الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245236 / تحميل: 6211
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

الآيتان

( وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩) )

التّفسير

اليهود وعبادتهم للعجل :

في هذه الآيات يقصّ القرآن الكريم إحدى الحوادث المؤسفة ، وفي نفس الوقت العجيبة التي وقعت في بني إسرائيل بعد ذهاب موسىعليه‌السلام إلى ميقات ربّه ، وهي قصّة عبادتهم للعجل التي تمّت على يد شخص يدعى «السامري» مستعينا بحلي بني إسرائيل وما كان عندهم من آلات الزّينة.

إنّ هذه القصّة مهمّة جدّا بحيث إنّ الله تعالى أشار إليها في أربع سور ، في سورة البقرة الآية (٥١) و (٥٤) و (٩٢) و (٩٣) ، وفي سورة النساء الآية (١٥٣) ، والأعراف الآيات المبحوثة هنا ، وفي سورة طه الآية (٨٨) فما بعد.

٢٢١

على أنّ هذه الحادثة مثل بقية الظواهر الاجتماعية لم تكن لتحدث من دون مقدمة وأرضيّة ، فبنوا إسرائيل من جهة قضوا سنين مديدة في مصر وشاهدوا كيف يعبد المصريون الأبقار أو العجول. ومن جانب آخر عند ما عبروا النيل شاهدوا في الضفة الأخرى مشهدا من الوثنية ، حيث وجدوا قوما يعبدون البقر ، وكما مرّ عليك في الآيات السابقة طلبوا من موسىعليه‌السلام صنما كتلك الأصنام ، ولكن موسىعليه‌السلام وبّخهم وردّهم ، ولا مهم بشدّة.

وثالث ، تمديد مدّة ميقات موسىعليه‌السلام من ثلاثين إلى أربعين ، الذي تسبب في أن تشيع في بني إسرائيل شائعة وفاة موسىعليه‌السلام بواسطة بعض المنافقين ، كما جاء في بعض التفاسير.

والأمر الرابع ، جهل كثير من بني إسرائيل بمهارة السامريّ في تنفيذ خطته المشئومة ، كل هذه الأمور ساعدت على أن تقبل أكثرية بني إسرائيل في مدّة قصيرة على الوثنية ، ويلتفوا حول العجل الذي أوجده لهم السامريّ للعبادة.

وفي الآية الحاضرة يقول القرآن الكريم أوّلا : إنّ قوم موسىعليه‌السلام بعد ذهابه إلى ميقات ربّه صنعوا من حليّهم عجلا ، وكان مجرّد تمثال لا روح فيه ، ولكنّه كان له صوت كصوت البقر ، واختاروه معبودا لهم :( وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ ) .

ومع أنّ هذا العمل (أي صنع العجل من الحليّ) صدر من السامريّ (كما تشهد بذلك آيات سورة طه) إلّا أنّه مع ذلك نسب هذا العمل إلى بني إسرائيل لأنّ كثيرا منهم ساعد السامريّ في هذا العمل وعاضده ، وبذلك كانوا شركاء في جريمته ، في حين رضي بفعله جماعة أكبر منهم.

وظاهر هذه الآية وإن كان يفيد ـ في بدء النظر ـ أنّ جميع قوم موسى شاركوا في هذا العمل ، إلّا أنّه بالتوجه إلى الآية (١٥٩) من هذه السورة ، التي تقول :( وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) يستفاد أنّ المراد من الآية المبحوثة

٢٢٢

هنا ليس كلّهم ، بل أكثرية عظيمة منهم سلكوا هذا السبيل ، وذلك بشهادة الآيات القادمة التي تعكس عجز هارون عن مواجهتها وصرفها عن ذلك.

كيف كان للعجل الذهبي خوار؟

و «الخوار» هو الصوت الخاص الذي يصدر من البقر أو العجل ، وقد ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ السامري بسبب ما كان عنده من معلومات وضع أنابيب خاصّة في باطن صدر العجل الذهبي ، كان يخرج منها هواء مضغوط فيصدر صوت من فم ذلك العجل الذهبيّ شبيه بصوت البقر.

ويقول آخرون : كان العجل قد وضع في مسير الريح بحيث كان يسمع منه صوت على أثر مرور الريح على فمه الذي كان مصنوعا بهيئة هندسية خاصّة.

أمّا ما ذهب إليه جماعة من المفسّرين من أن السامريّ أخذ شيئا من تراب من موضع قدم جبرئيل وصبّه في العجل فصار كائنا حيا ، وأخذ يخور خوارا طبيعيا فلا شاهد عليه في آيات القرآن الكريم ، كما سيأتي بإذن الله في تفسير آيات سورة طه.

وكلمة «جسدا» شاهد على أن ذلك العجل لم يكن حيوانا حيا ، لأنّ القرآن يستعمل هذه اللفظة في جميع الموارد في القرآن الكريم بمعنى الجسم المجرّد من الحياة والروح(١) .

وبغض النظر عن جميع هذه الأمور يبعد أن يكون الله سبحانه قد أعطى الرجل المنافق (مثل السامريّ) مثل تلك القدرة التي يستطيع بها أن يأتي بشيء يشبه معجزة النّبي موسىعليه‌السلام ، ويحيي جسما ميتا ، ويأتي بعمل يوجب ضلال الناس حتما ولا يعرفون وجه بطلانه وفساده.

__________________

(١) راجع الآيات (٨) من سورة الأنبياء ، و (٣٤) من سورة ص.

٢٢٣

أمّا لو كان العجل بصورة تمثال ذهبي كانت أدلة بطلانه واضحة عندهم ، وكان من الممكن أن يكون وسيلة لاختبار الأشخاص لا شيء آخر.

والنقطة الأخرى التي يجب الانتباه إليها ، هي أنّ السامري كان يعرف أن قوم موسىعليه‌السلام قد عانوا سنين عديدة من الحرمان ، مضافا إلى أنّهم كانت تغلب عليهم روح المادية ـ كما هو الحال في أجيالهم في العصر الحاضر ـ ويولون الحليّ والذهب احتراما خاصّا ، لهذا صنع عجلا من ذهب حتى يستقطب إليه اهتمام بني إسرائيل من عبيد الثروة.

أمّا أن هذا الشعب الفقير المحروم من أين كان له كل ذلك الذهب والفضة؟فقد جاء في الرّوايات أن نساء بني إسرائيل كنّ قد استعرن من الفرعونيين كمية كبيرة من الحليّ والذهب والفضّة لإقامة أحد أعيادهن ، ثمّ حدثت مسألة الغرق وهلاك آل فرعون ، فبقيت تلك الحلي عند بني إسرائيل(١) .

ثمّ يقول القرآن الكريم معاقبا وموبّخا : ألم ير بنو إسرائيل أن هذا العجل لا يتكلم معهم ولا يهديهم لشيء ، فكيف يعبدونه؟( أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً ) .

يعني أن المعبود الحقيقي هو من يعرف ـ على الأقل ـ الحسن والقبيح ، وتكون له القدرة على هداية أتباعه ، ويتحدث إلى عبدته ويهديهم سواء السبيل ، ويعرّفهم على طريقة العبادة.

وأساسا كيف يسمح العقل البشري بأن يعبد الإنسان شيئا ميتا صنعه وسوّاه بيده ، حتى لو استطاع ـ افتراضا ـ أن يبدّل الحلّي إلى عجل واقعي فإنّه لا يليق به أن يعبده ، لأنّه عجل يضرب ببلادته المثل.

إنّهم في الحقيقة ظلموا بهذا العمل أنفسهم ، لهذا يقول في ختام الآية :

__________________

(١) راجع تفسير مجمع البيان ، ذيل الآية المبحوثة هنا.

٢٢٤

( اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ ) .

بيد أنّه برجوع موسىعليه‌السلام إليهم ، واتضاح الأمر عرف بنو إسرائيل خطأهم ، وندموا على فعلهم ، وطلبوا من الله أن يغفر لهم ، وقالوا : إذا لم يرحمنا الله ولم يغفر لنا فإنّنا لا شك خاسرون( وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) .

وجملة( سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ ) أي عند ما عثروا على الحقيقة ، أو عند ما وقعت نتيجة عملهم المشؤومة بأيديهم ، أو عند ما سقطت كل الحيل من أيديهم ولم يبق بأيديهم شيء في الأدب العربي كناية عن الندامة ، لأنّه عند ما يقف الإنسان على الحقائق ، ويطلع عليها ، أو يصل إلى نتائج غير مرغوب فيها ، أو تغلق في وجهه أبواب الحيلة ، فإنّه يندم بطبيعة الحال ، ولهذا يكون الندم من لوازم مفهوم هذه الجملة.

وعلى كل حال ، فقد ندم بنو إسرائيل من عملهم ، ولكن الأمر لم ينته إلى هذا الحدّ ، كما نقرأ في الآيات اللاحقة.

* * *

٢٢٥

الآيتان

( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١) )

التّفسير

ردة فعل شديدة تجاه عبادة العجل :

في هاتين الآيتين بيّن تعالى بالتفصيل ما جرى بين موسىعليه‌السلام وبين عبدة العجل عند عودته من ميقاته المشار اليه في الآية السابقة. فهاتان الآيتان تعكسان ردة فعل موسىعليه‌السلام الشديدة التي أدت إلى يقظة هذه الجماعة.

يقول في البدء : ولما عاد موسىعليه‌السلام إلى قومه غضبان ممّا صنع قومه من عبادة العجل ، قال لهم : ضيعتم ديني وأسأتم الخلافة( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ

٢٢٦

غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي ) (١) .

إنّ هذه الآية تفيد بوضوح أن موسى عند رجوعه إلى قومه من الميقات وقبل أن يلتقي ببني إسرائيل كان غضبان أسفا ، وهذا لأجل أن الله تعالى كان قد أخبر موسىعليه‌السلام بأنّه اختبر قومه من بعده وقد أضلّهم السامريّ( قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ ) (٢) .

ثمّ إنّ موسىعليه‌السلام قال لهم :( أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ) .

للمفسّرين كلام كثير في تفسير هذه الجملة ، وقد ذكروا احتمالات عديدة مختلفة ، إلّا أن ظاهر الآيات يفيد أن المراد هو أنّكم تعجلتم في الحكم بالنسبة إلى أمر الله تعالى في قضية تمديد مدّة الميقات من ثلاثين إلى أربعين ، فاعتبرتم عدم مجيئي في المدة المقررة ـ أوّلا ـ دليلا على موتي ، في حين كان يتعين عليكم أن تتريثوا وتنتظروا قليلا ريثما تمرّ أيّام ثمّ تتّضح الحقيقة.

وفي هذا الوقت بالذات ، أي عند ما واجه موسىعليه‌السلام هذه الأزمة الخطيرة من حياة بني إسرائيل ، وكان الغضب الشديد يسر بل كل كيانه ، ويثقل روحه حزن عميق ، وقلق شديد على مستقبل بني إسرائيل ، لأنّ التخريب والإفساد أمر سهل ، وربّما استطاع شخص واحد تخريب كيان عظيم ولكن الإصلاح والتعمير أمر صعب وعسير جدّا. خاصّة أنّه إذا سرت في شعب جاهل متعنت نغمة مخالفة شاذة ، وافقت هوى ورغبة ، فإنّ محوها لا شك لن يكون أمرا ممكنا وسهلا.

فهنا لا بدّ أن يظهر موسىعليه‌السلام غضبه الشديد ويقوم بالحدّ الأعلى من ردّ الفعل والسخط ، كي يوقظ الأفكار المخدّرة لدى بني إسرائيل ، ويوجد انقلابا في

__________________

(١) «الأسف» كما يقول الراغب في «المفردات» بمعنى الحزن المقرون بالغضب ، وهذه الكلمة قد تستعمل في أحد المعنيين أيضا. وتعني في الأصل أن ينزعج الإنسان من شيء بشدة ، ومن الطبيعي أن هذا الانزعاج إذا كان بسبب من هو دونه ظهر مقرونا بالغضب ، وبردة فعل غاضبة ، وإذا كان ممن هو فوقه ممن لا يستطيع مقاومته ظهر من صورة الحزن المجرّد ، وقد نقل عن ابن عباس أيضا أن للحزن والغضب أصل واحد وإن اختلفا لفظا.

(٢) سورة طه ، ٨٥.

٢٢٧

ذلك المجتمع الذي انحرف عن الحق ، إذ العودة إلى الحق والصواب عسيرة في غير هذه الصورة.

إنّ القرآن يستعرض ردّة فعل موسى الشديدة في قبال ذلك المشهد وفي تلك الأزمة ، إذ يقول : إنّ موسى ألقى ألواح التوراة التي كانت بيده ، وعمد إلى أخيه هارون وأخذ برأسه ولحيته وجرهما إلى ناحيته ساخطا غاضبا.

وكما يستفاد من آيات قرآنية أخرى ، وبخاصّة في سورة طه ، أنّه علاوة على ذلك لام هارون بشدّة ، وصاح به ، لماذا قصّرت في المحافظة على عقائد بني إسرائيل وخالفت أمري(١) .

وفي الحقيقة كان هذا الموقف يعكس ـ من جانب ـ حالة موسىعليه‌السلام النفسية ، وانزعاجه الشديد تجاه وثنية بني إسرائيل وانحرافهم ، ومن جانب آخر كان ذلك وسيلة مؤثرة لهزّ عقول بني إسرائيل الغافية ، والفاتهم إلى بشاعة عملهم.

وبناء على هذا إذا كان إلقاء ألواح التوراة في هذا الموقف قبيحا ـ فرضا ـ وكان الهجوم على أخيه لا يبدو كونه عملا صحيحا ، ولكن مع ملاحظة الحقيقة التالية ، وهي أنّه من دون إظهار هذا الموقف الانزعاجي الشديد لم يكن من الممكن إلفات نظر بني إسرائيل إلى بشاعة خطئهم ولكان من الممكن أن تبقى رواسب الوثنية في أعماق نفوسهم وأفكارهم إنّ هذا العمل لم يكن فقط غير مذموم فحسب ، بل كان يعد عملا واجبا وضروريا.

ومن هنا يتّضح أنّنا نحتاج أبدا إلى التبريرات والتوجيهات التي ذهب إليها بعض المفسّرين ، للتوفيق بين عمل موسىعليه‌السلام هذا وبين مقام العصمة التي يتحلى بها الأنبياء ، لأنّه يمكن أن يقال هنا : إنّ موسىعليه‌السلام انزعج في هذه اللحظة من تأريخ بني إسرائيل انزعاجا شديدا لم يسبق له مثيل ، لأنّه وجد نفسه أمام أسوأ

__________________

(١) سورة طه : ٩٢ ـ ٩٣.

٢٢٨

المشاهد ألا وهو الانحراف عن التوحيد إلى عبادة العجل ، وكان يرى جميع آثارها وأخطارها المتوقعة.

وعلى هذا فإنّ إلقاء الألواح ومؤاخذة أخيه بشدّة في مثل هذه اللحظة مسألة طبيعية تماما.

إنّ ردة الفعل الشديدة هذه وإظهار الغضب هذا ، كان له أثر تربوي بالغ في بني إسرائيل ، فقد قلب المشهد رأسا على عقب في حين أنّ موسى لو كان يريد أن ينصحهم بالكلمات اللينة والمواعظ الهادئة ، لكان قبولهم لكلامه ونصحه أقلّ بكثير.

ثمّ إنّ القرآن الكريم ذكر أنّ هارون قال ـ وهو يحاول استعطاف موسى وإثبات برائته في هذه المسألة ـ : يا ابن أمّ هذه الجماعة الجاهلة جعلوني ضعيفا إلى درجة أنّهم كادوا يقتلونني ، فإذن أنا بريء ، فلا تفعل بي ما سيكون موجبا لشماتة الأعداء بي ولا تجعلني في صف هؤلاء الظالمين( قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .

إن التعبير ب : «ابن أمّ» في الآية الحاضرة أو «يا ابن أمّ» (كما في الآية ٩٤ من سورة طه) مع أن موسى وهارون كانا من أب وأم واحدة ، إنّما هو لأجل تحريك مشاعر الرحمة والعطف لدى موسىعليه‌السلام في هذه الحالة الساخنة.

وفي المآل تركت هذه القصّة أثرها ، وسرعان ما التفت بنو إسرائيل إلى قبح أعمالهم ، فاستغفروا الله وطلبوا العفو منه.

لقد هدأ غضب موسىعليه‌السلام بعض الشيء ، وتوجه إلى الله( قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) .

إنّ طلب موسىعليه‌السلام العفو والمغفرة من الله تعالى لنفسه ولأخيه ، لم يكن لذنب اقترفاه ، بل كان نوعا من الخضوع لله ، والعودة إليه ، وإظهار النفرة من أعمال

٢٢٩

الوثنيين القبيحة ، وكذا لإعطاء درس عملي للجميع حتى يفكروا ويروا إذا كان موسى وأخوه ـ وهما لم يقترفا انحرافا ـ يطلبان من الله العفو والمغفرة هكذا ، فالأجدر بالآخرين أن ينتبهوا ويحاسبوا أنفسهم ، ويتوجهوا إلى الله ويسألوه العفو والمغفرة لذنوبهم. وقد فعل بنو إسرائيل هذا فعلا ـ كما تفيد الآيتان السابقتان.

مقاربة بين تواريخ القرآن والتوراة الحاضرة :

يستفاد من الآيات الحاضرة ، وآيات سورة طه أن بني إسرائيل هم الذين صنعوا العجل لا هارون ، وأنّ شخصا خاصا في بني إسرائيل يدعى السامريّ هو الذي أقدم على مثل هذا العمل ، ولكن هارون ـ أخا موسى ووزيره ومساعده ـ لم يكن يتفرج على هذا الأمر بل عارضه ، ولم يأل جهدا في هذا السبيل ، حتى أنّهم كادوا أن يقتلوه لمعارضته لهم.

ولكن العجيب أنّ التوراة الفعلية تنسب صنع العجل والدعوة إلى عبادته إلى هارون خليفة موسىعليه‌السلام ووزيره وأخيه ، إذ نقرأ في الفصل ٣٢ من سفر الخروج من التوراة ، ما يلي :

«لما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النّزول من الجبل ، اجتمع الشعب على هارون وقالوا له : قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا. لأنّ هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ماذا أصابه. فقال لهم هارون : انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها ، فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم وأتوا بها إلى هارون ، فأخذ ذلك من أيديهم وصوّره بالإزميل وصنعه عجلا مسبوكا ، فقالوا : هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر.

فلمّا نظر هارون بنى مذبحا أمامه ونادى هارون وقال : غدا عيد للربّ (ثمّ بين مراسيم تقديم القرابين لهذا العمل».

٢٣٠

ثمّ تشرح التوراة قصّة رجوع موسىعليه‌السلام غاضبا إلى بني إسرائيل وإلقاء التوراة ، ثمّ تقول :

«وقال موسى لهارون : ماذا صنع بك هذا الشعب حتى جلبت عليه خطيّة عظيمة؟!

فقال هارون : لا يحم غضب سيدي. أنت تعرف الشعب إنّه في شرّ».

إنّ ما ذكر هو قسم من قصة عبادة بني إسرائيل للعجل برواية التوراة الحاضرة بالنص ، في حين أن التوراة نفسها تشير في فصول أخرى إلى سمّو مقام هارون وعلو منزلته ، ومن ذلك التصريح بأنّ بعض معاجز موسى قد ظهرت وتحققت على يدي هارون (الإصحاح الثامن من سفر الخروج من التوراة).

كما أنّها تصف هارون بأنّه نبي قد أعلن عن نبوته موسى (الإصحاح الثامن من سفر الخروج أيضا).

وعلى كل حال ، تعترف التوراة لهارون ـ الذي كان خليفة لموسىعليه‌السلام وعارفا بتعاليم شريعته ـ بمنزلة سامية ولكن انظروا إلى الخرافة التي تصف بأنّه كان صانع العجل ، ومن عوامل حصول الوثنية في بني إسرائيل ، وحتى أنّه اعتذر لموسىعليه‌السلام عليه بما هو أقبح من الذنب حيث قال : إنّهم كانوا يميلون إلى الشرّ أساسا وقد شجعتهم عليه.

في حين أنّ القرآن الكريم ينزه هذين القائدين من كل ألوان التلوّث بأدران الشرك والوثنية.

على أنّه ليس هذا المورد هو المورد الوحيد الذي ينزّه فيه القرآن الكريم ساحة الأنبياء والرسل ، وتنسب التوراة الحاضرة أنواع الإهانات والخرافات إلى الأنبياء المطهرين. وفي اعتقادنا أنّ أحد الطرق لمعرفة أصالة القرآن وتحريف التوراة والإنجيل الفعليين ، هو هذه المقارنة بين القضايا التأريخية التي وردت في هذه الكتب حول الأنبياء والرسل.

* * *

٢٣١

الآيات

( إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤) )

التّفسير

لقد فعلت ردة فعل موسىعليه‌السلام الشديدة فعلتها في المآل فقد ندم عبدة العجل الإسرائيليون ـ وهم أكثرية القوم ـ على فعلهم ، وقد طرح هذا الندم في عدّة آيات قبل هذه الآية أيضا (الآية ١٤٩) ومن أجل أن لا يتصور أن مجرّد الندم من مثل هذه المعصية العظيمة يكفي للتوبة ، يضيف القرآن الكريم قائلا :( إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) .

وهكذا لأجل أن لا يتصور أنّ هذا القانون يختص بهم أضاف قائلا :( وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ) .

٢٣٢

إن التعبير بـ «اتّخذوا» إشارة إلى أنّ الوثن ليس له أية واقعية ، ولكن انتخاب عبدة الأوثان هو الذي أعطاه تلك الشخصية والقيمة الوهمية ، ولهذا أتى بكلمة «العجل» وراء هذه الجملة فورا ، يعني أنّ ذلك العجل هو نفس ذلك العجل حتّى بعد انتخابه للعبادة.

أمّا أنّ هذا الغضب ما هو؟ وهذه الذّلة ما هي؟ فالقرآن لم يصرح بشيء عنهما في هذه الآية ، وإنّما اكتفى بإشارة مجملة ، ولكن يمكن أن تكون إشارة إلى الشقاء والمصائب والمشكلات التي ابتلوا بها بعد هذه الحادثة وقبل دخولهم الأرض المقدسة.

أو أنّه إشارة إلى مهمّة قتل بعضهم بعضا العجيبة التي كلّفوا بها كجزاء وعقوبة لمثل ذلك الذنب العظيم.

وهنا قد يطرح هذا السؤال ، وهو أنّ من المرتكزات الفكرية هو أنّ حقيقة التوبة تتحقق بالندامة ، فكيف لم يشمل العفو الإلهي بني إسرائيل مع أنّهم ندموا على فعلهم؟

والجواب هو أنّه ليس لدينا أي دليل على أنّ مجرّد الندامة لوحدها تنفع في جميع الأحوال والمواضع. صحيح أنّ الندامة هي أحد أركان التوبة ، ولكنّها ليست كل شيء.

إنّ معصية عبادة الأوثان السجود للعجل في ذلك النطاق الواسع وفي تلك المدّة القصيرة ، وبالنسبة إلى ذلك الشعب الذي شاهد بأم عينيه كل تلكم المعاجز والآيات ، لم تكن معصية يمكن التغاضي عنها بمثل هذه السهولة ، وكفاية يقول مرتكبها : «أستغفر الله» وينتهي كلّ شيء.

بل لا بدّ أن يرى هذا الشعب غضب الله ويذوق طعم المذلة في هذه الحياة ، ويساط الذين افتروا على الله الكذب بسوط البلاء حتى لا يفكروا مرّة أخرى في ارتكاب مثل هذا الذنب العظيم.

٢٣٣

وفي الآية اللاحقة يكمّل القرآن الكريم هذا الموضوع ويقول في صورة قانون عام :( وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) فالذين يتوبون من بعد السيئة وتتوفر كل شروط التوبة لديهم يغفر الله لهم ويعفو عنهم.

جواب على سؤالين :

١ ـ هل الآيتان الحاضرتان جملة معترضة وقعت وسط قصّة بني إسرائيل كتذكير لرسول الله والمسلمين؟ أو أنّه خطاب الله لموسىعليه‌السلام بعد قصّة عبادة بني إسرائيل للعجل؟

ذهب بعض المفسّرين إلى الاحتمال الأوّل ، وارتضى بعض آخر الاحتمال الثّاني.

والذين ارتضوا الاحتمال الأوّل استدلوا بجملة( إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) لأنّ الجملة في صورة خطاب إلى الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

والذين ارتضوا الاحتمال الثّاني استدلوا بجملة( سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ ) الذي جاء في صورة الفعل المضارع.

ولكن ظاهر الآيات يفيد أنّ هذه الجملة قسم من خطاب الله إلى موسىعليه‌السلام في تعقيب قصّة العجل ، وفعل المضارع (سينالهم) شاهد جيد على هذا الموضوع ، وليس هناك ما يمنع أن يكون «إنّ ربّك» خطاب موجه إلى موسىعليه‌السلام (١) .

٢ ـ لماذا جاء الإيمان في الآية الحاضرة بعد ذكر التوبة والحال أنّه ما لم يكن هناك إيمان لا تتحقق توبة؟

إنّ الجواب على هذا السؤال يتّضح من أن قواعد الإيمان تتزلزل عند

__________________

(١) فيكون التقدير في الآية الحقيقة هكذا : «قال الله لموسى أن الذين ...».

٢٣٤

ارتكاب المعصية ، ويصيبها نوع من الوهن ، إلى درجة أنّنا نقرأ في الأحاديث الإسلامية :

«لا يشرب الخمر وهو مؤمن ، ولا يزني وهو مؤمن» أي أن الإيمان يتضاءل ضوؤه ، ويفقد أثره.

ولكن عند ما تتحقق التوبة يعود الإيمان إلى ضوئه وأثره الأوّل ، وكأنّ الإيمان تجدّد مرّة أخرى.

ثمّ إنّ الآيات الحاضرة ركزت ـ فقط ـ على الذلة في الحياة الدنيا ، ويستفاد من ذلك أن توبة بني إسرائيل من هذه المعصية بعد الندامة من قضية الوثنية وتذوق العقوبة في هذه الدنيا ، قد قبلت بحيث أنّها أزالت عقوبتهم في الآخرة ، وإن بقيت أعباء الذنوب الأخرى التي لم يتوبوا منها في أعناقهم.

الآية الأخيرة من الآيات المبحوثة تقول : ولما سكن غضب موسىعليه‌السلام ، وحصل على النتيجة التي كان يتوخاها ، أخذ الألواح من الأرض ، تلك الألواح التي كانت تحتوي ـ من أوّلها إلى آخرها ـ على الرحمة والهداية ، رحمة وهداية للذين يشعرون بالمسؤولية ، والذين يخافون الله ، ويخضعون لأوامره وتعاليمه( وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ) .

* * *

٢٣٥

الآيتان

( وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦) )

التّفسير

مندوبو بني إسرائيل في الميقات :

في الآيتين الحاضرتين يعود القرآن الكريم مرّة أخرى إلى قصة ذهاب موسى إلى الميقات «الطور» في صحبة جماعة ، ويقص قسما آخر من تلك الحادثة.

٢٣٦

هذا وقد وقع بين المفسّرين كلام في أنّه هل كان لموسىعليه‌السلام ميقات واحد مع ربّه ، أو أكثر من ميقات واحد؟ وقد أقام كل واحد منهم شواهد لإثبات مقصوده من القرآن الكريم ، ولكنّه كما قلنا سابقا ـ في ذيل الآية (١٤٢) من هذه السورة ـ أنّه يظهر من مجموع القرائن في القرآن الكريم والرّوايات أن موسىعليه‌السلام كان له ميقات واحد ، وذلك برفقة جماعة من بني إسرائيل.

وفي هذا الميقات بالذات أنزل الله الألواح على موسى وكلمهعليه‌السلام ، وفي نفس هذا الميقات اقترح بنو إسرائيل على موسىعليه‌السلام أن يطلب من الله أن يريهم نفسه جهرة. في هذا الوقت نفسه نزلت الصاعقة أو حدث الزلزال وغشي على موسىعليه‌السلام وسقط بنو إسرائيل على الأرض مغشيا عليهم ، وقد ورد هذا الموضوع في حديث مرويّ عن علي بن إبراهيم في تفسيره.

إنّ كيفية وضع آيات هذه السورة وإن كان يحدث ـ في بادئ النظر ـ إشكالا ، وهو : كيف أشار الله تعالى أولا إلى ميقات موسىعليه‌السلام ثمّ ذكر قصّة عبادة العجل ، ثمّ عاد مرّة أخرى إلى مسألة الميقات؟

هل هذا النظم وهذا الطراز من الكلام يناسب الفصاحة والبلاغة التي يتسم بها القرآن الكريم؟

ولكن مع الالتفات إلى أنّ القرآن ليس كتاب تأريخ يسجل الحوادث حسب تسلسلها ، بل هو كتاب هداية وتربية وبناء إنساني ، وفي مثل هذا الكتاب توجب أهمية الموضوع أن يترك متابعة حادثة مؤقتا ، ويعمد إلى بحث ضروري آخر ، ثمّ يعود مرّة أخرى لنفس الحادثة الأولى.

بناء على هذا لا توجد أية ضرورة إلى أن نعتبر الآية المذكورة هنا إشارة إلى بقية قصة عبادة العجل ، ونقول : إنّ موسىعليه‌السلام ذهب مرّة أخرى بصحبة بني إسرائيل إلى جبل الطور بعد قضية عبادة العجل للاعتذار إلى الله والتوبة ، كما قال بعض المفسّرين ، لأنّ هذا الاحتمال بغض النظر عن جهات أخرى يبدو بعيدا في

٢٣٧

النظر من جهة أنّه آل إلى هلاك جماعة ذهبت إلى الميقات للاعتذار والتوبة ، فهل من الممكن أن يهلك الله تعالى جماعة أتوا إلى الميقات للاعتذار إلى الله بالنيابة عن قومهم؟!

وعلى كل حال ، فقد قال القرآن الكريم في الآيتين الحاضرتين أوّلا :( وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا ) .

ولكن بني إسرائيل حيث إنّهم سمعوا كلام الله طلبوا من موسىعليه‌السلام أن يطلب من الله تعالى أن يريهم نفسه ـ لبني إسرائيل ـ جهرة ، وفي هذا الوقت بالذات أخذهم زلزال عظيم وهلك الجماعة ، ووقع موسىعليه‌السلام على الأرض مغشيا عليه ، وعند ما أفاق قال : ربّاه لو شئت لأهلكتنا جميعا ، يعني بماذا أجيب قومي لو هلك هؤلاء( فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ ) .

ثمّ قال : ربّاه إنّ هذا المطلب التافة إنّما هو فعل جماعة من السفهاء ، فلا تؤاخذنا بفعلهم :( أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا ) ؟

ولقد اعتبر بعض المفسّرين ـ وجود كلمة «الرجفة» في هذه الآية ، وكلمة «الصاعقة» في الآية (٥٥) من سورة البقرة المتعلقة بطلب رؤية الله جهرة ـ دليلا على التفاوت بين الميقاتين. ولكن ـ كما قلنا سابقا ـ إن الصاعقة في كثير من الأوقات ترافق الرجفة الشديدة ، لأنّه على أثر التصادم بين الشحنات الكهربائية الموجبة في السحب والسالبة في الأرض تبرق شرارة عظيمة تهزّ الجبال والأراضي بشدّة ، وربّما تحطمها وتبعثرها كما جاء في قصّة البلاء الذي نزل على قوم صالح العصاة ، حيث يعبر فيه عنه بالصاعقة تارة (سورة فصلت الآية ١٧) وتارة بالرجفة (سورة الأعراف الآية ٧٨).

وقد استدل بعض المفسّرين بعبارة( بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا ) على أنّ العقوبة هنا كانت لأجل الفعل الذي صدر من بني إسرائيل (مثل عبادة العجل) لا لأجل الكلام الذي قالوه في مجال طلب رؤية الله جهرة.

٢٣٨

والجواب على هذا الكلام واضح أيضا ، لأنّ الكلام فعل من أفعال الإنسان أيضا ، وإطلاق «الفعل» على «الكلام» ليس أمرا جديدا وغير متعارف ، مثلا عند ما نقول : إنّ الله يثيبنا يوم القيامة على أعمالنا ، فإنّ من المسلّم أنّ لفظة أعمالنا تشمل كلماتنا أيضا.

ثمّ إنّ موسىعليه‌السلام قال في عقيب هذا التضرع والطلب من الله : ربّاه إنّي أعلم أن هذا كان اختبارك وامتحانك ، فأنت تضلّ من تشاء (وكان مستحقا لذلك) وتهدي من تشاء (وكان لائقا لذلك)( إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ ) واختبارك.

وهنا أيضا تكلّم المفسّرون في معنى «الفتنة» كثيرا وذهبوا مذاهب شتى ، ولكن بالنظر إلى أن لفظة «الفتنة» جاءت في القرآن الكريم بمعنى الاختبار والامتحان مرارا كما في الآية (٢٨) من سورة الأنفال :( أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) وكذا في الآية (٢) من سورة العنكبوت ، والآية (١٢٦) من سورة التوبة) لا يكون مفهوم الآية الحاضرة غامضا. لأنّه لا شك في أن بني إسرائيل واجهوا في هذا المشهد اختبارا شديدا ، فأراهم الله تعالى أن هذا الطلب (طلب رؤية الله) طلب تافة ومستحيل الوقوع.

وفي ختام الآية يقول موسىعليه‌السلام : رباه :( أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ ) .

من مجموع الآيات والرّوايات يستفاد أنّ الهالكين قد استعادوا حياتهم في المآل وعادوا برفقة موسىعليه‌السلام إلى بني إسرائيل ، وقصّوا عليهم كلّ ما سمعوه وشاهدوه ، وأخذوا في إرشاد الغافلين الجاهلين وهدايتهم.

وفي الآية اللاحقة يشير إلى طلب موسىعليه‌السلام من ربّه وتكميل مسألة التوبة التي ذكرت في الآيات السابقة ، يقول موسى :( وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ ) .

٢٣٩

و «الحسنة» تعني كل خير وجمال ، وعلى هذا الأساس تشمل جميع النعم ، وكذا التوفيق للعمل الصالح ، والمغفرة ، والجنّة ، وكل نوع من أنواع السعادة ، ولا دليل على حصرها بنوع خاص من هذه المواهب ، كما ذهب إليه بعض المفسّرين.

ثمّ يبيّن القرآن الكريم دليل هذا الطلب هكذا :( إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ ) أي عدنا إليك واعتذرنا عمّا فعله سفهاؤنا ، حيث طلبوا ما لا يليق بمقام عظمتك.

و «هدنا» مشتقة من مادة «هود» بمعنى العودة المقترنة بالرفق والهدوء ، وكما قال بعض اللغويين : تشمل العودة من الخير إلى الشر أيضا ، وكذا من الشر إلى الخير(١) ، ولكن جاءت في كثير من الموارد بمعنى التوبة والعودة إلى طاعة الله.

يقول الراغب في «المفردات» نقلا عن بعض : «يهود في الأصل من قولهم : هدنا إليك ، وكان اسم مدح ، ثمّ صار بعد نسخ شريعتهم لازما لهم ، وإن لم يكن فيه معنى المدح».

ولكن بما أن بعض اللغويين ذكر أن معنى هذه اللفظة هو الرجوع من الشر إلى الخير ، أو من الخير إلى الشر ، يمكن القول بأن هذه الكلمة ليست متضمنة للمدح بحال ، بل هي حاكية عن الاضطراب الروحي والقلق الأخلاقي الذي كانت تعاني منه تلك الجماعة.

وقال بعض آخر من المفسّرين أنّ علّة تسمية هؤلاء القوم بـ «اليهود» لا يرتبط مطلقا بهذه اللفظة ، بل لفظة يهود متخذة أصلا من مادة «يهوذا» الذي هو اسم لأحد أبناء يعقوبعليه‌السلام ثمّ تبدلت الذال إلى الدال ، وصارت يهودا ، فيطلق على المنسوب إليه يهودي(٢) .

ولقد أجاب الله ـ في النهاية ـ دعاء موسىعليه‌السلام وقبل توبته ، ولكن لا بصورة

__________________

(١) تفسير المنار ، المجلد التاسع ، الصفحة ٢٢١ ، وقد نقل هذا المعنى عن ابن الأعرابي.

(٢) تفسير أبو الفتوح ، المجلد الخامس ، الصفحة ٣٠٠ ، في تفسير الآية الحاضرة.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

بحوث

١ ـ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأمي

صحيح أن القراءة والكتابة تعدّان ـ لكل إنسان ـ كمالا إلّا أنّه يتفق أحيانا ـ وفي ظروف معينة ـ أن يكون من الكمال في عدم القراءة والكتابة ويصدق هذا الموضوع في شأن الأنبياء ، وخاصة في نبوّة خاتم الأنبياء «محمّد»صلى‌الله‌عليه‌وآله .

إذ يمكن أن يوجد عالم قدير وفيلسوف مطّلع ، فيدّعي النبوّة ويظهر كتابا عنده على أنّه من السماء ، ففي مثل هذه الظروف قد تثار الشكوك والاحتمالات أو الوساوس في أنّ هذا الكتاب ـ أو هذا الدين ـ هو من عنده لا من السماء!.

إلّا أنّنا إذا رأينا إنسانا ينهض من بين أمّة متخلفة ، ولم يتعلم على يد أي أستاذ ، ولم يقرأ كتابا ولم يكتب ورقة ـ فيأتي بكتاب عظيم عظمة عالم الوجود ، بمحتوى عال جدا فهنا يمكن معرفة أن هذا الكتاب ليس من نسج فكره وعقله ، بل هو وحي السماء وتعليم إلهي ، ويدرك هذا بصورة جيدة!.

كما أنّ هناك تأكيدا على أمية النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في آيات القرآن الأخرى ، وكما أشرنا آنفا في الآية (١٥٧) من سورة الأعراف إلى أن هناك ثلاثة تفاسير لمعنى «الأميّ» ، وأوضحها وأحسنها هو أنّه من لا يقرأ ولا يكتب.

ولم يكن في محيط الحجاز وبيئته ـ أساسا ـ درس ليقرأ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا معلم ليحضر عنده ويستفيد منه ، وقلنا : إنّ عدد المثقفين الذين كانوا يقرءون ويكتبون في مكّة لم يتجاوز سبعة عشر نفرا فحسب ، ويقال أن من النساء كانت امرأة واحدة تجيد القراءة والكتابة(١) .

وطبيعي في مثل هذا المحيط الذي تندر فيه أدنى مرحلة للعلم وهي القراءة والكتابة ، لا يوجد شخص يعرف القراءة والكتابة ولا يعرف عنه الناس شيئا وإذا ظهر مدع وقال ـ بضرس قاطع ـ إنّني لم أقرأ ولم أكتب ، لم ينكر عليه أحد

__________________

(١) فتوح البلدان للبلاذري طبع مصر ، ص ٤٥٩.

٤٢١

دعاءه ، فيكون عدم الإنكار دليلا جليّا على صدق مدّعاه ، وعلى كل حال فإنّ هذه الكيفية الخاصة للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله التي نوهت عنها الآيات المتقدمة ، إنّما هي لإكمال إعجاز القرآن ، ولقطع السبيل أمام حجج المتذرعين بالأباطيل الواهية ، وفيها تأثير بالغ ونافع جدّا.

أجل ، إنّه عالم منقطع النظير ، لكنّه لم يدرس في مدرسة ، بل تعلّم من وحي السماء!.

تبقى هناك ذريعة واحدة يحتج بها المتذرعون ، وهي أنّ النّبي سافر إلى الشام مرّة أو مرتين «لفترة وجيزة ولغرض التجارة» قبل نبوته ، فيقولون : ربّما اتصل في بعض هاتين السفرتين بعلماء أهل الكتاب وتعلّم منهم هذه المسائل!.

والدليل على ضعف هذا الادّعاء منطو في نفسه ، فكيف يمكن أن يسمع إنسان جميع هذه الدروس وتواريخ الأنبياء والأحكام والمعارف الجليلة ، وهو لم يمض إلى مدرسة ولم يقرأ شيئا ، فيحفظ كل ذلك بهذه السرعة ، ويودعه في ذهنه ، ثمّ يبيّنه ويفصله خلال مدّة ثلاث وعشرين سنة؟! وأن يبدي موقفا مناسبا للحوادث غير المتوقعة والتي لم يسبق لها مثيل.

وهذا يشبه تماما أن نقول مثلا : إنّ فلانا تعلم قائمة العلوم والفنون الطبية كلّها في عدّة أيّام ، وأنّه كان مشرفا على معالجة المرضى في المستشفى الفلاني ، ومستشارا للأطباء ، هذا كلام أقرب إلى المزاح والهزل منه إلى الجد.

وينبغي الالتفات إلى هذه المسألة ، هي أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن بلغ مرحلة النبوّة ، يحتمل أن يكون قادرا على القراءة والكتابة ، حينئذ وذلك بواسطة التعليم الالهي وإن لم يرد في التواريخ أنّه استفاد من هذه الطريقة! ولم يقرأ شيئا بنفسه أو يكتب شيئا بيده ، ولعل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجنب كل ذلك في طول عمره لئلا يتذرع المتذرعون فيثيروا الشكوك بنبوّته! الشيء الوحيد الذي جاء في كتب التأريخ أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كتبه بنفسه ، هو صلح الحديبية الذي جاء في مسند أحمد أن «النّبي أمسك القلم

٤٢٢

بيده وكتب معاهدة الصلح»(١) .

إلّا أنّ جماعة من علماء الإسلام أنكروا هذا الحديث ، وقالوا : إنّ هذا مخالف لصريح الآيات ، وإن اعتقد البعض بأنّه ليس في الآيات صراحة ، لأنّ الآيات ناظرة لحال النّبي قبل بعثته ، فما يمنع أن يكتب النّبي على وجه الاستثناء بعد أن نال مقام النبوّة في مورد واحد ويكون ذلك بنفسه معجزة أخرى من معاجزه!.

إلّا أن الاعتماد في مثل هذه المسألة على خبر الواحد مجانب للحزم والاحتياط ، ومخالف لما ثبتت في علم الأصول حتى لو قلنا أنّ هذا الخبر لا اشكال فيه.(٢)

٢ ـ طريق النفوذ في الآخرين

لا يكفي الاستدلال القوي المتين للنفوذ إلى قلوب الآخرين واكتسابهم بالكلام الحق ، فانّ أسلوب التعامل مع الطرف الآخر وطريقة البحث والمناظرة تترك أعمق الأثر في هذه المرحلة فكثيرا ما يتفق أن يوجد أناس مطّلعون ولهم يد طولى في البحوث العلمية الدقيقة ، إلّا أنّهم قلّما يوفقون للنفوذ إلى قلوب الآخرين ، بسبب عدم معرفتهم بكيفية المجادلة بالتي هي أحسن ، وعدم معرفتهم بالبحوث البنّاءة!.

وبتعبير آخر فإنّ النفوذ الى مرحلة الوعي ـ في المخاطب ـ غير كاف وحده ، بل ينبغي الدخول إلى مرحلة عدم الوعي الذي يمثل القسم الأكبر لروح الإنسان أيضا.

ويستفاد من مطالعة أحوال الأنبياء ، ولا سيما حال النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمّة الهدىعليهم‌السلام ـ بصورة جيدة أن هؤلاء العظام سلكوا أحسن سبل الأخلاق

__________________

(١) مسند أحمد ، ج ٤ ، ص ٢٩٨.

(٢) ورد في صدد «النّبي الأمي» شرح مفصل آخر ذيل الآية (١٥٧) من سورة الأعراف.

٤٢٣

الاجتماعية وأسس المعارف النفسية والإنسانية ، لأجل تحقيق أهدافهم التبليغية والتربوية!.

وكانت طريقة تعاملهم مع الناس أن يكتسبوهم إليهم بشكل سريع فينجذبوا إليهم ، وإن كان بعض الناس يميل إلى أن يضفي على مثل هذه الأمور ثوب الإعجاز دائما ، إلّا أنّه ليس كذلك ، فلو اتبعنا سنتهم وطريقتهم لاستطعنا بسرعة أن نترك في الناس عظيم الأثر ، وأن ننفذ إلى أعماق قلوبهم.

والقرآن يخاطب نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله بصراحة فيقول :( وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) (١) أو كثيرا ما يرى أنّ بعضهم بعد ساعات من الجدال والمناظرة ، لا أنه لا يحصل على تقدم في مناقشاته فحسب ، بل على العكس يجعل الطرف الآخر متعصبا ومتشددا في عقيدته الباطلة بصورة أكثر وذلك دليل على أنّه لم يتبع أسلوب المجادلة بالتي هي أحسن.

فالخشونة في البحث ، وطلب الاستعلاء ، وتحقير الطرف المقابل ، وإظهار التكبر والغرور ، وعدم احترام أفكار الآخرين ، وعدم الجدية في المناقشات والبحوث ، كلها من الأمور التي تبعث على انهزام الإنسان في بحثه ، وعدم انتصاره على الطرف الآخر. لذلك فإنّنا نرى في مباحث الأخلاق الإسلامية بحثا تحت عنوان «تحريم الجدال والمراء» والمراد منه الأبحاث التي لا يطلب من ورائها الحق ، بل المراد منها الاستعلاء وإبراز العضلات لا غير!.

وتحريم الجدال والمراء ـ بالإضافة إلى الجوانب المعنوية والأخلاقية ـ إنّما هو لأنّه لا يحصل من ورائهما على نتيجة فكرية ملحوظة.

والجدال والمراء في حرمتهما متقاربان ، إلّا أن العلماء من المسلمين جعلوا فرقا بين كلّ منهما «فالمراء» معناه إظهار الفضل والكمال ، «والجدال» يراد منه تحقير الطرف المقابل!.

__________________

(١) آل عمران ـ الآية ١٥٩.

٤٢٤

وقالوا : إنّ الجدال هي المراحل الهجومية الأولى في البحث وأمّا المراء فيراد منه الصدّ الدفاعي في الكلام.

كما أنّ هناك قولا بأن الجدال في المسائل العلمية ، أمّا المراء فهو في الأعم منها «وبالطبع فإنه لا تضادّ بين هذه التفاسير جميعا».

وعلى كل حال ، فإنّ الجدال أو البحث مع الآخرين ، تارة يقع بالتي هي أحسن ، وذلك ما بيّناه بالشرائط المتقدمة آنفا ، وينبغي رعايتها بدقّة. وتارة يكون بغير الأحسن ، وذلك في ما لو أهملت الأمور التي ذكرناها في مستهل كلامنا على الجدال ، وجعلت في طيّ النسيان.

ونختتم هذا الكلام بعدة روايات بليغة ونافعة لنتعلم منها :

ففي حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتى يدع المراء وإن كان محقا»(١) .

ونقرأ في حديث آخر أن سليمان النّبيعليه‌السلام قال لولده «يا بني إيّاك والمراء ، فإنّه ليست فيه منفعة ، وهو يهيج بين الأخوان العداوة»(٢) .

٣ ـ الكافرون والظالمون

نواجه في الآيات المتقدمة آنفا هذا التعبير( وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ ) ومرّة أخرى نواجه المضمون ذاته مع شيء من التفاوت فبدلا من كلمة «الكافرون» جاءت كلمة «الظالمون»( وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ ) .

والموازنة بين التعبيرين تدلّ على أن المسألة ليست من قبيل التكرار ، بل هي لبيان موضوعين ، أحدهما يشير إلى جانب عقائدي «الكافرون» والآخر يشير إلى جانب عملي «الظالمون».

__________________

(١) سفينة البحار مادة مرأ.

(٢) إحياء العلوم.

٤٢٥

فالآية الأولى تقول : إنّ الذين اختاروا الشرك والكفر بأحكامهم المسبّقة الباطلة وتقليدهم الأعمى لأسلافهم ، لا يرون آية من آيات الله إلّا أنكروها وإن تقبلتها عقولهم»!

أمّا التعبير الثّاني فيقول : إنّ الذين اختاروا بظلمهم أنفسهم ومجتمعهم طريقا يرون فيه منافعهم الشخصية ، وعزموا على الاستمرار في هذه الطريق ، لا يذعنون لآياتنا. لأنّ آياتنا كما أنّها لا تنسجم مع خطهم الفكري ، فهي لا تنسجم مع خطهم العملي أيضا.

* * *

٤٢٦

الآيات

( وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥) )

التّفسير

أليس القرآن كافيا في إعجازه؟!

الأشخاص الذين لم يذعنوا ويسلّموا للبيان الاستدلالي والمنطقي الذي جاء به القرآن بسبب عنادهم وإصرارهم على الباطل ، ولم يقبلوا بكتاب كالقرآن

٤٢٧

الذي جاء به إنسان أمي كالنّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله دليلا جليّا على حقانية دعوته تذرعوا بحجّة أخرى على سبيل الاستهزاء والسخرية ، وهي أنّه لم لا تأت ـ يا محمّد ـ بمعجزة من المعاجز التي جاء بها موسى وعيسى( وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ ) .

ولم لم يكن لديه مثل عصى موسى ويده البيضاء ونفخة المسيح؟!

ولم لا يهلك أعداءه بمعاجزه ، كما فعل موسى وشعيب وهود ونوح بأممهم المعاندين؟!.

أو كما يعبر على لسانهم القرآن في الآيات ٩٠ ـ ٩٣ من سورة الإسراء( وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً ، أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً ، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً ) .

ومن دون شك فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كانت لديه معاجز غير القرآن الكريم ، كما أن التواريخ تصرح بذلك أيضا إلّا أن أولئك لم يكن قصدهم من وراء كلامهم الحصول على معجزة ، بل كان قصدهم ـ من جهة ـ أن لا يعتبروا القرآن شيئا مهما وكتابا إعجازيا ، ومن جهة أخرى كانوا يريدون معجزات مقترحة «والمراد من المعجزات المقترحة هو أن يأتي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله طبقا لرغبات هذا وذاك بمعاجز خارقة للعادة يقترحونها عليه ، فمثلا يريد منه بعضهم أن يفجّر له الأرض ينابيع من الماء الزلال ، ويريد الآخر منه أن يقلب له الجبال التي في مكّة ذهبا ، ويتذرع الثّالث بأن هذا لا يكفي أيضا بل ينبغي أن يصعد إلى السماء ، وهكذا يجعلون المعجزة على شكل ألعوبة لا قيمة لها ، وآخر الأمر وبعد رؤية كل هذه الأمور يتهمونه بأنه ساحر».

٤٢٨

لذلك فإن القرآن يقول في الآية (١١١) من سورة الأنعام( وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا ) .

وعلى كل حال فإنّ القرآن ، للرد على ذرائع هؤلاء المحتالين ذوي الحجج الواهية ، يدخل من طريقين :

فيقول أوّلا في خطابه لنبيه( قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ ) أي قل لأولئك المعاندين أن الله يدري أية معجزة تناسب أي زمان وأي قوم ، وهو يعلم أي الأفراد هم أتباع الحق ، وينبغي أن يريهم المعاجز الخارقة للعادة ، وأي الأفراد المتذرعون وأتباع هوى النفس؟!

ثمّ يضيف القرآن معقبا أن قل( وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) فمسؤوليتي الإنذار ـ فحسب ـ والإبلاغ وبيان كلام الله ، أمّا المعاجز والأمور الخارقة للعادة فهي بأمر الله.

والجواب الآخر هو قوله تعالى :( أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ ) .

فهم يطلبون معاجز مادية «جسمانية» ، والقرآن بحد ذاته أعظم معجزة معنوية

وهم يريدون معجزة عابرة لا تمكث طويلا ، في حين أن القرآن معجزة خالدة تتلى آياته ليل نهار عليهم وعلى الأجيال من بعدهم.

ترى هل يعقل أن يأتي إنسان أمي وحتى لو كان يقرأ ويكتب فرضا بكتاب بهذا المحتوى العظيم والجاذبية العجيبة ، التي هي فوق قدرة الإنسان والبشر ، ثمّ يدعوا أهل العلم متحديا لهم للإتيان بمثله فيعجزون عن الإتيان بمثله؟!

فلو كانوا حقا طلاب معجزة ، فقد آتيناهم بنزول القرآن أكثر ممّا طلبوه إلّا أنّهم لم يكونوا طلاب معجزة ، بل هم متذرعون بالأباطيل!.

وينبغي الالتفات إلى أن التعبير( أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ ) إنّما يستعمل ـ غالبا ـ في

٤٢٩

موارد يكون الإنسان قد أدّى عملا فوق ما ينتظره الطرف الآخر ، وهو غافل عنه أو يتغافل عنه ، كأن يقول مثلا : لم أحصل على الخدمة الفلانيّة ، في حين أن الخدمة التي قدمت إليه ـ كما في هذه الحال ـ أكبر خدمة ، إلّا أنّه لا يعتبرها شيئا ، ونقول له : أو لم يكفك ما قدمناه؟!

ثمّ بعد هذا كله ينبغي أن تكون المعجزة منسجمة مع ظروف «الزمان والمكان وكيفية دعوة النّبي» فالنّبي الذي يدعوا إلى مبدأ خالد ، ينبغي أن تكون معجزته خالدة أيضا.

والنّبي الذي تستوعب دعوته العالم وتستوعب القرون والأعصار المقبلة ، لا بدّ له من أن يأتي بمعجزة نيّرة «روحية وعقلانية» ليجلب إليه أفكار جميع العلماء والمفكرين ، ومن المسلّم به أن مثل هذا الهدف يتناسب مع القرآن ، لا عصى موسى ولا يده البيضاء.

وفي نهاية الآية يضيف القرآن للتأكيد والتوضيح بصورة أجلى ، فيقول :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

«ذلك» هنا إشارة إلى الكتاب المنزل من السماء ، وهو القرآن.

أجل ، إن القرآن رحمة «وسيلة» للذكرى والتذكر أيضا ، فهو للمؤمنين الذين فتحوا قلوبهم بوجه الحقيقة ، والذين يبتغون النور والطريق السويّ هو لهم رحمة إلهية يحسونها بكل وجودهم ، ويشعرون بالاطمئنان والدعة عنده وكلّما قرءوا آياته تذكروا ، فهي لهم ذكرى وأية ذكرى؟!

ولعل الفرق بين «الرحمة» و «الذكرى» أنّ القرآن ليس معجزة وذكرى فحسب ، بل هو إضافة إلى كل ذلك يحتوي على القوانين التي تمنح الرحمة والمناهج التربوية والإنسانية.

فمثلا كانت عصى موسى معجزة فحسب ، إلّا أنّها لم يكن لها أثر في حياة الناس اليومية ، غير أن القرآن معجزة ، هو في الوقت ذاته منهج كامل الحياة ورحمة أيضا.

٤٣٠

أيضا.

ولمّا كان كل مدع بحاجة إلى الشاهد ، فالقرآن يبيّن في الآية الأخرى أن خير شاهد هو الله( قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً ) .

وبديهي أنّه كلّما كان اطلاع الشاهد وشهادته أكثر ، فإنّ قيمة الشهادة تكون أهم ، لذلك يضيف القرآن بعدئذ قائلا :( يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) .

والآن لنعرف كيف شهد الله على حقانية نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

يحتمل أن تكون هذه الشهادة شهادة عملية ، لأنّه حين يؤتي الله نبيّه معجزة كبرى كالقرآن ، فقد وقع على سند حقانيته وأمضاه.

ترى هل يمكن أن يأتي الله الحكيم العادل بمعجزة على يد كذّاب ، والعياذ بالله! فعلى هذا كانت طريقة إعطاء المعجزة لشخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بنفسها ـ أعظم شهادة على نبوته من قبل الله.

وإضافة للشهادة العملية المتقدمة ، نقرأ في آيات كثيرة من القرآن شهادة قولية في نبوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما في الآية (٤٠) من سورة الأحزاب( ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ ) ، وفي الآية (٢٩) من سورة الفتح أيضا( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ )

قال بعض المفسّرين : إنّ هذه الآية كانت جوابا على ما قاله بعض رؤوساء اليهود من أهل المدينة ، أمثال «كعب بن الأشرف» وأتباعه ، إذ قالوا : يا محمّد ، من يشهد على أنّك مرسل من قبل الله ، فنزلت هذه الآية( قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً ) !

كما يمكن أن تفسّر الآية المتقدمة بتفسير آخر وبيان ثان ، وذلك أنّ المراد من شهادة الله في الآية هي ما سبق من الوعد والذكر في كتب الله السابقة «كالتّوراة والإنجيل» ويعلم بذلك علماء أهل الكتاب بصورة جيدة!.

وفي الوقت ذاته لا منافاة بين التّفسيرات الثلاثة الآنفة الذكر ، ومن الممكن

٤٣١

أن تجتمع هذه التفاسير في معنى الآية أيضا.

وتختتم الآية بنحو من الوعيد والتهديد لأولئك الكفار بالله ، فيقول :( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ) .

وأي خسران أعظم من أن يعطي الإنسان جميع وجوده في سبيل لا شيء؟! كما فعله المشركون ، فقد أعطوا قلوبهم وأرواحهم للأوثان والأصنام ووظّفوا جميع قواهم الجسمانية والإمكانات الاجتماعية والفردية في سبيل الإعلام والتبليغ لمذهبهم الوثني وأهملوا ذكر الله ، فلم يعد عليهم هذا إلّا بالضرر والخسران!.

وغالبا ما يشير القرآن إلى هذا الخسران في آياته ، وفي بعض الآيات يرد التعبير بكلمة «أخسر» وهي إشارة إلى أنّه ليس فوق هذا الخسران من خسارة ولا أعظم منه! (راجع آيات السور «هود ٢٢ والنمل ٥ والكهف ١٠٣»).

والمثل الأهمّ هو أنّه قد يتفق للإنسان أحيانا أن يتضرر في معاملته ويخسر رأس ماله ويغلب على أمره ، وقد تتسع هذه الدائرة أحيانا فيقل كاهله بالديون ، وهذه الحالة أسوأ الحالات والمشركون هم في مثل هذه الحالة ، بل قد يكونون سببا لضلال الآخرين وخسرانهم ، وكما يصطلح عليه : «الفشل سلسلة متصلة»(١) .

في الآيات المتقدمة عرض قسمان من ذرائع الكفار قبال دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد أجيب عنهما :

الأوّل : كان قولهم : لم لا يأتي بمعجزة؟!

فأجاب القرآن : إن هذا الكتاب المنزل من السماء هو أعظم معجزة.

والثّاني : سؤالهم : من الشاهد على صدق دعواك وحقانية النبوة عندك؟

فأجاب القرآن : كفى بالله شهيدا بيني وبينكم يعلم ما في السماوات

__________________

(١) لنا في هذا الصدد بحث مفصل بيناه في ذيل الآية (١٠٣) من سورة الكهف.

٤٣٢

والأرض.

أمّا في الآية التالية فإشارة إلى الذريعة الثّالثة إذ تقول :( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ ) إذ يقولون : لو كان عذاب الله حقا على الكافرين فلم لا يأتينا!؟

فيجيب القرآن على هذه الذريعة بثلاثة أجوبة.

الأوّل :( وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ ) .

وهذا الزمان المعين «الأجل» إنّما هو لهدف أصلي ، للارعواء عن باطلهم وتيقظهم ، أو إتمام الحجة عليهم ، فالله لا يستعجل أبدا في أمره ، لأنّ العجلة خلاف حكمته.

والثّاني : إن أولئك الذين يتذرعون بهذا القول ما يدريهم لعل العذاب يأخذهم على حين غرة من أنفسهم( وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) (١) .

وبالرغم من أن موعد العذاب ـ في الواقع ـ معين ومقرّر إلّا أن المصلحة تقتضي ألّا يطّلعوا عليه ، وأن يأتيهم دون مقدمات ، لأنّه لو عرف وقته لكان باعثا على تجرؤ الكفار والمذنبين وجسارتهم وكانوا يواصلون الذنب والكفر إلى آخر لحظة وحين يأزف الوعد بالعذاب فإنهم سيتجهون بالتوبة ـ جميعا ـ الى الله وينيبون إليه.

والحكمة التربوية لمثل هذا العقاب تقتضي أن يكتم موعده ، لتكون كل لحظة ذات أثر بنفسها ، ويكون الخوف والاستيحاش منها عاملا على الردع ، ويتّضح ممّا قلناه ـ ضمنا ـ أنّ المراد من جملة( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) لا تعني أنّهم لا يدركون أصل وجود العذاب. وإلّا فإنّ فلسفة العذاب والحكمة منه لا يكون لها أثر ، بل المراد أنّهم لا يعرفون اللحظة التي ينزل فيها العذاب ولا مقدماته ، وبتعبير آخر : إنّ العذاب ينزل عليهم كالصاعقة وهم غافلون.

ويظهر من آيات متعددة من القرآن أن التذرع بالحجج الواهية لم يكن

__________________

(١) «البغتة» مشتقة من «البغت» على زنة «وقت» ومعناه التحقق المفاجئ وغير المنتظر لأمر.

٤٣٣

منحصرا بأهل مكّة ، بل كثير من الأمم السابقين يلتجئون إلى مثل هذه الذريعة ، ويصرون على تعجيل العقوبة والعذاب!.

وأخيرا فإنّ الجواب القرآني الثّالث يتبيّن في الآية إذ يقول :( يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ) .

فإذا تأخر عنهم عذاب الدنيا ، فإن عذاب الآخرة واقع لا محالة ، ومحيط بهم تماما وسيصيبهم حتما بحيث أنّ القرآن يذكره بصورة أمر فعليّ (وكأن جهنّم الآن محيطة بهم).

ويوجد تفسير آخر أكثر دقّة لهذه الآية ، وهو أنّ جهنم محيطة ، الآن فعلا بالكافرين ، من جهتين ـ بالمعنى الواقعي للكلمة.

الجهة الأولى : إنّها جهنم الدنيا ، إذ هم على أثر شركهم وتلوثهم بالذنب يحترقون بجهنم التي أعدّوها لأنفسهم ، جهنم الحرب وسفك الدماء ، جهنم النزاع والشقاق والاختلافات ، جهنم القلق والفزع ، جهنم الظلم ، وجهنم الهوى والهوس والعناد.

والجهة الثّانية : طبقا لظاهر الآيات في القرآن فإنّ جهنم موجودة فعلا ، وكما تقدم سابقا فإنّ جهنّم موجودة في باطن الدنيا ، وبهذا فهي محيطة بهم على نحو الحقيقة وفي سورة التكاثر إشارة لها أيضا( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ ) الآيات ٥ ـ ٧ من سورة التكاثر(١) .

ثمّ يضيف القرآن( يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (٢) .

يمكن أن تكون هذه الآية توضيحا لإحاطة عذاب جهنّم في يوم القيامة بالكفار ، ويمكن أن تكون بيانا مستقلا لذلك العذاب الأليم لهم الذي يحيط بهم

__________________

(١) لمزيد الإيضاح يراجع ـ في هذا الصدد تفسير الآية (١٢٣) من سورة آل عمران.

(٢) يرى بعض المفسّرين أن كلمة «يوم» متعلقة بفعل محذوف مقدر ، وقال بعضهم : هو متعلق بـ «محيطة».

٤٣٤

اليوم على أثر أعمالهم ، وفي غد يتجلى هذا العذاب بوضوح ويكون محسوسا ظاهرا.

وعلى كل حال فذكره لإحاطة العذاب( مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) وعدم ذكره لبقية الجهات ـ في الحقيقة ـ هو لوضوح المطلب ، وإضافة إلى ذلك فإن نار العذاب إذا امتدت ألسنتها من تحت الأرجل ونزلت على الرؤوس ، فإنها تحيط بجميع البدن أيضا وتغشى جميع أطرافه وجوانبه.

وأساسا فإنّ هذا التعبير مستعمل في اللغة العربية ، إذ يقال مثلا : إن فلانا غارق من قرنه إلى قدمه في مستنقع الفسق وعدم العفة ، أى إن جميع وجوده غارق في هذا الذنب ، وبهذا يرتفع الإشكال عند المفسّرين في ذكر القرآن للجهة العليا «من فوقهم» والجهة السفلى «من تحتهم» والسكوت عن الجهات الأربع الأخرى ، ويتّضح المراد منه بالتقرير الذي بيّناه!

أمّا جملة( ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) التي يظهر أن قائلها هو الله تعالى ، فهي بالإضافة إلى أنّها نوع من العقوبة النفسية لمثل هؤلاء الأشخاص ، فهي كاشفة عن هذه الحقيقة ، وهي أن عذاب الله ليس إلّا انعكاسا للأعمال التي يقوم بها الإنسان نفسه في النشأة الآخرة!.

* * *

ملاحظات

١ ـ دلائل إعجاز القرآن :

لا شك أنّ القرآن أعظم معجزة للإسلام معجزة بليغة ، خالدة وباقية ، مناسبة لكل عصر وزمان ولجميع الطبقات الاجتماعية ، وقد ذكرنا بحثا مفصلا عن إعجاز القرآن في ذيل الآية ٢٣ من سورة البقرة ، ولا حاجة إلى إعادته هنا.

٤٣٥

٢ ـ التشبث بالحيل لإنكار المعجزات :

يصرّ بعض العلماء المتأثرين بالغرب ـ الذين يميلون إلى أن لا يعتدّوا بظواهر الأنبياء الخارقة للعادة ـ أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ليس له معجزة غير القرآن ، وربّما يرون القرآن ليس معجزا ، في حين أنّ مثل هذا الكلام مخالف لآيات القرآن ، وللرّوايات المتواترة ، وللتأريخ الإسلامي أيضا.

«وقد بيّنا تفصيل هذا الكلام في ذيل الآيات ٩٠ ـ ٩٣ من سورة الإسراء».

٣ ـ المعجزات الاقتراحيّة :

كانت أساليب المخالفين للأنبياء دائما هي اقتراحهم المعجزات التي يرتؤونها ، وكانوا بعملهم هذا يحاولون أن يحطّوا من قيمة المعجزات وعظمتها ويجروها إلى الابتذال من جهة ، وأن تكون في أيديهم ذريعة إلى عدم قبول دعوة الأنبياء من جهة أخرى ، لكن الأنبياء لم يستسلموا لهذه المؤامرات أبدا وكما رأينا في إجابتهم آنفا ، فإن المعجزة ليست باختيارهم لتكون مطابقة «لميلكم وهوسكم» كل يوم وكل ساعة نأتي بمعجزة كما تريدون بل المعاجز هي بأمر الله فحسب ، وهي خارجة عن أمرنا.

«وقد ذكرنا شرحا حول المعجزة الاقتراحية في ذيل الآية ٢٠ من سورة يونس».

* * *

٤٣٦

الآيات

( يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠) )

سبب النّزول

يعتقد كثير من المفسّرين أنّ الآية ـ من هذا المقطع ـ نزلت في شأن المؤمنين الذين كانوا تحت ضغط الكفار الشديد ، حتى أنّهم لم يستطيعوا أن يؤدوا وظائفهم الإسلامية ، فجاءت هذه الآية لتأمرهم بالهجرة من هذه الأرض.

كما يعتقد بعض المفسّرين أيضا أنّ الآية( وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا ) وهي الآية الأخيرة ـ من المقطع محل البحث نزلت في شأن بعض المؤمنين الذين كانوا يتعرضون لأذى أعدائهم في مكّة! وكانوا يقولون لو هاجرنا إلى المدينة فليست لدينا دار ولا أرض ، من يطعمنا ويسقينا هناك؟ فنزلت الآية( وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ ).

٤٣٧

التّفسير

لا بدّ من الهجرة :

حيث أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن مواقف المشركين المختلفة من الإسلام والمسلمين ، ففي الآيات محل البحث يقع الكلام عن حال المسلمين ومسئولياتهم قبال المشاكل المختلفة ، أي مشاكل أذى الكفار وضغوطهم وقلّة عدد المسلمين وما إلى ذلك ، فتقول الآية الأولى :( يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ) .

وبديهي أنّ هذا ليس قانونا خاصا بمؤمني أهل مكّة ، ولا يحدد سبب النّزول مفهوم الآية الواسع المنسجم مع الآيات الأخرى فعلى هذا لو سلب الإنسان حريته في أي عصر أو زمان ومكان بشكل كامل ، فإنّ بقاءه هناك لا يجلب عليه إلّا الذل «والخسران والضرر» والابتعاد عن أداء المناسك الإلهية ، فوظيفة الإنسان المسلم عندئذ الهجرة إلى منطقة «حرّة» يستطيع أن يؤدي فيها وظائفه الإسلامية بحرية تامّة أو حرية نسبية.

وبتعبير آخر : إنّ الهدف من خلق الإنسان أن يكون عبدا لله ، عبودية هي في الواقع سبب للحرية والكرامة والإنتصار في جميع الجهات وجملة( فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ) إشارة إلى هذا المعنى ، كما ورد هذا التعبير في الآية (٥٦) من سورة الذاريات( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) .

فمتى ما أصبح هذا الهدف الأساسي والنهائي مستحيلا ، فلا سبيل عندئذ إلّا الهجرة ، فأرض الله واسعة ، وينبغي أن يهاجر الفرد نحو منطقة أخرى ، ولا يكون أسيرا لمفاهيم «القبلية والقومية والوطنية والبيت والأهل» في مثل هذه الموارد ، ولا يذل الإنسان نفسه من أجلها ، فإنّ احترام هذه الأمور هو فيما لو كان الهدف الأصلي قائما غير مخاطر به ، أمّا إذا أصبح الهدف الأصلي «عبادة الله» مخاطرا به فلا سبيل إلّا الهجرة!

٤٣٨

وفي مثل هذه الموارد يقول الإمام أمير المؤمنين عليعليه‌السلام : «ليس بلد بأحق بك من بلدك ، خير البلاد ما حملك»(١) .

صحيح أنّ حب الوطن والعلاقة بمسقط الرأس جزء من طبيعة كل إنسان ، ولكن قد يتفق أن تحدث في حياة الإنسان مسائل أهم من تلك الأمور ، فتجعلها تحت شعاعها وتكون أولى منها.

وفي مجال موقف الإسلام ونظرته من مسألة الهجرة والرّوايات الواردة في هذا الصدد ، كان لنا بحث مفصل في ذيل الآية (١٠٠) من سورة النساء.

والتعبير بـ( يا عِبادِيَ ) هو أكثر التعابير رأفة وحبّا للناس من قبل خالقهم.

وتاج للفخر أعلى حتى من مقام الرسالة والخلافة ، كما نذكر ذلك في التشهد حيث نقدم العبودية على الرسالة دائما «أشهد أن محمّدا عبده ورسوله».

من الطريف أنّه حين خلق الله آدم لقبه بـ «خليفة الله» ، وهو فخر لآدم ، إلّا أن الشيطان لم ييأس من التسويل والوسوسة له ، فكان ما كان ، ولكن حين بوأه مقام العبودية أذعن الشيطان له ويئس من إغوائه وقال :( فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) .(٢)

والله سبحانه ضمن هذا الأمر فقال :( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ) .(٣)

ويتّضح ممّا ذكرناه ـ بصورة جيدة ـ أنّ المراد بالعباد ليس جميع الناس ـ في الآية محل البحث ـ بل هم المؤمنون منهم فحسب ، وجملة( الَّذِينَ آمَنُوا ) جاءت للتأكيد والتوضيح(٤) .

وحيث أنّ البعض بقوا في ديار الشرك ، ولم يرغبوا بالهجرة بذريعة أنّهم

__________________

(١) الكلمات القصار ، رقم ٤٤٢.

(٢) سورة ص الآيتان ٨٢ ، ٨٣.

(٣) سورة الحجر ، الآية ٤٢.

(٤) جملة «فإياي فاعبدون» عطف على جزاء جملة الشرط المحذوف والتقدير «إن ضاقت بكم الأرض فهاجروا منها إلى غيرها وإيّاي فاعبدون».

٤٣٩

يخشون الخروج من ديارهم ويخافون أن يحدق بهم الموت بسبب الأعداء أو الجوع أو العوامل الأخرى التي تهددهم إضافة إلى فراق الأحبّة والمتعلقين والأبناء والأصدقاء ، فإنّ القرآن يردّهم بجواب جامع قائلا :( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ ) .

فهذه الدنيا ليست بدار بقاء لأي أحد ، فبعض يمضي عاجلا ، وبعض يتأخر ، ولا بدّ أن يذهبوا جميعا ، وعلى كل حال ففراق الأحبة والأبناء والأقارب لا بدّ أن يقع ويتحقق ، فعلام يبقى الإنسان في ديار الشرك من أجل المسائل العابرة وأن يحمل عبء الذل والأسر على كاهله ، أكلّ ذلك من أجل أن يبقى بضعة أيّام أو أكثر؟!

ثمّ بعد هذا كلّه ينبغي أن تخافوا أن يدرككم الموت في ديار الكفر والشرك قبل أن تبلغوا دار الإسلام ، فما أشد ألم مثل هذا الموت وما أتعسه!

ثمّ لا تظنوا أن الموت نهاية كل شيء ، فالموت بداية لحياة الإنسان الأصلية ، لأنّكم جميعا( إِلَيْنا تُرْجَعُونَ ) إلى الله العظيم ، وإلى نعمه التي لا حدّ لها ولا انتهاء لأمدها.

والآية التالية تبيّن جانبا من هذه النعم فتقول :( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) (١) .

فهم في قصور تحيط بها أشجار الجنّة من كلّ جانب ، الأنهار المختلفة التي لكلّ منها طعمه ولونه ، طبقا لآيات القرآن الاخر ، وهي ما بين الأشجار وتحت تلك القصور جارية أبدا (لاحظوا أن «غرف» جمع غرفة ، ومعناها البناء المرتفع المشرف على أطرافه).

والامتياز الآخر لغرف الجنّة أنّها ليست كغرف الدنيا وقصورها ومنازلها التي ما أن يضع الإنسان فيها قدمه حتى يسمع نداء «الرحيل» ، فغرف الجنّة دائمة

__________________

(١) «لنبوئنهم» من مادة «تبوئة» على زنة «تذكرة» معناها إعطاء السكنى للإقامة والبقاء الدائم.

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606