الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل16%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245124 / تحميل: 6211
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

١
٢

٣
٤

الآيات

( يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧) وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨) )

التّفسير

إنذار إلى كل أبناء آدم :

إنّ قصة آدم ومشكلته مع الشيطان ـ كما أسلفنا في آخر بحث في الآيات السابقة ـ عكست تصويرا واقعيا عن حياة جميع أفراد البشر على الأرض ، ولهذا بيّن الله تعالى في الآيات الحاضرة وما بعدها سلسلة من التعاليم والبرامج البنّاءة لجميع أبناء آدم ، وهي تعتبر في الحقيقة استمرارا لبرامج آدم في الجنّة.

ففي البداية يشير إلى مسألة اللباس وستر سوءات البدن التي كان لها دور

٥

مهم في قصّة آدم ، إذ يقول :( يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ ) .

ولكن فائدة اللباس الذي أرسلناه لكم لا تقتصر على ستر البدن وإخفاء العيوب والسوءات ، بل للتجمل والزينة أيضا حيث يجعل أجسامكم أجمل ممّا هي عليه.( وَرِيشاً ) .

وكلمة «ريش» في الأصل هو ما يستر أجسام الطيور ، وحيث أنّ ريش الطيور هو اللباس الطبيعي في أجسامها ، لهذا أطلق على نوع من أنواع الألبسة ، ولكن حيث أنّ ريش الطير في الأغلب مختلف الألوان جميلها ، لذلك تتضمّن هذه الكلمة مفهوم الزينة والجمال ، هذا مضافا إلى أنّه تطلق كلمة الريش على الأقمشة التي تلقى على سرج الفرس أو جهاز البعير.

وقد أطلق بعض المفسّرين وأهل اللغة هذه اللفظة على معنى أوسع أيضا ، وهو كل نوع من أنواع الأثاث والحاجيات التي يحتاج إليها الإنسان ، ولكن الأنسب في الآية الحاضرة هو الألبسة الجميلة وثياب الزينة.

ثمّ تحدث القرآن عقيب هذه الجملة التي كانت حول اللباس الظاهري ، عن حدّ اللباس المعنوي تبعا لسيرته في الكثير من الموارد التي تمزج بين الجانبين المادي والمعنوي ، الظاهري والباطني إذ قال :( وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ) .

وتشبيه التقوى باللباس تشبيه قوي الدلالة ، معبّر جدّا ، لأنّه كما أنّ اللباس يحفظ البدن من الحرّ والقرّ ، يقي الجسم عن الكثير من الأخطار ، ويستر العيوب الجسمانية ، وهو بالإضافة الى هذا وذاك زينة للإنسان ، ووقايته من الكثير من الأخطار الفردية والاجتماعية ، تعدّ زينة كبرى له زينة ملفتة للنظر تضيف إلى شخصيته رفعة وسمّوا ، وتزيدها جلالا وبهاء.

ثمّ إنّ هناك مذاهب متعددة للمفسّرين في تحديد المراد من لباس التقوى ،

٦

وأنّه ما هو؟

فبعض فسّره بـ «العمل الصالح» وبعض بـ «الحياء» وبعض بـ «لباس العبادة» ، وبعض بـ «لباس الحرب» مثل الدرع والخوذة ، وحتى الترس ، لأنّ لفظة التقوى مشتقّة من مادة «الوقاية» بمعنى الحفظ والحماية ، وبهذا المعنى جاء في القرآن الكريم أيضا ، كما نقرأ في سورة النحل الآية (٨١) :( وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ ) .

ولكن للآيات القرآنية ـ كما قلنا مرارا ـ معنى واسعا في الغالب ، ولها مصاديق متعددة ومختلفة ، وفي الآية الحاضرة ـ أيضا ـ يمكن استفادة جميع هذه المعاني منها.

وحيث أنّ لباس التقوى في هذه الآية موضوع في مقابل اللباس الساتر للبدن ، لهذا يبدو للنظر أنّ المراد منه هو «روح التقوى» التي تحفظ الإنسان ، وتنطوي تحتها معاني «الحياء» و «العمل الصالح» وأمثالهما.

ثمّ إنّ الله تعالى يقول في ختام الآية :( ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) أي إنّ هذه الألبسة التي جعلها الله لكم ، سواء الألبسة المادية أو المعنوية ، اللباس الجسماني أو لباس التقوى ، كلّها من آيات الله ليتذكر الناس نعم الربّ تعالى.

نزول اللباس!

نلاحظ في آيات متعددة من القرآن الكريم أنّ الله سبحانه يقول في صعيد توفير اللباس للبشر : «وأنزلنا» وهو بمعنى الإرسال من مكان عال إلى الأسفل ، إذ يقول :( قَدأَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً ) في حين أنّ اللباس كما هو المعلوم أمّا أنّه يتّخذ من الصوف ، أو يتّخذ من مواد نباتيّة وما شاكل ذلك من أشياء الأرض.

كما أننا نقرأ في الآية (٦) من سورة الزمر( وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ) وفي سورة الحديد الآية (٣٥)( وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ ) . فما ذا يعني هذا؟

٧

يصرّ كثير من المفسّرين على تفسير مثل هذه الآيات بالنّزول المكاني أي من فوق إلى تحت ، مثلا يقولون : إنّ ماء المطر ينزل من السماء إلى الأرض فتروى منه النباتات والحيوانات ، من هنا تكون مواد اللباس قد نزلت ـ بهذا المعنى ـ من السماء إلى الأرض.

وفي مجال الحديد أيضا يقولون : إنّ الأحجار والصخور السماوية العظيمة التي تحتوي على عناصر الحديد قد انجذبت إلى الأرض.

ولكن النّزول ربّما استعمل بمعنى النّزول المقامي ، وقد استعملت هذه اللفظة في المحاورات اليومية بهذا الشكل كثيرا ، فيقال مثلا : أصدر الحاكم أمره إلى أمرائه ومعاونيه ، أو يقال : رفعت شكواي إلى القاضي ، لهذا لا داعي إلى الإصرار على تفسير هذه الآيات بالنّزول المكاني.

فحيث أنّ النعم الإلهية قد صدرت من المقام الرّبوبي الرفيع إلى البشر ، لهذا عبّر عن هذا المفهوم بهذا اللفظ ، وهو تعبير يدركه الإنسان بدون إشكال أو صعوبة.

ويشبه هذا الموضوع ما نلاحظه في ألفاظ الإشارة القريبة والبعيدة أيضا ، فقد يكون شيء ما ذا بال أو موضوع مهمّ في متناول أيدينا ، ولكنّه ـ لما كان من حيث الشأن ـ يتمتّع بمقام مهمّ رفيع ، فإنّنا نشير إليه باسم الإشارة البعيد ، فنقول في محاوراتنا مثلا : تلك الشّخصية ، ونحن نقصد رجلا حاضرا قريبا ، وقد جاء في القرآن الكريم :( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ ) . والمقصود من الكتاب المشار إليه بالإشارة البعيدة القرآن الحاضر ، ولكن تعظيما له أستعيض في الإشارة إليه عن أداة الإشارة القريبة بأداة الإشارة البعيدة.

اللباس في الماضي والحاضر :

لم يزل الإنسان فيما مضى ـ كما يشهد به التاريخ ـ يلبس الثياب ، ولكن

٨

الألبسة قد تغيرت وتنوعت تنوعا بالغا عبر الزمن ، فقد كانت الثياب تلبس فيما سبق ـ وفي الأغلب ـ لأجل حفظ الجسم من الحرّ والقرّ وكذا للزينة والتجمل ، والجانب الوقائي كان يأتي في الدرجة اللاحقة ، ولكن في ظل الحياة الصناعية الحاضرة أصبح الجانب الوقائي في المرتبة الأولى من الأهمية في كثير من الحقول ، فرجال الفضاء ورجال الإطفاء ، وعمال المعادن والمناجم والغواصون ، وغيرهم كثيرون ، يستخدمون ألبسة خاصّة لوقاية أنفسهم من مختلف الأخطار.

لقد تطورت وسائل إنتاج الألبسة والثياب في عصرنا الراهن تطورا هائلا ، واتسع نطاقها اتساعا كبيرا ، بحيث أصبح لا يقاس بما مضى.

يقول كاتب تفسير المنار في المجلد الثّامن عند تفسير الآية المبحوثة هنا : «لقد بلغ من إتقان صناعات اللباس أنّ عاهل ألمانية الأخير (قيصرها) دخل مرّة أحد معامل الثياب ليشاهد ما وصلت إليه من الإتقان ، فجزوا أمامه عند دخوله صوف بعض كباش الغنم ، ولما انتهى من التجوال في المعمل ومشاهدة أنواع العمل فيه ، وأراد الخروج قدّموا له معطفا ليلبسه تذكارا لهذه الزيارة ، وأخبروه أنّه صنع من الصوف الذي جزوه أمامه عند دخوله ، فهم قد نظفوه في الآلات المنظّفة ، فغزلوه بآلات الغزل ، فنسجوه بآلات النسج ، ففصّلوه فخاطوه في تلك الفترة القصيرة ، فانتقل في ساعة أو ساعتين من ظهر الخروف إلى ظهر الإمبراطور».(١)

ولكن ـ للأسف ـ قد اتسعت الجوانب الفرعية ، بل وغير المحمودة والفاضحة للثياب والألبسة وتعددت كثيرا إلى درجة أنّها غطت على الفلسفة الأصلية للباس.

لقد أصبح اللباس ـ اليوم ـ وسيلة لأنواع التظاهر ، وإشاعة الفساد ، وتحريك الشهوات ، والتكبر والإسراف والتبذير ، وما شابه ذلك. حتى أنّنا ربّما نشاهد

__________________

(١) المنار ، ج ٨ ، ص ٣٥٩.

٩

ألبسة يرتديها جماعات من الناس ـ وبخاصّة الشباب المتغرب ـ يفوق طابعها الجنوني على الطابع العقلاني ، وتكون أشبه بكل شيء إلّا باللباس والثوب.

والذي تقود إليه الدراسة الموضوعية لهذه الظاهرة ، هو أنّ للعقد النفسية دورا مهمّا في ارتداء مثل هذه الألبسة العجيبة الغريبة ، فالأفراد الذين لا يتمكنون من القيام بعمل مهم وملفت للنظر لتوكيد وجودهم في المجتمع يلجأون إلى هذا الأسلوب ويحاولون بارتداء هذه الألبسة غير المأنوسة والعجيبة إثبات وجودهم وحضورهم ، ولهذا نلاحظ أنّ أصحاب الشخصيات المحترمة ، أو الذين لا يعانون من عقد نفسيّة ينفرون من ارتداء مثل هذه الثياب.

وعلى كل حال فإنّ مبالغ طائلة وثروات عظيمة جدّا تهدر وتبدّد ـ اليوم ـ في سبيل اقتناء وتعاطي الألبسة المتنوعة والموضات المختلفة ولو منع من تبذيرها وتبديدها والإسراف فيها لأمكن حل الكثير من المشكلات الاجتماعية بها ، ولتحولت إلى بلاسم وضمادات ناجعة لكثير من جراحات الطبقات المحرومة والفئات البائسة الفقيرة في المجتمعات البشرية.

هذا ويستفاد من تاريخ حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسائر الأئمّة العظام أنّهم كانوا يعارضون بشدّة مسألة التفاخر بالألبسة والإفراط في التجمل بها ، إلى درجة أنّنا نقرأ في الرّوايات أنّ وفدا من النصارى قدم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة ، وهم يلبسون الألبسة الحريرية الجميلة جدا ، والتي لم يرها العرب إلى ذلك اليوم ولم يعهد أن لبسوها ، فلما حضروا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سلموا عليه ، لم يردّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على سلامهم ، بل أحجم حتى عن التحدث معهم ولو بكلمة ، وأعرض عنهم ، فلمّا سألوا عليّاعليه‌السلام عن سبب إعراض النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنهم ، قالعليه‌السلام لهم : أرى أن تضعوا حللكم هذه وخواتيمكن ثمّ تعودون إليه.

ففعل النصارى ما قاله لهم الإمامعليه‌السلام ، ثمّ دخلوا على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسلّموا عليه فردّ عليهم وتحدث معهم. ثمّ قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والذي بعثني بالحق لقد أتوني

١٠

المرّة الأولى وإنّ إبليس لمعهم».(١)

الآية اللاحقة يحذّر فيها الله سبحانه جميع أبناء البشر من ذرية آدم من كيد الشيطان ومكره ، ويدعو إلى مراقبته ، والحذر منه ، لأنّ الشّيطان أبدى عداءه لأبيهم آدم ، فكما أنّه نزع عنه لباس الجنّة بوساوسه يمكن أن ينزع عنهم لباس التقوى ، ولهذا يقول تعالى :( يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما ) .

وفي الحقيقة إنّ الأمر الذي يربط الآية الحاضرة بالآية السابقة هو أنّ الآية السابقة تحدثت عن اللباس الظاهري والمعنوي للإنسان (لباس التقوى) ، وهذه الآية تضمنت تحذيرا ودعوة له لمراقبة الشيطان والحذر من نزعه لباس التقوى عنكم.

على أنّ ظاهر عبارة( لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ ) هو نهي الشيطان عن هذا العمل ، ولكن أمثال هذه العبارات تعتبر كنايات لطيفة لنهي المخاطب ، وتشبه ما إذا خاطبنا صديقا نحبه قائلين : لا يصح أن يوجه إليك فلان ضربة ، أي راقبه حتى لا تتعرض لضربته وأذاه.

ثمّ إنّ الله تعالى يؤكّد على أنّ الشيطان وأعوانه يختلفون عن غيرهم من الأعداء( إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ ) فلا بدّ من شدّة الحذر من مثل هذا العدوّ.

وفي الحقيقة عند ما تظن أنك وحيد ، فإنّه من الممكن أن يكون حاضرا معك ، فيجب عليك الحذر من هذا العدوّ الخفيّ الذي لا يمكن معرفة لحظات هجومه وعدوانه المباغت ، ولا بدّ من اتخاذ حالة الدفاع الدائم أمامه.

وفي خاتمة الآية يأتي سبحانه بجملة هي في الحقيقة إجابة على سؤال

__________________

(١) سفينة البحار ، المجلد الثاني ، ص ٤ ـ ٥ ، مادة لبس.

١١

مهم ، فقد يتساءل أحد : كيف سلّط الله العادل الرحيم عدوّا بهذه القوة على الإنسان عدوّا لا يمكن مقايسة قواه بقوى الإنسان عدوا يذهب حيث يشاء دون أن يحس أحد بتحركاته ، بل إنّه ـ حسبما جاء في بعض الأحاديث ـ يجري من الإنسان مجرى الدم في عروقه ، فهل تنسجم هذه الحقيقة مع عدالة الله سبحانه؟! الآية الشريفة ـ في خاتمتها ـ ترد على هذا السؤال الاحتمالي إذ تقول :( إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) .

أي إنّ الشياطين لا يسمح لهم قط بأن يتسلّلوا وينقذوا إلى قلوب وأرواح المؤمنين الذين لم يكونوا على استعداد لقبول الشيطان والتعامل معه.

وبعبارة أخرى : إنّ الخطوات الأولى نحو الشيطان إنّما يخطوها الإنسان نفسه ، وهو الذي يسمح للشيطان بأن يتسلل إلى مملكة جسمه. فالشيطان لا يستطيع اجتياز حدود الروح ويعبرها إلّا بعد موافقة من الإنسان نفسه ، فإذا أغلق الإنسان نوافذ قلبه في وجه الشياطين والأبالسة ، فسوف لا تتمكن من النفوذ إلى باطنه.

إن الآيات القرآنية الأخرى شاهدة أيضا على هذه الحقيقة ، ففي سورة النحل في الآية (١٠٠) نقرأ( إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) ، فالذين يتعشقون الشيطان ويسلمون إليه زمام أمرهم ويعبدونه هم الذين يتعرضون لسيطرته ووساوسه.

وفي الآية (٤٧) من سورة الحجر نقرأ( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) .

وبعبارة أخرى : صحيح أنّنا لا نرى الشيطان وجنوده وأعوانه ، إلّا أننا نستطيع أن نرى آثار أقدامهم ، ففي كل مجلس معصية ، وفي كل مكان تهيّأت فيه وسائل الذنب ، وفي كل مكان توفرت فيه زبارج الدنيا وبهارجها ، وعند طغيان الغرائز ، وعند اشتعال لهيب الغضب ، يكون حضور الشيطان حتميا ومسلّما ، وكأنّ

١٢

الإنسان يسمع في هذه المواقع صوت وساوس الشيطان بآذان قلبه ، ويرى آثار قدمه بأمّ عينيه.

وقد روي ـ في هذا الصعيد ـ حديث رائع عن الإمام الباقرعليه‌السلام إذ يقول : «لما دعا نوح ربّهعزوجل على قومه أتاه إبليس لعنة الله فقال : يا نوح إنّ لك عندي يدا! أريد أن أكافئك عليها.

فقال نوح : إنّه ليبغض إليّ أن يكون لك عندي يد ، فما هي؟

قال : بلى دعوت الله على قومك فأغرقتهم ، فلم يبق أحد أغويه ، فأنا مستريح حتى ينشأ قرن آخر وأغويهم.

فقال نوح : ما الذي تريد أن تكافيني به؟

قال : أذكرني في ثلاثة مواطن ، فإنّي أقرب ما أكون إلى العبد إذا كان في أحدهن :

أذكرني إذا غضبت؟

واذكرني إذا حكمت بين اثنين!

واذكرني إذا كنت مع امرأة خاليا ليس معكما أحد!»(١) .

النقطة الأخرى التي يجب الانتباه إليها هنا ، هي أنّ ثلّة من المفسّرين استنبطوا من هذه الآية أنّ الشيطان غير قابل للرؤية للإنسان مطلقا ، في حين يستفاد من بعض الرّوايات أنّ هذا الأمر ممكن أحيانا.

ولكن الظاهر أنّ هذين الاتجاهين غير متعارضين ، لأنّ القاعدة الأولية والأصلية هي أن لا يرى ، ولكن لهذه القاعدة ـ كغيرها ـ استثناءات ، فلا تناف.

في الآية التالية يشير تعالى إلى واحدة من وساوس الشيطان المهمّة والتي

__________________

(١) بحار الأنوار ، الطبعة الجديدة ، الجزء ١١ ، الصفحة ٣١٨.

١٣

تجري على ألسنة بعض الشياطين من الإنس أيضا ، وهي أنّه عند ما يسأل الشخص لدى ارتكابه عملا قبيحا ، عن دليله يجيب قائلا : هذا ما وجدنا آباءنا يفعلونه :( وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا ) .

ثمّ يضيفون إلى هذه الحجّة حجّة كاذبة أخرى قائلين :( وَاللهُ أَمَرَنا بِها ) .

إنّ مسألة التقليد الأعمى للآباء ، بالإضافة إلى الافتراء على الله ، عذران مختلفان ، وحجّتان داحضتان يتشبث بهما العصاة المتشيطنون لتبرير أعمالهم القبيحة غالبا.

والملفت للنظر أنّ القرآن الكريم لم يعبأ بالدليل الأوّل (يعني التقليد الأعمى للآباء والأسلاف) ولم يعتن به ، وكأنّه وجد نفسه في غنى عن الرّدّ عليه وإبطاله ، لأنّ العقل السليم يدرك بطلانه ، هذا مضافا إلى أنّه قد ردّ عليه في مواضع عديدة من القرآن الكريم. وإنّما اكتفى بالردّ على الحجّة الثّانية ، أو بالأحرى (التبرير الثّاني) حيث قال :( قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ ) .

إنّ الأمر بالفحشاء حسب تصريح الآيات القرآنية عمل الشيطان لا عمل الله ، فإنّه تعالى لا يأمر إلّا بالمعروف والخير(١) .

ثمّ يختم الآية بهذه العبارة :( أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) .

ورغم أنّ الأنسب أن يقول : لماذا تنسبون ما هو كذب وليس له واقع إلى الله؟ لكنّه قال بدل ذلك : لماذا تقولون ما لا تعلمون على الله؟ وهذا في الحقيقة استنادا الى الحدّ الأدنى من موضع قبول الطرف الآخر ، فيقال : إذا كنتم لا تتيقنون كذب هذا الكلا ، فعلى الأقل ليس لديكم دليل على إثباته ، فلما ذا تتهمون الله وتقولون على الله ما لا تعلمون؟!.

__________________

(١) راجع سورة البقرة ، ٢٦٨ و ٢٦٩.

١٤

ما هو المقصود من الفحشاء؟

ما هو المراد من الفحشاء هنا؟ قالت طائفة كبيرة من المفسّرين : إنّها إشارة إلى تقليد كان سائدا بين جماعة من العرب في العهد الجاهلي ، وهو الطواف حول بيت الله المعظم عريانا «رجالا ونساء» ظنا منهم بأنّ الثياب التي ارتكبت فيها الذنوب لا تليق بأن يطاف بها حول الكعبة المعظمة.

على أنّ هذا التّفسير يتناسب مع الآيات السابقة التي دار الحديث فيها عن الثّياب والألبسة.

ولكنّنا نقرأ في روايات متعددة أنّ المراد من الفحشاء هنا هو كلام حكّام الجور الذين يدعون الناس إلى أنفسهم ، ويعتقدون بأنّ الله فرض طاعتهم على الناس.

ولكن بعض المفسّرين ـ مثل كاتب «المنار» و «الميزان» ـ أخذوا للآية مفهوما واسعا إذ قالوا : إنّ الفحشاء تشمل كل عمل قبيح منكر ، وبملاحظة سعة مفهوم لفظة الفاحشة ، فإنّ الأنسب هو أنّ للآية معنى واسعا سعة معنى الكلمة ، ومسألة «الطواف بالبيت عريانا» و «اتباع القادة والزعماء الظلمة» تعدّ من المصاديق الواضحة لذلك ، فلا منافاة بين الطائفتين من الرّوايات.

هذا وقد أعطينا توضيحا كافيا حول التسليم المطلق لتقاليد الأسلاف وأعرافهم عند تفسير الآية (١٧٠) من سورة البقرة.

* * *

١٥

الآيتان

( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠) )

التفسير

حيث أنّ الحديث في الآية السابقة دار حول الفحشاء التي يشمل مفهوما كلّ أنواع الفعل القبيح ، وتأكّد أنّ الله يأمر بالفحشاء إطلاقا لهذا أشير في هذه الآية إلى أصول ومبادئ التعاليم الإلهية في مجال الوظائف والواجبات العملية في جملة قصيرة ، ثمّ تبعه بيان أصول العقائد الدينية ، أي المبدأ والمعاد ، بصورة مختصرة موجزة.

يقول أوّلا : أيّها النّبي( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ) والعدل.

ونحن نعلم أنّ للعدل مفهوما واسعا يشمل جميع الأعمال الصالحة ، لأنّ حقيقة العدل هي استخدام كل شيء في مجاله ، ووضع كل شيء في محلّه.

ثمّ إنّه وإن كان بين «العدالة» و «القسط» تفاوتا ، إذ تطلق «العدالة» ويراد

١٦

منها إعطاء كل ذي حق حقه ، ويقابلها «الظلم» وهو منع ذوي الحقوق من حقوقهم ، بينما يعني «القسط» أن لا تعطي حق أحد لغيره.

وبعبارة أخرى : أن لا يرضى بالتبعيض ، ويقابله أن يعطي حقّ أحد لغيره.

ولكن المفهوم الواسع لهاتين الكلمتين اللتين قد تستعملان منفصلتين ، متساو تقريبا ، وهما يعنيان رعاية الاعتدال والتوازن في كل شيء وفي كل عمل ، وبالتالي وضع كل شيء في مكانه.

ثمّ إنّه سبحانه أمر بالتوحيد في العبادة ومحاربة كلّ ألوان الشرك وأنواعه ، إذ قال :( وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) أي وجهوا قلوبكم نحو الله الواحد دون سواه ،( وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) .

وبعد تحكيم وإرساء قاعدة التوحيد ، وجه الأنظار نحو مسألة المعاد والبعث يوم القيامة ، إذ قال :( كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) .

* * *

بحثان

هنا نقطتان يجب الالتفات إليهما والوقوف عندهما :

١ ـ ما المقصود من «( أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ .)

ذكر المفسّرون في تفسير( أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) تفاسير متنوعة ، فتارة قالوا : المراد هو التوجه صوب القبلة.

وأخرى : إنّ المراد هو المشاركة في المساجد أثناء الصلوات اليومية.

وثالثة احتملوا أيضا أن يكون الهدف منه هو حضور القلب والنية الخالصة عند العبادة.

ولكن التّفسير الذي ذكرناه أعلاه (أي التوجه إلى الله ، ومحاربة كل ألوان

١٧

الشرك والتوجه إلى غير الله) يبدو للنظر أنّه أنسب مع ما سبق وما يلحق هذه الجملة ، وإن لم تكن إرادة كل هذه المعاني بعيدة عن مفهوم الآية أيضا.

٢ ـ أقصر الأدلة على المعاد

لقد بحث أمر المعاد والبعث في يوم القيامة كثيرا ، ويستفاد من آيات القرآن الكريم أنّ هضم هذه المسألة كان أمرا صعبا وعسيرا بالنسبة إلى كثير من الناس في العصور الغابرة ، إلى درجة أنّهم كانوا يتخذون أحيانا من طرح مسألة القيامة والمعاد من قبل الأنبياء دليلا على عدم صحة دعوتهم ، وبل حتى (والعياذ بالله) دليلا على الجنون ويقولون :( أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ ) (١) .

ولكن يجب الانتباه إلى أنّ ما كان يدعو لمزيد من تعجبهم ودهشتهم ، هو مسألة المعاد الجسماني ، لأنّهم ما كانوا يصدّقون بأنّ الأبدان بعد صيرورتها ترابا ، وتبعثر ذراتها بفعل الرياح والأعاصير وتناثرها في أرجاء الأرض. أن تجتمع هذه الذرات المتبعثرة من بين أكوام التراب. وأمواج البحار ، ومن بين ثنايا ذرات الهواء ، ويلبس ذلك الإنسان لباس الوجود والحياة مرّة أخرى.

إن القرآن الكريم أجاب في آيات متنوعة على هذا الظن الخاطئ ، والآية الحاضرة تعكس إحدى أقصر وأجمل التعابير في هذا المجال ، إذ تقول : أنظروا إلى بداية الخلق ، انظروا إلى جسمكم الذي يتكون من مقدار كبير من الماء ، ومقدار أقل من المواد المعدنية وشبه المعدنية المختلفة المتنوعة أين كان في السابق؟ فالمياه المستخدمة في جسمكم يحتمل أنّ كل قطرة منها كانت سادرة في محيط من محيطات الأرض ثمّ تبخّرت وتبدلت إلى السّحب ، ثمّ نزلت في شكل قطرات المطر على الأراضي ، والذرات التي استخدمت في نسيج جسمكم من مواد الأرض الجامدة كانت ذات يوم في هيئة حبّة قمح أو ثمرة شجرة ، أو خضروات مختلفة جمعت من مختلف نقاط الأرض.

__________________

(١) سورة سبأ ، ٨.

١٨

وعلى هذا فلا مكان للتعجب والدهشة إذا سمعنا أنّه بعد تلاشي بدن الإنسان ورجوعه إلى حالته الأولى تجتمع تلك الذرّات ثانية ، وتتواصل وتترابط ويتشكل الجسم الأوّل ، فلو كان هذا الأمر محالا فلما ذا وقع في مبدأ الخلقة.

إذا «كما بدأكم» الله «تعودون» أي يعيدكم في الآخرة ، وهذا هو الموضوع الذي تضمنته العبارة القصيرة.

في الآية اللاحقة يصف سبحانه ردود الفعل التي أظهرها الناس قبال هذه الدعوة (الدعوة إلى التوحيد والخير والمعاد) فيقول :( فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ ) (١) .

ولأجل أن لا يتصور أحد أنّ الله يهدي فريقا أو يضلّ فريقا من دون سبب ، أضاف في الجملة ما يلي :( إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ ) أي إنّ الضالين هم الذين اختاروا الشياطين أولياء لهم بدل أن يدخلوا تحت ولاية الله ، فضلوا.

والعجب أنّه رغم كل ما أصابهم من ضلال وانحراف يحسبون أنّهم المهتدون الحقيقون( وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ) .

إنّ هذه الحالة تختص بالذين غرقوا في الطغيان والمعصية ، وكان انغماسهم في الفساد ، والضلال والانحراف ، والوثنية ، كبيرا إلى درجة أنّه انقلبت حاسة تمييزهم رأسا على عقب ، فحسبوا القبيح حسنا ، والضلالات هداية ، وفي هذه الحالة أغلقت في وجوههم كل أبواب الهداية ، وهذا هو ما أوجدوه وجلبوه لأنفسهم.

* * *

__________________

(١) جملة «فريقا هدى» من حيث الإعراب والتركيب تكون كالتالي : فريقا مفعول هدى فعل وفاعل مؤخرين ، وفريقا (الثّانية) مفعول مقدم.

وأضل فعل وفاعل مؤخران مقدران دل عليهما جملة «حق عليهم الضلالة».

١٩

الآيتان

( يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢) )

التّفسير

الحديث في هاتين الآيتين يتناسب مع قصّة آدم في الجنّة ، وكذلك يتناول مسألة اللباس وسائر مواهب الحياة ، وكيفية الاستفادة الصحيحة منها.

في البداية يأمر جميع أبناء آدم ضمن دستور عام أبدي ، يشمل جميع الأعصار والقرون ، أن يتخذوا زينتهم عند ما يذهبون إلى المساجد( يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) .

هذه الجملة يمكن أن تكون إشارة إلى كل «زينة جسمانية» ممّا يشمل لبس الثياب المرتبة الطاهرة الجميلة ، ومشط الشعر ، واستعمال الطيب والعطر وما شابه ذلك كما يمكن أيضا أن تكون إشارة إلى كل «زينة معنوية» يعني الصفات

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

عدها العالم فون إيكونومو ، وهي التي تسيطر على نشاط البدن وفعاليته جميعا وهي التي يكمن فيها النشاط الفكري ، والتخيل الذهني ، وشخصية الانسان إجمالاً ، أو كما وصف الدماغ أحدهم فقال : هذا هو عجيبة الدهر الذي في تلافيفه بنيت المختبرات واستنبطت الاختراعات ، وبين تعاريجه أسست معاهد العلم ، وعلى تحاديبه نصب ميادين الطيارات والسيارات ، وداخل تجاويفه سطعت الكهرباء ، كتلة صغيرة وسعت ما ضاق به الكون الفسيح ، هذا هو رافع الإنسان إلى أعلى الرتب وهذا هو أساس العلم والعمران(1) . أو كما أراد أن يصفه العالم الأمريكي جودسون هويك عندما ألقى محاضرة في معهد التاريخ بنيويورك ديسمبر 1957 فقال : لو جمعنا كل أجهزة العالم من الرادار والتلغراف والتلفزيون والتلفون ثم بدأنا بتصغير ما اجتمع لدينا حتى توصلنا بهذه الكومة الهائلة من الأشرطة والأجهزة المعقدة إلى حجم الدماغ فإنها لا تبلغ في تعقيدها مثل الدماغ؟! ..

الحمات الراشحة :

في الخلية يكمن سر الحياة وخاصته في النواة حيث ترقد الكروموسومات ( الصبغيات ) التي تحدد الجنس وصفات النوع إلى الأجيال القادمة ، ولقد وجد أن النقلة من عالم الجماد إلى عالم الأحياء الذي يمتاز بالتكاثر والتغذي والتنفس والحس إنما تتم عن طريق الخلية التي تظهر أوضح ما يكون في عالم الحمات الراشحة ، حيث وجد أن بعض الحمات الراشحة تأخذ طوراً صفات الجماد فيدرسها الكيمياوي على أساس أنها مادة ليست حية فهي تتبلور كما هي في صفات الجمادات وإن كانت ذرتها كبيرة ومعقدة ، وطوراً آخر يدرسها الجرائيمي على أنها حمات

__________________

(1) عن كتاب هذا الانسان للدكتور حبيب صادر بتصرف.

٤١

راشحة لأن فيها صفات الأحياء وهي التكاثر ، ولذا فإنها مخلوقات عجيبة ، والحمات لا تتطفل إلا على الأحياء ولذا فهي لا تعيش إلا داخل الخلية ولها أنواع متعددة مثل حمة الجدري وحمة شلل الأطفال وحمة النزلة الوافدة وحمة فسيفساء التبغ والعاثيات وهذه الأخيرة تسطو على الجراثيم خاصة ، ولذا فإن هذا الانتقال من طور إلى طور وبشكل يدعو للتأمل والعجب من الجماد إلى الحياة وبالعكس ، إن هذا قد يجعلنا نقول لعل سر الخليقة يكمن في هذا التحول عندما يقول الله كن فيكون؟!!

تكوين الاعضاء والاجهزة :

في جسم الانسان ألف مليون مليون خلية [ 1000,000,000,000,000 ] وهذه الخلايا تشكل مجموع الأجهزة في الانسان مثل جهاز التنفس ، وجهاز الهضم ، والجهاز البولي ، والجهاز التناسلي ، والجهاز اللنفاوي ، والجهاز الدموي ، والجهاز العضلي ، والجهاز الصقلي العظمي ، والجهاز العصبي ، والجهاز الجلدي ، والجهاز الضام ، بالاضافة إلى الحواس كالسمع والبصر والذوق والشم والإحساس عن طريق الجلد ، فمجموع هذه الأجهزة تتعاون معاً لتشكل كينونة واحدة هي الكائن الانساني ، كما أن الجهاز الواحد بالذات ينقسم إلى أعضاء مثل الجهاز الهضمي الذي ينقسم إلى الفم واللسان والحلق والبلعوم والمري والفؤاد والمعدة والبواب والاثني عشرية والأمعاء الدقيقة ثم الأمعاء الغليظة ثم السين الحرقفي ثم المستقيم ثم الشرج ، وهو كما نرى يؤلف حوالي 12 ـ 13 عضواً ، وهذه الأعضاء تتعاون تعاوناً وثيقاً فيما بينها لتؤدي دوداً بالغ الأهمية بالنسبة للكائن الإنساني وهو التغذية ، ومثل آخر على ذلك جهاز التنفس حيث يشترك الأنف أو الفم في أول مجرى التنفس وخاصة مجرى الانف ثم الحلق ثم الرغامي ثم القصبات ثم القصيبات ثم الأسناخ الرئوية التي يبلغ عددها 750 مليون سنخ رئوي وتفرش سطحاً مساحته سبعون متر مربع وكله

٤٢

للتبادل الغازي بنظام محكم بديع ، وهو كما ترى حولي 5 ـ 6 قطع أعضاء ، وهذه الاعضاء تتعاون معاً تعاوناً وثيقاً لتؤدي غرضاً بالغ الاهمية بالنسبة للكائن الانساني وهو عملية التنفس وتتلخص في نقل الأكسيجن إلى الكرية الحمراء حيث يرتبط بالهيموغلوبين الموجود في الكرية الحمراء وهذه تنقلها بدورها إلى الأنسجة العطشى حيث تقوم عمليات الأكسدة والاحتراق واستنفاذ الغذاء ونشر الطاقة والحرارة اللازمه الضرورية للانسان حتى يتابع مسيرة الحياة ، ثم نقل غاز الفحم الناتج من الاحتراق عبر الأوردة حتى يصب مجموعها العام في القلب الأيمن أي الأذينة اليمنى ثم البطين الأيمن ثم ينتقل عبر الشريان الرئوي إلى الرئتين حيث يجري طرح غاز الفحم إلى الخارج حيث ينقلب الدم الفاسد الاسود إلى دم أحمر قان يحمل الأكسجين بدلاً من غاز الفحم ثم ينتقل بدوره إلى القلب الأيسر أي الاذينة اليسرى بواسطة الاوردة الرئوية الاربعة حيث تصب في أعلى الاذينة اليسرى وبالتالي إلى البطين الايسر ثم عبر الشريان الأبهر أو ما يسمى بالوتين إلى جميع أجهزة الجسم حيث تتغذى بواسطة الاكسجين والاغذية المنقولة إليها.

الانسجة :

ذكرنا فيما مضى أن الخلايا الموجودة والتي تشكل الانسان تصل إلى حوالي الف مليون مليون خلية وهذه تتوزع إلى أجهزة متعاونة متفاهمة ، وهذه الاجهزة تنقسم إلى أعضاء متعاونة متفاهمة متناسقة يكمل بعضها عمل بعض وتتساند فيما بينها ، وكذلك فإن العضو نفسه ينقسم إلى أنسجة متعاونة متناسقة يكمل بعضها بعضاً ، ومثلاً على ذلك المعدة فهي تنقسم إلى أربع طبقات من الناحية النسيجية ، فلو تأملناها من الخارج لرأينا أنها تشبه القربة وهي مكونة من قطعة واحدة من اللحم ، ولكن لو أخذنا جدار المعدة وحاولنا أن نتبين محتوياته تحت المجهر المكبر

٤٣

لوجدنا أن هذا الجدار مكون من أربع طبقات فهو أشبه ما يكون بجدار يغلفه جدار ثان ، والجدار الثاني يغلفه جدار ثالث ثم جدار رابع ، وهذا ما يعلل لنا لماذا تستطيع المعدة أن تهضم اللحم وهي لحم ، ومع ذلك لا تنهضم مع الطعام ، فأما الجدار الداخلي الاول فنراه مكوناً من طبقة من الخلايا المخاطية التي تفرشه حيث تقوم بإفراز حمض كلور الماء بنسبة معينة هي أربعة بالالف ، ومن خلايا معينة وهي الخلايا المسماة بالخلايا الهامشية بالإضافة إلى الخمائر وإلى ما يسمى بالعامل الداخلي وهو الذي يقوم بالدور الاساسي في تكوين الفتامين ب 12 الذي يلعب دوراً هاماً وحيوياً في تكوين الكريات الحمر ووقاية الانسان من فقر الدم وتحت هذه الطبقة نجد طبقة أخرى وهي ما تعرف بالطبقة تحت المخاط ، وتحت هذا الجدار الثاني نرى جداراً ثالثاً يغلف الثاني وهذا الجدار الثالث عضلي وهو الذي يتمطط فيما إذا امتلأت المعدة كثيراً والتكوين العضلي ليس واحداً بل يترتب أيضاً على ثلاث طبقات هو الآخر ، حيث نرى أولاً طبقة عضلية ذات اتجاه منحرف ، ثم طبقة أخرى عضلية ذات اتجاه دائري يحيط بالجدار المعدي ، ثم طبقة عضلية ثالثة ذات اتجاه طولاني ، وهذا الترتيب البديع مهم للغاية حيث يسير التمطط المعدي في أي اتجاه كان ، فاذا امتلأت المعدة ولنفرض بسائل ثقيل يترسب في القاع فإن عمل العضلات الدائرية يلعب دوراً اساسياً هنا ، وإذا امتلأت بطعام يملأ الفضاء المعدي برمته فإن عمل العضلات الطولانية هو الذي يحل المشكلة هنا ، وإذا اجتمع العاملان معاً تضافرت العضلات الطولانية والدائرية معاً ، وإذا لم يكن هناك نظام معين في تمدد المعدة تضافرت العضلات بأشكالها الثلاثة معاً؟!! ثم يحيط بالجدار الثالث جدار رابع وهو ما يسمى بالطبقة المصلية وهذه الطبقة هي الدرع الذي يغلف الطبقات جميعها من جهة كما يكون صلة الوصل مع

٤٤

بقية الاجهزة داخل البطن بالإضافة إلى دخول التروية الدمويه من خلال هذه الطبقة حيث تغلف وتستر الاوعية الدموية والاعصاب ، وأما الاعصاب فهي تشكل ضفائر عصبية تسمى بضفائر مايسنر وأورباخ ، تتوضع الأولى تحت الطبقة المخاطية وتتوضع الضفيرة الثانية ما بين الطبقات العضلية ، أو باضبط ما بين الطبقة العضلية الطولانية والدائريه ، ثم لنلق نظرة أدق مما ذهبنا إليها خاصة ونحن الآن انتقلنا من المستوى الذي نرى فيه رأي العين المجردة إلى النظر عبر التكبير وهي الرؤية المجهرية حيث نصل إلى اسرار جديدة وألغاز حديثة كشف العلم الحديث عن بعض أسرارها ...

الغشاء العاقل :

نحن الآن مع النسيج حيث نرى الحجر الخلوية وهي تتراص جنباً إلى جنب وبين الحين والآخر نرى ما يشبه النهر الصغير وهو يمر ما بين الخلايا ويصغر تدريجياً حتى يصل إلى درجة من الصغر لا نستطيع أن نميزه ونحن نتابع مسيره ، وهكذا يكون قد ضاع ما بين الحشود الخلوية وهذه هي صورة التغذية الخلوية حيث تتم التغذية عن طريق التشرب ، وحيث يحيط بالخلايا السائل الخلالي وكأن مجموع الخلايا وهو هكذا بالفعل يغطس في سائل كالاسفنجة التي تغطس في السائل

وحتى يمكن لنا أن نفهم كيف تتغذى الخلايا فان هذه الصورة البسيطة غير مقنعة تماماً خاصة لمن يريد أن يصل إلى أعماق الحقيقة وهذا ما دفع بالاطباء والباحثين أن يتعرفوا إلى كنه الامور وحقيقتها قدر الإمكان لقد وجدوا أن للخلية غشاء يغلفها ويمتاز هذا الغشاء بخاصية عجيبة وهي أن يشبه المرشحة الانتخابية فهذا الغشاء ترشح منه المواد من داخل الخلية إلى خارجها والتي تمثل نتائج الاستقلاب وبقايا الفضلات الفاسدة وغاز الفحم كما أنها تدخل المواد التي تحتاجها الخلية

٤٥

من السكر والماء وسواهما ، ولكن العجيب يكمن في أنها تدخل ما تشاء وترفض ما تشاء عن طريق الغشاء الخلوي فمثلاً تسمح وبمنتهى السرعة بدخول مادة البوتاس حيث يشكل البوتاس الموجود ضمن الخلايا 98% من بوتاس البدن عامة و 2% يوجد في الدم بينما تمنع شاردة ( معدن ) الصوديوم والكلور لان المنطقة الانتحابية لمادة الصود هي خارج الخلايا وهذه وتلك معدن. فالصود والبوتاس معدنان متقاربان ولكن الغشاء يرفض الاول بينما يأخذ الثاني هذا مع العلم ان ذرة البوتاس وزنها 39 بينما وزن ذرة الصود 23 أي أن ذرة البوتاس أكبر وأثقل ، وبالإضافة إلى هذه نجد أن الغشاء لا يسمح بدخول المواد البروتينية بينما يسمح بدخول السكر والبولة وهذه الخاصية عجيبة في الواقع ، فما هو السر الذي يجعل هذا الغشاء يتصرف كالعاقل ، فهو يرفض إدخال عنصر كالصوديوم مثلاً بينما هو يسمح بإدخال عنصر آخر كالبوتاسيون حتى لتعتبر الخلية الملجأ الامين الوحيد لشاردة(1) البوتاسيوم في البدن.

وأما تكوين الغشاء الذي يحيط بالخلية وثخانته والعمل الذي يقوم به فهو فعلاً مدهش فلقد وجد أن ثخن الغشاء يتراوح وسطياً ما بين 120 ـ 140o A ( كنا قد ذكرنا أن الانغسترومo A يساوي جزء من (10) عشرة ملايين من السنتيمتر ) وهو يتركب من طبقتين من المواد الدسمة وتكون هتان الطبقتان الدسمتان ( يقصد بالدسم الشحوم ،

__________________

(1) نقصد بالشاردة أن العنصر نفسه مثل البوتاسيوم عندما ينحل في السوائل فإنه يتشرد بمعنى أن الكترون من مداره يفلت أو يصبح شريداً؟! ولذا فإن عنصر البوتاسيوم يصبح من ناحية الشحنة موجباً وذلك لان عدد البروتونات في النواة تصبح أكثر من الالكترونات في المدارات بواحد ولهذا يصبح البوتاسيوم عنصراً قلقاً حزيناً يبحث عن هذا الالكترون الهارب وبذا يحاول ان يتحد مع العناصر الاخرى ليستقر ويسحب الكترون إلى مداره حتى يعرض عن ذلك الالكترون الآبق!!

٤٦

والشحوم عادة يدخل في تركيبها الفحم والهيدرجين والأكسيجن بخلاف البروتين الذي يدخل في تركيبه بالإضافة الى ما مر الآزوت ) مغلفتين بطبقتين أخريين من الموارد البروتينية والآن أين الثقوب التي تمر منها المواد والذرات من داخل الخلية إلى خارجها؟ إن الجواب على هذا هو أن أحدث ما توصل اليه العلم عن طريق المجهر الالكتروني الذي يكبر حوالي 100 ـ 600 ألف مرة أن الثقوب هي بحالة ديناميكية غير ثابتة ، أي أنها تتشكل من وقت لآخر حيث تتعرى مناطق ثم تنستر لتحدث في مناطق أخرى ثقوباً جديدة وهكذا ، وهذا يجلعنا نقف متأملين عن قدرة الخلية العيبة التي يستهلك منها جسم الانسان كما مر معنا 125 مليون خلية في الثانية الواحدة!!!

إلى داخل الخلية :

والآن لنحاول أن ندخل عبر ثقوب الغشاء الخلوي إلى داخل الخلية لنرى العالم الذي يقع خلف هذا الستار المجهول.

ليست الخلية حجرة صغيرة محاطة بغلاف وفيها سائل متجانس بل إنها كالبحر الذي يعج بأنواع مختلفة من الحيتان والاسماك والحيوانات المختلفة ، فلننظر إلى هذه العناصر الموجودة داخل الخلية وهذا قبل الوصول إلى النواة ، لان النواة كما ذكرنا فيها سر حياة الخلية وسنفرد لها بحثا خاصاً. أولاً وجد أن تركيب الانسان من العناصر هو بالنسب المئوية التالية : من عنصر الاكسيجن 81 و 62 ومن الفحم 37 و 19 ومن الهيدرجين 14 و 0 ، ومن الآزوت 38 و 1 ومن الكلس 63 و 0 ومن الفوسفر 64 و 0 ومن الكبريت 26 و 0 ومن الصود 18 و 0 ومن الكلور 22 و 0 ومن الماينزا أقل من 04 و 0 والعجيب في هذه النسبة انها تشبه النسبة الموجودة في النباتات في زمن الربيع عندما تزهر فهل هذا لان الانسان يمثل ربيع الوجود؟!!

٤٧

الماء والحياة :

وأما الماء فهذا يحتاج لحديث كامل لوحده ذلك لانه يمثل أساس الحياة فهو يدخل في تركيب جميع الكائنات الحية وطالما وجدت الحياة فحتماً سيوجد الماء معها ، وهو يدخل في تركيب الخلية بشكل حيوي أساسي ، ولنسمع الى أستاذ علم النسج في كلية الطب وهو يقول لنا بالحرف الواحد : يتخلل الماء جميع الانسجة ولا حياة للخلايا بدون الماء وصدق الله العظيم إذ قال :( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) ـ واضيف له تتمة الآية لأن سياق الآية ليس له معنى(1) إذا كان لا يدل على الشيء الذي أراده من معجزة الماء ـ وهو يوجد في الخلية بثلاثة أشكال وليس بشكل واحد عادي كما نعرفه نحن في الحياة الطبيعية فهو يوجد بشكل متحد اتحاداً كيمياوياً في هيولى الخلية أو متشرب بجزئياتها أو كما يوجد الماء في عيون الإسفنح ، والماء يتمتع بنسبة ثابتة في الخلية حسب ما تحتويه من الشحوم. ثم لنلق نظرة على محتويات الخلية غير المصورة ، أي الاجزاء التي لا تتجمع بشكل كتل وتأخذ أحجاماً وصوراً معينة ثابتة وتقوم بدور معين كما ذكرنا عن المصورات الحيوية أو ما تسمى بالميتوكوندريا إننا نجد أولاً الماء كما ذكرنا ثم الاملاح المعدنية حيث تحتوي خلايا جميع الاحياء ما يلي من العناصر المعدنية بالدرجة الاولى P,O,N,H(2) ثم عناصر ثانوية وهي Na ( صوديوم ) Mg مغنزيوم ، S كبريت ، CL كلور ، K بوتاس ، Ca كلس ، Fc حديد ، ثم عناصر بكمية قليلة جداً وهي B بور ، F فلور ، Si سيليس ، Mn منغنيز ، Cu نحاس ، I يود وهكذا نرى وسطياً في كل خلية حية من العناصر المعدنية حوالي 18 عنصراً وهي العناصر الموجودة في

__________________

(1) وتتمة الآية أفلا يؤمنون؟!

(2) هذه الرموز هي كالتالي H هيدرجين C فحم N آزوت O اكسجين P فوسفور.

٤٨

التراب الذي نعيش عليه مصداقاً لقول الله تعالى :( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ) .

رحلة مع ذرة السكر :

والآن الى سر جديد من اسرار الخلية :

بعد أن عبرنا ثقوب الغشاء الخلوي عبر تلك البوابات السرية المتحركة فإننا نواجه جدار الخلية من الخارج وإذا بالجدار ينفتح منه باب للدخول وهذا الباب ليس للعموم فمن شاء دخل بل ان على الثقب بواباً عاقلاً حكيماً فهو يسمح لبعض الذرات بالدخول كما في ذرة البوتاس ويمنع ذرة الصود مع أن ذرة البوتاس أكبر من ناحية الوزن الذري من الصود ولكن انها ارادة البواب العاقل الذي يقف على البوابة السرية المتحركة التي تكمن في أي نقطة من جدار الخلية ، من هذه الذرات الهامة التي معها اجازة دخول ذرة السكر ، ولكن هل الخلية هي المركز الأول للتفتيش والدخول لنر؟ إذن فلنحاول الآن أن نتتبع مسير ذرة السكر من نقطة الدخول الأولى حتى تستحيل الى غازات تنطلق في الهواء وهي غاز الفحم ونجار الماء

إذا رافقنا ذرة السكر نجد انها إذا كانت من نوع النشويات بدأت بالتغير من لحظة مرورها الاولى بالفم وذلك بسبب وجود خميرة النشا في الغدد اللعابية الموجودة في الفم وهي غدة تحت الفك وغدة تحت اللسان والغدة النكفية ، وأما إذا كانت من أنواع السكاكر الأخرى ـ وللسكاكر أنواع وليست نوعاً واحداً كما يتوهم حيث تنقسم إلى سكاكر خماسية وسكاكر سداسية والأخيرة لها أنواع عديدة منها سكر العنب وسكر اللبن وسكر الثمار وغيرها ـ فانها تصل إلى الامعاء وهناك يحصل لها التغير الاساسي حيث لا يمكن لها أن تدخل جدار المعي بدون جواز مرور وهذا الجواز هو عملية الفسفرة في مصطلح الكيمياويين ومن هناك تصل الى الكبد عبر الدوران حيث يعتبر مركز الجمارك العام

٤٩

وهنا يحصل أعجب وأغرب الأشياء في البدن وهو تحول السكر الى ما يسمى بالغليكوجين أو مولد السكر لأن هذا يعتبر المركز التمويني العام للسكر في الدم وحتى نعرف تنائج هذا الأمر فاننا يجب أن نعرف ان كمية السكر في الدم في حدود 5 ـ 6 غرامات وهذه لا تكفي أكثر من ربع ساعة لحاجة البدن فمن أين سيأتي امداد الدم بالسكر وبشكل منتظم ، خاصة وإذا علمنا ان غذاء الخلايا العصبية الأول والمفضل هو السكر بالدرجة الأولى فاذا حصل نقص عن 50 ملغ في 100 سم3 من الدم فان المرء يشعر باضطراب ذهني وانزعاج ، وإذا هبط أكثر من ذلك عن 40 ملغ اصيب المرء بارتعاشات عضلية واغفاء متزايد واختلاجات ، وإذا حصل أكثر من هذا حدث ما يسمى بالسبات السكري وهي حالة الغيبوبة الكاملة بسبب نقص السكر الشديد!! إن الذي يؤمن كل هذا هو الكبد مركز التموين الأول لأن السكر حينما يمر الى الكبد ينظر الكبد نظرة البصير في وضعه فاذا كان يحتاج اليه قلبه من سكر عادي الى مولد سكر ( غليكوجين ) وإذا زاد عن حده الذي يريده حوله الى مراكز التموين الأخرى وهي العضلات حيث يختزن هناك أيضاً بشكل مولد سكر يكون تحت الطلب ، وبعد هذا يكون هناك انتظام ما بين مقدار السكر في الدم ووضعه في الكبد فاذا استنفد البدن السكر قام الكبد بشكل آلي تلقائي بحل السكر المتكاثف عنده إلى سكر بسيط مستساغ الى الدم ومن الدم ينتقل الى كل خلايا الجسم التي تحتاجه ، وهنا نتساءل : يا ترى ما الذي يحدث للسكر عندما يعبر الدم الى الكبد هل يتحول كله الى مولد سكر أم ماذا وذلك قبل أن نصل الى خاتمة المطاف في الخلية؟ ان الطب يجيبنا فيقول ان أمام السكر ثلاثة طرق وهذه الطرق تنظم أيضاً بحسب حاجة الجسم فهو أما أن يجتاز الطريق السريع فوراً فلا يتحول

٥٠

الى شيء خلال الكبد بل فوراً الى الانسجة حيث يحترق ويتحول الى غاز فحم وماء وهذه الطاقة كما ذكرنا تصرف تدريجياً حسب حاجة الخلية وإما أن يتحول إلى دسم وشحم حسب حاجة البدن لذلك وحسب الفائض ولذا نرى أن الاكثار من النشويات تؤدي الى سمنة واما أن يدخل العضلات ليتحول الى مولد سكر كما ذكرنا أو في الكبد ولكن وضعه في العضلات يختلف عن وضعه في الكبد لأن الكبد يقلب الغلوكوز الى غليكوجين عند زيادة الوارد من الغلوكوز ( سكر العنب ) ويحصل العكس أي حل الغليكوجين إلى غلوكوز عند حاجة البدن وهذا طبعاً يمشي باستمرار ودون توقف لحظة واحدة من ليل أو نهار وذلك لأن استهلاك الجسم للسكاكر دائم من أجل تموين الجسم بالطاقة والحرارة اللازمة للحياة

ان مولد السكر في العضلات إما ان يتحول الى حمض لبن اثناء استهلاكه وهذا بدوره يتحول في الكبد من جديد الى مولد سكر أي ان الحلقة تكون مغلقة ولا يضيع شيء سوى هذه التحولات ، واما ان يحرق ويستفاد من القدرة المتشكلة. ثم لنتابع رحلة هذه الذرة التي مرت في هذا الطريق الوعر المنظم الشائك المتناسق!! حيث تصل الى البوابة السرية المتحركة في جدار الخلية حيث يلقى القبض على ذرة السكر بواسطة خميرة ويقوم هورمون الانسولين بدور السائق الذي يوصل الذرة الى الخلية وبدور المسهل لدخول الذرة السكرية الى الخلية حيث تصل الى مثواها الاخير ( فمستقر فمستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون ) سورة الانعام. وهنا لنتساءل مرتين أولاً من الذي يسيطر على كل هذه التفاعلات المعقدة والمنظمة ، ثم كيف يستقر السكر في الدم بنسبة معينة ثابتة لا تزيد أو تنقص وهي غرام واحد فقط في كل ليتر من الدم بحيث ان النقص أو الزيادة يؤدي إلى اضطرابات

٥١

مخيفة أهمها السبات والداء السكري المشهور في الزيادة وهنا يقف المتأمل خاشعاً وهو يرى هذه الاسرار العجيبة وهي تخبره عن بعض التفاصيل الرائعة التي تحدث أولاً هناك من المنظمات الهورمونية ما يحير ، فهناك المنظمات الهورمونية التي تقوم بفعل لجم لزيادة السكر وهناك هورمونات مضادة تفعل بالعكس وهي تعمل بانتظام فالانسولين(1) هو الذي يقوم بانقاص السكر في البدن وذلك بزيادة ادخاله الى الخلايا لزيادة استخدامه او لحجم انحلاله من الكبد وزيادة قابليته للتحول الى الدسم وانقاص التحولات الأخرى التي تصل الى سكر كما في تحولات الدسم والحموض الامينية ، وأما الهورمونات المضادة وهي تشترك جميعها بحل السكر فهي هورمون الفلوكاكون الذي يفرز من المعثكلة وهورمون النمو من الفص الامامي للغدة النخامية وبعض هورمونات قشر الكظر والإدرينالين من لب الكظر(2) وكذلك البتروكسين وهو هورمون الغدة الدرقية الذي يتعاون أيضاً في الاستقلاب وحل السكر أيضاً ، وأما الثبات والتوازن ما بين هذه الهرمونات وتنظيم افرازها بالتعاون مع الكبد وجعل السكر في ثبات واستقرار في الدم ، ان الأمر فعلاً يدعو الى الدهشة والعجب ولكن لا عجب في ابداع خلق الله( صنع الله الذي اتقن كل شيء ) النمل.

تكوين البروتين الخلوي :

وبعد بحث موضوع السكر في الخلية هناك سر مهم أيضاً استطاع العلم الحديث أن يكشف عنه وخاصة بعد اختراع المجهر الالكتروني

__________________

(1) الانسولين هورمون يفرز من المعثكلة من جزيرات خلوية تسمى جزيرات لانفرهانس وسنشرحها بالتفصيل عندما تمر معنا.

(2) الكظر غدة تزن عدة غرامات فوق الكلية وهي قسمان قشر ولب وكل منهما له هورموناته الخاصة.

٥٢

وهذا السر هو في تكوين البروتين الخلوي لأننا كنا قد ذكرنا ان الغشاء الخلوي لا يسمح بدخول البروتينات الى داخل الخلية فكيف إذن يتكون البروتين الخلوي اعتمادا على امكانيات الخلية وحدها خاصة وان بعض الخلايا في الجسم تقوم بتركيب هورمانات هي في غاية التعقيد كما في هورمون الانسولين من خلايا بيتا في جزر لانغرهانس من المعثكلة أو البتروكسين من خلايا الغدة الدرقية أو هورمون النمو من العنصر الأمامي من الغدة النخامية أو التستومكرون وهو هورمون جنسي عند الذكور من خلايا لبديغ في الخصية ، حقاً ان الأمر يدعو الى الدهشة خاصة وان الغشاء الخلوي لا يسمح بدخول الذرات البروتينية المعقدة فكيف يحدث الأمر اذن هنا؟؟ حتى يمكن أن نفهم الاجابة بشكل دقيق وصحيح لابد من فهم شيئين ، أولاً ما هو البروتين وكيف يتكون أصلاً؟ وثانياً من الذي يكونه داخل الخلية التي ما زلنا حتى الآن نبحث بعض اسرارها الغامضة المحيرة

ان المواد البروتينية ومنها اللحم هي عبارة عن اجتماع مجموعة ضخمة من الاحماض الامينية والحمض الاميني هوعبارة عن ذرة من اجتماع حمض وأمين كما هو اسمه والحمض معروف والامين هو الذي يوجد في تركيبه ذرة آزوت مع ذرتين من الهيدرجين وتكون صفاته معاكسة للحمض أي تميل للقلوية ، وهكذا فان الحمض الأميني يحمل خاصيتين خاصية الحموضية والقلوية وهي ميزة هامة له وهذا شيء بسيط في أول البحث ولكن كيف تتكون البروتينات المعقدة خاصة وان عدد الاحماض الامينية كثير والاعقد هو اجتماع الاحماض الامينية بشكل اذا اختلف قليلاً عن الآخر فان هذا يعطي مركباً يختلف كل الاختلاف عن المركب الاول حتى ان تبديل بعض الذرات في المركب نفسه يقلب المركب رأساً على عقب. ان السر في هذا يعود الى حد الحياة في الخلية الذي

٥٣

هو النواة حيث يستقر مركز الرئاسة والادارة وتنظيم الأمور هناك وهذا ما كشف العلم الحديث عنه فلنسمع طرفاً من هذا النبأ العظيم بعد الجهود المضنية الشاقة التي رافقت اختراع المجهر الالكتروني والبحث عن أسرار الخلية وجدوا ان الخلية لا يمكن أن تعيش بدون نواة فقالوا ان سر الحياة هو في النواة ، فبدأوا يدرسون النواة وهناك في النواة تبينوا وجود اجسام غريبة

لم يعيروها في اول الأمر انتباهاً كبيراً ولكن مع متابعة البحث والدرس وجدوا ان هذه الاشكال ثابتة كما انها في كل انقسام خلوي عندما تنشطر الخلية الى نصفين يتولد منه خليتين جديدتين بحيث ان الخلية البنت تشبه الام الأصلية تماماً وجدوا ان لهذا الانقسام علاقة بهذه الموجودات داخل النواة حيث انها تنقسم الى نصفين مع كل انشطار خلوي ووجدوا انها تتلون بالاصباغ بشدة فسموها الصبغيات ، ولكن مع متابعة البحث والجهد تبين للعلماء ان هذه الصبغيات لها دور كبير في الوراثة حيث ان الصفات الوراثية تكمن في هذه الصبغيات وحيث تنتقل من الآباء إلى الابناء والاحفاد من خلالها وتبين للعلماء ان هذا الأمر ثابت في كل الانواع الموجودة من الاحياء النباتية أو الحيوانية أو حتى الانسان بالذات.

وهنا يتساءل المرء : ولكن أين تقبع هذه الصفات الوراثية في خلية لا ترى إلا بالمجهر؟ اللون للشعر والعينين ، طول القامة ، لحن الصوت ، قسمات الوجه ، شكل المشية ، المزاج ، تشكيل العظام والعضلات ، شكل الاصابع والأظافر ، استطاعة الأنف ، فتحة العينين ، اهداب الاجفان ، استدارة الصدر ، المفاصل ، الهورمونات ، الاخلاط ، العدد ، الزمر الدموية ، الأمراض الوراثية ، شكل الجمجمة الخ ) كلها أسرار من الاسرار التي لا يعرف العلم عنها حتى الآن إلا القليل

٥٤

وما لنا نستعجل فلنسمع الحديث إلى الآخر!!

يقول العلماء ان هذه الصبغيات هي الاساس في الوراثة ولكن ما هو تركيبها يا ترى؟ وبدأ البحث المضني حتى استطاعوا أن يتعرفوا ـ ليس فقط على تركيب هذه الصبغيات ـ بل توصلوا إلى اثبات ان هذه الصبغيات لها ما يشابهها في التركيب ايضاً في داخل الخلية وجدوا ان الصبغي مكون من اجتماع حمض فوسفور وسكر خماسي ( أي فيه خمس ذرات فحم وهو سكر الريبوز ولذا سمي المركب بالحمض الديبي ) بالاضافة الى مركب عضوي آزوتي فاطلق على هذا المركب الثلاثي الحمض الديبي النووي واختصاراً سمي بـ د. ن. آ D.N.A ووجد ان هذا الحمض يشبه السلم فيه عمودان يربط بينهما درج ولكن هذا السلم ليس مستقيماً بل ملفوف على نفسه بحيث اننا لو جعلناه على استقامة واحدة وربطنا العمودين ببعضهما لامتد هذا الحمض خارج النواة مسافة متر ونصف؟!! كما وجد ان هناك احماضاَ تشابههن؟ في الخلية ولكن لها ميزة تختلف عن ميزة الاول من ناحية تركيب ذرة الاكسجين فقط فيه فمسي R.N.A ر. ن. آ ، ووجد من هذا الاخير ثلاثة أنواع في الخلية الواحدة

والآن بعد هذه المقدمة لنعرف كيف يتم تركيب البروتين في هيولي الخلية ( المادة التي تحيط بالنواة وتقع ما بين النواة والغشاء الخلوي تسمى بالهيولي الخلوية ) لقد وجد ان في هيولي الخلية الواحدة ما يقرب من 500 الف جسيم ريبي أي من النوع الأخير الذي شرحناه بالاضافة الى 500 مصورة حيوية ( مرت سابقاً وستشرح لاحقاً ) بالاضافة إلى 500 مليون ذرة انزيمية!! والأهم لقد استطاع العلماء أن يتعرفوا وبالجهود المضنية طبعاً ان الحمض د. ن. آ D.N.A يشبه الاستاذ الذي يعطي المعلومات لتلاميذه لكي يقوموا بأمر ما وإذا بالحمض الثاني ر. ن. آ

٥٥

R.N.A ينطلق من النواة كالرسول الذي يحمل رسالة هامة وهناك يقترب من الجسميات الريبية في الهيولي (نوع من انواع ر. ن. آ الثلاثة ويهمس لها سراً في أن تقوم بعمل ما وهنا يتحرك طرق ثالث في القضية وهو النوع الثالث من الحمض ر. ن. آ R.N.A ويسمى بالناقل أو المنحل فينادي الأحماض الامينية أن هلمي إلي فتجتمع إليه لتسمع ماذا سيقول لها وهنا يضعها تحت تصرفه ثم يبدأ ليصفها بشكل فني دقيق ماهر وكأنه أعقل العقلاء حتى يبني منها البروتين الذي يناصبه أو الهورمون الذي يريد إطلاقه فمن علسّمه يا ترى كل هذا؟!!

مريكز الخلية :

ومن جملة هذا العنصر لنسجه في السائل الخلوي المركز وسمي بذلك لأنه يحاول أن يكون في مركز الخلية واضعاً النواة إلى أحد أقطاب الخلية والعجيب في هذا العنصر انه يتكون من اسطوانة فيها تسعة أنابيب أو الياف أخرى فما هو السر في الرقم يا ترى ولماذا ترتبت بهذا الشكل ايضاً؟ هذا الأمر سر من الاسرار ، ولقد وجد أن هذا المريكز يظهر وكأنه المخطط والمهندس لمرحلة النشطار الخلوي حيث أنه يقوم أثاء انقسام الصبغيات فيرسم خطوطاً وطرقاً دقيقة أمام الصبغيات المنشطرة وهذه الخطوط تشبه بشكلها المغزل ثم لا يلبث أن يتكون في الخلية من كل طرف ما يشبه الكوكب المشع ، وكأنه القمر المنير في الظلمات ولذا سميت هذه الاشعة بالأشعة الكوكبية وتصدر الأوامر للصبغيات أولاً أن تقف بحالة استعداد في منتصف الخلية ثم يؤمر كل شطر من شطري الصبغي المنقسم أن يتجه إلى أحد طرفي الخلية ولكن كيف سيمشي في هذا الظلام؟ لا حرج عليه ان هذا النور الهادي وهذه الاشعة العجيبة التي تخطط له السير وتوضح له الطريق تجعله يمشي على هدى هذا الشعاع وهو يتهادى ويمشي في هدوء حتى

٥٦

يصل الى طرف الخلية الاول حيث يكون قد وصل في الوقت نفسه توأمه لى الطرف الآخر وهكذا تنقسم الخلية إلى قسمين بعد أن تنشطر الصبغيات بهذه الكيفية.

فمن الذي علم هذا الجماد أن يقوم بكل هذا التناسق والإبداع ومن أعطاه هذه الحكمة ودرسه فنون الحركة الرائعة المتناسقة الحكيمة؟!! ..

تفسير نشأة الحياة :

والآن بعد هذا البحث الذي يعد موجزاً بسيطاً جداً عن بعض اسرار الخلية يحق لنا أن نتساءل كيف نفسر نشأة الحياة وظهور الخلية الأولى في الحياة؟ ومع كل الوضوح الذي يشير إلى الجواب بدون تكلف نجد بعض المؤلفين والكاتبين السين يقفون ليتكلموا بطريقة علمية نرى ان ذهنهم العلمي يخونهم في أدق المواقف وأحرج التفسيرات وأهمها ، ومن هؤلاء استاذ يدرّس في كلية الطب في قسم النسج يقول ما يلي بالحرف الواحد :

« إن علم الحياة وما تفرع عنه من علوم أخرى على النحو المار ذكره ما تزال جميعها عاجزة عن تفسير كيفية نشوء الحياة الاولى وتكون أول مادة حية على سطح الأرض ، ولعل نظرية النشوء الذاتي الأولى في ظروف خاصة وعهود متناهية في القدم هي النظرية الاكثر قبولاً في القوت الحاضر ».

ونقف قليلاً لنناقش الكاتب في هذه العبارة. أولاً : نظرية النشوء والتولد الذاتي من الناحية التجريبية نقضها العالم باستور من الأساس في تجربته المعروفة المشهورة.

ثانياً : ماذا تعني كلمة النشوء الذاتي ، هل تغني أن الخلية خلقت نفسها بنفسها أو أنها تكونت صدفة من اجتماع العناصر ، أو الاحتمال الثالث وهو لا أدري؟!! فاما انها أوجدت نفسها بنفسها فهو كلام متهافت لأن معنى الخلق هو الايجاد فكيف توجد نفسها بعد أن لم تكن موجودة

٥٧

وأما الصدفة فليرجع الى بحث المصادفة في أول الكتاب ، وأما لا أدري فلا ندري بماذا نجيب عليه!!!

من هنا نفهم ماذا يعني ان الانسان عندما بخوض بحثاً ما ثم يخونه ذهنه العلمي أو أنه لا يستعمل ذهنه العلمي في هذا المجال الخطير الذي يجب على العالم أن يقرر قبل كل الناس حقائق الامور وبديهياته وهو ما قاله رب العزة( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) إنه ليس هناك من مكان للصدفة خاصة وقد بحثنا هذا الموضوع في أول مدخل الكتاب حتى ننفي الحظ والفوضى في بناء الكون ونشأة الحياة ، وهكذا تسد جميع الأبواب أمام من يتأمل في هذه الظاهرة العجيبة ولا يجد إلا الحق الابلج الواضح المبين وهو يقلو له( الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل ) ثم لنسمع مع ذلك كلاماً في هذا المجال لأحد العلماء لا لنسند فكرتنا منه لأن ظهور هذه الفكرة وبديهيتها تضغط على العقل البشري ولا تجعل له مهرباً من الاعتراف بها طائعاص أم مكرهاً يقول بوخز وهو من أكثر الماديين غلواً ومن الذين اتهموا داروين بأنه يصانع رجال الكنيسة وقف أمام ظاهرة خلق الحياة من جماد ليقول بالحرف الواحد : ( إن البتّ في أمر التولد الذاتي للكرية الأولى التي نشأ عنها الأصل الأول أمر غير متيسر ، لأن الأحوال المناسبة لتولد الكرية الأولى تولداً ذاتياً غير معروفة ، والكرية ذاتها على بساطتها ذات بناء وتركيب يمتنع معه صدورها من الجماد مباشرة ، بل إن ظهورها من الجماد ليعد في نظر العلم معجزة ليست أقل بعداً عن العقل منظهور الاحياة العليا من الجماد مباشرة ) وصدق الله الخالق حينما يقول :( ذلك الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل. لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخير. ) سورة الانعام. وهكذا نكون قد انتهينا من البحث الأول وهو مبحث الخلية حتى ندخل الآن التركيب المادي لأجهزة الإنسان المعقدة وعالمه النفسي الغريب المجهول.

٥٨

تخلق الإنسان

يقول الخالق العليم :( ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين. ثم إنكم بعد ذلك لميتون. ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ) سورة المؤمنون

لنحاول على ضوء هذه الآية أن نتبين بعض الاسرار المادية في تكوين الإنسان وتخلقه حيث استطاع الطب الحديث أن يكشف بعض أسرار التكوين ، وذلك بعد أن مررنا في الأبحاث الأولى على مكوّنات الخلية المعقدة وبعض اسرارها المحيرة

إن تكوين الانسان من ناحية العناصر التي تتعاون في تركيبه هي بالدرجة الأولى من الماء حتى ليقال ليس الإنسان سوى برميل صغير من الماء مع عناصر معدنية أخرى نستطيع أن نكوّن منها مسماراً صغيراً من الحديد وراس عود ثقاب من الكبريت وكمية من الكلس تعين في دهن جدار من مادة الكلس التي تستعمل لتبيض الجدران وعناصر أخرى بحيث أنها لا تبلغ في القيمة سوى ما يعادل 40 قرشاً سورياً ، ولكن السر لا يكمن في نوعية المواد وإنما يكمن في كيفية تركيب هذه المواد بعضها إلى بعض ، وهذا المثل ينطبق على أبسط ذرات الخلية كما ينطبق على أعقد التركيبات الحيوية التي تتولد من الجسم

إن العنصر الذي يتكون من الجسم مهما بلغ من البساطة كما في الهورمونات والمنتجات الحيوية يتكون من اجتماع ذرات معينة من عناصر التربة نفسها وأهمها المكونات العضوية التي يتداخل في تركيبها الفحم

٥٩

والهيدرجين والأكسجين بالدرجة الأولى ، وهذه العناصر البسيطة تكوّن آلاف الآلاف من المركبات العضوية المعقدة حتى ان علماً كاملاً من العلوم التي تدرس تسمى بالكيمياء العضوية حيث تشترك عناصر معينة محددة في تكوين مئات وآلاف من المواد في الطبيعة ، والغريب في هذه التكوينات ان الذرات الداخلة في تركيبه إذا اختلفت اختلافاً بسيطاً أو تبدلت في موضعها من مكان لآخر حصل مركب آخر مغاير للأول في خواصه وصفاته مغايرة تامة.

العفريت ذو الاقنعة المتعددة :

ومن الأمثلة على ذلك مادة الكولسترول التي يصطنعها الجسم البشري فهي بالأصل مادة شحمية دسمة تعتبر من دسم البدن ولكن هذا المركب يعد من مركبات البدن السحرية ، ولنسمع إلى الطب لكي يقص علينا قصة هذا العفريت الذين يتلون في كل لحظة إلى مركب جديد وشخصية جديدة فهو ذو الأقنعة المتعددة. فهو تارة كولسترول في الدم بشكل دسم ( الكولسترول مادة شحمية اذا ترسبت على جدران الاوعية الدموية سببت ارتفاع الضغط ) وهو تارة أخري بشكل ينافي الكولسترول تماماً مع أن البناء الكيمياوي هو واحد ولكن تغيرت بعض ذرات البناء فقط فإذا بهذا المركب يصبح هورموناً يعطي صفات الذكورة كلها من توزع الشعر في البدن وخاصة الوجه وغلظ الصوت وشدة العضلات وضيق الحوض واتساع الصدر والمزاج الشديد نسبة للانثى ونموا الأعضاء التناسلية الخاصة ، وبينما هذا المركب يمشي في هذا الاتجاه إذا بتحولات طفيفة تطرأ على بعض ذراته فاذا به ينقلب بشكل عجيب ويصبح هورموناً أنثوياً يعطى للأنثى كل صفات الانوثة من توزع الشعر ، ورقة الجلد ، ونعومة الصوت ، وكثرة الشحم في البدن ، وضعف العضلات وكبر الحوض العظمي حتى يتسع للحمل والولادة وضيق الزنار الكتفي

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606