الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245302 / تحميل: 6213
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

قائم على الباب ، فقلنا : أردنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يخرج إليكم ، فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسرنا إليه ، فاتكأ على علي بن أبي طالب ثمّ ضرب بيده منكبة ثمّ قال : «أنت (يا علي) أوّل المؤمنين إيمانا ، وأوّلهم إسلاما ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى»(١) .

٥ ـ روى النسائي في كتاب «الخصائص» أن عليا وزيدا وجعفر اختصموا في من يكفل ابنة حمزة ، وكان كل واحد منهم يريد أن يكفلها هو دون غيره فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلى : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى»(٢) .

٦ ـ روى جابر بن عبد الله أنّه عند ما أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسدّ جميع أبواب المنازل التي كانت مشرعة إلى المسجد إلّا باب بيت عليعليه‌السلام ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّه يحلّ لك في المسجد ما يحلّ لي ، وإنّك بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبي بعدي»(٣) .

هذه الموارد الستّة النّبي هي غير غزوة تبوك ، أخذناها برمتها من المصادر المعروفة لأهل السنّة ، وإلّا فإن هناك في الرّوايات المرويّة عن طريق الشيعة موارد أخرى قال فيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه العبارة في شأن عليعليه‌السلام أيضا.

من مجموع ذلك يستفاد ـ بوضوح وجلاء ـ أنّ حديث المنزلة لم يكن مختصا بغزوة تبوك ، بل هو أمر عام ودائم في شأن عليعليه‌السلام .

ومن هنا يتّضح أيضا ـ أنّ ما تصوره بعض علماء السنّة مثل «الآمدي» من أن هذا الحديث يتكفل حكما خاصا في مجال خلافة عليعليه‌السلام وأنّه يرتبط بظرف غزوة تبوك خاصّة ، ولا يرتبط بغيره من الظروف والأوقات ، تصوّر باطل أساسا ، لأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كرّر هذه العبارة في مناسبات متنوعة ممّا يفيد أنّه كان حكما عاما.

__________________

(١) كنز العمال ، المجلد السّادس ، الصفحة ٣٩٥.

(٢) خصائص النسائي ، الصفحة ١٩.

(٣) ينابيع المودة ، آخر باب ١٧ ، الصفحة ٨٨ الطبعة الثّانية دار الكتب العراقية.

٢٠١

محتوى حديث المنزلة :

لو درسنا ـ بموضوعية وتجرّد ـ هذا الحديث ، وتجنّبنا الأحكام المسبّقة والتحججات الناشئة من العصبية ، لاستفدنا من هذا الحديث أنّ عليّاعليه‌السلام كان له ـ بموجب هذا الحديث ـ جميع المنازل التي كانت لهارون في بني إسرائيل ـ إلّا النّبوة ـ لأنّ لفظ الحديث عام ، والاستثناء (إلّا أنّه لا نبيّ بعدي) يؤكّد هو الآخر هذه العموميّة ، ولا يوجد أيّ قيد أو شرط في هذا الحديث يخصصه ويقيّده.

وعلى هذا الأساس يمكن أن يستفاد من هذا الحديث الأمور التالية :

١ ـ إنّ الإمام علياعليه‌السلام أفضل الأئمّة بعد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما كان لهارون مثل هذا المقام.

٢ ـ إنّ عليا وزير النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعاونه الخاص وعضده ، وشريكه في قيادته ، لأنّ القرآن أثبت جميع هذه المناصب لهارون عند ما يقول حاكيا عن موسى قوله :( وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي ، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) (١) .

٣ ـ إنّه كان لعليعليه‌السلام ـ مضافا إلى الأخوة الإسلامية العامّة مقام الأخوة الخاصّة والمعنوية للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٤ ـ إنّ عليّاعليه‌السلام كان خليفة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومع وجوده لم يكن أي شخص آخر يصلح لهذا المنصب.

أسئلة حول حديث المنزلة :

لقد أورد بعض المتعصبين إشكالات واعتراضات على هذا الحديث والتمسك به لإثبات خلافة علي لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا فصل.

__________________

(١) سورة طه ، ٢٩ الى ٣٢.

٢٠٢

بعض الإشكالات والاعتراضات واهية جدا إلى درجة لا تصلح للطرح على بساط المناقشة ، بل لا يملك المرء عند السماع بها إلّا إن يتأسف على حال البعض كيف صدّتهم الأحكام المسبقة غير المدروسة عن قبول الحقائق الواضحة؟

أمّا البعض الآخر من الإشكالات القابلة للمناقشة والدراسة فنطرحها على بساط البحث تكميلا لهذه الدراسة : الإشكال الأوّل : إن هذا الحديث يبين ـ فقط ـ حكما خاصا محدودا ، لأنّه ورد في غزوة تبوك ، وذلك عند ما انزعج عليعليه‌السلام من استبقائه في المدينة بين النساء والصبيان ، فسلّاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه العبارة : وعلى هذا الأساس كان المقصود هو : إنّك وحدك الحاكم والقائد لهذه النسوة والصبيان دون غيرك.

وقد اتضح الجواب على هذا الإشكال من الأبحاث السابقة ـ بجلاء ـ وتبيّن أنّه ـ على خلاف تصور المعترضين ـ لم يرد هذا الحديث في واقعة واحدة ، ولم يصدر في واقعة تبوك فقط ، بل صدر في موارد عديدة على أساس كونه يتكفل حكما كليّا ، وقد أشرنا إلى سبعة موارد ومواضع منها مع ذكر أسانيدها من مؤلفات علماء أهل السنة.

هذا مضافا إلى أنّ بقاء عليّعليه‌السلام في المدينة لم يكن أمرا بسيطا يهدف المحافظة على النساء والصبيان فقط ، بل لو كان الهدف هو هذا ، لتيّسر للآخرين القيام به ، وإنّ النّبي لم يكن ليترك بطل جيشه البارز في المدينة لهدف صغير ، وهو يتوجه إلى قتال امبراطورية كبرى (هي إمبراطورية الروم الشرقية).

إنّ من الواضح أنّ الهدف كان هو منع أعداء الرسالة الكثيرين الساكنين في أطراف المدينة والمنافقين القاطنين في نفس المدينة ، الذين كانوا يفكرون في استغلال غيبة النّبي الطويلة لاجتياح المدينة قاعدة الإسلام ، ولهذا عمد رسول

٢٠٣

اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن يخلف في غيبته شخصيّة قويّة يمكنه أن يحفظ هذا المركز الحساس ، ولم تكن هذه الشخصية سوى عليعليه‌السلام .

الإشكال الثّاني : نحن نعلم ـ كما اشتهر في كتب التاريخ أيضا ـ أنّ هارون توفي في عصر موسىعليه‌السلام نفسه ، ولهذا لا يثبت التشبيه بهارون أن عليّاعليه‌السلام خليفة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولعل هذا هو أهم إشكال أورد على هذا البحث والتمسك به ، ولكن جملة «إلّا أنّه لا نبي بعدي» تجيب على هذا الإشكال بوضوح ، لأنّه إذا كان كلام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي يقول : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، خاصا بزمان حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما كانت هناك ضرورة إلى جملة «إلّا أنّه لا نبي بعدي» لأنّه إذا اختص هذا الكلام بزمان حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكان التحدث حول من يأتي بعده غير مناسب أبدا (إذ يكون لهذا الاستثناء ـ كما اصطلح في العربية ـ طابع الاستثناء المنقطع الذي هو خلاف الظاهر).

وعلى هذا الأساس يكشف وجود هذا الاستثناء ـ بجلاء ـ أنّ كلام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ناظر إلى مرحلة ما بعد وفاته ، غاية ما هنالك ولكي لا يلتبس الأمر ، ولا يعتبر أحد عليّاعليه‌السلام نبيّا بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إنّ لك جميع هذه المنازل ولكنّك لن تكون نبيّا بعدي.

فيكون مفهوم كلام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أن لك جميع ما لهارون من المناصب والمنازل ، لا في حياتي فقط ، بل أنّ هذه المنازل تظلّ مستمرة وباقية لك إلّا مقام النّبوة.

وبهذه الطريقة يتّضح أن تشبيه عليعليه‌السلام بهارون ، إنّما هو من حيث المنازل والمناصب ، لا من حيث مدّة استمرار هذه المنازل والمناصب ، ولو أنّ هارون كان يبقى حيا لكان يتمتع بمقام الخلافة لموسى ومقام النّبوة معا.

ومع ملاحظة أنّ هارون كان له ـ حسب صريح القرآن ـ مقام الوزارة

٢٠٤

والمعاونة لموسى ، وكذا مقام الشركة في أمر القيادة (تحت إشراف موسى) كما أنّه كان نبيّا ، تثبت جميع هذه المنازل لعليعليه‌السلام إلّا النّبوة ، حتى بعد وفاة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشهادة عبارة (إلّا أنّه لا نبي بعدي).

الإشكال الثّالث : إنّ الاستدلال بهذا الحديث يستلزم أنّه كان لعليعليه‌السلام منصب الولاية والقيادة حتى في زمن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حين لا يمكن أن يكون هناك إمامان وقائدان في عصر واحد.

ولكن مع الالتفات إلى النقطة التالية يتّضح الجواب على هذا الإشكال أيضا ، وهي أنّ هارون كان له ـ من دون شك ـ مقام قيادة بني إسرائيل حتى في عصر موسىعليه‌السلام ، ولكن لا بقيادة مستقلة ، بل كان قائدا يقوم بممارسة وظائفه تحت إشراف موسى. وقد كان عليعليه‌السلام في زمان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معاونا للنّبي في قيادة الأمّة أيضا ، وعلى هذا الأساس يصير قائدا مستقلا بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وعلى كل حال ، فإنّ حديث المنزلة الذي هو من حيث الأسانيد من أقوى الأحاديث والرّوايات الإسلامية التي وردت في مؤلفات جميع الفرق الإسلامية بلا استثناء ، إنّ هذا الحديث يوضح لأهل الإنصاف من حيث الدلالة أفضلية عليعليه‌السلام على الأمّة جمعاء ، وأيضا خلافته المباشرة (وبلا فصل) بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولكن مع العجب العجاب أنّ البعض لم يكتف برفض دلالة الحديث على الخلافة ، بل قال : إنّه لا يتضمّن ولا يثبت أدنى فضيلة لعليّعليه‌السلام وهذا حقّا أمر محيّر.

* * *

٢٠٥

الآية

( وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣) )

التّفسير

المطالبة برؤية الله :

في هذه الآيات والآيات اللاحقة يشير سبحانه إلى مشهد مثير آخر من مشاهد حياة بني إسرائيل ، وذلك عند ما طلب جماعة من بني إسرائيل من موسىعليه‌السلام ـ بإلحاح وإصرار ـ أن يروا الله سبحانه ، وأنّهم لن يؤمنوا به إذا لم يشاهدوه ، فاختار موسى سبعين رجلا من قومه واصطحبهم معه إلى ميقات ربّه ، وهناك رفع طلبهم إلى الله سبحانه ، فسمع جوابا أوضح لبني إسرائيل كل شيء في هذا الصعيد.

وقد جاء قسم من هذه القصّة في سورة البقرة الآية (٥٥) و (٥٦) ، وقسم آخر

٢٠٦

منه في سورة النساء الآية (١٥٣) ، وقسم ثالث في الآيات المبحوثة هنا في الآية (١٥٥) من هذه السورة.

ففي الآيات الحاضرة يقول أوّلا :( وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ) .

ولكن سرعان ما سمع الجواب من جانب المقام الرّبوبي : كلا ، لن تراني أبدا( قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا ) .(١)

فلمّا رأى موسى هذا المشهد الرهيب تملكه الرعب إلى درجة أنّه سقط على الأرض مغمى عليه( وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً ) .

وعند ما أفاق قال : ربّاه سبحانك ، أنبت إليك ، وأنا أوّل من آمن بك( فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) .

* * *

بحوث

وفي هذه الآية نقاط ينبغي التوقف عندها والالتفات إليها :

١ ـ لماذا طلب موسى رؤية الله؟

إنّ أوّل سؤال يطرح نفسه هنا هو : كيف طلب موسىعليه‌السلام ـ وهو النّبي العظيم ومن أولي العزم ـ رؤية الله وهو يعلم جيدا أن الله ليس بجسم ، وليس له مكان ، ولا هو قابل للمشاهدة والرؤية ، والحال أن مثل هذا الطلب لا يليق حتى بالأفراد العاديّين من الناس؟

__________________

(١) «دك» في الأصل بمعنى سوّى الأرض ، وعلى هذا فالمقصود من عبارة «جعله دكّا» هو أنّه حطم الجبال وسواها كالأرض وجاء في بعض الرّوايات أنّ الجبل تناثر أقساما ، سقط كلّ قسم منه في جانب أو غار في الأرض نهائيا.

٢٠٧

صحيح أنّ المفسّرين ذكروا أجوبة مختلفة على هذا السؤال ، ولكن أوضح الأجوبة هو أن موسىعليه‌السلام طرح مطلب قومه ، لأنّ جماعة من جهلة بني إسرائيل أصرّوا على أن يروا الله حتى يؤمنوا (والآية ١٥٣ من سورة النساء خير شاهد على هذا الأمر) وقد أمر موسىعليه‌السلام من جانب الله أن يطرح مطلب قومه هذا على الله سبحانه حتى يسمع الجميع الجواب الكافي ، وقد صرّح بهذا في رواية مرويّة عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام في كتاب عيون أخبار الرضا أيضا(١) .

ومن القرائن الواضحة التي تؤيد هذا التّفسير ما نقرأه في الآية (١٥٥) من نفس هذه السورة ، من أنّ موسىعليه‌السلام قال بعد ما حدث ما حدث :( أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا ) .

فيتّضح من هذه الجملة أنّ موسىعليه‌السلام لم يطلب لنفسه مثل هذا الطلب إطلاقا ، بل لعلّ الرجال السبعين الذين صعدوا معه إلى الميقات هم أيضا لم يطلبوا مثل هذا الطلب غير المعقول وغير المنطقي ، إنّهم كانوا مجرّد علماء ، ومندوبين من جانب بني إسرائيل خرجوا مع موسىعليه‌السلام لينقلوا فيما بعد مشاهداتهم لجماعات الجهلة والغافلين الذين طلبوا رؤية الله سبحانه وتعالى ومشاهدته.

٢ ـ هل يمكن رؤية الله أساسا؟

نقرأ في الآية الحاضرة أنّ الله سبحانه قال لموسىعليه‌السلام :( انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي ) فهل مفهوم هذا الكلام هو أنّ الله قابل للرؤية أساسا؟

الجواب هو أن هذا التعبير هو كناية عن استحالة مثل هذا الموضوع ، مثل جملة (حتى يلج الجمل في سمّ الخياط) وحيث أنّه كان من المعلوم أنّ الجبل يستحيل أن يستقر في مكانه عند تجلّي الله له ، لهذا ذكر هذا التعبير.

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، المجلد الثّاني ، الصفحة ٦٥.

٢٠٨

٣ ـ ما هو المراد من تجلّي الله؟

لقد وقع كلام كثير بين المفسّرين في هذا الصعيد ، ولكن ما يبدو للنظر من مجموع الآيات أنّ الله أظهر إشعاعة من أحد مخلوقاته على الجبل (وتجلّي آثاره بمنزلة تجليه نفسه) ولكن ماذا كان ذلك المخلوق؟ هل كان إحدى الآيات الإلهية العظيمة التي بقيت مجهولة لنا إلى الآن ، أو أنّه نموذج من قوة الذرّة العظيمة ، أو الأمواج الغامضة العظيمة التأثير والدفع ، أو الصاعقة العظيمة الموحشة التي ضربت الجبل وأوجدت برقا خاطفا للأبصار وصوتا مهيبا رهيبا وقوّة عظيمة جدا ، بحيث حطّمت الجبل ودكّته دكّا(١) ؟!

وكأنّ الله تعالى أراد أن يرى ـ بهذا العمل ـ شيئين لموسىعليه‌السلام وبني إسرائيل : الأوّل : أنّهم غير قادرين على رؤية ظاهرة جد صغيرة من الظواهر الكونية العظيمة ، ومع ذلك كيف يطلبون رؤية الله الخالق.

الثاني : كما أن هذه الآية الإلهية العظيمة مع أنّها مخلوق من المخلوقات لا أكثر ، ليست قابله للرؤية بذاتها ، بل المرئي هو آثارها ، أي الرجة العظيمة ، والمسموع هو صوتها المهيب. أمّا أصل هذه الأشياء أي تلك الأمواج الغامضة أو القوة العظيمة فلا هي ترى بالعين ، ولا هي قابلة للإدراك بواسطة الحواس الأخرى ، ومع ذلك هل يستطيع أحد أن يشك في وجود مثل هذه الآية ، ويقول : حيث أنّنا لا نرى ذاتها ، بل ندرك فقط آثارها فلا يمكن أن نؤمن بها.

فإذا يصح الحكم هذا حول مخلوق من المخلوقات ، فكيف يصح أن يقال عن الله تعالى : بما أنّه غير قابل للرؤية ، إذن لا يمكننا الإيمان به ، مع أنّه ملأت

__________________

(١) الصاعقة عبارة عن التبادل الكهربائي بين قطع الغيوم والكرة الأرضية ، فالسحب ذات الكهربية الموجبة عند ما تقترب إلى الأرض ذات الكهربية السلبية تندلع شرارة من بينهما يعني السطح المجاور من الكرة الأرضية ، وهي خطرة مدمرة في الغالب ، ولكن البرق والرعد ينشآن من التبادل الكهربائي بين قطعتين من السحاب أحدهما موجب ، والآخر سلبي ، وحيث أنّهما يحدثان في السماء لذلك لا يشكلان خطرا في العادة إلّا للطائرات. والسفن الفضائية.

٢٠٩

آثاره كل مكان؟

وهناك احتمال آخر في تفسير هذه الآية وهو أنّ موسىعليه‌السلام طلب لنفسه هذا المطلب حقيقة ، ولكن لم يكن مقصوده مشاهدته بالعين التي تستلزم جسمانيته تعالى ، وتنافي نبوة موسىعليه‌السلام ، بل المقصود هو نوع من الإدراك الباطني والمشاهدة الباطنية ، نوع من الشهود الكامل الروحيّ والفكري ، لأنّه كثيرا ما تستعمل الرؤية في هذا المعنى مثلما نقول : «أنا أرى في نفسي قدرة على القيام بهذا العمل» في حين أنّ القدرة ليست شيئا قابلا للرؤية ، بل المقصود هو أنّني أجد هذه الحالة في نفسي بوضوح.

كان موسىعليه‌السلام يريد أن يصل إلى هذه المرحلة من الشهود والمعرفة ، في حين أن الوصول إلى هذه المرحلة لم يكن ممكنا في الدنيا ، وإن كان ممكنا في عالم الآخرة الذي هو عالم الشهود.

ولكن الله تعالى أجاب موسىعليه‌السلام قائلا : إنّ مثل هذه الرؤية غير ممكنة لك ، ولإثبات هذا المطلب تجلّى للجبل ، فتحطّم الجبل وتلاشى ، وبالتالي تاب موسى من هذا الطلب(١) .

ولكن هذا التّفسير مخالف لظاهر الآية المبحوثة هنا ، ويتطلب ارتكاب التجوّز من جهات عديدة(٢) هذا مضافا إلى أنّه ينافي بعض الرّوايات الواردة في تفسير الآية أيضا ، فالحق هو التّفسير الأول.

__________________

(١) ملخص من تفسير الميزان ، المجلد الثامن ، الصفحة ٢٤٩ إلى ٢٥٤.

(٢) فهو مخالف لمفهوم الرؤية ، ولإطلاق جملة «لن تراني» وجملة «أتهلكنا بما فعل السفهاء منّا» هذا بغض النظر عن أن طلب الشهود الباطني ليس أمرا سيئا ليتوب منه موسى ، فقد طلب إبراهيم من الله مثل هذا المطلب في مجال المعاد أيضا ولبى الله طلبه.

ولو أن الجواب في مجال الشهود الباطني لله بالنفي لما كان دليلا على المؤاخذة والعقاب.

٢١٠

٤ ـ مم تاب موسىعليه‌السلام ؟

إنّ آخر سؤال يطرح نفسه هنا هو : أن موسىعليه‌السلام بعد أن أفاق قال :( تُبْتُ إِلَيْكَ ) في حين أنّه لم يرتكب إثما أو معصية ، لأن هذا الطلب كان من جانب بني إسرائيل ، وكان طرحه بتكليف من الله ، فهو أدى واجبه إذن ، ثمّ إذا كان هذا الطلب لنفسه وكان مراده الشهود الباطني لم يحسب هذا العمل إثما؟؟

ولكن يمكن الجواب على هذا السؤال من جانبين :

الأوّل : أن موسى طلب مثل هذا الطلب بالنيابة عن بني إسرائيل ، ومع ذلك طلب من الله أن يتوب عليه ، وأظهر الإيمان.

الآخر : أنّ موسىعليه‌السلام وإن كان مكلّفا بأن يطرح طلب بني إسرائيل ، ولكنّه عند ما تجلى ربّه للجبل واتّضحت حقيقة الأمر ، انتهت مدّة هذا التكليف ، وفي هذا الوقت لا بدّ من العودة إلى الحالة الأولى يعني الرجوع إلى ما قبل التكليف ، وإظهار إيمانه حتى لا تبقى شبهة لأحد ، وقد بيّن ذلك بجملة ، إني( تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) .

٥ ـ الله غير قابل للرؤية مطلقا

إنّ هذه الآية من الآيات التي تشهد بقوة وجلاء أنّ الله غير قابل للرؤية والمشاهدة مطلقا ، لأنّ كلمة «لن» حسب ما هو مشهور بين اللغويين للنفي الأبدي ، وعلى هذا الأساس يكون مفهوم جملة( لَنْ تَرانِي ) إنّك لا تراني لا في هذا العالم ولا في العالم الآخر.

ولو أنّ أحدا شكّك ـ افتراضا ـ في أن يكون «لن» للنفي التأبيدي يدل إطلاق الآية ، وكون نفي الرؤية ذكر من دون قيد أو شرط على أن الله غير قابل للرؤية في مطلق الزمان وجميع الظروف.

إنّ الأدلة العقلية هي الأخرى تهدينا إلى هذه الحقيقة ، لأنّ الرؤية تختص

٢١١

بالأجسام.

وعلى هذا الأساس ، إذا جاء في الأحاديث والأخبار الإسلامية أو الآيات القرآنية عبارة «لقاء الله» فإن المقصود هو المشاهدة بعين القلب والعقل ، لأنّ القرينة العقلية والنقلية أفضل شاهد على هذا الموضوع وقد كان لنا أبحاث أخرى في ذيل الآية (١٠٢) من سورة الأنعام في هذا الصعيد.

* * *

٢١٢

الآيتان

( قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (١٤٥) )

التّفسير

ألواح التوراة :

وفي النهاية أنزل الله شرائع وقوانين دينه على موسىعليه‌السلام .

ففي البداية :( قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي ) .

فإذا كان الأمر كذلك( فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) .

فهل يستفاد من هذه الآية أن التكلم مع الله كان من امتيازات موسى الخاصّة به دون بقية الأنبياء ، يعني اصطفيتك لمثل هذا الأمر من بين الأنبياء؟

الحق أنّ هذه الآية ليست بصدد إثبات مثل هذا الأمر ، بل إن هدف الآية ـ بقرينة ذكر الرسالات التي كانت لجميع الأنبياء ـ هو بيان امتيازين كبيرين

٢١٣

لموسى على الناس : أحدهما تلقي رسالات الله وتحمّلها ، والآخر التكلّم مع الله ، وكلا هذين الأمرين من شأنهما تقوية مقام قيادته بين أمته.

ثمّ أضاف تعالى واصفا محتويات الألواح التي أنزلها على موسىعليه‌السلام بقوله :( وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ ) .

ثمّ أمره بأن يأخذ هذه التعاليم والأوامر مأخذ الجد ، ويحرص عليها بقوة( فَخُذْها بِقُوَّةٍ ) .

وأن يأمر قومه أيضا بأن يختاروا من هذه التعاليم أحسنها( وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها ) .

كما يحذرهم بأن مخالفة هذه الأوامر والتعاليم والفرار من المسؤوليات والوظائف تستتبع نتائج مؤلمة ، وأن عاقبتها هي جهنم وسوف يرى الفاسقون مكانهم( سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ ) .

* * *

بحوث

ثمّ إن هاهنا نقاط عديدة ينبغي التوقف عندها والالتفات إليها :

١ ـ نزول الألواح على موسى

إنّ ظاهر الآية الحاضرة يفيد أن الله تعالى أنزل ألواحا على موسىعليه‌السلام قد كتب فيها شرائع التوراة وقوانينها ، لا أنّه كانت في يدي موسىعليه‌السلام ألواح ثمّ انتقشت فيها هذه التعاليم بأمر الله.

ولكن ماذا كانت تلك الألواح ، ومن أي مادة؟ إنّ القرآن لم يتعرض لذكر هذا الأمر ، وإنما أشار إليها بصورة الإجمال وبلفظة «الألواح» فقط ، وهذه الكلمة جمع «لوح» ، وهي مشتّقة من مادة «لاح يلوح» بمعنى الظهور والسطوع ، وحيث

٢١٤

أنّ المواضيع تتّضح وتظهر بكتابتها على صفحة ، تسمى الصفحة لوحا(١) .

ولكن ثمّة احتمالات مختلفة في الرّوايات وأقوال المفسّرين حول كيفية وجنس هذه الألواح ، وحيث إنّها ليست قطعية أعرضنا عن ذكرها والتعرض لها.

٢ ـ كيف كلّم الله موسى؟

يستفاد من الآيات القرآنية المتنوعة أنّ الله تعالى كلّم موسىعليه‌السلام ، وكان تكليم الله لموسى عن طريق خلق أمواج صوتية في الفضاء أو في الأجسام ، وربّما انبعثت هذه الأمواج الصوتية من خلال «شجرة الوادي الأيمن» وربّما من «جبل طور» وتبلغ مسمع موسى فما ذهب اليه البعض من أن هذه الآيات تدلّ على جسمانية الله تعالى جمودا على الألفاظ تصوّر خاطئ بعيد عن الصواب.

على أنّه لا شك في أن ذلك التكلّم كان من جانب الله تعالى بحيث أن موسىعليه‌السلام كان لا يشك عند سماعه له في أنّه من جانب الله ، وكان هذا العلم حاصلا لموسى ، إمّا عن طريق الوحي والإلهام أو من قرائن أخرى.

٣ ـ عدم وجوب جميع تعاليم الألواح

يستفاد من عبارة( مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً ) أنّه لم تكن جميع المواعظ والمسائل موجودة في ألواح موسىعليه‌السلام لأنّ الله يقول :( وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً ) وهذا لأجل أن دين موسىعليه‌السلام لم يكن آخر دين ، ولم يكن موسىعليه‌السلام خاتم الأنبياء ، ومن المسلّم أن الأحكام الإلهية التي نزلت كانت في حدود ما يحتاجه الناس في ذلك الزمان ، ولكن عند ما وصلت البشرية إلى آخر مرحلة حضارية للشرايع السماوية نزل آخر دستور إلهي يشمل جميع حاجات

__________________

(١) تفسير التبيان ، المجلد الرّابع ، الصفحة ٥٣٩.

٢١٥

الناس المادية والمعنوية.

وتتّضح من هذا أيضا علة تفضيل مقام عليعليه‌السلام على مقام موسىعليه‌السلام في بعض الرّوايات(١) ، وهي أن علياعليه‌السلام كان عارفا بجميع القرآن ، الذي فيه تبيان كل شيء( نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ ) في حين أنّ التوراة لم يرد فيها إلّا بعض المسائل.

٤ ـ هل في الألواح تعاليم حسنة وأخرى غير حسنة؟

إنّ ما نقرؤه في الآية( وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها ) لا يعني أنّه كانت في ألواح موسى تعاليم «حسنة» وأخرى «سيئة» وأنّهم كانوا مكلّفين بأن يأخذوا بالحسنة ويتركوا السيئة ، أو كان فيها الحسن والأحسن ، وكانوا مكلّفين بالأخذ بالأحسن فقط ، بل ربّما تأتي كلمة «أفعل التفضيل» بمعنى الصفة المشبهة ، والآية المبحوثة من هذا القبيل ظاهرا ، يعني أن «الأحسن» هنا بمعنى «الحسن» وهذا إشارة إلى أن جميع تلك التعاليم كانت حسنة وجيدة.

ثمّ إنّ هناك احتمالا آخر في الآية الحاضرة ـ أيضا ـ وهو أن الأحسن بمعنى أفعل التفضيل ، وهو إشارة إلى أنّه كان بين تلك التعاليم أمور مباحة (مثل القصاص) وأمور أخرى وصفت بأنّها أحسن منها (مثل العفو) يعني : قل لقومك ومن اتبعك ليختاروا ما هو أحسن ما استطاعوا ، وللمثال يرجحوا العفو على القصاص (إلّا في موارد خاصّة)(٢) .

٥ ـ في مجال قوله :( سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ ) الظاهر أن المقصود منها هو جهنم ، وهي مستقرّ كل أولئك الذين يخرجون من طاعة الله ، ولا يقومون

__________________

(١) للوقوف على هذه الرّوايات يراجع تفسير نور الثقلين ، المجلد الثّاني ، الصفحة ٦٨.

(٢) ويحتمل أيضا أن الضمير في «أحسنها» يرجع إلى «القوة» أو «الأخذ بقوة» وهو إشارة إلى أن عليهم أن يأخذوا بها بأفضل أنواع الجدية والقوة والحرص.

٢١٦

بوظائفهم الإلهية.

ثمّ إنّ بعض المفسّرين احتمل أيضا أن يكون المقصود هو أنّكم إذا خالفتم هذه التعاليم فإنكم سوف تصابون بنفس المصير الذي أصيب به قوم فرعون والفسقة الآخرون ، وتتبدل أرضكم إلى دار الفاسقين(١) .

* * *

__________________

(١) تفسير المنار المجلد التاسع الصفحة ١٩٣.

٢١٧

الآيتان

( سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧) )

التّفسير

مصير المتكبرين :

البحث في هاتين الآيتين هو في الحقيقة نوع من عملية استنتاج من الآيات الماضية عن مصير فرعون وملئه والعصاة من بني إسرائيل ، فقد بيّن الله في هذه الآيات الحقيقة التالية وهي : إذا كان الفراعنة أو متمرّدو بني إسرائيل لم يخضعوا للحق مع مشاهدة كل تلك المعاجز والبينات ، وسماع كل تلكم الحجج والآيات الإلهية ، فذلك بسبب أنّنا نصرف المتكبرين والمعاندين للحق ـ بسبب أعمالهم ـ عن قبول الحق.

٢١٨

وبعبارة أخرى : إنّ الإصرار على تكذيب الآيات الإلهية قد ترك في نفوسهم وأرواحهم أثرا عجيبا ، بحيث خلق منهم أفرادا متصلبين منغلقين دون الحق ، لا يستطيع نور الهدى من النفوذ إلى قلوبهم.

ولهذا يقول أوّلا :( سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ ) .

ومن هنا يتّضح أنّ الآية الحاضرة لا تنافي أبدا الأدلة العقلية حتى يقال بتأويلها كما فعل كثير من المفسّرين ـ إنّها سنة إلهية أن يسلب الله من المعاندين الألدّاء توفيق الهداية بكل أشكاله وأنواعه فهذه هي خاصية أعمالهم القبيحة أنفسهم ، ونظرا لانتساب جميع الأسباب إلى الله الذي هو علّة العلل ومسبب الأسباب في المآل نسبت إليه.

وهذا الموضوع لا هو موجب للجبر ، ولا مستلزم لأي محذور آخر ، حتى نعمد إلى توجيه الآية بشكل من الأشكال.

هذا ، ولا بدّ من الالتفات ـ ضمنيا ـ إلى أنّ ذكر عبارة( بِغَيْرِ الْحَقِ ) بعد لفظة :

التكبر إنّما هو لأجل التأكيد ، لأنّ التكبر والشعور بالاستعلاء على الآخرين واحتقار عباد الله يكون دائما بغير حق ، وهذا التعبير يشبه الآية (٦١) من سورة البقرة ، عند ما يقول سبحانه :( وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ ) فقيد بغير الحق هنا قيد توضيحي ، وتوكيدي لأنّ قتل الأنبياء هو دائما بغير حق.

خاصّة أنّها أردفت بكلمة «في الأرض» الذي يأتي بمعنى التكبر والطغيان فوق الأرض ، ولا شك أنّ مثل هذا العمل يكون دائما بغير حق.

ثمّ أشار تعالى إلى ثلاثة أقسام من صفات هذا الفريق «المتكبر المتعنت» وكيفية سلب توفيق قبول الحق عنهم.

الأولى قوله تعالى :( وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها ) إنّهم لا يؤمنون حتى ولو رأوا جميع المعاجز والآيات والثّانية ،( وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ

٢١٩

سَبِيلاً ) والثّالثة إنّهم على العكس( وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ) .

بعد ذكر هذه الصفات الثلاث الحاكية برمتها عن تصلب هذا الفريق تجاه الحق ، أشار إلى عللها وأسبابها ، فقال :( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ ) .

ولا شك أنّ التكذيب لآيات الله مرّة ـ أو بضع مرات ـ لا يستوجب مثل هذه العاقبة ، فباب التوبة مفتوح في وجه مثل هذا الإنسان ، وإنّما الإصرار في هذا الطريق هو الذي يوصل الإنسان إلى نقطة لا يعود معها يميّز بين الحسن والقبيح ، والمستقيم والمعوج ، أي يسلب القدرة على التمييز بين «الرشد» و «الغي».

ثمّ تبيّن الآية اللاحقة عقوبة مثل هؤلاء الأشخاص وتقول :( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ) .

و «الحبط» يعني بطلان العمل وفقدانه للأثر والخاصية ، يعني أنّ مثل هؤلاء الأفراد حتى إذا عملوا خيرا فإنّ عملهم لن يعود عليهم بنتيجة (وللمزيد من التوضيح حول هذا الموضوع راجع ما كتبناه عند تفسير الآية ٢١٧ من سورة البقرة).

وفي ختام الآية أضاف بأن هذا المصير ليس من باب الانتقام منهم ، إنما هو نتيجة أعمالهم هم ، بل هو عين أعمالهم ذاتها وقد تجسمت أمامهم( هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) ؟!

إنّ هذه الآية نموذج آخر من الآيات القرآنية الدالة على تجسّم الأعمال ، وحضور أعمال الإنسان خيرها وشرها يوم القيامة.

* * *

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ) قال هو الرجل يشتمك فتشتمه ولكن إن افترى عليك فلا تفترى عليه وهو مثل قوله( وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ ) وروى ابن عيينة عن أبى نجيح عن إبراهيم بن أبى بكر عن مجاهد في قوله( لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ) قال ذاك في الضيافة إذا جئت الرجل فلم يضفك فقد رخص أن تقول فيه* قال أبو بكر إن كان التأويل كما ذكر فقد يجوز أن يكون ذلك في وقت كانت الضيافة واجبة وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الضيافة ثلاثة أيام فما زاد فهو صدقة وجائز أن يكون فيمن لا يجد ما يأكل فيستضيف غيره فلا يضيفه فهذا مذموم يجوز أن يشكى وفي هذه الآية دلالة على وجوب الإنكار على من تكلم بسوء فيمن كان ظاهره الستر والصلاح لأن الله تعالى قد أخبر أنه لا يجب ذلك وما لا يحبه فهو الذي لا يريده فعلينا أن نكرهه وننكره وقال( إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ) فما لم يظهر لنا ظلمه فعلينا إنكار سوء القول فيه* وقوله تعالى( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ) قال قتادة عوقبوا على ظلمهم وبغيهم بتحريم أشياء عليهم وفي ذلك دليل على جواز تغليظ المحنة عليهم بالتحريم الشرعي عقوبة لهم على ظلمهم لأن الله تعالى قد أخبر في هذه الآية أنه حرم عليهم طيبات بظلمهم وصدهم عن سبيل الله والذي حرم عليهم ما بينه تعالى في قوله( وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ ) وقوله( وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ ) يدل على أن الكفار مخاطبون بالشرائع مكلفون بها مستحقون للعقاب على تركها لأن الله تعالى قد ذمهم على أكل الربا وأخبر أنه عاقبهم عليه* قوله تعالى( لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ ) روى عن قتادة أن لكن هاهنا استثناء وقيل أن لا ولكن قد تتفقان في الإيجاب بعد النفي أو النفي بعد الإيجاب وتطلق إلا ويراد بها لكن كقوله تعالى( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً ) ومعناه لكن إن قتله خطأ فتحرير رقبة فأقيمت إلا في هذا الموضع مقام لكن وتنفصل لكن من إلا بأن إلا لإخراج بعض من كل ولكن قد تكون بعد الواحد نحو قولك ما جاءني زيد لكن عمرو وحقيقة لكن الاستدراك ولا للتخصيص قوله تعالى( يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ) روى عن الحسن أنه خطاب لليهود والنصارى لأن النصارى غلت

٢٨١

في المسيح فجاوزوا به منزلة الأنبياء حتى اتخذوه إلها واليهود غلت فيه فجعلوه لغير رشدة فغلا الفريقان جميعا في أمره والغلو في الدين هو مجاوزة حد الحق فيه وروى عن ابن عباس أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم سأله أن يناوله حصيات لرمي الجمار قال فناولته إياها مثل حصا الخذف(1) فجعل يقلبهن بيده ويقول بمثلهن بمثلهن إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من قبلكم بالغلو في دينهم ولذلك قيل دين الله بين المقصر والغالي * قوله تعالى( وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ) قيل في وصف المسيح بأنه كلمة الله ثلاثة أوجه أحدها ما روى عن الحسن وقتادة أنه كان عيسى بكلمة الله وهو قوله( كُنْ فَيَكُونُ ) لا على سبيل ما أجرى العادة به من حدوثه من الذكر والأنثى جميعا والثاني أنه يهتدى به كما يهتدى بكلمة الله والثالث ما تقدم من البشارة به في الكتب المتقدمة التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه* وأما قوله تعالى( وَرُوحٌ مِنْهُ ) فلأنه كان بنفخة جبريل بإذن الله والنفخ يسمى روحا كقول ذي الرمة :

فقلت له أرفعها إليك وأحيها

بروحك واقتته لها قيتة قدرا

أى بنفختك وقيل إنما سماه روحا لأنه يحيى الناس به كما يحيون بالأرواح ولهذا المعنى سمى القرآن روحا في قوله( وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ) وقيل لأنه روح من الأرواح كسائر أرواح الناس وأضافه الله تعالى إليه تشريفا له كما يقال بيت الله وسماء الله* قوله( يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ) قيل فيه إنه بمعنى لئلا تضلوا فحذف لا كما تحذف مع القسم في قولك والله أبرح قاعدا أى لا أبرح قال الشاعر :

تالله يبقى على الأيام ذوحيد(2)

معناه لا يبقى وقيل يبين الله لكم كراهة أن تضلوا كقوله( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) يعنى أهل القرية.

سورة المائدة

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) روى عن ابن عباس ومجاهد ومطرف

__________________

(1) قوله الخذف بالخاء والذال المعجمتين هو أن تجعل حصاة أو نواة بين السبابتين وترمى بها كما ذكره في النهاية.

(2) قوله ذوحيد هو الثور الوحشي والحيد بكسر وفتح جمع حيد بفتح وسكون وهو ما النوى من القرن.

٢٨٢

والربيع والضحاك والسدى وابن جريج والثوري قالوا العقود في هذا الموضع أراد بها العهود وروى معمر عن قتادة قال هي عقود الجاهلية الحلف وروى جبير بن مطعم عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لا حلف في الإسلام وأما حلف الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة وروى ابن عيينة عن عاصم الأحول قال سمعت أنس بن مالك يقول حالف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا فقيل له قد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا حلف في الإسلام وما كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة فقال حالف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا قال ابن عيينة إنما آخى بين المهاجرين والأنصار قال أبو بكر قال الله تعالى( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) فلم يختلف المفسرون أنهم في أول الإسلام قد كانوا يتوارثون بالحلف دون النسب وهو معنى قوله( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) إلى أن جعل الله ذوى الأرحام أولى من الحليف بقوله( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ ) فقد كان حلف الإسلام على التناصر والتوارث ثابتا صحيحا وأما قوله لا حلف في الإسلام فإنه جائز أن يريد به الحلف على الوجوه التي كان عليها الحلف في الجاهلية وكان هذا القول منه بعد نسخ التوارث بالحلف وقد كان حلف الجاهلية على وجوه منها الحلف في التناصر فيقول أحدهما لصاحبه إذا حالفه دمى دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك فيتعاقدان الحلف على أن ينصر كل واحد منهم صاحبه فيدفع عنه ويحميه بحق كان ذلك أو بباطل ومثله لا يجوز في الإسلام لأنه لا يجوز أن يتعاقدا الحلف على أن ينصره على الباطل ولا أن يزوى ميراثه عن ذي أرحامه ويجعله لحليفه فهذا أحد وجوه الحلف الذي لا يجوز مثله في الإسلام وقد كانوا يتعاقدون الحلف للحماية والدفع وكانوا يدفعون إلى ضرورة لأنهم كانوا نشرا لا سلطان عليهم ينصف المظلوم من الظالم ويمنع القوى عن الضعيف فكانت الضرورة تؤديهم إلى التحالف فيمتنع به بعضهم من بعض وكان ذلك معظم ما يراد الحلف من أجله ومن أجل ذلك كانوا يحتاجون إلى الجوار وهو أن يجير الرجل أو الجماعة أو العير على قبيلة ويؤمنهم فلا ينداه(1) مكروه منهم فجائز أن يكون أراد بقوله لا حلف في الإسلام هذا الضرب من الحلف وكانوا يحتاجون إلى الحلف في أول الإسلام

__________________

(1) قوله فلا ينداه مضارع ندب من باب تعب يقال ما ندينى من فلان مكروه أي ما أصابني.

٢٨٣

لكثرة أعدائهم من سائر المشركين ومن يهود المدينة ومن المنافقين فلما أعز الله الإسلام وكثر أهله وامتنعوا بأنفسهم وظهروا على أعدائهم أخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم باستغنائهم عن التحالف لأنهم قد صاروا كلهم يدا واحدة على أعدائهم من الكفار بما أوجب الله عليهم من التناصر والموالاة بقوله تعالى( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم المؤمنون يد على من سواهم وقال ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن إخلاص العمل لله والنصيحة لولاة الأمر ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من وراءهم فزال التناصر بالحلف وزال الجوار ولذلك قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لعدي بن حاتم ولعلك أن تعيش حتى ترى المرأة تخرج من القادسية إلى اليمن بغير جوار ولذلك قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا حلف في الإسلام وأما قوله وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة فإنما يعنى به الوفاء بالعهد مما هو مجوز في العقول مستحسن فيها نحو الحلف الذي عقده الزبير بن عبد المطلب قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أحب أن لي بحلف حضرته حمر النعم في دار ابن جدعان وإنى أغدر به هاشم وزهرة وتيم تحالفوا أن يكونوا مع المظلوم ما بل بحر صوفه ولو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت وهو حلف الفضول وقيل إن الحلف كان على منع المظلوم وعلى التأسى في المعاش فأخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه حضر هذا الحلف قبل النبوة وأنه لو دعى إلى مثله في الإسلام لأجاب لأن الله تعالى قد أمر المؤمنين بذلك وهو شيء مستحسن في العقول بل واجب فيها قبل ورود الشرع فعلمنا أن قوله لا حلف في الإسلام إنما أراد به الذي لا تجوزه العقول ولا تبيحه الشريعة وقد روى عنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال حضرت حلف المطيبين وأنا غلام وما أحب أن أنكثه وأن لي حمر النعم وقد كان حلف المطيبين بين قريش على أن يدفعوا عن الحرم من أراد انتهاك حرمته بالقتال فيه وأما قوله وما كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة فهو نحو حلف المطيبين وحلف الفضول وكل ما يلزم الوفاء به من المعاقدة دون ما كان منه معصية لا تجوزه الشريعة والعقد في اللغة هو الشد تقول عقدت الحبل إذا شددته واليمين على المستقبل تسمى عقدا قال الله تعالى( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ) والحلف يسمى عقدا قال الله تعالى( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) وقال أبو عبيدة في قوله( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) قال هي العهود والأيمان وروى عن

٢٨٤

جابر في قوله( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) قال هي عقدة النكاح والبيع والحلف والعهد وزاد زيد ابن أسلم من قبله وعقد الشركة وعقد اليمين وروى وكيع عن موسى بن عبيدة عن أخيه عبد الله بن عبيدة قال العقود ستة عقد الأيمان وعقد النكاح وعقدة العهد وعقدة الشرى والبيع وعقدة الحلف قال أبو بكر العقد ما يعقده العاقد على أمر يفعله هو أو يعقد على غيره فعله على وجه إلزامه إياه لأن العقد إذا كان في أصل اللغة الشد ثم نقل إلى الأيمان والعقود عقود المبايعات ونحوها فإنما أريد به إلزام الوفاء بما ذكره وإيجابه عليه وهذا إنما يتناول منه ما كان منتظرا مراعى في المستقبل من الأوقات فيسمى البيع والنكاح والإجارة وسائر عقود المعاوضات عقودا لأن كل واحد منهما قد ألزم نفسه التمام عليه والوفاء به وسمى اليمين على المستقبل عقدا لأن الحالف قد ألزم نفسه الوفاء بما حلف عليه من فعل أو ترك والشركة والمضاربة ونحوها تسمى أيضا عقودا لما وصفنا من اقتضائه الوفاء بما شرطه على كل واحد من الربح والعمل لصاحبه وألزمه نفسه وكذلك العهد والأمان لأن معطيها قد ألزم نفسه الوفاء بها وكذلك كل شرط شرطه إنسان على نفسه في شيء يفعله في المستقبل فهو عقد وكذلك النذور وإيجاب القرب وما جرى مجرى ذلك وما لا تعلق له بمعنى في المستقبل ينتظر وقوعه وإنما هو على شيء ماض قد وقع فإنه لا يسمى عقدا ألا ترى أن من طلق امرأته فإنه لا يسمى طلاقه عقدا ولو قال لها إذا دخلت الدار فأنت طالق كان ذلك عقدا ليمين ولو قال والله لقد دخلت الدار أمس لم يكن عاقدا لشيء ولو قال لأدخلنها غدا كان عاقدا ويدلك على ذلك أنه لا يصح إيجابه في الماضي ويصح في المستقبل لو قال على أن أدخل الدار أمس كان لغوا من الكلام مستحيلا ولو قال على أن أدخلها غدا كان إيجابا مفعولا فالعقد ما يلزم به حكم في المستقبل واليمين على المستقبل إنما كانت عقدا لأن الحالف قد أكد على نفسه أن يفعل ما حلف عليه بذلك وذلك معدوم في الماضي ألا ترى أن من قال والله لأكلمن زيدا فهو مؤكد على نفسه بذلك كلامه وكذلك لو قال والله لا كلمت زيدا كان مؤكدا به نفى كلامه ملزما نفسه به ما حلف عليه من نفى أو إثبات فسمى من أجل التأكيد الذي في اللفظ عقدا تشبيها بعقد الحبل الذي هو بيده والاستيثاق به ومن أجله كان النذر عقدا ويمينا لأن الناذر ملزم نفسه ما نذره ومؤكد على نفسه ما نذره ومؤكد على نفسه أن يفعله أو يتركه

٢٨٥

ومتى صرف الخبر إلى الماضي لم يكن ذلك عقدا كما لا يكون ذلك إيجابا وإلزاما ونذرا وهذا يبين معنى ما ذكرنا من العقد على وجه التأكيد والإلزام. ومما يدل على أن العقد هو ما تعلق بمعنى مستقبل دون الماضي أن ضد العقد هو الحل ومعلوم أن ما قد وقع لا يتوهم له حل عما وقع عليه بل يستحيل ذلك فيه فلما لم يكن الحل ضدا لما وقع في الماضي علم أنه ليس بعقد لأنه لو كان عقدا لكان له ضد من الحل يوصف به كالعقد على المستقبل* فإن قيل قوله إن دخلت الدار فأنت طالق وأنت إذا جاء غد* هو عقد ولا يلحقه الانتقاض والفسخ* قيل له جائز أن لا يقع ذلك بموتها قبل وجود الشرط فهو مما يوصف بضده من الحل ولذلك قال أبو حنيفة فيمن قال إن لم أشرب الماء الذي في هذا الكوز فعبدي حر وليس في الكوز ماء أن يمينه لا تنعقد ولم يكن ذلك عقدا لأنه ليس له نقيض من الحل ولو قال إن لم أصعد السماء فعبدي حر حنث بعد انعقاد يمينه لأن لهذا العقد نقيضا من الحل وإن كنا قد علمنا أنه لا يبر فيه لأنه عقد اليمين على معنى متوهم معقول إذ كان صعود السماء معنى متوهما معقولا وكذلك تركه معقول جائز وشرب ما ليس بموجود مستحيل توهمه فلم يكن ذلك عقدا* وقد اشتمل قوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) على إلزام الوفاء بالعهود والذمم التي نعقدها لأهل الحرب وأهل الذمة والخوارج وغيرهم من سائر الناس وعلى إلزام الوفاء بالنذور والأيمان وهو نظير قوله تعالى( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها ) وقوله تعالى( وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ) وعهد الله تعالى أوامره ونواهيه وقد روى عن ابن عباس في قوله تعالى( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) أى بعقود الله فيما حرم وحلل* وعن الحسن قال يعنى عقود الدين واقتضى أيضا الوفاء بعقود البياعات والإجارات والنكاحات وجميع ما يتناوله اسم العقود فمتى اختلفنا في جواز عقده أو فساده وفي صحة نذر ولزومه صح الاحتجاج بقوله تعالى( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) لاقتضاء عمومه جواز جميعها من الكفالات والإجارات والبيوع وغيرها ويجوز الاحتجاج به في جواز الكفالة بالنفس وبالمال وجواز تعلقها على الأخطار لأن الآية لم تفرق بين شيء منها وقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون عند شروطهم في معنى قول الله تعالى( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) وهو عموم في إيجاب الوفاء بجميع ما يشرط الإنسان على نفسه ما لم تقم دلالة

٢٨٦

تخصصه* فإن قيل هل يجب على كل من عقد على نفسه يمينا أو نذرا أو شرطا لغيره الوفاء بشرطه ويكون عقده لذلك على نفسه يلزمه ما شرطه وأوجبه قيل له أما النذور فهي عل ثلاثة أنحاء منها نذر قربة فيصير واجبا بنذره بعد أن كان فعله قربة غير واجب لقوله تعالى( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) وقوله تعالى( أَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ ) وقوله تعالى( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ) وقوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ ) وقوله تعالى( وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ) فذمهم على ترك الوفاء بالمنذور نفسه وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمر بن الخطاب أوف بنذرك حين نذر أن يعتكف يوما في الجاهلية وقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من نذر نذرا سماه فعليه أن يفي به ومن نذر نذرا ولم يسمه فعليه كفارة يمين فهذا حكم ما كان قربة من المنذور في لزوم الوفاء بعينه وقسم آخر وهو ما كان مباحا غير قربة فمتى نذره لا يصير واجبا ولا يلزمه فعله فإذا أراد به يمينا فعليه كفارة يمين إذا لم يفعله مثل قوله لله على أن أكلم زيدا وأدخل هذه الدار وأمشى إلى السوق فهذه أمور مباحة لا تلزم بالنذر لأن ما ليس له أصل في القرب لا يصير قربة بالإيجاب كما أن ما ليس له أصل في الوجوب لا يصير واجبا بالنذر فإن أراد به اليمين كان يمينا وعليه الكفارة إذا حنث والقسم الثالث ما نذر المعصية نحو أن يقول لله على أن أقتل فلانا أو أشرب الخمر أو أغصب فلانا ماله فهذه أمور هي معاص لله تعالى لا يجوز له الإقدام عليها لأجل النذور وهي باقية على ما كانت عليه من الحظر وهذا يدل على ما ذكرناه في إيجاب ما ليس بقربة من المباحات أنها لا تصير واجبة بالنذور كما أن ما كان محظورا لا يصير مباحا ولا واجبا بالنذر وتجب فيه كفارة يمين إذا أراد يمينا وحنث لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين فالنذر ينقسم إلى هذه الأنحاء وأما الأيمان فإنها تعقد على هذه الأمور من قربة أو مباح أو معصية فإذا عقدها على قربة لم تصر واجبة باليمين ولكنه يؤمر بالوفاء به فإن لم يف به وحنث لزمته الكفارة وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لعبد الله بن عمر بلغني أنك قلت والله لأصومن الدهر فقال نعم قال فلا تفعل ولكن صم من كل شهر ثلاثة أيام فقال إنى أطيق أكثر من ذلك إلى أن ورده إلى أن يصوم يوما ويفطر

٢٨٧

يوما فلم يلزمه صوم الدهر باليمين فدل ذلك على أن اليمين لا يلزم بها المحلوف عليه ولذلك قال أصحابنا فيمن قال والله لأصومن غدا ثم لم يصمه فلا قضاء عليه وعليه كفارة يمين والقسم الآخر من الأيمان هو أن يحلف على مباح أن يفعله فلا يلزمه فعله كما لا يلزمه فعل القربة المحلوف عليها فإن شاء فعل المحلوف عليه وإن شاء ترك حنث لزمته الكفارة والقسم الثالث أن يحلف على معصية فلا يجوز له أن يفعلها بل عليه أن يحنث في يمينه ويكفر عنها لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه وقال أنى لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا فعلت الذي هو خير وكفرت عن يميني وقال الله تعالى( وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ ) روى أنها نزلت في أبى بكر الصديق حين حلف أن لا ينفق على مسطح ابن أثاثة لما كان منه من الخوض في أمر عائشة رضى الله عنها فأمره الله تعالى بالرجوع إلى الإنفاق عليه قوله تعالى( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ) قيل في الأنعام أنها الإبل والبقر والغنم وقال بعضهم الإطلاق يتناول الإبل وإن كانت منفردة وتتناول البقر والغنم إذا كانت مع الإبل ولا تتناولهما منفردة عن الإبل وقد روى عن الحسن القول الأول وقيل إن الأنعام تقع على هذه الأصناف الثلاثة وعلى الظباء وبقر الوحش ولا يدخل فيها الحافر لأنه أخذ من نعومة الوطء ويدل على هذا القول استثناؤه الصيد منها بقوله في نسق التلاوة( غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ) ويدل على أن الحافر غير داخل في الأنعام قوله تعالى( وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ ) ثم عطف عليه قوله تعالى( وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها ) فلما استأنف ذكرها وعطفها على الأنعام دل على أنها ليست منها وقد روى عن ابن عباس أنه قال في جنين البقرة أنها بهيمة الأنعام وهو كذلك لأن البقرة من الأنعام وإنما قال بهيمة الأنعام وإن كانت الأنعام كلها من البهائم لأنه بمنزلة قوله أحل لكم البهيمة التي هي الأنعام فأضاف البهيمة إلى الأنعام وإن كانت هي كما تقول نفس الإنسان* ومن الناس من يظن أن هذه الإباحة معقودة بشرط الوفاء بالعقود المذكورة في الآية وليس كذلك لأنه لم يجعل الوفاء بالعقود شرطا للإباحة ولا أخرجه مخرج المجازاة ولكنه وجه الخطاب إلينا بلفظ الأيمان في قوله

٢٨٨

تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ولا يوجب ذلك الاقتصار بالإباحة على المؤمنين دون غيرهم بل الإباحة عامة لجميع المكلفين كفارا كانوا أو مؤمنين كما قال تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها ) وهو حكم عام في المؤمنين والكفار مع ورود اللفظ خاصا بخطاب المؤمنين وكذلك كل ما أباحه الله تعالى للمؤمنين فهو مباح لسائر المكلفين كما أن كل ما أوجبه وفرضه فهو فرض على جميع المكلفين إلا أن يخص بعضهم دليل وكذلك قلنا إن الكفار مستحقون العقاب على ترك الشرائع كما يستحقون على ترك الإيمان* فإن قيل إذا كان ذبح البهائم محظورا إلا بعد ورود السمع به فمن لم يعتقد نبوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم واستباحته من طريق الشرع فحكمه في حظره عليه باق على الأصل وقائل هذا القول يقول إن ذبح البهائم محظور على الكفار أهل الكتاب منهم وغيرهم وهم عصاة في ذبحها وإن كان أكل ما ذبحه أهل الكتاب مباحا لنا وزعم هذا القول أن للملحد أن يأكل بعد الذبح وليس له أن يذبح وليس هذا عند سائر أهل العلم كذلك لأنه لو كان أهل الكتاب عصاة بذبحهم لأجل دياناتهم لوجب أن تكون ذبائحهم غير مذكاة مثل المجوسي لما كان ممنوعا من الذبح لأجل اعتقاده لم يكن ذبحه ذكاة وفي ذلك دليل على أن الكتابي غير عاص في ذبح البهائم وأنه مباح له كهو لنا وأما قوله إنه إذا لم يعتقد صحة نبوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم واستباحته من طريق الشرع فحكم حظر الذبح قائم عليه فليس كذلك لأن اليهود والنصارى قد قامت عليهم حجة السمع بكتب الأنبياء المتقدمين في إباحة ذبح البهائم وأيضا فإن ذلك لا يمنع صحة ذكاته لأن رجلا لو ترك التسمية على الذبيحة عامدا لكان عندنا عاصيا بذلك وكان لمن يعتقد جواز ترك التسمية عليها أن يأكلها ولم يكن كون الذابح عاصيا مانعا صحة ذكاته قوله عز وجل( إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) روى عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسدى( إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) يعنى قوله( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ) وسائر ما حرم في القرآن وقال آخرون إلا ما يتلى عليكم من أكل الصيد وأنتم حرم فكأنه قال على هذا التأويل إلا ما يتلى عليكم في نسق هذا الخطاب قال أبو بكر يحتمل قوله( إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) مما قد حصل تحريمه ما روى عن ابن عباس فإذا أريد به ذلك لم يكن اللفظ مجملا لأن ما قد حصل تحريمه قبل ذلك هو معلوم فيكون قوله( أُحِلَّتْ

«19 ـ أحكام لث»

٢٨٩

لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ) عموما في إباحة جميعها إلا ما خصه الآي التي فيها تحريم ما حرم منها وجعل هذه الإباحة مرتبة على آي الحظر وهو قوله( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ) ويحتمل أن يريد بقوله( إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) إلا ما يبين حرمته فيكون مؤذنا بتحريم بعضها علينا في وقت ثان فلا يسلب ذلك الآية حكم العموم أيضا ويحتمل أن يريد أن بعض بهيمة الأنعام محرم عليكم الآن تحريما يرد بيانه في الثاني فهذا يوجب إجمال قوله تعالى( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ) لاستثنائه بعضها فهو مجهول المعنى عندنا فيكون اللفظ مشتملا على إباحة وحظر على وجه الإجمال ويكون حكمه موقوفا على البيان وأولى الأشياء بنا إذا كان في اللفظ احتمال لما وصفنا من الإجمال والعموم حمله على معنى العموم لإمكان استعماله فيكون المستثنى منه ما ذكر تحريمه في القرآن من الميتة ونحوها* فإن قيل قوله تعالى( إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) يقتضى تلاوة مستقبلة لا تلاوة ماضية وما قد حصل تحريمه قبل ذلك فقد تلا علينا فوجب حمله على تلاوة ترد في الثاني* قيل له يجوز أن يريد به ما قد تلى علينا ويتلى في الثاني لأن تلاوة القرآن غير مقصورة على حال ماضية دون مستقبلة بل علينا تلاوته في المستقبل كما تلوناه في الماضي فتلاوة ما قد نزل قبل ذلك من القرآن ممكنة في المستقبل وتكون حينئذ فائدة هذا الاستثناء إبانة عن بقاء حكم المحرمات قبل ذلك من بهيمة الأنعام وأنه غير منسوخ ولو أطلق اللفظ من غير استثناء مع تقدم نزول تحريم كثير من بهيمة الأنعام لأوجب ذلك نسخ التحريم وإباحة الجميع منها* قوله تعالى( غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ) قال أبو بكر فمن الناس من يحمله على معنى إلا ما يتلى عليكم من أكل الصيد وأنتم حرم فيكون المستثنى بقوله( إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) هو الصيد الذي حرمه على المحرمين وهذا تأويل يؤدى إلى إسقاط حكم الاستثناء الثاني وهو قوله( غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ) ويجعله بمنزلة قوله( إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) وهو تحريم الصيد على المحرم وذلك تعسف في التأويل ويوجب ذلك أيضا أن يكون الاستثناء من إباحة بهيمة الأنعام مقصورا على الصيد وقد علمنا أن الميتة من بهيمة الأنعام مستثناة من الإباحة فهذا تأويل لا وجه له ثم لا يخلو من أن يكون قوله( غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ) مستثنى مما يليه من الاستثناء فيصير بمنزلة قوله( إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) إلا محلى الصيد وأنتم حرم ولو كان كذلك لوجب أن يكون موجبا لإباحة الصيد في الإحرام لأنه استثناء من

٢٩٠

المحظور إذ كان مثل قوله( إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) سوى الصيد مما قد بين وسيبين تحريمه في الثاني أو أن يكون معناه أوفوا بالعقود غير محلى الصيد وأحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم قوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ ) روى عن السلف فيه وجوه فروى عن ابن عباس أن الشعائر مناسك الحج وقال مجاهد الصفا والمروة والهدى والبدن كل ذلك من الشعائر وقال عطاء فرائض الله التي حدها لعباده وقال الحسن دين الله كله لقوله تعالى( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) أى دين الله وقيل إنها أعلام الحرم نهاهم أن يتجاوزوها غير محرمين إذا أرادوا دخول مكة وهذه الوجوه كلها في احتمال الآية والأصل في الشعائر أنها مأخوذة من الإشعار وهي الإعلام من جهة الإحساس ومنه مشاعر البدن وهي الحواس والمشاعر أيضا هي المواضع التي قد أشعرت بالعلامات وتقول قد شعرت به أى علمته وقال تعالى( لا يَشْعُرُونَ ) يعنى لا يعلمون ومنه الشاعر لأنه يشعر بفطنته لما لا يشعر به غيره وإذا كان الأصل على ما وصفنا فالشعائر العلامات واحدها شعيرة وهي العلامة التي يشعر بها الشيء ويعلم فقوله تعالى( لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ ) قد انتظم جميع معالم دين الله وهو ما أعلمناه الله تعالى وحده من فرائض دينه وعلاماتها بأن لا يتجاوزوا حدوده ولا يقصروا دونها ولا يضيعوها فينتظم ذلك جميع المعاني التي رويت عن السلف من تأويلها فاقتضى ذلك حظر دخول الحرم إلا محرما وحظر استحلاله بالقتال فيه وحظر قتل من لجأ إليه ويدل أيضا على وجوب السعى بين الصفا والمروة لأنهما من شعائر الله على ما روى عن مجاهد لأن الطواف بهما كان من شريعة إبراهيم عليه السلام وقد طاف النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بهما فثبت أنهما من شعائر الله وقوله عز وجل( وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ ) روى عن ابن عباس وقتادة أن إحلاله هو القتال فيه قال الله تعالى في سورة البقرة( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ) وقد بينا أنه منسوخ وذكرنا قول من روى عنه ذلك وأن قوله( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ) نسخه وقال عطاء حكمه ثابت والقتال في الشهر الحرم محظور وقد اختلف في المراد بقوله( وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ ) فقال قتادة معناه الأشهر الحرم وقال عكرمة هو ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب وجائز أن يكون المراد بقوله( وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ ) هذه الأشهر كلها وجائز أن يكون جميعها في حكم واحد منها وبقية الشهور معلوم حكمها من جهة دلالة اللفظ إذ

٢٩١

كان جميعها في حكم واحد منها فإذا بين حكم واحد منها فقد دل على حكم الجميع قوله تعالى( وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ ) أما الهدى فإنه يقع على كل ما يتقرب به من الذبائح والصدقات قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم المبتكر إلى الجمعة كالمهدى بدنة ثم الذي يليه كالمهدى بقرة ثم الذي يليه كالمهدى شاة ثم الذي يليه كالمهدى دجاجة ثم الذي يليه كالمهدى بيضة فسمى الدجاجة والبيضة هديا وأراد به الصدقة وكذلك قال أصحابنا فيمن قال ثوبي هذا هدى أن عليه أن يتصدق به إلا أن الإطلاق إنما يتناول أحد هذه الأصناف الثلاثة من الإبل والبقر والغنم إلى الحرم وذبحه فيه قال الله تعالى( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) ولا خلاف بين السلف والخلف من أهل العلم أن أدناه شاة وقال تعالى( مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ ) وقال( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) وأقله شاة عند جميع الفقهاء فاسم الهدى إذا أطلق يتناول ذبح أحد هذه الأصناف الثلاثة في الحرم وقوله( وَلَا الْهَدْيَ ) أراد به النهى عن إحلال الهدى الذي قد جعل للذبح في الحرم وإحلاله استباحة لغير ما سيق إليه من القربة وفيه دلالة على حظر الانتفاع بالهدى إذا ساقه صاحبه إلى البيت أو أوجبه هديا من جهة نذر أو غيره وفيه دلالة على حظر الأكل من الهدايا نذرا كان أو واجبا من إحصار أو أجزاء صيد وظاهره يمنع جواز الأكل من هدى المتعة والقران لشمول الاسم له إلا أن الدلالة قد قامت عندنا على جواز الأكل منه وأما قوله عز وجل( وَلَا الْقَلائِدَ ) فإن معناه لا تحلوا القلائد وقد روى في تأويل القلائد وجوه عن السلف فقال ابن عباس أراد الهدى المقلد قال أبو بكر هذا يدل على أن من الهدى ما يقلد ومنه ما لا يقلد والذي يقلد الإبل والبقر والذي لا يقلد الغنم فحظر تعالى إحلال الهدى مقلدا وغير مقلد وقال مجاهد كانوا إذا أحرموا يقلدون أنفسهم والبهائم من لحاء شجر الحرم فكان ذلك أمنا لهم فحظر الله تعالى استباحة ما هذا وصفه وذلك منسوخ في الناس وفي البهائم غير الهدايا وروى نحوه عن قتادة في تقليد الناس لحاء شجر الحرم وقال بعض أهل العلم أراد به قلائد الهدى بأن يتصدقوا بها ولا ينتفعوا بها وروى عن الحسن أنه قال يقلد الهدى بالنعال فإذا لم توجد فالجفاف(1) تقور ثم تجعل في أعناقها ثم يتصدق بها وقيل هو صوف يفتل فيجعل في أعناق الهدى قال أبو

__________________

(1) قوله فالجفاف جمع جف بضم الجيم وتشديد الفاء وهو وعاء الطلع ويقال للوطب الخلق جف أيضا.

٢٩٢

بكر قد دلت الآية على أن تقليد الهدى قربة وأنه يتعلق به حكم كونه هديا وذلك بأن يقلده ويريد أن يهديه فيصير هديا بذلك وإن لم يوجبه بالقول فمتى وجد على هذه الصفة فقد صار هديا لا تجوز استباحته والانتفاع به إلا بأن يذبحه ويتصدق به وقد دل أيضا على أن قلائد الهدى يجب أن يتصدق بها لاحتمال اللفظ لها وكذلك روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في البدن التي نحر بعضها بمكة وأمر عليا بنحر بعضها وقال له تصدق بحلالها وخطمها ولا تعط الجزار منها شيئا فإنا نعطيه من عندنا وذلك دليل على أنه لا يجوز ركوب الهدى ولا حلبه ولا الانتفاع بلبنه لأن قوله( وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ ) قد تضمن ذلك كله وقد ذكر الله القلائد في غير هذا الموضع بما دل به على القربة فيها وتعلق الأحكام بها وهو قوله تعالى( جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ) فلو لا ما تعلق بالهدى والقلائد من الحرمات والحقوق التي هي لله تعالى كتعلقها بالشهر وبالكعبة لما ضمها إليهما عند الأخبار عما فيها من المنافع وصلاح الناس وقوامهم وروى الحكم عن مجاهد قال لم تنسخ من المائدة إلا هاتان الآيتان( لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ ) نسختها( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) ـ( فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ ) الآية نسختها( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ) قال أبو بكر يريد به نسخ تحريم القتال في الشهر الحرام ونسخ القلائد التي كانوا يقلدون به أنفسهم وبهائمهم من لحاء شجر الحرم ليأمنوا به ولا يجوز أن يريد نسخ قلائد الهدى لأن ذلك حكم ثابت بالنقل المتواتر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم والصحابة والتابعين بعدهم وروى مالك بن مغول عن عطاء في قوله تعالى( وَلَا الْقَلائِدَ ) قال كانوا يقلدون لحاء شجر الحرم يأمنون به إذا خرجوا فنزلت( لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ ) قال أبو بكر يجوز أن يكون حظر الله انتهاك حرمة من يفعل ذلك على ما كان عليه أهل الجاهلية لأن الناس كانوا مقرين بعد مبعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما كانوا عليه من الأمور التي لا يحظرها العقل إلى أن نسخ الله منها ما شاء فنهى الله عن استحلال حرمة من تقلد بلحاء شجر الحرم ثم نسخ ذلك من قبل أن الله قد أمن المسلمين حيث كانوا بالإسلام وأما المشركين فقد أمر الله بقتلهم حتى يسلموا بقوله تعالى( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) فصار حظر قتل المشرك الذي تقلد بلحاء شجر الحرم منسوخا والمسلمون قد استغنوا عن ذلك فلم يبق له حكم وبقي حكم قلائد الهدى ثابتا وقد حدثنا عبد الله بن

٢٩٣

محمد بن إسحاق المروزى قال حدثنا الحسين بن أبى الربيع الجرجانى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا الثوري عن بيان عن الشعبي قال لم تنسخ من سورة المائدة إلا هذه الآية( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ ) وحدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسين بن أبى الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى( لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ ) الآية قال منسوخ كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تقلد من السمر فلم يعرض له أحد وإذا رجع تقلد قلادة شعر فلم يعرض له أحد وكان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت فنسختها قوله تعالى( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) وروى يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة في قوله تعالى( جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ) حواجز جعلها الله بين الناس في الجاهلية وكان الرجل إذا لقى قاتل أبيه في الشهر الحرام لم يعرض له ولم يقربه وكان الرجل إذا لقى الهدى مقلدا وهو يأكل العصب من الجوع لم يعرض له ولم يقربه وكان الرجل إذا أراد البيت تقلد قلادة من شعر تمنعه من الناس وكان إذا نفر تقلد قلادة من الإذخر أو من لحاء شجر الحرام فمنعت الناس عنه وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد الله قال حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن على بن أبى طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ ) قال كان المسلمون والمشركون يحجون البيت جميعا فنهى الله تعالى المؤمنين أن يمنعوا أحدا أن يحج البيت أو يعرضوا له من مؤمن أو كافر ثم أنزل الله بعد هذا( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ) وقال تعالى( ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ) وقد روى إسحاق بن يوسف عن ابن عون قال سألت الحسن هل نسخ من المائدة شيء فقال لا وهذا يدل على أن قوله تعالى( وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ ) إنما أريد به المؤمنون عند الحسن لأنه إن كان قد أريد به الكفار فذلك منسوخ بقوله( فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ) وقوله أيضا( وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ ) حظر القتال فيه منسوخ بما قدمنا إلا أن يكون عند الحسن هذا الحكم ثابتا على نحو ما روى عن عطاء قوله تعالى

٢٩٤

( يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً ) روى عن ابن عمر أنه قال أريد به الريح في التجارة وهو نحو قوله تعالى( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ ) وروى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سئل عن التجارة في الحج فأنزل الله تعالى ذلك وقد ذكرناه فيما تقدم وقال مجاهد في قوله تعالى( يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً ) الأجرة والتجارة قوله تعالى( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) قال مجاهد وعطاء في آخرين هو تعليم إن شاء صاد وإن شاء لم يصد قال أبو بكر هو إطلاق من حظر بمنزلة قوله تعالى( فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ ) لما حظر البيع بقوله( وَذَرُوا الْبَيْعَ ) عقبه بالإطلاق بعد الصلاة بقوله( فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ ) وقوله تعالى( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) قد تضمن إحراما متقدما لأن الإحلال لا يكون إلا بعد الإحرام وهذا يدل على أن قوله( وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ ) قد اقتضى كون من فعل ذلك محرما فيدل على أن سوق الهدى وتقليده يوجب الإحرام ويبدل قوله( وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ ) على أنه غير جائز لأحد دخول مكة إلا بالإحرام إذ كان قوله( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) قد يضمن أن يكون من أم البيت الحرام فعليه إحرام يحل منه ويحل له الاصطياد بعده وقوله( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) قد أراد به الإحلال من الإحرام والخروج من الحرم أيضا لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد حظر الاصطياد في الحرم بقوله ولا ينفر صيدها ولا خلاف بين السلف والخلف فيه فعلمنا أنه قد أراد به الخروج من الحرم والإحرام جميعا وهو يدل على جواز الاصطياد لمن حل من إحرامه بالحلق وإن بقاء طواف الزيارة عليه لا يمنع لقوله تعالى( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) وهذا قد حل إذ كان هذا الحلق واقعا للإحلال وقوله تعالى( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا ) قال ابن عباس وقتادة لا يجر منكم لا يحملنكم وقال أهل اللغة يقال جرمنى زيد على بغضك أو حملني عليه وقال الفراء لا يكسبنكم يقال جرمت على أهلى أى كسبت لهم وفلان جريمة أهله أى كاسبهم قال الشاعر :

جريمة ناهض في رأس نيق

ترى لعظام ما جمعت صليبا(1)

__________________

(1) قوله جريمة إلى آخره البيت لأبى خراش الهذلي يصف عقابا تكسب لفرخها الناهض وتزقه ما تأكله من لحم طيرا كلته وتبقى العظاء يسيل منها الصليب وهو الودك كما في التهذيب للأزهرى.

٢٩٥

ويقال جرم يجرم جرما إذا قطع وقوله تعالى( شَنَآنُ قَوْمٍ ) قرئ بفتح النون وسكونها فمن فتح النون جعله مصدرا من قولك شنئته أشنأه شنآنا والشنآن البغض فكأنه قال ولا يجر منكم بغض قوم وكذلك روى عن ابن عباس وقتادة قالا عداوة قوم ومن قرأ بسكون النون فمعناه بغيض قوم فنهاهم الله بهذه الآية أن يتجاوزوا الحق إلى الظلم والتعدي لأجل تعدى الكفار بصدهم المسلمين عن المسجد الحرام ومثله قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك * وقوله تعالى( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ) يقتضى ظاهره إيجاب التعاون على كل ما كان تعالى لأن البر هو طاعات الله وقوله تعالى( وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) نهى عن معاونة غيرنا على معاصى الله تعالى قوله تعالى( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ) الآية الميتة ما فارقته الروح بغير تزكية مما شرط علينا الزكاة في إباحته وأما الدم فالمحرم منه هو المسفوح لقوله تعالى( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) وقد بينا ذلك في سورة البقرة* والدليل أيضا على أن المحرم منه هو المسفوح اتفاق المسلمين على إباحة الكبد والطحال وهما دمان وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أحلت لي ميتتان ودمان يعنى بالدمين الكبد والطحال فأباحهما وهما دمان إذ ليسا بمسفوح فدل على إباحة كل ما ليس بمسفوح من الدماء فإن قيل لما حصر المباح منه بعدد دل على حظر ما عداه قيل هذا غلط لأن الحصر بالعدد لا يدل على أن ما عداه حكمه بخلافه ومع ذلك فلا خلاف أن مما عداه من الدماء ما هو المباح وهو الدم الذي يبقى في حلل اللحم بعد الذبح وما يبقى منه في العروق فدل على أن حصره الدمين بالعدد وتخصيصهما بالذكر لم يقتض حظر جميع ما عداهما من الدماء وأيضا فإنه لما قال( أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) ثم قال( وَالدَّمَ ) كانت الألف واللام للمعهود وهو الدم المخصوص بالصفة وهو أن يكون مسفوحا وقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أحلت لي ميتتان ودمان إنما ورد مؤكدا لمقتضى قوله عز وجل( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) إذ ليسا بمسفوحين ولو لم يره لكانت دلالة الآية كافية في الاقتصار بالتحريم على المسفوح منه دون غيره وأن الكبد والطحال غير محرمين وقوله تعالى( وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ ) فإنه قد تناول شجمه وعظمه وسائر أجزائه ألا ترى أن الشحم المخالط للحم قد اقتضاه اللفظ لأن اسم

٢٩٦

اللحم يتناوله ولا خلاف بين الفقهاء في ذلك وإنما ذكر اللحم لأنه معظم منافعه وأيضا فإن تحريم الخنزير لما كان منهما اقتضى ذلك تحريم سائر أجزائه كالميتة والدم وقد ذكرنا حكم شعره وعظمه فيما تقدم وأما قوله( وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ) فإن ظاهره يقتضى تحريم ما سمى عليه غير الله لأن الإهلال هو إظهار الذكر والتسمية وأصله استهلال الصبى إذا صاح حين يولد ومنه إهلال المحرم فينتظم ذلك تحريم ما سمى عليه الأوثان على ما كانت العرب تفعله وينتظم أيضا تحريم ما سمى عليه اسم غير الله أى اسم كان فيوجب ذلك أنه لو قال عند الذبح باسم زيد أو عمرو أن يكون غير مذكى وهذا يوجب أن يكون ترك التسمية عليه موجبا تحريمها وذلك لأن أحدا لا يفرق بين تسمية زيد على الذبيحة ترك التسمية رأسا* قوله تعالى( وَالْمُنْخَنِقَةُ ) فإنه روى عن الحسن وقتادة والسدى والضحاك أنها التي تختنق بحبل الصائد أو غيره حتى تموت ومن نحوه حديث عباية بن رفاعة عن رافع بن خديج أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذكوا بكل شيء إلا السن والظفر وهذا عندنا على السن والظفر غير المنزوعين لأنه يصير في معنى المخنوق وأما قوله تعالى( وَالْمَوْقُوذَةُ ) فإنه روى عن ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك والسدى أنها المضروبة بالخشب ونحوه حتى تموت يقال فيه وقذه يقذه وقذا وهو وقيذ إذا ضربه حتى يشفى على الهلاك ويدخل في الموقوذة كل ما قتل منها على غير وجه الزكاة وقد روى أبو عامر العقدى عن زهير بن محمد عن زيد بن أسلم عن ابن عمر أنه كان يقول في المقتولة بالبندقة تلك الموقوذة وروى شعبة عن قتادة عن عقبة بن صهبان عن عبد الله بن المغفل أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن الخذف وقال أنها لا تنكأ العدو ولا تصيد الصيد ولكنها تكسر السن وتفقأ العين ونظير ذلك ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عيسى قال حدثنا جرير عن منصور عن إبراهيم عن همام عن عدى بن حاتم قال قلت يا رسول الله أرمى بالمعراض فأصيب أفآكل قال إذا رميت بالمعراض وذكرت اسم الله فأصاب فخرق فكل وإن أصاب بعرضه فلا تأكل * حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا عبد الله بن أحمد قال حدثنا هشيم عن مجالد وزكريا وغيرهما عن الشعبي عن عدى بن حاتم قال سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صيد المعراض فقال ما أصاب بحده فخرق فكل وما أصاب بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكل فجعل ما أصاب بعرضه من غير جراحة موقوذة وإن لم يكن

٢٩٧

مقدورا على ذكاته وفي ذلك دليل على أن شرط ذكاة الصيد الجراحة وإسالة الدم وإن لم يكن مقدورا على ذبحه واستيفاء شروط الذكاة فيه وعموم قوله [والموقوذة] عام في المقدور على ذكاته وفي غيره مما لا يقدر على ذكاته وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا أحمد بن محمد بن النضر قال حدثنا معاوية بن عمر قال حدثنا زائدة قال حدثنا عاصم بن أبى النجود عن زر بن حبيش قال سمعت عمر بن الخطاب يقول يا أيها الناس هاجروا ولا تهجروا وإياكم والأرنب يحذفها أحدكم بالعصا أو الحجر يأكلها ولكن ليذك لكم الأسل الرماح والنبل وأما قوله تعالى [والمتردية] فإنه روى عن ابن عباس والحسن والضحاك وقتادة قالوا هي الساقطة من رأس جبل أو في بئر فتموت وروى مسروق عن عبد الله بن مسعود قال إذا رميت صيدا من على جبل فمات فلا تأكله فإنى أخشى أن يكون التردي هو الذي قتله وإذا رميت طيرا فوقع في ماء فمات فلا تطعمه فإنى أخشى أن يكون الغرق قتله* قال أبو بكر لما وجد هناك سببا آخر وهو التردي وقد يحدث عنه الموت حظر أكله وكذلك الوقوع في الماء وقد روى نحو ذلك النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن محمد بن إسماعيل قال حدثنا ابن عرفة قال حدثنا ابن المبارك عن عاصم الأحول عن الشعبي عن عدى بن حاتم أنه سأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصيد فقال إذا رميت بسهمك وسميت فكل إن قتل إلا أن تصيبه في الماء فلا ترى أيهما قتله ونظيره ما روى عنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في صيد الكلب أنه قال إذا أرسلت كلبك المعلم وسميت فكل وإن خالطه كلب آخر فلا تأكل فحظرصلى‌الله‌عليه‌وسلم أكله إذا وجد مع الرمي سبب آخر يجوز حدوث الموت منه مما لا يكون ذكاة وهو الوقوع في الماء ومشاركة كلب آخر معه وكذلك قول عبد الله في الذي يرمى الصيد وهو على الجبل فيتردى أنه لا يؤكل لاجتماع سبب الحظر والإباحة في تلفه فجعل الحكم للحظر دون الإباحة وكذلك لو اشترك مجوسي ومسلم في قتل صيد أو ذبحه لم يؤكل وجميع ما ذكرنا أصل في أنه متى اجتمع سبب الحظر وسبب الإباحة كان الحكم للحظر دون الإباحة* وأما قوله تعالى( وَالنَّطِيحَةُ ) فإنه روى عن الحسن والضحاك وقتادة والسدى أنها المنطوحة حتى تموت وقال بعضهم هي الناطحة حتى تموت قال أبو بكر هو عليهما جميعا فلا فرق بين أن تموت من نطحها لغيرها وبين موتها من نطح غيرها لها* وأما قوله( وَما أَكَلَ السَّبُعُ ) فإن معناه

٢٩٨

ما أكل منه السبع حتى يموت فحذف والعرب تسمى ما قتله السبع وأكل منه أكيلة السبع ويسمون الباقي منه أيضا أكيلة السبع قال أبو عبيدة( ما أَكَلَ السَّبُعُ ) مما أكل السبع فيأكل منه ويبقى بعضه وإنما هو فريسته وجميع ما تقدم ذكره في الآية بالنهى عنه قد أريد به الموت من ذلك وقد كان أهل الجاهلية يأكلون جميع ذلك فحرمه الله تعالى ودل بذلك عل أن سائر الأسباب التي يحدث عنها الموت للأنعام محظورا أكلها بعد أن لا يكون من فعل أدمى على وجه التذكية* وأما قوله تعالى( إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ ) فإنه معلوم أن الاستثناء راجع إلى بعض المذكور دون جميعه لأن قوله( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ) لا خلاف أن الاستثناء غير راجع إليه وإن ذلك لا يجوز أن تلحقه الزكاة وقد كان حكم الاستثناء أن يرجع إلى ما يليه وقد ثبت أنه لم يعد إلى ما قبل المنخنقة فكان حكم العموم فيه قائما وكان الاستثناء عائد إلى المذكور من عند قوله( وَالْمُنْخَنِقَةُ ) لما روى ذلك عن على وابن عباس والحسن وقتادة وقالوا كلهم إن أدركت ذكاته بأن توجد له عين تطرف أو ذنب يتحرك فأكله جائز وحكى عن بعضهم أنه قال الاستثناء عائدا إلى قوله( وَما أَكَلَ السَّبُعُ ) دون ما تقدم لأنه يليه وليس هذا بشيء لاتفاق السلف على خلافه ولأنه لا خلاف أن سبعا لو أخذ قطعة من لحم البهيمة فأكلها أو تردى شاة من جبل ولم يشف بها ذلك على الموت فذكاها صاحبها أن ذلك جائز مباح الأكل وكذلك النطيحة وما ذكر معها فثبت أن الاستثناء راجع إلى جميع المذكور من عند قوله( وَالْمُنْخَنِقَةُ ) وإنما قوله( إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ ) فإنه استثناء منقطع بمنزلة قوله لكن ما ذكيتم كقوله( فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ ) ومعناه لكن قوم يونس وقوله( طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى ) ومعناه لكن تذكرة لمن يخشى ونظائره في القرآن كثيرة* وقد اختلف الفقهاء في ذكاة الموقوذة ونحوها فذكر محمد في الأصل في المتردية إذا أدركت ذكاتها قبل أن تموت أكلت وكذلك الموقوذة والنطيحة وما أكل السبع وعن أبى يوسف في الإملاء أنه إذا بلغ به ذلك إلى حال لا يعيش في مثله لم يؤكل وإن ذكى قبل الموت وذكر ابن سماعة عن محمد أنه إن كان يعيش منه اليوم ونحوه أو دونه فذكاها حلت وإن كان لا يبقى إلا كبقاء المذبوح لم يؤكل وإن ذبح واحتج بأن عمر كانت به جراحة متلفة وصحت عهوده

٢٩٩

وأوامره ولو قتله قاتل في ذلك الوقت كان عليه القود وقال مالك إذا أدركت ذكاتها وهي حية تطرف أكلت وقال الحسن بن صالح إذا صارت بحال لا تعيش أبدا لم تؤكل وإن ذبحت وقال الأوزاعى إذا كان فيها حياة فذبحت أكلت والمصيودة إذا ذبحت لم تؤكل وقال الليث إذا كانت حية وقد أخرج السبع ما في جوفها أكلت إلا ما بان عنها وقال الشافعى في السبع إذا شق بطن الشاة ونستيقن أنها تموت إن لم تذك فذكيت فلا بأس بأكلها* قال أبو بكر قوله تعالى( إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ ) يقتضى ذكاتها مادامت حية فلا فرق في ذلك بين أن تعيش من مثله أولا تعيش وأن تبقى قصير المدة أو طويلها وكذلك روى عن على وابن عباس أنه إذا تحرك شيء منها صحت ذكاتها ولم يختلفوا في الأنعام إذا أصابتها الأمراض المتلفة التي تعيش معها مدة قصيرة أو طويلة إن ذكاتها بالذبح فكذلك المتردية ونحوها والله أعلم.

باب في شرط الذكاة قال أبو بكر قوله تعالى( إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ ) اسم شرعي يعتوره معان منها موضع الذكاة وما يقطع منه ومنها الآلة ومنها الدين ومنها التسمية في حال الذكر وذلك فيما كانت ذكاته بالذبح عند القدرة فأما السمك فإن ذكاته بحدوث الموت فيه عن سبب من خارج وما مات حتف أنفه فغير مذكى وقد بينا ذلك فيما تقدم من الكلام في الطافي في سورة البقرة* فأما موضع الذكاة في الحيوان المقدور على ذبحه فهو اللبة وما فوق ذلك إلى اللحيين وقال أبو حنيفة في الجامع الصغير لا بأس بالذبح في الحلق كله أسفل الحلق وأوسطه وأعلاه وأما ما يجب قطعه فهو الأوداج وهي أربعة الحلقوم والمريء والعرقان اللذان بينهما الحلقوم والمريء فإذا فرى المذكى ذلك أجمع فقد أكمل الذكاة على تمامها وسنتها فإن قصر عن ذلك ففرى من هذه الأربعة ثلاثة فإن بشر بن الوليد روى عن أبى يوسف أن أبا حنيفة قال إذا قطع أكثر الأوداج أكل وإذا قطع ثلاثة منها أكل من أى جانب كان وكذلك قال أبو يوسف ومحمد ثم قال أبو يوسف بعد ذلك لا تأكل حتى تقطع الحلقوم والمريء وأحد العرقين وقال مالك بن أنس والليث يحتاج أن يقطع الأوداج والحلقوم وإن ترك شيئا منها لم يجزه ولم يذكر المريء وقال الثوري لا بأس إذا قطع الأوداج وإن لم يقطع الحلقوم وقال الشافعى أقل ما يجزى من الذكاة قطع الحلقوم

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606