الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 611

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 611 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135061 / تحميل: 6382
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

١ ـ إنّهم يحبّون الله ولا يفكرون بغير رضاه ، فالله يحبّهم وهم يحبّونه ، كما تقول الآية :( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) .

٢ ـ و ٣ ـ يبدون التواضع والخضوع والرأفة أمام المؤمنين ، بينما هم أشداء أقوياء أمام الأعداء الظالمين ـ حيث تقول الآية :( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ ) .

٤ ـ إنّ شغلهم الشاغل هو الجهاد في سبيل الله ، إذ تقول الآية :( يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) .

٥ ـ وآخر صفة تذكرها الآية لهؤلاء العظام ، هي أنّهم لا يخافون لوم اللائمين في طريقهم لتنفيذ أوامر الله والدفاع عن الحق ، حيث تقول الآية :( وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِم ) فهؤلاء بالإضافة إلى امتلاكهم القدرة الجسمانية ، يمتلكون الجرأة والشّجاعة لمواجهة التقاليد الخاطئة ، والوقوف بوجه الأغلبية المنحرفة التي اعتمدت على كثرتها في الاستهزاء بالمؤمنين.

وهناك الكثير من الأفراد المعروفين بصفاتهم الطيبة ، لكنّهم يبدون الكثير من التحفظ أمام الفوضى السائدة في المجتمع وهجوم الأفكار الخاطئة لدى سواد الناس أو من الأغلبية المنحرفة ، ويتملكهم الخوف والجبن ، وسرعان ما يتركون الساحة ويخلونها للمنحرفين ، في حين أنّ القائد المصلح ومن معه من الأفراد بحاجة إلى الجرأة والشهامة لتطبيق أفكارهم واصلاحاتهم. وعلى عكس هؤلاء فالذين لا يمتلكون هذه الصفات الروحية الرفيعة ، يقفون سدّا وحائلا دون حصول الإصلاحات المطلوبة.

وتؤكّد الآية في الختام ـ على أنّ اكتساب أو نيل مثل هذه الامتيازات السامية (بالإضافة إلى الحاجة لسعي الإنسان نفسه) مرهون بفضل الله الذي يهبها لمن يشاء ، ولمن يراه كفؤا لها من عباده ، حيث تقول الآية في هذا المجال :( ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ) .

٤١

وفي النهاية تبيّن الآية أنّ مجال فضل الله وكرمه واسع ، وهو يعرف الأفكاء والمؤهلين من عباده ، وكما تقول الآية :( وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) .

لقد نقلت الرّوايات الإسلامية التي أوردها المفسّرون أقوالا كثيرة حول هوية الأشخاص المعنيين بهذه الآية ، فمن هم أنصار الإسلام هؤلاء الذين مدحهم الله بهذه الصفات؟

في الكثير من الرّوايات الواردة عن طرق الشيعة والسنة نقرأ أن هذه الآية نزلت في حقّ (علي بن أبي طالبعليه‌السلام ) وقتاله للناكثين والقاسطين والمارقين (مثيري حرب الجمل ، وجيش معاوية ، والخوارج) ، وممّا يدل على ذلك قول النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين رأى عجز قادة جيش الإسلام عن فتح حصن خيبر ، حيث وجهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم الخطاب في إحدى الليالي وفي مقر جيش الإسلام قائلا : لأعطين الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله ، كرارا غير فرار ، لا يرجع حتى يفتح الله على يده»(١) .

ونقرأ في رواية أخرى أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن هذه الآية فوضعصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يده الشريفة على كتف «سلمان» وقال ما مضمونه : «هذا وأنصاره وبني قومه ...» وبذلك تنبّأ النّبي عن إسلام الإيرانيين وجهودهم ومساعيهم المثمرة في خدمة هذا الدين في المجالات المختلفة ، ثمّ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو كان الدين (وفي رواية أخرى ـ لو كان العلم ـ) معلقا بالثريا لتناوله رجال من أبناء فارس»(٢) .

وذكرت روايات أخرى أن هذه الآية نزلت في شأن أنصار المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف الذين سيواجهون الارتداد والمرتدين بكل قوّة

__________________

(١) وقد ورد في تفسير (البرهان) و (نور الثقلين) العديد من الرّوايات ، منقولة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام في هذا المجال ، كما نقل (الثعلبي) وهو أحد علماء السنة هذه الرّوايات (راجع كتاب إحقاق الحق ، ج ٣ ، ص ٢٠٠).

(٢) مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٢٠٨ ـ نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٦٤٢ ـ أبو نعيم الأصفهاني في الحلية ، ج ٦ ، ص ٦٤ نقلوا هذا الحديث على الوجه التالي : «لو كان العلم منوطا بالثريا لتناوله رجال من أبناء فارس»

أمّاابن عبد البر فقد نقل الحديث على الصورة التّالية : «لو كان الدين عند الثريا لناله سلمان ...» وذلك في الإستيعاب ، ج ٢ ، ص ٥٧٧.

٤٢

وحزم ، ويملؤون العالم قسطا وعدلا وإيمانا.

وممّا لا شك فيه أنّه لا تناقض بين هذه الرّوايات الواردة في تفسير الآية الأخيرة ، لأنّ الآية ـ جريا على أسلوب القرآن الكريم ـ تبيّن مفهوما كليا عاما ، بحيث تعتبر «علي بن أبي طالبعليه‌السلام » أو «سلمان الفارسي» مصداقين مهمين ضمن هذا المفهوم الذي يشمل أفرادا آخرين يسيرون على نفس النهج ، حتى لو لم تتطرق الرّوايات إلى أسمائهم.

إنّ الأمر الذي يثير الأسف في هذا المجال ، هو تدخل العصبيات الطائفية والقومية في تفسير هذه الآية ، والتي أدخلت أفرادا لا يمتلكون أي كفاءة ولا يتمتعون بأي من الصفات المذكورة ضمن مصاديق هذه الآية واعتبرتهم ممّن نزلت الآية في شأنهم ، ومن هؤلاء الأفراد «أبو موسى الأشعري» الذي ارتكب تلك الحماقة التّأريخية المعروفة التي دفعت بالإسلام نحو هاوية السقوط ، ووضعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام في أحرج موقف(١) .

والغريب في هذا الأمر هو انتقال آثار التطرف الذي نلاحظه في الكتب العلمية ـ بشكل رهيب ـ إلى سواد الناس ، بل إلى متعلميهم ، وكأن هناك يدا خفية تسعى الى تشتيت صفوف المسلمين ، وتحول دون اتحاد كلمتهم ، وقد سرى هذا التطرف ليشمل تاريخ ما قبل الإسلام ، بحيث نرى هؤلاء المتطرفين وقد سمّوا شارعا فخما يقع بجوار بيت الله الحرام باسم «أبي سفيان» وهذا الشارع هو أكبر وأفخم بكثير من شارع «إبراهيم الخليلعليه‌السلام » مؤسس الكعبة الشريفة.

وأخذ أمثال هؤلاء المتطرفين يصمون كثيرا من المسلمين وبكل بساطة بالشرك ، لا لشيء إلّا لأنّ تحرك هؤلاء المسلمين لا يتفق مع أهوائهم وطريقتهم

__________________

(١) تفسير الطبري ، ج ٦ ، ص ١٨٤ ـ إلّا أنّ بعض الرّوايات ذكرت فقط «قوم أبي موسى» للإشارة إلى أهل اليمن الذين هبوا لنصرة الإسلام في أحرج اللحظات ، واستثنى أبو موسى تلميحا إلى قومه ، بينما تصرح الرّوايات الأخرى بأن (سلمان الفارسي) وقومه هم المشمولون بهذه الآية.

٤٣

الخاصة ، وكأن الإسلام ينحصر في هذه الطريقة ، أو كأنّهم ـ وحدهم ـ سدنة القرآن وحفظته دون غيرهم ، أو كأنّهم هم المكلفون ـ دون غيرهم ـ ببيان من هو المسلم ومن هو الكافر ، فيشيرون بكلمة واحدة إلى هذا بأنّه مشرك وإلى ذاك بأنّه مسلم ، وفق ما تشتهيه أهواؤهم ورغباتهم.

في حين أنّنا نقرأ في الرّوايات الواردة في تفسير الآيات الأخيرة ، أنّ الإسلام حين يصبح غريبا بين أهله يبرز أشخاص كسلمان الفارسي لإعادة مجد الإسلام وعظمته ، وهذه بشارة وردت على لسان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقوم سلمان.

والمثير للدهشة والحيرة أن كلمة التوحيد التي هي رمز لوحدة المسلمين ، أصبحت اليوم تستخدم من قبل جهات معلومة للتفريق بين المسلمين واتهامهم بالشرك والوثنية ، وقد خاطب أحد العلماء هؤلاء المتطرفين بقوله : إنّكم قد وصلت بكم الحالة إلى درجة أن إسرائيل إذا تسلطت على جماعة منكم فرحت جماعة أخرى بهذا التسلط ، وإذا ضربت إسرائيل الجماعة الأخرى فرحت الجماعة الاولى بهذا العمل ، أو ليس هذا هو ما يبتغيه ويهدف إليه أعداء الإسلام؟

ومن الإنصاف القول بأن اللقاءات المتكررة التي حصلت بيننا وبين عدد من علماء هؤلاء المتعصبين المتطرفين ، كشفت القناع عن أنّ الواعين منهم كثيرا ما لا يرضون بهذا الوضع ، وقد التقيت بأحد علماء اليمن في المسجد الحرام فقال أمام جمع من كبار مدرسي الحرم المكي : إنّ اتهام أهل القبلة بالشرك يعتبر ذنبا كبيرا ، استقبحه السلف الصالح كثيرا ، وقد صدر هذا القول منه حين كان الحديث يدور حول مسألة حدود الشرك ، وقد أعرب هذا العالم عن استيائه لما يقوم به بعض الجهلاء من اتهام الناس بالشرك مشيرا إلى أن هؤلاء يتحملون بعملهم هذا مسئولية عظيمة.

* * *

٤٤

الآية

( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) )

سبب النّزول

جاء في تفسير مجمع البيان ـ وتفاسير وكتب أخرى ـ نقلا عن عبد الله بن عباس قوله : أنّه كان في أحد الأيّام جالسا إلى جوار بئر زمزم ، ويروي للناس أحاديث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتقرب إليهم ـ فجأة ـ رجل كان يرتدي عمامة ، ويضع على وجهه نقابا ، وكان كلما تلا ابن عباس حديثا عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلا هو حديثا عن النّبي مستهلا قوله بعبارة : «قال رسول الله ...» فأقسم عليه ابن عباس أن يعرف نفسه ، فرفع هذا الشخص النقاب عن وجهه وصاح أيّها الناس من عرفني فقد عرفني ولم يعرفني فأنا جندب بن جنادة البدري أبو ذر الغفاري ، سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهاتين وإلّا صمتا ، ورأيته بهاتين وإلّا فعميتا ، يقول : «علي قائد البررة ، وقاتل الكفرة منصور من نصره ، مخذول من خذله».

وأضاف أبو ذر : أمّا إنّي صليت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوما من الأيّام صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد فرفع السائل يده الى السماء وقال : اللهم أشهد بأنّي سألت في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يعطني أحد شيئا ، وكان عليعليه‌السلام

٤٥

راكعا فأومى إليه بخنصره اليمنى وكان يختتم فيها فاقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره وذلك بعين النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا فرغ من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال : «اللهم موسى سألك فقال :( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) ، فأنزلت عليه قرآنا ناطقا :( سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما ) اللهم وأنا محمّد نبيّك وصفيك اللهمّ فاشرح لي صدري ويسّر لي أمري واجعل لي وزيرا عليّا أشدد به ظهري».

قال أبو ذررحمه‌الله : فما استتم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلامه حتى نزل جبرائيل من عند اللهعزوجل فقالعليه‌السلام : يا محمّد اقرأ ، قال : وما اقرأ؟ قال : اقرأ :( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) (١) .

وطبيعي أنّ سبب النّزول هذا قد نقل عن طرق مختلفة (كما سيأتي تفصيله) بحيث تختلف الرّوايات أحيانا بعضها عن البعض الآخر في جزئيات وخصوصيات الموضوع ، لكنها جميعا متفقة من حيث الأساس والمبدأ.

التّفسير

ابتدأت هذه الآية بكلمة «إنّما» التي تفيد الحصر ، وبذلك حصرت ولاية أمر المسلمين في ثلاث هم : الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والذين آمنوا وأقاموا الصّلاة وأدوا الزّكاة وهم في حالة الركوع في الصّلاة كما تقول الآية :( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) .

ولا شك أنّ الرّكوع المقصود في هذه الآية هو ركوع الصّلاة ولا يعني الخضوع ، لأنّ الشارع المقدس اصطلح في القرآن على كلمة الرّكوع للدلالة على الركن الرّابع للصلاة.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ج ٢ ، ص ٢١٠ ، في ذيل الآية البحوثة.

٤٦

وبالإضافة إلى الرّوايات الواردة في شأن نزول الآية ، والتي تتحدث عن تصدق علي بن أبي طالبعليه‌السلام بخاتمه في الصّلاة ـ وسنتطرق إليها بالتفصيل ـ فإنّ جملة( يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ) تعتبر دليلا على هذا الأمر ، وليس في القرآن أثر عن ضرورة أداء الزّكاة مقرونة بالخضوع ، بل ورد التأكيد على دفع الزّكاة بنيّة خالصة وبدون منة.

كما لا شك في أنّ كلمة «الولي» الواردة في هذه الآية ، لا تعني الناصر والمحب ، لأنّ الولاية التي هي بمعنى الحب أو النصرة لا تنحصر في من يؤدون الصّلاة ويؤتون الزّكاة وهم راكعون ، بل تشمل كل المسلمين الذين يجب أن يتحابوا فيما بينهم وينصر بعضهم البعض ، حتى أولئك الذين لا زكاة عليهم ، أو لا يمتلكون ـ أساسا ـ شيئا ليؤدوا زكاته ، فكيف يدفعون الزّكاة وهم في حالة الركوع؟! هؤلاء كلهم يجب أن يكونوا أحباء فيما بينهم وينصر بعضهم البعض الآخر.

ومن هنا يتّضح لنا أنّ المراد من كلمة «ولي» في هذه الآية ، هو ولاية الأمر والإشراف وحق التصرف والزعامة المادية والمعنوية ، خاصّة وقد جاءت مقترنة مع ولاية النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وولاية الله حيث جاءت الولايات الثلاث في جملة واحدة.

وبهذه الصورة فإن الآية تعتبر نصّا قرآنيا يدل على ولاية وإمامة علي بن أبي طالبعليه‌السلام للمسلمين.

شهادة الأحاديث والمفسّرين والمؤرخين :

لقد قلنا أنّ الكثير من الكتب الإسلامية ومصادر أهل السنّة تشتمل على العديد من الرّوايات القائلة بنزول هذه الآية في شأن الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وقد ذكرت بعض هذه الرّوايات قضية تصدق الإمام عليعليه‌السلام بخاتمه على السائل وهو في حالة الركوع ، كما لم تذكر روايات أخرى مسألة التصدق

٤٧

هذه ، بل اكتفت بتأييد نزول هذه الآية في حق عليعليه‌السلام .

وقد نقل هذه الرّوايات كل من ابن عباس ، وعمار بن ياسر ، وعبد الله بن سلام ، وسلمة بن كهيل ، وأنس بن مالك ، وعتبة بن حكيم ، وعبد الله بن أبي ، وعبد الله بن غالب ، وجابر بن عبد الله الأنصاري ، وأبي ذر الغفاري(١) .

وبالإضافة إلى الرواة العشرة المذكورين ، فقد نقلت كتب الجمهور (أهل السنة) هذه الرواية عن علي بن أبي طالبعليه‌السلام نفسه(٢) .

والطّريف أنّ كتاب (غاية المرام) ، قد نقل ٢٤ حديثا عن طرق أهل السنة و ١٩ حديثا عن طرق الشّيعة(٣) .

وقد تجاوز عدد الكتب التي أوردت هذه الرّوايات الثلاثين كتابا ، كلها من تأليف علماء أهل السنة ، منهم : محب الدين الطبري في ذخائر العقبى ص ٨٨ ، والعلامة القاضي الشوكاني في تفسير فتح القدير ج ٢ ، ص ٥٠ ، ومن هذه المصادر المعتمدة أيضا : جامع الأصول ، ج ٩ ، ص ٤٧٨ ، وفي أسباب النّزول للواحدي ص ١٤٨ ، وفي لباب النقول للسيوطي ص ٩٠ ، وفي تذكرة سبط ابن الجوزي ص ١٨ ، وفي نور الأبصار للشبلنجي ص ١٠٥ ، وفي تفسير الطبري ص ١٦٥ ، وفي كتاب الكافي الشافي لابن حجر العسقلاني ص ٥٦ ، وفي مفاتيح الغيب للرازي ج ٣ ، ص ٤٣١ ، وفي تفسير الدرّ المنثور ج ٢ ، ص ٣٩٣ ، وفي كتاب كنز العمال ج ٦ ، ص ٣٩١ ، وفي مسند ابن مردويه ومسند ابن الشيخ ، بالاضافة إلى صحيح النسائي ، وكتاب الجمع بين الصحاح الستة ، وكتب عديدة أخرى نقلت حديث الولاية(٤) .

اذن كيف يمكن ـ والحالة هذه ـ انكار هذه الأحاديث والمصادر التي نقلتها ،

__________________

(١) راجع كتاب إحقاق الحق ، ج ٢ ، ص ٣٠٩ ـ ٤١٠.

(٢) راجع كتاب (المراجعات) للسيد عبد الحسين شرف الدين ، ص ١٥٥.

(٣) منهاج البراعة ، ج ٢ ، ص ٣٥٠.

(٤) راجع كتاب إحقاق الحق ، ج ٢ ، وكتاب (الغدير) ج ٢ ، وكتاب المراجعات للاطلاع على تفاصيل أكثر بهذا الشأن.

٤٨

في حين أنّها اكتفت في مجال أسباب نزول آيات أخرى بحديث واحد أو حديثين؟! لعل التطرف الطائفي هو سبب تجاهل كل هذه الأحاديث والشهادات التي أدلى بها العلماء في مجال سبب نزول هذه الآية.

فلو أمكن التغاضي عن كل الرّوايات التي وردت في تفسير هذه الآية ، وهي روايات كثيرة للزم أن لا نعتمد على أي رواية في تفسير النصوص القرآنية ، لأنّنا قلما نجد أسبابا لنزول آية أو آيات قرآنية جاءت مدعومة بهذا العدد الكبير من الرّوايات ، كما ورد في هذه الآية الكريمة.

إنّ هذه القضية كانت بدرجة من الوضوح بحيث أنّ حسان بن ثابت الشاعر المعروف الذي عاصر واصطحب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ جاء بمضمون آية الولاية في قالب شعري من نظمه الذي قاله في حق علي بن أبي طالبعليه‌السلام حيث يقول :

فأنت الذي أعطيت إذ كنت راكعا

زكاة فدتك النفس يا خير راكع

فأنزل فيك الله خير ولاية

وبيّنها في محكمات الشرائع

وقد وردت هذه الأشعار باختلافات طفيفة في كتب كثيرة ، منها كتاب تفسير (روح المعاني) للآلوسي ، وكتاب (كفاية الطالب) للكنجي الشافعي ، وكتب كثيرة أخرى.

الرّد على اعتراضات ثمانية :

لقد أصرت جماعة من المتطرفين من أهل السنّة على تكرار الاعتراضات حول نزول هذه الآية في حق علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وكذلك على تفسير (الولاية) الواردة في الآية الكريمة بمعنى الإشراف والتصرف والإمامة ، وفيما يلي نعرض أهم هذه الاعتراضات للبحث والنقد ، وهي :

١ ـ قالوا : أنّ عبارة «الذين» المقترنة بكلمة «آمنوا» الواردة في الآية : لا يمكن أن تطبق على المفرد ، وذلك ضمن اعتراضهم على الرّوايات التي تقول

٤٩

بنزول هذه الآية في حق علي بن أبي طالبعليه‌السلام وقالوا : أنّ الآية أشارت بصيغة الجمع قائلة( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) فكيف يمكن أن تكون هذه الآية في حق شخص واحد كعليعليه‌السلام ؟

الجواب :

لقد زخرت كتب الأدب العربي بجمل تمّ التعبير فيها عن المفرد بصيغة الجمع ، وقد اشتمل القرآن الكريم على مثل هذه الجمل ، كما في آية المباهلة ، حيث وردت كلمة «نساءنا» بصيغة الجمع مع أنّ الرّوايات التي ذكرت سبب نزول هذه الآية أكّدت أن المراد من هذه الكلمة هي فاطمة الزهراءعليها‌السلام وحدها ، وكذلك في كلمة (أنفسنا) في نفس الآية وهي صيغة جمع ، في حين لم يحضر من الرجال في واقعة المباهلة مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير عليعليه‌السلام .

وكذلك نقرأ في الآية (١٧٢) من سورة آل عمران في واقعة أحد قوله تعالى :( الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً ) .

وقد بيّنا في الجزء الثّالث من تفسيرنا هذا عند تفسير هذه الآية ، أن بعض المفسّرين ذكروا أنّها نزلت بشأن (نعيم بن مسعود) الذي لم يكن إلّا واحدا.

ونقرأ في الآية (٥٢) من هذه السّورة ـ أيضا ـ قوله تعالى :( ... يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ ) في حين أن هذا الجزء من الآية نزل في شخص واحد ، كما جاء في سبب النّزول ، وهو (عبد الله بن أبي) وقد مضى تفسير ذلك.

وكذلك في الآية الاولى من سورة الممتحنة ، والآية الثامنة من سورة (المنافقون) والآيتين (٢١٥ و ٢٧٤) من سورة البقرة ، نقرأ فيها كلها عبارات جاءت بصيغة الجمع ، بينما الذي ذكر في أسباب نزول هذه الآيات هو أنّ المراد في كل منها شخص واحد.

والتعبير بصيغة الجمع عن شخص واحد في القرآن الكريم إمّا أن يكون بسبب أهمية موقع هذا الشخص ولتوضيح دوره الفعال ، أو لأجل عرض الحكم القرآني

٥٠

بصيغة كلية عامّة حتى إذا كان مصداقه منحصرا في شخص واحد ، وقد ورد في كثير من آي القرآن ضمير الجمع للدلالة على الله الواحد الأحد ، وذلك تعظيما له جلّ شأنه.

وبديهي أنّ استخدام صيغة الجمع للدلالة على الواحد يعتبر خلافا للظاهر ، ولا يجوز بدون قرينة ولكن مع وجود الرّوايات الكثيرة الواردة في شأن نزول الآية تكون لدينا قرينة واضحة على هذا التّفسير وقد اكتفى في موارد أخرى بأقل من هذه القرينة؟!

٢ ـ وقال الفخر الرّازي ومتطرفون آخرون : أنّ عليّاعليه‌السلام بما عرف عنه من خشوع وخضوع إلى الله ، بالأخص في حالة الصّلاة (إلى درجة ، أنّهم استلوا أثناء صلاته سهما كان مغروزا في رجله ، دون أن يحس بالألم كما في (الرواية المعروفة) فكيف يمكن القول بأنّه سمع أثناء صلاته كلام السائل والتفت إليه؟!

الجواب :

إنّ الذين جاؤوا بهذا الاعتراض قد غفلوا عن أن سماع صوت السائل والسعي لمساعدته لا يعتبر دليلا على الانصراف والتوجه إلى النفس ، بل هو عين التوجه إلى الله ، وعليعليه‌السلام كان أثناء صلاته يتجرد عن ذاته وينصرف بكله إلى الله ، ومعروف أن التنصل عن خلق الله يعتبر تنصلا أيضا عن الله ، وبعبارة أوضح : أن أداء الزّكاة أثناء الصّلاة يعد عبادة ضمن عبادة أخرى ، وليس معناه القيام مباح ضمن العبادة ، بعبارة ثالثة : إنّ ما يلائم روح العبادة هو الانشغال والانصراف أثناءها إلى الأمور الخاصّة بالحياة والشخصية ، بينما التوجه إلى ما فيه رضى الله تعالى يتلائم بصورة تامّة مع روح العبادة ويؤكّدها.

ومن الضروري أن تؤكّد هنا أن الذوبان في التوجه إلى الله ، ليس معناه أن يفقد الإنسان الإحساس بنفسه ، ولا أن يكون بدون إرادة ، بل الإنسان بإرادته يصرف عن نفسه التفكير في أي شيء لا صلة له بالله.

٥١

والطّريف في الأمر أنّ الفخر الرازي قد أوصله تطرّفه إلى الحدّ الذي اعتبر فيه ايماءة الإمام عليعليه‌السلام إلى السائل بأصبعه ـ لكي يأخذ الخاتم ـ مصداقا للفعل الكثير المنافي للصلاة ، في حين أن هناك أفعالا يمكن القيام بها أثناء الصّلاة أكثر بكثير من تلك الإيماءة التي قام بها الإمامعليه‌السلام ، وفي نفس الوقت لا تضر ولا تمس الصّلاة بشيء ، ومن هذه الأفعال قتل الحشرات الضارة كالحية والعقرب ، ورفع الطفل من محله ووضعه فيه ، وإرضاع الطفل الرضيع ، وكل هذه الأفعال لا تعتبر من الفعل الكثير في نظر الفقهاء ، فكيف يمكن القول بأن تلك الإيماءة تعتبر من الفعل الكثير؟!

وقد لا يكون هذا الخطأ غريبا عن عالم استولى عليه التطرف!

٣ ـ أمّا الاعتراض الآخر في هذا المجال ، فهو أنّ كلمة (ولي) الواردة في الآية تعني الصديق والناصر وأمثالهما ، وليست بمعنى المتصرف أو المشرف أو ولي الأمر.

الجواب : لقد بيّنا في تفسير هذه الآية أن كلمة (ولي) ـ الواردة فيها ـ لا يمكن أن تكون بمعنى الصديق أو الناصر ، لأنّ هاتين الصفتين قد ثبتت شموليتهما لكل المسلمين المؤمنين ، وليستا منحصرتين بالمؤمنين المذكورين في الآية والذين يقيمون الصّلاة ويؤتون الزّكاة أثناء الركوع ، وبعبارة أخرى : إنّ الصداقة والنصرة حكمان عامان ، بينما الآية ـ موضوع البحث ـ تهدف إلى بيان حكم خاص بشخص واحد.

٤ ـ وقالوا ـ أيضا ـ أنّ عليّا عليه‌السلام لم يكن يمتلك شيئا من حطام الدنيا حتى تجب عليه الزّكاة ، ولو قلنا بأنّ المراد في الآية هو الصداقة المستحبة فهي لا تسمى زكاة؟!

الجواب :

أوّلا : إنّ التّأريخ ليشهد على امتلاك عليعليه‌السلام المال الوفير الذي حصل عليه

٥٢

من كدّ يمينه وعرق جبينه وتصدق به في سبيل الله ، وقد نقلوا في هذا المجال أنّ عليّاعليه‌السلام أعتق وحرر ألف رقبة من الرقيق ، كان قد اشتراهم من ماله الخاص الذي كان حصيلة كدّه ومعاناته ، أضف إلى ذلك فقد كانعليه‌السلام يحصل ـ أيضا ـ على حصته من غنائم الحرب ، وعلى هذا الأساس فقد كان عليعليه‌السلام يمتلك ذخيرة بسيطة من المال ، أو من نخلات التمر ممّا يتعين فيهما الزّكاة.

ونحن نعلم ـ أيضا ـ ان الفورية الواجبة في أداء الزّكاة هي «فورية عرفية» لا تتنافى مع أداء الصّلاة ، أي لا فرق في أداء الزّكاة سواء كان وقت الأداء قبل وقت الصّلاة أو أثناءها.

ثانيا : لقد أطلق القرآن الكريم في كثير من الحالات كلمة الزّكاة على الصدقة المستحبة ، وبالأخص في السور المكية ، حيث وردت هذه الكلمة للدلالة على الصدقة المستحبة ، لأنّ وجوب الزّكاة كان قد شرع بعد هجرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة ، كما في (الآية ٣ من سورة النمل ، والآية ٣٩ من سورة الروم ، والآية ٤ من سورة لقمان ، والآية ٧ من سورة فصلت وغيرها).

٥ ـ ويقولون : إنّهم حتى لو أذعنوا بأن علياعليه‌السلام هو الخليفة بعد النّبي مباشرة ، فهذا لا يعني أن يكون عليعليه‌السلام وليا في زمن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ ولايته في زمن النّبي لم تكن ولاية فعلية ، بل كانت ولاية بالقوة ، وأن ظاهر الآية ـ موضوع البحث ـ يدل على الولاية الفعلية.

الجواب :

نلاحظ كثيرا في كلامنا اليومي ـ وكذلك في النصوص الأدبية ـ اطلاق اسم معين أو صفة خاصّة على أفراد لا يتمتعون بمزاياها الفعلية ، بل يمتلكون المزية أو المزايا بالقوة ، وهذا مثل أن يوصي انسان في حياته ويعين لنفسه وصيا وقيما على أطفاله فيكون الشخص الثّاني فور اقرار الوصية من قبل الشخص الأوّل وصيا وقيما ، ويدعي بهذين العنوانين حتى لو كان الإنسان الموصي باقيا على قيد

٥٣

الحياة.

ونحن نقرأ في الرّوايات التي نقلت في أسانيد الشّيعة والسنّة عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحقّ عليعليه‌السلام أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا عليا : وصيه وخليفته ، في حين أن هذين العنوانين لم يكونا ليتحققا في زمن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

والقرآن المجيد ـ أيضا ـ يشتمل على مثل هذه التعابير ، ومن ذلك ما ورد عن (زكريا) الذي توسل إلى الله بقوله :( .. فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) (١) والمعروف أنّ المراد ـ هنا ـ من كلمة (ولي) المشرف الذي يتولى شؤون الإشراف بعد الموت كما يعيّن الكثير من الناس في حياتهم من يقوم مقامهم بعد الموت ، ويسمّى الشخص المعين منذ لحظة تعيينه بالنائب أو الخليفة مع كون هذه الصفات بالقوة ، وليست بالفعل.

٦ ـ واحتجّوا ـ أيضا ـ بقولهم : لماذا لم يعتمد عليعليه‌السلام على هذا الدليل الواضح للدفاع عن حقّه؟

الجواب :

لقد لاحظنا ـ من خلال البحث الذي تناول الرّوايات في سبب نزول هذه الآية ـ أن هذا الحديث قد نقل في كتب عديدة عن الإمام عليعليه‌السلام نفسه ، ومن ذلك ما جاء في مسند «ابن مردويه» و «ابن الشّيخ» و «كنز العمال» وهذا بذاته دليل على استدلال الامام عليعليه‌السلام بهذه الآية الشريفة.

ونقل في كتاب (الغدير) القيم عن كتاب (سليم بن قيس الهلالي) حديث مفصل مفاده أنّ عليّاعليه‌السلام حين كان منشغلا بحرب صفين ، تحدث في ميدان الحرب امام جمع من الناس مستدلا بدلائل عديدة في إثبات حقّه ، وكان من جملة ما استدل به الإمامعليه‌السلام هذه الآية الكريمة(٢) .

__________________

(١) مريم ، ٥.

(٢) الغدير ، ج ١ ، ص ١٩٦.

٥٤

وجاء في كتاب (غاية المرام) نقلا عن أبي ذر رضى الله عنه أنّ عليّاعليه‌السلام استدل في يوم الشورى بهذه الآية(١) .

٧ ـ وقد ادعوا ـ أيضا ـ أنّ هذا التّفسير الذي أوردناه موضوع البحث لا يتناسب أو لا يتلاءم مع الآيات الواردة قبل وبعد هذه الآية ، لأن تلك الآيات جاءت فيها كلمة «الولاية» بمعنى الصداقة.

الجواب :

لقد قلنا مرارا ـ أنّ الآيات القرآنية بسبب نزولها بصورة تدريجية ، وبحسب الوقائع المختلفة تكون دائما ذات صلة بالأحداث التي نزلت الآيات في شأنها ، أي أنّ الآيات الواردة في سورة واحدة أو الآيات المتعاقبة ، ليست دائما ذات مفهوم مترابط ، كما لا تشير دائما إلى معنى واحد ، ولذلك يحصل كثيرا أن تروى لآيتين متعاقبتين حادثتان مختلفتان أو سببان للنزول ، وتكون النتيجة أن ينفصل مسير واتجاه كل آية ـ لصلتها بحادثة خاصّة ـ عن مسير الآية التّالية لها لاختلاف الحادثة التي نزلت بشأنها ، وبما أنّ آية( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ ) بدلالة سبب نزولها جاءت في شأن تصدق الإمام عليعليه‌السلام أثناء الركوع ، أمّا الآيات السابقة واللاحقة لها ـ كما رأينا وسنرى ـ فقد نزلت في أحداث أخرى ، لذلك لا يمكن الاعتماد ـ هنا كثيرا على مسألة ترابط المفاهيم في الآيات.

وهناك نوع من التناسب بين الآية ـ موضوع البحث ـ والآيات السابقة واللاحقة لها ، لأنّ الآيات الأخرى تضمنت الحديث عن الولاية بمعنى النصرة والإعانة ، بينما الآية ـ موضوع البحث ـ تحدثت عن الولاية بمعنى القيادة والتصرف ، وبديهي أنّ القائد والزعيم والمتصرف في أمور جماعة معينة ، يكون في نفس الوقت حاميا وناصرا وصديقا ومحبا لجماعته ، أي أن مسألة النصرة والحماية تعتبر من مستلزمات وشؤون الولاية المطلقة.

__________________

(١) عن كتاب (منهاج البراعة) ، ج ٢ ، ص ٣٦٣.

٥٥

٨ ـ وأخيرا قالوا : من أين أتي عليعليه‌السلام بذلك الخاتم النفيس؟

وسألوا أيضا : ألا يعتبر ارتداء خاتم بتلك القيمة العالية نوعا من الإسراف؟

ألا تعتبر هذه الأمور دليلا على عدم صحة التّفسير المذكور.

الجواب :

إنّ المبالغات الواردة بشأن قيمة الخاتم الذي تصدق به عليعليه‌السلام أثناء الركوع لا أساس لها مطلقا ، ولا يقوم عليها أي دليل مقبول ـ وما جاء في قيمة ذلك الخاتم من أنّه كان يعادل خراج الشام مبالغة أقرب إلى الأسطورة منه إلى الحقيقة ، وقد جاء ذلك في رواية ضعيفة(١) ولعل هذه الرواية وضعت لتشويه حقيقة القضية الأصلية وإظهارها بمظهر الأمر التافه ، وقد خلت الرّوايات الصحيحة ـ التي وردت حول سبب نزول هذه الآية ـ من أي أثر لمثل هذه الأسطورة.

وعلى هذا الإساس لم يتمكن أحد من تهميش هذه الواقعة التّأريخية التي أشارت إليها الآية الكريمة ـ بمثل هذه الحكاية التافهة.

* * *

__________________

(١) جاءت هذه الرواية مرسلة في تفسير البرهان ، ج ١ ، ص ٤٨٥.

٥٦

الآية

( وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦) )

التّفسير

جاءت هذه الآية مكملة لمضمون الآية السابقة ، وهي تؤكّد وتتابع الهدف المقصود في تلك الآية ، وتعلن للمسلمين أنّ النصر سيكون حليف أولئك الذين يقبلون القيادة المتمثلة في الله ورسوله والذين آمنوا ، الذين أشارت إليهم الآية السابقة.

وتصف الآية الذين قبلوا بهذه القيادة بأنّهم من حزب الله المنصورون دائما ، حيث تقول( وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ ) .

وتشتمل هذه الآية ـ أيضا ـ على قرينة أخرى تؤكّد المعنى المذكور في تفسير الآية السابقة لكلمة (الولاية) وهو الإشراف والتصرف والزعامة ، لأنّ عبارة (حزب الله) والتأكيد على أنّ الغلبة تكون لهذا الحزب ـ في الآية ـ لهما صلة بالحكومة الإسلامية ، ولا علاقة لهما بقضية الصداقة التي هي أمر بسيط وعادي ، وهذا يؤكّد بنفسه أنّ الولاية ـ الواردة في الآية ـ تعني الأشرف والحكم القيادة بالإسلام والمسلمين ، لأنّ معنى الحزب يتضمن التنظيم والتضامن

٥٧

والاجتماع لتحقيق أهداف مشتركة.

ويجب الانتباه إلى نقطة مهمّة وهي أنّ المراد بعبارة( الَّذِينَ آمَنُوا ) الواردة في هذه الآية ليسوا جميع الأفراد المؤمنين ، بل ذلك الشخص الذي ذكر في الآية السابقة وأشير إليه بأوصاف معينة.

أمّا قضية الغلبة أو الإنتصار كفلته الآية لحزب الله فهل هو الإنتصار المعنوي وحده ، أم يشمل الإنتصار على كل الأصعدة وفي جميع المجالات المادية والمعنوية؟

لا شك أنّ الإطلاق في الآية الكريمة يدل على الإنتصار الشامل في جميع الجبهات ، وبديهي أنّ أي جماعة تنضوي تحت لواء حزب الله ، أي تتحلى بالإيمان القوي وتلتزم التقوى وتدأب على العمل الصالح وتسعى إلى الاتحاد والتكافل والتضامن وتتمتع بالوعي الكافي ، فهي لا شك ستنال النصر في كل المجالات وعلى جميع الأصعدة ، والعجز الذي نشهده اليوم بين المسلمين عن نيل مثل هذا الإنتصار إنّما هو بسبب افتقارهم ـ في الغالب ـ إلى الصفات التي ذكرناها أعلاه ، والتي هي صفات الأفراد المنضوين تحت لواء حزب الله ، ولذلك فهم بدلا من أن يستخدموا قواهم وطاقاتهم في طرد الأعداء وحل مشاكلهم الاجتماعية يصرفون هذه القوى في إضعاف بعضهم البعض.

وقد ذكرت الآية (٢٢) من سورة المجادلة ـ أيضا ـ قسما من صفات حزب الله ، سنأتي على شرحها بإذن الله عند تفسير هذه السورة.

* * *

٥٨

الآيتان

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨) )

سبب النّزول

جاء في تفاسير (مجمع البيان) و (أبو الفتوح الرازي) و (الفخر الرازي) أن اثنين من المشركين يدعيان (رفاعة) و (سويد) تظاهرا بإعلان الإسلام ثمّ انضما إلى المنافقين ، وكان لبعض المسلمين صحبة مع هذين الشخصين ويظهرون لهما التودد ، فنزلت الآيتان الأخيرتان ونهت هؤلاء المسلمين من عملهما ذلك (ويتّضح هنا أنّه حين تتحدث هاتان الآيتان عن الولاية فالمقصود هو الصّحبة والصداقة والمودّة لأنّ سبب نزولهما يختلف عن سبب نزول الآيتين السابقتين ، ولا يمكن اعتبار إحداهما قرينة للأخرى).

أمّا بخصوص سبب نزول الآية الثّانية من الآيتين الأخيرتين ، فنقل أنّ جماعة من اليهود وبعضا من النصارى حين كانوا يسمعون صوت الأذان ، أو

٥٩

حينما يرون المسلمين وهم يقيمون الصّلاة يبادرون إلى الاستهزاء بهم ، لذلك حذر القرآن المجيد المسلمين عن التودد إلى هؤلاء وأمثالهم.

التّفسير

يحذر القرآن في الآية المؤمنين من اتّخاذ أصدقاء لهم من بين المنافقين والأعداء ، إلّا أنّه لأجل استثارة عواطف المؤمنين واستقطاب انتباههم إلى فلسفة هذا الحكم خاطبهم بهذا الأسلوب ، كما تقول الآية :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ ) .

ولتأكيد التحذير تقول الآية في الختام :( وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) بمعني أنّ التودد مع الأعداء والمنافقين لا يتناسب والتقوى والإيمان أبدا.

«الهزو» هو الكلام المصحوب بحركات تصور السخرية ، ويستخدم للاستخفاف والاستهانة بشيء أو شخص معين ، وفسّر «الراغب» في كتابه (المفردات) الهزو بأنّه يقال لفعل المزاح والاستخفاف الذي يصدر بشأن شخص في غيابه ، كما يطلق في حالات نادرة على المزاح أو الاستخفاف الذي يحصل بشخص معين في حضوره.

أمّا «اللعب» فهو الذي يصدر عبثا وبدون هدف صحيح ، أو خاليا من أي هدف وسمّيت بعض أفعال الصبيان لعبا لنفس السبب.

والآية الثّانية من الآيتين الأخيرتين تتابع البحث في النهي عن التودد إلى المنافقين وجماعة من أهل الكتاب الذين كانوا يستهزئون بأحكام الإسلام ، وتشير إلى واحد من ممارساتهم الاستهزائية دليلا وشاهدا على هذا الأمر ، فتقول :( إِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ) (١) .

__________________

(١) اختلف المفّسرون في الضمير الوارد في كلمة (اتّخذوها) هل يعود إلى الصّلاة أو إلى النداء وتفيد أسباب النّزول ـ التي

٦٠

بعد ذلك تبيّن الآية الكريمة دوافع هذا الاستهزاء ، فتذكر أنّ هذه الجماعة إنّما تفعل ذلك لجهلها وابتعادها عن الحقائق ، فتقول :( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ) .

* * *

الأذان شعار اسلامي كبير :

إنّ لكل أمّة ـ في أي عصر أو زمان كانت ـ شعار خاص بها تنادي به أفرادها وتستحث به همهم للقيام بواجباتهم الفردية والاجتماعية ، ويشاهد هذا الأمر في عالمنا الحاضر بصورة أوسع.

فالمسيحيون ينادون قومهم ويدعونهم لحضور الصّلاة في الكنائس بدق الناقوس وهذه هي طريقتهم وشعارهم سابقا وحاضرا.

والإسلام جاء بالأذان شعارا لدعوة المسلمين ، حيث يعتبر هذا الشعار أكثر تأثيرا وجاذبية في نفوس الناس قياسا بشعارات الديانات والأمم الأخرى ، فقد ذكر صاحب تفسير (المنار) أنّ بعض المسيحيين المتطرفين حين يستمعون إلى أذان المسلمين لا يجدون بدأ من يعترفوا بتأثيره المعنوي العظيم في نفوس سامعيه ، وينقل صاحب المنار ـ أيضا ـ أنّ بعضهم في إحدى مدن مصر شاهد جماعة من النصارى كانوا قد اجتمعوا أثناء أذان المسلمين للاستماع إلى هذا اللحن السماوي.

فأي شعار أقرب إلى الذوق وآنس إلى الأسماع من شعار يبدأ بذكر اسم الله ويشهد بتوحيده ووحدانيته وبنبوة رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويدعو إلى الفلاح والعمل الصالح ، وينتهي ـ كذلك ـ بذكر الله!! فبدايته اسم «الله» وختامه اسم (الله) في جمل موزونةمتناغمة ، ذات عبارات قصيرة واضحة المعنى وذات محتوى تربوي بنّاء.

ولذلك أكّدت الرّوايات الإسلامية كثيرا على ضرورة أداء الأذان ، فقد ورد

__________________

أشير إليها سابقا ـ صحة الاحتمالين ، لأنّ المنافقين والكفار كانوا يستهزئون بالآذان والصّلاة معا ، لكن ظاهر الآية يعزز الاحتمال الأوّل ، أي أن الضمير يعود على الصّلاة.

٦١

عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حديث معروف في هذا المجال ، أنّه قال : المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة(1) وهذا العلو هو نفس علو منزلة القيادة التي تدعو الناس إلى الله وإلى عبادة كالصّلاة.

إنّ صوت الأذان الذي ينطلق في أوقات الصّلاة من مآذن المدن الإسلامية بمثابة نداء الحرية والنسيم الذي يهب الحياة لروح الاستقلال والمجد ، ويدغدغ أذان المسلمين الأبرار ويثير الرعب والخوف في نفوس الأعداء الحاقدين ، ويعتبر رمزا من رموز بقاء الإسلام ، والدليل على هذا الأمر اعتراف أحد رجالات انجلترا المعروفين الذي قال أمام جمع من المسيحيين : ما دام اسم النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرفع على المآذن ، وما دامت الكعبة باقية وما دام القرآن يهدي ويوجه المسلمين ، فلا يمكن أن تترسخ قواعد سياسة الإنجليز في الأراضي الإسلامية(2) .

وبالرّغم من ذلك فانّ بعض المسلمين البؤساء أزاحوا مؤخرا هذا الشعار الإسلامي العظيم ـ الذي هو سند ومستمسك حيّ على صمود ومقاومة دينهم وثقافتهم على مر العصور ـ من إذاعاتهم ووضعوا مكانه برامج رخيصة ، نسأل الله أن يهدي هؤلاء للعودة إلى صفوف المسلمين.

ومن الطبيعي أنّ الأذان ـ لفحواه ومحتواه الجميل البديع ـ يحتاج أدائه إلى صوت مقبول ، لكي لا يشوّه الأداء غير المستساغ هذا المحتوى الجميل الجذاب.

نزول الأذان وحيا على النّبي :

وردت في بعض الرّوايات المنقولة من طرق أهل السنة قصص غريبة حول تشريع الأذان لا تتناسب ولا تتلاءم مع المنطق الإسلامي ، وممّا نقلوا في هذا الباب أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن سأله أصحابه عن إيجاد طريقة لمعرفة أوقات الصّلاة ،

__________________

(1) الوسائل : ج 5 ، ص 376 ، باب 2 ، ح 21.

(2) صاحب هذا القول «كلودستون» الذي يعتبر من السياسيين المتفوقين في عصره.

٦٢

استشار الصحابة ، فقدم كل منهم اقتراحا ، ومن ذلك رفع علم خاص في أوقات الصّلاة أو إشعال نار ، أو دق ناقوس ، لكن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يوافق على أي من هذه الاقتراحات ، ثمّ أن عبد الله بن زيد وعمر بن الخطاب ـ رأيا في المنام ـ شخصا يأمرهما بأداء الأذان لإعلان وقت الصّلاة ، وعلمهما كيفية هذا الأذان ، فقبل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك(1) .

إنّ هذه الرواية المختلقة تعتبر اهانة لمنزلة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الرفيعة ، حيث تدّعي أن النّبي ـ بدلا من أن يعتمد على الوحي ـ استند على حلم رآه أفراد من أصحابه في تشريع الأذان.

والصحيح في هذا الباب ما ورد في روايات أهل البيتعليهم‌السلام من أن الأذان نزل وحيا على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يحدثنا الإمام الصّادقعليه‌السلام أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان واضعا رأسه في حجر عليعليه‌السلام حين نزل جبرائيل بالأذان والإقامة ، فعلّمهما للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ رفع النّبي رأسه وسأل عليّا إن كان قد سمع صوت أذان جبرائيل ، فردّ عليعليه‌السلام بالإيجاب ، فسأله النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّة ثانية إن كان قد حفظ ذلك ، فردّ عليعليه‌السلام بالإيجاب أيضا ـ ثمّ طلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عليعليه‌السلام أن ينادي بلالا ـ الذي كان يتمتع بصوت جيد ـ ويعلمه الأذان والإقامة ، فاستدعى عليعليه‌السلام بلالا وعلمه الأذان والإقامة(2) .

وللاستزادة من التفاصيل في هذا الباب يمكن مراجعة كتاب (النص والاجتهاد) للسيد عبد الحسين شرف الدين ـ ص 128.

* * *

__________________

(1) تفسير القرطبي.

(2) الوسائل ، ج 4 ، ص 612.

٦٣

الآيتان

( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ(60) )

سبب النّزول

نقل عن عبد الله بن عباس أنّ جماعة من اليهود جاؤوا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطلبوا منه أن يشرح لهم معتقداته ، فأخبرهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه يؤمن بالله الواحد الأحد ، ويؤمن بأنّ كل ما نزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى وجميع الأنبياء هو الحقّ ، وأنّه لا يفرق بين أنبياء الله ، فأجابوه بأنّهم لا يعرفون عيسى ولا يؤمنون بنبوّته ، ثمّ قالوا للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّهم لا يعرفون دينا أسوأ من دينه! فنزلت هاتان الآيتان ردّا على هؤلاء الحاقدين.

٦٤

التّفسير

في هذه الآية يأمر الله نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسأل أهل الكتاب عن سبب اعتراضهم وانتقادهم للمسلمين ، وهل أنّ الإيمان بالله الواحد الأحد والإعتقاد بما أنزل على نبي الإسلام والأنبياء الذين سبقوه يجابه بالاعتراض والانتقاد ، حيث تقول الآية :( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ ) (1) .

وتشير هذه الآية ـ أيضا ـ إلى جانب آخر من جوانب صلف ووقاحة اليهود وتطرفهم غير المبرر ، ونظرتهم الضيقة الآحادية الجانب التي دفعت بهم إلى الاستهانة بكل شخص ودين غير أنفسهم ودينهم ، وهم لتطرفهم ذلك كانوا يرون الحقّ باطلا والباطل حقّا.

وتأتي في آخر الآية عبارة تبيّن علّة الجملة السابقة ، حيث تبيّن أن اعتراض اليهود وانتقادهم للمسلمين الذين آمنوا بالله وبكتبه ، ما هو إلّا لأنّ أكثر اليهود من الفاسقين الذين انغمسوا في الذنوب ، ولذلك فهم ـ لانحرافهم وتلوثهم بالآثام ـ يعيبون على كل انسان ظاهر اتباعه للصواب وسيره في طريق الحقّ حيث تؤكّد الآية :( وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ ) .

وبديهي أنّ المقاييس في محيط موبوء بالفساد والفسق ، تنقلب ـ أحيانا ـ بحيث يصبح الحقّ باطلا والباطل حقا ، ويصبح العمل الصالح والإعتقاد النزيه شيئا قبيحا مثيرا للاعتراض والانتقاد ، بينما يعتبر كل عمل قبيح شيئا جميلا جديرا بالاستحسان والمديح ، وهذه هي طبيعة المسخ الفكري الناتج عن الانغماس في الخطايا والذنوب إلى درجة الإدمان.

وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الآية تنتقد جميع أهل الكتاب ، وواضح أنّها

__________________

(1) إنّ كلمة «تنقمون» مشتقة من المصدر «نقمة» وتعني في الأصل إنكار شيء معين نطقا أو فعلا كما تأتي بمعنى إيقاع العقاب أو الجزاء.

٦٥

عزلت حساب الأقلية الصالحة بدقة عن الأكثرية الآثمة باستخدام كلمة (أكثركم) في العبارة الأخيرة منها.

الآية الثّانية تقارن المعتقدات المحرفة وأعمال أهل الكتاب والعقوبات التي تشملهم بوضع المؤمنين الأبرار من المسلمين لكي يتبيّن أي الفريقين يستحق النقد والتقريع ، وهذا بذاته جواب منطقي للفت انتباه المعاندين والمتطرفين في عصبيتهم.

وفي هذه المقارنة تطلب الآية من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسأل هؤلاء : هل أنّ الإيمان بالله الواحد وبكتبه التي أنزلها على أنبيائه أجدر بالنقد والاعتراض ، أم الأعمال الخاطئة التي تصدر من أناس شملهم عقاب الله؟

فتخاطب الآية النّبي بأن يسأل هؤلاء : إن كانوا يريدون التعرف على أناس لهم عند الله أشد العقاب جزاء ما اقترفوه من أعمال ، حيث تقول :( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ ) (1) .

ولا شك أنّ الإيمان بالله وكتبه ليس بالأمر غير المحمود ، وأن المقارنة الجارية في هذه الآية بين الإيمان وبين أعمال وأفكار أهل الكتاب ، هي من باب الكناية ، كما ينتقد انسان فاسد إنسانا تقيا فيسأل الإنسان التقي ردا على هذا الفاسد : أيّهما أسوأ الأتقياء أم الفاسدون.

بعد هذا تبادر الآية إلى شرح الموضوع ، فتبيّن أنّ أولئك الذين شملتهم لعنة الله فمسخهم قرودا وخنازير ، والذين يعبدون الطاغوت والأصنام ، إنّما يعيشون في هذه الدنيا وفي الآخرة وضعا أسوأ من هذا الوضع ، لأنّهم ابتعدوا كثيرا عن طريق الحقّ وعن جادة الصواب ، تقول الآية الكريمة :( مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ

__________________

(1) إن كلمة (مثوبة) وكذلك كلمة (ثواب) تعنيان ـ في الأصل ـ الرجوع أو العودة إلى الحالة الأولى ، كما تطلقان ـ أيضا ـ لتعنيا المصير والجزاء (الأجر أو العقاب) لكنهما في الغالب تستخدمان في مجال الجزاء الحسن ، وأحيانا تستخدم كلمة (الثواب) بمعنى العقاب وفي الآية جاءت بمعنى المصير أو العقاب.

٦٦

وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ ) (1) .

وسنتطرق إلى معنى المسخ الذي يتغير بموجبه شكل الإنسان ، وهل أنّ هذا التغير في الشكل يشمل صورته الجسمية ، أم المراد التغير الفكري والأخلاقي؟

وذلك عند تفسير الآية (163) من سورة الأعراف ، وبصورة مفصلة بإذن الله.

* * *

__________________

(1) إنّ كلمة (سواء) تعني في اللغة (المساواة والاعتدال والتساوي) وان وجه تسمية الصراط المستقيم في الآية :( سَواءِ السَّبِيلِ ) لأنّ جميع أجزاء هذا الطريق مستوية ولأن طرفيه متساويان وممهدان ، كما تطلق هذه التسمية على كل طريقة تتسم بالاعتدال وتخلو من الانحراف ، ويجب الانتباه هنا ـ أيضا ـ إلى أن عبارة( عَبَدَ الطَّاغُوتَ ) عطف على جملة( مَنْ لَعَنَهُ اللهُ ) وكلمة (عبد) فعل ماض وليست صيغة جمع لعبد مثلما احتمله البعض من المفسّرين وإطلاق تسمية( عَبَدَ الطَّاغُوتَ ) على أهل الكتاب ، إمّا أن يكون إشارة إلى عبادة العجل من قبل اليهود ، أو إشارة إلى انقياد أهل الكتاب الأعمى لزعمائهم وكبارهم المنحرفين.

٦٧

الآيات

( وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63) )

التّفسير

الآية الاولى من هذه آيات الثلاث ـ واستكمالا للبحث الذي تناولته الآيات السابقة حول المنافقين ـ تكشف عن ظاهرة الازدواجية النفاقية عند هؤلاء ، وتنبّه المسلمين إلى أنّ المنافقين حين يأتونهم يتظاهرون بالإيمان وقلبهم يغمره الكفر ، ويخرجون من عندهم المسلمين ولا يزال الكفر يملأ قلوبهم ، حيث لا يترك منطق المسلمين واستدلالهم وكلامهم في نفوس هؤلاء المنافقين أي أثر يذكر ، تقول الآية الكريمة :( وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ ) ولذلك يجب على المسلمين أن لا ينخدعوا بهؤلاء الذين يتظاهرون بالحقّ والإيمان ،

٦٨

ويبدون القبول لأقوال المسلمين رياء وكذبا.

وتؤكّد الآية أنّ المنافقين مهما تستروا على نفاقهم ، فإنّ الله يعلم ما يكتمون.

ثمّ تبيّن الآية الأخرى علائم من نوع آخر للمنافقين ، فتشير إلى أنّ كثيرا من هؤلاء في انتهاجهم طريق العصيان والظلم وأكل المال الحرام ، يتسابقون بعضهم مع بعضهم الآخر تقول الآية :( وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ) (1) أي أن هؤلاء يسرعون الخطى في طريق المعاصي والظلم ، وكأنّهم يسعون إلى أهداف تصنع لهم الفخر والمجد ، ويتسابقون فيما بينهم في هذا الطريق دون خجل أو حياء.

وتجدر الإشارة ـ هنا ـ إلى أنّ كلمة «إثم» قد وردت بمعنى (الكفر) كما وردت لتعني جميع أنواع الذنوب أيضا ، وبما أنّها اقترنت في هذه الآية بكلمة (العدوان) قال بعض المفسّرين : أنّها تعني الذنوب التي تضرّ صاحبها فقط ، على عكس العدوان الذي يتعدى طوره صاحبه إلى الآخرين ، كما يحتمل أن يكون مجيء كلمة (العدوان) بعد كلمة (الإثم) في هذه الآية ، من باب ما يصطلح عليه بذكر العام قبل الخاص ، وأن مجيء كلمة «السحت» بعدهما هو من قبيل ذكر الأخص.

وعليه فالقرآن قد ذم المنافقين ، أوّلا لكل ذنب اقترفوه ، ثمّ خصص ذنبين كبيرين لما فيهما من خطر ـ وهما الظلم وأكل الأموال المحرمة ، سواء كانت ربا أم رشوة أم غير ذلك.

وخلاصة القول أن القرآن الكريم قد ذم هذه الجماعة من المنافقين من أهل الكتاب ، لوقاحتهم وصلفهم وتعنتهم في ارتكاب أنواع الآثام وبالأخص الظلم

__________________

(1) لقد بيّنا معنى (السحت) في تفسير الآية (42) من هذه السورة ، وشرحنا معنى (يسارعون) في تفسير الآية (41) من هذه السورة أيضا ، في هذا الجزء.

أمّا كلمة (إثم) فقد شرحنا معانيها في تفسير الآية (219) من سورة البقرة ، في المجلد الأوّل.

٦٩

وأكل المال الحرام ، ولكي يؤكّد القرآن قبح هذه الأعمال ، قالت الآية :( لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

وتدل عبارة( كانُوا يَعْمَلُونَ ) على أنّ هذه الذنوب لم تكن تصدر عن هؤلاء صدفة ، بل كانوا يمارسونها دائما مع سبق إصرار.

بعد ذلك تحمل الآية الثالثة على علمائهم الذين أيّدوا قومهم على ارتكاب المعاصي بسكوتهم ، فتقول :( لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ) .

وقد أشرنا سابقا إلى أنّ كلمة (ربّانيون) هي صيغة جمع لكلمة (ربّاني) المشتقة من كلمة (رب) وتعني العالم أو المفكر الذي يدعو الناس إلى الله ، لكنّها قد أطلقت في كثير من الحالات على علماء المسيحيين ، أي رجال الدين المسيحي.

أمّا كلمة (أحبار) فهي صيغة جمع لكلمة (حبر) وهي تعني العلماء الذين يخلفون أثارا حسنة في المجتمع ، لكنّها أطلقت في موارد كثيرة على رجال الدين اليهود.

أمّا خلو هذه الآية من كلمة (العدوان) التي وردت في الآية قبلها ، فقد استدل بعضهم من ذلك على أن كلمة (الإثم) الواردة هنا تشمل جميع المعاني التي تدخل في إطار هذه الكلمة ومن ضمنها (العدوان).

لقد وردت في هذه الآية عبارة( قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ ) التي تختلف عمّا ورد في الآية السابقة ، ولعل هذه إشارة إلى أن العلماء مكلفون بردع الناس عن النطق بما يشوبه الذنب من قول ، كما هم مكلّفون بمنع الناس عن ارتكاب العمل السيء ، ولربّما تكون كلمة (قول) الواردة هنا بمعنى (العقيدة) أي أن العلماء الذين يهدفون إلى إصلاح أي مجتمع فاسد ، عليهم أوّلا أن يصلحوا أو يغيروا المعتقدات الفاسدة التي تشيع في هذا المجتمع ، فما لم يحصل التغيير الفكري لا يمكن توقع حصول اصلاحات جذرية في الجوانب العملية ، وبهذه الصورة تبيّن الآية للعلماء أنّ الثورة

٧٠

الفكرية هي الأساس والمنطلق لكل إصلاح يراد تحقيقه في كل مجتمع فاسد.

وفي الختام ، يمارس القرآن الكريم نفس أسلوب الذم الذي اتّبعه مع أهل المعاصي الحقيقيين ، فيذم العلماء الساكتين الصامتين التاركين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويقبح صمتهم هذا ، كما تقول الآية :( لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ ) .

وهكذا تبيّن أنّ مصير الذين يتخلون عن مسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العظيمة وخاصة إن كانوا من العلماء يكون كمصير أصحاب المعاصي ، وهؤلاء في الحقيقة شركاء في الذنب مع العاصين.

ونقل عن ابن عباس المفسّر المعروف قوله : بأنّ هذه الآية أعنف آية وبخت العلماء المتجاهلين لمسؤولياتهم الصامتين عن المعاصي.

وبديهي أنّ هذا الحكم لا ينحصر في علماء اليهود والنصاري ، بل يشمل كل العلماء مهما كانت دياناتهم إن هم سكتوا وصمتوا أمام تلوث مجتمعاتهم بالذنوب وتسابق الناس في الظلم والفساد ، ذلك لأنّ حكم الله واحد بالنسبة لجميع البشر.

وورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام في إحدى خطبه ، أنّ سبب هلاك الأقوام السابقة هو ارتكابهم للمعاصي وسكوت علمائهم عليهم وامتناعهم عن النهي عن المنكر فكان ينزل عليهم ـ لهذا السبب ـ البلاء والعذاب من الله ، وأن على الناس أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر لكي لا يتورطوا بمصير أولئك الأقوام(1) .

كما ورد بنفس هذا المضمون كلام للإمام عليعليه‌السلام في (نهج البلاغة) في آخر خطبته القاصعة (الخطبة 192) قولهعليه‌السلام : «فإنّ الله سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم إلّا لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلعن السفهاء لركوب المعاصي والحلماء لترك التناهي ...».

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 1 ، ص 649.

٧١

ويلفت الانتباه هنا أيضا أنّ الآية السابقة حين كانت تتحدث عن سواد الناس جاءت بعبارة (يعملون) بينما حين صار الحديث في هذه الآية عن العلماء جاءت بعبارة (يصنعون) والصنع هو كل عمل استخدمت فيه الدقة والمهارة ، بينما العمل يطلق على جميع الأفعال حتى لو كانت خالية من الدقة ، هكذا فإن هذه العبارة (يصنعون) تتضمن بحدّ ذاتها ذما أكبر ، وذلك لأنّ سواد الناس إن ارتكبوا ذنبا يكون ارتكابهم هذا ـ غالبا ـ بسبب جهلهم ، بينما العالم الذي لا يؤدي واجبه فهو يرتكب إثما عن دراية وعلم وتفكير ، ولهذا يكون عقابه أشد وأعنف من عقاب الجاهل.

* * *

٧٢

الآية

( وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) )

التّفسير

تبرز هذه الآية واحدا من المصاديق الواضحة للأقوال الباطلة التي كان اليهود يتفوهون بها ، وقد تطرقت الآية السابقة إليها ـ أيضا ـ ولكن على نحو كلي.

ويتحدث لنا التّأريخ عن فترة من الوقت كان اليهود فيها قد وصلوا إلى ذروة السلطة والقدرة ، وكانوا يمارسون الحكم على قسم مهم من المعمورة ، ويمكن الاستشهاد بحكم سليمان وداود كمثال على حكم الدولة اليهودية ، وقد استمر حكم اليهود بعدهما بين رقي وانحطاط حتى ظهر الإسلام ، فكان إيذانا بأفول الدولة اليهودية ، وبالأخص في الحجاز ، إذ أدى قتال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليهود بني النضير وبني قريظة ويهود خيبر إلى إضعاف سلطتهم بصورة نهائية.

٧٣

وفي ذلك الوضع كان البعض من اليهود حين يتذكرون سلطتهم القوية السابقة ، كانوا يقولون استهزاء وسخرية ـ إنّ يد الله أصبحت مقيدة بالسلاسل (والعياذ بالله) وأنّه لم يعد يعطف على اليهود! ويقال : أنّ المتفوه بهذا الكلام كان الفخاس بن عازوراء رئيس قبيلة بني القينقاع ، أو النباش بن قيس كما ذكر بعض المفسّرين.

وبما أنّ سائر أبناء الطائفة اليهودية أظهروا الرضى عن أقوال كبار قومهم هؤلاء ، لذلك جاء القرآن لينسب هذه الأقوال إلى جميعهم ، كما تقول الآية :( قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ) .

ويجب الانتباه إلى أنّ كلمة (اليد) تطلق في اللغة العربية على معان كثيرة ومنها (اليد العضوية) كما أن معانيها (النعمة) و (القدرة) و (السلطة) و (الحكم) ، وبديهي أنّ المعنى الشائع لها هو اليد العضوية.

ولما كان الإنسان ينجز أغلب أعماله المهمّة بيده ، فقد أطلقت من باب الكناية على معان أخرى.

وتفيدنا الكثير من الرّوايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام أنّ هذه الآية تشير إلى ما كان اليهود يعتقدون به حول القضاء والقدر والمصير والإرادة ، حيث كانوا يذهبون إلى أنّ الله قد عين كل شيء منذ بدء الخليقة ، وأنّ كل ما يجب أن يحصل قد حصل ، وأنّ الله لا يستطيع من الناحية العملية إيجاد تغيير في ذلك(1) .

وبديهي أنّ تتمة الآية التي تتضمن عبارة( بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ ) ـ كما سيأتي شرحه ـ تؤيد المعنى الأوّل ، كما يمكن أن يقترن المعنى الثّاني بالمعنى الأوّل في مسير واحد ، لأنّ اليهود حين أفل نجم سلطانهم ، كانوا يعتقدون أن هذا الأفول هو مصيرهم المقدر ، وأنّ يد الله مقيدة لا تستطيع فعل شيء أمام هذا المصير.

والله تعالى يرد على هؤلاء توبيخا وذما لهم ولمعتقدهم هذا بقوله :( غُلَّتْ

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 1 ، ص 649 ، تفسير البرهان ، ج 1 ، ص 486.

٧٤

أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا ) ثمّ لكي يبطل هذه العقيدة الفاسدة يقول سبحانه وتعالى( بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ) فلا إجبار في عمل الله كما أنّه ليس محكوما بالجبر الطبيعي ولا الجبر التّأريخي ، بل أنّ إرادته فوق كل شيء وتعمل في كل شيء.

والملفت للنظر هنا أنّ اليهود ذكروا اليد بصيغة المفرد كما جاء في الآية موضوع البحث ، لكن الله تعالى من خلال رده عليهم قد ثنّى كلمة اليد فقال :( بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ ) وهذا بالإضافة إلى كونه تأكيدا للموضوع ، هو كناية لطيفة تظهر عظمة جود الله وعفوه ، وذلك لأنّ الكرماء جدّا يهبون ما يشاءون للغير بيدين مبسوطتين ، أضف إلىذلك أنّ ذكر اليدين كناية عن القدرة الكاملة ، أو ربّما يكون إشارة إلى النعم المادية والمعنوية ، أو الدنيوية والأخروية.

ثمّ تشير الآية إلى أنّ آيات الله التي تفضح أقوال ومعتقدات هؤلاء تجعلهم يوغلون أكثر في صلفهم وعنادهم ويتمادون في طغيانهم وكفرهم بدلا من تأثيرها الايجابي في ردعهم عن السير في نهجهم الخاطئ حيث تقول الآية الكريمة :( وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً ) .

بعد ذلك تؤكّد الآية على أن صلف هؤلاء وطغيانهم وكفرهم سيجر عليهم الوبال ، فينالهم من الله عذاب شديد في هذه الدنيا ، من خلال تفشي العداء والحقد فيما بينهم حتى يوم القيامة ، فتقول الآية الكريمة :( وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ) .

وقد اختلف المفسّرون في معنى عبارة( الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ ) الواردة في هذه الآية ، لكنّنا لو تغاضينا عن الوضع الاستثنائي غير الدائم الذي يتمتع به اليهود في الوقت الحاضر ، ونظرنا إلى تاريخ حياتهم المقترن بالتشتت والتشرد ، لثبت لدينا أنّ هناك عامل واحد لهذا الوضع التّأريخي الخاص لهؤلاء ، وهو انعدام الاتحاد والإخلاص فيما بينهم على الصعيد العالمي ، فلو كان هؤلاء يتمتعون بالوحدة

٧٥

والصدق فيما بينهم ، لما عانوا طيلة تاريخ حياتهم من ذلك التشرد والضياع والتشتت والتعاسة.

وقد شرحنا قضية العداوة والبغضاء الدائمة بين أهل الكتاب بشيء من التفصيل عند تفسير الآية (14) من نفس هذه السورة.

وتشير الآية ـ في الختام ـ إلى المساعي والجهود التي كان يبذلها اليهود لتأجيج نيران الحروب ، وعناية الله ولطفه بالمسلمين في انقاذهم من تلك النيران المدمرة الماحقة ، فتقول( كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ ) .

وتعتبر هذه الظاهرة إحدى معاجز حياة النّبي الأكرم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ اليهود كانوا الأقوى بين أهل الحجاز والأعرف بمسائل الحرب ، بالإضافة إلى ما كانوا يمتلكون من قلاع حصينة وخنادق منيعة ، ناهيك عن قدرتهم المالية الكبيرة التي كانت لهم عونا في كل صراع بحيث أن قريشا كانوا يستمدون العون منهم ، وكان الأوس ، والخزرج يسعى كل منهما إلى التحالف معهم وكسب صداقتهم ونيل العون منهم في المجال العسكري ، لكنّهم فقدوا فجأة قدرتهم المتفوقة ـ هذه ـ وطويت صفحة جبروتهم دفعة واحدة ، بشكل لم يكن متوقعا لديهم ، فاضطر يهود بني النضير وبني قريظة وبني القينقاع إلى ترك ديارهم ، كما استسلم نزلاء قلاع خيبر الحصينة وسكان فدك من اليهود خاضعين للمسلمين ، وحتى أولئك الذين كانوا يقطنون في فيافي الحجاز منهم اضطروا إلى الخضوع أمام عظمة الإسلام ، فهم بالإضافة إلى عجزهم عن نصرة المشركين اضطروا إلى ترك ميدان النزال والصراع.

ثمّ تبيّن الآية ـ أيضا ـ أنّ هؤلاء لا يكفون عن نثر بذور الفتنة والفساد في الأرض فتقول :( وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً ) وتؤكّد أيضا قائلة :( وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) .

ويستدلّ من هذا على أن أسلوب المواجهة القرآني لليهود لم يكن يتركز على

٧٦

أساس عنصري مطلقا ، بل أن المعيار الذي استخدمه القرآن في توجيه النقد إليهم ، هو معيار الأعمال التي يمكن أن تصدر من أي جنس وعنصر أو طائفة ، وسنلاحظ في الآيات القادمة أنّ القرآن على الرغم من كل ما صدر من هؤلاء ، قد ترك باب التوبة مفتوحا أمامهم.

* * *

٧٧

الآيتان

( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66) )

التّفسير

بعد أن وجهت الآيات السابقة النقد لنهج وأسلوب أهل الكتاب ، جاءت هاتان الآيتان وفقا لما تقتضيه مبادئ التربية الإنسانية لتفتحا باب العودة والتوبة أمام المنحرفين من أهل الكتاب ، لكي يعودوا إلى الطريق القويم ، ولتريهم الدرب الحقيقي الذي يجب أن يسيروا فيه ، ولتثمن دور تلك الأقلية من أهل الكتاب التي عاشت في ذلك العصر لكنّها لم تواكب الأكثرية في أخطائها ، فتقول الآية الاولى في البدء :( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ) .

بل ذهبت إلى أبعد من هذا فوعدتهم بالجنّة ونعيمها ، إذ قالت :( وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) ، وهذه إشارة إلى النعم المعنوية الأخروية.

٧٨

ثمّ تشير الآية الثّانية إلى الأثر العميق الذي يتركه الإيمان والتقوى ـ في الحياة الدنيوية للإنسان ، فتؤكّد أنّ أهل الكتاب لو طبقوا التّوراة والإنجيل وجعلوهما منهاجا لحياتهم وعملوا لكل ما نزل عليهم من ربّهم ، سواء في الكتب السماوية السابقة أو في القرآن ، دون تمييز أو تطرف لغمرتهم النعم الإلهية من السماء والأرض ، فتقول الآية :( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) .

وبديهي أنّ المراد من اقامة التّوراة والإنجيل هو اتّباعهم لما بقي من التّوراة والإنجيل الحقيقيين في أيديهم في ذلك العصر ، ولا يعني اتّباع ما حرّف منهما والذي يمكن معرفته من خلال القرائن.

والمراد بجملة( ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ ) هو كل الكتب السماوية والأحكام الإلهية ، لأنّ هذه الجملة يفهم منها الإطلاق ، وهي في الحقيقة إشارة إلى النهي عن خلط العصبيات القومية بالوسائل الدينية الإلهية ، فليس المهم كون هذا الكتاب عربيا أو ذلك الكتاب يهوديا ، بل المهم هو الأحكام الإلهية الواردة فيهما وفي كل الكتب السماوية ، أي أنّ القرآن أراد أن يطفئ ـ ما أمكنه ذلك ـ نار العصبية القومية عند هؤلاء ، ويمهد السبيل إلى التغلغل في أعماق نفوسهم وقلوبهم ، لذلك فالضمائر الواردة في هذه الآية تعود إلى أهل الكتاب وهي : (إليهم ، من ربّهم ، من فوقهم ، ومن تحت أرجلهم) وما ذلك إلّا لكي يترك هؤلاء عنادهم وصلفهم ، ولكي لا يتصوروا أنّ الخضوع والاستسلام أمام القرآن يعني استسلام اليهود للعرب ، بل هو استسلام وخضوع لربّهم العظيم.

ولا شك أنّ المراد باقامة التّوراة والإنجيل هو العمل بالمبادئ السماوية الواردة فيهما ، لأنّ جميع المبادئ والتعاليم كما أسلفنا سابقا ـ التي جاء بها الأنبياء أينما كانوا ـ واحدة لا فرق بينها غير الفرق بين الكامل والأكمل ، ولا يتنافى هذا مع النسخ الذي ورد في بعض الأحكام الواردة في الشريعة اللاحقة

٧٩

لأحكام وردت في شريعة سابقة.

* * *

ومجمل القول هو أن الآية الأخيرة تؤكّد مرّة أخرى هذا المبدأ الأساسي القائل بأن اتباع التعاليم السماوية التي جاء بها الأنبياء ، ليس لأعمار الحياة الآخرة التي تأتي بعد الموت فحسب ، بل أنّ لها ـ أيضا ـ انعكاسات واسعة على الحياة الدنيوية المادية للإنسان ، فهي تقوي الجماعات وتعزز صفوفها وتكثف طاقاتها ، وتغدق عليها النعيم وتضاعف امكانياتها وتضمن لها الحياة السعيدة المقترنة بالأمن والاستقرار.

ولو ألقينا نظرة على الثروات الطائلة والطاقات البشرية الهائلة التي تهدر اليوم في عالم الإنسان نتيجة للانحراف عن هذه التعاليم ، وفي صنع وتكديس أسلحة فتّاكة ، وفي صراعات لا مبرر لها ومساع هدامة لرأينا أن ذلك كله دليل حيّ على هذه الحقيقة ، حيث أنّ الثروات التي تستخدم لإشاعة الدمار في هذا العالم ـ إذا أمعنا النظر جيدا ـ إن لم تكن أكثر حجما من الثروات التي تنفق في سبيل البناء ، فهي ليست بأقلّ منها.

إنّ العقول المفكرة التي تسعى وتعمل جاهدة ـ اليوم ـ لإكمال وتوسيع انتاج الأسلحة الحربية ، ولتوسيع بقعة النزاعات الاستعمارية ، إنّما تشكل جزءا مهما من الطاقات البشرية الخلاقة التي طالما احتاجها المجتمع البشري لرفع احتياجاته ، وكم سيصبح وجه الدنيا جميلا وجذابا لو كانت كل هذه الطاقات تستغل في سبيل الإعمار؟

وجدير بالانتباه هنا ـ أيضا ـ إلى أن عبارتي( مِنْ فَوْقِهِمْ ) و( مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) الواردتان في الآية الأخيرة ، معناهما أن نعم السماء والأرض ستغمر هؤلاء المؤمنين ، ما يحتمل أن تكونا كناية عن النعم بصورة عامّة كما ورد في الآثار الأدبية العربية وغيرها قولهم : (إنّ فلانا غرق في النعمة من قمة رأسه حتى

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611