

فقصّرعليه‌السلام شهادته في أيّام حياته فيهم قبل توفّيه، و هذه الآية أعني قوله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ) إلخ تدلّ على شهادته على جميع من يؤمن به فلو كان المؤمن به هو الجميع كان لازمه أن لا يتوفّى إلّا بعد الجميع، و هذا ينتج المعنى الثاني، و هو كونهعليه‌السلام حيّاً بعد، و يعود إليهم ثانياً حتّى يؤمنوا به. نهاية الأمر أن يقال: إنّ من لا يدرك منهم رجوعه إليهم ثانياً يؤمن به عند موته، و من أدرك ذلك آمن به إيماناً اضطراراً أو اختياراً.

على أنّ الأنسب بوقوع هذه الآية:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ ) فيما وقع فيه من السياق أعني بعد قوله تعالى:( وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ - إلى أن قال -بَلْ رَفَعَهُ الله إِلَيْهِ وَ كانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً ) أن تكون الآية في مقام بيان أنّه لم يمت و أنّه حيّ بعد إذ لا يتعلّق ببيان إيمانهم الاضطراريّ و شهادته عليهم في غير هذه الصورة غرض ظاهر.

فهذا الّذي ذكرناه يؤيّد كون المراد بإيمانهم به قبل الموت إيمانهم جميعاً به قبل موتهعليه‌السلام .

لكنّ ههنا آيات اُخر لا تخلو من إشعار بخلاف ذلك كقوله تعالى:( إِذْ قالَ الله يا عِيسى‏ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ ) (آل عمران: ٥٥) حيث يدلّ على أنّ من الكافرين بعيسى من هو باق إلى يوم القيامة، و كقوله تعالى:( وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ) حيث إنّ ظاهره أنّه نقمة مكتوبة عليهم، فلا يؤمن مجتمعهم بما هو مجتمع اليهود أو مجتمع أهل الكتاب إلى يوم القيامة.

بل ظاهر ذيل قوله:( وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ

١٤٢

الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) حيث إنّ ذيله يدلّ على أنّهم باقون بعد توفّي عيسىعليه‌السلام .

لكنّ الإنصاف أنّ الآيات لا تنافي ما مرّ فإنّ قوله:( وَ جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ ) لا يدلّ على بقائهم إلى يوم القيامة على نعت أنّهم أهل الكتاب.

و كذا قوله تعالى:( بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ ) (الآية) إنّما يدلّ على أنّ الإيمان لا يستوعبهم جميعاً، و لو آمنوا في حين من الأحيان شمل الإيمان منهم قليلاً من كثير. على أنّ قوله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) لو دلّ على إيمانهم به قبل موته فإنّما يدلّ على أصل الإيمان، و أمّا كونه إيماناً مقبولاً غير اضطراريّ فلا دلالة له على ذلك.

و كذا قوله:( فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) (الآية) مرجع الضمير فيه إنّما هو الناس دون أهل الكتاب أو النصارى بدليل قوله تعالى في صدر الكلام:( وَ إِذْ قالَ الله يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ الله ) الآية: (المائدة: ١١٦)، و يدلّ على ذلك أيضاً أنّهعليه‌السلام من اُولي العزم من الرسل مبعوث إلى الناس كافّة، و شهادته على أعمالهم تعمّ بني إسرائيل و المؤمنين به و غيرهم.

و بالجملة، الّذي يفيده التدبّر في سياق الآيات و ما ينضمّ إليها من الآيات المربوطة بها هو أنّ عيسىعليه‌السلام لم يتوفّ بقتل أو صلب و لا بالموت حتف الأنف على نحو ما نعرفه من مصداقه - كما تقدّمت الإشارة إليه - و قد تكلّمنا بما تيسّر لنا من الكلام في قوله تعالى:( يا عِيسى‏ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ ) (آل عمران: ٥٥) في الجزء الثالث من هذا الكتاب.

و من غريب الكلام في هذا الباب ما ذكره الزمخشريّ في الكشّاف: أنّه يجوز أن يراد أنّه لا يبقى أحد من جميع أهل الكتاب إلّا ليؤمننّ به على أنّ الله يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان، و يعلمهم نزوله، و ما اُنزل له، و يؤمنون به حين لا ينفعهم إيمانهم، و هذا قول بالرجعة.

و في معنى الآية بعض وجوه رديئة اُخرى:

١٤٣

منها: ما يظهر من الزجّاج أنّ ضمير قوله:( قَبْلَ مَوْتِهِ ) يرجع إلى الكتابيّ و أنّ معنى قوله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) أنّ جميعهم يقولون: إنّ عيسى الّذي يظهر في آخر الزمان نحن نؤمن به.

و هذا معنى سخيف فإنّ الآيات مسوقة لبيان دعواهم قتل عيسىعليه‌السلام و صلبه و الردّ عليهم دون كفرهم به و لا يرتبط ذلك باعترافهم بظهور مسيح في آخر الزمان يحيي أمر شعب إسرائيل حتّى يذيّل به الكلام.

على أنّه لو كان المراد به ذلك لم يكن حاجة إلى ذكر قوله:( قَبْلَ مَوْتِهِ ) لارتفاع الحاجة بدونه، و كذا قوله( وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) لأنّه على هذا التقدير فضل من الكلام لا حاجة إليه.

و منها: ما ذكره بعضهم أنّ المراد بالآية: و إن من أهل الكتاب إلّا ليؤمننّ بمحمّد قبل موت ذلك الكتابيّ.

و هذا في السخافة كسابقه فإنّه لم يجر لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكر في سابق الكلام حتّى يعود إليه الضمير. و لا أنّ المقام يدلّ على ذلك، فهو قول من غير دليل. نعم، ورد هذا المعنى في بعض الروايات ممّا سيمرّ بك في البحث الروائيّ التالي لكن ذلك من باب الجري كما سنشير إليه و هذا أمر كثير الوقوع في الروايات كما لا يخفى على من تتبّع فيها.

قوله تعالى: ( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ) الفاء للتفريع، و قد نكّر لفظ الظلم و كأنّه للدلالة على تفخيم أمره أو للإبهام، إذ لا يتعلّق على تشخيصه غرض مهمّ و هو بدل ممّا تقدّم ذكره من فجائعهم غير أنّه ليس بدل الكلّ من الكلّ كما ربّما قيل، بل بدل البعض من الكلّ، فإنّه تعالى جعل هذا الظلم منهم سبباً لتحريم الطيّبات عليهم، و لم تحرّم عليهم إلّا في شريعة موسى المنزلة في التوراة، و بها تختتم شريعة موسى، و قد ذكر فيما ذكر من فجائعهم و مظالمهم اُمور جرت و وقعت بعد ذلك كالبهتان على مريم و غير ذلك.

فالمراد بالظلم بعض ما ذكر من مظالمهم الفجيعة فهو السبب لتحريم ما حرّم

١٤٤

عليهم من الطيّبات بعد إحلالها.

ثمّ ضمّ إلى ذلك قوله:( وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ الله كَثِيراً ) و هو إعراضهم المتكرّر عن سبيل الله:( وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ ) .

قوله تعالى: ( وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) معطوف على قوله:( حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ ) فقد استوجبوا بمظالمهم من الله جزاءين: جزاء دنيويّ عامّ و هو تحريم الطيّبات، و جزاء أخرويّ خاصّ بالكافرين منهم و هو العذاب الأليم.

قوله تعالى: ( لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ الْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ) استثناء و استدراك من أهل الكتاب، و( الرَّاسِخُونَ ) و ما عطف عليه مبتدء و( يُؤْمِنُونَ ) خبره، و قوله:( مِنْهُمْ ) متعلّق بالراسخون و( مِنْ ) فيه تبعيضيّة.

و الظاهر أنّ( الْمُؤْمِنُونَ ) يشارك( الرَّاسِخُونَ ) في تعلّق قوله:( مِنْهُمْ ) به معنىّ و المعنى: لكن الراسخون في العلم و المؤمنون بالحقيقة من أهل الكتاب يؤمنون بك و بما اُنزل من قبلك، و يؤيّده التعليل الآتي في قوله:( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) إلخ، فإنّ ظاهر الآية كما سيأتي بيان أنّهم آمنوا بك لمّا وجدوا أنّ نبوّتك و الوحي الّذي أكرمناك به يماثل الوحي الّذي جاءهم به الماضون السابقون من أنبياء الله: نوح و النبيّون من بعده، و الأنبياء من آل إبراهيم، و آل يعقوب، و آخرون ممّن لم نقصصهم عليك من غير فرق.

و هذا المعنى - كما ترى - أنسب بالمؤمنين من أهل الكتاب أن يوصفوا به دون المؤمنين من العرب الّذين وصفهم الله سبحانه بقوله:( لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ ) (يس: ٦).

و قوله:( وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ ) معطوف على( الرَّاسِخُونَ ) و منصوب على المدح، و مثله في العطف قوله:( وَ الْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ ) و قوله:( وَ الْمُؤْمِنُونَ بِالله وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ) مبتدء خبره قوله:( أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً ) و لو كان قوله:( وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ ) مرفوعاً كما نقل عن مصحف ابن مسعود كان هو و ما عطف عليه مبتدءً خبره قوله:( أُولئِكَ ) .

١٤٥

قال في المجمع: اختلف في نصب المقيمين فذهب سيبويه و البصريّون إلى أنّه نصب على المدح على تقدير أعني المقيمين الصلاة، قالوا: إذا قلت، مررت بزيد الكريم و أنت تريد أن تعرّف زيداً الكريم من زيد غير الكريم فالوجه الجرّ، و إذا أردت المدح و الثناء فإن شئت نصبت و قلت: مررت بزيد الكريم كأنّك قلت: أذكر الكريم، و إن شئت رفعت فقلت: الكريم، على تقدير هو الكريم.

و قال الكسائيّ، موضع المقيمين جرّ، و هو معطوف( على ) ما من قوله:( بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) أي و بالمقيمين الصلاة.

و قال قوم: إنّه معطوف على الهاء و الميم من قوله( مِنْهُمْ ) على معنى: لكن الراسخون في العلم منهم و من المقيمين الصلاة، و قال آخرون: إنّه معطوف على الكاف من( قَبْلِكَ ) أي ممّا أنزل من قبلك و من قبل المقيمين الصلاة.

و قيل: إنّه معطوف على الكاف في( إِلَيْكَ ) أو الكاف في قبلك. و هذه الأقوال الأخيرة لا تجوز عند البصريّين لأنّه لا يعطف بالظاهر على الضمير المجرور من غير إعادة الجارّ.

قال: و أمّا ما روي عن عروة عن عائشة قال: سألتها عن قوله:( وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ ) و عن قوله:( وَ الصَّابِئِينَ ) و عن قوله:( إِنْ هذانِ ) فقالت: يا ابن اُختي هذا عمل الكتاب أخطؤا في الكتاب، و ما روي عن بعضهم: أنّ في كتاب الله أشياء ستصلحها العرب بألسنتها، قالوا: و في مصحف ابن مسعود:( و المقيمون الصلاة) فممّا لا يلتفت إليه لأنّه لو كان كذلك لم يكن ليعلّمه الصحابة الناس على الغلط و هم القدوة و الّذين أخذوه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (انتهى).

و بالجملة قوله:( لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) استثناء من أهل الكتاب من حيث لازم سؤالهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينزّل عليهم كتاباً من السماء كما تقدّم أنّ لازم سؤالهم ذلك أن لا يكفي ما جاءهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الكتاب و الحكمة المصدّقين لما اُنزل من قبله من آيات الله على أنبيائه و رسله، في دعوتهم إلى الحقّ و إثباته، مع أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يأتهم إلّا مثل ما أتاهم به من قبله من الأنبياء، و لم يعش فيهم و لم يعاشرهم إلّا بما عاشوا به و عاشروا به كما قال

١٤٦

تعالى:( قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ ) (الأحقاف: ٩) و قال تعالى:( وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ ما كانُوا خالِدِينَ - إلى أن قال -لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ ) (الأنبياء: ١٠).

فذكر الله سبحانه في فصل من القول: إنّ هؤلاء السائلين و هم أهل الكتاب ليست عندهم سجيّة اتّباع الحقّ و لا ثبات و لا عزم و لا رأي، و كم من آية بيّنة ظلموها، و دعوة حقّ صدّوا عنها، إلّا أنّ الراسخين في العلم منهم لمّا كان عندهم ثبات على علمهم و ما وضح من الحقّ لديهم، و كذا المؤمنون حقيقة منهم لمّا كان عندهم سجيّة اتّباع الحقّ يؤمنون بما اُنزل إليك و ما اُنزل من قبلك لمّا وجدوا أنّ الّذي نزّل إليك من الوحي يماثل ما نزّل من قبلك على سائر النبيّين: نوح و من بعده.

و من هنا يظهر (أوّلاً) وجه توصيف من اتّبع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهل الكتاب بالراسخين في العلم و المؤمنين، فإنّ الآيات السابقة تقصّ عنهم أنّهم غير راسخين فيما علموا غير مستقرّين على شي‏ء من الحقّ و إن استوثق منهم بأغلظ المواثيق، و أنّهم غير مؤمنين بآيات الله صادّون عنها و إن جاءتهم البيّنات، فهؤلاء الّذين استثناهم الله راسخون في العلم أو مؤمنون حقيقة.

و (ثانياً) وجه ذكر ما اُنزل قبلاً مع القرآن في قوله:( يؤمنون بما اُنزل إليك و ما اُنزل من قبلك ) لأنّ المقام مقام نفي الفرق بين القبيلين.

و (ثالثاً) أنّ قوله في الآية التالية:( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا ) إلخ في مقام التعليل لإيمان هؤلاء المستثنين.

قوله تعالى: ( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) في مقام التعليل لقوله:( يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) كما عرفت آنفاً. و محصّل المعنى - و الله أعلم - أنّهم آمنوا بما اُنزل إليك لأنّا لم نؤتك أمراً مبتدعاً يختصّ من الدعاوي و الجهات بما لا يوجد عند غيرك من الأنبياء السابقين، بل الأمر على نهج واحد لا اختلاف فيه، فإنّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح و النبيّين من بعده، و نوح أوّل نبيّ

١٤٧

جاء بكتاب و شريعة، و كما أوحينا إلى إبراهيم و من بعده من آله، و هم يعرفونهم و يعرفون كيفيّة بعثتهم و دعوتهم، فمنهم من اُوتي بكتاب كداود اُوتي زبوراً و هو وحي نبويّ، و موسى اُوتي التكليم و هو وحي نبويّ، و غيرهما كإسماعيل و إسحاق و يعقوب اُرسلوا بغير كتاب، و ذلك أيضاً عن وحي نبويّ.

و يجمع الجميع أنّهم رسل مبشّرون بثواب الله منذرون بعذابه، أرسلهم الله لإتمام الحجّة على الناس ببيان ما ينفعهم و ما يضرّهم في اُخراهم و دنياهم لئلّا يكون للناس على الله حجّة بعد الرسل.

قوله تعالى: ( وَ الْأَسْباطِ) تقدّم في قوله تعالى:( وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ ) (آل عمران: ٨٤) أنّهم أنبياء من ذرّيّة يعقوب أو من أسباط بني إسرائيل.

قوله تعالى: ( وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً ) قيل إنّه بمعنى المكتوب من قولهم: زبره أي كتبه فالزبور بمعنى المزبور.

قوله تعالى: ( رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ ) أحوال ثلاثة أو الأوّل حال و الأخيران وصفان له. و قد تقدّم استيفاء البحث عن معنى إرسال الرسل و تمام الحجّة من الله على الناس، و أنّ العقل لا يغني وحده عن بعثة الأنبياء بالشرائع الإلهيّة في الكلام على قوله تعالى:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ) (سورة البقرة: ٢١٣) في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

قوله تعالى: ( وَ كانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً ) و إذا كانت له العزّة المطلقة و الحكمة المطلقة استحال أن يغلبه أحد بحجّة بل له الحجّة البالغة، قال تعالى:( قُلْ فَلله الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ) (الأنعام: ١٤٩).

قوله تعالى: ( لكِنِ الله يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ ) ، استدراك آخر في معنى الاستثناء المنقطع من الردّ المتعلّق بسؤالهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تنزيل كتاب إليهم من السماء، فإنّ الّذي ذكر الله تعالى في ردّ سؤالهم بقوله:( فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى‏ أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ ) (إلى آخر الآيات) لازم معناه أنّ سؤالهم مردود إليهم، لأنّ ما جاء به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوحي من ربّه لا يغاير نوعاً ما جاء به سائر النبيّين من

١٤٨

الوحي، فمن ادّعى أنّه مؤمن بما جاؤا به فعليه أن يؤمن بما جاء به من غير فرق.

ثمّ استدرك عنه بأنّ الله مع ذلك يشهد بما أنزل على نبيّه و الملائكة يشهدون و كفى بالله شهيداً.

و متن شهادته قوله:( أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ) فإنّ مجرّد النزول لا يكفي في المدّعى، لأنّ من أقسام النزول النزول بوحي من الشياطين، بأن يفسد الشيطان أمر الهداية الإلهيّة فيضع سبيلاً باطلاً مكان سبيل الله الحقّ، أو يخلط فيدخل شيئاً من الباطل في الوحي الإلهيّ الحقّ فيختلط الأمر، كما يشير إلى نفيه بقوله:( عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ عَدَداً ) (الجنّ: ٢٨) و قال تعالى:( وَ إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى‏ أَوْلِيائِهِمْ ) (الأنعام. ١٢١).

و بالجملة فالشهادة على مجرّد النزول أو الإنزال لا يخرج الدعوى عن حال الإبهام لكن تقييده بقوله:( بِعِلْمِهِ ) يوضح المراد كلّ الوضوح، و يفيد أنّ الله سبحانه أنزله إلى رسوله و هو يعلم ما ذا ينزل، و يحيط به و يحفظه من كيد الشياطين.

و إذا كانت الشهادة على الإنزال و الإنزال إنّما هو بواسطة الملائكة كما يدلّ عليه قوله تعالى:( مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) (البقرة: ٩٧) و قال تعالى في وصف هذا الملك المكرّم:( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) (التكوير: ٢١) فدلّ على أنّ تحت أمره ملائكة اُخرى و هم الّذين ذكرهم إذ قال:( كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ ) (عبس: ١٦).

و بالجملة لكون الملائكة وسائط في الإنزال فهم أيضاً شهداء كما أنّه تعالى شهيد و كفى بالله شهيداً.

و الدليل على شهادته تعالى ما أنزله في كتابه من آيات التحدّي كقوله تعالى:( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى‏ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) (إسراء: ٨٨) و قوله:( أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ

١٤٩

عِنْدِ غَيْرِ الله لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) (النساء: ٨٢)، و قوله:( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ الله ) (يونس. ٣٨).

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً ) لمّا ذكر تعالى الحجّة البالغة في رسالة نبيّه و نزول كتابه من عندالله، و أنّه من سنخ الوحي الّذي اُوحي إلى النبيّين من قبله و أنّه مقرون بشهادته و شهادة ملائكته و كفى به شهيداً حقّق ضلال من كفر به و أعرض عنه كائنا من كان من أهل الكتاب.

و في الآية تبديل الكتاب الّذي كان الكلام في نزوله من عندالله بسبيل الله حيث قال:( وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله ) و فيه إيجاز لطيف كأنّه قيل: إنّ الّذين كفروا و صدّوا عن هذا الكتاب و الوحي الّذي يتضمّنه فقد كفروا و صدّوا عن سبيل الله و الّذين كفروا و صدّوا عن سبيل الله إلخ.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ ) إلخ تحقيق و تثبيت آخر مقامه التأكيد من الآية السابقة، و على هذا يكون المراد بالظلم هو الصدّ عن سبيل الله كما هو ظاهر.

و يمكن أن يكون الآية في مقام التعليل بالنسبة إلى الآية السابقة، يبيّن فيها وجه ضلالهم البعيد و المعنى ظاهر.

( بحث روائي)

و في تفسير البرهان، في قوله تعالى:( وَ قَوْلِهِمْ عَلى‏ مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً ) عن ابن بابويه بإسناده عن علقمة عن الصادقعليه‌السلام في حديث قال: أ لم ينسبوا مريم بنت عمران إلى أنّها حملت بصبيّ من رجل نجّار اسمه يوسف؟

و في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) (الآية): قال: حدّثني أبي، عن القاسم بن محمّد عن سليمان بن داود المنقريّ، عن أبي حمزة، عن شهر بن حوشب: قال لي الحجّاج: يا شهر آية في كتاب الله قد أعيتني فقلت: أيّها الأمير أيّة آية هي؟ فقال: قوله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) و الله

١٥٠

إنّي لأمر باليهوديّ و النصرانيّ فيضرب عنقه ثمّ أرمقه بعيني فما أراه يحرّك شفتيه حتّى يخمد، فقلت: أصلح الله الأمير ليس على ما أوّلت قال: كيف هو: قلت: إنّ عيسى ينزل قبل يوم القيامة إلى الدنيا، فلا يبقى أهل ملّة يهوديّ و لا غيره إلّا آمن به قبل موته، و يصلّي خلف المهديّ قال: ويحك أنّى لك هذا؟ و من أين جئت به؟ فقلت: حدّثني به محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالبعليهم‌السلام فقال: و الله جئت بها من عين صافية.

و في الدرّ المنثور: أخرج ابن المنذر عن شهر بن حوشب قال: قال لي الحجّاج: يا شهر آية من كتاب الله ما قرأتها إلّا اعترض في نفسي منها شي‏ء قال الله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) و إنّي اُوتي بالاُسارى فأضرب أعناقهم و لا أسمعهم يقولون شيئاً، فقلت: رفعت إليك على غير وجهها، إنّ النصرانيّ إذا خرجت روحه ضربته الملائكة من قبله و من دبره و قالوا: أي خبيث إنّ المسيح الّذي زعمت أنّه الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة عبدالله و روحه و كلمته فيؤمن حين لا ينفعه إيمانه، و إنّ اليهوديّ إذا خرجت نفسه ضربته الملائكة من قبله و من دبره، و قالوا: أي خبيث إنّ المسيح الّذي زعمت أنّك قتلته، عبدالله و روحه فيؤمن به حين لا ينفعه الإيمان، فإذا كان عند نزول عيسى آمنت به أحياؤهم كما آمنت به موتاهم: فقال: من أين أخذتها؟ فقلت: من محمّد بن عليّ قال: لقد أخذتها من معدنها. قال شهر: و أيم الله ما حدّثنيه إلّا اُمّ سلمة، و لكنّي اُحببت أن اُغيظه.

أقول: و رواه أيضاً ملخّصاً عن عبد بن حميد و ابن المنذر، عن شهر بن حوشب، عن محمّد بن عليّ بن أبي طالب و هو ابن الحنفيّة، و الظاهر أنّه روى عن محمّد بن عليّ، ثمّ اختلف الرواة في تشخيص ابن الحنفيّة أو الباقرعليه‌السلام ، و الرواية - كما ترى - تؤيّد ما قدّمناه في بيان معنى الآية.

و فيه، أخرج أحمد و البخاريّ و مسلم و البيهقيّ في الأسماء و الصفات قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم و إمامكم منكم؟.

و فيه: أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يوشك أن

١٥١

ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً يقتل الدجّال، و يقتل الخنزير، و يكسر الصليب، و يضع الجزية، و يقبض المال، و تكون السجدة واحدة لله ربّ العالمين، و اقرؤا إن شئتم:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) موت عيسى بن مريم. ثمّ يعيدها أبو هريرة ثلاث مرّات.

أقول: و الروايات في نزول عيسىعليه‌السلام عند ظهور المهديّعليه‌السلام مستفيضة من طرق أهل السنّة، و كذا من طرق الشيعة عن النبيّ و الأئمّة من أهل بيته عليهم الصلاة و السلام.

و في تفسير العيّاشيّ، عن الحارث بن مغيرة: عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قول الله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) قال: هو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أقول: ظاهره و إن كان مخالفاً لظاهر سياق الآيات المتعرّضة لأمر عيسىعليه‌السلام لكن يمكن أن يراد به بيان جري القرآن، بمعنى أنّه بعد ما بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و جاء بكتاب و شريعة ناسخة لشريعة عيسى كان على كلّ كتابيّ أن يؤمن به و يؤمن بعيسى و من قبله في ضمن الإيمان به، فلو انكشف لكتابيّ عند الاحتضار مثلاً حقّيّة رسالة عيسى بعد بعثة رسول الله محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّما ينكشف في ضمن انكشاف حقّيّة رسالة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإيمان كلّ كتابيّ لعيسىعليه‌السلام إنّما يعدّ إيماناً إذا آمن بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصالة و بعيسىعليه‌السلام تبعاً، فالّذي يؤمن به كلّ كتابيّ حقيقة و يكون عليهم يوم القيامة شهيداً هو محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد بعثته، و إن كان عيسىعليه‌السلام كذلك أيضاً فلا منافاة، و الخبر التالي لا يخلو من ظهور مّا في هذا المعنى.

و فيه، عن ابن سنان عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله في عيسى:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) فقال: إيمان أهل الكتاب إنّما هو لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و فيه، عن جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) قال: ليس من أحد من جميع الأديان

١٥٢

يموت إلّا رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أميرالمؤمنينعليه‌السلام حقّاً من الأوّلين و الآخرين.

أقول: و كون الرواية من الجري أظهر. على أنّ الرواية غير صريحة في كون ما ذكرهعليه‌السلام ناظراً إلى تفسير الآية و تطبيقها، فمن المحتمل أن يكون كلاماً اُورد في ذيل الكلام على الآية و لذلك نظائر في الروايات.

و فيه، عن المفضّل بن عمر قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) ، فقال: هذه نزلت فينا خاصّة، إنّه ليس رجل من ولد فاطمة يموت و لا يخرج من الدنيا حتّى يقرّ للإمام و بإمامته، كما أقرّ ولد يعقوب ليوسف حين قالوا:( تَالله لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنا ) .

أقول: الرواية من الآحاد، و هي مرسلة، و في معناها روايات مرويّة في ذيل قوله تعالى:( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ الله ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) (فاطر: ٣٢) سنستوفي الكلام فيها إن شاء الله تعالى.

و فيه، في قوله تعالى:( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) (الآية): عن زرارة و حمران عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّي أوحيت إليك كما أوحيت إلى نوح و النبيّين من بعده فجمع له كلّ وحي.

أقول: الظاهر أنّ المراد أنّه لم يشذّ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من سنخ الوحي ما يوجب تفرّق السبيل و تفاوت الدعوة، لا أنّ كلّ ما اُوحي به إلى نبيّ على خصوصيّاته فقد اُوحي إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهذا ممّا لا معنى له، و لا أنّ ما اُوحي إليك جامع لجميع الشرائع السابقة، فإنّ الكلام في الآية غير موضوع لإفادة هذا المعنى، و يؤيّد ما ذكرناه من المعنى الخبر التالي.

و في الكافي، بإسناده عن محمّد بن سالم عن أبي جعفرعليه‌السلام : قال الله لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) ، و أمر كلّ نبيّ بالسبيل و السنّة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن الثماليّ عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: و كان بين آدم و بين نوح

١٥٣

من الأنبياء مستخفين و مستعلنين، و لذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسمّوا كما سمّي من استعلن من الأنبياء، و هو قول الله عزّوجلّ:( وَ رُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَ كَلَّمَ الله مُوسى‏ تَكْلِيماً ) يعني لم اُسمّ المستخفين كما سمّيت المستعلنين من الأنبياء.

أقول: و رواه في الكافي، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن محمّد بن الفضيل، عن أبي حمزة عنهعليه‌السلام ، و فيه: من الأنبياء مستخفين، و لذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسمّوا كما سمّي من استعلن من الأنبياء، و هو قول الله عزّوجلّ:( رُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ) يعني لم اُسمّ المستخفين كما سمّيت المستعلنين من الأنبياء (الحديث).

و المراد بالرواية على أيّ حال أنّ الله تعالى لم يذكر قصّة المستخفين أصلاً و لا سمّاهم، كما قصّ بعض قصص المستعلنين و سمّى من سمّى منهم. و من الجائز أن يكون قوله:( يعني لم أسمّ) إلخ من كلام الراوي.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي حمزة الثماليّ قال: سمعت أباجعفرعليه‌السلام يقول: لكن الله يشهد بما أنزل إليك في عليّ أنزله بعلمه و الملائكة يشهدون و كفى بالله شهيداً.

أقول: و روى هذا المعنى القمّيّ في تفسيره مسنداً عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام و هو من قبيل الجري و التطبيق فإنّ من القرآن ما نزل في ولايتهعليه‌السلام ، و ليس المراد به تحريف الكتاب و لا هو قراءة منهعليه‌السلام .

و نظيره ما رواه في الكافي، و تفسير العيّاشيّ، عن أبي جعفرعليه‌السلام ، و القمّيّ في تفسيره، عن أبي عبداللهعليه‌السلام : إنّ الّذينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا آل محمّد حقهم لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ (الآية

و ما رواه في المجمع، عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله( قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ ) أي بولاية من أمر الله بولايته.

١٥٤

( سورة النساء الآيات ١٧٠ - ١٧٥)

يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرّسُولُ بِالحَقّ مِن رَبّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنّ للّهِ‏ِ مَا فِي السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً( ١٧٠) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى‏ اللّهِ إِلّا الْحَقّ إِنّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى‏ ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى‏ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنّمَا اللّهُ إِلهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السّماوَاتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفَى‏ بِاللّهِ وَكِيلاً( ١٧١) لَن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للّهِ‏ِ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً( ١٧٢) فَأَمّا الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِن فَضْلِهِ وَأَمّا الّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً( ١٧٣) يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِن رَبّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً( ١٧٤) فَأَمّا الّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً( ١٧٥)

( بيان)

بعد ما أجاب عمّا اقترحه أهل الكتاب من سؤالهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تنزيل كتاب من السماء ببيان أنّ رسوله إنّما جاء بالحقّ من عند ربّه، و أنّ الكتاب الّذي جاء به من عند ربّه حجّة قاطعة لا ريب فيها استنتج منه صحّة دعوة الناس كافة إلى نبيّه و كتابه.

١٥٥

و قد كان بيّن فيما بيّن أنّ جميع رسله و أنبيائه - و قد ذكر فيهم عيسى - على سنّة واحدة متشابهة الأجزاء و الأطراف، و هي سنّة الوحي من الله فاستنتج منه صحّة دعوة النصارى و هم أهل كتاب و وحي إلى أن لا يغلوا في دينهم، و أن يلحقوا بسائر الموحّدين من المؤمنين، و يقرّوا في عيسى بما أقرّوا به هم و غيرهم في سائر الأنبياء أنّهم عباد الله و رسله إلى خلقه.

فأخذ تعالى يدعو الناس كافّة إلى الإيمان برسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ المبيّن أوّلاً هو صدق نبوّته في قوله:( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) (الآيات).

ثمّ دعا إلى عدم الغلوّ في حقّ عيسىعليه‌السلام لأنّه المتبيّن ثانياً في ضمن الآيات المذكورة.

ثمّ دعا إلى اتّباع كتابه و هو القرآن الكريم لأنّه المبيّن أخيراً في قوله تعالى:( لكِنِ الله يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ) (الآية).

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ ) ، خطاب عامّ لأهل الكتاب و غيرهم من الناس كافّة، متفرّع على ما مرّ من البيان لأهل الكتاب، و إنّما عمّم الخطاب لصلاحيّة المدعوّ إليه و هو الإيمان بالرسول كذلك لعموم الرسالة.

و قوله:( خَيْراً لَكُمْ ) حال من الإيمان و هي حال لازمة أي حال كون الإيمان من صفته اللّازمة أنّه خير لكم.

و قوله:( وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) ، أي إن تكفروا لم يزد كفركم عليكم شيئاً، و لا ينقص من الله سبحانه شيئاً، فإنّ كلّ شي‏ء ممّا في السماوات و الأرض لله فمن المحال أن يسلب منه تعالى شي‏ء من ملكه فإنّ في طباع كلّ شي‏ء ممّا في السماوات و الأرض أنّه لله لا شريك له فكونه موجوداً و كونه مملوكاً شي‏ء واحد بعينه، فكيف يمكن أن ينزع من ملكه تعالى شي‏ء و هو شي‏ء؟.

و الآية من الكلمات الجامعة الّتي كلّما أمعنت في تدبّرها أفادت زيادة لطف

١٥٦

في معناها و سعة عجيبة في تبيانها، فإحاطة ملكه تعالى على الأشياء و آثارها تعطي في الكفر و الإيمان و الطاعة و المعصية معاني لطيفة، فعليك بزيادة التدبّر فيها.

قوله تعالى: ( يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى الله إِلَّا الْحَقَّ ) ، ظاهر الخطاب بقرينة ما يذكر فيه من أمر المسيحعليه‌السلام أنّه خطاب للنصارى، و إنّما خوطبوا بأهل الكتاب - و هو وصف مشترك - إشعاراً بأنّ تسمّيهم بأهل الكتاب يقتضي أن لا يتجاوزوا حدود ما أنزله الله و بيّنه في كتبه، و ممّا بيّنه أن لا يقولوا عليه إلّا الحقّ.

و ربّما أمكن أن يكون خطاباً لليهود و النصارى جميعاً، فإنّ اليهود أيضاً كالنصارى في غلوّهم في الدّين، و قولهم على الله غير الحقّ، كما قال تعالى:( وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ الله ) التوبة: ٣٠، و قال تعالى:( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ الله ) (التوبة: ٣١)، و قال تعالى:( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى‏ كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ - إلى أن قال -وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ الله ) (آل عمران: ٦٤).

و على هذا فقوله:( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله ) إلخ تخصيص في الخطاب بعد التعميم أخذاً بتكليف طائفة من المخاطبين بما يخصّ بهم.

هذا، لكن يبعّده أنّ ظاهر السياق كون قوله:( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله ) ، تعليلاً لقوله:( لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ) ، و لازمه اختصاص الخطاب بالنصارى و قوله:( إِنَّمَا الْمَسِيحُ ) أي المبارك( عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) تصريح بالاسم و اسم الاُمّ ليكون أبعد من التفسير و التأويل بأيّ معنى مغاير، و ليكون دليلاً على كونه إنساناً مخلوقاً كأي إنسان ذي اُمّ:( وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى‏ مَرْيَمَ ) تفسير لمعنى الكلمة، فإنّه كلمة( كن ) الّتي اُلقيت إلى مريم البتول، لم يعمل في تكوّنه الأسباب العاديّة كالنكاح و الأب، قال تعالى:( إِذا قَضى‏ أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (آل عمران: ٤٧) فكلّ شي‏ء كلمة له تعالى غير أنّ سائر الأشياء مختلطة بالأسباب العاديّة، و الّذي اختصّ لأجله عيسىعليه‌السلام بوقوع اسم الكلمة هو فقدانه بعض الأسباب العاديّة في تولّده( وَ رُوحٌ مِنْهُ ) و الروح من الأمر، قال تعالى:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) (إسراء: ٨٥) و لمّا

١٥٧

كان عيسىعليه‌السلام كلمة( كن ) التكوينيّة و هي أمر فهو روح.

و قد تقدّم البحث عن الآية في الكلام على خلقة المسيح في الجزء الثالث من هذا الكتاب.

قوله تعالى: ( فَآمِنُوا بِالله وَ رُسُلِهِ وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا الله إِلهٌ واحِدٌ ) تفريع على صدر الكلام بما أنّه معلّل بقوله:( إِنَّمَا الْمَسِيحُ ) إلخ أي فإذا كان كذلك وجب عليكم الإيمان على هذا النحو، و هو أن يكون إيماناً بالله بالربوبيّة و لرسله - و منهم عيسى - بالرسالة، و لا تقولوا ثلاثة انتهوا حال كون الانتهاء أو حال كون الإيمان بالله و رسله و نفي الثلاثة خيراً لكم.

و الثلاثة هم الأقانيم الثلاثة: الأب و الابن و روح القدس، و قد تقدّم البحث عن ذلك في الآيات النازلة في أمر المسيحعليه‌السلام من سورة آل عمران.

قوله تعالى: ( سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) ، السبحان مفعول مطلق مقدّر الفعل، يتعلّق به قوله:( أَنْ يَكُونَ ) ، و هو منصوب بنزع الخافض، و التقدير: اُسبّحه تسبيحاً و اُنزّهه تنزيهاً من أن يكون له ولد، و الجملة اعتراض مأتّي به للتعظيم.

و قوله:( لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) حال أو جملة استيناف، و هو على أيّ حال احتجاج على نفي الولد عنه سبحانه، فإنّ الولد كيفما فرض هو الّذي يماثل المولّد في سنخ ذاته متكوّناً منه، و إذا كان كلّ ما في السماوات و الأرض مملوكاً في أصل ذاته و آثاره لله تعالى و هو القيّوم لكلّ شي‏ء وحده فلا يماثله شي‏ء من هذه الأشياء فلا ولد له.

و المقام مقام التعميم لكلّ ما في الوجود غير الله عزّ اسمه و لازم هذا أن يكون قوله:( ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) تعبيراً كنائيّاً عن جميع ما سوى الله سبحانه إذ نفس السماوات و الأرض مشمولة لهذه الحجّة، و ليست ممّا في السماوات و الأرض بل هي نفسها.

ثمّ لمّا كان ما في الآية من أمر و نهي هداية عامّة لهم إلى ما هو خير لهم في

١٥٨

دنياهم و اُخراهم ذيل الكلام بقوله:( وَ كَفى‏ بِالله وَكِيلًا ) أي وليّاً لشؤنكم، مدبّراً لاُموركم، يهديكم إلى ما هو خير لكم و يدعوكم إلى صراط مستقيم.

قوله تعالى: ( يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لله وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ) احتجاج آخر على نفي اُلوهيّة المسيحعليه‌السلام مطلقاً سواء فرض كونه ولداً أو أنّه ثالث ثلاثة، فإنّ المسيح عبد لله لن يستنكف أبداً عن عبادته، و هذا ممّا لا ينكره النصارى، و الأناجيل الدائرة عندهم صريحة في أنّه كان يعبدالله تعالى، و لا معنى لعبادة الولد الّذي هو سنخ إله و لا لعبادة الشي‏ء لنفسه و لا لعبادة أحد الثلاثة لثالثها الّذي ينطبق وجوده على كلّ منها، و قد تقدّم الكلام على هذا البرهان في مباحث المسيحعليه‌السلام .

و قوله:( لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ) تعميم للكلام على الملائكة لجريان الحجّة بعينها فيهم و قد قال جماعة من المشركين - كمشركي العرب -: بكونهم بنات الله فالجملة استطراديّة.

و التعبير في الآية أعني قوله:( يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ) عن عيسىعليه‌السلام بالمسيح، و كذا توصيف الملائكة بالمقرّبين مشعر بالعلّيّة لما فيهما من معنى الوصف، أي إنّ عيسى لن يستنكف عن عبادته و كيف يستنكف و هو مسيح مبارك؟ و لا الملائكة و هم مقرّبون؟ و لو رجي فيهم أن يستنكفوا لم يبارك الله في هذا و لا قرّب هؤلاء، و قد وصف الله المسيح أيضاً بأنّه مقرّب في قوله:( وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) (آل عمران: ٤٥).

قوله تعالى: ( مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً ) حال من المسيح و الملائكة و هو في موضع التعليل أي و كيف يستنكف المسيح و الملائكة المقرّبون عن عبادته و الحال أنّ الّذين يستنكفون عن عبادته و يستكبرون من عباده من الإنس و الجنّ و الملائكة يحشرون إليه جميعاً، فيجزون حسب أعمالهم، و المسيح و الملائكة يعلمون ذلك و يؤمنون به و يتّقونه.

و من الدليل على أنّ قوله:( مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ ) إلخ في معنى أنّ المسيح و الملائكة المقرّبين عالمون بأن المستنكفين يحشرون إليه قوله:( يَسْتَكْبِرْ )

١٥٩

إنّما قيّد به قوله:( مَنْ يَسْتَنْكِفْ ) لأنّ مجرّد الاستنكاف لا يوجب السخط الإلهيّ إذا لم يكن عن استكبار كما في الجهلاء و المستضعفين، و أمّا المسيح و الملائكة فإنّ استنكافهم لا يكون إلّا عن استكبار لكونهم عالمين بمقام ربّهم، و لذلك اكتفى بذكر الاستنكاف فحسب فيهم، فيكون معنى تعليل هذا بقوله:( مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ ) ، أنّهم عالمون بأنّ من يستنكف عن عبادته إلخ.

و قوله:( جمِيعاً ) أي صالحاً و طالحاً و هذا هو المصحّح للتفضيل الّذي يتلوه من قوله:( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) إلخ.

قوله تعالى: ( وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ الله وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً ) التعرّض لنفي الوليّ و النصير مقابلة لما قيل به من اُلوهيّة المسيح و الملائكة.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً ) قال الراغب: البرهان بيان للحجّة، و هو فعلان مثل الرجحان و الثنيان. و قال بعضهم: هو مصدر بره يبره إذا ابيضّ. انتهى، فهو على أيّ حال مصدر. و ربّما استعمل بمعنى الفاعل كما إذا اُطلق على نفس الدليل و الحجّة.

و المراد بالنور هو القرآن لا محالة بقرينة قوله:( وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ ) و يمكن أن يراد بالبرهان أيضاً ذلك، و الجملتان إذا تؤكّد إحداهما الاُخرى.

و يمكن أن يراد به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و يؤيّده وقوع الآية في ذيل الآيات المبيّنة لصدق النبيّ في رسالته، و نزول القرآن من عندالله تعالى، و كون الآية تفريعاً لذلك و يؤيّده أيضاً قوله تعالى في الآية التالية:( وَ اعْتَصَمُوا بِهِ ) لما تقدّم في الكلام على قوله:( وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِالله فَقَدْ هُدِيَ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (آل عمران. ١٠١) أنّ المراد بالاعتصام الأخذ بكتاب الله و الاتّباع لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَ اعْتَصَمُوا بِهِ ) ، بيان لثواب من اتّبع برهان ربّه و النور النازل من عنده.

و الآية كأنّها منتزعة من الآية السابقة المبيّنة لثواب الّذين آمنوا و عملوا الصالحات أعني قوله:( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدُهُمْ

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

وفي خاتمة هذه الآية بيّن الله تعالى العقاب الأليم الذي أعدّ لهؤلاء المخاصمين المعاندين الذين يرفضون الحقائق وينكرونها من دون أن يفكروا فيها ويدرسوها ولو قليلا ، بل ولا يكتفون برفضها إنما يعمدون إلى صدّ الآخرين عنها ، ويحولون بينهم وبين سماعها واستيعابها ، بيّن كلّ ذلك في قوله الموجز والبليغ :( سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ ) .

و «سوء العذاب» وإن كان بمعنى العذاب السيء ، ولكن حيث أن العذاب السيّء عقاب شديد وموجع للغاية في حدّ نفسه ، لذلك فسّره بعض المفسّرين بالعقاب الشديد.

ثمّ إنّ تكرار لفظة «يصدفون» عند بيان جزاء الصادفين عن آيات الله لأجل توضيح هذه الحقيقة ، وهي أنّ جميع البلايا والمحن التي تصيب هذا الفريق ناشئة من كونهم يعرضون عن الحقائق من دون أدنى تفكير ودراسة ، ولو أنّهم سمحوا لأنفسهم بالتفكير والدراسة ـ كباحث عن الحقيقة وشاك يطلب اليقين ـ لما أصيبوا بمثل هذه العواقب الأليمة والمصير المؤلم.

* * *

٥٢١

الآية

( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨) )

التّفسير

توقعات باطلة ومطاليب مستحيلة :

في الآيات السابقة تبيّنت هذه الحقيقة وهي : أنّنا أتممنا الحجّة على المشركين ، وآتيناهم الكتاب السماوي (أي القرآن) لهدايتهم جميعا ، لكي لا يبقى لديهم أي عذر يبرّرون به مخالفتهم للرسالة ومعارضتهم للدعوة.

وهذه الآية تقول : ولكن هؤلاء الأشخاص المخاصمين المعاندين بلغوا في لجاجهم وعنادهم حدّا لا يؤثّر فيهم حتى هذا البرنامج الواضح البيّن ، وكأنّهم يتوقعون وينتظرون هلاكهم ، أو ذهاب آخر فرصة ، أو ينتظرون أمورا مستحيلة.

فيقول أولا :( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ ) لتقبض أرواحهم.

( أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ) إليهم فيرونه ، حتى يؤمنوا به.

٥٢٢

ويراد من هذا الكلام في الحقيقة أنّهم ينتظرون أمورا مستحيلة ، لا أنّ مجيء الله سبحانه وتعالى أو رؤيته أمور ممكنة.

وهذا النوع من البيان والكلام أشبه ما يكون بمن يقول لشخص مجرم معاند ، بعد أن يريه ما لديه من وثائق كافية دامغة وهو مع كل هذا ينكر جنايته : إذا كنت لا تقبل بكل هذه الوثائق ، فلعلك تنتظر أن يعود المقتول إلى الحياة ، ويحضر في المحكمة ليشهد عليك بأنّك الذي قتلته؟

ثمّ يقول : أو أنّكم تنتطرون أن تتحقق بعض الآيات الإلهية والعلامات الخاصّة بيوم القيامة ونهاية العالم يوم تنسدّ كل أبواب التوبة :( أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ) ؟

وعلى هذا الأساس فإنّ عبارة( آياتِ رَبِّكَ ) وإن جاءت بصورة كليّة وعلى نحو الإجمال ، ولكنّها يمكن أن تكون بقرينة العبارات اللاحقة التي سيأتي تفسيرها ، بمعنى علامات القيامة ، مثل الزلازل المخيفة ، وفقدان الشمس والقمر والكواكب لأنوارها وأضوائها ، وما أشبه ذلك.

أو يكون المراد من ذلك المطاليب غير المعقولة التي يطلبونها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن جملتها أنّهم لا يؤمنون به إلّا أن تمطر عليهم السماء حجارة ، أو تمتلئ صحاري الحجاز القفراء اليابسة بالينابيع والنخيل!!

ثمّ يضيف عقيب ذلك قائلا :( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً ) فأبواب التوبة حينذاك مغلقة في وجوه الذين لم يؤمنوا إلى تلك الساعة ، لأنّ التوبة ساعتئذ تكون ذات صبغة اضطرارية إجبارية ، وفاقدة لمعطيات الإيمان الاختياري وقيمة التوبة النصوح.

هذا ، ويتضح ممّا قيل أن عبارة( أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً ) تعني أنّ الإيمان وحده لا ينفع في ذلك اليوم ، بل حتى أولئك الذين آمنوا من قبل ، ولكنّهم لم

٥٢٣

يعملوا عملا صالحا ، لم ينفعهم في ذلك اليوم أن يعملوا عملا صالحا ، لأنّ أوضاعا كتلك تسلب من الإنسان القدرة على ارتكاب الذنب ، وتقوده نحو العمل الصالح بصورة جبرية لا مفرّ منها ، فلا يكون لمثل هذا العمل أية قيمة ذاتية.

ثمّ إنّه في المقطع الأخير من الآية يوجه تهديدا شديدا إلى هؤلاء الأشخاص المعاندين ، إذ يقول بنبرة شديدة :( قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ) .

لا فائدة للإيمان بدون عمل :

إنّ من النقاط الهامّة التي نستفيدها من الآية الحاضرة هو أنّ الآية تعتبر طريق النجاة منحصرة في الإيمان ، ذلك الإيمان الذي يكتسب المرء فيه خيرا ويعمل في ظلّه عملا صالحا.

ويمكن أن ينطرح هذا السؤال وهو : هل الإيمان وحده غير كاف ولو خلّي من جميع الأعمال الصالحة؟

ونجيب : صحيح أنّ المؤمن يمكن أن يزلّ أحيانا ويرتكب بعض الذنوب المعاصي ثمّ يندم على فعله ويعمد إلى إصلاح نفسه ، ولكن من لم يعمل أيّ عمل صالح طوال حياته ، ولم يستغل الفرص الكثيرة والكافية لذلك ، بل على العكس من ذلك صدر منه كل قبيح ووقعت منه كل معصية ، واقترف كل إثم ، فإنّه يبدو من المستبعد جدا أن يكون من أهل النجاة ، ومن الذين ينفعهم إيمانهم ، لأنّه لا يمكن أن نصدّق بأنّ شخصا ينتمي إلى دين من الأديان ، ولكنّه لا يعمل بأي شيء من تعاليم ذلك الدين ولا مرّة واحدة في حياته ، بل كان يرتكب خلافها دائما ، إذ أنّ حالته وموقفه هذا دليل قاطع وبيّن على عدم إيمانه ، وعدم اعتقاده.

وعلى هذا الأساس يجب أن يقترن الإيمان ولو بالحدّ الأدنى من العمل الصالح ، ليدلّ ذلك على وجود الإيمان.

* * *

٥٢٤

الآيتان

( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠) )

التّفسير

رفض المفرّقين للصّفوف ونفيهم :

تعقيبا على التعاليم والأوامر العشر التي مرّت في الآيات السابقة ، والتي أمر في آخرها بإتباع الصراط الإلهي المستقيم ، وبمكافحة أي نوع من أنواع النفاق والتفرقة ، جاءت هذه الآية تتضمن تأكيدا على هذه الحقيقة ، وتفسيرا وشرحا لها.

فيقول تعالى أوّلا :( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ) (١) أي أنّ الذين اختلفوا في الدين وتفرقوا فرقا وطوائف لا يمتون إليك

__________________

(١) «الشيع» من حيث اللغة تعني الفرق والطوائف المختلفة وأتباع الأشخاص المختلفين ، وعلى هذا فإنّ مفرد كلمة يعني من يتبع مدرسة أو شخصا معينا ، هذا هو المعنى اللغوي لكلمة الشيعة.

٥٢٥

بصلة أبدا ، كما لا يرتبطون بالدين أبدا ، لأنّ دينك هو دين التوحيد ، ودين الصراط المستقيم ، والصراط المستقيم ما هو إلّا واحد لا أكثر.

ثمّ قال تعالى ـ مهدّدا موبّخا أولئك المفرّقين ـ( إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ ) أي أنّ الله هو الذي سيؤاخذهم بأعمالهم وهو عليم بها ، لا يغيب شيء منها.

بحثان

وهاهنا نقطتان يجب الالتفات إليهما :

١ ـ من هم المقصودون في الآية؟

يعتقد جماعة من المفسّرين أنّ هذه الآية نزلت في اليهود والنصارى الذين اختلفوا وتفرّقوا إلى فرق وطوائف مذهبية مختلفة ، وتباغضوا وتشاحنوا وتنازعوا فيما بينهم.

ولكن يرى آخرون أنّ هذه الآية إشارة إلى الذين يفرّقون صفوف هذه الأمّة (الإسلامية) بدافع التعصب وحبّ الاستعلاء ، وحب المنصب والجاه.

ولكن محتوى هذه الآية يمثل حكما عاما يشمل كل من يفرّق الصفوف ، وكل من يبذر بذور النفاق والاختلاف بين عباد الله بابتداع البدع ، من دون فرق بين من كان يفعل هذا في الأمم السابقة أو في هذه الأمة.

وما نلاحظه من الرّوايات المنقولة عن أهل البيتعليهم‌السلام وهكذا روايات أهل السنّة التي تصرّح بأن هذه الآية إشارة إلى مفرّقي الصفوف وأهل البدع في هذه

__________________

ولكن للفظة الشيعة معنى آخر في الاصطلاح ، فهو يطلق على من يتبع أمير المؤمنين علياعليه‌السلام ويشايعه ، ولا يصح أن نخلط بين المعنيين اللغوي والاصطلاحي.

٥٢٦

الأمّة ، فهو من باب بيان المصداق(١) ، لأنّه لو لم يذكر هذا المصداق لظن البعض أنّ المقصود بالآية هم الآخرون خاصّة ، وأنّ الضمير عائد إلى غيرهم فيبرّءوا بذلك ساحتهم.

ففي رواية منقولة عن الإمام الباقرعليه‌السلام في ذيل هذه الآية ـ على ما في تفسير علي بن إبراهيم ـ قال في تفسيرها : «فارقوا أمير المؤمنينعليه‌السلام وصاروا أحزابا»(٢) .

وهناك أحاديث أخر رويت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حول افتراق هذه الأمّة وتشتتها وتشرذمها إلى فرق ذكرها على سبيل التنبؤ ، جميعها تؤيّد هذه الحقيقة أيضا.

٢ ـ بشاعة التفرقة وزرع الاختلاف

هذه الآية تكرّر مرّة أخرى ـ وبمزيد من التأكيد ـ هذه الحقيقة ، وهي أنّ الإسلام دين الوحدة والاتحاد ، وأنّه يرفض كل لون من ألوان التفرقة وإلقاء الاختلاف في صفوف الأمة ، وتقول لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ عملك وبرنامجك لا يشابه عمل المفرقين للصفوف ، ناشري الخلاف فيها مطلقا ، وانهم بالتالي لا يمتون إليك ولا تمت إليهم بصلة أبدا ، وإنّ الله المنتقم الجبار سوف ينتقم منهم ، ويريهم عاقبة أعمالهم الشريرة.

إنّ التوحيد الحقيقي ليس واحدا من أصول الإسلام وقواعده فحسب ، بل إنّ جميع أصول الإسلام وفروعه ، وجميع برامجه المتنوعة ، تدور حول محور التوحيد ، وتنطلق منه وتنتهي إليه التوحيد روح سارية في كيان التعاليم الإسلامية برمتها ، والتوحيد هو الأساس الحضاري الذي تقوم عليه مبادئ الإسلام عامته.

ولكن هذا الدين الذي يتألف من أقصاه إلى أقصاه من عنصر الوحدة

__________________

(١) نور الثقلين ، المجلد الاوّل ، ص ٧٨٣.

(٢) نور الثقلين ، المجلد الاوّل ، ص ٧٨٣.

٥٢٧

والاتحاد قد وقع اليوم ـ مع شدة الأسف ـ فريسة بأيدي مفرّقي الصفوف ، ومثيري الاختلاف بحيث فقد وجهه الحقيقي.

فبيّن يوم وآخر ينعق ناعق ، ويثير نغمة جديدة خبيثة ، ويقوم معقّد أو معتوه أو غبيّ ويخالف حكما من أحكام الإسلام ، وبرنامجا من برامجه ، فيلتف حوله فريق من الجهلة والبسطاء ، فيفرز تمزقا جديدا.

على أنّ للجهل الذي يعاني منه فريق من العامّة دورا مؤثرا في هذه التفرقة والاختلافات ، لا يقل عن تأثير ذكاء الأعداء وفطنتهم ويقظتهم في إذكاء التمزّق الداخلي.

فربّما طرح البعض أمورا أكل عليه الدهر وشرب ، من جديد ، وأحدثوا حولها ضجّة غبيّة ليشغلوا بها بال الناس ، ولكن الإسلام ـ كما صرحت الآية غريب عن أعمالهم ، وأعمالهم غريبة عن الإسلام ، وستفشل في المآل كل محاولات المفرقين للصفوف ، تذهب أدراج الرياح ، ولن يحصدوا منها سوى الخيبة والخسران.

حملات كاتب «المنار» الظالمة على الشّيعة :

يعاني كاتب تفسير المنار من سوء ظن بالغ الشدّة بالنسبة إلى الشيعة ، وبنفس القدر يعاني من الجهل بعقائد الشيعة وتاريخهم.

ففي ذيل هذه الآية يعقد فصلا حول الشيعة تحت غطاء الدعوة إلى الاتحاد ، ويصفهم بأنّهم يفرقون الصفوف ويخالفون الإسلام ، وأنهم ممن يعملون ضدّ الإسلام ويقومون بنشاطات سياسية تخريبية تحت غطاء المذهب والعقيدة الدّينية ، وكأنّ وجود كلمة «شيعا» في الآية الحاضرة والتي ليس لها أي ارتباط بقضية التشيع والشيعة ذكّره بهذه الأمور التافهة ، فاندفع يتّهم هذه الجماعة المؤمنة من دون تورّع.

٥٢٨

إنّ كتاباته أفضل جواب على أقواله ، وخير شاهد على عدم معرفته بعقائد الشيعة ، وتأريخهم ، وذلك لأنّه :

١ ـ يربط بين الشّيعة و «عبد الله بن سبأ» اليهودي المشكوك في أصل وجوده من وجهة نظر التّأريخ ، والذي ليس له ـ على فرض وجوده ـ أدنى دور في تاريخ التشيع والشيعة!

بينما نجده من جانب آخر يربط بين الشيعة و «الباطنية» بل حتى بين الشيعة والفرقة البهائية التي هي أعدى أعداء الشيعة. على حين تكشف أدنى معرفة بتاريخ الشيعة أنّ هذه الأحاديث والمزاعم ليست سوى مزاعم وأحاديث خيالية وهمية ، بل محض افتراء واتهام واختلاق.

والأعجب من كل ذلك هو أنّ هذا الكاتب يربط بين جماعة «الغلاة» (وهم الذين يرفعون علياعليه‌السلام إلى درجة الألوهية غلوّا) وبين الشيعة في حين أن الفقه الشيعي أفرز فصلا للغلاة تحت عنوان إحدى الفرق والطوائف المقطوع بكفرها ، ويتهم الشيعة بأنّهم يعبدون أهل البيت ، وغير ذلك من النسب الباطلة الرخيصة.

إن من المسلّم أن كاتب «المنار» لو لم يكن قد تأثر بالأحكام المتسرّعة والعصبيات العمياء وسمح لنفسه بأن يسمع عقائد الشيعة من أفواهم أنفسهم ، ويأخذها منهم ، ويستقرئها من كتبهم لا من كتب أعدائهم لعرف جيدا بأنّ ما نسبه إلى الشيعة ليس مجرّد افتراءات وأكاذيب ، بل هو مهازل مضحكة.

والأعجب من ذلك كلّه أنّه عزا نشأة التشيع إلى الإيرانيين ، على أنّ التشيع كان فاشيا في العراق والحجاز ومصر قبل أن يتشيع الإيرانيون بقرون مديدة ، والوثائق التّأريخية شواهد حيّة على هذه الحقيقة.

٢ ـ إنّ ذنب الشيعة هو أنّهم عملوا بما صدر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قطعا ، والذي ورد ـ كذلك ـ في أوثق المصادر السنيّة وهو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّي تارك فيكم الثقلين

٥٢٩

ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي»(١) .

إنّ ذنب الشيعة هو أنّهم يعتبرون أهل البيت النبوي أدرى وأعرف من غيرهم بدين النّبي ورسالته ، فجعلوهم الملجأ والمرجع في المشاكل الدينية ، وأخذوا عنهم حقائق الإسلام.

أنّ ذنب الشيعة هو أنّهم فتحوا باب «الاجتهاد» أخذا بحكم المنطق والعقل ، والقرآن والسنة وبذلك منحوا الفقه الإسلامي فاعلية متحركة ، ولم يحصروه بـ «أربعة أشخاص» ويجبروا الناس على إتباعهم.

أليست خطابات القرآن والسنة وموجّهة إلى عموم المؤمنين في جميع الدهور والعصور؟

أم هل كان أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسل م يتّبعون في فهم الكتاب والسنة أشخاصا معينين ، فلما ذا نحصر الإسلام في حصار قديم من الجمود باسم «المذاهب الأربعة» الحنفي ، الحنبلي ، المالكي ، الشّافعي؟!

إن ذنب الشيعة هو أنّهم يقولون : إنّ صحابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل سائر المسلمين يجب أن يقيّموا بمقياس إيمانهم وفي ضوء أعمالهم ، فمن وافق عمله الكتاب والسنة كان صالحا ، ومن خالف عمله الكتاب والسنة ـ سواء أكان في عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو جاء بعده ـ رفض وطرد ، ولا تكفي مجرّد الصحبة ليتستر بها المجرمون والجناة ، فلا يجوز أن يقدّس ويحترم رجال كمعاوية الذي داس كل القيم وتجاهل جميع الضوابط الإسلامية ، وخرج على إمام زمانه الذي رضيت به الأمّة الإسلامية ، وعلى الأقل في ذلك العصر (ونعني علياعليه‌السلام ) ، وأراق تلك الدّماء الكثيرة! لا يجوز تقديس هذا الشخص وأمثاله لمجرّد صحبته لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا بعض الصحابة المرتزقة ممن مالأه وسار في ركابه.

__________________

(١) راجع صحيح الترمذي مجلد ٣ الصفحة ١٠٠ ، وسنن البيهقي المجلد الأوّل الصفحة ١٣ والمجلد الثّاني الصفحة : ٤٣١ ، وكنز العمال المجلد الأوّل الصفحة ١٥٤ و ١٥٩ ، والطبقات الكبرى لابن سعد المجلد الثاني ، الصفحة ٢ وكتبا أخرى.

٥٣٠

نعم هذه هي ذنوب الشيعة وهم يعترفون بها ، ولكن هل وجدتم في عالمنا هذا من هو أشدّ مظلوميّة من الشيعة ، بحيث تعتبر أفضل نقاط القوّة في تاريخها وعقائدها نقاط ضعف ، ويكيلون لها سيلا من الاتهامات والأكاذيب ، بل ولا يسمحون لها بأن تنشر معتقداتها في أوساط المسلمين وتعرضها عليهم بحرية ، كما يفعل غيرها من الطوائف ، بل يأخذون عقائدها من غيرها.

ترى إذا عملت جماعة بأمر نبيّهم في حين لا يعمل الآخرون به ، فهل يعتبر عمل تلكم الجماعة تفريقا للصفوف ، وشقا لعصى الأمّة؟ وهل يجب صرف هذه الجماعة عن مسارها ليتحقق الاتحاد ، أو تقويم من يسلك غير سبيل المؤمنين؟

٣ ـ إنّ تاريخ العلوم الإسلاميّة يشهد أنّ الشيعة كانوا السبّاقين في أكثر هذه العلوم والمعارف إلى درجة أنه اعتبر الشيعة ، البناة المؤسسين لعلوم الإسلام.(١)

إنّ الكتب التي ألّفها علماء الشيعة في مجال التّفسير والتّأريخ ، والحديث والفقه ، والأصول ، والرجال والفلسفة الإسلامية ، ليست أمورا يمكن تجاهلها وإنكارها أو إخفاؤها ، فهي موجودة في جميع المكتبات (اللهم إلّا اكثر مكتبات أهل السنة الذين لا يسمحون عادة بدخول هذه المؤلّفات والكتب إلى مكتباتهم ، في حين أننا نسمح بدخول مؤلفاتهم في مكتباتنا منذ قرون مديدة) وهذه الكتب شواهد حيّة على ما ذكرناه.

فهل هؤلاء الذين صنّفوا وألّفوا كل هذه الكتب حول الإسلام وتعاليمه ، في سبيل نشرها وبثّها وتعميقها ، كانوا أعداء للإسلام؟

وهل عرفتم عدوّا يحبّ الإسلام بهذه الدرجة؟!

أم هل يستطيع أحد أن يخدم الإسلام الحنيف بمثل هذه الخدمة الكبيرة ، إذا كان محبّا مخلصا ، وعاشقا متيّما؟!

هذا ونقول في ختام حديثنا : إذا أردتم أن نزيل كل هذا الاختلاف والفرقة

__________________

(١) للوقوف على أدلة هذا الموضوع راجع كتاب «تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام» ، وكتاب «أصل الشيعة وأصولها».

٥٣١

تعالوا نعمل شيئا آخر بدل التراشق بالاتهامات ، وذلك أن يتعرف بعضنا على بعض ويفهم بعضنا بعضا ، لأنّ مثل هذه النسب والافتراءات الباطلة ليس من شأنها أن تحقق الوحدة الإسلامية ، بل توجه ضربة قاضية إلى أسس الوحدة الإسلامية.

ثواب أكثر ، عقاب أقلّ :

في الآية اللاحقة إشارة إلى الرحمة الإلهية الواسعة ، وإلى الثواب الإلهي الواسع الّذي ينتظر الأفراد الصالحين المحسنين ، وقد كمّلت التهديدات المذكورة في الآية بهذه التشجيعات ويقول :( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) .

ثمّ قال :( وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها ) .

وللتأكيد يضيف هذه الجملة أيضا فيقول :( وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) وإنما يعاقبون بمقدار أعمالهم.

وأمّا ما هو المراد من «الحسنة» و «السّيئة» في الآية الحاضرة وهل هما خصوص «التوحيد» و «الشرك» أو معنى أوسع؟ فبين المفسّرين خلاف مذكور في محلّه ، ولكن ظاهر الآية يشمل كل عمل صالح وفكر صالح وعقيدة صالحة أو سيئة ، إذ لا دليل على تحديد أو حصر الحسنة والسيئة.

بحوث

وهاهنا نكات يجب التوجّه إليها والتوقف عندها :

١ ـ إنّ المقصود من قوله : «جاء به» كما يستفاد من مفهوم الجملة هو أن يجيء بالعمل الصالح أو السيء معه ، يعني إذا مثل الإنسان أمام المحكمة الإلهية العادلة يوم القيامة فإنّه لا يحضر بيد فارغة خالية من العقيدة والعمل الصالحين ، أو عقيدة أو أعمال طالحة ، بل هي معه دائما ، ولا تنفصل عنه أبدا ، فهي قرينته في

٥٣٢

الحياة الأبديّة وتحشر معه.

لقد استعمل مثل هذا التعبير في الآيات القرآنية الأخرى بهذا المعنى أيضا ففي الآية (٣٣) من سورة (ق) نقرأ قوله تعالى :( مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ) إنّ الجنّة لمن آمن بالله عن طريق الإيمان بالغيب ، وخافه وأتى إلى ساحة القيامة بقلب تائب مملوء بالإحساس بالمسؤولية.

٢ ـ أجر الحسنة ، عشرة أضعاف

نقرأ في الآية الحاضرة أن الحسنة يثاب عليها بعشرة أضعافها ، بينما يستفاد من بعض الآيات القرآنية أنه اقتصر على عبارة( أَضْعافاً كَثِيرَةً ) من دون ذكر عدد الأضعاف (كما في الآية ٢٤٥ من سورة البقرة) وفي بعض الآيات بلغ ثواب بعض الأعمال مثل الإنفاق إلى سبعمائة ضعف (كما في الآية ٢٦١ من سورة البقرة) بل ربّما إلى أكثر من ذلك مثل قوله :( إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ ) (١) .

إنّ من الواضح أنه لا تناقض بين هذه الآيات أبدا ، إذ إنّ أقل ما يعطى للمحسنين هو عشرة أضعاف الحسنة ، وهكذا يتصاعد حجم الثواب مع تعاظم أهمية العمل والحسنة ، ومع تعاظم درجة الإخلاص ، ومع ازدياد مقدار السعي والجهد والمبذول في سبيل العمل الصالح ، حتى يصل الأمر إلى أن تتحطم الحدود والمقادير ، ولا يعلم حدّ الثواب ومقداره إلّا الله تعالى.

فمثلا الإنفاق الذي يحظى بأهمية بالغة في الإسلام يتجاوز مقدار ثوابه الحدّ المتعارف للعمل الصالح الذي هو عشرة أضعاف الحسنة ، ويصل إلى «الأضعاف الكثيرة» أو «سبعمائة ضعف» وربّما أكثر من ذلك.

والاستقامة التي هي أساس جميع النجاحات والسعادات ، ولا تبقى عقيدة

__________________

(١) الزمر ، ١٠.

٥٣٣

أو عمل صالح ولا يستمر بدونها قد ذكر القرآن لها ثوابا خارجا عن حدّ الإحصاء والحساب.

ومن هنا أيضا يتضح عدم المنافاة بين هذه الآية وبين الرّوايات التي تذكر لبعض الأعمال الحسنة مثوبة أكثر من عشرة أضعاف.

كما أنّ ما نقرؤه في الآية (٨٤) من سورة القصص في قوله تعالى :( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ) لا ينافي الآية الحاضرة حتى نحتاج إلى القول بنسخ الآية ، لأنّ للخير معنى واسعا يتلاءم مع عشرة أضعاف أيضا.

٣ ـ لماذا كفارة يوم واحد ستين يوما؟

ربّما يتصور البعض : أنّ وجوب صوم «ستين يوما» من باب الكفارة في مقابل إفطار يوم من شهر رمضان ، والعقوبات الأخرى في الدنيا والآخرة من هذا القبيل ، لا تتلاءم مع الآية الحاضرة التي تقول : السيئة تجازى بمثلها فقط.

ولكن مع الالتفات إلى نقطة واحدة يتضح جواب هذا الاعتراض أيضا وهي أنّ المراد من المساواة بين «المعصية والعقوبة» ليس هو المساواة العددية ، بل لا بدّ من أخذ كيفية العمل أيضا بنظر الاعتبار.

إنّ إفطار يوم واحد من أيّام شهر رمضان المبارك مع ماله من الأهمية ، ليست عقوبته صوم يوم واحد بدله من باب الكفارة ، بل عليه أن يصوم أيّاما عديدة حتى تساوي مبلغ احترام ذلك اليوم من شهر رمضان المبارك ، ولهذا نقرأ في بعض الرّوايات أنّ عقوبة الذنوب في شهر رمضان أشد وأكبر من عقوبة الذنوب في الأيّام والأشهر الأخرى. كما أنّ ثواب الأعمال الصالحة في تلك الأيام أكثر وأزيد ، إلى درجة أنّ ثواب ختمة واحدة للقرآن في هذا الشهر يعادل ثواب سبعين ختمة للقرآن في الأشهر الأخرى.

٥٣٤

٤ ـ منتهى اللّطف الرّباني

إنّ النقطة الأجمل في المقام هي أنّ الآية الحاضرة جسّدت منتهى اللطف والرحمة الإلهية في حق الإنسان.

فهل عرفت أحدا بيده كل أزمة الإنسان وشؤونه ، كما أنّه محيط بجميع أعماله وشؤونه ، يبعث قادة ومرشدين معصومين لهدايته وإرشاده ، ليوفق إلى الإتيان بالعمل الصالح في هدي رسله ، مستفيدا من الطاقة الإلهية الممنوحة له ، مع ذلك يثيبه على حسناته بعشر أمثالها ، ولكنّه لا يجازيه على السيئة إلّا بمثلها ، ثمّ يجعل باب التوبة ونيل العفو مفتوحا في وجهه؟!

يقول أبو ذر : قال الصادق المصدّق [أي رسول الله] : «إنّ الله قال الحسنة عشر أو أزيد ، والسيئة واحدة أو أغفر ، فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره»(١) .

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد الرابع ، ص ٣٩٠.

٥٣٥

الآيات

( قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) )

التّفسير

هذا هو طريقي المستقيم

هذه الآية والآيات الأخر التي سنقرؤها فيما بعد والتي ختمت بها سورة الأنعام ، تعتبر خلاصة الأبحاث المطروحة في هذه السورة التي بدأت وانتهت بمكافحة الشرك والوثنية ، وتركزت أحاديثها على توضيح هذا الأمر. فقد بدأت هذه السورة بالدعوة إلى التوحيد ومكافحة الشرك ، وختمت بنفس ذلك البحث أيضا.

ففي البداية أمرت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يقول في مواجهة معتقدات المشركين والوثنيين ومزاعمهم الجوفاء والعارية عن المنطق السليم :( قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) أي طريق التوحيد ، ورفض كل أشكال الشرك والوثنية.

٥٣٦

والجدير بالذكر أنّ هذه الآية وطائفة كبيرة من الآيات السابقة واللاحقة لها تبدأ بجملة : «قل» ولعلّه لا توجد في القرآن الكريم سورة كررت فيها هذه الجملة بهذا القدر مثل هذه السورة ، وهذا يعكس في الواقع مدى شدّة المواجهة بين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين منطق المشركين.

كما أنّه يسدّ كل أبواب العذر في وجوههم ، لأنّ تكرار كلمة «قل» علامة على أنّ كل ما يقوله لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما هو بأمر الله ، بل هو عين كلام الله ، لا أنّها آراء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأفكاره وقناعاته الشخصية.

ومن الواضح أن ذكر كلمة «قل» في هذه الآيات وأمثالها في نص القرآن ، إنّما هو لحفظ أصالة القرآن ، وللدلالة على أن ما يأتي بعدها هو عين الكلمات التي أوحيت إلى رسول الله.

وبعبارة أخرى : الهدف منها هو الدلالة على أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يحدث فيها أيّ تغيير في الألفاظ التي أوحيت إليه ، وحتى كلمة «قل» التي هي خطاب إليه قد ذكرها عينا.

ثمّ إنّه تعالى يوضح «الصراط المستقيم» في هذه الآية والآيتين اللاحقتين.

فهو يقول أوّلا : إنّه الدين المستقيم الذي هو في نهاية الصحة والاستقامة ، وهو الأبدي الخالد القائم المتكفل لأمور الدين والدنيا والجسد والروح :( دِيناً قِيَماً ) (١) .

وحيث أنّ العرب كانوا يكنّون لإبراهيمعليه‌السلام محبّة خاصّة ، بل كانوا يصفون عقيدتهم ودينهم بأنّه دين إبراهيم هو هذا الذي أدعو أنا إليه لا ما تزعمونه :( مِلَّةَ إِبْراهِيمَ ) .

إبراهيمعليه‌السلام الذي أعرض عن العقائد الخرافية التي كانت سائدة في عصره وبيئته ، وأقبل على التوحيد( حَنِيفاً ) .

__________________

(١) «قيما» قد تأتي أيضا بمعنى الاستقامة ، وقد تأتي بمعنى الثبات والدوام وكذلك تأتي بمعنى القائم بأمور الدين والدنيا.

٥٣٧

و «الحنيف» يعني الشخص أو الشيء الذي يميل إلى جهة ما ، وأمّا في المصطلح القرآني فيطلق هذا الوصف على من يعرض عن عقيدة عصره الباطلة ويولي وجهه نحو الدين الحق والعقيدة الحقّة.

وكأنّ هذا التعبير جواب وردّ على مقالة المشركين الذين كانوا يعيبون على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مخالفته للعقيدة الوثنية التي كانت دين أسلافهم من العرب ، فقال النّبي في معرض الردّ على مقالتهم هذه ، بأنّ نقض السنن الجاهلية والإعراض عن العقائد الخرافية السائدة في البيئة ليس هو من فعلي فقط ، بل كان إبراهيم ـ الذي نحترمه جميعا ـ كذلك أيضا.

ثمّ يضيف للتأكيد قائلا :( وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ، بل هو بطل الكفاح ضد الوثنية ، وحامل الحرب ضد الشرك ، الذي لم يفتأ لحظة واحدة عن محاربته وكفاحه.

إنّ تكرار جملة( حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) في عدّة موارد من آيات القرآن الكريم مع قوله : «مسلما» أو بدونها ، إنّما هو للتأكيد على هذه المسألة وهي أنّ إبراهيم الذي يفتخر به العرب الجاهليون مبرّأ ومنزه عن كل هذه العقائد والأعمال الخاطئة(١) .

الآية اللاحقة تشير إلى أنّه على النّبي أن يقول : إنّي لست موحدا من حيث العقيدة فحسب ، بل إني أعمل كل عمل صالح :( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) ، فأنا أحيى لله ، وله أموت ، وأفدي بكل شيء لأجله ، وكل هدفي وكل حبّي بل كل وجودي له.

و «النسك» يعني في الأصل العبادة ، ولذا يقال : للعابد : ناسك ، ولكن هذه الكلمة تطلق في الأغلب على أعمال الحج فيقال : مناسك الحج.

وقد احتمل البعض أن يكون الموارد من «النسك» هنا هو «الأضحيّة» ،

__________________

(١) البقرة ، ١٣٥ ، آل عمران ، ٤٧ و ٩٥.

٥٣٨

ولكن الظاهر أنّه يشمل كل عبادة ، وهو إشارة أوّلا إلى الصّلاة كأهم عبادة ، ثمّ إلى سائر العبادات بشكل كلّي ، يعني صلاتي وكل عباداتي ، بل وحتى موتي وحياتي كلها له تعالى.

ثمّ في الآية الثالثة يضيف للتأكيد ، وإبطالا لأي نوع من أنواع الشرك والوثنية قائلا :( لا شَرِيكَ لَهُ ) .

ثمّ يقول في ختام الآية :( وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) .

كيف كان النّبيّ أوّل مسلم؟

في الآية الحاضرة وصف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه أوّل المسلمين.

وقد وقع بين المفسّرين كلام حول هذه المسألة ، لأنّنا نعلم أنّه إذا كان المقصود من «الإسلام» هو المعنى الواسع لهذه الكلمة فإنه يشمل جميع الأديان السماويّة ، ولهذا يطلق وصف المسلم على الأنبياء الآخرين أيضا ، فاننا نقرأ حول نوحعليه‌السلام :( وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) (١) .

ونقرأ حول إبراهيم الخليلعليه‌السلام وابنه إسماعيل أيضا :( رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ) (٢) .

وجاء في شأن يوسفعليه‌السلام :( تَوَفَّنِي مُسْلِماً ) (٣) .

على أن «المسلم» يعني الذي يسلّم ويخضع أمام أمر الله ، وهذا المعنى يصدق على جميع الأنبياء الإلهيين وأممهم المؤمنة ، ومع ذلك فإن كون رسول الإسلام أوّل المسلمين ، إمّا من جهة كيفية إسلامه وأهميته ، لأنّ درجة إسلامه وتسليمه أعلى وأفضل من الجميع ، وإمّا لأنّه كان أوّل فرد من هذه الأمّة التي

__________________

(١) يونس ، ٧٢.

(٢) البقرة ، ١٢٨.

(٣) يوسف ، ١٠١.

٥٣٩

قبلت بالإسلام والقرآن.

وقد ورد في بعض الرّوايات ـ أيضا ـ أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوّل من أجاب في الميثاق في عالم الذّر ، فإسلامه متقدم على إسلام الخلائق أجمعين(١) .

وعلى أي حال فإنّ الآيات الحاضرة توضح روح الإسلام ، وتعكس حقيقة التعاليم القرآنية وهي : الدعوة إلى الصراط المستقيم ، والدعوة إلى دين محطم الأصنام إبراهيم الخالص ، والدعوة إلى رفض أي نوع من أنواع الشّرك والثنوية هذا من جهة العقيدة والإيمان.

وأمّا من جهة العمل : الدّعوة إلى الإخلاص ، وإلى تصفية النيّة ، والإتيان بكل شيء لله تعالى ، الحياة لأجله ، والموت في سبيله ، وطلب كل شيء منه ، ومحبّته ، والانقطاع إليه ، وعن غيره ، والتولي له ، والتبرؤ من غيره.

فما أكبر الفرق بين ما جاء في الدعوة الإسلامية الواضحة ، وبين أعمال بعض المتظاهرين بالإسلام الذين لا يفهمون من الإسلام سوى التظاهر بالدين ، ولا يفكرون في جميع الموارد إلّا في الظاهر ، ولا يعتنون بالباطن والحقيقة ، ولهذا فليس حياتهم ومماتهم واجتماعهم ومفاخرهم وحريتهم سوى قشور خاوية لا غير.

* * *

__________________

(١) تفسير الصافي ، ذيل هذه الآية.

٥٤٠

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611