الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245303 / تحميل: 6213
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

الآيتان

( وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥) )

التّفسير

إذ لم تنفع المواعظ :

إنّ هذه الآيات ـ التي ذكرت بعد استعراض قصص مجموعة من الأنبياء العظام ، مثل نوح وهود وصالح ولوط وشعيب ، وقبل أن يعمد القرآن الكريم إلى استعراض قصّة موسى بن عمران ـ إشارة إلى عدّة أصول وقواعد عامّة تحكم في جميع القصص والحوادث ، وهي قواعد وأصول إذا فكّرنا فيها كشفت القناع عن حقائق قيمة ترتبط بحياتنا ـ جميعا ـ ارتباطا وثيقا.

في البداية يقول :( وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ) فالصعاب والمشاق والبلايا التي تصيب الأفراد إنّما يفعلها الله بهم عسى أن ينتبهوا ، ويتركوا طغيانهم ، ويرجعوا إلى الله ويتوبوا إليه.

١٢١

وذلك لأنّ الناس ما داموا في الرخاء والرفاه فهم في غفلة ولما يكون لديهم استعداد وقابلية لقبول الحق. أمّا عند ما يتورّطون في المحنة والبلاء ، يشرق نور فطرتهم وتوحيدهم ويتذكرون الله قهرا بلا اختيار ، وتستعد قلوبهم لقبول الحق.

ولكن هذه اليقظة والنهضة ليست عند الجميع على حدّ سواء ، فهي في كثير من الناس سريعة وعابرة وغير ثابتة ، وبمجرّد أن تزول المشكلات يعودون إلى غفلتهم وغفوتهم ، ولكن هذه المشكلات تعتبر بالنسبة إلى جماعة آخرين نقطة تحول في الحياة ، ويعودون إلى الحق إلى الأبد.

والأقوام الذين جرى الحديث ـ في الآيات السابقة ـ حولهم كانوا من النمط الأوّل.

ولهذا قال تعالى في الآية اللاحقة : عند ما لم تغيّر تلك الجماعات سلوكها ومسيرها تحت ضغط المشكلات والحوادث ، بل بقوا في الضلال ، رفعنا عنهم المشكلات وجعلنا مكانها النعم والرخاء فازدهرت حياتهم وكثر عددهم وزادت أموالهم( ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا ) .

و «عفوا» من مادة «عفو» التي تكون أحيانا بمعنى الكثرة ، وأحيانا بمعنى الترك والإعراض ، وتارة تكون بمعنى محو آثار الشيء. ولكن لا يبعد أن يكون أصل جميع تلك الأمور هو الترك ، غاية ما هنالك قد يترك شيء لحاله حتى يتجذر ، ويتوالد ويتناسل ويزداد ، وربّما يترك حتى يهلك وينهدم تدريجا وشيئا فشيئا. ولهذا جاء بمعنى الزيادة والهلاك معا.

وقد احتمل المفسّرون في الآية المبحوثة ثلاثة احتمالات أيضا :

الأوّل : أنّنا أعطيناهم إمكانيات حتى يزدادوا فيستعيدوا كل ما فقدوه ـ في فترة الشدّة والضراء ـ من الأفراد والأموال.

الآخر : أنّنا أعطيناهم نعما كثيرة جدا بحيث غرتهم ، فنسوا الله ، وتركوا شكره.

الثّالث : أنّنا أعطيناهم نعما كي يستطيعوا بها أن يزيلوا أثار فترة النكبة

١٢٢

ويمحوها.

إنّ هذه التفاسير وإن كانت متفاوتة من حيث المفهوم ، ولكنّها من حيث النتيجة متقاربة فيما بينها.

ثمّ أضاف : أنّهم عند زوال المشكلات بدل أن يلتفتوا إلى هذه الحقيقة وهي «النعمة» و «النقمة» بيد الله ، وأنّهم راجعون إلى الله ، يتذرعون ـ لخداع أنفسهم ـ بهذا المنطق ، وهو إذا تعرضنا للمصائب والبلايا ، فإنّ ذلك ليس بجديد ، فقد مس آباءنا الضراء والسراء ، وكانت لهم حالات رخاء وحالات بلاء ، فالحياة لها صعود ونزول ، والصعاب أمواج غير ثابتة وسريعة الزوال( وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ ) . فهي إذن قضية طبيعية ، ومسألة اعتيادية.

فيقول القرآن الكريم في الختام : إنّ الأمر عند ما بلغ إلى هذا الحد ، ولم يستفيدوا من عوامل التربية ـ أبدا ـ بل ازدادوا غرورا وعنجهيّة وتكبرا أهلكناهم فجأة ومن غير سابق إنذار ، لأنّ ذلك أشد إيلاما ونكالا لهم ، وعبرة لغيرهم :( فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) .

* * *

١٢٣

الآيات

( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) )

التّفسير

التّقدم والعمران في ظل الإيمان والتقوى :

في الآيات الماضية وقع البحث فيما جرى لأقوام مثل قوم هود وصالح وشعيب ونوح ولوط على نحو الإجمال ، وإن كانت تلك الآيات كافية لبيان

١٢٤

النتائج المشحونة بالعبر في هذه القصص ، ولكن الآيات الحاضرة تبيّن النتائج بصورة أكثر وضوحا فتقول :( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) ، أي لو أنّهم سلكوا سبيل الإيمان والتقوى ، بدل الطغيان والتمرد وتكذيب آيات الله والظلم والفساد ، لم يتخلصوا من غضب الله وعقوبته فسحب ، بل لفتحت عليهم أبواب السماء والأرض.

ولكن للأسف ـ تركوا الصراط المستقيم الذي هو طريق السعادة والرفاه والأمن ، وكذبوا الأنبياء ، وتجاهلوا برامجهم الإصلاحية ، فعاقبناهم بسبب أعمالهم( وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) .

* * *

بحوث

وهنا مواضيع ينبغي الوقوف عندها :

١ ـ بركات الأرض والسماء

لقد وقع حديث بين المفسّرين في ما هو المراد من «بركات» الأرض والسماء؟فقال البعض : إنّها المطر ، والنباتات التي تنبت من الأرض.

وفسّرها البعض بإجابة الدعاء ، وحل مشاكل الحياة.

ولكن هناك احتمال آخر ـ أيضا ـ هو أنّ المراد من البركات السماوية هي البركات المعنوية ، والمراد من البركات الأرضية هي البركات المادية.

ولكن مع ملاحظة الآيات السابقة يكون التّفسير الأوّل أنسب من الجميع ، لأنّه في الآيات السابقة التي شرحت

العقوبات الشديدة التي حلّت بالمجرمين والطغاة ، فأشارت تارة إلى نزول السيول من السماء وطغيان الينابيع والعيون من الأرض (مثل طوفان نوح) وأخرى إلى الصواعق والصيحات السماوية ، وثالثة إلى الزلازل الأرضية الرهيبة.

١٢٥

وفي الآية المطروحة هنا طرحت هذه الحقيقة على بسط البحث ، وهي : أنّ العقوبات ما هي إلّا لأفعالهم هم ، وإلّا فلو كان الإنسان طاهرا مؤمنا ، فإنّه بدل أن يحل العذاب السماوي أو الأرضي بساحته ، تتواتر عليه البركات الإلهية من السماء والأرض أجل ، إنّ الإنسان هو الذي يبدل البركات بالبلايا.

٢ ـ معنى «البركات»

«البركات» جمع «بركة» وهذه الكلمة ـ كما أسلفنا ـ تعني في الأصل «الثبات» والاستقرار ، ويطلق على كل نعمة وموهبة تبقى ولا تزول ، في مقابل الموجودات العارية عن البركة ، والسريعة الفناء والزوال ، والخالية عن الأثر.

والملفت للنظر أنّ فائدة التقوى والإيمان لا تقتصر على نزول البركات الإلهية ، بل هما سبب في أن يصرف الإنسان ما لديه في المصارف اللازمة الصحيحة.

ففي المثل نلاحظ اليوم أنّ قسما كبيرا من الطاقات الإنسانية ، والمصادر الاقتصادية تصرف في سبيل سباق التسلح وصنع الأسلحة المدمّرة. وبذلك تنعدم البركة فيها ، ولا تثمر سوى الدمار والخراب ، ولكن المجتمعات البشرية إذا تحلّت بالتقوى والإيمان ، فإنّ هذه المواهب الإلهية سيكون لها وضع آخر ، ومن الطبيعي أن تبقى آثارها وتخلد ، وتكون مصداقا لكلمة البركات.

٣ ـ ماذا يعني «الأخذ»؟

في الآية أعلاه استعملت كلمة «أخذ» في مفهوم المجازاة والعقوبة ، وهذا في الحقيقة لأجل أنّ الشخص الذي يراد عقوبته يؤخذ أوّلا في العادة ، ثمّ يوثق بوسائل خاصّة حتى لا تبقى له قدرة على الفرار ، ثمّ يعاقب.

١٢٦

٤ ـ المفهوم الواسع للآية

إنّ الآية الحاضرة وإن كانت ناظرة إلى وضع الأقوام الغابرة ، ولكنّه من المسلّم أن مفهومها مفهوم واسع وعام ودائم ، ولا تنحصر في شعب معين أو قوم خاص ، فإنّها سنة إلهية أن يبتلى غير المؤمنين ، والمتورطين في المعاصي والذنوب بأنواع مختلفة ومتنوعة من البلايا في هذه الدنيا ، فربّما ينزل عليهم البلاء السماوي والأرضي ، وربّما تشتعل نيران الحروب العالمية أو المحلية فتبتلغ أموالهم وتبيدها وربّما يفارقهم الأمن والاستقرار ، فتسحق المخاوف والهواجس بأظلافها أبدانهم ونفوسهم ، وحسب تعبير القرآن يكون كل ذلك بما كسبت أيديهم ورد فعل لأعمالهم.

إن فيض الله ليس محدودا ولا ممنوعا ، كما أنّ عقوباته لا تختص بقوم أو شعب.

لماذا تعيش الأمم الكافرة في الرخاء؟

من كل ما قلناه يتّضح الجواب على سؤال يدور كثيرا بين جماعة من الناس ، وهو : إذا كان الإيمان والتقوى يبعثان على نزول أنواع البركات الإلهية ، ويكون العكس موجبا لسلب البركات ، فلما ذا نشاهد الشعوب غير المؤمنة ترفل في الرخاء والرفاه ، في حين يعيش جماعة من أهل الإيمان بعسر ومشقّة؟

إنّ الإجابة على هذا السؤال تتّضح بملاحظة نقطتين :

١ ـ إنّ تصوّر أنّ الشعوب غير المؤمنة الفاقدة للتقوى ترفل في النعمة والرخاء وتغرق في السعادة هو تصور خاطئ ينبع من اشتباه أكبر ، وهو اعتبار الثروة دليلا على السعادة.

إنّ الناس يتصورون ـ عادة ـ أنّ كل شعب امتلك صناعة أكثر تقدما ، وثروة أكبر ، كان أسعد من غيره ، في حين لو تسنى لنا أن ننفذ إلى أعماق هذه

١٢٧

المجتمعات ونلاحظ الآلام الممضة التي تحطم روح هذه الشعوب وجسمها عن كثب ، فسوف نسلّم أن أكثر تلك الشعوب هي من أشقى سكان الأرض.

هذا بغض النظر عن أنّ هذا التقدم النسبيّ إنّما هو نتيجة استخدامهم لأصول ومبادئ مثل السعي والاجتهاد ، والنظم والشعور بالمسؤولية التي هي جزء من تعاليم الأنبياء ، ومن صلب توجيهاتهم.

في هذه الأيّام ـ التي نكتب فيها هذا القسم من التّفسير ـ نشرت الجرائد والصحف أنّه حدث في نيويورك ـ التي هي واحدة من أكبر نقاط العالم المادي ثروة وأكثرها تقدما ـ حادث جدّ عجيب على أثر انقطاع فجائي للتيار الكهربائي ، وذلك الحادث هو أنّ كثيرا من الناس هاجموا المحلات والمخازن وسرقوا كل ما فيها بحيث أن ثلاثة آلاف من المغيرين على المحلات اعتقلوا بواسطة البوليس.

إنّ من المسلّم أن عدد المغيرين ـ في الواقع ـ أكثر بأضعاف من هذا العدد ، وهذا العدد هم الذين لم يمكنهم الفرار والهرب والنجاة من قبضة البوليس ، كما أنّه من المسلّم أن المغيرين لم يكونوا سراقا محترفين هيّئوا أنفسهم من قبل لمثل هذه الإغارة العمومية ، لأنّ الحادثة المذكورة كانت حادثة فجائية.

من هذا نستنتج أنّه مع حالة انقطاع عابر للتيار الكهربائي يتحول عشرات الآلاف من سكان مدينة ثرية ومتقدمة ـ كما يشاءون تسميتها ـ إلى لصوص وسراق ، إن هذا لا يدل على الانحطاط الخلقي لدى شعب من الشعوب فحسب ، بل يدل على فقدان الأمن الاجتماعي الشديد أيضا.

والخبر الآخر الذي نقلته الصحف ، ويكمل ـ في الحقيقة ـ هذا الخبر ، وهو أن أحد الشخصيات المعروفة كان يقيم في تلك الأيّام في نيويورك ، في أحد الفنادق الشهيرة ذات العشرات من الطوابق ، قال : إنّ انقطاع التيار الكهربائي تسبب في أن يمسي التجول في معابر وصالات ذلك الفندق عملا بالغ الخطورة ، بحيث أنّ

١٢٨

مسئولي الفندق ما كانوا يسمحون لأحد بأن يغادر مكانه إلى غرفته منعا من أن يتعرض للمغيرين داخل صالات الفندق ، ولهذا نظموا المسافرين والنزلاء في جماعات مكونة من عشرة أو أكثر ، وتولى موظفون مسلحون إيصالهم إلى غرفهم تحت حراسة مشددة.

ثمّ يضيف ذلك الشخص المذكور : أنّه ما لم يعان من الجوع الشديد لم يجرأ على الخروج من غرفته.

ولكن انقطاع التيار الكهربائي هذا يقع في البلاد المتأخرة الشرقية كثيرا ، ولكن لا تحدث مثل هذه المشاكل ، وهذا يفيد أن سكان البلدان المتقدمة رغم كونهم يمتلكون ثروة عظيمة ، وصنائع عظيمة ، لا يملكون أدنى قدر من الأمن في بيئتهم.

هذا مضافا إلى أنّ شهود عيان يقولون : إنّ القتل والاغتيال في تلك البيئات كشرب الماء من حيث السهولة واليسر.

ونحن نعلم أنّنا أعطينا الدنيا كلها لأحد وكان يعيش في مثل هذه الظروف ، كان من أشقى أهل الأرض على أنّ مشكلة الأمن هي واحدة من مشكلاتهم ، وإلّا فهناك مفاسد اجتماعية أخرى كل واحد منها بدوره حالة مؤلمة جدا ومع الالتفات إلى هذه الحقائق فلا معنى لتوهّم أنّ الثروة سعادة.

٢ ـ أمّا ما يقال عن سبب تخلّف المجتمعات المتحلية بالإيمان والتقوى ، فإذا كان المقصود من الإيمان والتقوى هو مجرّد ادعاء الإسلام وادعاء أتباع مبادئ الأنبياء وتعاليمهم ، فالاعتراض وجيه. ولكننا لا نعتبر حقيقة الإيمان والتقوى إلّا نفوذهما في جميع أعمال الإنسان ، وجميع شؤون الحياة ، وهذا أمر لا يتحقق بمجرّد الادعاء والزعم.

إنّ من المؤسف جدّا أن نجد التعاليم الإسلامية ومبادئ الأنبياء متروكة أو شبه متروكة في كثير من المجتمعات الإسلامية ، فملامح هذه المجتمعات ليست

١٢٩

ملامح مجتمعات المسلمين الصادقين الحقيقيين.

لقد دعا الإسلام إلى الطهارة والاستقامة والأمانة والاجتهاد والجد ، فأين تلك الأمانة والاجتهاد؟

إنّ الإسلام يدعو إلى العلم والمعرفة واليقظة والوعي ، فأين ذلك العلم والوعي واليقظة؟! وإن الإسلام يدعو إلى الاتحاد والتضامن ووحدة الصفوف والتفاني ، فهل سادت هذه الأصول والمبادئ في المجتمعات الإسلامية الحاضرة بصورة كاملة ، ومع ذلك بقيت متخلّفة؟!

لهذا يجب أن نعترف بأنّ الإسلام شيء ، والمسلمون اليوم شيء آخر.

في الآيات اللاحقة والمزيد من التأكيد على عمومية هذا الحكم ، وأن القانون أعلاه ليس خاصا بالأقوام الغابرة بل يشمل الحاضر والمستقبل أيضا ـ يقول : هل أنّ المجرمين الذين يعيشون في نقاط مختلفة من الأرض يرون أنفسهم في أمن من أن تحل بهم العقوبات الإلهية ، فتنزل بهم صاعقة أو يصبهم زلزال في الليل وهم نائمون( أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ ) .

وهل هم في أمان من ذلك العذاب في النهار وهم غارقون في أنواع اللهو واللعب( أوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ) .

يعني أنّهم في قبضة القدرة الإلهية في جميع الأحوال والأوقات ، ليلا ونهارا ، في اليقظة والنوم ، في ساعات الفرح والترح ، وبإشارة واحدة وأمر واحد يقضى عليهم جميعا ، ويطوي صفحة حياتهم نهائيا ، دون الحاجة الى مقدمات وأسباب قبلية ، أو لمرور الزمان لهذا العمل.

أجل في لحظة واحدة ، ومن دون أية مقدمات يمكن أن تحل أنواع المصائب والنوائب بهذا الإنسان الغافل.

والعجيب أنّ البشرية الحاضرة ، رغم كل ما أحرزته من تقدم ورقي في

١٣٠

الصنائع وفي التكنولوجيا ، ومع أنّها سخرت طاقات الكون والطبيعة المختلفة لخدمة نفسها ، فإنّها ضعيفة وعاجزة تجاه هذه الحوادث ، بنفس المقدار من العجز والضعف الذي كان عليه إنسان العصور السابقة. يعني أن الإنسان لم يتغير حاله تجاه الزلازل والصواعق وما شابهها ، حتى بالنسبة إلى إنسان ما قبل التاريخ.

وهذه علامة قوية على نهاية عجز الإنسان وشدة ضعفه رغم قدرته وقوته وهذه حقيقة يجب أن يجعلها الإنسان نصب عينيه دائما وأبدا.

وفي الآية اللاحقة يعود القرآن الكريم إلى ذكر وتأكيد هذه الحقيقة بشكل آخر فيقول : أفأمن المجرمون من المكر الإلهي ، في حين لا يأمن مكره إلّا الخاسرون( أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ ) .

و «المكر» ـ كما قلنا في ذيل الآية ٩٤ من سورة آل عمران ـ يعني في اللغة العربية كل حيلة ووسيلة لصرف الشخص عن الهدف الذي يمضي إليه ، سواء كان حقا أو باطلا ، وقد أخذ في مفهوم هذه اللغة نوع من التدرج والنفوذ التدريجي.

وعلى هذا فالمراد من المكر الإلهي ، هو أنّ الله تعالى يصرفهم بخططه القوية التي لا تقهر عن حياة الرفاه واللذة دون اختيارهم ويقطعها عليهم. وهذه إشارة إلى العقوبات الإلهية الفجائية والمهلكة.

جواب على سؤال :

إنّ الجملة التي وردت في ختام الآية الحاضرة تقول : لا يأمن أحد ـ إلّا الخاسرون ـ من المكر الإلهي والعقوبة الإلهية ، وهنا يطرح هذا السؤال ، وهو : هل تشمل هذه العبارة الأنبياء والأئمّة العظام والصالحين؟

لقد تصوّر البعض أنّهم خارجون من هذا الحكم ، وأنّ الآية تختص بالمجرمين. ولكن الظاهر أن هذا الحكم عام يشمل الجميع ، لأنّه حتى الأنبياء والأئمّة كانوا مراقبين لأعمالهم دائما كي لا تصدر منهم أدنى زلة أو عثرة ، لأنّنا

١٣١

نعلم أن مقام العصمة ليس مفهومه أن المعصية مستحيلة عليهم ، بل يعني أنّهم مصونون عن الإثمّ والمعصية بفعل إرادتهم وإيمانهم وحسن اختيارهم ، إلى جانب العنايات الربانية.

إنّهم كانوا يخافون من ترك الأولى ويتجنبونه ، ويخشون أن لا يتمكنوا من القيام بمسؤولياتهم الثقيلة. ولهذا نقرأ في الآية (١٥) من سورة الأنعام حول الرّسول الأعظم( قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) .

ولقد رويت في تفسير الآية الحاضرة ـ أيضا ـ أحاديث تؤيد ما قلناه : «صليت خلف أبي عبد الله (الصادق)عليه‌السلام ، فسمعته يقول : «اللهم لا تؤمني مكرك. ثمّ جهر فقال :( فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ ) .

ونقرأ في نهج البلاغة أيضا : «لا تأمنن على خير هذه الأمّة عذاب الله ، لقول الله سبحانه :( فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ ) (١) .

إنّ عدم الأمن من المكر الإلهي ـ في الحقيقة ـ يعني الخوف من المسؤوليات والخوف من التقصير فيها ، ومن المعلوم أن الخوف يجب أن يكون في قلوب المؤمنين دائما إلى جانب الأمل بالرحمة الإلهية بشكل متساو ، وأن التوازن بين هذين هو منشأ كلّ حركة ونشاط ، وهو الذي يعبّر عنه في الرّوايات بالخوف والرجاء.

وقد جاء التصريح في هذه الرّوايات بوجوب أن يكون المؤمنون دائما بين الخوف والرجاء ، ولكن المجرمين الخاسرين نسوا العقوبات الإلهية بحيث صاروا يرون أنفسهم في منتهى الأمن المكر الإلهي.

وفي الآية اللاحقة يقول القرآن الكريم ـ بهدف إيقاظ عقول الشعوب الغافية وإلفات نظرهم إلى العبر التي كانت في حياة الماضيين : ألا يتنبه الذين ورثوا

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الجملة ٣٧٧.

١٣٢

السيادة على الأرض ـ من الأقوام الماضية ـ إلى ما في حياة الماضيين وقصصهم من عبر ، فلو أنّنا أردنا أن نهلكهم بذنوبهم لفعلنا( أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ) .

ويمكننا أيضا أن نتركهم أحياء ونسلب منهم الشعور وحس التشخيص والتمييز بالمرّة بسبب توغّلهم في الذنوب ، بحيث لا يسمعون معها حقيقة ، ولا يقبلون نصيحة ، ويعيشون بقية حياتهم حيرى( وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ) .

أمّا كيف يسلب الله تعالى من هذا الفريق من المجرمين حس التمييز والتشخيص ، فيمكنك الوقوف على مزيد التوضيح في هذا المجال في تفسير الآية (٧) من سورة البقرة.

* * *

١٣٣

الآيتان

( تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢) )

التّفسير

في هاتين الآيتين ركّز القرآن الكريم على العبر المستفادة من بيان قصص الماضين ، والخطاب متوجه هنا إلى الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أن الهدف هو الجميع ، يقول القرآن الكريم أوّلا : هذه هي القرى والأقوام التي نقص عليك قصصهم :( تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها ) (١) .

ثمّ يقول : لم يكن إهلاكهم قبل إتمام الحجة عليهم ، بل لقد جاءهم الأنبياء أوّلا بالبراهين الجلية وبذلوا قصارى جهدهم في إيقاظهم وإرشادهم( وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ) .

ولكنّهم قاوموا الأنبياء وخالفوا دعوتهم ، وأصروا ولجّوا في عنادهم ، ولم

__________________

(١) «نقصّ» من مادة «قص» وقد مر شرحها في ذيل الآية ٧.

١٣٤

يكونوا على استعداد لأن يؤمنوا بما كذبوا به من قبل ، بل استمروا على تكذيبهم حتى مع مشاهدتهم البينات :( فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ ) .

من هذه الجملة يستفاد أنّ الأنبياء الإلهيين قاموا بدعوتهم وإرشادهم مرارا وتكرارا ، ولكن المشركين لجوا في عنادهم ، وبقوا متصلبين في مواقفهم المتعنتة الرافضة ، وأعرضوا عن قبول دعوة الأنبياء حتى بعد وضوح الكثير من الحقائق.

وفي العبارة اللاحقة يبيّن تعالى علّة هذا التعنت واللجاج :( كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ ) .

يعني أنّ الذين يسيرون في درب خاطئ ، ويستمرون في السير في ذلك الطريق ، ينتقش الانحراف والكفر على قلوبهم نتيجة تكرار العمل السيء.

ويتجذر الفساد في نفوسهم ، كما يثبت النقش على السكة (والطبع في اللغة نقش صورة على شيء كالسكة) وهذا في الحقيقة هو أثر العمل وخاصيته.

وقد نسب إلى الله هو تعالى مسبب الأسباب ، وهو منشأ تأثير كل مؤثر ، فهو يهب الفعل هذه الخاصية عند تكراره ، حيث يجعله «ملكة» في نفس الشخص.

ولكن من الواضح والبيّن أن مثل الضلال ليس له أي صفة جبرية وقهرية ، بل إنّ موجد الأسباب هو الإنسان وإن كان التأثير بأمر الله تعالى (فتأمل).

وفي الآية اللاحقة بيّن تعالى قسمين آخرين من نقاط الضعف الأخلاقي لدى هذه الجماعات ، والتي تسببت في ضلالها وهلاكها.

في البداية يقول : إنّهم كانوا لا يحترمون العهود والمواثيق بل ينقضونها( وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ ) .

وهذا العهد يمكن أن يكون إشارة إلى «العهد الفطري» الذي أخذه الله على جميع عباده بحكم الجبلة والفطرة ، لأنّه عند ما أعطاهم العقل والذكاء والقابلية ، كان مفهوم ذلك هو أخذ العهد الميثاق منهم بأن يفتحوا عيونهم وآذانهم ، ويروا الحقائق ويسمعوها ، وهذا هو ما أشارت إليه الآيات الأخيرة من هذه السورة (أي

١٣٥

الآية ١٧٣) وهو المعروف بـ «عالم الذّر» الذي سنشرحه بإذن الله في ذيل تلك الآيات.

كما أنّه يمكن أن يكون إشارة إلى العهد الذي كان الأنبياء الإلهيون يأخذونه من الناس ، وكان أكثر الناس يقبلونه ، ولكنّهم ينقضونه.

أو يكون إشارة إلى جميع المواثيق «الفطرية» و «التشريعية».

وعلى كل حال فإنّ روح نقض الميثاق كان من أسباب معارضة الأنبياء والإصرار على سلوك طريق الكفر والنفاق ، والابتلاء بعواقبها المشؤومة.

ثمّ يشير القرآن الكريم إلى عامل آخر إذ يقول :( وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ ) .

يعني أن روح التمرد والتجاوز على القانون ، والخروج عن نظام الخلقة والقوانين الإلهية ، كان عاملا آخر من عوامل استمرارهم على الكفر ، وإصرارهم على مخالفة الدعوة الإلهية.

ويجب الانتباه إلى أن الضمير في «أكثرهم» يرجع إلى جميع الأقوام والجماعات السالفة.

وما ورد في الآية من أن أكثرهم ينقضون العهد إنّما هو من باب رعاية حال الأقليات التي آمنت بالأنبياء السابقين ، وبقيت وفيّه لهم ، وهذه الجماعات المؤمنة وإن كانت قليلة وضئيلة العدد جدّا بحيث أنّها ما كانت تتجاوز أحيانا أسرة واحدة. ولكن روح الواقعية وتحري الحق المتجلّية في كل آيات القرآن أوجبت أن لا يتجاهل القرآن الكريم حق هذه الجماعات القليلة أو الأفراد المعدودين ، بل يراعيها فلا يصف جميع الأفراد في المجتمعات السالفة بالانحراف والضلال ونقض العهد والفسق.

وهذا موضوع جميل جدّا ، وجدير بالاهتمام ، وهو ما نشاهده ونلحظه في آيات القرآن كثيرا.

* * *

١٣٦

الآيات

( ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧) )( وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) )

التّفسير

المواجهة بين موسى وفرعون :

بعد ذكر قصص ثلة من الأنبياء العظام باختصار في الآيات السابقة بيّن تعالى في هذه الآيات والآيات الكثيرة اللاحقة قصّة موسى بن عمران ، وما جرى بينه وبين فرعون وملئه وعاقبة أمره.

وعلّة بيان هذه القصّة بصورة أكثر تفصيلا من قصص الأنبياء الآخرين في هذه السورة قد تكون لأجل أنّ اليهود أتباع موسى بن عمران كانوا أكثر من

١٣٧

غيرهم في بيئة نزول القرآن ، وكان إرشادهم إلى الإسلام أوجب(١) .

وثانيا : لأنّ قيام النّبي الأكرم كان أشبه بقيام موسى بن عمران من غيره من الأنبياء.

وعلى كل حال فإنّ هذه القصة الزاخرة بالعبر قد أشير إلى فصول أخرى منها أيضا في سور أخرى ، مثل : سورة البقرة ، طه ، الشعراء ، النمل ، القصص ، وسور أخرى ، ولو أنّنا درسنا آيات كل سورة على حدة ، ثمّ وضعناها جنبا إلى جنب لم نلحظ فيها جانب التكرار على خلاف ما يتصوره البعض ، بل ذكر من هذه الملحمة التاريخية في كل سورة ما يناسبها من البحث للاستشهاد به. وحيث أنّ مصر كانت أوسع ، وكان لشعبها حضارة أكثر تقدما من قوم نوح وهود وشعيب وما شابههم ، وكانت مقاومة الجهاز الفرعوني ـ بنفس النسبة ـ أكثر وأكبر ، ولهذا تمتع قيام موسى بن عمران بأهمية أكبر ، وحوى عبرا ونكات أكثر ، وقد ركّز القرآن الكريم على النقاط البارزة المختلفة من حياة موسى وبني إسرائيل بمناسبات مختلفة.

وعلى العموم يمكن حصر وتلخيص حياة هذا النّبي الإلهي العظيم في خمس دورات ومراحل :

١ ـ مرحلة الولادة ، وما جرى عليه من الحوادث حتى ترعرعه في البلاط الفرعون.

٢ ـ مرحلة فراره من مصر ، وحياته في أرض «مدين» في كنف النّبي شعيبعليه‌السلام .

٣ ـ مرحلة بعثته ، ثمّ المواجهات الكثيرة بينه وبين فرعون وجهازه.

٤ ـ مرحلة نجاته ونجاة بني إسرائيل من مخالب فرعون ، والحوادث التي

__________________

(١) صحيح أنّ هذه السورة نزلت في مكّة ، ولم تكن مكّة مركز تجمع اليهود ، ولكن من دون شك كان لحضور في المدينة وسائر نقاط الحجاز أثر واسع في المجتمع المكّي.

١٣٨

جرت عليه في الطريق ، وعند وروده إلى بيت المقدس.

٥ ـ مرحلة مشاكله مع بني إسرائيل.

ويجب الانتباه إلى أن القرآن الكريم تناول في كل سورة من سور قسما ـ أو عدّة أقسام ـ من هذه المراحل الخمس.

ومن تلك الآيات التي تناولت جوانب من قصّة موسىعليه‌السلام هذه الآيات ، وعشرات الآيات الأخر من هذه السورة ، وهي تشير إلى مراحل ما بعد بعثة موسى بن عمران بالنبوة. ولهذا فإنّنا نوكل الأبحاث المتعلقة بالمراحل السابقة على هذه المرحلة إلى حين تفسير الآيات المرتبطة بتلك الأقسام في السور الأخرى ، وبخاصّة سورة القصص.

في الآية الأولى من الآيات الحاضرة يقول تعالى :( ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ ) أي من بعد قوم نوح وهود وصالح.

ويجب الالتفات إلى أنّ «فرعون» اسم عام ، وهو يطلق على كل ملوك مصر ، كما يطلق على ملوك الروم «قيصر» وملوك فارس «كسرى».

ولفظة «الملأ» ـ كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق ـ تعني الأعيان والأشراف الذين يملأون ببريقهم وظواهرهم الباذخة العيون ، ولهم حضور ملفت للنظر في جميع ميادين المجتمع.

والسر في إرسال موسى في بداية الدعوة إلى فرعون وملأه هو أنّه علاوة على أنّ إحدى برامج موسى كان هو نجاة بني إسرائيل من براثن استعمار الفراعنة وتخليصهم من أرض مصر ـ وهذا لا يمكن أن يتم من دون الحوار مع فرعون ـ إنّما هو لأجل أن المفاسد الاجتماعية وانحراف البيئة لا تعالج بمجرّد الإصلاحات الفردية والموضعية فقط ، بل يجب أن يبدأ بإصلاح رؤوس المجتمع وقادته الذين يمسكون بأزمة السياسة والإقتصاد والثقافة ، حتى تتهيأ الأرضية لإصلاح البقية ، كما يقال عرفا : إنّ تصفية الماء يجب أن تكون من المنبع.

١٣٩

وهذا هو الدرس الذي يعطيه القرآن الكريم لجميع المسلمين ، لإصلاح المجتمعات الإسلامية.

ثمّ يقول تعالى :( فَظَلَمُوا بِها ) .

ونحن نعلم أنّ لفظ الظلم بالمعنى الواسع للكلمة هو : وضع الشيء في غير محلّة ، ولا شك في أن الآيات الإلهية توجب أن يسلّم الجميع لها ، وبقبولها يصلح الإنسان نفسه ومجتمعه ، ولكن فرعون وملأه بإنكارهم لهذه الآيات ظلموا هذه الآيات.

ثمّ يقول تعالى في ختام الآية :( فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ) .

وهذه العبارة إشارة إجمالية إلى هلاك فرعون وقومه الطغاة المتمردين ، الذي سيأتي شرحه فيما بعد.

وهذه الآية تشير إشارة مقتضبة إلى مجموع برنامج رسالة موسى ، وما وقع بينه وبين فرعون من المواجهة وعاقبة أمرهم.

أمّا الآيات اللاحقة فتسلّط الاضواء بصورة أكثر على هذا الموضوع.

فيقول أوّلا :( وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

وهذه هي أوّل مواجهة بين موسى وبين فرعون ، وهي صورة حية وعملية من الصراع بين «الحق» و «الباطل».

والطريف أنّ فرعون كأنّه كان ينادى لأوّل مرّة بـ «يا فرعون» وهو خطاب رغم كونه مقرونا برعاية الأدب ، خال عن أي نوع من أنواع التملق والتزلف وإظهار العبودية والخضوع ، لأنّ الآخرين كانوا يخاطبونه عادة بألفاظ فيها الكثير من التعظم مثل : يا مالكنا ، يا سيدنا ، يا ربنا ، وما شابه ذلك.

وتعبير موسى هذا ، كان يمثل بالنسبة إلى فرعون جرس إنذار وناقوس خطر. هذا مضافا إلى أن عبارة موسى( إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) كانت ـ في الحقيقة ـ نوعا من إعلان الحرب على جميع تشكيلات فرعون ، لأنّ هذا التعبير

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ) قال هو الرجل يشتمك فتشتمه ولكن إن افترى عليك فلا تفترى عليه وهو مثل قوله( وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ ) وروى ابن عيينة عن أبى نجيح عن إبراهيم بن أبى بكر عن مجاهد في قوله( لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ) قال ذاك في الضيافة إذا جئت الرجل فلم يضفك فقد رخص أن تقول فيه* قال أبو بكر إن كان التأويل كما ذكر فقد يجوز أن يكون ذلك في وقت كانت الضيافة واجبة وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الضيافة ثلاثة أيام فما زاد فهو صدقة وجائز أن يكون فيمن لا يجد ما يأكل فيستضيف غيره فلا يضيفه فهذا مذموم يجوز أن يشكى وفي هذه الآية دلالة على وجوب الإنكار على من تكلم بسوء فيمن كان ظاهره الستر والصلاح لأن الله تعالى قد أخبر أنه لا يجب ذلك وما لا يحبه فهو الذي لا يريده فعلينا أن نكرهه وننكره وقال( إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ) فما لم يظهر لنا ظلمه فعلينا إنكار سوء القول فيه* وقوله تعالى( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ) قال قتادة عوقبوا على ظلمهم وبغيهم بتحريم أشياء عليهم وفي ذلك دليل على جواز تغليظ المحنة عليهم بالتحريم الشرعي عقوبة لهم على ظلمهم لأن الله تعالى قد أخبر في هذه الآية أنه حرم عليهم طيبات بظلمهم وصدهم عن سبيل الله والذي حرم عليهم ما بينه تعالى في قوله( وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ ) وقوله( وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ ) يدل على أن الكفار مخاطبون بالشرائع مكلفون بها مستحقون للعقاب على تركها لأن الله تعالى قد ذمهم على أكل الربا وأخبر أنه عاقبهم عليه* قوله تعالى( لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ ) روى عن قتادة أن لكن هاهنا استثناء وقيل أن لا ولكن قد تتفقان في الإيجاب بعد النفي أو النفي بعد الإيجاب وتطلق إلا ويراد بها لكن كقوله تعالى( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً ) ومعناه لكن إن قتله خطأ فتحرير رقبة فأقيمت إلا في هذا الموضع مقام لكن وتنفصل لكن من إلا بأن إلا لإخراج بعض من كل ولكن قد تكون بعد الواحد نحو قولك ما جاءني زيد لكن عمرو وحقيقة لكن الاستدراك ولا للتخصيص قوله تعالى( يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ) روى عن الحسن أنه خطاب لليهود والنصارى لأن النصارى غلت

٢٨١

في المسيح فجاوزوا به منزلة الأنبياء حتى اتخذوه إلها واليهود غلت فيه فجعلوه لغير رشدة فغلا الفريقان جميعا في أمره والغلو في الدين هو مجاوزة حد الحق فيه وروى عن ابن عباس أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم سأله أن يناوله حصيات لرمي الجمار قال فناولته إياها مثل حصا الخذف(1) فجعل يقلبهن بيده ويقول بمثلهن بمثلهن إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من قبلكم بالغلو في دينهم ولذلك قيل دين الله بين المقصر والغالي * قوله تعالى( وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ) قيل في وصف المسيح بأنه كلمة الله ثلاثة أوجه أحدها ما روى عن الحسن وقتادة أنه كان عيسى بكلمة الله وهو قوله( كُنْ فَيَكُونُ ) لا على سبيل ما أجرى العادة به من حدوثه من الذكر والأنثى جميعا والثاني أنه يهتدى به كما يهتدى بكلمة الله والثالث ما تقدم من البشارة به في الكتب المتقدمة التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه* وأما قوله تعالى( وَرُوحٌ مِنْهُ ) فلأنه كان بنفخة جبريل بإذن الله والنفخ يسمى روحا كقول ذي الرمة :

فقلت له أرفعها إليك وأحيها

بروحك واقتته لها قيتة قدرا

أى بنفختك وقيل إنما سماه روحا لأنه يحيى الناس به كما يحيون بالأرواح ولهذا المعنى سمى القرآن روحا في قوله( وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ) وقيل لأنه روح من الأرواح كسائر أرواح الناس وأضافه الله تعالى إليه تشريفا له كما يقال بيت الله وسماء الله* قوله( يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ) قيل فيه إنه بمعنى لئلا تضلوا فحذف لا كما تحذف مع القسم في قولك والله أبرح قاعدا أى لا أبرح قال الشاعر :

تالله يبقى على الأيام ذوحيد(2)

معناه لا يبقى وقيل يبين الله لكم كراهة أن تضلوا كقوله( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) يعنى أهل القرية.

سورة المائدة

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) روى عن ابن عباس ومجاهد ومطرف

__________________

(1) قوله الخذف بالخاء والذال المعجمتين هو أن تجعل حصاة أو نواة بين السبابتين وترمى بها كما ذكره في النهاية.

(2) قوله ذوحيد هو الثور الوحشي والحيد بكسر وفتح جمع حيد بفتح وسكون وهو ما النوى من القرن.

٢٨٢

والربيع والضحاك والسدى وابن جريج والثوري قالوا العقود في هذا الموضع أراد بها العهود وروى معمر عن قتادة قال هي عقود الجاهلية الحلف وروى جبير بن مطعم عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لا حلف في الإسلام وأما حلف الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة وروى ابن عيينة عن عاصم الأحول قال سمعت أنس بن مالك يقول حالف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا فقيل له قد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا حلف في الإسلام وما كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة فقال حالف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا قال ابن عيينة إنما آخى بين المهاجرين والأنصار قال أبو بكر قال الله تعالى( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) فلم يختلف المفسرون أنهم في أول الإسلام قد كانوا يتوارثون بالحلف دون النسب وهو معنى قوله( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) إلى أن جعل الله ذوى الأرحام أولى من الحليف بقوله( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ ) فقد كان حلف الإسلام على التناصر والتوارث ثابتا صحيحا وأما قوله لا حلف في الإسلام فإنه جائز أن يريد به الحلف على الوجوه التي كان عليها الحلف في الجاهلية وكان هذا القول منه بعد نسخ التوارث بالحلف وقد كان حلف الجاهلية على وجوه منها الحلف في التناصر فيقول أحدهما لصاحبه إذا حالفه دمى دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك فيتعاقدان الحلف على أن ينصر كل واحد منهم صاحبه فيدفع عنه ويحميه بحق كان ذلك أو بباطل ومثله لا يجوز في الإسلام لأنه لا يجوز أن يتعاقدا الحلف على أن ينصره على الباطل ولا أن يزوى ميراثه عن ذي أرحامه ويجعله لحليفه فهذا أحد وجوه الحلف الذي لا يجوز مثله في الإسلام وقد كانوا يتعاقدون الحلف للحماية والدفع وكانوا يدفعون إلى ضرورة لأنهم كانوا نشرا لا سلطان عليهم ينصف المظلوم من الظالم ويمنع القوى عن الضعيف فكانت الضرورة تؤديهم إلى التحالف فيمتنع به بعضهم من بعض وكان ذلك معظم ما يراد الحلف من أجله ومن أجل ذلك كانوا يحتاجون إلى الجوار وهو أن يجير الرجل أو الجماعة أو العير على قبيلة ويؤمنهم فلا ينداه(1) مكروه منهم فجائز أن يكون أراد بقوله لا حلف في الإسلام هذا الضرب من الحلف وكانوا يحتاجون إلى الحلف في أول الإسلام

__________________

(1) قوله فلا ينداه مضارع ندب من باب تعب يقال ما ندينى من فلان مكروه أي ما أصابني.

٢٨٣

لكثرة أعدائهم من سائر المشركين ومن يهود المدينة ومن المنافقين فلما أعز الله الإسلام وكثر أهله وامتنعوا بأنفسهم وظهروا على أعدائهم أخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم باستغنائهم عن التحالف لأنهم قد صاروا كلهم يدا واحدة على أعدائهم من الكفار بما أوجب الله عليهم من التناصر والموالاة بقوله تعالى( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم المؤمنون يد على من سواهم وقال ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن إخلاص العمل لله والنصيحة لولاة الأمر ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من وراءهم فزال التناصر بالحلف وزال الجوار ولذلك قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لعدي بن حاتم ولعلك أن تعيش حتى ترى المرأة تخرج من القادسية إلى اليمن بغير جوار ولذلك قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا حلف في الإسلام وأما قوله وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة فإنما يعنى به الوفاء بالعهد مما هو مجوز في العقول مستحسن فيها نحو الحلف الذي عقده الزبير بن عبد المطلب قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أحب أن لي بحلف حضرته حمر النعم في دار ابن جدعان وإنى أغدر به هاشم وزهرة وتيم تحالفوا أن يكونوا مع المظلوم ما بل بحر صوفه ولو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت وهو حلف الفضول وقيل إن الحلف كان على منع المظلوم وعلى التأسى في المعاش فأخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه حضر هذا الحلف قبل النبوة وأنه لو دعى إلى مثله في الإسلام لأجاب لأن الله تعالى قد أمر المؤمنين بذلك وهو شيء مستحسن في العقول بل واجب فيها قبل ورود الشرع فعلمنا أن قوله لا حلف في الإسلام إنما أراد به الذي لا تجوزه العقول ولا تبيحه الشريعة وقد روى عنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال حضرت حلف المطيبين وأنا غلام وما أحب أن أنكثه وأن لي حمر النعم وقد كان حلف المطيبين بين قريش على أن يدفعوا عن الحرم من أراد انتهاك حرمته بالقتال فيه وأما قوله وما كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة فهو نحو حلف المطيبين وحلف الفضول وكل ما يلزم الوفاء به من المعاقدة دون ما كان منه معصية لا تجوزه الشريعة والعقد في اللغة هو الشد تقول عقدت الحبل إذا شددته واليمين على المستقبل تسمى عقدا قال الله تعالى( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ) والحلف يسمى عقدا قال الله تعالى( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) وقال أبو عبيدة في قوله( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) قال هي العهود والأيمان وروى عن

٢٨٤

جابر في قوله( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) قال هي عقدة النكاح والبيع والحلف والعهد وزاد زيد ابن أسلم من قبله وعقد الشركة وعقد اليمين وروى وكيع عن موسى بن عبيدة عن أخيه عبد الله بن عبيدة قال العقود ستة عقد الأيمان وعقد النكاح وعقدة العهد وعقدة الشرى والبيع وعقدة الحلف قال أبو بكر العقد ما يعقده العاقد على أمر يفعله هو أو يعقد على غيره فعله على وجه إلزامه إياه لأن العقد إذا كان في أصل اللغة الشد ثم نقل إلى الأيمان والعقود عقود المبايعات ونحوها فإنما أريد به إلزام الوفاء بما ذكره وإيجابه عليه وهذا إنما يتناول منه ما كان منتظرا مراعى في المستقبل من الأوقات فيسمى البيع والنكاح والإجارة وسائر عقود المعاوضات عقودا لأن كل واحد منهما قد ألزم نفسه التمام عليه والوفاء به وسمى اليمين على المستقبل عقدا لأن الحالف قد ألزم نفسه الوفاء بما حلف عليه من فعل أو ترك والشركة والمضاربة ونحوها تسمى أيضا عقودا لما وصفنا من اقتضائه الوفاء بما شرطه على كل واحد من الربح والعمل لصاحبه وألزمه نفسه وكذلك العهد والأمان لأن معطيها قد ألزم نفسه الوفاء بها وكذلك كل شرط شرطه إنسان على نفسه في شيء يفعله في المستقبل فهو عقد وكذلك النذور وإيجاب القرب وما جرى مجرى ذلك وما لا تعلق له بمعنى في المستقبل ينتظر وقوعه وإنما هو على شيء ماض قد وقع فإنه لا يسمى عقدا ألا ترى أن من طلق امرأته فإنه لا يسمى طلاقه عقدا ولو قال لها إذا دخلت الدار فأنت طالق كان ذلك عقدا ليمين ولو قال والله لقد دخلت الدار أمس لم يكن عاقدا لشيء ولو قال لأدخلنها غدا كان عاقدا ويدلك على ذلك أنه لا يصح إيجابه في الماضي ويصح في المستقبل لو قال على أن أدخل الدار أمس كان لغوا من الكلام مستحيلا ولو قال على أن أدخلها غدا كان إيجابا مفعولا فالعقد ما يلزم به حكم في المستقبل واليمين على المستقبل إنما كانت عقدا لأن الحالف قد أكد على نفسه أن يفعل ما حلف عليه بذلك وذلك معدوم في الماضي ألا ترى أن من قال والله لأكلمن زيدا فهو مؤكد على نفسه بذلك كلامه وكذلك لو قال والله لا كلمت زيدا كان مؤكدا به نفى كلامه ملزما نفسه به ما حلف عليه من نفى أو إثبات فسمى من أجل التأكيد الذي في اللفظ عقدا تشبيها بعقد الحبل الذي هو بيده والاستيثاق به ومن أجله كان النذر عقدا ويمينا لأن الناذر ملزم نفسه ما نذره ومؤكد على نفسه ما نذره ومؤكد على نفسه أن يفعله أو يتركه

٢٨٥

ومتى صرف الخبر إلى الماضي لم يكن ذلك عقدا كما لا يكون ذلك إيجابا وإلزاما ونذرا وهذا يبين معنى ما ذكرنا من العقد على وجه التأكيد والإلزام. ومما يدل على أن العقد هو ما تعلق بمعنى مستقبل دون الماضي أن ضد العقد هو الحل ومعلوم أن ما قد وقع لا يتوهم له حل عما وقع عليه بل يستحيل ذلك فيه فلما لم يكن الحل ضدا لما وقع في الماضي علم أنه ليس بعقد لأنه لو كان عقدا لكان له ضد من الحل يوصف به كالعقد على المستقبل* فإن قيل قوله إن دخلت الدار فأنت طالق وأنت إذا جاء غد* هو عقد ولا يلحقه الانتقاض والفسخ* قيل له جائز أن لا يقع ذلك بموتها قبل وجود الشرط فهو مما يوصف بضده من الحل ولذلك قال أبو حنيفة فيمن قال إن لم أشرب الماء الذي في هذا الكوز فعبدي حر وليس في الكوز ماء أن يمينه لا تنعقد ولم يكن ذلك عقدا لأنه ليس له نقيض من الحل ولو قال إن لم أصعد السماء فعبدي حر حنث بعد انعقاد يمينه لأن لهذا العقد نقيضا من الحل وإن كنا قد علمنا أنه لا يبر فيه لأنه عقد اليمين على معنى متوهم معقول إذ كان صعود السماء معنى متوهما معقولا وكذلك تركه معقول جائز وشرب ما ليس بموجود مستحيل توهمه فلم يكن ذلك عقدا* وقد اشتمل قوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) على إلزام الوفاء بالعهود والذمم التي نعقدها لأهل الحرب وأهل الذمة والخوارج وغيرهم من سائر الناس وعلى إلزام الوفاء بالنذور والأيمان وهو نظير قوله تعالى( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها ) وقوله تعالى( وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ) وعهد الله تعالى أوامره ونواهيه وقد روى عن ابن عباس في قوله تعالى( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) أى بعقود الله فيما حرم وحلل* وعن الحسن قال يعنى عقود الدين واقتضى أيضا الوفاء بعقود البياعات والإجارات والنكاحات وجميع ما يتناوله اسم العقود فمتى اختلفنا في جواز عقده أو فساده وفي صحة نذر ولزومه صح الاحتجاج بقوله تعالى( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) لاقتضاء عمومه جواز جميعها من الكفالات والإجارات والبيوع وغيرها ويجوز الاحتجاج به في جواز الكفالة بالنفس وبالمال وجواز تعلقها على الأخطار لأن الآية لم تفرق بين شيء منها وقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون عند شروطهم في معنى قول الله تعالى( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) وهو عموم في إيجاب الوفاء بجميع ما يشرط الإنسان على نفسه ما لم تقم دلالة

٢٨٦

تخصصه* فإن قيل هل يجب على كل من عقد على نفسه يمينا أو نذرا أو شرطا لغيره الوفاء بشرطه ويكون عقده لذلك على نفسه يلزمه ما شرطه وأوجبه قيل له أما النذور فهي عل ثلاثة أنحاء منها نذر قربة فيصير واجبا بنذره بعد أن كان فعله قربة غير واجب لقوله تعالى( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) وقوله تعالى( أَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ ) وقوله تعالى( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ) وقوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ ) وقوله تعالى( وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ) فذمهم على ترك الوفاء بالمنذور نفسه وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمر بن الخطاب أوف بنذرك حين نذر أن يعتكف يوما في الجاهلية وقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من نذر نذرا سماه فعليه أن يفي به ومن نذر نذرا ولم يسمه فعليه كفارة يمين فهذا حكم ما كان قربة من المنذور في لزوم الوفاء بعينه وقسم آخر وهو ما كان مباحا غير قربة فمتى نذره لا يصير واجبا ولا يلزمه فعله فإذا أراد به يمينا فعليه كفارة يمين إذا لم يفعله مثل قوله لله على أن أكلم زيدا وأدخل هذه الدار وأمشى إلى السوق فهذه أمور مباحة لا تلزم بالنذر لأن ما ليس له أصل في القرب لا يصير قربة بالإيجاب كما أن ما ليس له أصل في الوجوب لا يصير واجبا بالنذر فإن أراد به اليمين كان يمينا وعليه الكفارة إذا حنث والقسم الثالث ما نذر المعصية نحو أن يقول لله على أن أقتل فلانا أو أشرب الخمر أو أغصب فلانا ماله فهذه أمور هي معاص لله تعالى لا يجوز له الإقدام عليها لأجل النذور وهي باقية على ما كانت عليه من الحظر وهذا يدل على ما ذكرناه في إيجاب ما ليس بقربة من المباحات أنها لا تصير واجبة بالنذور كما أن ما كان محظورا لا يصير مباحا ولا واجبا بالنذر وتجب فيه كفارة يمين إذا أراد يمينا وحنث لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين فالنذر ينقسم إلى هذه الأنحاء وأما الأيمان فإنها تعقد على هذه الأمور من قربة أو مباح أو معصية فإذا عقدها على قربة لم تصر واجبة باليمين ولكنه يؤمر بالوفاء به فإن لم يف به وحنث لزمته الكفارة وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لعبد الله بن عمر بلغني أنك قلت والله لأصومن الدهر فقال نعم قال فلا تفعل ولكن صم من كل شهر ثلاثة أيام فقال إنى أطيق أكثر من ذلك إلى أن ورده إلى أن يصوم يوما ويفطر

٢٨٧

يوما فلم يلزمه صوم الدهر باليمين فدل ذلك على أن اليمين لا يلزم بها المحلوف عليه ولذلك قال أصحابنا فيمن قال والله لأصومن غدا ثم لم يصمه فلا قضاء عليه وعليه كفارة يمين والقسم الآخر من الأيمان هو أن يحلف على مباح أن يفعله فلا يلزمه فعله كما لا يلزمه فعل القربة المحلوف عليها فإن شاء فعل المحلوف عليه وإن شاء ترك حنث لزمته الكفارة والقسم الثالث أن يحلف على معصية فلا يجوز له أن يفعلها بل عليه أن يحنث في يمينه ويكفر عنها لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه وقال أنى لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا فعلت الذي هو خير وكفرت عن يميني وقال الله تعالى( وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ ) روى أنها نزلت في أبى بكر الصديق حين حلف أن لا ينفق على مسطح ابن أثاثة لما كان منه من الخوض في أمر عائشة رضى الله عنها فأمره الله تعالى بالرجوع إلى الإنفاق عليه قوله تعالى( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ) قيل في الأنعام أنها الإبل والبقر والغنم وقال بعضهم الإطلاق يتناول الإبل وإن كانت منفردة وتتناول البقر والغنم إذا كانت مع الإبل ولا تتناولهما منفردة عن الإبل وقد روى عن الحسن القول الأول وقيل إن الأنعام تقع على هذه الأصناف الثلاثة وعلى الظباء وبقر الوحش ولا يدخل فيها الحافر لأنه أخذ من نعومة الوطء ويدل على هذا القول استثناؤه الصيد منها بقوله في نسق التلاوة( غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ) ويدل على أن الحافر غير داخل في الأنعام قوله تعالى( وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ ) ثم عطف عليه قوله تعالى( وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها ) فلما استأنف ذكرها وعطفها على الأنعام دل على أنها ليست منها وقد روى عن ابن عباس أنه قال في جنين البقرة أنها بهيمة الأنعام وهو كذلك لأن البقرة من الأنعام وإنما قال بهيمة الأنعام وإن كانت الأنعام كلها من البهائم لأنه بمنزلة قوله أحل لكم البهيمة التي هي الأنعام فأضاف البهيمة إلى الأنعام وإن كانت هي كما تقول نفس الإنسان* ومن الناس من يظن أن هذه الإباحة معقودة بشرط الوفاء بالعقود المذكورة في الآية وليس كذلك لأنه لم يجعل الوفاء بالعقود شرطا للإباحة ولا أخرجه مخرج المجازاة ولكنه وجه الخطاب إلينا بلفظ الأيمان في قوله

٢٨٨

تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ولا يوجب ذلك الاقتصار بالإباحة على المؤمنين دون غيرهم بل الإباحة عامة لجميع المكلفين كفارا كانوا أو مؤمنين كما قال تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها ) وهو حكم عام في المؤمنين والكفار مع ورود اللفظ خاصا بخطاب المؤمنين وكذلك كل ما أباحه الله تعالى للمؤمنين فهو مباح لسائر المكلفين كما أن كل ما أوجبه وفرضه فهو فرض على جميع المكلفين إلا أن يخص بعضهم دليل وكذلك قلنا إن الكفار مستحقون العقاب على ترك الشرائع كما يستحقون على ترك الإيمان* فإن قيل إذا كان ذبح البهائم محظورا إلا بعد ورود السمع به فمن لم يعتقد نبوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم واستباحته من طريق الشرع فحكمه في حظره عليه باق على الأصل وقائل هذا القول يقول إن ذبح البهائم محظور على الكفار أهل الكتاب منهم وغيرهم وهم عصاة في ذبحها وإن كان أكل ما ذبحه أهل الكتاب مباحا لنا وزعم هذا القول أن للملحد أن يأكل بعد الذبح وليس له أن يذبح وليس هذا عند سائر أهل العلم كذلك لأنه لو كان أهل الكتاب عصاة بذبحهم لأجل دياناتهم لوجب أن تكون ذبائحهم غير مذكاة مثل المجوسي لما كان ممنوعا من الذبح لأجل اعتقاده لم يكن ذبحه ذكاة وفي ذلك دليل على أن الكتابي غير عاص في ذبح البهائم وأنه مباح له كهو لنا وأما قوله إنه إذا لم يعتقد صحة نبوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم واستباحته من طريق الشرع فحكم حظر الذبح قائم عليه فليس كذلك لأن اليهود والنصارى قد قامت عليهم حجة السمع بكتب الأنبياء المتقدمين في إباحة ذبح البهائم وأيضا فإن ذلك لا يمنع صحة ذكاته لأن رجلا لو ترك التسمية على الذبيحة عامدا لكان عندنا عاصيا بذلك وكان لمن يعتقد جواز ترك التسمية عليها أن يأكلها ولم يكن كون الذابح عاصيا مانعا صحة ذكاته قوله عز وجل( إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) روى عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسدى( إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) يعنى قوله( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ) وسائر ما حرم في القرآن وقال آخرون إلا ما يتلى عليكم من أكل الصيد وأنتم حرم فكأنه قال على هذا التأويل إلا ما يتلى عليكم في نسق هذا الخطاب قال أبو بكر يحتمل قوله( إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) مما قد حصل تحريمه ما روى عن ابن عباس فإذا أريد به ذلك لم يكن اللفظ مجملا لأن ما قد حصل تحريمه قبل ذلك هو معلوم فيكون قوله( أُحِلَّتْ

«19 ـ أحكام لث»

٢٨٩

لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ) عموما في إباحة جميعها إلا ما خصه الآي التي فيها تحريم ما حرم منها وجعل هذه الإباحة مرتبة على آي الحظر وهو قوله( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ) ويحتمل أن يريد بقوله( إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) إلا ما يبين حرمته فيكون مؤذنا بتحريم بعضها علينا في وقت ثان فلا يسلب ذلك الآية حكم العموم أيضا ويحتمل أن يريد أن بعض بهيمة الأنعام محرم عليكم الآن تحريما يرد بيانه في الثاني فهذا يوجب إجمال قوله تعالى( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ) لاستثنائه بعضها فهو مجهول المعنى عندنا فيكون اللفظ مشتملا على إباحة وحظر على وجه الإجمال ويكون حكمه موقوفا على البيان وأولى الأشياء بنا إذا كان في اللفظ احتمال لما وصفنا من الإجمال والعموم حمله على معنى العموم لإمكان استعماله فيكون المستثنى منه ما ذكر تحريمه في القرآن من الميتة ونحوها* فإن قيل قوله تعالى( إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) يقتضى تلاوة مستقبلة لا تلاوة ماضية وما قد حصل تحريمه قبل ذلك فقد تلا علينا فوجب حمله على تلاوة ترد في الثاني* قيل له يجوز أن يريد به ما قد تلى علينا ويتلى في الثاني لأن تلاوة القرآن غير مقصورة على حال ماضية دون مستقبلة بل علينا تلاوته في المستقبل كما تلوناه في الماضي فتلاوة ما قد نزل قبل ذلك من القرآن ممكنة في المستقبل وتكون حينئذ فائدة هذا الاستثناء إبانة عن بقاء حكم المحرمات قبل ذلك من بهيمة الأنعام وأنه غير منسوخ ولو أطلق اللفظ من غير استثناء مع تقدم نزول تحريم كثير من بهيمة الأنعام لأوجب ذلك نسخ التحريم وإباحة الجميع منها* قوله تعالى( غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ) قال أبو بكر فمن الناس من يحمله على معنى إلا ما يتلى عليكم من أكل الصيد وأنتم حرم فيكون المستثنى بقوله( إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) هو الصيد الذي حرمه على المحرمين وهذا تأويل يؤدى إلى إسقاط حكم الاستثناء الثاني وهو قوله( غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ) ويجعله بمنزلة قوله( إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) وهو تحريم الصيد على المحرم وذلك تعسف في التأويل ويوجب ذلك أيضا أن يكون الاستثناء من إباحة بهيمة الأنعام مقصورا على الصيد وقد علمنا أن الميتة من بهيمة الأنعام مستثناة من الإباحة فهذا تأويل لا وجه له ثم لا يخلو من أن يكون قوله( غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ) مستثنى مما يليه من الاستثناء فيصير بمنزلة قوله( إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) إلا محلى الصيد وأنتم حرم ولو كان كذلك لوجب أن يكون موجبا لإباحة الصيد في الإحرام لأنه استثناء من

٢٩٠

المحظور إذ كان مثل قوله( إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) سوى الصيد مما قد بين وسيبين تحريمه في الثاني أو أن يكون معناه أوفوا بالعقود غير محلى الصيد وأحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم قوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ ) روى عن السلف فيه وجوه فروى عن ابن عباس أن الشعائر مناسك الحج وقال مجاهد الصفا والمروة والهدى والبدن كل ذلك من الشعائر وقال عطاء فرائض الله التي حدها لعباده وقال الحسن دين الله كله لقوله تعالى( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) أى دين الله وقيل إنها أعلام الحرم نهاهم أن يتجاوزوها غير محرمين إذا أرادوا دخول مكة وهذه الوجوه كلها في احتمال الآية والأصل في الشعائر أنها مأخوذة من الإشعار وهي الإعلام من جهة الإحساس ومنه مشاعر البدن وهي الحواس والمشاعر أيضا هي المواضع التي قد أشعرت بالعلامات وتقول قد شعرت به أى علمته وقال تعالى( لا يَشْعُرُونَ ) يعنى لا يعلمون ومنه الشاعر لأنه يشعر بفطنته لما لا يشعر به غيره وإذا كان الأصل على ما وصفنا فالشعائر العلامات واحدها شعيرة وهي العلامة التي يشعر بها الشيء ويعلم فقوله تعالى( لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ ) قد انتظم جميع معالم دين الله وهو ما أعلمناه الله تعالى وحده من فرائض دينه وعلاماتها بأن لا يتجاوزوا حدوده ولا يقصروا دونها ولا يضيعوها فينتظم ذلك جميع المعاني التي رويت عن السلف من تأويلها فاقتضى ذلك حظر دخول الحرم إلا محرما وحظر استحلاله بالقتال فيه وحظر قتل من لجأ إليه ويدل أيضا على وجوب السعى بين الصفا والمروة لأنهما من شعائر الله على ما روى عن مجاهد لأن الطواف بهما كان من شريعة إبراهيم عليه السلام وقد طاف النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بهما فثبت أنهما من شعائر الله وقوله عز وجل( وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ ) روى عن ابن عباس وقتادة أن إحلاله هو القتال فيه قال الله تعالى في سورة البقرة( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ) وقد بينا أنه منسوخ وذكرنا قول من روى عنه ذلك وأن قوله( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ) نسخه وقال عطاء حكمه ثابت والقتال في الشهر الحرم محظور وقد اختلف في المراد بقوله( وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ ) فقال قتادة معناه الأشهر الحرم وقال عكرمة هو ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب وجائز أن يكون المراد بقوله( وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ ) هذه الأشهر كلها وجائز أن يكون جميعها في حكم واحد منها وبقية الشهور معلوم حكمها من جهة دلالة اللفظ إذ

٢٩١

كان جميعها في حكم واحد منها فإذا بين حكم واحد منها فقد دل على حكم الجميع قوله تعالى( وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ ) أما الهدى فإنه يقع على كل ما يتقرب به من الذبائح والصدقات قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم المبتكر إلى الجمعة كالمهدى بدنة ثم الذي يليه كالمهدى بقرة ثم الذي يليه كالمهدى شاة ثم الذي يليه كالمهدى دجاجة ثم الذي يليه كالمهدى بيضة فسمى الدجاجة والبيضة هديا وأراد به الصدقة وكذلك قال أصحابنا فيمن قال ثوبي هذا هدى أن عليه أن يتصدق به إلا أن الإطلاق إنما يتناول أحد هذه الأصناف الثلاثة من الإبل والبقر والغنم إلى الحرم وذبحه فيه قال الله تعالى( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) ولا خلاف بين السلف والخلف من أهل العلم أن أدناه شاة وقال تعالى( مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ ) وقال( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) وأقله شاة عند جميع الفقهاء فاسم الهدى إذا أطلق يتناول ذبح أحد هذه الأصناف الثلاثة في الحرم وقوله( وَلَا الْهَدْيَ ) أراد به النهى عن إحلال الهدى الذي قد جعل للذبح في الحرم وإحلاله استباحة لغير ما سيق إليه من القربة وفيه دلالة على حظر الانتفاع بالهدى إذا ساقه صاحبه إلى البيت أو أوجبه هديا من جهة نذر أو غيره وفيه دلالة على حظر الأكل من الهدايا نذرا كان أو واجبا من إحصار أو أجزاء صيد وظاهره يمنع جواز الأكل من هدى المتعة والقران لشمول الاسم له إلا أن الدلالة قد قامت عندنا على جواز الأكل منه وأما قوله عز وجل( وَلَا الْقَلائِدَ ) فإن معناه لا تحلوا القلائد وقد روى في تأويل القلائد وجوه عن السلف فقال ابن عباس أراد الهدى المقلد قال أبو بكر هذا يدل على أن من الهدى ما يقلد ومنه ما لا يقلد والذي يقلد الإبل والبقر والذي لا يقلد الغنم فحظر تعالى إحلال الهدى مقلدا وغير مقلد وقال مجاهد كانوا إذا أحرموا يقلدون أنفسهم والبهائم من لحاء شجر الحرم فكان ذلك أمنا لهم فحظر الله تعالى استباحة ما هذا وصفه وذلك منسوخ في الناس وفي البهائم غير الهدايا وروى نحوه عن قتادة في تقليد الناس لحاء شجر الحرم وقال بعض أهل العلم أراد به قلائد الهدى بأن يتصدقوا بها ولا ينتفعوا بها وروى عن الحسن أنه قال يقلد الهدى بالنعال فإذا لم توجد فالجفاف(1) تقور ثم تجعل في أعناقها ثم يتصدق بها وقيل هو صوف يفتل فيجعل في أعناق الهدى قال أبو

__________________

(1) قوله فالجفاف جمع جف بضم الجيم وتشديد الفاء وهو وعاء الطلع ويقال للوطب الخلق جف أيضا.

٢٩٢

بكر قد دلت الآية على أن تقليد الهدى قربة وأنه يتعلق به حكم كونه هديا وذلك بأن يقلده ويريد أن يهديه فيصير هديا بذلك وإن لم يوجبه بالقول فمتى وجد على هذه الصفة فقد صار هديا لا تجوز استباحته والانتفاع به إلا بأن يذبحه ويتصدق به وقد دل أيضا على أن قلائد الهدى يجب أن يتصدق بها لاحتمال اللفظ لها وكذلك روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في البدن التي نحر بعضها بمكة وأمر عليا بنحر بعضها وقال له تصدق بحلالها وخطمها ولا تعط الجزار منها شيئا فإنا نعطيه من عندنا وذلك دليل على أنه لا يجوز ركوب الهدى ولا حلبه ولا الانتفاع بلبنه لأن قوله( وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ ) قد تضمن ذلك كله وقد ذكر الله القلائد في غير هذا الموضع بما دل به على القربة فيها وتعلق الأحكام بها وهو قوله تعالى( جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ) فلو لا ما تعلق بالهدى والقلائد من الحرمات والحقوق التي هي لله تعالى كتعلقها بالشهر وبالكعبة لما ضمها إليهما عند الأخبار عما فيها من المنافع وصلاح الناس وقوامهم وروى الحكم عن مجاهد قال لم تنسخ من المائدة إلا هاتان الآيتان( لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ ) نسختها( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) ـ( فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ ) الآية نسختها( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ) قال أبو بكر يريد به نسخ تحريم القتال في الشهر الحرام ونسخ القلائد التي كانوا يقلدون به أنفسهم وبهائمهم من لحاء شجر الحرم ليأمنوا به ولا يجوز أن يريد نسخ قلائد الهدى لأن ذلك حكم ثابت بالنقل المتواتر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم والصحابة والتابعين بعدهم وروى مالك بن مغول عن عطاء في قوله تعالى( وَلَا الْقَلائِدَ ) قال كانوا يقلدون لحاء شجر الحرم يأمنون به إذا خرجوا فنزلت( لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ ) قال أبو بكر يجوز أن يكون حظر الله انتهاك حرمة من يفعل ذلك على ما كان عليه أهل الجاهلية لأن الناس كانوا مقرين بعد مبعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما كانوا عليه من الأمور التي لا يحظرها العقل إلى أن نسخ الله منها ما شاء فنهى الله عن استحلال حرمة من تقلد بلحاء شجر الحرم ثم نسخ ذلك من قبل أن الله قد أمن المسلمين حيث كانوا بالإسلام وأما المشركين فقد أمر الله بقتلهم حتى يسلموا بقوله تعالى( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) فصار حظر قتل المشرك الذي تقلد بلحاء شجر الحرم منسوخا والمسلمون قد استغنوا عن ذلك فلم يبق له حكم وبقي حكم قلائد الهدى ثابتا وقد حدثنا عبد الله بن

٢٩٣

محمد بن إسحاق المروزى قال حدثنا الحسين بن أبى الربيع الجرجانى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا الثوري عن بيان عن الشعبي قال لم تنسخ من سورة المائدة إلا هذه الآية( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ ) وحدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسين بن أبى الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى( لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ ) الآية قال منسوخ كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تقلد من السمر فلم يعرض له أحد وإذا رجع تقلد قلادة شعر فلم يعرض له أحد وكان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت فنسختها قوله تعالى( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) وروى يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة في قوله تعالى( جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ) حواجز جعلها الله بين الناس في الجاهلية وكان الرجل إذا لقى قاتل أبيه في الشهر الحرام لم يعرض له ولم يقربه وكان الرجل إذا لقى الهدى مقلدا وهو يأكل العصب من الجوع لم يعرض له ولم يقربه وكان الرجل إذا أراد البيت تقلد قلادة من شعر تمنعه من الناس وكان إذا نفر تقلد قلادة من الإذخر أو من لحاء شجر الحرام فمنعت الناس عنه وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد الله قال حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن على بن أبى طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ ) قال كان المسلمون والمشركون يحجون البيت جميعا فنهى الله تعالى المؤمنين أن يمنعوا أحدا أن يحج البيت أو يعرضوا له من مؤمن أو كافر ثم أنزل الله بعد هذا( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ) وقال تعالى( ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ) وقد روى إسحاق بن يوسف عن ابن عون قال سألت الحسن هل نسخ من المائدة شيء فقال لا وهذا يدل على أن قوله تعالى( وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ ) إنما أريد به المؤمنون عند الحسن لأنه إن كان قد أريد به الكفار فذلك منسوخ بقوله( فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ) وقوله أيضا( وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ ) حظر القتال فيه منسوخ بما قدمنا إلا أن يكون عند الحسن هذا الحكم ثابتا على نحو ما روى عن عطاء قوله تعالى

٢٩٤

( يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً ) روى عن ابن عمر أنه قال أريد به الريح في التجارة وهو نحو قوله تعالى( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ ) وروى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سئل عن التجارة في الحج فأنزل الله تعالى ذلك وقد ذكرناه فيما تقدم وقال مجاهد في قوله تعالى( يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً ) الأجرة والتجارة قوله تعالى( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) قال مجاهد وعطاء في آخرين هو تعليم إن شاء صاد وإن شاء لم يصد قال أبو بكر هو إطلاق من حظر بمنزلة قوله تعالى( فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ ) لما حظر البيع بقوله( وَذَرُوا الْبَيْعَ ) عقبه بالإطلاق بعد الصلاة بقوله( فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ ) وقوله تعالى( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) قد تضمن إحراما متقدما لأن الإحلال لا يكون إلا بعد الإحرام وهذا يدل على أن قوله( وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ ) قد اقتضى كون من فعل ذلك محرما فيدل على أن سوق الهدى وتقليده يوجب الإحرام ويبدل قوله( وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ ) على أنه غير جائز لأحد دخول مكة إلا بالإحرام إذ كان قوله( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) قد يضمن أن يكون من أم البيت الحرام فعليه إحرام يحل منه ويحل له الاصطياد بعده وقوله( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) قد أراد به الإحلال من الإحرام والخروج من الحرم أيضا لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد حظر الاصطياد في الحرم بقوله ولا ينفر صيدها ولا خلاف بين السلف والخلف فيه فعلمنا أنه قد أراد به الخروج من الحرم والإحرام جميعا وهو يدل على جواز الاصطياد لمن حل من إحرامه بالحلق وإن بقاء طواف الزيارة عليه لا يمنع لقوله تعالى( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) وهذا قد حل إذ كان هذا الحلق واقعا للإحلال وقوله تعالى( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا ) قال ابن عباس وقتادة لا يجر منكم لا يحملنكم وقال أهل اللغة يقال جرمنى زيد على بغضك أو حملني عليه وقال الفراء لا يكسبنكم يقال جرمت على أهلى أى كسبت لهم وفلان جريمة أهله أى كاسبهم قال الشاعر :

جريمة ناهض في رأس نيق

ترى لعظام ما جمعت صليبا(1)

__________________

(1) قوله جريمة إلى آخره البيت لأبى خراش الهذلي يصف عقابا تكسب لفرخها الناهض وتزقه ما تأكله من لحم طيرا كلته وتبقى العظاء يسيل منها الصليب وهو الودك كما في التهذيب للأزهرى.

٢٩٥

ويقال جرم يجرم جرما إذا قطع وقوله تعالى( شَنَآنُ قَوْمٍ ) قرئ بفتح النون وسكونها فمن فتح النون جعله مصدرا من قولك شنئته أشنأه شنآنا والشنآن البغض فكأنه قال ولا يجر منكم بغض قوم وكذلك روى عن ابن عباس وقتادة قالا عداوة قوم ومن قرأ بسكون النون فمعناه بغيض قوم فنهاهم الله بهذه الآية أن يتجاوزوا الحق إلى الظلم والتعدي لأجل تعدى الكفار بصدهم المسلمين عن المسجد الحرام ومثله قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك * وقوله تعالى( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ) يقتضى ظاهره إيجاب التعاون على كل ما كان تعالى لأن البر هو طاعات الله وقوله تعالى( وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) نهى عن معاونة غيرنا على معاصى الله تعالى قوله تعالى( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ) الآية الميتة ما فارقته الروح بغير تزكية مما شرط علينا الزكاة في إباحته وأما الدم فالمحرم منه هو المسفوح لقوله تعالى( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) وقد بينا ذلك في سورة البقرة* والدليل أيضا على أن المحرم منه هو المسفوح اتفاق المسلمين على إباحة الكبد والطحال وهما دمان وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أحلت لي ميتتان ودمان يعنى بالدمين الكبد والطحال فأباحهما وهما دمان إذ ليسا بمسفوح فدل على إباحة كل ما ليس بمسفوح من الدماء فإن قيل لما حصر المباح منه بعدد دل على حظر ما عداه قيل هذا غلط لأن الحصر بالعدد لا يدل على أن ما عداه حكمه بخلافه ومع ذلك فلا خلاف أن مما عداه من الدماء ما هو المباح وهو الدم الذي يبقى في حلل اللحم بعد الذبح وما يبقى منه في العروق فدل على أن حصره الدمين بالعدد وتخصيصهما بالذكر لم يقتض حظر جميع ما عداهما من الدماء وأيضا فإنه لما قال( أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) ثم قال( وَالدَّمَ ) كانت الألف واللام للمعهود وهو الدم المخصوص بالصفة وهو أن يكون مسفوحا وقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أحلت لي ميتتان ودمان إنما ورد مؤكدا لمقتضى قوله عز وجل( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) إذ ليسا بمسفوحين ولو لم يره لكانت دلالة الآية كافية في الاقتصار بالتحريم على المسفوح منه دون غيره وأن الكبد والطحال غير محرمين وقوله تعالى( وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ ) فإنه قد تناول شجمه وعظمه وسائر أجزائه ألا ترى أن الشحم المخالط للحم قد اقتضاه اللفظ لأن اسم

٢٩٦

اللحم يتناوله ولا خلاف بين الفقهاء في ذلك وإنما ذكر اللحم لأنه معظم منافعه وأيضا فإن تحريم الخنزير لما كان منهما اقتضى ذلك تحريم سائر أجزائه كالميتة والدم وقد ذكرنا حكم شعره وعظمه فيما تقدم وأما قوله( وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ) فإن ظاهره يقتضى تحريم ما سمى عليه غير الله لأن الإهلال هو إظهار الذكر والتسمية وأصله استهلال الصبى إذا صاح حين يولد ومنه إهلال المحرم فينتظم ذلك تحريم ما سمى عليه الأوثان على ما كانت العرب تفعله وينتظم أيضا تحريم ما سمى عليه اسم غير الله أى اسم كان فيوجب ذلك أنه لو قال عند الذبح باسم زيد أو عمرو أن يكون غير مذكى وهذا يوجب أن يكون ترك التسمية عليه موجبا تحريمها وذلك لأن أحدا لا يفرق بين تسمية زيد على الذبيحة ترك التسمية رأسا* قوله تعالى( وَالْمُنْخَنِقَةُ ) فإنه روى عن الحسن وقتادة والسدى والضحاك أنها التي تختنق بحبل الصائد أو غيره حتى تموت ومن نحوه حديث عباية بن رفاعة عن رافع بن خديج أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذكوا بكل شيء إلا السن والظفر وهذا عندنا على السن والظفر غير المنزوعين لأنه يصير في معنى المخنوق وأما قوله تعالى( وَالْمَوْقُوذَةُ ) فإنه روى عن ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك والسدى أنها المضروبة بالخشب ونحوه حتى تموت يقال فيه وقذه يقذه وقذا وهو وقيذ إذا ضربه حتى يشفى على الهلاك ويدخل في الموقوذة كل ما قتل منها على غير وجه الزكاة وقد روى أبو عامر العقدى عن زهير بن محمد عن زيد بن أسلم عن ابن عمر أنه كان يقول في المقتولة بالبندقة تلك الموقوذة وروى شعبة عن قتادة عن عقبة بن صهبان عن عبد الله بن المغفل أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن الخذف وقال أنها لا تنكأ العدو ولا تصيد الصيد ولكنها تكسر السن وتفقأ العين ونظير ذلك ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عيسى قال حدثنا جرير عن منصور عن إبراهيم عن همام عن عدى بن حاتم قال قلت يا رسول الله أرمى بالمعراض فأصيب أفآكل قال إذا رميت بالمعراض وذكرت اسم الله فأصاب فخرق فكل وإن أصاب بعرضه فلا تأكل * حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا عبد الله بن أحمد قال حدثنا هشيم عن مجالد وزكريا وغيرهما عن الشعبي عن عدى بن حاتم قال سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صيد المعراض فقال ما أصاب بحده فخرق فكل وما أصاب بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكل فجعل ما أصاب بعرضه من غير جراحة موقوذة وإن لم يكن

٢٩٧

مقدورا على ذكاته وفي ذلك دليل على أن شرط ذكاة الصيد الجراحة وإسالة الدم وإن لم يكن مقدورا على ذبحه واستيفاء شروط الذكاة فيه وعموم قوله [والموقوذة] عام في المقدور على ذكاته وفي غيره مما لا يقدر على ذكاته وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا أحمد بن محمد بن النضر قال حدثنا معاوية بن عمر قال حدثنا زائدة قال حدثنا عاصم بن أبى النجود عن زر بن حبيش قال سمعت عمر بن الخطاب يقول يا أيها الناس هاجروا ولا تهجروا وإياكم والأرنب يحذفها أحدكم بالعصا أو الحجر يأكلها ولكن ليذك لكم الأسل الرماح والنبل وأما قوله تعالى [والمتردية] فإنه روى عن ابن عباس والحسن والضحاك وقتادة قالوا هي الساقطة من رأس جبل أو في بئر فتموت وروى مسروق عن عبد الله بن مسعود قال إذا رميت صيدا من على جبل فمات فلا تأكله فإنى أخشى أن يكون التردي هو الذي قتله وإذا رميت طيرا فوقع في ماء فمات فلا تطعمه فإنى أخشى أن يكون الغرق قتله* قال أبو بكر لما وجد هناك سببا آخر وهو التردي وقد يحدث عنه الموت حظر أكله وكذلك الوقوع في الماء وقد روى نحو ذلك النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن محمد بن إسماعيل قال حدثنا ابن عرفة قال حدثنا ابن المبارك عن عاصم الأحول عن الشعبي عن عدى بن حاتم أنه سأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصيد فقال إذا رميت بسهمك وسميت فكل إن قتل إلا أن تصيبه في الماء فلا ترى أيهما قتله ونظيره ما روى عنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في صيد الكلب أنه قال إذا أرسلت كلبك المعلم وسميت فكل وإن خالطه كلب آخر فلا تأكل فحظرصلى‌الله‌عليه‌وسلم أكله إذا وجد مع الرمي سبب آخر يجوز حدوث الموت منه مما لا يكون ذكاة وهو الوقوع في الماء ومشاركة كلب آخر معه وكذلك قول عبد الله في الذي يرمى الصيد وهو على الجبل فيتردى أنه لا يؤكل لاجتماع سبب الحظر والإباحة في تلفه فجعل الحكم للحظر دون الإباحة وكذلك لو اشترك مجوسي ومسلم في قتل صيد أو ذبحه لم يؤكل وجميع ما ذكرنا أصل في أنه متى اجتمع سبب الحظر وسبب الإباحة كان الحكم للحظر دون الإباحة* وأما قوله تعالى( وَالنَّطِيحَةُ ) فإنه روى عن الحسن والضحاك وقتادة والسدى أنها المنطوحة حتى تموت وقال بعضهم هي الناطحة حتى تموت قال أبو بكر هو عليهما جميعا فلا فرق بين أن تموت من نطحها لغيرها وبين موتها من نطح غيرها لها* وأما قوله( وَما أَكَلَ السَّبُعُ ) فإن معناه

٢٩٨

ما أكل منه السبع حتى يموت فحذف والعرب تسمى ما قتله السبع وأكل منه أكيلة السبع ويسمون الباقي منه أيضا أكيلة السبع قال أبو عبيدة( ما أَكَلَ السَّبُعُ ) مما أكل السبع فيأكل منه ويبقى بعضه وإنما هو فريسته وجميع ما تقدم ذكره في الآية بالنهى عنه قد أريد به الموت من ذلك وقد كان أهل الجاهلية يأكلون جميع ذلك فحرمه الله تعالى ودل بذلك عل أن سائر الأسباب التي يحدث عنها الموت للأنعام محظورا أكلها بعد أن لا يكون من فعل أدمى على وجه التذكية* وأما قوله تعالى( إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ ) فإنه معلوم أن الاستثناء راجع إلى بعض المذكور دون جميعه لأن قوله( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ) لا خلاف أن الاستثناء غير راجع إليه وإن ذلك لا يجوز أن تلحقه الزكاة وقد كان حكم الاستثناء أن يرجع إلى ما يليه وقد ثبت أنه لم يعد إلى ما قبل المنخنقة فكان حكم العموم فيه قائما وكان الاستثناء عائد إلى المذكور من عند قوله( وَالْمُنْخَنِقَةُ ) لما روى ذلك عن على وابن عباس والحسن وقتادة وقالوا كلهم إن أدركت ذكاته بأن توجد له عين تطرف أو ذنب يتحرك فأكله جائز وحكى عن بعضهم أنه قال الاستثناء عائدا إلى قوله( وَما أَكَلَ السَّبُعُ ) دون ما تقدم لأنه يليه وليس هذا بشيء لاتفاق السلف على خلافه ولأنه لا خلاف أن سبعا لو أخذ قطعة من لحم البهيمة فأكلها أو تردى شاة من جبل ولم يشف بها ذلك على الموت فذكاها صاحبها أن ذلك جائز مباح الأكل وكذلك النطيحة وما ذكر معها فثبت أن الاستثناء راجع إلى جميع المذكور من عند قوله( وَالْمُنْخَنِقَةُ ) وإنما قوله( إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ ) فإنه استثناء منقطع بمنزلة قوله لكن ما ذكيتم كقوله( فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ ) ومعناه لكن قوم يونس وقوله( طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى ) ومعناه لكن تذكرة لمن يخشى ونظائره في القرآن كثيرة* وقد اختلف الفقهاء في ذكاة الموقوذة ونحوها فذكر محمد في الأصل في المتردية إذا أدركت ذكاتها قبل أن تموت أكلت وكذلك الموقوذة والنطيحة وما أكل السبع وعن أبى يوسف في الإملاء أنه إذا بلغ به ذلك إلى حال لا يعيش في مثله لم يؤكل وإن ذكى قبل الموت وذكر ابن سماعة عن محمد أنه إن كان يعيش منه اليوم ونحوه أو دونه فذكاها حلت وإن كان لا يبقى إلا كبقاء المذبوح لم يؤكل وإن ذبح واحتج بأن عمر كانت به جراحة متلفة وصحت عهوده

٢٩٩

وأوامره ولو قتله قاتل في ذلك الوقت كان عليه القود وقال مالك إذا أدركت ذكاتها وهي حية تطرف أكلت وقال الحسن بن صالح إذا صارت بحال لا تعيش أبدا لم تؤكل وإن ذبحت وقال الأوزاعى إذا كان فيها حياة فذبحت أكلت والمصيودة إذا ذبحت لم تؤكل وقال الليث إذا كانت حية وقد أخرج السبع ما في جوفها أكلت إلا ما بان عنها وقال الشافعى في السبع إذا شق بطن الشاة ونستيقن أنها تموت إن لم تذك فذكيت فلا بأس بأكلها* قال أبو بكر قوله تعالى( إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ ) يقتضى ذكاتها مادامت حية فلا فرق في ذلك بين أن تعيش من مثله أولا تعيش وأن تبقى قصير المدة أو طويلها وكذلك روى عن على وابن عباس أنه إذا تحرك شيء منها صحت ذكاتها ولم يختلفوا في الأنعام إذا أصابتها الأمراض المتلفة التي تعيش معها مدة قصيرة أو طويلة إن ذكاتها بالذبح فكذلك المتردية ونحوها والله أعلم.

باب في شرط الذكاة قال أبو بكر قوله تعالى( إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ ) اسم شرعي يعتوره معان منها موضع الذكاة وما يقطع منه ومنها الآلة ومنها الدين ومنها التسمية في حال الذكر وذلك فيما كانت ذكاته بالذبح عند القدرة فأما السمك فإن ذكاته بحدوث الموت فيه عن سبب من خارج وما مات حتف أنفه فغير مذكى وقد بينا ذلك فيما تقدم من الكلام في الطافي في سورة البقرة* فأما موضع الذكاة في الحيوان المقدور على ذبحه فهو اللبة وما فوق ذلك إلى اللحيين وقال أبو حنيفة في الجامع الصغير لا بأس بالذبح في الحلق كله أسفل الحلق وأوسطه وأعلاه وأما ما يجب قطعه فهو الأوداج وهي أربعة الحلقوم والمريء والعرقان اللذان بينهما الحلقوم والمريء فإذا فرى المذكى ذلك أجمع فقد أكمل الذكاة على تمامها وسنتها فإن قصر عن ذلك ففرى من هذه الأربعة ثلاثة فإن بشر بن الوليد روى عن أبى يوسف أن أبا حنيفة قال إذا قطع أكثر الأوداج أكل وإذا قطع ثلاثة منها أكل من أى جانب كان وكذلك قال أبو يوسف ومحمد ثم قال أبو يوسف بعد ذلك لا تأكل حتى تقطع الحلقوم والمريء وأحد العرقين وقال مالك بن أنس والليث يحتاج أن يقطع الأوداج والحلقوم وإن ترك شيئا منها لم يجزه ولم يذكر المريء وقال الثوري لا بأس إذا قطع الأوداج وإن لم يقطع الحلقوم وقال الشافعى أقل ما يجزى من الذكاة قطع الحلقوم

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606