الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245165 / تحميل: 6211
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

بِما عَهِدَ عِنْدَكَ ) .

إنّهم عند نزول البلاء يلجأون إلى موسى ويطلبون منه أن يدعو لرفع العذاب عنهم ، وأن يفي الله بما وعده له من استجابة دعائه :( بِما عَهِدَ عِنْدَكَ ) .

ثمّ يقولون : إذا دعوت فرفع عنّا البلاء فإنّنا نحلف لك بأن نؤمن بك ، ونرفع طوق العبودية عن بني إسرائيل :( لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ ) .

ولفظة «الرجز» استعملت في معاني كثيرة : البلايا الصعبة ، الطاعون ، الوثن والوثنية ، وسوسة الشيطان ، والثلج أو البرد الصلب.

ولكن جميع ذلك مصاديق مختلفة لمفهوم يشكّل الجذر الأصلي لتلك المعاني ، لأن أصل هذه اللفظة كما قال «الراغب» في «المفردات» هو الاضطراب.

وحسب ما قال «الطبرسي» في «مجمع البيان» مفهومه الأصلي هو الانحراف عن الحق.

وعلى هذا الأساس إطلاق لفظ «الرجز» على العقوبة والبلاء ، لأنّها تصيب الإنسان لانحرافه عن الحق ، وارتكاب الذنب ، وكذا يكون الرجز نوعا من الانحراف عن الحق ، والاضطراب في العقيدة ، ولهذا أيضا يطلق العرب هذا اللفظ على داء يصيب الإبل ، ويسبب اضطراب أرجلها حتى أنّها تلجأ للمشي بخطوات قصيرة ، أو تمشي تارة وتتوقف تارة أخرى ، فيقال لهذا الداء «الرجز» على وزن «المرض».

والسبب في إطلاق الرجز على الأشعار الحربيّة ، لأنّها ذات مقاطع قصيرة ومتقاربة.

وعلى كل حال ، فإنّ المقصود من «الرجز» في الآيات الحاضرة هو العقوبات المنبهة الخمسة التي أشير إليها في الآيات السابقة ، وإن احتمل بعض المفسّرين أن يكون إشارة إلى البلايا الأخرى التي أنزلها الله عليهم ولم يرد ذكرها

١٨١

في الآيات السابقة ، ومنها الطاعون أو الثلج والبرد القاتل ، الذي وردت الإشارة إليها في التوراة.

هذا ، وقد وقع كلام بين المفسّرين في المراد من عبارة( بِما عَهِدَ عِنْدَكَ ) وأنّه ما هو المقصود من ذلك العهد الإلهي الذي أعطاه سبحانه لموسى؟

إنّ ما هو الأقرب إلى النظر هو أن المقصود من ذلك الوعد الإلهي هو أن يستجيب دعاءه إذا دعاه ، ولكن يحتمل أيضا أن يكون المقصود هو عهد «النبوة» وتكون «الباء» باء القسم ، يعني نقسم عليك بحق مقام نبوتك إلّا ما دعوت الله ليرفع عنّا هذا البلاء.

وفي الآية اللاحقة يشير إلى نقضهم للعهد ويقول :( فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ ) (١) .

إنّ جملة( إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ ) إشارة إلى أنّ موسى حدّد لهم وقتا وعيّن أمدا ، فكان يقول لهم : في الوقت الفلاني سيرفع هذا البلاء عنكم ، حتى يتّضح لهم أنّ ارتفاع ذلك البلاء عنهم ليس أمرا اتفاقيا وصدقة ، بل هو بفضل دعائه وطلبه من الله تعالى.

إنّ جملة( إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ ) وبالنظر إلى أن «ينكثون» فعل مضارع يدلّ على الاستمرارية يفيد أنّه قد تكرر تعهدّهم لموسىعليه‌السلام ثمّ نقضهم للعهد ، حتى أصبح نقض العهد جزءا من برنامجهم وسلوكهم الدائم.

وآخر هذه الآيات تبيّن ـ من خلال جملتين قصيرتين ـ عاقبة كلّ هذا التعنت ، ونقض العهد ، فتقول بصورة مجملة( فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ ) .

ثمّ تشرح هذا الانتقام وتذكر تفصيله( فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ ) (٢) .

__________________

(١) النكث على وزن مكث ، يعني فل الحبل المفتول ، ثمّ أطلق على نقض الميثاق والعهد.

(٢) يستفاد من مصادر اللغة ، وكتب الأحاديث أن المراد من اليم هو «البحر» ، وهو يطلق على نهر النيل أيضا ، أمّا أن لفظة اليم

١٨٢

إنّهم لم يكونوا غافلين واقعا ، لأنّ موسىعليه‌السلام ذكّرهم مرارا وبالوسائل المختلفة المتعددة ونبههم ، بل أنّهم تصرّفوا عمليا كما يفعل الغافلون ، فلم يعتنوا بآيات الله أبدا.

ولا شك أن المقصود من الانتقام الإلهي ليس هو أنّ الله كان يقوم بردّ الفعل في مقابل أعمالهم ، كما يفعل الأشخاص الحاقدون الذين ينطلقون في ردود أفعالهم من مواقع الحقد والانتقام ، بل المقصود من الانتقام الإلهي هو أن الجماعة الفاسدة وغير القابلة للإصلاح لا يحق لها الحياة في نظام الخلق ، ولا بدّ أن تمحى من صفحة الوجود.

والانتقام في اللغة العربية ـ كما أسلفنا ـ يعني العقوبة والمجازاة ، لا ما هو شائع في عرف الناس اليوم.

* * *

__________________

هل هي عربية أو سريانية أو هيرغلوفية ، فقد وقع في ذلك كلام بين العلماء ، يقول صاحب تفسير المنار وهو أحد علماء مصر المعروفين والذي جمع وجوه اشتراك اللغات الهيروغلوفية والعربية وألف كتاب المعجم الكبير في هذا المجال نقل : أنه وجد بعد التحقيق أن لفظة اليم كانت في اللغة المصرية تعني البحر ، وعلى هذا الأساس حيث أن هذه القصة تتعلق بمصر لهذا استفاد القرآن من لغات المصريين في بيان هذه الحادثة.

١٨٣

الآية

( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧) )

التّفسير

قوم فرعون والمصير المؤلم :

بعد هلاك قوم فرعون ، وتحطّم قدرتهم ، وزوال شوكتهم ، ورث بنو إسرائيل الذين طال رزوحهم في أغلال الأسر والعبودية أراضي الفراعنة الشاسعة والآية الحاضرة تشير إلى هذا الأمر( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها ) .

و «الإرث» كما أسلفنا يعني في اللغة المال الذي ينتقل من شخص إلى آخر من دون تجارة ومعاملة ، سواء كان المنتقل منه حيا أو ميّتا.

و «يستضعفون» مشتقّة من مادة «الاستضعاف» وتطابق كلمة «الاستعمار» التي تستعمل اليوم في عصرنا الحاضر ، ومفهومها هو أن يقوم جماعة بإضعاف

١٨٤

جماعة أخرى حتى يمكن للجماعة الأولى أن تستغل الجماعة الضعيفة في سبيل مآربها ومصالحها ، غاية ما هنالك أن هناك تفاوتا بين هذه اللفظة ولفظة الاستعمار ، وهو : أن الاستعمار ظاهره تعمير الأرض ، وباطنه الإبادة والتدمير ، ولكن الاستضعاف ظاهره وباطنه واحد.

والتعبير ب( كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ ) إشارة إلى الفرعونيين كانوا يستبقون بني إسرائيل في حالة ضعف دائمية : ضعف فكري ، وضعف أخلاقي ، وضعف اقتصادي ، ومن جميع الجهات وفي جميع النواحي.

والتعبير ب( مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا ) إشارة إلى الأراضي الواسعة العريضة التي كانت تحت تصرّف الفرعونيين ، لأنّ الأراضي الصغيرة ليس لها مشارق ومغارب مختلفة ، وبعبارة أخرى «ليس لها آفاق متعددة» ولكن الأراضي الواسعة جدا من الطبيعي أن يكون مشارق ومغارب بسبب كروية الأرض فيكون التعبير بمشارق الأرض ومغاربها كناية عن أراضي الفرعونيين الواسعة العريضة جدّا.

وجملة( بارَكْنا فِيها ) إشارة إلى الخصب العظيم الذي كانت تتمتع به هذه المنطقة ـ يعني مصر والشام ـ التي كانت تعدّ آنذاك ، وفي هذا الزمان أيضا ، من مناطق العالم الخصبة الكثيرة الخيرات. حتى أن بعض المفسّرين كتب : إن بلاد الفراعنة في ذلك العصر كانت واسعة جدّا بحيث كانت تشمل بلاد الشام أيضا.

وعلى هذا الأساس لم يكن المقصود من العبارة هو الحكومة على كل الكرة الأرضية ، لأنّ هذا يخالف التاريخ حتما. بل المقصود هو حكومة بني إسرائيل على كل أراضي الفراعنة وبلادهم.

ثمّ يقول :( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا ) أي تحقق الوعد الإلهي لبني إسرائيل بانتصارهم على الفرعونيين ، بسبب صبرهم وثباتهم.

وهذا هو الوعد الذي أشير إليه في الآيات السابقة (الآية ١٢٨ و ١٢٩ من نفس هذه السورة).

١٨٥

صحيح أنّ هذه الآية تحدّثت عن بني إسرائيل ونتيجة ثباتهم في وجه الفرعونيين فقط ، إلّا أنّه يستفاد من الآيات القرآنية الأخرى أن هذا الموضوع لا يختص بقوم أو شعب خاص ، بل إن كان شعب مستضعف نهض وحاول تخليص نفسه من مخالب الأسر والاستعمار ، استعان في هذا السبيل بالثبات والاستقامة ، سوف ينتصر آخر المطاف ويحرر الأراضي التي احتلها الظلمة الجائرون.

ثمّ يضيف في آخر الآية : نحن الذين دمرنا قصور فرعون وقومه العظيمة ، وأبنيتهم الجميلة الشامخة ، وكذا بساتينهم ومزارعهم العظيمة( وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ ) .

و «صنع» كما يقول «الراغب» في «المفردات» يعني الأعمال الجميلة ، وقد وردت هذه اللفظة في الآية الحاضرة بمعنى الهندسة الجملية الرائعة التي كان يستخدمها الفرعونيين في أبنيتهم.

و «ما يعرشون» في الأصل تعني الأشجار والبساتين التي تنصب بواسطة العروش والسقف ، ولها جمال عظيم وروعة باهرة.

و «دمرنا» من مادة «التدمير» بمعنى الإهلاك والإبادة.

وهنا يطرح السؤال التالي وهو : كيف أبيدت هذه القصور والبساتين ، ولماذا؟ونقول في الجواب : لا يبعد أن ذلك حدث بسبب زلازل وطوفانات جديدة وأمّا الضرورة التي قضت بهذا الفعل فهي أن جميع الفرعونيين لم يغرقوا في النيل ، بل غرق فرعون وجماعة من خواصّه وعسكره الذين كانوا يلاحقون موسىعليه‌السلام ، ومن المسلّم أنّه لو بقيت تلك الثروات العظيمة ، والإمكانيات الاقتصادية الهائلة بيد من بقي من الفراعنة الذين كان عدد نفوسهم في شتى نواحي مصر كثيرا جدا لاستعادوا بها شوكتهم ، ولقدروا على تحطيم بني إسرائيل ، أو الحاق الأذى بهم على الأقل. أمّا الإمكانيات والوسائل فإن من شأنه أن يجردهم من أسباب الطغيان إلى الأبد.

* * *

١٨٦

الآيات

( وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١) )

التّفسير

الاقتراح على موسى بصنع الوثن :

في هذه الآيات إشارة إلى جانب حساس آخر من قصّة بني إسرائيل التي بدأت في أعقاب الإنتصار على الفرعونيين ، وذلك هو مسألة توجه بني إسرائيل إلى الوثنية التي بحثت بداياتها في هذه الآيات ، وجاءت نتيجتها النهائية بصورة مفصّلة في سورة طه من الآية (٨٦) إلى (٩٧) ، وبصورة مختصرة في الآية (١٤٨) فما بعد من هذه السورة.

١٨٧

وفي الحقيقة فإنّه مع انتهاء قصة فرعون بدأت مشكلة موسى الداخلية الكبرى ، يعني مشكلته مع جهلة بني إسرائيل ، والأشخاص المتعنتين والمعاندين. وكانت هذه المشكلة أشدّ على موسىعليه‌السلام وأثقل بمراتب كثيرة ـ كما سيتّضح من قضية مواجهته لفرعون والملأ وهذه هي خاصية المشاكل والمجابهات الداخلية.

في الآية الأولى :( وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ ) أي النيل العظيم.

ولكن في مسيرهم مرّوا على قوم يخضعون للأصنام( فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ ) .

و «عاكف» مشتقّة من مادة «العكوف» بمعنى التوجه إلى شيء وملازمته المقارنة لاحترامه وتبجيله.

فتأثّر الجهلة الغافلون بهذا المشهد بشدّة إلى درجة قالوا لموسى من دون إبطاء : يا موسى اتّخذ لنا معبودا على غرار معبودات هؤلاء( قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ ) .

فانزعج موسىعليه‌السلام من هذا الافتراح الأحمق بشدّة ، وقال لهم :( قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) .

* * *

بحوث

وهنا لا بدّ من الانتباه إلى نقاط :

١ ـ الجهل منشأ الوثنية

يستفاد من هذه الآية بوضوح أنّ منشأ الوثنية هو جهل البشر بالله تعالى من جانب ، وعدم معرفته بذاته المقدسة وأنّه لا يتصور له شبيه أو نظير أو مثيل.

ومن جانب آخر جهل الإنسان بالعلل الأصلية لحوادث العالم الذي يتسبب

١٨٨

أحيانا في أن ينسب الحوادث إلى سلسلة من العلل الخرافية والخيالية ومنها الأصنام.

ومن جانب ثالث جهل الإنسان بما وراء الطبيعة ، وقصور فكره إلى درجة أنّه لا يرى ولا يؤمن إلّا بالقضايا الحسية.

إن هذه الجهالات تضافرت وتعاضدت ، وصارت على مدار التأريخ منشأ للوثنية وعبادة الأصنام ، وإلّا فكيف يمكن أن يأخذ إنسان واع فاهم عارف بالله وصفاته ، عارف بعلل الحوادث ، عارف بعالم الطبيعة وعالم بما بعد الطّبيعة. قطعة من الصخر منفصلة من الجبل مثلا ، فيستعمل قسما منها في بناء بيته ، أو صنع سلالم منزله ، ويتخذ قسما آخر معبودا يسجد أمامه ، ويسلّم مقدراته بيده.

والجدير بالذكر أنّنا نقرأ في كلام موسىعليه‌السلام في الآية الحاضرة كيف يقول لهم : أنتم غارقون في الجهل دائما ، (لأنّ تجهلون فعل مضارع ويدل غالبا على الاستمرارية) وبخاصّة أن متعلق الجهل لم يبيّن في الآية ، وهذا يدل على عمومية المجهول وشموليته.

والاغرب من كل ذلك أنّ بني إسرائيل بقولهم( اجْعَلْ لَنا إِلهاً ) أظهروا أن من الممكن أن يصير الشيء التافه ثمينا ـ بمجرّد اختيارهم وجعلهم ووضع اسم الصنم والمعبود عليه ـ وتوجب عبادته التقرب إلى الله ، وعدم عبادته البعد عنه تعالى ، وتكون عبادته منشأ للخير والبركة ، واحتقاره منشأ للضرر والخسارة ، وهذه هي نهاية الجهل والغفلة.

صحيح أنّ مقصود بني إسرائيل لم يكن إيجاد معبود يكون خالق العالم ، بل كان مقصودهم هو : اجعل لنا معبودا نتقرب بعبادته إلى الله ، ويكون مصدرا للخير والبركة ، ولكن هل يمكن أن يصير شيء فاقدا للروح والتأثير مصدرا للخيرات والتأثيرات بمجرّد تسمّيته معبودا وإلها؟ هل الدافع لذلك العمل شيء سوى

١٨٩

الجهل والخرافة ، والخيال الواهي والتصور الخاوي؟!(١)

٢ ـ أرضية الوثنية عند بني إسرائيل

لا شك أنّه كانت لدى بني إسرائيل ـ قبل مشاهدة هذا الفريق من الوثنيين ـ أرضية فكرية مساعدة لهذا الموضوع ، بسبب معاشرتهم الدائمة للمصريين الوثنيين ، ولكن مشاهدة هذا المشهد الجديد كان بمثابة شرارة كشفت عن دفائن جبلّتهم ، وعلى كل حال فإنّ هذه القضية تكشف لنا أنّ الإنسان إلى أيّ مدى يتأثر بعامل البيئة ، فإنّ البيئة هي التي تستطيع أن تسوق الإنسان إلى الله ، كما أنّ البيئة هي التي تسوقه إلى الوثنية ، وأنّ البيئة يمكن أن تصير سببا لأنواع المفاسد والشقاء ، أو منشأ للصلاح والطهر. (وإن كان انتخاب الإنسان نفسه هو العامل النهائي) ولهذا اهتم الإسلام بإصلاح البيئة اهتماما بالغا.

٣ ـ الكفرة بالنعم في بني إسرائيل

الموضوع الآخر الذي يستفاد من الآية بوضوح ، أنّه كان بين بني إسرائيل أشخاص كثيرون ممن يكفرون النعمة ولا يشكرونها ، فمع أنّهم رأوا كل تلك المعاجز التي أتي بها موسىعليه‌السلام ، ومع أنّهم تمتعوا بكل تلك المواهب الإلهية التي خصّهم الله بها ، فإنّه لم ينقص عن هلاك عدوهم فرعون ونجاتهم من الغرق برهة من الزمن حتى نسوا كل هذه الأمور دفعة واحدة ، وطلبوا من موسى أن يصنع لهم أصناما ليعبدوها!!

ونقرأ في نهج البلاغة أنّ أحد اليهود اعترض على المسلمين عند أمير المؤمنينعليه‌السلام قائلا : ما دفنتم نبيّكم حتى اختلفتم فيه. فردّ عليه الإمام صلوات الله

__________________

(١) مرّت أبحاث أخرى حول تاريخ الوثنية في تفسير الآية (٢٥٨) سورة البقرة.

١٩٠

عليه قائلا : «إنّما اختلفنا عنه لا فيه ، ولكنّكم ما جفّت أرجلكم من البحر حتى قلتم لنبيّكم اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ، فقال إنّكم قوم تجهلون».

أي أنّنا اختلفنا في الأحاديث والأوامر التي وصلت إلينا عن نبيّنا ، لا أنّنا اختلفنا حول النّبي ونبوته ، (فكيف بألوهية الله) ولكنّكم ما إن خرجتم من مياه البحر إلّا واقترحتم على نبيّكم أن اجعل لنا آلهة كما للوثنيين آلهة ، وقال موسى : إنّكم قوم تجهلون.

وفي الآية اللاحقة نقرأ أنّ موسىعليه‌السلام ـ لتكميل حديثه لبني إسرائيل ـ قال : إنّ هذه الجماعة الوثنية التي ترونها سينتهي أمرها إلى الهلاك ، وإن عملهم هذا باطل لا أساس له( إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

فعمل هذه الجماعة باطل ، وجهودهم غير منتجة ، كما أن مصير مثل هؤلاء القوم وكل قوم وثنيين ومشركين هو الهلاك والدمار. (لأنّ «متبّر» مشتقّة من التبار أي الهلاك).

ثمّ تضيف الآية التوكيد : إنّ موسىعليه‌السلام ( قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ ) .

يعني إذا كان الدافع إلى عبادة الله هو حسّ الشكر ، فجميع النعم التي ترفلون فيها هي من الله ، وإذا كان الدافع للعبادة والعبودية كون هذه العبادة منشأ لأثر ما ، فإنّ ذلك أيضا يرتبط بالله سبحانه ، وعلى هذا الأساس مهما يكن الدافع ، فليس سوى الله القادر المنّان يصلح للعبادة ومستحقا لها.

وفي الآية اللاحقة يذكر القرآن الكريم إحدى النعم الإلهية الكبرى التي وهبها الله سبحانه لبني إسرائيل ، ليبعث بالالتفات إلى هذه النعمة الكبرى حسّ الشكر فيهم ، وليعلموا أن اللائق بالخضوع والعبادة هو الذات الإلهية المقدسة فحسب ، وليس هناك أي دليل يسوّغ لهم الخضوع أمام أصنام لا تضر ولا تنفع شيئا أبدا.

١٩١

يقول في البداية : تذكّروا يوم أنجيناكم من مخالب آل فرعون الذين كانوا يعذبونكم دائما( وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ ) .

و «يسومون» مشتقّة من مادة «سوم» وتعني في الأصل ـ كما قال «الراغب» في «المفردات» ـ الذهاب في طلب شيء ، كما يستفاد من القاموس تضمنه لمعنى الاستمرار والمضّي أيضا ، وعلى هذا يكون معنى( يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ ) أنّهم كانوا يعذبونكم بتعذيبات قاسية باستمرار.

ثمّ تمشيا مع أسلوب القرآن في بيان الأمور بتفصيل بعد إحمال شرح هذا العذاب المستمر ، وهو : قتل الأبناء ، واستبقاء النساء للخدمة والاسترقاق( يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ ، وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ ) .

وقد كان في هذا اختبار عظيم من الله لكم( وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ) .

وسياق الآية يكشف عن أن هذه العبارة قالها موسىعليه‌السلام عن الله لنبي إسرائيل عند ما رغبوا بعد عبورهم بحر النيل في الوثنية وعبادة الأصنام.

صحيح أنّ بعض المفسّرين احتمل أن يكون المخاطبون في هذه الآية هم يهود عصر الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ التّفسير الأوّل يحتاج إلى تقدير شيء بأن يقال : إن الآية كانت في الأصل هكذا : قال موسى : قال ربّكم وهذا خلاف الظاهر.

ولكن مع الالتفات إلى أنّه لو كان المخاطبون في هذه الآية هم يهود عصر النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لانقطع ارتباط الآية بما يسبقها وما يلحقها بصورة كاملة ، وكانت هذه الآية كالجملة المعترضة ، يبدو للنظر أن التّفسير الأوّل أصح.

هذا ولا بدّ ـ ضمنا ـ من الالتفات إلى أن نظير هذه الآية مرّ في سورة البقرة الآية (٤٩) مع فارق جدا بسيط ، ولمزيد التوضيح راجع تفسير الآية (٤٩) من سورة البقرة.

* * *

١٩٢

الآية

( وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢) )

التّفسير

الميعاد الكبير :

في هذا الآية إشارة إلى مشهد من مشاهد حياة بني إسرائيل ، ومشكلة موسىعليه‌السلام معهم ، وذلك هو قصّة ذهاب موسى إلى ميقات ربّه ، وتلقي أحكام التّوراة عن طريق الوحي وكلامه مع الله ، واصطحاب جماعة من كبار بني إسرائيل وشخصياتهم إلى الميقات لمشاهدة هذه الحادثة وإثبات أنّ الله لا يمكن أن يدرك بالأبصار ، والتي ذكرت بعد قصّة عبادة بني إسرائيل للعجل وانحرافهم عن مسير التوحيد ، وضجّة السامريّ العجيبة.

يقول تعالى أوّلا :( وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ) .

وكلمة «الميقات» مشتقّة من مادة «الوقت» بمعنى الموعد المضروب للقيام

١٩٣

بعمل ما ، ويطلق عادة على الزمان ، ولكنّه قد يطلق على المكان الذي يجب أن يتمّ العمل فيه ، مثل «ميقات الحج» يعني المكان الذي لا يجوز أن يجتازه أحد إلّا محرما.

ثمّ ذكرت الآية أنّ موسى استخلف هارون وأمره بالإصلاح في قومه ، وأن لا يتبع سبيل المفسدين :( وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) .

* * *

بحوث

وهنا عدّة نقاط ينبغي التوقف عندها والالتفات إليها :

١ ـ لماذا التفكيك بين الثلاثين والعشر؟

إنّ أوّل سؤال يطرح نفسه في مجال الآية الحاضرة ، هو : لماذا لم يبيّن مقدار الميقات بلفظ واحد هو الأربعين ، بل ذكر أنّه واعده ثلاثين ليلة ثمّ أتمّه بعشر ، في حين أنّه تعالى ذكر ذلك الموعد في لفظ واحد هو أربعين في الآية (١٥١) من سورة البقرة.

ذكر المفسّرون تفسيرات عديدة لهذا التفكيك ، والذي يبدو أقرب إلى النظر وأكثر انسجاما مع أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام هو أنّه وإن كان الواقع هو أربعين يوما ، إلّا أنّه في الحقيقة وعد الله موسى في البداية ثلاثين يوما ثمّ مدّده عشرة أيّام أخرى ، اختبارا لبني إسرائيل كي يعرف المنافقون في صفوف بني إسرائيل.

فقد روي عن الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام أنّه قال : إنّ موسىعليه‌السلام لما خرج وافدا إلى ربّه واعدهم ثلاثين يوما ، فلمّا زاده الله على الثلاثين عشرا قال قومه ، قد أخلفنا

١٩٤

موسى فصنعوا ما صنعوا (من عبادة العجل)(١) .

وأمّا أن هذه الأيّام الأربعين صادفت أيّام أي شهر من الشهور الإسلامية ، فيستفاد من بعض الرّوايات أنّها بدأت من أوّل شهر ذي القعدة وختمت باليوم العاشر من شهر ذي الحجة (عيد الأضحى). وقد جاء التعبير بلفظ أربعين ليلة في القرآن الكريم لا أربعين يوما ، فالظاهر أنّه لأجل أن مناجاة موسى لربّه كانت تتمّ غالبا في الليالي.

٢ ـ كيف نصب موسىعليه‌السلام هارون قائدا وإماما؟

السؤال الثّاني الذي يطرح نفسه هنا ، هو : إنّ هارون كان نبيّا ، فكيف نصبه موسىعليه‌السلام خليفة له وإماما وقائد لبني إسرائيل؟

والجواب على هذا السؤال يتّضح بعد الالتفات إلى أنّ مقام النّبوة شيء ومقام الإمام شيء آخر ، ولقد كان هارون نبيّا ، ولكن لم يكن قد أنيط به مقام الإمامة العامّة لبني إسرائيل ، بل كان مقام الإمامة ومنصب القيادة العامّة خاصا بموسىعليه‌السلام ، ولكنّه عند ما قصد أن يفارق قومه إلى ميقات ربّه اختار هارون إماما وقائدا.

٣ ـ لماذا طلب موسىعليه‌السلام من أخيه الإصلاح وعدم اتّباع المفسدين؟

السؤال الثّالث الذي يطرح نفسه هنا ، هو : لماذا قال موسىعليه‌السلام لأخيه : أصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ، مع أن هارون نبي معصوم من المستحيل أن يتبع طريق المفسدين وينهج نهجهم الفاسد؟

نقول في الجواب : إنّ هذا ـ في الحقيقة ـ نوع من التوكيد لإلفات نظر أخيه

__________________

(١) تفسير البرهان ، المجلد الثّاني ، الصفحة ٣٣ ـ نور الثقلين ، المجلد الثّاني ، الصفحة ٦١.

١٩٥

إلى أهمية مكانته في بني إسرائيل. ولعله أراد بهذا الموضوع أن يوضح لبني إسرائيل ويفهمهم أن عليهم أن يمتثلوا لتعاليم هارون ونصائحه ومواعظه الحكيمة ، ولا يستثقلوا أوامره ونواهيه ، ولا يعتبروا تلك الأوامر والنواهي وكذلك قيادة هارون لهم دليلا على قصرهم وصغرهم بل يفعلون كما يفعل هارون حيث كان رغم منزلته البارزة ومقام نبوته تابعا ومطيعا لنصائح موسىعليه‌السلام .

٤ ـ ميقات واحد أو مواقيت متعددة؟

السؤال الرّابع الذي يطرح نفسه هنا ، هو : هل ذهب موسى إلى ميقات ربّه مرّة واحدة ، وهي هذه الأربعون يوما ، وتلقى أحكام التوراة وشريعته السماوية عن طريق الوحي في هذه الأربعين يوما ، كما اصطحب معه جماعة من شخصيات بني إسرائيل معه كممثلين عن قومه ، ليشهدوا نزول أحكام التوراة عليه ، وليفهمهم أن الله لا يدرك بالأبصار أبدا ، في هذه الأربعين يوما نفسها؟

أم أنّه كانت له مع الله أربعينات متعددة ، أحدها لأخذ الأحكام ، وفي الأخرى اصطحب كبار قومه ، وله ـ احتمالا ـ أربعون ثالثة لمقاصد ومآرب أخرى غير هذه ، (كما يستفاد من سفر الخروج من التوراة الفعلية الفصل ١٩ إلى ٢٤).

وهنا أيضا وقع كلام بين المفسّرين ، ولكن الذي يبدو أنّه أقرب إلى الذهن ـ بملاحظة الآية المبحوثة والآيات السابقة عليها واللاحقة لها ـ أن جميع هذه الأمور ترتبط بحادثة واحدة لا متعددة ، لأنّه بغض النظر عن أن عبارة الآية اللاحقة( وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا ) تناسب تماما وحدة هاتين القصّتين ، فإنّ الآية (١٤٥) من نفس هذه السورة تفيد ـ بجلاء ـ أن قصّة ألواح التوراة ، واستلام أحكام هذه الشريعة قد تمّت جميعها في نفس هذا السفر أيضا.

١٩٦

٥ ـ حديث المنزلة

أشار كثير من المفسّرين الشيعة والسنة ـ في ذيل الآية المبحوثة ـ إلى حديث «المنزلة» المعروف ، بفارق واحد هو : أنّ الشيعة اعتبروا هذا الحديث من الأدلة الحيّة والصريحة على خلافة عليعليه‌السلام لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة وبلا فصل.

ولكي يتّضح هذا البحث ندرج هنا أوّلا أسانيد ونص هذا الحديث باختصار ، ثمّ نبحث في دلالته ، ثمّ نتكلم حول الحملات التي وجهها بعض المفسّرين إلى الشيعة.

أسانيد حديث المنزلة :

١ ـ روى جمع كبير من صحابة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حول غزوة تبوك : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج إلى تبوك واستخلف عليا فقال : أتخلفني في الصبيان والنساء؟قال : «ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه ليس نبيّ بعدي».

وهذا النص ورد في أوثق الكتب الحديثية لدى أهل السنّة ، يعني صحيح البخاري وعن سعد بن أبي وقاص.(١)

وقد روى هذا الحديث ـ أيضا ـ في صحيح مسلم الذي يعدّ من المصادر الرئيسية عن أهل السنّة ، في باب «فضائل الصحابة» عن سعد أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعليعليه‌السلام : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي»(٢) .

في هذا الحديث الذي نقله صحيح مسلم أعلن عن الموضوع بصورة كليّة ، ولم يرد فيه ذكر عن غزوة تبوك.

وهكذا نقل حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا في سياق ذكر غزوة تبوك بعد ذكر الحديث بصورة كلّية ، بصورة مستقلة كما جاء في صحيح البخاري.

__________________

(١) صحيح البخاري ، الجزء السّادس ، الصفحة ٣ ، طبعة دار إحياء التراث العربي.

(٢) صحيح مسلم ، المجلد الرّابع ، الصفحة ١٨٧ ، طبعة دار إحياء التراث العربي.

١٩٧

وقد ورد عين هذا الموضوع في سنن ابن ماجه أيضا(١) .

وقد أضيف في سنن الترمذي مطلب آخر ، وهو أنّ معاوية قال لسعد ذات يوم : ما يمنعك أن تسبّ أبا تراب؟! قال : أمّا ما ذكرت ثلاثا قالهنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلن أسبّه ، لئن تكون لي واحدة منهن أحبّ إليّ من حمر النعم. ثمّ عدد الأمور الثلاثة فكان أحدها ما قاله رسول الله لعلي في تبوك وهوقوله : «أمّا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبوة بعدي»(٢) .

وقد أشير إلى هذا الحديث في عشرة موارد من مسند أحمد بن حنبل ، تارة ذكرت فيه غزوة تبوك ، وتارة من دون ذكر غزوة تبوك بل بصورة كلّية(٣) .

وقد روي في أحد هذه المواضع أنّه أتى ابن عباس ـ بينما هو جالس ـ تسعة رهط ، فقالوا : يا ابن عباس ، إمّا أن تقوم معنا ، وإمّا أن تخلونا هؤلاء ، فقال ابن عباس : بل أقوم معكم (إلى أن قال) وخرج بالناس (أي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) في غزوة تبوك ثمّ نقل كلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليعليه‌السلام وأضاف : «إنّه لا ينبغي أن أذهب إلّا وأنت خليفتي»(٤) .

وجاء نفس هذا الحديث في «خصائص النسائي»(٥) وهكذا في مستدرك الحاكم(٦) ، وفي تاريخ الخلفاء للسيوطي(٧) وفي الصواعق المحرقة لابن حجر(٨)

__________________

(١) المجلد الأوّل ، الصفحة ٤٣ ، طبعة دار إحياء الكتب العربية.

(٢) المجلد الخامس ، الصفحة ٦٣٨ ، طبعة المكتبة الإسلامية لصاحبها الحاج رياض الشيخ.

(٣) مسند أحمد بن حنبل ، المجلد الأول ، الصفحة ١٧٣ و ١٧٥ و ١٧٧ و ١٧٩ و ١٨٣ و ١٨٥ و ٢٣١ ، والمجلد السّادس ، الصفحة ٣٦٩ و ٤٣٨.

(٤) مسند أحمد ، المجلد الأوّل ، الصفحة ٢٣١.

(٥) خصائص النسائي ، ص ٤ و ١٤.

(٦) المجلد الثالث ، الصفحة ١٠٨ و ١٠٩.

(٧) المجلد الأوّل ، الصفحة ٦٥.

(٨) الصفحة ١٧٧.

١٩٨

وسيرة ابن هشام(١) والسيرة الحلبية(٢) وكتب كثيرة أخرى.

ونحن نعلم أن هذه الكتب من الكتب المعروفة ، والمصادر الأولى لأهل السنة.

والجدير بالذكر أن هذا الحديث لم يروه «سعد بن أبي وقاص» عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحده ، بل رواه ـ أيضا ـ مجموعة كبيرة من الصحابة الذين يتجاوز عددهم عشرين شخصا منهم : «جابر بن عبد الله» و «أبو سعيد الخدري» و «أسماء بنت عميس» و «ابن عباس» و «أم سلمة» و «عبد الله بن مسعود» و «أنس بن مالك» و «زيد بن أرقم» و «أبو أيوب» والأجدر بالذكر أنّ هذا الحديث رواه عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «معاوية بن أبي سفيان» و «عمر بن الخطاب» أيضا.

وينقل «محب الدين الطبري» في «ذخائر العقبى» أنّه جاء رجل إلى معاوية فسأله عن مسألة فقال : سل عنها علي بن أبي طالب فهو أعلم. قال : يا أمير المؤمنين (ويقصد به معاوية) جوابك فيها أحبّ إليّ من جواب عليّ.

قال : بئسما قلت ، لقد كرهت رجلا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يغره بالعلم غرا ، وقد قال له : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي ، وكان عمر إذا أشكل عليه أخذ منه(٣) .

وروى أبو بكر البغدادي في «تأريخ بغداد» بسنده عن عمر بن الخطّاب أنّه رأى رجلا يسبّ عليّاعليه‌السلام فقال : إنّي أظنّك منافقا ، سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إنّما عليّ منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلّا أنّه لا نبي بعدي»(٤) .

__________________

(١) السيرة النبوية ، المجلد الثّالث ، الصفحة ١٦٣ طبعة مصر.

(٢) السيرة الحلبية ، المجلد الثّالث ، الصفحة ١٥١ طبعة مصر.

(٣) ذخائر العقبى ، الصفحة ٧٩ ، طبعة مكتبة القدس ، الصواعق المحرقة ، ص ١٧٧ ، طبعة مكتبة القاهرة.

(٤) تاريخ بغداد ، المجلد السابع ، الصفحة ٤٥٢ طبعة السعادة.

١٩٩

حديث المنزلة في سبعة مواضع :

النقطة الأخرى ، إنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وخلافا لما يتصّوره البعض ـ لم يقل هذا البحث في عليعليه‌السلام في غروة تبوك فقط ، بل قال هذه العبارة في عدّة مواضع منها : ١ ـ في المؤاخاة الأولى : يعني في المرّة الأولى التي آخى فيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المهاجرين واختار عليّاعليه‌السلام في هذه المؤاخاة لنفسه وقال : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي»(١) .

٢ ـ في يوم المؤاخاة الثّانية : وكانت في المدينة بعد الهجرة بخمسة أشهر ، حيث آخى بين المهاجرين والأنصار ، واصطفى لنفسه منهم عليّا واتخذه من دونهم أخاه ، وقال له : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي وأنت أخي ووارثي»(٢) .

٣ ـ أم سليم ـ التي كانت على جانب من الفضل والعقل ، وكانت تعدّ من أهل السوابق ، وهي من الدعاة إلى الإسلام ، واستشهد أبوها وأخوها بين يدي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفارقت زوجها لأنّه أبى أن يعتنق الإسلام ، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يزورها في بيتها بين الحين والآخر ويسلّيها ـ تروي أم سليم هذه أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لها ذات يوم : «إنّ عليّا لحمه من لحمي ودمه من دمي ، وهو منّي بمنزلة هارون من موسى»(٣) .

٤ ـ قال ابن عباس : سمعت عمر بن الخطاب يقول : كفّوا عن ذكر علي بن أبي طالب فقد رأيت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه خصالا لئن تكون لي واحدة منهن في آل الخطّاب أحبّ إلى ممّا طلعت عليه الشمس ، كنت أنا وأبو بكر وأبو عبيدة في نفر من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانتهينا إلى باب أمّ سلمة وعلي

__________________

(١) كنز العمال ، الحديث ٩١٨ ، المجلد الخامس ، الصفحة ٤٠ ، والمجلد السّادس ، الصفحة ٣٩٠.

(٢) منتخب كنز العمال ، (في حاشية مسند أحمد) ، المجلد الخامس ، من مسند أحمد ، الصفحة ٣١.

(٣) كنز العمال ، المجلد السّادس ، الصفحة ١٦٤.

٢٠٠

قائم على الباب ، فقلنا : أردنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يخرج إليكم ، فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسرنا إليه ، فاتكأ على علي بن أبي طالب ثمّ ضرب بيده منكبة ثمّ قال : «أنت (يا علي) أوّل المؤمنين إيمانا ، وأوّلهم إسلاما ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى»(1) .

5 ـ روى النسائي في كتاب «الخصائص» أن عليا وزيدا وجعفر اختصموا في من يكفل ابنة حمزة ، وكان كل واحد منهم يريد أن يكفلها هو دون غيره فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلى : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى»(2) .

6 ـ روى جابر بن عبد الله أنّه عند ما أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسدّ جميع أبواب المنازل التي كانت مشرعة إلى المسجد إلّا باب بيت عليعليه‌السلام ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّه يحلّ لك في المسجد ما يحلّ لي ، وإنّك بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبي بعدي»(3) .

هذه الموارد الستّة النّبي هي غير غزوة تبوك ، أخذناها برمتها من المصادر المعروفة لأهل السنّة ، وإلّا فإن هناك في الرّوايات المرويّة عن طريق الشيعة موارد أخرى قال فيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه العبارة في شأن عليعليه‌السلام أيضا.

من مجموع ذلك يستفاد ـ بوضوح وجلاء ـ أنّ حديث المنزلة لم يكن مختصا بغزوة تبوك ، بل هو أمر عام ودائم في شأن عليعليه‌السلام .

ومن هنا يتّضح أيضا ـ أنّ ما تصوره بعض علماء السنّة مثل «الآمدي» من أن هذا الحديث يتكفل حكما خاصا في مجال خلافة عليعليه‌السلام وأنّه يرتبط بظرف غزوة تبوك خاصّة ، ولا يرتبط بغيره من الظروف والأوقات ، تصوّر باطل أساسا ، لأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كرّر هذه العبارة في مناسبات متنوعة ممّا يفيد أنّه كان حكما عاما.

__________________

(1) كنز العمال ، المجلد السّادس ، الصفحة 395.

(2) خصائص النسائي ، الصفحة 19.

(3) ينابيع المودة ، آخر باب 17 ، الصفحة 88 الطبعة الثّانية دار الكتب العراقية.

٢٠١

محتوى حديث المنزلة :

لو درسنا ـ بموضوعية وتجرّد ـ هذا الحديث ، وتجنّبنا الأحكام المسبّقة والتحججات الناشئة من العصبية ، لاستفدنا من هذا الحديث أنّ عليّاعليه‌السلام كان له ـ بموجب هذا الحديث ـ جميع المنازل التي كانت لهارون في بني إسرائيل ـ إلّا النّبوة ـ لأنّ لفظ الحديث عام ، والاستثناء (إلّا أنّه لا نبيّ بعدي) يؤكّد هو الآخر هذه العموميّة ، ولا يوجد أيّ قيد أو شرط في هذا الحديث يخصصه ويقيّده.

وعلى هذا الأساس يمكن أن يستفاد من هذا الحديث الأمور التالية :

1 ـ إنّ الإمام علياعليه‌السلام أفضل الأئمّة بعد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما كان لهارون مثل هذا المقام.

2 ـ إنّ عليا وزير النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعاونه الخاص وعضده ، وشريكه في قيادته ، لأنّ القرآن أثبت جميع هذه المناصب لهارون عند ما يقول حاكيا عن موسى قوله :( وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي ، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) (1) .

3 ـ إنّه كان لعليعليه‌السلام ـ مضافا إلى الأخوة الإسلامية العامّة مقام الأخوة الخاصّة والمعنوية للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

4 ـ إنّ عليّاعليه‌السلام كان خليفة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومع وجوده لم يكن أي شخص آخر يصلح لهذا المنصب.

أسئلة حول حديث المنزلة :

لقد أورد بعض المتعصبين إشكالات واعتراضات على هذا الحديث والتمسك به لإثبات خلافة علي لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا فصل.

__________________

(1) سورة طه ، 29 الى 32.

٢٠٢

بعض الإشكالات والاعتراضات واهية جدا إلى درجة لا تصلح للطرح على بساط المناقشة ، بل لا يملك المرء عند السماع بها إلّا إن يتأسف على حال البعض كيف صدّتهم الأحكام المسبقة غير المدروسة عن قبول الحقائق الواضحة؟

أمّا البعض الآخر من الإشكالات القابلة للمناقشة والدراسة فنطرحها على بساط البحث تكميلا لهذه الدراسة : الإشكال الأوّل : إن هذا الحديث يبين ـ فقط ـ حكما خاصا محدودا ، لأنّه ورد في غزوة تبوك ، وذلك عند ما انزعج عليعليه‌السلام من استبقائه في المدينة بين النساء والصبيان ، فسلّاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه العبارة : وعلى هذا الأساس كان المقصود هو : إنّك وحدك الحاكم والقائد لهذه النسوة والصبيان دون غيرك.

وقد اتضح الجواب على هذا الإشكال من الأبحاث السابقة ـ بجلاء ـ وتبيّن أنّه ـ على خلاف تصور المعترضين ـ لم يرد هذا الحديث في واقعة واحدة ، ولم يصدر في واقعة تبوك فقط ، بل صدر في موارد عديدة على أساس كونه يتكفل حكما كليّا ، وقد أشرنا إلى سبعة موارد ومواضع منها مع ذكر أسانيدها من مؤلفات علماء أهل السنة.

هذا مضافا إلى أنّ بقاء عليّعليه‌السلام في المدينة لم يكن أمرا بسيطا يهدف المحافظة على النساء والصبيان فقط ، بل لو كان الهدف هو هذا ، لتيّسر للآخرين القيام به ، وإنّ النّبي لم يكن ليترك بطل جيشه البارز في المدينة لهدف صغير ، وهو يتوجه إلى قتال امبراطورية كبرى (هي إمبراطورية الروم الشرقية).

إنّ من الواضح أنّ الهدف كان هو منع أعداء الرسالة الكثيرين الساكنين في أطراف المدينة والمنافقين القاطنين في نفس المدينة ، الذين كانوا يفكرون في استغلال غيبة النّبي الطويلة لاجتياح المدينة قاعدة الإسلام ، ولهذا عمد رسول

٢٠٣

اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن يخلف في غيبته شخصيّة قويّة يمكنه أن يحفظ هذا المركز الحساس ، ولم تكن هذه الشخصية سوى عليعليه‌السلام .

الإشكال الثّاني : نحن نعلم ـ كما اشتهر في كتب التاريخ أيضا ـ أنّ هارون توفي في عصر موسىعليه‌السلام نفسه ، ولهذا لا يثبت التشبيه بهارون أن عليّاعليه‌السلام خليفة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولعل هذا هو أهم إشكال أورد على هذا البحث والتمسك به ، ولكن جملة «إلّا أنّه لا نبي بعدي» تجيب على هذا الإشكال بوضوح ، لأنّه إذا كان كلام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي يقول : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، خاصا بزمان حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما كانت هناك ضرورة إلى جملة «إلّا أنّه لا نبي بعدي» لأنّه إذا اختص هذا الكلام بزمان حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكان التحدث حول من يأتي بعده غير مناسب أبدا (إذ يكون لهذا الاستثناء ـ كما اصطلح في العربية ـ طابع الاستثناء المنقطع الذي هو خلاف الظاهر).

وعلى هذا الأساس يكشف وجود هذا الاستثناء ـ بجلاء ـ أنّ كلام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ناظر إلى مرحلة ما بعد وفاته ، غاية ما هنالك ولكي لا يلتبس الأمر ، ولا يعتبر أحد عليّاعليه‌السلام نبيّا بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إنّ لك جميع هذه المنازل ولكنّك لن تكون نبيّا بعدي.

فيكون مفهوم كلام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أن لك جميع ما لهارون من المناصب والمنازل ، لا في حياتي فقط ، بل أنّ هذه المنازل تظلّ مستمرة وباقية لك إلّا مقام النّبوة.

وبهذه الطريقة يتّضح أن تشبيه عليعليه‌السلام بهارون ، إنّما هو من حيث المنازل والمناصب ، لا من حيث مدّة استمرار هذه المنازل والمناصب ، ولو أنّ هارون كان يبقى حيا لكان يتمتع بمقام الخلافة لموسى ومقام النّبوة معا.

ومع ملاحظة أنّ هارون كان له ـ حسب صريح القرآن ـ مقام الوزارة

٢٠٤

والمعاونة لموسى ، وكذا مقام الشركة في أمر القيادة (تحت إشراف موسى) كما أنّه كان نبيّا ، تثبت جميع هذه المنازل لعليعليه‌السلام إلّا النّبوة ، حتى بعد وفاة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشهادة عبارة (إلّا أنّه لا نبي بعدي).

الإشكال الثّالث : إنّ الاستدلال بهذا الحديث يستلزم أنّه كان لعليعليه‌السلام منصب الولاية والقيادة حتى في زمن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حين لا يمكن أن يكون هناك إمامان وقائدان في عصر واحد.

ولكن مع الالتفات إلى النقطة التالية يتّضح الجواب على هذا الإشكال أيضا ، وهي أنّ هارون كان له ـ من دون شك ـ مقام قيادة بني إسرائيل حتى في عصر موسىعليه‌السلام ، ولكن لا بقيادة مستقلة ، بل كان قائدا يقوم بممارسة وظائفه تحت إشراف موسى. وقد كان عليعليه‌السلام في زمان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معاونا للنّبي في قيادة الأمّة أيضا ، وعلى هذا الأساس يصير قائدا مستقلا بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وعلى كل حال ، فإنّ حديث المنزلة الذي هو من حيث الأسانيد من أقوى الأحاديث والرّوايات الإسلامية التي وردت في مؤلفات جميع الفرق الإسلامية بلا استثناء ، إنّ هذا الحديث يوضح لأهل الإنصاف من حيث الدلالة أفضلية عليعليه‌السلام على الأمّة جمعاء ، وأيضا خلافته المباشرة (وبلا فصل) بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولكن مع العجب العجاب أنّ البعض لم يكتف برفض دلالة الحديث على الخلافة ، بل قال : إنّه لا يتضمّن ولا يثبت أدنى فضيلة لعليّعليه‌السلام وهذا حقّا أمر محيّر.

* * *

٢٠٥

الآية

( وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) )

التّفسير

المطالبة برؤية الله :

في هذه الآيات والآيات اللاحقة يشير سبحانه إلى مشهد مثير آخر من مشاهد حياة بني إسرائيل ، وذلك عند ما طلب جماعة من بني إسرائيل من موسىعليه‌السلام ـ بإلحاح وإصرار ـ أن يروا الله سبحانه ، وأنّهم لن يؤمنوا به إذا لم يشاهدوه ، فاختار موسى سبعين رجلا من قومه واصطحبهم معه إلى ميقات ربّه ، وهناك رفع طلبهم إلى الله سبحانه ، فسمع جوابا أوضح لبني إسرائيل كل شيء في هذا الصعيد.

وقد جاء قسم من هذه القصّة في سورة البقرة الآية (55) و (56) ، وقسم آخر

٢٠٦

منه في سورة النساء الآية (153) ، وقسم ثالث في الآيات المبحوثة هنا في الآية (155) من هذه السورة.

ففي الآيات الحاضرة يقول أوّلا :( وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ) .

ولكن سرعان ما سمع الجواب من جانب المقام الرّبوبي : كلا ، لن تراني أبدا( قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا ) .(1)

فلمّا رأى موسى هذا المشهد الرهيب تملكه الرعب إلى درجة أنّه سقط على الأرض مغمى عليه( وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً ) .

وعند ما أفاق قال : ربّاه سبحانك ، أنبت إليك ، وأنا أوّل من آمن بك( فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) .

* * *

بحوث

وفي هذه الآية نقاط ينبغي التوقف عندها والالتفات إليها :

1 ـ لماذا طلب موسى رؤية الله؟

إنّ أوّل سؤال يطرح نفسه هنا هو : كيف طلب موسىعليه‌السلام ـ وهو النّبي العظيم ومن أولي العزم ـ رؤية الله وهو يعلم جيدا أن الله ليس بجسم ، وليس له مكان ، ولا هو قابل للمشاهدة والرؤية ، والحال أن مثل هذا الطلب لا يليق حتى بالأفراد العاديّين من الناس؟

__________________

(1) «دك» في الأصل بمعنى سوّى الأرض ، وعلى هذا فالمقصود من عبارة «جعله دكّا» هو أنّه حطم الجبال وسواها كالأرض وجاء في بعض الرّوايات أنّ الجبل تناثر أقساما ، سقط كلّ قسم منه في جانب أو غار في الأرض نهائيا.

٢٠٧

صحيح أنّ المفسّرين ذكروا أجوبة مختلفة على هذا السؤال ، ولكن أوضح الأجوبة هو أن موسىعليه‌السلام طرح مطلب قومه ، لأنّ جماعة من جهلة بني إسرائيل أصرّوا على أن يروا الله حتى يؤمنوا (والآية 153 من سورة النساء خير شاهد على هذا الأمر) وقد أمر موسىعليه‌السلام من جانب الله أن يطرح مطلب قومه هذا على الله سبحانه حتى يسمع الجميع الجواب الكافي ، وقد صرّح بهذا في رواية مرويّة عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام في كتاب عيون أخبار الرضا أيضا(1) .

ومن القرائن الواضحة التي تؤيد هذا التّفسير ما نقرأه في الآية (155) من نفس هذه السورة ، من أنّ موسىعليه‌السلام قال بعد ما حدث ما حدث :( أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا ) .

فيتّضح من هذه الجملة أنّ موسىعليه‌السلام لم يطلب لنفسه مثل هذا الطلب إطلاقا ، بل لعلّ الرجال السبعين الذين صعدوا معه إلى الميقات هم أيضا لم يطلبوا مثل هذا الطلب غير المعقول وغير المنطقي ، إنّهم كانوا مجرّد علماء ، ومندوبين من جانب بني إسرائيل خرجوا مع موسىعليه‌السلام لينقلوا فيما بعد مشاهداتهم لجماعات الجهلة والغافلين الذين طلبوا رؤية الله سبحانه وتعالى ومشاهدته.

2 ـ هل يمكن رؤية الله أساسا؟

نقرأ في الآية الحاضرة أنّ الله سبحانه قال لموسىعليه‌السلام :( انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي ) فهل مفهوم هذا الكلام هو أنّ الله قابل للرؤية أساسا؟

الجواب هو أن هذا التعبير هو كناية عن استحالة مثل هذا الموضوع ، مثل جملة (حتى يلج الجمل في سمّ الخياط) وحيث أنّه كان من المعلوم أنّ الجبل يستحيل أن يستقر في مكانه عند تجلّي الله له ، لهذا ذكر هذا التعبير.

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، المجلد الثّاني ، الصفحة 65.

٢٠٨

3 ـ ما هو المراد من تجلّي الله؟

لقد وقع كلام كثير بين المفسّرين في هذا الصعيد ، ولكن ما يبدو للنظر من مجموع الآيات أنّ الله أظهر إشعاعة من أحد مخلوقاته على الجبل (وتجلّي آثاره بمنزلة تجليه نفسه) ولكن ماذا كان ذلك المخلوق؟ هل كان إحدى الآيات الإلهية العظيمة التي بقيت مجهولة لنا إلى الآن ، أو أنّه نموذج من قوة الذرّة العظيمة ، أو الأمواج الغامضة العظيمة التأثير والدفع ، أو الصاعقة العظيمة الموحشة التي ضربت الجبل وأوجدت برقا خاطفا للأبصار وصوتا مهيبا رهيبا وقوّة عظيمة جدا ، بحيث حطّمت الجبل ودكّته دكّا(1) ؟!

وكأنّ الله تعالى أراد أن يرى ـ بهذا العمل ـ شيئين لموسىعليه‌السلام وبني إسرائيل : الأوّل : أنّهم غير قادرين على رؤية ظاهرة جد صغيرة من الظواهر الكونية العظيمة ، ومع ذلك كيف يطلبون رؤية الله الخالق.

الثاني : كما أن هذه الآية الإلهية العظيمة مع أنّها مخلوق من المخلوقات لا أكثر ، ليست قابله للرؤية بذاتها ، بل المرئي هو آثارها ، أي الرجة العظيمة ، والمسموع هو صوتها المهيب. أمّا أصل هذه الأشياء أي تلك الأمواج الغامضة أو القوة العظيمة فلا هي ترى بالعين ، ولا هي قابلة للإدراك بواسطة الحواس الأخرى ، ومع ذلك هل يستطيع أحد أن يشك في وجود مثل هذه الآية ، ويقول : حيث أنّنا لا نرى ذاتها ، بل ندرك فقط آثارها فلا يمكن أن نؤمن بها.

فإذا يصح الحكم هذا حول مخلوق من المخلوقات ، فكيف يصح أن يقال عن الله تعالى : بما أنّه غير قابل للرؤية ، إذن لا يمكننا الإيمان به ، مع أنّه ملأت

__________________

(1) الصاعقة عبارة عن التبادل الكهربائي بين قطع الغيوم والكرة الأرضية ، فالسحب ذات الكهربية الموجبة عند ما تقترب إلى الأرض ذات الكهربية السلبية تندلع شرارة من بينهما يعني السطح المجاور من الكرة الأرضية ، وهي خطرة مدمرة في الغالب ، ولكن البرق والرعد ينشآن من التبادل الكهربائي بين قطعتين من السحاب أحدهما موجب ، والآخر سلبي ، وحيث أنّهما يحدثان في السماء لذلك لا يشكلان خطرا في العادة إلّا للطائرات. والسفن الفضائية.

٢٠٩

آثاره كل مكان؟

وهناك احتمال آخر في تفسير هذه الآية وهو أنّ موسىعليه‌السلام طلب لنفسه هذا المطلب حقيقة ، ولكن لم يكن مقصوده مشاهدته بالعين التي تستلزم جسمانيته تعالى ، وتنافي نبوة موسىعليه‌السلام ، بل المقصود هو نوع من الإدراك الباطني والمشاهدة الباطنية ، نوع من الشهود الكامل الروحيّ والفكري ، لأنّه كثيرا ما تستعمل الرؤية في هذا المعنى مثلما نقول : «أنا أرى في نفسي قدرة على القيام بهذا العمل» في حين أنّ القدرة ليست شيئا قابلا للرؤية ، بل المقصود هو أنّني أجد هذه الحالة في نفسي بوضوح.

كان موسىعليه‌السلام يريد أن يصل إلى هذه المرحلة من الشهود والمعرفة ، في حين أن الوصول إلى هذه المرحلة لم يكن ممكنا في الدنيا ، وإن كان ممكنا في عالم الآخرة الذي هو عالم الشهود.

ولكن الله تعالى أجاب موسىعليه‌السلام قائلا : إنّ مثل هذه الرؤية غير ممكنة لك ، ولإثبات هذا المطلب تجلّى للجبل ، فتحطّم الجبل وتلاشى ، وبالتالي تاب موسى من هذا الطلب(1) .

ولكن هذا التّفسير مخالف لظاهر الآية المبحوثة هنا ، ويتطلب ارتكاب التجوّز من جهات عديدة(2) هذا مضافا إلى أنّه ينافي بعض الرّوايات الواردة في تفسير الآية أيضا ، فالحق هو التّفسير الأول.

__________________

(1) ملخص من تفسير الميزان ، المجلد الثامن ، الصفحة 249 إلى 254.

(2) فهو مخالف لمفهوم الرؤية ، ولإطلاق جملة «لن تراني» وجملة «أتهلكنا بما فعل السفهاء منّا» هذا بغض النظر عن أن طلب الشهود الباطني ليس أمرا سيئا ليتوب منه موسى ، فقد طلب إبراهيم من الله مثل هذا المطلب في مجال المعاد أيضا ولبى الله طلبه.

ولو أن الجواب في مجال الشهود الباطني لله بالنفي لما كان دليلا على المؤاخذة والعقاب.

٢١٠

4 ـ مم تاب موسىعليه‌السلام ؟

إنّ آخر سؤال يطرح نفسه هنا هو : أن موسىعليه‌السلام بعد أن أفاق قال :( تُبْتُ إِلَيْكَ ) في حين أنّه لم يرتكب إثما أو معصية ، لأن هذا الطلب كان من جانب بني إسرائيل ، وكان طرحه بتكليف من الله ، فهو أدى واجبه إذن ، ثمّ إذا كان هذا الطلب لنفسه وكان مراده الشهود الباطني لم يحسب هذا العمل إثما؟؟

ولكن يمكن الجواب على هذا السؤال من جانبين :

الأوّل : أن موسى طلب مثل هذا الطلب بالنيابة عن بني إسرائيل ، ومع ذلك طلب من الله أن يتوب عليه ، وأظهر الإيمان.

الآخر : أنّ موسىعليه‌السلام وإن كان مكلّفا بأن يطرح طلب بني إسرائيل ، ولكنّه عند ما تجلى ربّه للجبل واتّضحت حقيقة الأمر ، انتهت مدّة هذا التكليف ، وفي هذا الوقت لا بدّ من العودة إلى الحالة الأولى يعني الرجوع إلى ما قبل التكليف ، وإظهار إيمانه حتى لا تبقى شبهة لأحد ، وقد بيّن ذلك بجملة ، إني( تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) .

5 ـ الله غير قابل للرؤية مطلقا

إنّ هذه الآية من الآيات التي تشهد بقوة وجلاء أنّ الله غير قابل للرؤية والمشاهدة مطلقا ، لأنّ كلمة «لن» حسب ما هو مشهور بين اللغويين للنفي الأبدي ، وعلى هذا الأساس يكون مفهوم جملة( لَنْ تَرانِي ) إنّك لا تراني لا في هذا العالم ولا في العالم الآخر.

ولو أنّ أحدا شكّك ـ افتراضا ـ في أن يكون «لن» للنفي التأبيدي يدل إطلاق الآية ، وكون نفي الرؤية ذكر من دون قيد أو شرط على أن الله غير قابل للرؤية في مطلق الزمان وجميع الظروف.

إنّ الأدلة العقلية هي الأخرى تهدينا إلى هذه الحقيقة ، لأنّ الرؤية تختص

٢١١

بالأجسام.

وعلى هذا الأساس ، إذا جاء في الأحاديث والأخبار الإسلامية أو الآيات القرآنية عبارة «لقاء الله» فإن المقصود هو المشاهدة بعين القلب والعقل ، لأنّ القرينة العقلية والنقلية أفضل شاهد على هذا الموضوع وقد كان لنا أبحاث أخرى في ذيل الآية (102) من سورة الأنعام في هذا الصعيد.

* * *

٢١٢

الآيتان

( قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145) )

التّفسير

ألواح التوراة :

وفي النهاية أنزل الله شرائع وقوانين دينه على موسىعليه‌السلام .

ففي البداية :( قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي ) .

فإذا كان الأمر كذلك( فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) .

فهل يستفاد من هذه الآية أن التكلم مع الله كان من امتيازات موسى الخاصّة به دون بقية الأنبياء ، يعني اصطفيتك لمثل هذا الأمر من بين الأنبياء؟

الحق أنّ هذه الآية ليست بصدد إثبات مثل هذا الأمر ، بل إن هدف الآية ـ بقرينة ذكر الرسالات التي كانت لجميع الأنبياء ـ هو بيان امتيازين كبيرين

٢١٣

لموسى على الناس : أحدهما تلقي رسالات الله وتحمّلها ، والآخر التكلّم مع الله ، وكلا هذين الأمرين من شأنهما تقوية مقام قيادته بين أمته.

ثمّ أضاف تعالى واصفا محتويات الألواح التي أنزلها على موسىعليه‌السلام بقوله :( وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ ) .

ثمّ أمره بأن يأخذ هذه التعاليم والأوامر مأخذ الجد ، ويحرص عليها بقوة( فَخُذْها بِقُوَّةٍ ) .

وأن يأمر قومه أيضا بأن يختاروا من هذه التعاليم أحسنها( وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها ) .

كما يحذرهم بأن مخالفة هذه الأوامر والتعاليم والفرار من المسؤوليات والوظائف تستتبع نتائج مؤلمة ، وأن عاقبتها هي جهنم وسوف يرى الفاسقون مكانهم( سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ ) .

* * *

بحوث

ثمّ إن هاهنا نقاط عديدة ينبغي التوقف عندها والالتفات إليها :

1 ـ نزول الألواح على موسى

إنّ ظاهر الآية الحاضرة يفيد أن الله تعالى أنزل ألواحا على موسىعليه‌السلام قد كتب فيها شرائع التوراة وقوانينها ، لا أنّه كانت في يدي موسىعليه‌السلام ألواح ثمّ انتقشت فيها هذه التعاليم بأمر الله.

ولكن ماذا كانت تلك الألواح ، ومن أي مادة؟ إنّ القرآن لم يتعرض لذكر هذا الأمر ، وإنما أشار إليها بصورة الإجمال وبلفظة «الألواح» فقط ، وهذه الكلمة جمع «لوح» ، وهي مشتّقة من مادة «لاح يلوح» بمعنى الظهور والسطوع ، وحيث

٢١٤

أنّ المواضيع تتّضح وتظهر بكتابتها على صفحة ، تسمى الصفحة لوحا(1) .

ولكن ثمّة احتمالات مختلفة في الرّوايات وأقوال المفسّرين حول كيفية وجنس هذه الألواح ، وحيث إنّها ليست قطعية أعرضنا عن ذكرها والتعرض لها.

2 ـ كيف كلّم الله موسى؟

يستفاد من الآيات القرآنية المتنوعة أنّ الله تعالى كلّم موسىعليه‌السلام ، وكان تكليم الله لموسى عن طريق خلق أمواج صوتية في الفضاء أو في الأجسام ، وربّما انبعثت هذه الأمواج الصوتية من خلال «شجرة الوادي الأيمن» وربّما من «جبل طور» وتبلغ مسمع موسى فما ذهب اليه البعض من أن هذه الآيات تدلّ على جسمانية الله تعالى جمودا على الألفاظ تصوّر خاطئ بعيد عن الصواب.

على أنّه لا شك في أن ذلك التكلّم كان من جانب الله تعالى بحيث أن موسىعليه‌السلام كان لا يشك عند سماعه له في أنّه من جانب الله ، وكان هذا العلم حاصلا لموسى ، إمّا عن طريق الوحي والإلهام أو من قرائن أخرى.

3 ـ عدم وجوب جميع تعاليم الألواح

يستفاد من عبارة( مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً ) أنّه لم تكن جميع المواعظ والمسائل موجودة في ألواح موسىعليه‌السلام لأنّ الله يقول :( وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً ) وهذا لأجل أن دين موسىعليه‌السلام لم يكن آخر دين ، ولم يكن موسىعليه‌السلام خاتم الأنبياء ، ومن المسلّم أن الأحكام الإلهية التي نزلت كانت في حدود ما يحتاجه الناس في ذلك الزمان ، ولكن عند ما وصلت البشرية إلى آخر مرحلة حضارية للشرايع السماوية نزل آخر دستور إلهي يشمل جميع حاجات

__________________

(1) تفسير التبيان ، المجلد الرّابع ، الصفحة 539.

٢١٥

الناس المادية والمعنوية.

وتتّضح من هذا أيضا علة تفضيل مقام عليعليه‌السلام على مقام موسىعليه‌السلام في بعض الرّوايات(1) ، وهي أن علياعليه‌السلام كان عارفا بجميع القرآن ، الذي فيه تبيان كل شيء( نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ ) في حين أنّ التوراة لم يرد فيها إلّا بعض المسائل.

4 ـ هل في الألواح تعاليم حسنة وأخرى غير حسنة؟

إنّ ما نقرؤه في الآية( وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها ) لا يعني أنّه كانت في ألواح موسى تعاليم «حسنة» وأخرى «سيئة» وأنّهم كانوا مكلّفين بأن يأخذوا بالحسنة ويتركوا السيئة ، أو كان فيها الحسن والأحسن ، وكانوا مكلّفين بالأخذ بالأحسن فقط ، بل ربّما تأتي كلمة «أفعل التفضيل» بمعنى الصفة المشبهة ، والآية المبحوثة من هذا القبيل ظاهرا ، يعني أن «الأحسن» هنا بمعنى «الحسن» وهذا إشارة إلى أن جميع تلك التعاليم كانت حسنة وجيدة.

ثمّ إنّ هناك احتمالا آخر في الآية الحاضرة ـ أيضا ـ وهو أن الأحسن بمعنى أفعل التفضيل ، وهو إشارة إلى أنّه كان بين تلك التعاليم أمور مباحة (مثل القصاص) وأمور أخرى وصفت بأنّها أحسن منها (مثل العفو) يعني : قل لقومك ومن اتبعك ليختاروا ما هو أحسن ما استطاعوا ، وللمثال يرجحوا العفو على القصاص (إلّا في موارد خاصّة)(2) .

5 ـ في مجال قوله :( سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ ) الظاهر أن المقصود منها هو جهنم ، وهي مستقرّ كل أولئك الذين يخرجون من طاعة الله ، ولا يقومون

__________________

(1) للوقوف على هذه الرّوايات يراجع تفسير نور الثقلين ، المجلد الثّاني ، الصفحة 68.

(2) ويحتمل أيضا أن الضمير في «أحسنها» يرجع إلى «القوة» أو «الأخذ بقوة» وهو إشارة إلى أن عليهم أن يأخذوا بها بأفضل أنواع الجدية والقوة والحرص.

٢١٦

بوظائفهم الإلهية.

ثمّ إنّ بعض المفسّرين احتمل أيضا أن يكون المقصود هو أنّكم إذا خالفتم هذه التعاليم فإنكم سوف تصابون بنفس المصير الذي أصيب به قوم فرعون والفسقة الآخرون ، وتتبدل أرضكم إلى دار الفاسقين(1) .

* * *

__________________

(1) تفسير المنار المجلد التاسع الصفحة 193.

٢١٧

الآيتان

( سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147) )

التّفسير

مصير المتكبرين :

البحث في هاتين الآيتين هو في الحقيقة نوع من عملية استنتاج من الآيات الماضية عن مصير فرعون وملئه والعصاة من بني إسرائيل ، فقد بيّن الله في هذه الآيات الحقيقة التالية وهي : إذا كان الفراعنة أو متمرّدو بني إسرائيل لم يخضعوا للحق مع مشاهدة كل تلك المعاجز والبينات ، وسماع كل تلكم الحجج والآيات الإلهية ، فذلك بسبب أنّنا نصرف المتكبرين والمعاندين للحق ـ بسبب أعمالهم ـ عن قبول الحق.

٢١٨

وبعبارة أخرى : إنّ الإصرار على تكذيب الآيات الإلهية قد ترك في نفوسهم وأرواحهم أثرا عجيبا ، بحيث خلق منهم أفرادا متصلبين منغلقين دون الحق ، لا يستطيع نور الهدى من النفوذ إلى قلوبهم.

ولهذا يقول أوّلا :( سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ ) .

ومن هنا يتّضح أنّ الآية الحاضرة لا تنافي أبدا الأدلة العقلية حتى يقال بتأويلها كما فعل كثير من المفسّرين ـ إنّها سنة إلهية أن يسلب الله من المعاندين الألدّاء توفيق الهداية بكل أشكاله وأنواعه فهذه هي خاصية أعمالهم القبيحة أنفسهم ، ونظرا لانتساب جميع الأسباب إلى الله الذي هو علّة العلل ومسبب الأسباب في المآل نسبت إليه.

وهذا الموضوع لا هو موجب للجبر ، ولا مستلزم لأي محذور آخر ، حتى نعمد إلى توجيه الآية بشكل من الأشكال.

هذا ، ولا بدّ من الالتفات ـ ضمنيا ـ إلى أنّ ذكر عبارة( بِغَيْرِ الْحَقِ ) بعد لفظة :

التكبر إنّما هو لأجل التأكيد ، لأنّ التكبر والشعور بالاستعلاء على الآخرين واحتقار عباد الله يكون دائما بغير حق ، وهذا التعبير يشبه الآية (61) من سورة البقرة ، عند ما يقول سبحانه :( وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ ) فقيد بغير الحق هنا قيد توضيحي ، وتوكيدي لأنّ قتل الأنبياء هو دائما بغير حق.

خاصّة أنّها أردفت بكلمة «في الأرض» الذي يأتي بمعنى التكبر والطغيان فوق الأرض ، ولا شك أنّ مثل هذا العمل يكون دائما بغير حق.

ثمّ أشار تعالى إلى ثلاثة أقسام من صفات هذا الفريق «المتكبر المتعنت» وكيفية سلب توفيق قبول الحق عنهم.

الأولى قوله تعالى :( وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها ) إنّهم لا يؤمنون حتى ولو رأوا جميع المعاجز والآيات والثّانية ،( وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ

٢١٩

سَبِيلاً ) والثّالثة إنّهم على العكس( وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ) .

بعد ذكر هذه الصفات الثلاث الحاكية برمتها عن تصلب هذا الفريق تجاه الحق ، أشار إلى عللها وأسبابها ، فقال :( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ ) .

ولا شك أنّ التكذيب لآيات الله مرّة ـ أو بضع مرات ـ لا يستوجب مثل هذه العاقبة ، فباب التوبة مفتوح في وجه مثل هذا الإنسان ، وإنّما الإصرار في هذا الطريق هو الذي يوصل الإنسان إلى نقطة لا يعود معها يميّز بين الحسن والقبيح ، والمستقيم والمعوج ، أي يسلب القدرة على التمييز بين «الرشد» و «الغي».

ثمّ تبيّن الآية اللاحقة عقوبة مثل هؤلاء الأشخاص وتقول :( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ) .

و «الحبط» يعني بطلان العمل وفقدانه للأثر والخاصية ، يعني أنّ مثل هؤلاء الأفراد حتى إذا عملوا خيرا فإنّ عملهم لن يعود عليهم بنتيجة (وللمزيد من التوضيح حول هذا الموضوع راجع ما كتبناه عند تفسير الآية 217 من سورة البقرة).

وفي ختام الآية أضاف بأن هذا المصير ليس من باب الانتقام منهم ، إنما هو نتيجة أعمالهم هم ، بل هو عين أعمالهم ذاتها وقد تجسمت أمامهم( هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) ؟!

إنّ هذه الآية نموذج آخر من الآيات القرآنية الدالة على تجسّم الأعمال ، وحضور أعمال الإنسان خيرها وشرها يوم القيامة.

* * *

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606