الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 606
المشاهدات: 233221
تحميل: 5422


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 233221 / تحميل: 5422
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 5

مؤلف:
العربية

لقد قاوم السحرة كلتا حربتي فرعون ، وأجابوه جواب رجل واحد : إنّنا نرجع إلى ربّنا إذن( قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ ) .

يعني إذا تحقق تهديدك الثّاني (وهو القتل) فمعناه أنّنا سننال الشهادة في سبيل الدفاع عن الحق ، وهذا لا يوجب ضررا علينا ، ولا ينقصنا شيئا ، بل يعدّ سعادة وفخرا عظيما لنا.

ثمّ إنّهم للردّ على تهمة فرعون ، ولإيضاح الحقيقة لجماهير المتفرجين على هذا المشهد ، واثبات براءتهم من أي ذنب ، قالوا : إنّ الإشكال الوحيد الذي تورده علينا هو أنّنا آمنا بآيات الله وقد جاءتنا( وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا ) .

يعني أنّنا لسنا مشاغبين ، ولا متآمرين ، ولا متواطئين ضدك ، وليس إيماننا بموسى يعني أنّنا نريد استلام أزمة الحكم ، ولا أن نخرج أهل هذه البلاد من ديارهم ، وأنت نفسك تعلم أننا لسنا بهذا الصدد ، بل نحن عند ما رأينا الحق وشاهدنا علائمه بوضوح أجبنا داعي الله ولبينا نداءه وآمنا به ، وهذا هو ذنبنا الوحيد في نظرك ليس غير.

وهكذا أظهروا لفرعون بالجملة الأولى أنّهم لا يخافون أي تهديد ، وأنّهم يستقبلون جميع الحوادث والتبعات حتى الشهادة بمنتهى الشهامة. وبالجملة الثّانية ردّوا بصراحة على الاتهامات التي وجهها فرعون إليهم.

إن جملة «تنقم» مشتقة من مادة «نقمة» على وزن «نعمة» وهي في الأصل تعني رفض شيء باللسان أو بالعمل والعقوبة. وعلى هذا فإنّ الآية أعلاه يمكن أن تكون بمعنى إنّ العمل الوحيد الذي تنكره علينا هو أنّنا آمنا ، أو يعني أنّ العقوبة التي تريد أن تعاقبنا بها إنما هو لأجل إيماننا.

ثمّ إنّهم أشاحوا بوجوههم عن فرعون وتوجهوا إلى الله سبحانه ، وطلبوا منه الصبر والاستقامة ، لأنّهم كانوا يعلمون أنّهم لا يستطيعون أن يقاوموا تلك

١٦١

العقوبات الثقيلة من دون نصره وتأييده وعونه ، لهذا قالوا :( رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ ) .

والملفت للنظر أنّهم بعبارة( أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً ) أظهروا أن الخطر المحدق بهم بلغ الدرجة القصوى ، فأعطنا يا ربّ أنت ـ أيضا ـ آخر درجات الصبر والاستقامة ، لأنّ «أفرغ» من مادة «الإفراغ» بمعنى صبّ السائل من وعاء حتى يفرغ.

الاستقامة الواعية :

يمكن أن يتملك الإنسان عجب شديد عند أوّل اطلاعة على قصّة السحرة في زمان موسىعليه‌السلام الذين صاروا من المؤمنين الصادقين ، هل يمكن أن يحدث مثل هذا الانقلاب والتحول العميق في الروح الإنسانية في مثل هذه المدّة القصيرة ، بحيث يقطع الشخص كل علاقاته مع الصف المخالف ، ويصير في صف الموافق ، ثمّ يدافع عن عقيدته الجديدة بإصرار وعناد عجيبين إلى درجة أنّه يتجاهل مكانته ومصالحه وحياته جميعا ، ويستقبل الشهادة بشجاعة منقطعة النظير ، وبوجه مستبشر؟

ولكن هذا الاستغراب يتبدد إذا التفتنا إلى هذه النقطة ، وهي أنّ هؤلاء ـ نظرا إلى سوابقهم الكثيرة في علم السحر ـ وقفوا جيدا على عظمة معجزة النّبي موسىعليه‌السلام وحقانيته ، وسلكوا هذا السبيل عن وعي كامل وهذا الوعي صار منشأ لعشق ملتهب سر بل كل وجودهم وكيانهم ، وهو عشق لا يعرف حدّا وسدّا ، وفوق جميع النوازع والرغبات البشرية.

إنّهم كانوا يعلمون جيدا أي طريق يسلكونه؟ ولماذا يجاهدون؟ ومن يكافحون؟ وأي مستقبل مشرق ينتظر هذا الجهاد العظيم؟

أجل ، إذا كان الإيمان مقرونا بالوعي الكامل فإنّه ينتهي إلى مثل هذا العشق

١٦٢

الملتهب الذي لا يكون هذا التفاني في سبيله مثار للعجب.

ولهذا نرى كيف أن السحرة قالوا بصراحة وشجاعة (كما في سورة طه الآية (72) :( قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا ) .

وأخيرا ـ وكما جاء في الرّوايات وكتب التأريخ ـ استقام أولئك الجماعة من السحرة الذين آمنوا بموسى حتى نفّذ فرعون تهديداته ، ومثّل بأجسامهم تمثيلا مروعا ، وصلبهم على جذوع النخل على مقربة من نهر النيل. وهكذا كتبت أسماؤهم مع أحرار التاريخ بأحرف من نور ، وكانوا كما وصفهم المفسّر الكبير العلّامة الطبرسي : كانوا أوّل النهار كفارا سحرة ، وآخر النهار شهداء وبررة.

ولكن مع الالتفات إلى أنّ مثل هذا الانقلاب والتحول والاستقامة ليس ممكنا إلّا في ظلّ الإمدادات الإلهية ، ومن المسلّم أن كلّ من اختار سلوك طريق الحق ، شملته هذه العنايات الرّبانية ، والإمدادات الإلهية.

* * *

١٦٣

الآيات

( وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) )

التّفسير

في هذه الآيات يبيّن لنا القرآن الكريم مشهدا آخر من الحوار الذي دار بين فرعون وبين ملائه حول وضع موسىعليه‌السلام ، ويستفاد من القرائن الموجودة في نفس الآية أنّ محتوى هذه الآيات يرتبط بفترة ما بعد المواجهة بين موسى وبين السحرة.

تقول الآية في البداية :( وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) .

١٦٤

يستفاد من هذا التعبير ـ جيدا ـ أنّ فرعون بعد هزيمته أمام موسىعليه‌السلام ترك موسى وبني إسرائيل أحرارا (طبعا الحرية النسبية) مدّة من الزمن ، ولم يترك بنو إسرائيل بدورهم هذه الفرصة من دون أن يشتغلوا بالدعوة والتبليغ لصالح دين موسىعليه‌السلام إلى درجة أن قوم فرعون قلقوا من انتشاره ونفوذ دعوتهم ، فحضروا عند فرعون وحرضوه على اتّخاذ موقف مشدد تجاه موسى وبني إسرائيل.

فهل فترة الحرية النسبية هذه كانت لأجل الخوف والرعب الذي أصاب فرعون بسبب ما رأى من معجزة موسىعليه‌السلام القوية ، أو للاختلاف الذي برز في شعب مصر (وحتى القبطيين منهم) حول موسى ودينه ، حيث أنّ جماعة رغبوا في دينه ، وكان فرعون شاهدا لهذه الحالة فلم يمكنه أن يتخذ في مثل هذه الأجواء والظروف موقفا متشددا من موسى ودينه.

كلا الاحتمالين قريبان إلى ذهن فرعون ، ويمكن أن يكون كلاهما معا قد تركا أثرا في نفسه وفكره.

وعلى كل حال فإنّ فرعون ـ بسبب تحذيرات أعوانه وحاشيته ـ صمم على اتّخاذ موقف متشدد من بني إسرائيل ، فقال لحاشيته في معرض الجواب على تحريضهم وتحذيرهم : سأقتل أبناءهم واستخدام نساءهم ونحن متفوقون عليهم على كل حال :( قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ ) .

وقد وقع كلام بين المفسّرين حول المراد من لفظة «آلهتك» والظاهر من الآية هو أنّ فرعون كانت له معبودات وأصنام ، وإن كان يفهم من الآية (4) من سورة النازعات( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى ) ومن الآية (38) من سورة القصص( ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي ) إنّ فرعون كان أعظم إله لشعب مصر ، أو على الأقل كان فرعون يعتبر نفسه أعظم معبود لشعب مصر ولكن مع ذلك كان قد اختار آلهة لنفسه وكان يعبدها.

والنقطة الأخرى أن فرعون عمد هنا إلى مكافحة جذرية وعميقة ، وقرر

١٦٥

تحطيم قوة بنى إسرائيل تحطيما كاملا ، وذلك بالقضاء على المقاتلين ورجال الحرب بقتل أبناء بني إسرائيل واستئصالهم ، ويستبقي نساءهم وبناتهم لاسترقاقهن واستخدامهن ، وهذا هو نهج كل مستعمر قديم وجديد ، فهو يقضي على الرجال العالمين والقوى المؤثرة في المواجهة ، أو يقتل فيهم روح الرجولة والشهامة والغيرة والحمية بالوسائل المختلفة ، ويستبقي غير المؤثرين في هذا المجال.

على أنّه يحتمل ـ أيضا ـ أن فرعون كان يريد أن يبلغ هذا الكلام إلى مسامع بني إسرائيل ، فتتحطم معنوياتهم من جهتين : أوّلاهما من جهة قتل أبنائهم ورجال مستقبلهم ، والأخرى : من جهة وقوع نسائهم وأعراضهم في أيدي العدو.

وعلى كل حال أراد بعبارة( إِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ ) أن يزيل الخوف والقلق من قلوب حاشيته وأعوانه ، ويخبرهم بأنّه مسيطر على الأوضاع سيطرة كاملة.

سؤال :

وهنا يطرح سؤال ، وهو : لماذا لم يقرر فرعون قتل موسى ، وإنّما قرر ـ فقط ـ القضاء على أبناء بني إسرائيل؟

جواب :

يستفاد من آيات سورة المؤمن ـ جيدا ـ أنّ فرعون كان عازما في البداية على قتل موسى ، ولكن نصائح مؤمن آل فرعون المقترنة بالتهديد ، في أنّ قتل موسى يمكن أن يقترن بالخطر فيحتمل أن يكون مرسلا من الله حقيقة وواقعا ، وأن كل ما يقوله من العقوبات الإلهية يتحقق بمقتله ، أثرت في روح فرعون وفكره.

هذا مضافا إلى أنّ خبر انتصار موسى على السحرة انتشر في كل مكان ،

١٦٦

ووقع بسببه خلاف بين شعب مصر في مخالفة أو تأييد موسى. ولعل فرعون خاف إن هو اتّخذ من موسىعليه‌السلام موقفا حادا واجه ردّ فعل قوي من جانب الناس الذين تأثروا بهذه المسألة ، ولهذا انصرف عن فكرة قتل موسىعليه‌السلام .

والآية اللاحقة بيّنت ـ في الحقيقة ـ خطّة موسى التي اقترحها على بني إسرائيل لمواجهة تهديدات فرعون ، وشرح فيها شروط الغلبة على العدو ، وذكرهم بأنّهم إذا عملوا بثلاث مبادئ انتصروا على العدو حتما :

أوّلها : الاتكال على الله فقط( قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ ) .

والآخر : أن يثبتوا ولا يخافوا من تهديدات العدو :( وَاصْبِرُوا ) .

وللتأكيد على هذا المطلب ، ومن باب ذكر الدليل ، ذكّرهم بأنّ الأرض كلّها ملك الله ، وهو الحاكم عليها والمالك المطلق لها ، فهو يعطيها لمن يشاء( إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) .

وآخر هذه المبادئ هو أن يعتمدوا التقوى لأنّ العاقبة لمن اتّقى( وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) .

هذه المبادئ والشروط الثلاثة ـ أحدها في العقيدة (الاستعانة بالله) والثّاني في الأخلاق (الصبر والثبات) والأخير في العمل (التقوى) ـ ليست شرائط انتصار قوم بني إسرائيل وحدهم على العدو ، بل كل شعب أراد الغلبة على أعدائه لا بدّ له من تحقيق هذه البرامج الثلاثة فالأشخاص غير المؤمنين والجبناء الضعفاء الإرادة ، والشعوب الفاسقة الغارقة في الفساد ، إذا ما انتصرت فإنّ انتصارها يكون لا محالة مؤقتا غير باق.

والملفت للنظر أنّ هذه الشروط الثلاثة كل واحد منها متفرع على الآخر ، فالتقوى لا تتوفر من دون الثبات والصبر في مواجهة الشهوات ، وأمام بهارج العالم المادّي ، كما أنّ الصبر والثبات لا يكون لهما أي بقاء ودوام من دون الإيمان

١٦٧

بالله.

وفي آخر آية من الآيات الحاضرة يعكس القرآن الكريم شكايات بني إسرائيل وعتابهم من المشكلات التي ابتلوا بها بعد قيام موسىعليه‌السلام فيقول :( قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا ) فإذا متى يحصل الفرج؟!

وكأنّ بني إسرائيل مثل كثير منّا كانوا يتوقعون أن تصلح جميع الأمور بقيام موسىعليه‌السلام في ليلة واحدة أن يزول فرعون ويسقط ، ويهلك الجهاز الفرعوني برمته ، وتصبح مصر بجميع ثرواتها تحت تصرف بني إسرائيل ، ويتحقق كل ذلك عن طريق الإعجاز ، من دون أن يتحمل بنو إسرائيل أيّ عناء.

ولكن موسىعليهم‌السلام أفهمهم بأنّهم سينتصرون في المآل ، ولكن أمامهم طريقا طويلا ، وإنّ هذا الإنتصار ـ طبقا للسنة الإلهية ـ يتحقق في ظل الاستقامة والثبات والسعي والاجتهاد ، كما جاء ذلك في الآية الحاضرة( قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ ) .

وذكر كلمة «عسى» مثل كلمة «لعلّ» التي وردت في كثير من الآيات القرآنية إشارة ـ في الحقيقة ـ إلى أنّ لهذا التوفيق والإنتصار شرائط ، من دونها لا يصلون إليه ، (للوقوف على المزيد في هذا المجال راجع ما كتبناه في تفسير الآية 84 من سورة النساء).

ثمّ يقول في ختام الآية : إنّ الله أعطاكم هذه النعمة ، وأعاد إليكم حريتكم المسلوبة كي ينظر كيف تتصرفون أنتم( فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) ؟

يعني ستبدأ ـ بعد الإنتصار ـ مرحلة امتحانكم واختباركم ، اختبار شعب كان فاقدا لكل شيء ثمّ حصل على كل شيء في ضوء الهداية الإلهية.

إنّ هذا التعبير ـ هو ضمنا ـ إشعار بأنّكم سوف لا تخرجون من هذا الاختبار ـ في المستقبل ـ بنجاح ، وستفسدون وتظلمون كما فعل من كان قبلكم.

١٦٨

ونقرأ في رواية وردت في كتاب الكافي مروية عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «وجدنا في كتاب علي صلوات الله عليه : إنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ، أنا وأهل بيتي الذين أورثنا الله الأرض ونحن المتقون»(1) .

وهذه إشارة إلى أن الحكم المذكور في هذه الآية حكم شامل ، وقانون عام ، والأرض هي الآن ـ في الحقيقة ـ للمتقين.

* * *

__________________

(1) التّفسير نور الثقلين ، المجلد الثاني ، الصفحة 56.

١٦٩

الآيتان

( وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) )

التّفسير

العقوبات التنبيهية :

لقد كان القانون الإلهي العام في دعوة الأنبياء ـ كما قلنا في تفسير الآية (94) من نفس هذه السورة ـ هو أنّهم كلّما واجهوا معارضة كان الله تعالى يبتلي الأقوام المعاندين بأنواع المشاكل والبلايا ، حتى يحسّوا بالحاجة في ضمائرهم وأعماق نفوسهم ، وتستيقظ فيهم فطرة التوحيد المتكسّلة تحت حجاب الغفلة عند الرفاه والرخاء ، فيعودوا إلى الإحساس بضعفهم وعجزهم ، ويتوجهوا إلى المبدأ القادر مصدر جميع النعم.

وفي أوّل آية من الآيتين الحاضرتين إشارة إلى نفس هذا المطلب في قصّة فرعون ، إذ يقول تعالى :( وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ

١٧٠

لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) .

و «السنين» جمع «سنة» بمعنى العام ، ولكنّها إذا قرنت بلفظة «أخذ» أعطت معنى الابتلاء بالقحط والجدب ، وعلى هذا يكون معنى أخذته السنة هو : أصيب بالقحط والجدب ، ولعل علّة ذلك هي أن أعوام القحط والجدب قليلة بالقياس إلى أعوام الخصب والخير ، وعلى هذا إذا كان المراد من السنة السنين العادية لم يكن ذلك موضوعا جديدا ، ويتبيّن من ذلك أنّ المراد من السنين هي السنين الاستثنائية ، أي سنوات القحط وأعوام الجدب.

وكلمة «آل» كانت في الأصل «أهل» ثمّ قلبت فصارت هكذا ، والأهل بمعنى أقرباء الإنسان وخاصته ، سواء أقرباؤه أو زملاؤه ونظراؤه في المسلك والتفكير وأعوانه.

ومع أنّ القحط والجدب أصابا حاشية فرعون ومؤيديه أجمع ، ولكن الخطاب في الآية موجه إلى خصوص أقربائه وخاصته ، وهو إشارة إلى أن المهم هو أن يستيقظ هؤلاء ، لأنّ بيدهم أزمة الناس أن يضلوا الناس ، أو يهدونهم ، ولهذا توجه الخطاب إليهم فقط ، وإن كان البلاء قد أصاب الآخرين أيضا.

ويجب أن لا نستبعد هذه النقطة ، وهي أن الجدب كان يعدّ بلاء عظيما لمصر ، لأنّ مصر كانت بلدا زراعيا ، فكان الجدب مؤذيا لجميع الطبقات ، ولكن من المسلّم أنّ آل فرعون ـ وهم الأصحاب الأصليين للأراضي الزراعية وإنتاجها ـ كانوا أكثر تضررا بهذا البلاء.

ثمّ إنّه يعلم من الآية الحاضرة أنّ الجدب استمر عدّة سنوات ، لأنّ كلمة «سنين» صيغة جمع ، وخاصّة أنّه أضيف إليها عبارة( نَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ ) لأنّ الجدب المؤقت والعابر يمكن أن يترك شيئا من الأثر في الأشجار ولكن عند ما يكون الجدب طويلا فإنّه يبيد الأشجار أيضا. ويحتمل أيضا أنّه علاوة على الجدب فانّ الفواكه والثمار أصيبت بآفات قاتلة كذلك.

١٧١

وكأنّ جملة( لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) إشارة إلى هذه النقطة ، وهي : أنّ التوجه إلى حقيقة التوحيد موجودة من البداية في الروح الآدمية ، ولكنّه على أثر التربية غير الصحيحة أو بطر النعمة ينساها الإنسان ، وعند حلول البلايا والأزمات يتذكر ذلك مجددا ، ومادة «تذكر» تناسب هذا المعنى.

هذا والجدير بالانتباه أنّ جملة( لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ) جاءت في ذيل الآية (94) وهي مقدمة أخرى ـ في الحقيقة ـ لأنّ الإنسان يتذكر أوّلا ، ثمّ يخضع ويسلّم ، أو يطلب من الله الصفح والمغفرة.

ولكن بدل أن يستوعب «آل فرعون» هذه الدروس الإلهية ، ويستيقظوا من غفلتهم وغفوتهم العميقة ، أساءوا استخدام هذا الظرف والحالة ، وفسّروها حسب مزاجهم ، فإذا كانت الأحوال مؤاتية ومطابقة لرغبتهم ، وكانوا يعيشون في راحة واستقرار قالوا : إنّ الوضع الحسن هو بسبب جدارتنا ، وصلاحنا( فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ ) .

ولكن عند ما تنزل بهم النوائب فإنّهم ينسبون ذلك إلى موسىعليه‌السلام وجماعته فورا ويقولون هذا من شومهم :( وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ ) .

و «يطّيروا» مشتقة من مادة «تطيّر» بمعنى التشاؤم ، وأصلها من الطير ، فقد كان العرب غالبا ما يتشاءمون بواسطة الطيور. وربّما تشاءموا بصوت الغراب ، أو بطيران الطير ، فإذا طار من ناحية اليسار اعتبروا ذلك علامة الشقاء والفشل ، وكلمة التطير تعني مطلق التشاؤم.

ولكن القرآن الكريم قال في معرض الردّ عليهم : اعلموا أنّ منشأ كل شؤم وبلاء أصابكم انّما هو من قبل الله ، وأنّ الله تعالى أراد أن تصيبكم نتيجة أعمالكم المشؤومة ، ولكن أكثرهم لا يعلمون( أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) .

والجدير بالتأمل أن هذا النمط من التفكير لم يكن خاصا بالفرعونيين ، بل

١٧٢

هو أمر نلاحظه بوضوح الآن بين الشعوب المصابة بالأنانية والضلال ، فهي ـ بغية قلب الحقائق ، وخداع ضميرها أو ضمائر الآخرين ـ كلما أصابها نجاح وتقدم اعتبرت ذلك ناشئا من جدارتها وكفاءتها ، وإن لم يكن في ذلك النجاح والتقدم أدنى شيء من تلك الكفاءة والجدارة ، وبالعكس إذا أصابها أي إخفاق وشقاء نسبت ذلك فورا إلى الأجانب وإلى أيادي العدو الخفيّة أو المكشوفة ، وإن كانوا هم بأنفسهم سبب ذلك الشقاء والإخفاق.

يقول القرآن الكريم : إنّ أعداء الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا يتوسلون بمثل هذا المنطق أيضا في مقابل رسول الله (كما نقرأ في الآية 78 من سورة النساء).

وفي مكان آخر يقول : إنّ المنحرفين هم هكذا (كما في سورة فصلت الآية 50) وهذا في الحقيقة هو أحد مظاهر الأنانية واللجاج البارز.(1)

التفاؤل والتشاؤم (الفأل والطيرة) :

مسألة التطيّر والتفاؤل والتشاؤم قد تكون منتشرة في مختلف المجتمعات البشرية ، فيتفاءلون بأمور وأشياء ويعتبرونها دليل النجاح ، ويتشاءمون بأمور وأشياء ويعتبرونها آية الهزيمة والفشل. في حين لا توجد أية علاقة منطقية بين النجاح والإخفاق وبين هذه الأمور ، وبخاصّة في مجال التشاؤم حيث كان له غالبا جانب خرافي غير معقول.

إنّ هذين الأمرين وإن لم يكن لهما أي أثر طبيعي إلّا أنّه يمكن أن يكون لهما أثر نفسي لا ينكر ، وإنّ التفاؤل غالبا يوجب الأمل والتحرك ، والتشاؤم يوجب اليأس والوهن والتراجع.

ولعله لأجل هذا لم ينه في الرّوايات والأحاديث الإسلامية عن التفاؤل ،

__________________

(1) ذكر «حسنة» محلاة بالألف واللام و «إذا» وذكر «سيئة» مع (إن) بصورة النكرة إشارة إلى النعم كانت تنزل عليهم بصورة متتابعة ، بينما كانت البلايا تنزل أحيانا.

١٧٣

بينما نهي عن التشاؤم بشدّة ، ففي حديث معروف مروي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «تفاءلوا بالخير تجدوه» وقد شوهد في أحوال النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الهداةعليهم‌السلام ـ أنفسهم ـ أنّهم ربّما تفاءلوا بأشياء ، مثلا عند ما كان المسلمون في «الحديبية» وقد منعهم الكفار من الدخول إلى مكّة جاءهم «سهيل بن عمرو» مندوب من قريش ، فلمّا علم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باسمه قال متفائلا باسمه : «قد سهل عليكم أمركم»(1) .

وقد أشار العالم المعروف «الدميري» وهو من كتّاب القرن الثامن الهجري ، في إحدى كتاباته إلى نفس هذا الموضوع ، وقال : إنّما أحب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الفأل لأنّ الإنسان إذا أمل فضل الله كان على خير ، وإن قطع رجاءه من الله كان على شر ، والطيرة فيها سوء ظن وتوقع للبلاء(2) .

ولكن في مجال التشاؤم الذي يسمّيه العرب «التطير» و «الطيرة» ورد في الأحاديث الإسلامية ـ كما أسلفنا ـ ذم شديد ، كما أشير إليه في القرآن الكريم مرارا وتكرارا أيضا ، وشجب بشدّة(3) .

ومن جملة ذلك ما روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «الطيرة شرك»(4) وذلك لأن من يعتقد بالطيرة كأنّه يشركها في مصير الإنسان.

وتشير بعض الأحاديث أنّه إذا كان للطيرة أثر سيء فهو الأثر النفسي ، قال الإمام الصادقعليه‌السلام : «الطيرة على ما تجعلها ، إن هونتها تهونت ، وإن شددتها تشدّدت ، وإن لم تجعلها شيئا لم تكن شيئا»(5)

وورد أنّ طريقة مكافحة الطيرة تتمثل في عدم الاعتناء بها ، فقد روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «ثلاث لا يسلّم منها أحد : الطيرة والحسد والظن. قيل : فما

__________________

(1) الميزان ، المجلد 19 ، الصحفة 86.

(2) سفينة البحار ، المجلد الثاني ، الصفحة 102.

(3) مثل سورة «يس» الآية (19) ، وسورة النمل الآية (47) ، والآية المطروحة على بساط البحث هنا.

(4) الميزان في ذيل الآية المبحوثة هنا.

(5) الميزان ، في ذيل الآية المبحوثة هنا.

١٧٤

نصنع؟ قال : إذا تطيرت فامض (أي لا تعتن بها) وإذا حسدت فلا تبغ (أي لا تعمل بوحي منه شيئا) وإذا ظننت فلا تحقق».

والعجيب أنّ مسألة الفأل والطيرة كانت ولا تزال موجودة حتى في البلاد الصناعية المتقدمة ، وفي أوساط من يسمّون بالمثقفين ، بل وحتى النوابغ المعروفين ، ومن جملتها : يعتبر المرور من تحت السلّم عند الغربيين ـ وسقوط المملحة ، وإهداء سكين ، أمورا يتشاءم بها بشدّة.

على أنّ وجود الفأل الجيد ـ كما قلنا ـ ليس مسألة مهمّة ، بل لها غالبا آثار حسنة طيبة ، ولكن يجب مكافحة عوامل التشاؤم وفكرة الطيرة ، ونبذها من الأذهان ، وأفضل وسيلة لمكافحتها هي تقوية روح التوكل ، والثقة بالله والاعتماد عليه كما أشير إلى ذلك في الأحاديث الإسلامية.

* * *

١٧٥

الآيتان

( وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) )

التّفسير

النّوائب المتنوعة :

في هاتين الآيتين أشير إلى مرحلة أخرى من الدروس المنبهة التي لقّنها الله لقوم فرعون ، فعند ما لم تنفع المرحلة الأولى ، يعني أخذهم بالجدب والسنين وما ترتب عليه من الأضرار المالية في إيقاظهم وتنبيههم ، جاء دور المرحلة الثّانية وتمثلت في عقوبات أشدّ ، فأنزل الله عليهم نوائب متتابعة مدمرة ، ولكنّهم ـ وللأسف ـ لم ينتبهوا مع ذلك.

وفي الآية الأولى من الآيات المبحوثة يقول القرآن الكريم من باب المقدمة لنزول النّوائب : إنّهم بقوا يلجّون في إنكار دعوة موسى ، وقالوا : مهما تأتنا من آية وتريد أن تسحرنا بها فإننا لن نؤمن بك :( وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها

١٧٦

فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ) .

إنّ التعبير بـ «الآية» لعلّه من باب الاستهزاء والسخرية ، لأنّ موسىعليه‌السلام وصف معاجزه بأنّها آيات الله ، ولكنّهم كانوا يفسرونها بالسحر.

إنّ لحن الآيات والقرائن يفيد أنّ الجهاز الإعلامي الفرعوني الذي كان ـ تبعا لذلك العصر ـ أقوى جهاز إعلامي ، وكان النظام الحاكم في مصر يستخدمه كامل الاستخدام إنّ هذا الجهاز الإعلامي قد عبّأ قواه في توكيد تهمة السحر في كل مكان ، وجعلها شعارا عاما ضد موسىعليه‌السلام ، لأنّه لم يكن هناك تهمة منها أنسب بالنسبة إلى معجزات موسىعليه‌السلام للحيلولة دون انتشار الدعوة الموسوية ونفوذها المتزايد في الأوساط المصرية.

ولكن حيث أن الله سبحانه لا يعاقب أمّة أو قوما من دون أن يتمّ عليهم الحجّة قال في الآية اللاحقة : نحن أنزلنا عليهم بلايا كثيرة ومتعددة لعلهم يتنبهون فقال أولا :( فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ ) .

وكلمة «الطوفان» مشتقّة من مادة «الطوف» على وزن «خوف» وتعني الشيء الذي يطوف ويدور ، ثمّ أطلقت هذه اللفظة على الحادثة التي تحيط بالإنسان ، ولكنّها أطلقت ـ في اللغة ـ على السيول والأمواج المدمرة التي تأتي على كل شيء في الأغلب ، وبالتالي تدمر البيوت ، وتقتلع الأشجار من جذورها.

ثمّ سلط الجراد على زروعهم وأشجارهم (والجراد).

وقد جاء في الأحاديث أن هجوم أسراب الجراد كان عظيما جدّا إلى درجة أنّها وقعت في أشجارهم وزروعهم أكلا وقضما وإتلافا ، حتى أنّها أفرغتها من جميع الغصون والأوراق ، وحتى أنّها أخذت تؤذي أبدانهم ، بحيث تعالت صيحاتهم واستغاثاتهم.

وكلّما كان يصيبهم بلاء كانوا يلجأون إلى موسىعليه‌السلام ويسألونه أن يطلب من الله أن يرفع عنهم ذلك البلاء ، فقد فعلوا هذا بعد الطوفان والجراد أيضا ، وقبل

١٧٧

موسىعليه‌السلام ، وارتفع عنهم البلاء ولكنّهم مع ذلك لم يكفّوا عن لجاجهم وتعنتهم.

وفي المرّة الثّالثة سلط عليهم القمل( وَالْقُمَّلَ ) .

وأمّا ما هو المراد من «القمل» فقد وقع فيه كلام بين المفسّرين ، ولكن الظاهر أنّه نوع من الآفات الزراعية التي تصيب الغلات ، وتفسدها وتتلفها.

وعند ما خفت أمواج هذا البلاء ، واستمرّوا في عنادهم سلط الله عليهم في المرحلة الرّابعة ، الضفادع ، فقد تزايد نسل الضفادع تزايدا شديدا حتى أنّه تحول إلى بلاء عظيم عكّر عليهم صفو حياتهم :( وَالضَّفادِعَ ) (1) .

ففي كل مكان كانت الضفادع الصغيرة والكبيرة تزاحمهم ، حتى في البيوت والغرف والموائد وأواني الطعام ، بحيث ضاقت عليهم الحياة بما رحبت ، ولكنّهم مع ذلك لم يخضعوا للحق ، ولم يسلّموا.

وفي هذا الوقت بالذات سلّط الله عليهم الدم.

قال البعض : إنّ داء الرعاف (وهو نزيف الدم من الأنف) شاع بينهم كداء عام ، وأصيب الجميع بذلك. ولكن أكثر الرّواة والمفسّرين ذهبوا إلى أن نهر النيل العظيم تغير وصار لونه كلون الدم ، بحيث صار تعافه الطباع ، ولم يعد قابلا للانتفاع.

وقال تعالى في ختام ذلك : إنّ هذه الآيات والمعاجز الباهرة ـ رغم أنّها أظهرت لهم حقانية موسى ـ ولكنّهم استكبروا عن قبول الحق وكانوا مجرمين.( آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ ) .

وفي بعض الرّوايات نقرأ أن كل واحدة من هذه البلايا كانت تقع في سنة واحدة ، يعني أنّه أصابهم الطوفان في سنة ، والجراد في سنة أخرى ، والآفات الزراعية في سنة ثالثة ، وهكذا. ولكن نقرأ في بعض الرّوايات أنّه كان يفصل بين كل بلاء وآخر شهر واحد لا أكثر وعلى أي حال ، لا شك أنّها كانت تقع بصورة

__________________

(1) الضّفادع جمع ضفدعة وقد جاء ذكر هذا البلاء في الآية بصورة الجمع ، ولكن البلايا السابقة جاءت في صورة المفرد. ولعل هذا يفيد أن الله سلّط عليهم أنواعا مختلفة من الضفادع.

١٧٨

منفصلة ، وفي فواصل زمنية مختلفة (كما يقول القرآن : مفصلات) كي تكون هناك فرصة للتفكر والتنبه واليقظة.

هذا والجدير بالانتباه أنّنا نقرأ في الرّوايات أن هذه البلايا كانت تصيب آل فرعون وقومه خاصّة ، وكان بنو إسرائيل في معزل عن ذلك ، ولا شك أنّ هذا نوع من الإعجاز ، ولكن يمكن أن نبرر قسما من ذلك بتبرير علمي معقول ، لأنّنا نعلم أنّ أجمل نقطة في بلد مثل مصر هي شاطئا النيل وضفتاه ، وكانت هذه الشواطئ والضفاف برمتها تحت تصرف الفرعونيين والقبطيين ومحل سكناهم ، فقصورهم الجميلة الشامخة ، ومزارعهم الخضراء وبساتينهم العامرة ، كانت في هذه الضفاف.

وبطبيعة الحال كان نصيب بني إسرائيل الذين كانوا عبيدا للفرعونيين والقبطيين هي النقاط النائية والصحاري البعيدة الشحيحة الماء.

ومن الطبيعي أنّ الطوفان عند ما يحدث يكون الأقرب إلى الخطر ضفتا النيل وشاطئاه ومن يسكنها ، وكذا عند ما كانت الضفادع تخرج من الماء ، وكذا انقلاب الماء إلى هيئة الدم كان يظهر في مياه الفرعونيين الذين كانوا يسكنون إلى جانب النيل دون بني إسرائيل ، وأمّا الجراد والآفات النباتية فقد كانت تتعرض لها المناطق الزراعية والبساتين الخضراء الوفيرة المحصول في الدرجة الأولى.

كل ما قيل في الآيات السابقة جاء في التوراة أيضا ، ولكن ثمّة فروق واضحة بين محتويات القرآن الكريم وما جاء في التوراة راجع سفر الخروج الفصل السابع إلى العاشر من التوراة).

* * *

١٧٩

الآيات

( وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136) )

التّفسير

نقض العهد المتكرر :

في هذه الآيات نلاحظ رد فعل الفرعونيين في مقابل النوائب والبلايا المنبّهة الإلهيّة ، ويستفاد من مجموعها أنّهم عند ما كانوا يقعون في مخالب البلاء ينتبهون من غفوتهم بصورة مؤقتة شأنهم شأن جميع العصاة ، وكانوا يبحثون عن حيلة للتخلص منها ، ويطلبون من موسىعليه‌السلام أن يدعو لهم ، ويسأل الله في خلاصهم ، ولكن بمجرّد أن يزول عنهم طوفان البلاء وتهدأ أمواج الحوادث ، ينسون كل شيء ويعودون إلى سيرتهم الأولى.

وفي الآية الأولى نقرأ :( وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ

١٨٠