الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245176 / تحميل: 6211
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

١
٢

٣
٤

الآيات

( يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧) وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨) )

التّفسير

إنذار إلى كل أبناء آدم :

إنّ قصة آدم ومشكلته مع الشيطان ـ كما أسلفنا في آخر بحث في الآيات السابقة ـ عكست تصويرا واقعيا عن حياة جميع أفراد البشر على الأرض ، ولهذا بيّن الله تعالى في الآيات الحاضرة وما بعدها سلسلة من التعاليم والبرامج البنّاءة لجميع أبناء آدم ، وهي تعتبر في الحقيقة استمرارا لبرامج آدم في الجنّة.

ففي البداية يشير إلى مسألة اللباس وستر سوءات البدن التي كان لها دور

٥

مهم في قصّة آدم ، إذ يقول :( يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ ) .

ولكن فائدة اللباس الذي أرسلناه لكم لا تقتصر على ستر البدن وإخفاء العيوب والسوءات ، بل للتجمل والزينة أيضا حيث يجعل أجسامكم أجمل ممّا هي عليه.( وَرِيشاً ) .

وكلمة «ريش» في الأصل هو ما يستر أجسام الطيور ، وحيث أنّ ريش الطيور هو اللباس الطبيعي في أجسامها ، لهذا أطلق على نوع من أنواع الألبسة ، ولكن حيث أنّ ريش الطير في الأغلب مختلف الألوان جميلها ، لذلك تتضمّن هذه الكلمة مفهوم الزينة والجمال ، هذا مضافا إلى أنّه تطلق كلمة الريش على الأقمشة التي تلقى على سرج الفرس أو جهاز البعير.

وقد أطلق بعض المفسّرين وأهل اللغة هذه اللفظة على معنى أوسع أيضا ، وهو كل نوع من أنواع الأثاث والحاجيات التي يحتاج إليها الإنسان ، ولكن الأنسب في الآية الحاضرة هو الألبسة الجميلة وثياب الزينة.

ثمّ تحدث القرآن عقيب هذه الجملة التي كانت حول اللباس الظاهري ، عن حدّ اللباس المعنوي تبعا لسيرته في الكثير من الموارد التي تمزج بين الجانبين المادي والمعنوي ، الظاهري والباطني إذ قال :( وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ) .

وتشبيه التقوى باللباس تشبيه قوي الدلالة ، معبّر جدّا ، لأنّه كما أنّ اللباس يحفظ البدن من الحرّ والقرّ ، يقي الجسم عن الكثير من الأخطار ، ويستر العيوب الجسمانية ، وهو بالإضافة الى هذا وذاك زينة للإنسان ، ووقايته من الكثير من الأخطار الفردية والاجتماعية ، تعدّ زينة كبرى له زينة ملفتة للنظر تضيف إلى شخصيته رفعة وسمّوا ، وتزيدها جلالا وبهاء.

ثمّ إنّ هناك مذاهب متعددة للمفسّرين في تحديد المراد من لباس التقوى ،

٦

وأنّه ما هو؟

فبعض فسّره بـ «العمل الصالح» وبعض بـ «الحياء» وبعض بـ «لباس العبادة» ، وبعض بـ «لباس الحرب» مثل الدرع والخوذة ، وحتى الترس ، لأنّ لفظة التقوى مشتقّة من مادة «الوقاية» بمعنى الحفظ والحماية ، وبهذا المعنى جاء في القرآن الكريم أيضا ، كما نقرأ في سورة النحل الآية (٨١) :( وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ ) .

ولكن للآيات القرآنية ـ كما قلنا مرارا ـ معنى واسعا في الغالب ، ولها مصاديق متعددة ومختلفة ، وفي الآية الحاضرة ـ أيضا ـ يمكن استفادة جميع هذه المعاني منها.

وحيث أنّ لباس التقوى في هذه الآية موضوع في مقابل اللباس الساتر للبدن ، لهذا يبدو للنظر أنّ المراد منه هو «روح التقوى» التي تحفظ الإنسان ، وتنطوي تحتها معاني «الحياء» و «العمل الصالح» وأمثالهما.

ثمّ إنّ الله تعالى يقول في ختام الآية :( ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) أي إنّ هذه الألبسة التي جعلها الله لكم ، سواء الألبسة المادية أو المعنوية ، اللباس الجسماني أو لباس التقوى ، كلّها من آيات الله ليتذكر الناس نعم الربّ تعالى.

نزول اللباس!

نلاحظ في آيات متعددة من القرآن الكريم أنّ الله سبحانه يقول في صعيد توفير اللباس للبشر : «وأنزلنا» وهو بمعنى الإرسال من مكان عال إلى الأسفل ، إذ يقول :( قَدأَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً ) في حين أنّ اللباس كما هو المعلوم أمّا أنّه يتّخذ من الصوف ، أو يتّخذ من مواد نباتيّة وما شاكل ذلك من أشياء الأرض.

كما أننا نقرأ في الآية (٦) من سورة الزمر( وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ) وفي سورة الحديد الآية (٣٥)( وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ ) . فما ذا يعني هذا؟

٧

يصرّ كثير من المفسّرين على تفسير مثل هذه الآيات بالنّزول المكاني أي من فوق إلى تحت ، مثلا يقولون : إنّ ماء المطر ينزل من السماء إلى الأرض فتروى منه النباتات والحيوانات ، من هنا تكون مواد اللباس قد نزلت ـ بهذا المعنى ـ من السماء إلى الأرض.

وفي مجال الحديد أيضا يقولون : إنّ الأحجار والصخور السماوية العظيمة التي تحتوي على عناصر الحديد قد انجذبت إلى الأرض.

ولكن النّزول ربّما استعمل بمعنى النّزول المقامي ، وقد استعملت هذه اللفظة في المحاورات اليومية بهذا الشكل كثيرا ، فيقال مثلا : أصدر الحاكم أمره إلى أمرائه ومعاونيه ، أو يقال : رفعت شكواي إلى القاضي ، لهذا لا داعي إلى الإصرار على تفسير هذه الآيات بالنّزول المكاني.

فحيث أنّ النعم الإلهية قد صدرت من المقام الرّبوبي الرفيع إلى البشر ، لهذا عبّر عن هذا المفهوم بهذا اللفظ ، وهو تعبير يدركه الإنسان بدون إشكال أو صعوبة.

ويشبه هذا الموضوع ما نلاحظه في ألفاظ الإشارة القريبة والبعيدة أيضا ، فقد يكون شيء ما ذا بال أو موضوع مهمّ في متناول أيدينا ، ولكنّه ـ لما كان من حيث الشأن ـ يتمتّع بمقام مهمّ رفيع ، فإنّنا نشير إليه باسم الإشارة البعيد ، فنقول في محاوراتنا مثلا : تلك الشّخصية ، ونحن نقصد رجلا حاضرا قريبا ، وقد جاء في القرآن الكريم :( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ ) . والمقصود من الكتاب المشار إليه بالإشارة البعيدة القرآن الحاضر ، ولكن تعظيما له أستعيض في الإشارة إليه عن أداة الإشارة القريبة بأداة الإشارة البعيدة.

اللباس في الماضي والحاضر :

لم يزل الإنسان فيما مضى ـ كما يشهد به التاريخ ـ يلبس الثياب ، ولكن

٨

الألبسة قد تغيرت وتنوعت تنوعا بالغا عبر الزمن ، فقد كانت الثياب تلبس فيما سبق ـ وفي الأغلب ـ لأجل حفظ الجسم من الحرّ والقرّ وكذا للزينة والتجمل ، والجانب الوقائي كان يأتي في الدرجة اللاحقة ، ولكن في ظل الحياة الصناعية الحاضرة أصبح الجانب الوقائي في المرتبة الأولى من الأهمية في كثير من الحقول ، فرجال الفضاء ورجال الإطفاء ، وعمال المعادن والمناجم والغواصون ، وغيرهم كثيرون ، يستخدمون ألبسة خاصّة لوقاية أنفسهم من مختلف الأخطار.

لقد تطورت وسائل إنتاج الألبسة والثياب في عصرنا الراهن تطورا هائلا ، واتسع نطاقها اتساعا كبيرا ، بحيث أصبح لا يقاس بما مضى.

يقول كاتب تفسير المنار في المجلد الثّامن عند تفسير الآية المبحوثة هنا : «لقد بلغ من إتقان صناعات اللباس أنّ عاهل ألمانية الأخير (قيصرها) دخل مرّة أحد معامل الثياب ليشاهد ما وصلت إليه من الإتقان ، فجزوا أمامه عند دخوله صوف بعض كباش الغنم ، ولما انتهى من التجوال في المعمل ومشاهدة أنواع العمل فيه ، وأراد الخروج قدّموا له معطفا ليلبسه تذكارا لهذه الزيارة ، وأخبروه أنّه صنع من الصوف الذي جزوه أمامه عند دخوله ، فهم قد نظفوه في الآلات المنظّفة ، فغزلوه بآلات الغزل ، فنسجوه بآلات النسج ، ففصّلوه فخاطوه في تلك الفترة القصيرة ، فانتقل في ساعة أو ساعتين من ظهر الخروف إلى ظهر الإمبراطور».(١)

ولكن ـ للأسف ـ قد اتسعت الجوانب الفرعية ، بل وغير المحمودة والفاضحة للثياب والألبسة وتعددت كثيرا إلى درجة أنّها غطت على الفلسفة الأصلية للباس.

لقد أصبح اللباس ـ اليوم ـ وسيلة لأنواع التظاهر ، وإشاعة الفساد ، وتحريك الشهوات ، والتكبر والإسراف والتبذير ، وما شابه ذلك. حتى أنّنا ربّما نشاهد

__________________

(١) المنار ، ج ٨ ، ص ٣٥٩.

٩

ألبسة يرتديها جماعات من الناس ـ وبخاصّة الشباب المتغرب ـ يفوق طابعها الجنوني على الطابع العقلاني ، وتكون أشبه بكل شيء إلّا باللباس والثوب.

والذي تقود إليه الدراسة الموضوعية لهذه الظاهرة ، هو أنّ للعقد النفسية دورا مهمّا في ارتداء مثل هذه الألبسة العجيبة الغريبة ، فالأفراد الذين لا يتمكنون من القيام بعمل مهم وملفت للنظر لتوكيد وجودهم في المجتمع يلجأون إلى هذا الأسلوب ويحاولون بارتداء هذه الألبسة غير المأنوسة والعجيبة إثبات وجودهم وحضورهم ، ولهذا نلاحظ أنّ أصحاب الشخصيات المحترمة ، أو الذين لا يعانون من عقد نفسيّة ينفرون من ارتداء مثل هذه الثياب.

وعلى كل حال فإنّ مبالغ طائلة وثروات عظيمة جدّا تهدر وتبدّد ـ اليوم ـ في سبيل اقتناء وتعاطي الألبسة المتنوعة والموضات المختلفة ولو منع من تبذيرها وتبديدها والإسراف فيها لأمكن حل الكثير من المشكلات الاجتماعية بها ، ولتحولت إلى بلاسم وضمادات ناجعة لكثير من جراحات الطبقات المحرومة والفئات البائسة الفقيرة في المجتمعات البشرية.

هذا ويستفاد من تاريخ حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسائر الأئمّة العظام أنّهم كانوا يعارضون بشدّة مسألة التفاخر بالألبسة والإفراط في التجمل بها ، إلى درجة أنّنا نقرأ في الرّوايات أنّ وفدا من النصارى قدم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة ، وهم يلبسون الألبسة الحريرية الجميلة جدا ، والتي لم يرها العرب إلى ذلك اليوم ولم يعهد أن لبسوها ، فلما حضروا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سلموا عليه ، لم يردّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على سلامهم ، بل أحجم حتى عن التحدث معهم ولو بكلمة ، وأعرض عنهم ، فلمّا سألوا عليّاعليه‌السلام عن سبب إعراض النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنهم ، قالعليه‌السلام لهم : أرى أن تضعوا حللكم هذه وخواتيمكن ثمّ تعودون إليه.

ففعل النصارى ما قاله لهم الإمامعليه‌السلام ، ثمّ دخلوا على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسلّموا عليه فردّ عليهم وتحدث معهم. ثمّ قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والذي بعثني بالحق لقد أتوني

١٠

المرّة الأولى وإنّ إبليس لمعهم».(١)

الآية اللاحقة يحذّر فيها الله سبحانه جميع أبناء البشر من ذرية آدم من كيد الشيطان ومكره ، ويدعو إلى مراقبته ، والحذر منه ، لأنّ الشّيطان أبدى عداءه لأبيهم آدم ، فكما أنّه نزع عنه لباس الجنّة بوساوسه يمكن أن ينزع عنهم لباس التقوى ، ولهذا يقول تعالى :( يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما ) .

وفي الحقيقة إنّ الأمر الذي يربط الآية الحاضرة بالآية السابقة هو أنّ الآية السابقة تحدثت عن اللباس الظاهري والمعنوي للإنسان (لباس التقوى) ، وهذه الآية تضمنت تحذيرا ودعوة له لمراقبة الشيطان والحذر من نزعه لباس التقوى عنكم.

على أنّ ظاهر عبارة( لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ ) هو نهي الشيطان عن هذا العمل ، ولكن أمثال هذه العبارات تعتبر كنايات لطيفة لنهي المخاطب ، وتشبه ما إذا خاطبنا صديقا نحبه قائلين : لا يصح أن يوجه إليك فلان ضربة ، أي راقبه حتى لا تتعرض لضربته وأذاه.

ثمّ إنّ الله تعالى يؤكّد على أنّ الشيطان وأعوانه يختلفون عن غيرهم من الأعداء( إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ ) فلا بدّ من شدّة الحذر من مثل هذا العدوّ.

وفي الحقيقة عند ما تظن أنك وحيد ، فإنّه من الممكن أن يكون حاضرا معك ، فيجب عليك الحذر من هذا العدوّ الخفيّ الذي لا يمكن معرفة لحظات هجومه وعدوانه المباغت ، ولا بدّ من اتخاذ حالة الدفاع الدائم أمامه.

وفي خاتمة الآية يأتي سبحانه بجملة هي في الحقيقة إجابة على سؤال

__________________

(١) سفينة البحار ، المجلد الثاني ، ص ٤ ـ ٥ ، مادة لبس.

١١

مهم ، فقد يتساءل أحد : كيف سلّط الله العادل الرحيم عدوّا بهذه القوة على الإنسان عدوّا لا يمكن مقايسة قواه بقوى الإنسان عدوا يذهب حيث يشاء دون أن يحس أحد بتحركاته ، بل إنّه ـ حسبما جاء في بعض الأحاديث ـ يجري من الإنسان مجرى الدم في عروقه ، فهل تنسجم هذه الحقيقة مع عدالة الله سبحانه؟! الآية الشريفة ـ في خاتمتها ـ ترد على هذا السؤال الاحتمالي إذ تقول :( إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) .

أي إنّ الشياطين لا يسمح لهم قط بأن يتسلّلوا وينقذوا إلى قلوب وأرواح المؤمنين الذين لم يكونوا على استعداد لقبول الشيطان والتعامل معه.

وبعبارة أخرى : إنّ الخطوات الأولى نحو الشيطان إنّما يخطوها الإنسان نفسه ، وهو الذي يسمح للشيطان بأن يتسلل إلى مملكة جسمه. فالشيطان لا يستطيع اجتياز حدود الروح ويعبرها إلّا بعد موافقة من الإنسان نفسه ، فإذا أغلق الإنسان نوافذ قلبه في وجه الشياطين والأبالسة ، فسوف لا تتمكن من النفوذ إلى باطنه.

إن الآيات القرآنية الأخرى شاهدة أيضا على هذه الحقيقة ، ففي سورة النحل في الآية (١٠٠) نقرأ( إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) ، فالذين يتعشقون الشيطان ويسلمون إليه زمام أمرهم ويعبدونه هم الذين يتعرضون لسيطرته ووساوسه.

وفي الآية (٤٧) من سورة الحجر نقرأ( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) .

وبعبارة أخرى : صحيح أنّنا لا نرى الشيطان وجنوده وأعوانه ، إلّا أننا نستطيع أن نرى آثار أقدامهم ، ففي كل مجلس معصية ، وفي كل مكان تهيّأت فيه وسائل الذنب ، وفي كل مكان توفرت فيه زبارج الدنيا وبهارجها ، وعند طغيان الغرائز ، وعند اشتعال لهيب الغضب ، يكون حضور الشيطان حتميا ومسلّما ، وكأنّ

١٢

الإنسان يسمع في هذه المواقع صوت وساوس الشيطان بآذان قلبه ، ويرى آثار قدمه بأمّ عينيه.

وقد روي ـ في هذا الصعيد ـ حديث رائع عن الإمام الباقرعليه‌السلام إذ يقول : «لما دعا نوح ربّهعزوجل على قومه أتاه إبليس لعنة الله فقال : يا نوح إنّ لك عندي يدا! أريد أن أكافئك عليها.

فقال نوح : إنّه ليبغض إليّ أن يكون لك عندي يد ، فما هي؟

قال : بلى دعوت الله على قومك فأغرقتهم ، فلم يبق أحد أغويه ، فأنا مستريح حتى ينشأ قرن آخر وأغويهم.

فقال نوح : ما الذي تريد أن تكافيني به؟

قال : أذكرني في ثلاثة مواطن ، فإنّي أقرب ما أكون إلى العبد إذا كان في أحدهن :

أذكرني إذا غضبت؟

واذكرني إذا حكمت بين اثنين!

واذكرني إذا كنت مع امرأة خاليا ليس معكما أحد!»(١) .

النقطة الأخرى التي يجب الانتباه إليها هنا ، هي أنّ ثلّة من المفسّرين استنبطوا من هذه الآية أنّ الشيطان غير قابل للرؤية للإنسان مطلقا ، في حين يستفاد من بعض الرّوايات أنّ هذا الأمر ممكن أحيانا.

ولكن الظاهر أنّ هذين الاتجاهين غير متعارضين ، لأنّ القاعدة الأولية والأصلية هي أن لا يرى ، ولكن لهذه القاعدة ـ كغيرها ـ استثناءات ، فلا تناف.

في الآية التالية يشير تعالى إلى واحدة من وساوس الشيطان المهمّة والتي

__________________

(١) بحار الأنوار ، الطبعة الجديدة ، الجزء ١١ ، الصفحة ٣١٨.

١٣

تجري على ألسنة بعض الشياطين من الإنس أيضا ، وهي أنّه عند ما يسأل الشخص لدى ارتكابه عملا قبيحا ، عن دليله يجيب قائلا : هذا ما وجدنا آباءنا يفعلونه :( وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا ) .

ثمّ يضيفون إلى هذه الحجّة حجّة كاذبة أخرى قائلين :( وَاللهُ أَمَرَنا بِها ) .

إنّ مسألة التقليد الأعمى للآباء ، بالإضافة إلى الافتراء على الله ، عذران مختلفان ، وحجّتان داحضتان يتشبث بهما العصاة المتشيطنون لتبرير أعمالهم القبيحة غالبا.

والملفت للنظر أنّ القرآن الكريم لم يعبأ بالدليل الأوّل (يعني التقليد الأعمى للآباء والأسلاف) ولم يعتن به ، وكأنّه وجد نفسه في غنى عن الرّدّ عليه وإبطاله ، لأنّ العقل السليم يدرك بطلانه ، هذا مضافا إلى أنّه قد ردّ عليه في مواضع عديدة من القرآن الكريم. وإنّما اكتفى بالردّ على الحجّة الثّانية ، أو بالأحرى (التبرير الثّاني) حيث قال :( قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ ) .

إنّ الأمر بالفحشاء حسب تصريح الآيات القرآنية عمل الشيطان لا عمل الله ، فإنّه تعالى لا يأمر إلّا بالمعروف والخير(١) .

ثمّ يختم الآية بهذه العبارة :( أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) .

ورغم أنّ الأنسب أن يقول : لماذا تنسبون ما هو كذب وليس له واقع إلى الله؟ لكنّه قال بدل ذلك : لماذا تقولون ما لا تعلمون على الله؟ وهذا في الحقيقة استنادا الى الحدّ الأدنى من موضع قبول الطرف الآخر ، فيقال : إذا كنتم لا تتيقنون كذب هذا الكلا ، فعلى الأقل ليس لديكم دليل على إثباته ، فلما ذا تتهمون الله وتقولون على الله ما لا تعلمون؟!.

__________________

(١) راجع سورة البقرة ، ٢٦٨ و ٢٦٩.

١٤

ما هو المقصود من الفحشاء؟

ما هو المراد من الفحشاء هنا؟ قالت طائفة كبيرة من المفسّرين : إنّها إشارة إلى تقليد كان سائدا بين جماعة من العرب في العهد الجاهلي ، وهو الطواف حول بيت الله المعظم عريانا «رجالا ونساء» ظنا منهم بأنّ الثياب التي ارتكبت فيها الذنوب لا تليق بأن يطاف بها حول الكعبة المعظمة.

على أنّ هذا التّفسير يتناسب مع الآيات السابقة التي دار الحديث فيها عن الثّياب والألبسة.

ولكنّنا نقرأ في روايات متعددة أنّ المراد من الفحشاء هنا هو كلام حكّام الجور الذين يدعون الناس إلى أنفسهم ، ويعتقدون بأنّ الله فرض طاعتهم على الناس.

ولكن بعض المفسّرين ـ مثل كاتب «المنار» و «الميزان» ـ أخذوا للآية مفهوما واسعا إذ قالوا : إنّ الفحشاء تشمل كل عمل قبيح منكر ، وبملاحظة سعة مفهوم لفظة الفاحشة ، فإنّ الأنسب هو أنّ للآية معنى واسعا سعة معنى الكلمة ، ومسألة «الطواف بالبيت عريانا» و «اتباع القادة والزعماء الظلمة» تعدّ من المصاديق الواضحة لذلك ، فلا منافاة بين الطائفتين من الرّوايات.

هذا وقد أعطينا توضيحا كافيا حول التسليم المطلق لتقاليد الأسلاف وأعرافهم عند تفسير الآية (١٧٠) من سورة البقرة.

* * *

١٥

الآيتان

( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠) )

التفسير

حيث أنّ الحديث في الآية السابقة دار حول الفحشاء التي يشمل مفهوما كلّ أنواع الفعل القبيح ، وتأكّد أنّ الله يأمر بالفحشاء إطلاقا لهذا أشير في هذه الآية إلى أصول ومبادئ التعاليم الإلهية في مجال الوظائف والواجبات العملية في جملة قصيرة ، ثمّ تبعه بيان أصول العقائد الدينية ، أي المبدأ والمعاد ، بصورة مختصرة موجزة.

يقول أوّلا : أيّها النّبي( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ) والعدل.

ونحن نعلم أنّ للعدل مفهوما واسعا يشمل جميع الأعمال الصالحة ، لأنّ حقيقة العدل هي استخدام كل شيء في مجاله ، ووضع كل شيء في محلّه.

ثمّ إنّه وإن كان بين «العدالة» و «القسط» تفاوتا ، إذ تطلق «العدالة» ويراد

١٦

منها إعطاء كل ذي حق حقه ، ويقابلها «الظلم» وهو منع ذوي الحقوق من حقوقهم ، بينما يعني «القسط» أن لا تعطي حق أحد لغيره.

وبعبارة أخرى : أن لا يرضى بالتبعيض ، ويقابله أن يعطي حقّ أحد لغيره.

ولكن المفهوم الواسع لهاتين الكلمتين اللتين قد تستعملان منفصلتين ، متساو تقريبا ، وهما يعنيان رعاية الاعتدال والتوازن في كل شيء وفي كل عمل ، وبالتالي وضع كل شيء في مكانه.

ثمّ إنّه سبحانه أمر بالتوحيد في العبادة ومحاربة كلّ ألوان الشرك وأنواعه ، إذ قال :( وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) أي وجهوا قلوبكم نحو الله الواحد دون سواه ،( وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) .

وبعد تحكيم وإرساء قاعدة التوحيد ، وجه الأنظار نحو مسألة المعاد والبعث يوم القيامة ، إذ قال :( كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) .

* * *

بحثان

هنا نقطتان يجب الالتفات إليهما والوقوف عندهما :

١ ـ ما المقصود من «( أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ .)

ذكر المفسّرون في تفسير( أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) تفاسير متنوعة ، فتارة قالوا : المراد هو التوجه صوب القبلة.

وأخرى : إنّ المراد هو المشاركة في المساجد أثناء الصلوات اليومية.

وثالثة احتملوا أيضا أن يكون الهدف منه هو حضور القلب والنية الخالصة عند العبادة.

ولكن التّفسير الذي ذكرناه أعلاه (أي التوجه إلى الله ، ومحاربة كل ألوان

١٧

الشرك والتوجه إلى غير الله) يبدو للنظر أنّه أنسب مع ما سبق وما يلحق هذه الجملة ، وإن لم تكن إرادة كل هذه المعاني بعيدة عن مفهوم الآية أيضا.

٢ ـ أقصر الأدلة على المعاد

لقد بحث أمر المعاد والبعث في يوم القيامة كثيرا ، ويستفاد من آيات القرآن الكريم أنّ هضم هذه المسألة كان أمرا صعبا وعسيرا بالنسبة إلى كثير من الناس في العصور الغابرة ، إلى درجة أنّهم كانوا يتخذون أحيانا من طرح مسألة القيامة والمعاد من قبل الأنبياء دليلا على عدم صحة دعوتهم ، وبل حتى (والعياذ بالله) دليلا على الجنون ويقولون :( أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ ) (١) .

ولكن يجب الانتباه إلى أنّ ما كان يدعو لمزيد من تعجبهم ودهشتهم ، هو مسألة المعاد الجسماني ، لأنّهم ما كانوا يصدّقون بأنّ الأبدان بعد صيرورتها ترابا ، وتبعثر ذراتها بفعل الرياح والأعاصير وتناثرها في أرجاء الأرض. أن تجتمع هذه الذرات المتبعثرة من بين أكوام التراب. وأمواج البحار ، ومن بين ثنايا ذرات الهواء ، ويلبس ذلك الإنسان لباس الوجود والحياة مرّة أخرى.

إن القرآن الكريم أجاب في آيات متنوعة على هذا الظن الخاطئ ، والآية الحاضرة تعكس إحدى أقصر وأجمل التعابير في هذا المجال ، إذ تقول : أنظروا إلى بداية الخلق ، انظروا إلى جسمكم الذي يتكون من مقدار كبير من الماء ، ومقدار أقل من المواد المعدنية وشبه المعدنية المختلفة المتنوعة أين كان في السابق؟ فالمياه المستخدمة في جسمكم يحتمل أنّ كل قطرة منها كانت سادرة في محيط من محيطات الأرض ثمّ تبخّرت وتبدلت إلى السّحب ، ثمّ نزلت في شكل قطرات المطر على الأراضي ، والذرات التي استخدمت في نسيج جسمكم من مواد الأرض الجامدة كانت ذات يوم في هيئة حبّة قمح أو ثمرة شجرة ، أو خضروات مختلفة جمعت من مختلف نقاط الأرض.

__________________

(١) سورة سبأ ، ٨.

١٨

وعلى هذا فلا مكان للتعجب والدهشة إذا سمعنا أنّه بعد تلاشي بدن الإنسان ورجوعه إلى حالته الأولى تجتمع تلك الذرّات ثانية ، وتتواصل وتترابط ويتشكل الجسم الأوّل ، فلو كان هذا الأمر محالا فلما ذا وقع في مبدأ الخلقة.

إذا «كما بدأكم» الله «تعودون» أي يعيدكم في الآخرة ، وهذا هو الموضوع الذي تضمنته العبارة القصيرة.

في الآية اللاحقة يصف سبحانه ردود الفعل التي أظهرها الناس قبال هذه الدعوة (الدعوة إلى التوحيد والخير والمعاد) فيقول :( فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ ) (١) .

ولأجل أن لا يتصور أحد أنّ الله يهدي فريقا أو يضلّ فريقا من دون سبب ، أضاف في الجملة ما يلي :( إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ ) أي إنّ الضالين هم الذين اختاروا الشياطين أولياء لهم بدل أن يدخلوا تحت ولاية الله ، فضلوا.

والعجب أنّه رغم كل ما أصابهم من ضلال وانحراف يحسبون أنّهم المهتدون الحقيقون( وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ) .

إنّ هذه الحالة تختص بالذين غرقوا في الطغيان والمعصية ، وكان انغماسهم في الفساد ، والضلال والانحراف ، والوثنية ، كبيرا إلى درجة أنّه انقلبت حاسة تمييزهم رأسا على عقب ، فحسبوا القبيح حسنا ، والضلالات هداية ، وفي هذه الحالة أغلقت في وجوههم كل أبواب الهداية ، وهذا هو ما أوجدوه وجلبوه لأنفسهم.

* * *

__________________

(١) جملة «فريقا هدى» من حيث الإعراب والتركيب تكون كالتالي : فريقا مفعول هدى فعل وفاعل مؤخرين ، وفريقا (الثّانية) مفعول مقدم.

وأضل فعل وفاعل مؤخران مقدران دل عليهما جملة «حق عليهم الضلالة».

١٩

الآيتان

( يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢) )

التّفسير

الحديث في هاتين الآيتين يتناسب مع قصّة آدم في الجنّة ، وكذلك يتناول مسألة اللباس وسائر مواهب الحياة ، وكيفية الاستفادة الصحيحة منها.

في البداية يأمر جميع أبناء آدم ضمن دستور عام أبدي ، يشمل جميع الأعصار والقرون ، أن يتخذوا زينتهم عند ما يذهبون إلى المساجد( يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) .

هذه الجملة يمكن أن تكون إشارة إلى كل «زينة جسمانية» ممّا يشمل لبس الثياب المرتبة الطاهرة الجميلة ، ومشط الشعر ، واستعمال الطيب والعطر وما شابه ذلك كما يمكن أيضا أن تكون إشارة إلى كل «زينة معنوية» يعني الصفات

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ايها السادة المحترمون !

مثل هذهِ الامور كثيرة جداً في التاريخ القضائي لبلادنا. وان ذكرها بأجمعها يحتاج الىٰ سنوات من الوقت.

والحقيقة هي ان القيود التي وضعها العالم المتحضر علىٰ القوانيين القضائية سلبتها السرعة اللازمة وجعلها كما هي الآن مضحكة ، مما ادىٰ الىٰ يأس الفئات المستضعفة من احقاق حقها بواسطة الاجهزة القضائية ، للحدّ الذي يرضىٰ اكثر المظلومين المستضعفين بغض النظر عن حقوقهم المسلّمة والقانونية على أن يرجعوا الىٰ المحاكم.

لكن الاسلام العظيم لا يرضىٰ ان يكون هناك عمل مهما كان صغيراً بعنوان طي مراحل قانونية او عناوين اُخرىٰ في دائرته القضائية ، ومع ان المحكمة الاسلامية ليس فيها الّا عضوان هما القاضي والكاتب ( الذي يحرر الحكم ) ، الّا انه في الغالب يفضّ النزاع في اول جلسة قضائية ، ويأخذ كل واحد حقه.

المحكمة القضائية الاسلامية برأي غوستاف لوبون

يقول الدكتور غوستاف لوبون حول القضاء في الاسلام :

« القضاء الاسلامي وترتيب المحاكمات وجيز وبسيط ، فهناك شخص منصب من قبل الحاكم لأمر القضاء ، يتابع جميع القضايا شخصياً ويحكم فيها ،

١٨١

وحكمه هذا قطعي ، ففي المحكمة الاسلامية ، يدعىٰ طرفي النزاع الىٰ الحضور شخصياً الىٰ المحكمة ويقومان بشرح القضية ويقدم كل طرف منهم دليله ، ثم يصدر القاضي حكمه في ذلك المجلس.

لقد حضرت مرّة في احدىٰ هذهِ المحاكم في المغرب ورأيت كيف يقوم القاضي بعمله ، كان القاضي يجلس علىٰ كرسيه في بناية متصلة بدار الحكومة ، كما ان كلّ واحد من المتداعيين أيضاً يجلس في مكانه ومعه شهوده ، وكانوا يتحدثون بألفاظ مختصرة وكلام بسيط ، فإذا كان احدهم يحكم عليه بعدّة سياط ، كان الحكم ينفذ فيه في ختام الجلسة ، واكبر فوائد هذا النوع من القضاء هو عدم ضياع وقت المتداعيين ، وعدم وجود خسائر مالية للمتداعيين بسبب المراجعات الادارية التي نراها اليوم ، ومع البساطة والايجاز الذي ذكرته فأن الاحكام الصادرة كانت عادلة ومنصفة ».

ليس في الاسلام استئناف ولا تميز

الدكتور : الشروط التي ذكرتها والالتفاتات العلمية الموجودة في القضاء الاسلامي ليس لها مثيل في قوانين القضاء الوضعية في جميع العالم ، حسب معلوماتي الشخصية ، ورغم الضجيج الاعلامي الذي تقوم به اوروبا دعاية لمؤساستها القضائية ، فليست هناك مؤسسة متطورة كما هو الحال في المؤسسات القضائية الاسلامية. لكن هناك امر في قوانين القضاء الوضعية المعاصرة لا نجدها في القوانين القضائية الاسلامية ، وتلك مرحلة الاستئناف والتميز ، اي ان القوانين القضائية المعاصرة تكون علىٰ مرحلتين ، فلو اخطأ

١٨٢

القضاة في المرحلة الاولىٰ او ارتكبوا خيانة ، تذهب القضية مباشرة الىٰ محكمة الاستئناف ومن ثم الىٰ التميز وهناك تدرس وتتابع من جديد ، في حين ان الاسلام فاقد لهذهِ الميزة القضائية ( الاستئناف والتميز ).

الشيخ : ان وجود مرحلتان قضائيتان في عالم اليوم وعدم وجود ذلك في القانون القضائي الاسلامي هو دليل هام علىٰ استحكام مباني القوانين القضائية الاسلامية ، وهشاشتها في القوانين القضائية الوضعية المعاصرة ، ولان الاسلام يأخذ الحدّ الاقصىٰ من الاحتياط والدقة في المرحلة الاولىٰ وضمن الشروط الواجب توفرها في القاضي. لان تلك الشروط التي ذكرناها مسبقاً تجعل من الصعب ان يخطيء القاضي او يخون وبذلك تنتفي الحاجة الىٰ مرحلة الاستئناف والتميز.

أمّا دنيا اليوم ترىٰ ان شرط القضاء الوحيد هو الشهادة الدراسية ، دون الاخذ بالجوانب الاُخرىٰ والتي تجعل من اي شخص قاضياً لمجرد انه خريج فرع القانون ، لابد وان لا تطمئن لقضاءهم وان تجعل احتمال الخطأ والخيانة مساوياً لاحتمال الصحة في الحكم !

سعادة الدكتور ! حتىٰ لو فرضنا ان جميع القضاة عدول واتقياء ، فان الاسلوب القضائي المتبع اليوم لا يبعث علىٰ الاطمئنان ، لان الاضبارة التي يجب ان يدرسها القضاة نظمت في محلّ آخر ، ومن اين للقضاة ان يطمئنوا اليها وانها لم تطلها يد التحريف والتزوير ، وهل تستطيع تلك الاضبارة أن تعكس واقع الناس المساكين والمظلومين ؟! وهل الاحكام التي تصدر من مثل هذه الاضبارات صحيحة ويمكن الاطمئنان إليها ؟

١٨٣

سعادة الدكتور ! يحاول عالمنا المعاصر حلّ مشاكله القضائية مثل احتمال الخيانة او الخطأ ( وهو احتمال قوي جداً وفي محله ) عن طريق محكمة الاستئناف والتميز ، في حين ان هذا الامر خطأ تماماً وتصور مغلوط ، لان القضاة الكبار في محكمة الاستئناف والتميز ليسوا ملائكة ، بل من اولئك المتعلمين الذين يعتبر شرط استخدامهم الوحيد هو شهادتهم الدراسية ، اي ان قضاة الاستيناف والتميز ايضا من نفس شاكلة القضاة العاديين ، فكيف لا يطمئن الىٰ حكم المحاكم العادية ويطمئن الىٰ حكم محكمة الاستئناف والتميز ؟! فهل ان قضاة المحاكم العادية غير عدول وغير متقين ، لكن قضاة محاكم الاستيناف والتميز عدول ومتقون ؟!

أليسوا جميعاً من صنف وهيئة واحدة ، والشرط الوحيد لعملهم هو الورقة التي في ايديهم ( الشهادة الدراسية ) ؟!

أمّا الاسلام وعلىٰ الرغم من عدم وجود محكمة استئناف وتميز في تشكيلاته القضائية ، يمكن الاطمئنان الىٰ قضائه سبب الشروط التي يضعها للقضاء ، وللحد الذي يعترف بصراحة الدكتور غوستاف لوبون :

« علىٰ الرغم من بساطة عملية القضاء الاسلامي والايجاز الذي فيها ، إلّا ان جميع الاحكام الصادرة عادلة ومنصفة. على العكس من القضاء في دول اوروبا وامريكا رغم تشكيلاته العريضة والطويلة والمعقدة ».

سعادة الدكتور ! لقد اراد العالم الاوروبي والامريكي من خلال محاكم الاستئناف والتميز ، الدقّة والحيطة التي اتبعها الاسلام قبل تعيين القاضي من

١٨٤

حيث شروط القضاة والشهُود ، ولقد اثبتنا ان اجراءات الاسلام لها دور مهم وبارز في القضاء لا يمكن لمحاكم الاستئناف والتميز القيام به ، ويجب ان نعترف بأن محكمة الاستئناف والتميز ايضاً تتبع نفس الاجراءات الروتينية التي تتبعها المحاكم العادية ، وليس لها تأثير سوىٰ في المبالغ الطائلة التي تصرف سنوياً من اموال هذا الشعب المسكين !

جواب سؤال

الطالب الجامعي ، حسن : أيّها العمّ العزيز كيف لا يوجد في الاسلام محكمة استئناف وتميز ، مع ان الاسلام يرىٰ احتمال نقض حكم القاضي الأوّل من قبل قاض ثان ، او ان المحكوم يطلب اعادة محاكمته عند قاضٍ آخر ؟

الشيخ : الموارد التي يمكن فيها نقض حكم القاضي ، ان المحكوم يمكنه طلب اعادة المحاكمة عند قاص آخر ، لا تشبه ما عليه في محاكم الاستئناف والتميز في عالم اليوم. لانه هناك ثلاثة مراحل قضائية في مؤسسات القضاء المعاصرة ، هي : المرحلة الاولية والاستئنافية والتميزية ، فمرحلة الاستئناف فوق مستوى المرحلة الاولىٰ والتميز فوق مرحلة الاستئناف ، من شروط عقد محكمة الاستئناف هو ان لا يمضىٰ اكثر من عشرة ايام علىٰ تاريخ صدور الحكم من قبل المحكمة الاولىٰ ، كما ان محكمة التميز تنعقد بشروط خاصة ، كما لا يوجد في انعقاد محكمة التميز ، امتيازاً بين الدعاوىٰ الجزائية او الحقوقية.

١٨٥

وتنعقد محكمة الاستئناف في حال طب المحكوم ضده ، سواءً كان يحتمل الخطأ في الحكم الصادر بحقه او متيقن من خطأه ، فالقانون يقرّ انعقاد محكمة الاستئناف لمجرد طلب الشخص الذي صدر الحكم ضده ، وسواءً قطع قضاة محكمة الاستئناف بخطأ قضاة المحكمة الاوليّة اوقطعوا بعدهم خطأهم ، واحتملوا الخطأ أو الخيانة في حكمهم ، واذا ما انعقدت محكمة الاستئناف وبعد دراستهم لأضبارة طرفي النزاع ، استنبطوا حكماً مخالفاً لأستنباط المحكمة الاولىٰ ، عند ذاك يقومون بنقض حكم المحكمة الاولىٰ ويصدرون هم حكماً محله.

موارد نقض الحكم في قوانين الاسلام القضائية

في الاسلام لا يحق لقاضٍ نقص حكم قاض قبله الّا في ثلاث موارد ، هي :

1 ـ اذا لم يرَ القاضي الثاني صلاحية وجدارة في القاضي الأول لمقام القضاء.

2 ـ فيما لو كان حكم القاضي الأول مخالفاً للأدلة القاطعة والقواعد المسلّمة في القضاء الاسلامي ، مثل : مخالفة للاجماع المحقق والثابت والخبر المتواتر وامثالها.

أمّا إذا استنبط القاضي الاول حكماً علىٰ اساس القوانين القضائية الاسلامية ، لم يستنبطه القاضي الثاني منها ، بل فهم منها شيئاً آخراً ، ففي هذه الحالة لا يحق للقاضي الثاني نقض حكم القاضي الاول.

١٨٦

3 ـ عندما يثبت تقصير القاضي الاول في دراسته للقوانين والادلة القضائية ، ولم يدقق فيها بشكل جيد.

حول طلب اعادة المحاكمة في الاسلام

أمّا الموارد التي يمكن فيها للمحكوم ضده طلب اعادة المحاكمة ، هي الادعاء بقطع خطأ القاضي في حكمه ، او انه لم يكن يمتلك صلاحية علمية للقضاء ، او انه كان فاسقاً ، او ان الشهود لم يكونوا عدول وانهم فساق ومثل هذهِ الادعاءات.

كما انه لا تعاد المحاكمة لمجرد تلك الادعاءات ، بل على المحكوم في البداية اثبات دعواه ، فلو ادعىٰ المحكوم ان القاضي قد اخطأ ، عليه اولاً ان يثبت خطأ القاضي ومن ثم طلب اعادة المحاكمة.

أمّا اذا لم يثبت المحكوم خطأ القاضي او عدم صلاحيته او عنوان آخر مما ذكرناه ، فليس له طلب اعادة المحاكمة لمجرد احتماله الخطأ وحتىٰ لو طلب ذلك من قاض آخر ، فلا يحق لذلك القاضي ان يبحث ويدرس حكم القاضي الأول.

خصوصيات المسألتين في القضائين الاسلامي والوضعي

اصدقائي الاعزاء !

أتصوّر انه ومن خلال ما ذكرته اعلاه ، يتضح الفارق بين محكمة

١٨٧

الاستئناف والتميز عن الموارد التي يمكن فيها للقاضي المسلم نقض حكم قاض آخر او التي يحق للمحكوم فيها طلب اعادة محاكمته ، وثبت عدم تشابه ما يطرحه الاسلام عما موجود في الانظمة الوضعية ( محكمة الاستئناف والتميز ) ، وبشكل عام فأن الفوارق القضائية بين الاسلام والوضعية ، هي كالتالي :

1 ـ لا توجد في المؤسسة القضائية الاسلامية ثلاثة مراحل قضائية ، خلافاً للمؤسسة القضائية الوضعية المعاصرة التي لها ثلاث مراحل قضائية ، هي : المرحلة الاولية والاستئناف والتميز.

2 ـ من منظار القوانين القضائية الاسلامية ، اذا كان استنباط احد القضاة مخالفاً لأستنباط وحكم القاضي الاول ، فليس له اي حق في نقض ذلك الحكم الاولي ، في حين ان القوانين القضائية الوضعية المعاصرة ترىٰ ان استنباط قضاة محكمة الاستئناف إذا كان مخالفاً للحكم الاولي ، ينقضه ويصدر مباشرة حكم آخر في القضية.

3 ـ لا يقبل من المحكوم طلب اعادة المحاكمة ما دام لم يدعي خطأ القاضي الاول بشكل قطعي او عدم صلاحيته اوفسقه او الخ ، وحتىٰ لو طلب المتهم ذلك من قاض آخر ، فلا يحق لذلك القاضي اعادة المحاكمة او النظر في حكم القاضي الاول ، اما لو اتهم المحكوم القاضي الاول بما ذكرناه مسبقاً ، فلا تنعقد محكمة جديدة مباشرة أيضاً ، لانه عليه ان يثبت ما ادعاه اولاً ، في حين ان قوانين القضاء الوضعية تقرّ بتشكيل محكمة استئناف بمجرد طلب المحكوم لذلك ، كما ان لقضاة محكمة الاستئناف النظر في حكم المحكمة الاولىٰ ونقصه ،

١٨٨

وعلىٰ هذا لا يوجد في الاسلام محكمة استئناف وتميز بالمعنىٰ الوارد في القوانين الوضعية المعاصرة ، وان عدم وجود مرحلتي الاستئناف والتميز في القانون القضائي الاسلامي لهو خير دليل علىٰ استحكام مبنىٰ القضاء في الاسلام ، ونزلزله في القضاء الوضعي.

كانت تلك جوانب من خصوصيات قوانين القضاء الاسلامي مقارنة بالقضاء الوضعي المعاصر ، وهناك الكثير من نماذج تفوق القوانين الاسلامية علىٰ غيرها مما يعمل به في عصرنا الحاضر.

ملاحظة بعض قوانين الاسلام الجزائية

الدكتور : كما اشرتم ، ان قوانين الاسلام تتفوّق علىٰ قوانين العصر الوضعية في العديد من المجالات ، وهو امر لابد من الاعتراف به ، ولكن هناك بعض القوانين الجزائية في الاسلام ، ادت الىٰ الطعن في صميم الدين وتلك هي العقوبات الشديدة التي فرضت علىٰ بعض الذنوب في الاسلام ، مثل قطع يد السارق ، او السوط بالنسبة للزاني او شارب الخمر ، فالعالم الغربي يرىٰ ان هذهِ العقوبات اعمال وحشية ، يجب ان لا تنفذ علىٰ البشر.

الشيخ : ان معرفة حقيقة معينة تحتاج الىٰ معرفة سائر القضايا التي ترتبط بها بنحوٍ ما.

أمّا إذا أردنا دراسة موضوع ما دون الاخذ بالمواضيع الاخرىٰ المتصلة به ، فلن نصل الىٰ معرفة حقيقة وصحيحة فيما يتعلق به. ومن النماذج التامة لذلك هي القوانين الجزائية الاسلامية التي سألتم عنها. والاشكالات التي

١٨٩

يواجهها البعض مع القوانين والاحكام الجزائية في الاسلام ، مصدرها ذلك الخطأ ، وهو انهم ينظرون فقط الىٰ احكام الاسلام فيما يتعلق ببعض العقوبات ، دون الاخذ بنظر الاعتبار للقوانين التي يطرحها الاسلام في مجال تطهير المجتمع من الاثم والذنب ، والتي تعد القوانين الجزائية الشديدة ، آخر علاج لها.

أمّا الخطوات والأحكام التي يطرحها الاسلام في مجال تطهير المجتع وجعله فاضلاً ، فهي كالآتي :

أ ـ العوامل التربوية :

يستند الاسلام غالباً في صيانة المجتمع وابعاده عن العصيان والذنوب الىٰ العوامل التربوية التي يطرحها ، وهذهِ العوامل واسعة وشاملة بحيث لو أنّها طبقت بشكل جيد تضمن سلامة المجتمع ونظافته وتقيه من 90% من المعاصي.

والعوامل التربوية كثيرة في الاسلام ، لكن اهمها :

1 ـ الايمان بالله.

2 ـ الالتزام والمسؤولية.

3 ـ الالتفات الىٰ الآخرة والحساب والاجر والعقاب.

4 ـ دعوة الانسان الىٰ الفضيلة ومحاربة الخصال الذميمة.

5 ـ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

١٩٠

6 ـ الصلاة بمعاينها السامية ومفاهيمها التربوية الخاصة.

7 ـ الصوم.

وعشرات العوامل الاُخرىٰ التي لها أدوار أساسية في تربية الانسان بتمام معنى الكلمة.

ب ـ العلاج من الاساس :

المسألة الاخرىٰ التي التفت اليها الاسلام من اجل تطهير المجتمع من الذنوب والمعاصي ، هي معالجة الظواهر من الاساس ، ومهاجمة العوامل الاساسية التي تؤدي الىٰ الذنب والمعصية ، وهذهِ بحد ذاتها مرحلة مهمة يجب الالتفات اليها قبل دراسة القوانين الجزائية الاسلامية الشديدة.

فالاسلام عندما حرّم الزنا ـ علىٰ سبيل المثال ـ لم يتجاهل الغريزة الجنسية للانسان او يقمعها ، بل وضع لها طرق شرعية متعددة لو طبقت سدت حاجة الانسان الجنسية.

ولو كان الاسلام شديداً في تعامله مع السارق فلأنه طرح نظاماً اقتصادياً ليست فيه فوارق طبقية وتمايزات بين البشر ، وهو يدعو الىٰ توزيع الثروات الطبيعية والدخل علىٰ اساس العدل ، وعلىٰ ضوء النظام الاقتصادي الاسلامي ، لن يكون هناك محتاجاً في المجتمع حتىٰ يقال : لماذا يقطع الاسلام يد السارق الجائع ، الذي ما سرق إلّا ليشبع بطنه ؟! لانه سيقال في جواب ذلك اولاً ، لن يكون هناك جائع على ضوء النظام الاقتصادي الاسلامي ، بل هو سيملك حق

١٩١

الاستفادة من جميع المصادر الطبيعية في العالم بقدر حاجته وعلىٰ اساس اصالة العمل. وثانياً متىٰ قال الاسلام بقطع يد السارق في النظام الذي يبيت فيه الاشخاص جياعاً ؟!

أجل ، ان علاج الحالات المرضية من الأساس هو الأصل الثاني المهم الذي وضعه الاسلام لتطهير المجتمع من الجريمة والمعصية ، وذلك من خلال قلع جذور الاسباب الرئيسية للجريمة.

ج ـ الاحام الجزائية في الاسلام :

وفي نهاية المطاف ، وكآخر حلّ يضع الاسلام مجموعة من العقوبات لردع الانسان العاصي والوقوف دون وقوع الجريمة ، والآن إذا أراد شخص ان ينظر الىٰ احكام العقوبات فقط وتجاهل الموردين الاوليين المهمين في الاسلام ، فأن هذا الشخص مخطئ تماماً ، لانه وكما شرحنا من قبل وضع الاسلام من جهة عوامل تربوية واسعة وشاملة تقوم ببناء شخصية الانسان من خلالها ، ويسيطر بها على الصفات الرذيلة ، لكي يرتدع الانسان من خلال امتناعه عن الذنب والمعصية.

ومن جهة اخرىٰ ، قام بقطع دابر العوامل المؤدية للذنب من الجذور ، ووضع حلولاً علمية مناسبة لجميع المشاكل وفي كل المجالات ، وفيما لو طبقت تضمن جميع متطلبات الانسان وحاجياته الطبيعية والمشروعة.

وصدقوني ان نسبة عالية من الناس لو اجتازوا هاتين المرحلتين سيكونون بكل تأكيد اشخاصاً متقين واصحاب فضائل.

١٩٢

أمّا لو بقي رغم ذلك كله شخصاً مصرّاً في اختيار الطرق الشيطانية والخصال الرديئة ، فهنا وكآخر وسيلة للعلاج ، يتعامل الاسلام معه بشدّة ويقف من خلال قوانينه واحكامه سدّاً مقابل هذه الاعمال التي تريد هدم كيان المجتمع.

وهنا لكم ان تحكموا ، أليس من غير الانصاف ان يأتي شخص ويحكم في قوانين الاسلام الجزائية ويدينها دون الاخذ بنظر الاعتبار للمسائل الاُخرىٰ المرتبطة بها ، اي تلكما المرحلتان التي ذكرتهما من قبل ؟!

الثقافة

من الضروري الالتفات الىٰ ان الاسلام يرىٰ ان العوامل التربوية والمرحلة الثانية التي هي علاج الحالات المرضية من الاساس لها دور مؤثر وقوي جداً في تطهير المجتمع وردع الاشخاص عن الذنب والعصيان ، كما ان القوانين الجزائية لو طبقت بشكل جيد يمكن ان تقف امام المعاصي وتحول دون انتشار الفساد.

أمّا الايديولوجيات الوضعية ـ وللأسف الشديد ـ لا هي تستخدم العوامل التربوية المؤثرة ولا هي تقدم حلولاً اصولية من اجل تأمين حاجات الانسان ومتطلباته المختلفة ، ولا تقدم للأسف ايضاً قوانين جزائية صارمة يمكنها مكافحة الجريمة والفساد بشكل واسع ومؤثر.

١٩٣

الذين قطعت ايديهم !!!

هنا قد يقال : لو ان السارقين تقطع اياديهم ، لفقد الكثير من الناس في المجتمع اياديهم ؟! وفي جواب ذلك ، نقول :

بل العكس فلو طبقت تلك القوانين ( خاصة مع الاخذ بالمرحلتين الاوليتين المذكورتين ) لن يكون في المجتمع مقطوعي ايدي ولا سارقين ، ومثال ذلك في عصرنا دولة السعودية ، فعلىٰ الرغم من عدم وجود عوامل تربوية صحيحة في ذلك المجتمع ونظام اقتصادي اسلامي عادل ، وعلىٰ الرغم من الفوارق العميقة الموجودة وترف ولهو وثروات الامراء والحواشي والمقربين من اموال النفط وعائداتة الطائلة ، فليس هناك سرقة ( طبعاً السرقة العادية وليست السرقات الكبيرة التي يقوم بها المسؤولون والامراء من اموال الشعب ) ولا ايدٍ مقطوعة ، لانه علىٰ الاقل تطبق الحكومة السعودية قانون قطع يد السارق ، وهذا ما يمكن التأكد منه بواسطة آلاف الحجيج الذين يذهبون سنوياً الىٰ هناك للحج ، فكم من يدٍ وجدوها مقطوعة ؟! وكم رؤوا من السرقات ؟! وحتىٰ لو شاهدوا السرقات فيه أقل بكثير مما يحدث في أي دولة اُخرىٰ.

فهذا نموذج عملي واحد عن دور القوانين الجزائية الاسلامية فيما يتعلق بالسرقة في عالمنا المعاصر ، علىٰ الرغم من ان السعودية دولة لا تطبق النظام الاقتصادية الاسلامي وليس هناك توزيع عادل للثروة ، كما انها من البلدان المتخلفة ثقافياً وحضارياً.

١٩٤

قاطعية الاسلام في مكافحة الفساد

لا يُنكر ان الاسلام واجه المذنبين والعصاة المفسدين بعقوبات شديدة ، لكن يجب ان لا ننسىٰ ان ذلك كله من أجل مصلحة المجتمع وبسبب خطورة المعصية اجتماعياً ، ولا يهدف الاسلام في قوانينه الجزائية إلّا المكافحة الحقيقية للمعصية.

والاسلام ليس كالعالم المعاصر وقوانينه ، الذي يسوّي المسألة مع العاصي أو المذنب ، وبهذا الشكل يتلاعب بسعادة المجتمع ومصلحته.

فالاسلام يرجح أن يضرب شارب الخمر ثمانين سوطاً من أجل ان يقطع دابر شرب الخمر من المجتمع ويخلصه من امراضه.

والاسلام يرجح ان يضرب شارب الخمر ثمانين سوطاً ولكن في المقابل يكون له ولجميع يجله رادعاً عن فعل ذلك للأبد.

والغريب ان عالمنا المعاصر وعلىٰ الرغم من اعترافاته بأضرار شرب الخمر ، فهو يقول ان المشروبات الكحولية سموم مهلكة وخطرة وانها تؤثر سلباً علىٰ المخ والدم والقلب والاعصاب والجلد والجهاز الهضمي و الخ ، لكنه لا يتعامل بجدية مع القضية ويتساهل مع شارب الخمر بشكل يعتبر عمله ترغيباً واشاعة للمعصية !

ولو كان العالم المعاصر يريد قلع جذور السرقة والاعتداء علىٰ اموال وممتلكات الناس ، فلماذا يتساهل مع السارق ويبدي معه تسامحاً ؟! ولو كان

١٩٥

العالم المعاصر يعتبر الاعتداء علىٰ اعراض الناس خيانة وجريمة فلماذا كل هذا التساهل مع من يفعلها ؟!

هنا لا بدّ أن نعترف وللأسف الشديد ، ان القوانين الوضعية الحالية لن تستطيع ان تلعب دوراً مهماً في قلع الفساد والمعاصي من الجذور في المجتمع فقط ، بل اجازت تلك الاعمال وأدت إلىٰ انتشارها من خلال التسامح والتساهل الذي تبديه مع مرتكبيها ، والنهج الذي تتبعه تلك القوانين الجزائية الوضعية في مكافحة الفساد والاثم ، يشبه عمل الدكتور الذي يكتفي ببعض الجرعات المسكنة مقابل مرض خطر ومسري ، علىٰ الرغم من امتلاكه جميع الوسائل والامكانيات لمكافحة المرض. وفي مثل هذه الحالة الا يقال ان هدف الدكتور هو ليس علاج الحالة المرضية بل الهاء المريض المسكين وتخديره !

أمّا الاسلام

لكن الاسلام ( وخلافاً لعالمنا المعاصر ) يسعىٰ بجدية لمكافحة جذرية للفساد والمعصية في المجتمع ، وهدف الاسلام من ذلك هو قلع الفساد والمعصية من الجذور ، علىٰ قدر المستطاع ، ولهذا نراه شديداً في وضعه للقوانين الجزائية وقوانين العقوبات وفي تنفيذها.

ولان الاسلام يريد مكافحة السرقة بشكل حقيقي ويضمن امن المجتمع من هذه الناحية ، لذلك يأمر بقطع يد السارق(1) .

________________

(1) طبعاً من الأخذ بالشروط التي وضعها الاسلام.

١٩٦

والاسلام يريد مكافحة الاعتداء علىٰ اعراض ونواميس الآخرين بشكل حقيقي ، لذلك أمر بجلد الزاني مئة سوط أمام أعين الناس ، لكي لا يعود الىٰ ذلك ويكون عبرة للآخرين وسدّاً امام اتساع دائرة المعصية في المجتمع.

والاسلام يرىٰ ان المشروبات الكحولية سموم مهلكة وانها تهدد أساس المجتمع وسلامته ، لذلك يأمر بضرب ذلك الشخص الذي يخاطر بسعادة نفسه وسلامتها وسعادة وسلامة جيلة ، ويشرب من هذا الشراب المهلك ، ثمانين سوطاً ، لكي يقف امام تكرار مثل هذا العمل في المجتمع.

ألا يمكن تطبيق هذه القوانين في عصرنا.

هنا يمكن القول ، علىٰ الرغم من تأثير القوانين الجزائية والعقوبات الشديدة التي وضعها الاسلام لمكافحة المعاصي والفساد من الجذور الا ان هذه القوانين غير قابلة للتطبيق في عصرنا الحاضر ، لانه يعتبرها اساليب وحشية !

فنقول : ليس لنا إلّا أن نتعجب لهذا القول ونأسف له.

أليس عجيباً ان الدنيا تصمت وتصم آذانها وهي تشاهد مئات عمليات القتل والاعتداء وقطع الاعضاء وعشرات الجرائم الاُخرىٰ ، والتي تقع بسبب السرقة او التطاول علىٰ أموال الآخرين ، ولكنها تعتبر قطع أربعة أصابع من يد خائن او معتدي وذلك أيضاً من أجل محو ظاهرة السرقة ، والوقوف أمام مئات الجرائم التي تأتي من هذه الاعتداءات والتجاوزات غير قابلة للتطبيق والاجراء ؟!

وكيف يستصعب عالم اليوم ثمانين سوطاً علىٰ جسد شارب الخمر

١٩٧

في حين انه لا يستصعب القتل والجرائم وسلب راحة المجتمع الذي ينتج عن تأثير الخمر في سلوكيات الاشخاص والمجتمع ، ويرىٰ ذلك صعب النتفيذ !

دنيا التناقضات

اليست دنيا الي نعيش فيها ، دنيا تناقضات وعصرنا عصر غريب ! فدنيانا من جهة رؤوفة وعطوفة للحد الذي لا ترضىٰ بقطع اربعة اصابع لمجرم ( من اجل الامن العام ومحو السرقة من المجتمع ) ، ومن جهة اخرىٰ ، هذه الدنيا الرؤوفة ، تستثمر وعلىٰ مدىٰ سنوات عديدة ملايين البشر الضعفاء وعشرات الشعوب الصغيرة والمحرومة ، وتعطي للاقوياء الحق في نهب ثروات المستضعفين. في حين ان اولئك المساكين يعيشون حفاة وجياعاً ويعانون من اسوء الظروف !

وكيف تبرر هذه الدنيا العطوفة التي لا ترضىٰ ان يضرب شارب الخمر أو الزاني ثمانين أو مائة سوط ، قتل مليون جزائري مسلم ليس لهم ذنب سوىٰ انهم يريدون الاستقلال والخلاص من الهيمنة الاستعمارية ؟!

وكيف قبلت هذه الدنيا بالقنبلتين الذريتين اللآتي دمرتا هيروشيما وناكازاكي في اليابان فقتل اكثر من سبعين الف شخص وتحولت الابنية والمصانع والمرافق العامة الىٰ انقاض خلال لحظات ؟ اليس من حق الانسان صاحب الضمير الحي ان يعجب امام تصرفات هذه الدنيا المتناقضة ؟!!

١٩٨

سرد موجز للجريمة في الدول المتقدمة

عالمنا الذي يرىٰ خطأ ان قوانين الاسلام الجزائية وحشية ، اراد ان يقف امام اعتدالات الانسان عن طريق وضع قوانين اقل صرامة وبعبارة اخرىٰ لينة ، وبذلك يقتلع جذور السرقة او اية جريمة اخرىٰ ، لكنه وللأسف لم يوفق في ذلك فقط ، بل اضطر الىٰ تشديد عقوباته وقوانينه الجزائية ويزيد من عدد سجونه يوماً بعد يوم.

وعلىٰ الرغم من ذلك كله ، ولسوء الحظ ، يزداد عدد السارقين والمجرمين في كل يوم للحد الذي اصبحت احصائيات الجريمة تقلق وتخيف مسؤولي اكبر الدول المتحضرة.

وهذه بعض تلك الاحصائيات المنشورة ، والتي سببها ترك قوانين الاسلام الجزائية وعدم العمل بها :

أ ـ تقرير وزير العدل :

في تقرير قدمه وزير العدل الايراني بتاريخ 2 / 1 / 1960 الىٰ البرلمان ( المجلس الوطني ) يقول :

« نحن نواجه هذه الحقيقة المرّة ، وهي التزايد المستمر لدعاوى الناس الحقوقية والجزائية ، ولابد من التفكير بحلّ لذلك ، وعلىٰ سبيل المثال : طبقاً للاحصائيات الموجودة عندي ، فان مجموع الاضبارات التي دخلت الىٰ جهاز

١٩٩

القضاء في الأشهر الستّة الاُولىٰ من سنة 1959 ، هو 362665 في حين ان المجموع للاشهر الستة الاولىٰ من هذا العام بلغ 444391 ، اي ان ما يقرب ثمانين الف اضبارة زادت عما كان عليه في العام الماضي ، وبالتأكيد فان العملية تصاعدية في السنوات السابقة أيضاً.

ونقلت الصحف آنذاك نصّ التقرير ، وهو نماذج صغير للجرائم الموجودة لبلد في طريقه الىٰ الرقيّ ، يرىٰ ان القوانين الجزائية الاسلامية وحشية ، ويريد ان يقف امام الجريمة بالقوانين التي تضعها عقول رجاله ورجال اوروبا المخمورين !!

ولا بدّ من كلمة لوزير العدل الذي يعجب للنتائج التي تعطيها قوانينهم الوضعية : ما ستراه في المستقبل اعظم بكثير ، فأنّك لا زلت في أول الطريق.

ب ـ سجن واشنطن :

طبقاً لاحد التقارير الذي نشرته صحيفة معروفة ، كانت في واشنطن سابقاً 3600 سجينة فقط ، اما هذه السنين فقد وصل عدد السجينات الىٰ ثمانية آلاف.

وفي مدينة فلادلفيا(1) يطلق سراح النساء اللواتي يصدر الحكم بسجنهن ، لان سجون النساء مكتضة ، وليس هناك مكان للسجينات الجُدد.

________________

(1) هذه الاحصائيات تعود لثمان سنوات قبل ، أمّا الآن فالله العالم.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606