الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245359 / تحميل: 6214
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

بِما عَهِدَ عِنْدَكَ ) .

إنّهم عند نزول البلاء يلجأون إلى موسى ويطلبون منه أن يدعو لرفع العذاب عنهم ، وأن يفي الله بما وعده له من استجابة دعائه :( بِما عَهِدَ عِنْدَكَ ) .

ثمّ يقولون : إذا دعوت فرفع عنّا البلاء فإنّنا نحلف لك بأن نؤمن بك ، ونرفع طوق العبودية عن بني إسرائيل :( لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ ) .

ولفظة «الرجز» استعملت في معاني كثيرة : البلايا الصعبة ، الطاعون ، الوثن والوثنية ، وسوسة الشيطان ، والثلج أو البرد الصلب.

ولكن جميع ذلك مصاديق مختلفة لمفهوم يشكّل الجذر الأصلي لتلك المعاني ، لأن أصل هذه اللفظة كما قال «الراغب» في «المفردات» هو الاضطراب.

وحسب ما قال «الطبرسي» في «مجمع البيان» مفهومه الأصلي هو الانحراف عن الحق.

وعلى هذا الأساس إطلاق لفظ «الرجز» على العقوبة والبلاء ، لأنّها تصيب الإنسان لانحرافه عن الحق ، وارتكاب الذنب ، وكذا يكون الرجز نوعا من الانحراف عن الحق ، والاضطراب في العقيدة ، ولهذا أيضا يطلق العرب هذا اللفظ على داء يصيب الإبل ، ويسبب اضطراب أرجلها حتى أنّها تلجأ للمشي بخطوات قصيرة ، أو تمشي تارة وتتوقف تارة أخرى ، فيقال لهذا الداء «الرجز» على وزن «المرض».

والسبب في إطلاق الرجز على الأشعار الحربيّة ، لأنّها ذات مقاطع قصيرة ومتقاربة.

وعلى كل حال ، فإنّ المقصود من «الرجز» في الآيات الحاضرة هو العقوبات المنبهة الخمسة التي أشير إليها في الآيات السابقة ، وإن احتمل بعض المفسّرين أن يكون إشارة إلى البلايا الأخرى التي أنزلها الله عليهم ولم يرد ذكرها

١٨١

في الآيات السابقة ، ومنها الطاعون أو الثلج والبرد القاتل ، الذي وردت الإشارة إليها في التوراة.

هذا ، وقد وقع كلام بين المفسّرين في المراد من عبارة( بِما عَهِدَ عِنْدَكَ ) وأنّه ما هو المقصود من ذلك العهد الإلهي الذي أعطاه سبحانه لموسى؟

إنّ ما هو الأقرب إلى النظر هو أن المقصود من ذلك الوعد الإلهي هو أن يستجيب دعاءه إذا دعاه ، ولكن يحتمل أيضا أن يكون المقصود هو عهد «النبوة» وتكون «الباء» باء القسم ، يعني نقسم عليك بحق مقام نبوتك إلّا ما دعوت الله ليرفع عنّا هذا البلاء.

وفي الآية اللاحقة يشير إلى نقضهم للعهد ويقول :( فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ ) (١) .

إنّ جملة( إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ ) إشارة إلى أنّ موسى حدّد لهم وقتا وعيّن أمدا ، فكان يقول لهم : في الوقت الفلاني سيرفع هذا البلاء عنكم ، حتى يتّضح لهم أنّ ارتفاع ذلك البلاء عنهم ليس أمرا اتفاقيا وصدقة ، بل هو بفضل دعائه وطلبه من الله تعالى.

إنّ جملة( إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ ) وبالنظر إلى أن «ينكثون» فعل مضارع يدلّ على الاستمرارية يفيد أنّه قد تكرر تعهدّهم لموسىعليه‌السلام ثمّ نقضهم للعهد ، حتى أصبح نقض العهد جزءا من برنامجهم وسلوكهم الدائم.

وآخر هذه الآيات تبيّن ـ من خلال جملتين قصيرتين ـ عاقبة كلّ هذا التعنت ، ونقض العهد ، فتقول بصورة مجملة( فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ ) .

ثمّ تشرح هذا الانتقام وتذكر تفصيله( فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ ) (٢) .

__________________

(١) النكث على وزن مكث ، يعني فل الحبل المفتول ، ثمّ أطلق على نقض الميثاق والعهد.

(٢) يستفاد من مصادر اللغة ، وكتب الأحاديث أن المراد من اليم هو «البحر» ، وهو يطلق على نهر النيل أيضا ، أمّا أن لفظة اليم

١٨٢

إنّهم لم يكونوا غافلين واقعا ، لأنّ موسىعليه‌السلام ذكّرهم مرارا وبالوسائل المختلفة المتعددة ونبههم ، بل أنّهم تصرّفوا عمليا كما يفعل الغافلون ، فلم يعتنوا بآيات الله أبدا.

ولا شك أن المقصود من الانتقام الإلهي ليس هو أنّ الله كان يقوم بردّ الفعل في مقابل أعمالهم ، كما يفعل الأشخاص الحاقدون الذين ينطلقون في ردود أفعالهم من مواقع الحقد والانتقام ، بل المقصود من الانتقام الإلهي هو أن الجماعة الفاسدة وغير القابلة للإصلاح لا يحق لها الحياة في نظام الخلق ، ولا بدّ أن تمحى من صفحة الوجود.

والانتقام في اللغة العربية ـ كما أسلفنا ـ يعني العقوبة والمجازاة ، لا ما هو شائع في عرف الناس اليوم.

* * *

__________________

هل هي عربية أو سريانية أو هيرغلوفية ، فقد وقع في ذلك كلام بين العلماء ، يقول صاحب تفسير المنار وهو أحد علماء مصر المعروفين والذي جمع وجوه اشتراك اللغات الهيروغلوفية والعربية وألف كتاب المعجم الكبير في هذا المجال نقل : أنه وجد بعد التحقيق أن لفظة اليم كانت في اللغة المصرية تعني البحر ، وعلى هذا الأساس حيث أن هذه القصة تتعلق بمصر لهذا استفاد القرآن من لغات المصريين في بيان هذه الحادثة.

١٨٣

الآية

( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧) )

التّفسير

قوم فرعون والمصير المؤلم :

بعد هلاك قوم فرعون ، وتحطّم قدرتهم ، وزوال شوكتهم ، ورث بنو إسرائيل الذين طال رزوحهم في أغلال الأسر والعبودية أراضي الفراعنة الشاسعة والآية الحاضرة تشير إلى هذا الأمر( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها ) .

و «الإرث» كما أسلفنا يعني في اللغة المال الذي ينتقل من شخص إلى آخر من دون تجارة ومعاملة ، سواء كان المنتقل منه حيا أو ميّتا.

و «يستضعفون» مشتقّة من مادة «الاستضعاف» وتطابق كلمة «الاستعمار» التي تستعمل اليوم في عصرنا الحاضر ، ومفهومها هو أن يقوم جماعة بإضعاف

١٨٤

جماعة أخرى حتى يمكن للجماعة الأولى أن تستغل الجماعة الضعيفة في سبيل مآربها ومصالحها ، غاية ما هنالك أن هناك تفاوتا بين هذه اللفظة ولفظة الاستعمار ، وهو : أن الاستعمار ظاهره تعمير الأرض ، وباطنه الإبادة والتدمير ، ولكن الاستضعاف ظاهره وباطنه واحد.

والتعبير ب( كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ ) إشارة إلى الفرعونيين كانوا يستبقون بني إسرائيل في حالة ضعف دائمية : ضعف فكري ، وضعف أخلاقي ، وضعف اقتصادي ، ومن جميع الجهات وفي جميع النواحي.

والتعبير ب( مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا ) إشارة إلى الأراضي الواسعة العريضة التي كانت تحت تصرّف الفرعونيين ، لأنّ الأراضي الصغيرة ليس لها مشارق ومغارب مختلفة ، وبعبارة أخرى «ليس لها آفاق متعددة» ولكن الأراضي الواسعة جدا من الطبيعي أن يكون مشارق ومغارب بسبب كروية الأرض فيكون التعبير بمشارق الأرض ومغاربها كناية عن أراضي الفرعونيين الواسعة العريضة جدّا.

وجملة( بارَكْنا فِيها ) إشارة إلى الخصب العظيم الذي كانت تتمتع به هذه المنطقة ـ يعني مصر والشام ـ التي كانت تعدّ آنذاك ، وفي هذا الزمان أيضا ، من مناطق العالم الخصبة الكثيرة الخيرات. حتى أن بعض المفسّرين كتب : إن بلاد الفراعنة في ذلك العصر كانت واسعة جدّا بحيث كانت تشمل بلاد الشام أيضا.

وعلى هذا الأساس لم يكن المقصود من العبارة هو الحكومة على كل الكرة الأرضية ، لأنّ هذا يخالف التاريخ حتما. بل المقصود هو حكومة بني إسرائيل على كل أراضي الفراعنة وبلادهم.

ثمّ يقول :( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا ) أي تحقق الوعد الإلهي لبني إسرائيل بانتصارهم على الفرعونيين ، بسبب صبرهم وثباتهم.

وهذا هو الوعد الذي أشير إليه في الآيات السابقة (الآية ١٢٨ و ١٢٩ من نفس هذه السورة).

١٨٥

صحيح أنّ هذه الآية تحدّثت عن بني إسرائيل ونتيجة ثباتهم في وجه الفرعونيين فقط ، إلّا أنّه يستفاد من الآيات القرآنية الأخرى أن هذا الموضوع لا يختص بقوم أو شعب خاص ، بل إن كان شعب مستضعف نهض وحاول تخليص نفسه من مخالب الأسر والاستعمار ، استعان في هذا السبيل بالثبات والاستقامة ، سوف ينتصر آخر المطاف ويحرر الأراضي التي احتلها الظلمة الجائرون.

ثمّ يضيف في آخر الآية : نحن الذين دمرنا قصور فرعون وقومه العظيمة ، وأبنيتهم الجميلة الشامخة ، وكذا بساتينهم ومزارعهم العظيمة( وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ ) .

و «صنع» كما يقول «الراغب» في «المفردات» يعني الأعمال الجميلة ، وقد وردت هذه اللفظة في الآية الحاضرة بمعنى الهندسة الجملية الرائعة التي كان يستخدمها الفرعونيين في أبنيتهم.

و «ما يعرشون» في الأصل تعني الأشجار والبساتين التي تنصب بواسطة العروش والسقف ، ولها جمال عظيم وروعة باهرة.

و «دمرنا» من مادة «التدمير» بمعنى الإهلاك والإبادة.

وهنا يطرح السؤال التالي وهو : كيف أبيدت هذه القصور والبساتين ، ولماذا؟ونقول في الجواب : لا يبعد أن ذلك حدث بسبب زلازل وطوفانات جديدة وأمّا الضرورة التي قضت بهذا الفعل فهي أن جميع الفرعونيين لم يغرقوا في النيل ، بل غرق فرعون وجماعة من خواصّه وعسكره الذين كانوا يلاحقون موسىعليه‌السلام ، ومن المسلّم أنّه لو بقيت تلك الثروات العظيمة ، والإمكانيات الاقتصادية الهائلة بيد من بقي من الفراعنة الذين كان عدد نفوسهم في شتى نواحي مصر كثيرا جدا لاستعادوا بها شوكتهم ، ولقدروا على تحطيم بني إسرائيل ، أو الحاق الأذى بهم على الأقل. أمّا الإمكانيات والوسائل فإن من شأنه أن يجردهم من أسباب الطغيان إلى الأبد.

* * *

١٨٦

الآيات

( وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١) )

التّفسير

الاقتراح على موسى بصنع الوثن :

في هذه الآيات إشارة إلى جانب حساس آخر من قصّة بني إسرائيل التي بدأت في أعقاب الإنتصار على الفرعونيين ، وذلك هو مسألة توجه بني إسرائيل إلى الوثنية التي بحثت بداياتها في هذه الآيات ، وجاءت نتيجتها النهائية بصورة مفصّلة في سورة طه من الآية (٨٦) إلى (٩٧) ، وبصورة مختصرة في الآية (١٤٨) فما بعد من هذه السورة.

١٨٧

وفي الحقيقة فإنّه مع انتهاء قصة فرعون بدأت مشكلة موسى الداخلية الكبرى ، يعني مشكلته مع جهلة بني إسرائيل ، والأشخاص المتعنتين والمعاندين. وكانت هذه المشكلة أشدّ على موسىعليه‌السلام وأثقل بمراتب كثيرة ـ كما سيتّضح من قضية مواجهته لفرعون والملأ وهذه هي خاصية المشاكل والمجابهات الداخلية.

في الآية الأولى :( وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ ) أي النيل العظيم.

ولكن في مسيرهم مرّوا على قوم يخضعون للأصنام( فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ ) .

و «عاكف» مشتقّة من مادة «العكوف» بمعنى التوجه إلى شيء وملازمته المقارنة لاحترامه وتبجيله.

فتأثّر الجهلة الغافلون بهذا المشهد بشدّة إلى درجة قالوا لموسى من دون إبطاء : يا موسى اتّخذ لنا معبودا على غرار معبودات هؤلاء( قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ ) .

فانزعج موسىعليه‌السلام من هذا الافتراح الأحمق بشدّة ، وقال لهم :( قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) .

* * *

بحوث

وهنا لا بدّ من الانتباه إلى نقاط :

١ ـ الجهل منشأ الوثنية

يستفاد من هذه الآية بوضوح أنّ منشأ الوثنية هو جهل البشر بالله تعالى من جانب ، وعدم معرفته بذاته المقدسة وأنّه لا يتصور له شبيه أو نظير أو مثيل.

ومن جانب آخر جهل الإنسان بالعلل الأصلية لحوادث العالم الذي يتسبب

١٨٨

أحيانا في أن ينسب الحوادث إلى سلسلة من العلل الخرافية والخيالية ومنها الأصنام.

ومن جانب ثالث جهل الإنسان بما وراء الطبيعة ، وقصور فكره إلى درجة أنّه لا يرى ولا يؤمن إلّا بالقضايا الحسية.

إن هذه الجهالات تضافرت وتعاضدت ، وصارت على مدار التأريخ منشأ للوثنية وعبادة الأصنام ، وإلّا فكيف يمكن أن يأخذ إنسان واع فاهم عارف بالله وصفاته ، عارف بعلل الحوادث ، عارف بعالم الطبيعة وعالم بما بعد الطّبيعة. قطعة من الصخر منفصلة من الجبل مثلا ، فيستعمل قسما منها في بناء بيته ، أو صنع سلالم منزله ، ويتخذ قسما آخر معبودا يسجد أمامه ، ويسلّم مقدراته بيده.

والجدير بالذكر أنّنا نقرأ في كلام موسىعليه‌السلام في الآية الحاضرة كيف يقول لهم : أنتم غارقون في الجهل دائما ، (لأنّ تجهلون فعل مضارع ويدل غالبا على الاستمرارية) وبخاصّة أن متعلق الجهل لم يبيّن في الآية ، وهذا يدل على عمومية المجهول وشموليته.

والاغرب من كل ذلك أنّ بني إسرائيل بقولهم( اجْعَلْ لَنا إِلهاً ) أظهروا أن من الممكن أن يصير الشيء التافه ثمينا ـ بمجرّد اختيارهم وجعلهم ووضع اسم الصنم والمعبود عليه ـ وتوجب عبادته التقرب إلى الله ، وعدم عبادته البعد عنه تعالى ، وتكون عبادته منشأ للخير والبركة ، واحتقاره منشأ للضرر والخسارة ، وهذه هي نهاية الجهل والغفلة.

صحيح أنّ مقصود بني إسرائيل لم يكن إيجاد معبود يكون خالق العالم ، بل كان مقصودهم هو : اجعل لنا معبودا نتقرب بعبادته إلى الله ، ويكون مصدرا للخير والبركة ، ولكن هل يمكن أن يصير شيء فاقدا للروح والتأثير مصدرا للخيرات والتأثيرات بمجرّد تسمّيته معبودا وإلها؟ هل الدافع لذلك العمل شيء سوى

١٨٩

الجهل والخرافة ، والخيال الواهي والتصور الخاوي؟!(١)

٢ ـ أرضية الوثنية عند بني إسرائيل

لا شك أنّه كانت لدى بني إسرائيل ـ قبل مشاهدة هذا الفريق من الوثنيين ـ أرضية فكرية مساعدة لهذا الموضوع ، بسبب معاشرتهم الدائمة للمصريين الوثنيين ، ولكن مشاهدة هذا المشهد الجديد كان بمثابة شرارة كشفت عن دفائن جبلّتهم ، وعلى كل حال فإنّ هذه القضية تكشف لنا أنّ الإنسان إلى أيّ مدى يتأثر بعامل البيئة ، فإنّ البيئة هي التي تستطيع أن تسوق الإنسان إلى الله ، كما أنّ البيئة هي التي تسوقه إلى الوثنية ، وأنّ البيئة يمكن أن تصير سببا لأنواع المفاسد والشقاء ، أو منشأ للصلاح والطهر. (وإن كان انتخاب الإنسان نفسه هو العامل النهائي) ولهذا اهتم الإسلام بإصلاح البيئة اهتماما بالغا.

٣ ـ الكفرة بالنعم في بني إسرائيل

الموضوع الآخر الذي يستفاد من الآية بوضوح ، أنّه كان بين بني إسرائيل أشخاص كثيرون ممن يكفرون النعمة ولا يشكرونها ، فمع أنّهم رأوا كل تلك المعاجز التي أتي بها موسىعليه‌السلام ، ومع أنّهم تمتعوا بكل تلك المواهب الإلهية التي خصّهم الله بها ، فإنّه لم ينقص عن هلاك عدوهم فرعون ونجاتهم من الغرق برهة من الزمن حتى نسوا كل هذه الأمور دفعة واحدة ، وطلبوا من موسى أن يصنع لهم أصناما ليعبدوها!!

ونقرأ في نهج البلاغة أنّ أحد اليهود اعترض على المسلمين عند أمير المؤمنينعليه‌السلام قائلا : ما دفنتم نبيّكم حتى اختلفتم فيه. فردّ عليه الإمام صلوات الله

__________________

(١) مرّت أبحاث أخرى حول تاريخ الوثنية في تفسير الآية (٢٥٨) سورة البقرة.

١٩٠

عليه قائلا : «إنّما اختلفنا عنه لا فيه ، ولكنّكم ما جفّت أرجلكم من البحر حتى قلتم لنبيّكم اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ، فقال إنّكم قوم تجهلون».

أي أنّنا اختلفنا في الأحاديث والأوامر التي وصلت إلينا عن نبيّنا ، لا أنّنا اختلفنا حول النّبي ونبوته ، (فكيف بألوهية الله) ولكنّكم ما إن خرجتم من مياه البحر إلّا واقترحتم على نبيّكم أن اجعل لنا آلهة كما للوثنيين آلهة ، وقال موسى : إنّكم قوم تجهلون.

وفي الآية اللاحقة نقرأ أنّ موسىعليه‌السلام ـ لتكميل حديثه لبني إسرائيل ـ قال : إنّ هذه الجماعة الوثنية التي ترونها سينتهي أمرها إلى الهلاك ، وإن عملهم هذا باطل لا أساس له( إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

فعمل هذه الجماعة باطل ، وجهودهم غير منتجة ، كما أن مصير مثل هؤلاء القوم وكل قوم وثنيين ومشركين هو الهلاك والدمار. (لأنّ «متبّر» مشتقّة من التبار أي الهلاك).

ثمّ تضيف الآية التوكيد : إنّ موسىعليه‌السلام ( قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ ) .

يعني إذا كان الدافع إلى عبادة الله هو حسّ الشكر ، فجميع النعم التي ترفلون فيها هي من الله ، وإذا كان الدافع للعبادة والعبودية كون هذه العبادة منشأ لأثر ما ، فإنّ ذلك أيضا يرتبط بالله سبحانه ، وعلى هذا الأساس مهما يكن الدافع ، فليس سوى الله القادر المنّان يصلح للعبادة ومستحقا لها.

وفي الآية اللاحقة يذكر القرآن الكريم إحدى النعم الإلهية الكبرى التي وهبها الله سبحانه لبني إسرائيل ، ليبعث بالالتفات إلى هذه النعمة الكبرى حسّ الشكر فيهم ، وليعلموا أن اللائق بالخضوع والعبادة هو الذات الإلهية المقدسة فحسب ، وليس هناك أي دليل يسوّغ لهم الخضوع أمام أصنام لا تضر ولا تنفع شيئا أبدا.

١٩١

يقول في البداية : تذكّروا يوم أنجيناكم من مخالب آل فرعون الذين كانوا يعذبونكم دائما( وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ ) .

و «يسومون» مشتقّة من مادة «سوم» وتعني في الأصل ـ كما قال «الراغب» في «المفردات» ـ الذهاب في طلب شيء ، كما يستفاد من القاموس تضمنه لمعنى الاستمرار والمضّي أيضا ، وعلى هذا يكون معنى( يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ ) أنّهم كانوا يعذبونكم بتعذيبات قاسية باستمرار.

ثمّ تمشيا مع أسلوب القرآن في بيان الأمور بتفصيل بعد إحمال شرح هذا العذاب المستمر ، وهو : قتل الأبناء ، واستبقاء النساء للخدمة والاسترقاق( يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ ، وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ ) .

وقد كان في هذا اختبار عظيم من الله لكم( وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ) .

وسياق الآية يكشف عن أن هذه العبارة قالها موسىعليه‌السلام عن الله لنبي إسرائيل عند ما رغبوا بعد عبورهم بحر النيل في الوثنية وعبادة الأصنام.

صحيح أنّ بعض المفسّرين احتمل أن يكون المخاطبون في هذه الآية هم يهود عصر الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ التّفسير الأوّل يحتاج إلى تقدير شيء بأن يقال : إن الآية كانت في الأصل هكذا : قال موسى : قال ربّكم وهذا خلاف الظاهر.

ولكن مع الالتفات إلى أنّه لو كان المخاطبون في هذه الآية هم يهود عصر النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لانقطع ارتباط الآية بما يسبقها وما يلحقها بصورة كاملة ، وكانت هذه الآية كالجملة المعترضة ، يبدو للنظر أن التّفسير الأوّل أصح.

هذا ولا بدّ ـ ضمنا ـ من الالتفات إلى أن نظير هذه الآية مرّ في سورة البقرة الآية (٤٩) مع فارق جدا بسيط ، ولمزيد التوضيح راجع تفسير الآية (٤٩) من سورة البقرة.

* * *

١٩٢

الآية

( وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢) )

التّفسير

الميعاد الكبير :

في هذا الآية إشارة إلى مشهد من مشاهد حياة بني إسرائيل ، ومشكلة موسىعليه‌السلام معهم ، وذلك هو قصّة ذهاب موسى إلى ميقات ربّه ، وتلقي أحكام التّوراة عن طريق الوحي وكلامه مع الله ، واصطحاب جماعة من كبار بني إسرائيل وشخصياتهم إلى الميقات لمشاهدة هذه الحادثة وإثبات أنّ الله لا يمكن أن يدرك بالأبصار ، والتي ذكرت بعد قصّة عبادة بني إسرائيل للعجل وانحرافهم عن مسير التوحيد ، وضجّة السامريّ العجيبة.

يقول تعالى أوّلا :( وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ) .

وكلمة «الميقات» مشتقّة من مادة «الوقت» بمعنى الموعد المضروب للقيام

١٩٣

بعمل ما ، ويطلق عادة على الزمان ، ولكنّه قد يطلق على المكان الذي يجب أن يتمّ العمل فيه ، مثل «ميقات الحج» يعني المكان الذي لا يجوز أن يجتازه أحد إلّا محرما.

ثمّ ذكرت الآية أنّ موسى استخلف هارون وأمره بالإصلاح في قومه ، وأن لا يتبع سبيل المفسدين :( وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) .

* * *

بحوث

وهنا عدّة نقاط ينبغي التوقف عندها والالتفات إليها :

١ ـ لماذا التفكيك بين الثلاثين والعشر؟

إنّ أوّل سؤال يطرح نفسه في مجال الآية الحاضرة ، هو : لماذا لم يبيّن مقدار الميقات بلفظ واحد هو الأربعين ، بل ذكر أنّه واعده ثلاثين ليلة ثمّ أتمّه بعشر ، في حين أنّه تعالى ذكر ذلك الموعد في لفظ واحد هو أربعين في الآية (١٥١) من سورة البقرة.

ذكر المفسّرون تفسيرات عديدة لهذا التفكيك ، والذي يبدو أقرب إلى النظر وأكثر انسجاما مع أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام هو أنّه وإن كان الواقع هو أربعين يوما ، إلّا أنّه في الحقيقة وعد الله موسى في البداية ثلاثين يوما ثمّ مدّده عشرة أيّام أخرى ، اختبارا لبني إسرائيل كي يعرف المنافقون في صفوف بني إسرائيل.

فقد روي عن الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام أنّه قال : إنّ موسىعليه‌السلام لما خرج وافدا إلى ربّه واعدهم ثلاثين يوما ، فلمّا زاده الله على الثلاثين عشرا قال قومه ، قد أخلفنا

١٩٤

موسى فصنعوا ما صنعوا (من عبادة العجل)(١) .

وأمّا أن هذه الأيّام الأربعين صادفت أيّام أي شهر من الشهور الإسلامية ، فيستفاد من بعض الرّوايات أنّها بدأت من أوّل شهر ذي القعدة وختمت باليوم العاشر من شهر ذي الحجة (عيد الأضحى). وقد جاء التعبير بلفظ أربعين ليلة في القرآن الكريم لا أربعين يوما ، فالظاهر أنّه لأجل أن مناجاة موسى لربّه كانت تتمّ غالبا في الليالي.

٢ ـ كيف نصب موسىعليه‌السلام هارون قائدا وإماما؟

السؤال الثّاني الذي يطرح نفسه هنا ، هو : إنّ هارون كان نبيّا ، فكيف نصبه موسىعليه‌السلام خليفة له وإماما وقائد لبني إسرائيل؟

والجواب على هذا السؤال يتّضح بعد الالتفات إلى أنّ مقام النّبوة شيء ومقام الإمام شيء آخر ، ولقد كان هارون نبيّا ، ولكن لم يكن قد أنيط به مقام الإمامة العامّة لبني إسرائيل ، بل كان مقام الإمامة ومنصب القيادة العامّة خاصا بموسىعليه‌السلام ، ولكنّه عند ما قصد أن يفارق قومه إلى ميقات ربّه اختار هارون إماما وقائدا.

٣ ـ لماذا طلب موسىعليه‌السلام من أخيه الإصلاح وعدم اتّباع المفسدين؟

السؤال الثّالث الذي يطرح نفسه هنا ، هو : لماذا قال موسىعليه‌السلام لأخيه : أصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ، مع أن هارون نبي معصوم من المستحيل أن يتبع طريق المفسدين وينهج نهجهم الفاسد؟

نقول في الجواب : إنّ هذا ـ في الحقيقة ـ نوع من التوكيد لإلفات نظر أخيه

__________________

(١) تفسير البرهان ، المجلد الثّاني ، الصفحة ٣٣ ـ نور الثقلين ، المجلد الثّاني ، الصفحة ٦١.

١٩٥

إلى أهمية مكانته في بني إسرائيل. ولعله أراد بهذا الموضوع أن يوضح لبني إسرائيل ويفهمهم أن عليهم أن يمتثلوا لتعاليم هارون ونصائحه ومواعظه الحكيمة ، ولا يستثقلوا أوامره ونواهيه ، ولا يعتبروا تلك الأوامر والنواهي وكذلك قيادة هارون لهم دليلا على قصرهم وصغرهم بل يفعلون كما يفعل هارون حيث كان رغم منزلته البارزة ومقام نبوته تابعا ومطيعا لنصائح موسىعليه‌السلام .

٤ ـ ميقات واحد أو مواقيت متعددة؟

السؤال الرّابع الذي يطرح نفسه هنا ، هو : هل ذهب موسى إلى ميقات ربّه مرّة واحدة ، وهي هذه الأربعون يوما ، وتلقى أحكام التوراة وشريعته السماوية عن طريق الوحي في هذه الأربعين يوما ، كما اصطحب معه جماعة من شخصيات بني إسرائيل معه كممثلين عن قومه ، ليشهدوا نزول أحكام التوراة عليه ، وليفهمهم أن الله لا يدرك بالأبصار أبدا ، في هذه الأربعين يوما نفسها؟

أم أنّه كانت له مع الله أربعينات متعددة ، أحدها لأخذ الأحكام ، وفي الأخرى اصطحب كبار قومه ، وله ـ احتمالا ـ أربعون ثالثة لمقاصد ومآرب أخرى غير هذه ، (كما يستفاد من سفر الخروج من التوراة الفعلية الفصل ١٩ إلى ٢٤).

وهنا أيضا وقع كلام بين المفسّرين ، ولكن الذي يبدو أنّه أقرب إلى الذهن ـ بملاحظة الآية المبحوثة والآيات السابقة عليها واللاحقة لها ـ أن جميع هذه الأمور ترتبط بحادثة واحدة لا متعددة ، لأنّه بغض النظر عن أن عبارة الآية اللاحقة( وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا ) تناسب تماما وحدة هاتين القصّتين ، فإنّ الآية (١٤٥) من نفس هذه السورة تفيد ـ بجلاء ـ أن قصّة ألواح التوراة ، واستلام أحكام هذه الشريعة قد تمّت جميعها في نفس هذا السفر أيضا.

١٩٦

٥ ـ حديث المنزلة

أشار كثير من المفسّرين الشيعة والسنة ـ في ذيل الآية المبحوثة ـ إلى حديث «المنزلة» المعروف ، بفارق واحد هو : أنّ الشيعة اعتبروا هذا الحديث من الأدلة الحيّة والصريحة على خلافة عليعليه‌السلام لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة وبلا فصل.

ولكي يتّضح هذا البحث ندرج هنا أوّلا أسانيد ونص هذا الحديث باختصار ، ثمّ نبحث في دلالته ، ثمّ نتكلم حول الحملات التي وجهها بعض المفسّرين إلى الشيعة.

أسانيد حديث المنزلة :

١ ـ روى جمع كبير من صحابة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حول غزوة تبوك : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج إلى تبوك واستخلف عليا فقال : أتخلفني في الصبيان والنساء؟قال : «ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه ليس نبيّ بعدي».

وهذا النص ورد في أوثق الكتب الحديثية لدى أهل السنّة ، يعني صحيح البخاري وعن سعد بن أبي وقاص.(١)

وقد روى هذا الحديث ـ أيضا ـ في صحيح مسلم الذي يعدّ من المصادر الرئيسية عن أهل السنّة ، في باب «فضائل الصحابة» عن سعد أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعليعليه‌السلام : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي»(٢) .

في هذا الحديث الذي نقله صحيح مسلم أعلن عن الموضوع بصورة كليّة ، ولم يرد فيه ذكر عن غزوة تبوك.

وهكذا نقل حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا في سياق ذكر غزوة تبوك بعد ذكر الحديث بصورة كلّية ، بصورة مستقلة كما جاء في صحيح البخاري.

__________________

(١) صحيح البخاري ، الجزء السّادس ، الصفحة ٣ ، طبعة دار إحياء التراث العربي.

(٢) صحيح مسلم ، المجلد الرّابع ، الصفحة ١٨٧ ، طبعة دار إحياء التراث العربي.

١٩٧

وقد ورد عين هذا الموضوع في سنن ابن ماجه أيضا(١) .

وقد أضيف في سنن الترمذي مطلب آخر ، وهو أنّ معاوية قال لسعد ذات يوم : ما يمنعك أن تسبّ أبا تراب؟! قال : أمّا ما ذكرت ثلاثا قالهنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلن أسبّه ، لئن تكون لي واحدة منهن أحبّ إليّ من حمر النعم. ثمّ عدد الأمور الثلاثة فكان أحدها ما قاله رسول الله لعلي في تبوك وهوقوله : «أمّا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبوة بعدي»(٢) .

وقد أشير إلى هذا الحديث في عشرة موارد من مسند أحمد بن حنبل ، تارة ذكرت فيه غزوة تبوك ، وتارة من دون ذكر غزوة تبوك بل بصورة كلّية(٣) .

وقد روي في أحد هذه المواضع أنّه أتى ابن عباس ـ بينما هو جالس ـ تسعة رهط ، فقالوا : يا ابن عباس ، إمّا أن تقوم معنا ، وإمّا أن تخلونا هؤلاء ، فقال ابن عباس : بل أقوم معكم (إلى أن قال) وخرج بالناس (أي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) في غزوة تبوك ثمّ نقل كلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليعليه‌السلام وأضاف : «إنّه لا ينبغي أن أذهب إلّا وأنت خليفتي»(٤) .

وجاء نفس هذا الحديث في «خصائص النسائي»(٥) وهكذا في مستدرك الحاكم(٦) ، وفي تاريخ الخلفاء للسيوطي(٧) وفي الصواعق المحرقة لابن حجر(٨)

__________________

(١) المجلد الأوّل ، الصفحة ٤٣ ، طبعة دار إحياء الكتب العربية.

(٢) المجلد الخامس ، الصفحة ٦٣٨ ، طبعة المكتبة الإسلامية لصاحبها الحاج رياض الشيخ.

(٣) مسند أحمد بن حنبل ، المجلد الأول ، الصفحة ١٧٣ و ١٧٥ و ١٧٧ و ١٧٩ و ١٨٣ و ١٨٥ و ٢٣١ ، والمجلد السّادس ، الصفحة ٣٦٩ و ٤٣٨.

(٤) مسند أحمد ، المجلد الأوّل ، الصفحة ٢٣١.

(٥) خصائص النسائي ، ص ٤ و ١٤.

(٦) المجلد الثالث ، الصفحة ١٠٨ و ١٠٩.

(٧) المجلد الأوّل ، الصفحة ٦٥.

(٨) الصفحة ١٧٧.

١٩٨

وسيرة ابن هشام(١) والسيرة الحلبية(٢) وكتب كثيرة أخرى.

ونحن نعلم أن هذه الكتب من الكتب المعروفة ، والمصادر الأولى لأهل السنة.

والجدير بالذكر أن هذا الحديث لم يروه «سعد بن أبي وقاص» عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحده ، بل رواه ـ أيضا ـ مجموعة كبيرة من الصحابة الذين يتجاوز عددهم عشرين شخصا منهم : «جابر بن عبد الله» و «أبو سعيد الخدري» و «أسماء بنت عميس» و «ابن عباس» و «أم سلمة» و «عبد الله بن مسعود» و «أنس بن مالك» و «زيد بن أرقم» و «أبو أيوب» والأجدر بالذكر أنّ هذا الحديث رواه عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «معاوية بن أبي سفيان» و «عمر بن الخطاب» أيضا.

وينقل «محب الدين الطبري» في «ذخائر العقبى» أنّه جاء رجل إلى معاوية فسأله عن مسألة فقال : سل عنها علي بن أبي طالب فهو أعلم. قال : يا أمير المؤمنين (ويقصد به معاوية) جوابك فيها أحبّ إليّ من جواب عليّ.

قال : بئسما قلت ، لقد كرهت رجلا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يغره بالعلم غرا ، وقد قال له : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي ، وكان عمر إذا أشكل عليه أخذ منه(٣) .

وروى أبو بكر البغدادي في «تأريخ بغداد» بسنده عن عمر بن الخطّاب أنّه رأى رجلا يسبّ عليّاعليه‌السلام فقال : إنّي أظنّك منافقا ، سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إنّما عليّ منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلّا أنّه لا نبي بعدي»(٤) .

__________________

(١) السيرة النبوية ، المجلد الثّالث ، الصفحة ١٦٣ طبعة مصر.

(٢) السيرة الحلبية ، المجلد الثّالث ، الصفحة ١٥١ طبعة مصر.

(٣) ذخائر العقبى ، الصفحة ٧٩ ، طبعة مكتبة القدس ، الصواعق المحرقة ، ص ١٧٧ ، طبعة مكتبة القاهرة.

(٤) تاريخ بغداد ، المجلد السابع ، الصفحة ٤٥٢ طبعة السعادة.

١٩٩

حديث المنزلة في سبعة مواضع :

النقطة الأخرى ، إنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وخلافا لما يتصّوره البعض ـ لم يقل هذا البحث في عليعليه‌السلام في غروة تبوك فقط ، بل قال هذه العبارة في عدّة مواضع منها : ١ ـ في المؤاخاة الأولى : يعني في المرّة الأولى التي آخى فيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المهاجرين واختار عليّاعليه‌السلام في هذه المؤاخاة لنفسه وقال : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي»(١) .

٢ ـ في يوم المؤاخاة الثّانية : وكانت في المدينة بعد الهجرة بخمسة أشهر ، حيث آخى بين المهاجرين والأنصار ، واصطفى لنفسه منهم عليّا واتخذه من دونهم أخاه ، وقال له : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي وأنت أخي ووارثي»(٢) .

٣ ـ أم سليم ـ التي كانت على جانب من الفضل والعقل ، وكانت تعدّ من أهل السوابق ، وهي من الدعاة إلى الإسلام ، واستشهد أبوها وأخوها بين يدي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفارقت زوجها لأنّه أبى أن يعتنق الإسلام ، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يزورها في بيتها بين الحين والآخر ويسلّيها ـ تروي أم سليم هذه أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لها ذات يوم : «إنّ عليّا لحمه من لحمي ودمه من دمي ، وهو منّي بمنزلة هارون من موسى»(٣) .

٤ ـ قال ابن عباس : سمعت عمر بن الخطاب يقول : كفّوا عن ذكر علي بن أبي طالب فقد رأيت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه خصالا لئن تكون لي واحدة منهن في آل الخطّاب أحبّ إلى ممّا طلعت عليه الشمس ، كنت أنا وأبو بكر وأبو عبيدة في نفر من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانتهينا إلى باب أمّ سلمة وعلي

__________________

(١) كنز العمال ، الحديث ٩١٨ ، المجلد الخامس ، الصفحة ٤٠ ، والمجلد السّادس ، الصفحة ٣٩٠.

(٢) منتخب كنز العمال ، (في حاشية مسند أحمد) ، المجلد الخامس ، من مسند أحمد ، الصفحة ٣١.

(٣) كنز العمال ، المجلد السّادس ، الصفحة ١٦٤.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

مشاهد غريبة ورهيبة بين المسلمين ، فقد شوهدت جثث بعض المسلمين بلا رؤوس وهو اقل ما جرىٰ علىٰ المسلمين ، وكانت وجوه بعض المسلمين ، تثقبت مثل الغربال من الجراح والنبال التي اصابتهم ، فكانوا يلقون بأنفسهم من أعلىٰ الحصار والحصن الىٰ اسفله ، فيبقىٰ بعضهم علىٰ جراحه حتىٰ يلقون به في النار فيما ميادين مدينة القدس مليئة ، بأكوام من الرؤوس والايدي والارجل المقطعة ، حيث يعبر المسيحيين من فوقها ، وجميع ذلك جانب صغير من مجازر المسيحيين في القدس ».

ويضيف أحد القساوسة المسيح فيقول :

« قتل عشرة آلاف شخص من المسلمين كانوا قد التجأوا في احد المساجد ، وفي احد المعابد القديمة ، كان الدم بحدّ ، بحيث كانت جثث القتلىٰ المقطعة والموزعة الىٰ ايدي وارجل ورؤوس تسبح في بركة كبيرة ، لا يمكن تشخيص جثة سالمة واحدة منها ، حتىٰ ان الجنود الاوروبيين الجناة الذين قاموا بتلك المجزرة كانوا يهربون من بخار الدم الذي ملأ فضاء المعبد.

يقول الدكتور غوستاف لوبون :

« بعد جميع تلك المجازر التي ارتكبها الصليبيين ، كانوا يقومون بأعمال لمجرد التسلية ، شنيعة وقبيحة بحدّ ، جعل المؤرخين النصارىٰ ورغم دفاعهم عن الصليبيين ، يغضبون وينفرون من تلك الاعمال المخجلة ، فيصفون اتباع دينهم بأوصاف شديدة جداً ، علىٰ سبيل المثال ، يصفهم

٢٤١

برنارد(1) بأنهم مجانين ، ويشبههم بافدين(2) بالحيوانات التي تسبح في بولها وغائطها » وفي وصفه لمجازر المسيحيين ضد المسلمين في الاندلس ( اسبانيا ).

يقول الدكتور لوبون :

« كانت نهاية مما قام به القادة المسيحيين الاوروبيين الذي لم يكن لهم هدف سوىٰ جمع المال والثروة ، بتدمير تلك البلاد ( الاندلس ) بسرعة عجيبة ، بعد ان كانت عامرة في ظل حكم العرب والمسلمين العقلاء.

وقد بلغت قسوة المسيحيين في الاندلس حدّاً انهم كانوا يحرقون المسلمين ، بل وصل الامر الىٰ حدّ اصدر فيه اسقف طليطلة(3) الكبير والذي كان رئيساً للمحكمة المقدسة(4) أيضاً ، حكماً بقتل جميع العرب رجالاً ونساءً واطفالاً ».

أيُّها السادة المحترمون !

كانت تلك نماذج من معاملة المسيحيين الاوروبيين للمسلمين عندما سيطروا علىٰ بلاد المسلمين !

________________

(1) Birnard

(2) Bavdin

(3) من أهم محافظات الاندلس ( اسبانيا ).

(4) محاكم اقامها القساوسة للتحقيق في عقائد الاشخاص ، وكل من يثبت انه مسلم تصدر بحقه اشد العقوبات.

٢٤٢

لقد عاملهم المسلمون برجولة وشهامة عندما فتحوا بلدانهم ، وهو من مفاخر التاريخ العسكري والحربي الانساني ولم يشاهد مثله في اي نقطة من العالم ، لكنه عندما دارت الايام وانتصر الاوروبيون علىٰ المسلمين ، بدأوا بمجازرهم الوحشية التي لا مثيل لها في تاريخ البشرية حسب تعابير مؤرّخيهم.

٢٤٣

اواني الذهب والفضة

الدكتور : سيادة العقيد ، تسمح لنا الآن ، بان نشبع بطوننا الفارغة ، ببعض الاكل ؟

العقيد : مستعد ، ولكن ما الذي سنأكل ؟

الدكتور : جميع الاصدقاء مدعون للغداء معي ، لأن مضيفي البارحة اعدّ لغدائي اليوم قدراً كبيراً من الرز ، ووضع فوق الرز دجاجة كبيرة مشويّة ، وهو كاف لجميعنا.

الطالب الجامعي حسن : دكتور ، اخاف ان يكون الرز والدجاج مثل الحلويات والفاكهة التي اعدها مضيفك لك من قبل ، فضحك الجميع لذلك.

الدكتور ، وبعد ضحكة طويلة ، قال : هذه المرّة اطمئن اصدقائي الىٰ انني سأقدم لهم وجبة اكل جيدة ، ثم نهض الدكتور وفتح حقيبته فأخرج صموناً وملاعقاً ورفع غطاء القدر وبدأ بتقسيم الأكل ، ومن المصادفة كانت بعض اواني الدكتور من الفضة ، فأنتبه الشيخ الىٰ ذلك ، وخاطب الدكتور معترضاً :

سعادة الدكتور ، ارجوا ان لا تستخدم الاواني الفضية ، لأن استعمال الذهب والفضة غير جائز في الاسلام ، كبيعها وشراءها.

الدكتور : ايها الشيخ ، هل لك ان تحدثنا بشكل موجز عن فلسفة ذلك

٢٤٤

التحريم.

الشيخ : اتصوّر ان قليل من التأمّل يوضح فلسفة حرمتها ، لأن الذهب والفضة ثمن وليستا مثمنتان ، اي انها ليست كالاثاث والملابس وسائر ادواة الحياة ، فالذهب والفضة هما محور العجلة الاقتصادية في جميع العالم وعلىٰ امتداد التاريخ ، لذلك لا يسمح الاسلام بأحتكار مثل هذان الشيئان القيمان اللذان تحدد قيمة العديد من الاشياء الاخرىٰ على اساسها ، او ان يوضعا علىٰ رفوف ، فهذه الثروة تعتبر الاسلام في اقتصاد العالم وليس من الصحيح تعطيلها وخزنها في بيت غني مغرور ، في حين انه لو استخدمت بشكل صحيح في المجالات الاقتصادية ، نتاج مجالات عمل لملايين الاشخاص ، وتنجوا الآف العوائل من الفقر والضياع.

سعادة الدكتور ! وكانت في هذا البلد حكومة اسلامية قوية وحقيقية ، وقامت بأخراج تلك الاواني الذهبية والفضية من رفوف الاغنياء علىٰ الرغم منهم ، ووظفتها في السوق الاقتصادية العالمية ، ألا سيكون بأمكانها انشاء عشرات المصانع والمعامل داخل البلاد ، وتسدّ حاجة البلاد الىٰ الكثير من الواردات التي تنهال علينا من الغرب ، وفي نفس الوقت نتاج فرص العمل لآلاف الاشخاص العاطلين وبالنتيجة ستحصل مئات العوائل علىٰ مستوىٰ جيد من الرفاه ؟

أليس من المخجل في بلاد يعيش اكثر من نصفها الفقر والحرمان واغلب قراها لا تحصل علىٰ قدح واحد من ماء الشرب الصحي ، في حين ثروتها من الذهب والفضة مكدسة علىٰ شكل كؤوس واواني في بيوت الاغنياء ، يضعونها للفخر والتباهي وتكون وسيلة للعمالة والتبعية ، فلماذا لا يحرم الذهب

٢٤٥

والفضة ؟ ولماذا يحلل بيعهما وشراءهما فالذهب والفضة اكثر قيمة من الاوراق النقدية ، لأن قيمة الورقة النقدية تحدد علىٰ ضوءهما ، لانهما يوفران الدعم لها. فلو قام أحد الاغنياء بتكديس اوراقه النقدية علىٰ رفوف بيته ليفتخر بها امام ضيوفه وتكون وسيلة لعمالته ، ألا يقال ان هذا الرجل اصيب بجنون مالي ؟! اي انه حيوان مغرور ابعدته الثروة عن كل فضيلة انسانية ، فهل نتوقع من نظام لا يقبل بالتمايز اساساً ان يبقىٰ متفرجاً دون عمل مقابل تلك الاعمال الدنيئة ؟!

الاصدقاء جميعهم : كلامك صحيح ومنطقي تماماً ، ولو اجري هذا القانون الاسلامي ، لكان خطوة اقتصادية كبيرة ولوجدت آلاف الاسر المحرومة ، الحدّ الادنىٰ من متطلبات حياتها ولتخلصت من الفقر والاضطراب ، وعلىٰ اثر ذلك ، اعاد الدكتور الاواني الفضية الىٰ حقيبته ، وجلسوا يأكلون علىٰ مائدة اسلامية وبسيطة كالاخوة ، وبعد قليل من الراحة ، تابعوا حديثهم.

غاليلو يُكفّر

يعتبر غاليلو(1) من كبار علماء ايطاليا ، الذين قالوا بحركة الارض متبعاً بذلك نظرية كربونيك(2) ، لكنه وبعد ان أظهر رأيه ذلك ، صار هدفاً للّعن وشتائهم مختلف الفئات الاوروبية ، خاصة مسؤولي الكنيسة ، فأضطر ومن اجل

________________

(1) Galilee

(2) Copirnec

٢٤٦

الحفاظ علىٰ حياته ، ان يتوب مما قال في مجلس رسمي حضره البابا شخصياً ، ويعترف ان كلامه كان خلافاً للحقيقة !!

نص توبة غاليلو

وكان نص توبة غاليلو ، كالتالي :

« أنا غاليلو وفي السبعين من عمري ، اركع امام حضراتكم مخاطباً البابا والقساوسة ـ وفي حين امثل امام الكتاب المقدس ـ الانجيل ـ وألمسه بيدي ، اتوب وانكر واستنفر دعوتي الباطلة في حركة الارض »(1) .

ساعة المسلمين

في العصر الذي لم يكن في جميع انحاء العالم وجود يذكر للعلم والحضارة ، ظهر اول نتاج صناعي كبير علىٰ يد المسلمين في خلافة هارون الرشيد ، وكان ذلك صناعة الساعة. وقد اهدىٰ هارون الرشيد واحدة منها الىٰ شارلمان(2) ملك فرنسا ، وكما يقول احد كبار المؤرخين الاوروبيين ، عندما وصلت الساعة الىٰ شارلمان لم يكن في فرنسا كلها من يعرف كيف تعمل تلك الساعة.

ويضيف ذلك المؤرخ : عندما نصبوا تلك الساعة التي كان لها جرس

________________

(1) تاريخ العلوم.

(2) Charlrimagne

٢٤٧

أيضاً أعلىٰ القصر الملكي وارتفع صوت جرسها لأول مرة ، رأىٰ افراد البلاد فجأة أن اهالي باريس متّجهون نحو القصر وهم يحملون العصي والفؤوس ، فأرسل الملك مجموعة لمعرفة سبب هجومهم ، فقال لهم الباريسيون : لا نريد ان نتعرض للملك ، بل نريد تحيطم تلك الساعة ، فمنذ زمن طويل والقساوسة يحدثنوننا عن شيطان يغوينا ويدفعنا الىٰ عمل السوء ، والآن علمنا ان ذلك الشيطان موجود في تلك الساعة ، لأنه اذا لم يكن فيها شيطان ، لما خرج منها ذلك الصوت الموحش ( صوت الجرس ) ، لأن الساعة جماد ولا تستطيع بنفسها ان تخرج صوتاً ، لذلك جئنا بعصينا وفؤوسنا لنقتل ذلك الشيطان ونخلص البشرية من وجوده وشروره !!!

ويقول الدكتور غوستاف لوبون في هذا الصدد :

« كان هارون الرشيد قد ارسل هدايا كثيرة لشارلمان ملك فرنسا وامبراطور الغرب بواسطة سفرائه ، ومن اهم تلك الهدايا كانت الساعة التي يدق جرسها رأس كل ساعة ، وما ان شاهدها شارلمان وحاشيته شبه المتوحشة حتىٰ دهشوا واصبحوا في حيرة من أمرهم ، ولم يكن في فرنسا أحد يعرف كيف تعمل الساعة.

المسلمون مؤسسوا حضارة

التفت العقيد الىٰ الشيخ وقال : كلامك حول اواني الذهب والفضة مقنع تماماً ، إلّا انّ ما يبعث علىٰ التعجب ، هو انه رغم التطور العلمي في العالم الاوروبي الذي يجعلهم في مقام ومنزلة معلمي البشرية ، ورغم ان اعمالهم

٢٤٨

تعتبر قطعياً بالنسبة لنا ، الّا ان استخدام اواني الذهب والفضة شائعة هناك ، فهل يمكن انهم لم يلتفوا الىٰ ما اشرتم اليه رغم اهتمامهم بالمسائل الاقتصادية ؟!

الشيخ : سيادة العقيد ، اتصور انه لا معنىٰ لتعجبك واستغرابك ، فهل نزل الاوروبيون من السماء فيما خرجنا نحن من الارض ؟! لماذا نستصغر انفسنا الىٰ هذا الحدّ امامهم ؟ ولماذا لا نرىٰ أية قيمة لأنفسنا وافكارنا امام الاوروبيون ؟!

اصدقائي الاعزاء !

أليس عجيباً ان تستصغر اُمّة عظيمة لها تاريخ عريق وحضارة كبيرة نفسها أمام اُناس كانوا حتىٰ الامس القريب يعدون من المتوحشين الذين يسكنون الجزر ، للحد الذي نعد كل ما يصدر منهم من اعمال وحشية سنداً قاطعاً فيما ندوس علىٰ افكارنا امامهم !

واليكم ما يقوله احد كتابنا الكبار في نقده لروح التقليد من الغرب التي تشاهد في بلادنا :

« نحن لم نخرج الىٰ العالم من تحت الصخور الصماء ونتعلم اللبس من هذا وذاك ، ولم نكن مجاميع مشتتة ليس لها تاريخ(1) نسير اينما اخذتنا الرياح ، ولم تكن لنا فكره القردة(2) حتىٰ نقلد الآخرين دون تفكير ، فجمال العالم يأتي من الذوق السليم والطبيعة اللطيفة ، لرسامينا وفنانينا ومزارعينا وفخارينا

________________

(1) كناية عن الشعب الامريكي.

(2) اشارة الىٰ الشعب الانجليزي ونظرية دارون.

٢٤٩

ونجارينا وحائكينا ومعمارينا ومهندسينا و وهذه متاحف الدنيا من لندن وباريس وبرلين حتىٰ موسكو وفينا وروما وغيرهن من مدن الدنيا مليئة بالقديم والبالي من قطيفة كاشان والاعمال اليدوية من اصفهان والازار والآذربيجاني والجيلاني والخمار اللرَّي و من الاعمال التي يزيد عددها علىٰ عدد الرمال ويعجز عن فهمها الجهّال ، تلك الآثار الخالدة التي عجز العالم المادي الذي سخر اعماق البحار والفضاء علىٰ ان يأتي بمثلها من تناسق الوانها وتناسب اشكالها وجمالها ، وهي من صنع التاريخ الايراني وسائر الشعوب الشرقية ».

اصدقائي الاعزاء !

أقول وأنا متأكد مما ادعيه : ان مصدر العديد من الآثار الحضارية السليمة في اوروبا وامريكا هم المسلمين ، فالحضارة الاسلامية هي التي ادخلت الاوروبيين المتوحشين الى المجتمع المحتضر ، كما ان العلاقة مع المسلمين هي التي عملتهم الادب والاخلاق بعد ان كانوا بعيدين كل البعد عنها ، ففي حين كان الاوروبيون يفخرون بجهلم ويغطون فيه ، كان للمسلمين جامعات ومراكز علمية في بلدانهم ، وعندما لم يكن في اوروبا حتىٰ مكتبة واحدة ، كان المسلمين اصحاب اكبر المراكز العلمية والثقافية في العالم ، وفي تلك الفترة التي كانت اوروبا تتهم علمائها بالجنون وتحاكمهم علىٰ يد قساوستها وتعلقهم على المشانق بتهمة الكفر ، كان المسلمون يمدون البشرية ، بأكبر العلماء والفلاسفة ، ممن يعدون معلمي البشرية حتىٰ يومنا هذا ، البلاط

٢٥٠

شخص يعرف كيف صنعت تلك الساعة »(1) .

ويقول بيير روسو :

« أرسل هارون الرشيد ساعة ذات جرس الىٰ شارلمان وكانت تلك الساعة تعمل اتوماتيكياً ، فكان الاوروبيون يعدونها ثامن اعجوبة في العالم »(2) .

ظلم الامريكيين

أيُّها السادة المحترمون ! انتبهوا بدقة الىٰ هذه القصة ، لكي تطلعوا علىٰ مدىٰ ظلم الشعب الاميركي النجيب ! والشريف ! والمحتضر ! ولتعلموا كيف يستفيد هذا الشعب النبيل من جهل بعض المسلمين وعدم اطلاعهم ، لينسبوا اعمال الآخرين الىٰ انفسهم ، خلاصة القصة ، هو انني كنت في عيادة احد الاطباء قبل فترة في قم ، وكانت في عيادته مجموعة مجلات منها مجلة بأسم اخبار الاسبوع الامريكية والتي تصدر اسبوعياً في طهران عن الجالية الامريكية ، فتناولتها لاقضي الوقت بتصفحها ، وفجأة جلبت انتباهي صورة ساعة كبيرة يقف رجل الىٰ جانبها ، واسفلها هذا الخبر : « اول ساعة في العالم صنعت علىٰ يد راهب فرنسي يدعى جربرت سنة 990 ميلادية ، حيث اصبح ذلك الراهب فيما بعد بابا سيلوستر ، ومع ان تلك الساعة لم تكن دقيقة ، إلّا أنّها كانت افضل من الساعات اللاتي سبقتها ، وكان ذلك تطوراً مهماً في صناعة

________________

(1) حضارة الاسلام والعرب.

(2) تاريخ العلوم.

٢٥١

الساعات في ذلك العصر ».

اصدقائي الاعزاء !

وكما تلاحظون في الخبر الذي نقلته لكم ، لقد نسب الاميركيون النجباء !! صناعة أوّل ساعة في العالم الىٰ راهب فرنسي ، ولكن وكما يقول المثل « الكذاب كثير النسيان » ولكي يتّضح ظلمهم على ايديهم ، نلاحظ في آخر الخبر العبارة التالية « ومع ان تلك الساعة لم تكن دقيقة ، إلّا انها كانت افضل من الساعات اللاتي سبقتها » افلا يوجد من يقول لهؤلاء الامريكيين النجباء ! ايها المخادعون لماذا كل هذا التناقض ، فإذا كانت هناك ساعات صنعت قبل ساعة الراهب الفرنسي ، فماذا يعني ان ساعة الراهب أول ساعة في التاريخ ؟!

علىٰ المسلمين ان ينتبهوا

سيادة العقيد ، لقب « معلمي واساتذه البشرية » يجب ان يعطى للمسلمين ، الذين اخرجوا الاوروبيين المتوحشين من همجيتهم ووضعوهم في صف ابناء البشر ، وعلموهم الاخلاق والفضيلة ، فكل ما لدىٰ اوروبا من علم واخلاق منشأه المجتمع الاسلامي ، واستطيع ان ادعي بملء فمي انك اين ما وجدت قانوناً ذا فائدة في اوروبا أو امريكا في المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والاجتماعية و ستجد النموذج الاكمل له في الاسلام وسأثبت لكم انهم اخذوه عن المسلمين واقتبسوه منهم.

٢٥٢

ولكي لا يتصور اصدقائي ان كلامي هو بدافع التعصب الديني ، أو هو نوع من الاسترسال والمبالغة ، سأضطر لنقل كلام احد كبار علماء اوروبا فيما يتعلق بفضل المسلمين علىٰ الاوروبيين في مجال التربية ، ومدىٰ تأثير الحضارة الاسلامية في الغرب ، ولكي تتضح حالة الشعوب الاوروبية قبل ارتباطها بالمسلمين وبعده ، والكتب والعلوم التي اخذوها من المسلمين.

فليقرأ المتيّمون بحضارة اوروبا وامريكا

يقول السيد ليبر(1) وهو من أشهر علماء اوروبا ، لو لم يكن للمسلمين وجود في التاريخ ، لتأخرت النهضة العلمية في اوروبا عدة قرون اُخرىٰ.

ويقول الدكتور غوستاف لوبون :

« في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين ، أي في الفترة التي كانت الحضارة الاسلامية في اوروبا تعيش عصرها الذهبي ، كانت مراكز اوروبا العلمية ، عبارة عن قلاع رديئة متخلفة يعيش فيها اجراءنا نحن الاوروبيون ورعاياهم بحالة شبه وحشية وكان يفتخرون بجهلهم واميتهم ، وكان اعلم من فيهم الرهبان الجهلة الذين كان كل همّهم يصرف في اختيار كتب اليونان والرومان القديمة من بين كتب المكتبات الموجودة في الكنائس فيمسحون كلماتها ويدونون مكانها كلماتهم واورادهم المهملة والبربرية الاوروبية استمرت اكثر مما يجب دون ان يشعروا ، طبعاً ظهرت مشاعر بين الاوروبيين في القرن الحادي عشر ، والقرن الذي يليه خاصة ، ومنذ ان شعر بعضهم

________________

(1) Libre

٢٥٣

بضرورة فك تلك القيود والخروج من ظلمة الجهل ، اتجهوا نحو المسلمين الذين كانوا يفوقونهم وافضل منهم لأقتباس العلم والمعرفة ».

ثم يضيف الدكتور لوبون :

« وفي سنة 1130 تأسست دار للترجمة في مدينة طليطلة برئاسة الاسقف الكبير رايموند ، وبدأوا بترجمة كتب اشهر العلماء المسلمين من العربية الىٰ اللاتينية ، ونجحت تلك الترجمات في تنوير أفكار الاوروبيين وفتح عيونهم علىٰ عالم جديد ، ولم تقتصر تلك الترجمة علىٰ كتب أمثال محمد بن زكريا الرازي والتباسيس وابن سينا وابن رشد الاندلسي من علماء الاسلام ، بل ترجمة أيضاً مصنفات جالينوس وديمقراطيس وافلاطون وارسطو واقليدس وارخميدس وبطليميوس التي كان المسلمون قد ترجموها من اللاتينية الىٰ العربية من قبل ».

اعتراف غريب للدكتور ليكليرك(1)

بعد ان يذكر الدكتور ليكليرك في كتابه تاريخ الطب اسم اكثر من ثلاثمائة كتاب مشهور ترجم من العربية الىٰ اللاتينية ، يقول :

« المعلومات التي حصلنا عليها من علوم اليونان في فترة القرون الوسطىٰ كانت بواسطة هذه الترجمات العربية ، وببركة هذه الترجمات استطعنا الحصول علىٰ تصانيف اليونان القديمة ، في حين ان رهباننا كانوا لا يعرفون حتىٰ اسم اليونان ، لذلك علىٰ جميع العالم ان يعترف بالجميل الذي قام به

________________

1 ـ Liclerc

٢٥٤

المسلمون في الحفاظ علىٰ هذه الكنوز الثمينة وعلىٰ الخدمة الجليلة التي قدموها للمعرفة.

ويضيف أيضاً الدكتور لوبون بعد شرح مفصل لتأثير الحضارة الاسلامية في الغرب ، فيقول :

« إذا ثبت انه في القرن الميلادي العاشر ، لم يكن في اوروبا علىٰ سعتها سوىٰ الاندلس ( مركز حكومة المسلمين في اوروبا ) مركزاً للعلوم والمعرفة ، وفي ذلك العصر لم تكن هناك دولة ( ماعدا الدول الاسلامية في آسيا وافريقيا ) في القسم الغربي من الكرة الارضية غير الاندلس تدرس فيه العلوم والمعارف ، فحتىٰ القسطنطينية لم يكن فيها ذلك ، وكان رجال اوروبا يتجهون نحو الاندلس لتلقي العلوم عند علماء المسلمين ».

ويتكلم الدكتور غوستاف لوبون أيضاً عن مستوىٰ الانحطاط الفكري عند الاوروبيين آنذاك ، فيقول :

« قام غربرت 11 سنة 999 ميلادية بدراسات ، وحاز على مقام الباباوية باسم سيلوستر الثاني ، لكنه عندما اراد نشر علومه في اوروبا ، كان الامر خلافاً للطبيعة عند الاوروبيين بحيث اُتّهم ذلك المسكين بأن الشيطان حلّ في جسده وانه زاغ عن طريق رب المسيح ».

بعض كبار علماء اوروبا من تلامذة العلماء المسلمين

وفي بحث آخر يقول الدكتور غوستاف لوبون :

« حتىٰ القرن الخامس عشر ، كان علماء اوروبا ينظرون الىٰ الكلام الذي

٢٥٥

لم يأخذ عن مصنفي المسلمين ، بأنه غير موثوق ».

ثم يضيف العالم المذكور :

« ويعتبر روجر بايكون(1) وليونارد دوبيس(2) وارنافد فيلنيف(3) ، ورايموند لول(4) ، والقديس ثوماس(5) ، والبرت الكبير(6) ، والفونس العاشر(7) ، جميعهم اما من تلامذة علماء الاسلام أو ناقلين عنهم ».

ويقول السيد رنيان(8) :

« كل ما كان يعرفه البرت الكبير اخذه وتعلمه من ابو علي ابن سينا العالم الاسلامي المعروف ».

كما ان جميع فلسفة القديس توماس مأخوذة عن العالم المسلم ابن رشد الاندلسي ، وكانت كتب المسلمين هي المصادر الوحيدة التي تدرس في جامعاتنا الىٰ ماقبل خمسمائة أو ستمائة سنة ، وكانت علوم المسلمين علىٰ طول تلك الفترة هي محور دراستنا وعلومنا ، وفي بعض الفروع العلمية : مثل

________________

(1) Roger Bacon

(2) Leonard de Pise

(3) Arnavd de Villineuve

(4) Raymond Lulle

(5) Saint Thomas

(6) Albert قسيس وفيلسوف الماني معروف ، كانت افكاره عاملاً في حدوث تغييرات علىٰ الساحة الاوروبية.

(7) Alphonse

(8) Renan

٢٥٦

الطب لا تزال نظريات الاطباء المسلمين باقية ، ففي فرنسا بقيت مصنفات ابن سينا حتىٰ القرن الماضي ( التاسع عشر ) وكتبت عليها شروح وتعليقات ايضاً ، وكانت هيمنة علوم العرب في اوروبا إلى درجة كانوا يرجعون الىٰ مصنفاتهم حتىٰ في العلوم التي لم يكونوا متبحرين فيها ، ومنذ بداية القرن الثالث عشر اصبحت فلسفة العالم المسلم ابن رشد الاندلسي جزءً من المقرر الدراسي في مدارس اوروبا.

وفي سنة 1473 ميلادية حيث اقر الملك لويس الحادي عشر(1) منهجاً دراسياً ، أمر بتدريس مصنفات ابن رشد في الفلسفة ، وفي جامعات ايطاليا ، خاصة جامعة بادو(2) لم يكن نفوذ وهيمنة العلوم الاسلامية اقل من سائر الانحاء ».

________________

(1) Lovis

(2) Padove

٢٥٧

التأثير الاخلاقي للمسلمين في اوروبا

يقول الدكتور غوستاف لوبون :

« لقد تحدثنا فيما سبق عن اخلاق امراء ونبلاء النصارىٰ والاوروبيين ، وفي المقابل ماكان للمسلمين من صفات مميزة ، واثبتنا ان اسلافنا نحن الاوروبيين تركوا بربريتهم بعد ما عاشروا المسلمين وخالطوهم ، والمسلمون هو الذين علموا الشعوب الاوروبية اعطاء قيمة للأخلاق ووظائفة مثل الشفقة والعطف علىٰ الزوجة والاولاد والوفاء للعهد والالتزام بالقسم وامثالهم ، وقد اثبتت الشعوب الاوروبية في الحروب الصليبية انها مختلفة في الفضائل الانسانية فراسخ عن المسلمين ».

وفي كتابه القرآن ، يقول السيد بارثيلمي القديس هيلر(1) :

« لقد صلحت اخلاق امراءنا واشرافنا نحن الاوروبيون وكذلك عاداتهم الرديئة ، نتيجة لمعاشرتهم للعرب وتقليدهم عن المسلمين في القرون الوسطىٰ ، لقد تعلم الاوروبيون من المسلمين الصفات الحميدة التي تمتلكها الشعوب الحيّة ، وللحضارة الاسلامية تأثير محير للعقول علىٰ جميع العالم ، وبذلك ادخلت الشعوب الاوروبية المتوحشة الىٰ دائرة المدنية ، وكان تأثير ونفوذ المسلمين العقلي في العلوم والفنون والفلسفة واضحاً حيث كان الاوروبيون آنذاك جاهلون بها تماماً ، ولقد بقي المسلمون علىٰ مدىٰ ستمائة

________________

(1) Renaissance

٢٥٨

سنة اساتذة لنا نحن الاوروبيين ».

وفي بحث للدكتور غوستاف لوبون حول ، فيما لو كان المسلمون قد سيطروا علىٰ جميع اوروبا ؟ ويقول :

« من مشاهدة الاندلس يمكن معرفة ما كان سيحدث لو كان المسلمون قد سيطروا علىٰ كل اوروبا ، لأنه عندما نشاهد الاندلس ( مركز حكومة المسلمين في اوروبا ) في ذروة رقيها ، وتحضرها تحت سلطة المسلمين في الوقت الذي كانت فيه اوروبا متوحشة جميعها ، يمكن القول ، لو كان المسلمون قد سيطروا علىٰ كل اوروبا ، لاستفادة الشعوب الاوروبية كثيراً من حكمهم ولم يكن ينلهم اي ضرر أو خسارة من ذلك ، ولعدلت الرحمة والشفقة الموجودة في الاسلام خشونة الشعوب الاوروبية ، ولخلّصتهم من الدماء والمجازر وظلم محاكم التفتيش العقائدي التي ذهبت ضحية احكامها ملايين الاوروبيين ».

ثم يضيف الدكتور المذكور :

« لقد اخرجت الحروب الصليبية هذه اوروبا من خلاقها وعاداتها الرذيلة واطوارها الوحشية ، وهيأت لها الارضية بعد ذلك نقل علوم المسلمين ومعارفهم ومن ثم بسطها في جامعاتها ، وكان ذلك السبب الرئيسي في النهضة الاوروبية »(1) .

وفي آخر كتابه يقول الدكتور لوبون في هذا الصدد :

________________

(1) لمزيد الاطلاع حول نص تلك المعاهدات ، رجع : تاريخ العالم الحديث الاسلام ، تأليف الدكتور لوثروب ستودارد ( الاميركي ).

٢٥٩

« يجب ان نعلم اولاً أنه قلما يوجد قوم في العالم يفوقون اتباع الدين الاسلامي من الزاوية الحضارية ، كما ان التطور الكبير الذي بلغوه في العلوم لم يتسير لغيرهم من الشعوب في مثل تلك الفترة القصيرة ، وقد تمكنوا من ايجاد ديانة كبيرة لا تزال من اكثر ديانات العالم حيوية ، ومن حيث الخصوصيات العقلانية والاخلاقية فيكفي انهم هم الذين ربّوا اوروبا وادخلوها الىٰ دائرة الحضارة ».

اسبانيا في ظل حكم المسلمين

في حديثه عن تأثير الحضارة الاسلامية في اسبانيا وسائر انحاء اوروبا ، يقول الدكتور غوستاف لوبون :

« لقد تقدم العرب كثيراً خاصة في اواخر فتوحاتهم ، وعلىٰ مدىٰ قرن في الاندلس التي كانت مركز حكمهم في اوروبا ، قاموا باحياء الاراضي الموات وشيدوا العمارات واوجدوا شبكة من العلاقات التجارية لهم مع سائر الشعوب والاقوام ، ثم قاموا باشاعة العلم والفنون ، فترجموا الكتب اليونانية واللاتينية واسسوا المراكز العلمية والجامعات التي بقيت يستفيد منها الاوروبيون سنوات ممتدة ، كما ان احد أهم خصوصيات الحضارة الاسلامية ، هو شوقها المفرط للعلوم والفنون ، ولذلك تراهم يؤسسون المراكز العلمية والادبية والمكتبات في اي بقعة يحلّون فيها ، وقد بذلوا جهوداً كبيرة في علوم الهندسة والهيئة والطبيعيات والفيزياء والكيمياء ، وسنشرح فيما بعد التطور والتقدم الذي حصل عليه علماء المسلمين في العلوم والفنون ، وقد نجحوا في القيام باكتشافات مهمة جداً.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606