الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245351 / تحميل: 6213
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

الآيتان

( وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩) )

التّفسير

اليهود وعبادتهم للعجل :

في هذه الآيات يقصّ القرآن الكريم إحدى الحوادث المؤسفة ، وفي نفس الوقت العجيبة التي وقعت في بني إسرائيل بعد ذهاب موسىعليه‌السلام إلى ميقات ربّه ، وهي قصّة عبادتهم للعجل التي تمّت على يد شخص يدعى «السامري» مستعينا بحلي بني إسرائيل وما كان عندهم من آلات الزّينة.

إنّ هذه القصّة مهمّة جدّا بحيث إنّ الله تعالى أشار إليها في أربع سور ، في سورة البقرة الآية (٥١) و (٥٤) و (٩٢) و (٩٣) ، وفي سورة النساء الآية (١٥٣) ، والأعراف الآيات المبحوثة هنا ، وفي سورة طه الآية (٨٨) فما بعد.

٢٢١

على أنّ هذه الحادثة مثل بقية الظواهر الاجتماعية لم تكن لتحدث من دون مقدمة وأرضيّة ، فبنوا إسرائيل من جهة قضوا سنين مديدة في مصر وشاهدوا كيف يعبد المصريون الأبقار أو العجول. ومن جانب آخر عند ما عبروا النيل شاهدوا في الضفة الأخرى مشهدا من الوثنية ، حيث وجدوا قوما يعبدون البقر ، وكما مرّ عليك في الآيات السابقة طلبوا من موسىعليه‌السلام صنما كتلك الأصنام ، ولكن موسىعليه‌السلام وبّخهم وردّهم ، ولا مهم بشدّة.

وثالث ، تمديد مدّة ميقات موسىعليه‌السلام من ثلاثين إلى أربعين ، الذي تسبب في أن تشيع في بني إسرائيل شائعة وفاة موسىعليه‌السلام بواسطة بعض المنافقين ، كما جاء في بعض التفاسير.

والأمر الرابع ، جهل كثير من بني إسرائيل بمهارة السامريّ في تنفيذ خطته المشئومة ، كل هذه الأمور ساعدت على أن تقبل أكثرية بني إسرائيل في مدّة قصيرة على الوثنية ، ويلتفوا حول العجل الذي أوجده لهم السامريّ للعبادة.

وفي الآية الحاضرة يقول القرآن الكريم أوّلا : إنّ قوم موسىعليه‌السلام بعد ذهابه إلى ميقات ربّه صنعوا من حليّهم عجلا ، وكان مجرّد تمثال لا روح فيه ، ولكنّه كان له صوت كصوت البقر ، واختاروه معبودا لهم :( وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ ) .

ومع أنّ هذا العمل (أي صنع العجل من الحليّ) صدر من السامريّ (كما تشهد بذلك آيات سورة طه) إلّا أنّه مع ذلك نسب هذا العمل إلى بني إسرائيل لأنّ كثيرا منهم ساعد السامريّ في هذا العمل وعاضده ، وبذلك كانوا شركاء في جريمته ، في حين رضي بفعله جماعة أكبر منهم.

وظاهر هذه الآية وإن كان يفيد ـ في بدء النظر ـ أنّ جميع قوم موسى شاركوا في هذا العمل ، إلّا أنّه بالتوجه إلى الآية (١٥٩) من هذه السورة ، التي تقول :( وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) يستفاد أنّ المراد من الآية المبحوثة

٢٢٢

هنا ليس كلّهم ، بل أكثرية عظيمة منهم سلكوا هذا السبيل ، وذلك بشهادة الآيات القادمة التي تعكس عجز هارون عن مواجهتها وصرفها عن ذلك.

كيف كان للعجل الذهبي خوار؟

و «الخوار» هو الصوت الخاص الذي يصدر من البقر أو العجل ، وقد ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ السامري بسبب ما كان عنده من معلومات وضع أنابيب خاصّة في باطن صدر العجل الذهبي ، كان يخرج منها هواء مضغوط فيصدر صوت من فم ذلك العجل الذهبيّ شبيه بصوت البقر.

ويقول آخرون : كان العجل قد وضع في مسير الريح بحيث كان يسمع منه صوت على أثر مرور الريح على فمه الذي كان مصنوعا بهيئة هندسية خاصّة.

أمّا ما ذهب إليه جماعة من المفسّرين من أن السامريّ أخذ شيئا من تراب من موضع قدم جبرئيل وصبّه في العجل فصار كائنا حيا ، وأخذ يخور خوارا طبيعيا فلا شاهد عليه في آيات القرآن الكريم ، كما سيأتي بإذن الله في تفسير آيات سورة طه.

وكلمة «جسدا» شاهد على أن ذلك العجل لم يكن حيوانا حيا ، لأنّ القرآن يستعمل هذه اللفظة في جميع الموارد في القرآن الكريم بمعنى الجسم المجرّد من الحياة والروح(١) .

وبغض النظر عن جميع هذه الأمور يبعد أن يكون الله سبحانه قد أعطى الرجل المنافق (مثل السامريّ) مثل تلك القدرة التي يستطيع بها أن يأتي بشيء يشبه معجزة النّبي موسىعليه‌السلام ، ويحيي جسما ميتا ، ويأتي بعمل يوجب ضلال الناس حتما ولا يعرفون وجه بطلانه وفساده.

__________________

(١) راجع الآيات (٨) من سورة الأنبياء ، و (٣٤) من سورة ص.

٢٢٣

أمّا لو كان العجل بصورة تمثال ذهبي كانت أدلة بطلانه واضحة عندهم ، وكان من الممكن أن يكون وسيلة لاختبار الأشخاص لا شيء آخر.

والنقطة الأخرى التي يجب الانتباه إليها ، هي أنّ السامري كان يعرف أن قوم موسىعليه‌السلام قد عانوا سنين عديدة من الحرمان ، مضافا إلى أنّهم كانت تغلب عليهم روح المادية ـ كما هو الحال في أجيالهم في العصر الحاضر ـ ويولون الحليّ والذهب احتراما خاصّا ، لهذا صنع عجلا من ذهب حتى يستقطب إليه اهتمام بني إسرائيل من عبيد الثروة.

أمّا أن هذا الشعب الفقير المحروم من أين كان له كل ذلك الذهب والفضة؟فقد جاء في الرّوايات أن نساء بني إسرائيل كنّ قد استعرن من الفرعونيين كمية كبيرة من الحليّ والذهب والفضّة لإقامة أحد أعيادهن ، ثمّ حدثت مسألة الغرق وهلاك آل فرعون ، فبقيت تلك الحلي عند بني إسرائيل(١) .

ثمّ يقول القرآن الكريم معاقبا وموبّخا : ألم ير بنو إسرائيل أن هذا العجل لا يتكلم معهم ولا يهديهم لشيء ، فكيف يعبدونه؟( أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً ) .

يعني أن المعبود الحقيقي هو من يعرف ـ على الأقل ـ الحسن والقبيح ، وتكون له القدرة على هداية أتباعه ، ويتحدث إلى عبدته ويهديهم سواء السبيل ، ويعرّفهم على طريقة العبادة.

وأساسا كيف يسمح العقل البشري بأن يعبد الإنسان شيئا ميتا صنعه وسوّاه بيده ، حتى لو استطاع ـ افتراضا ـ أن يبدّل الحلّي إلى عجل واقعي فإنّه لا يليق به أن يعبده ، لأنّه عجل يضرب ببلادته المثل.

إنّهم في الحقيقة ظلموا بهذا العمل أنفسهم ، لهذا يقول في ختام الآية :

__________________

(١) راجع تفسير مجمع البيان ، ذيل الآية المبحوثة هنا.

٢٢٤

( اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ ) .

بيد أنّه برجوع موسىعليه‌السلام إليهم ، واتضاح الأمر عرف بنو إسرائيل خطأهم ، وندموا على فعلهم ، وطلبوا من الله أن يغفر لهم ، وقالوا : إذا لم يرحمنا الله ولم يغفر لنا فإنّنا لا شك خاسرون( وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) .

وجملة( سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ ) أي عند ما عثروا على الحقيقة ، أو عند ما وقعت نتيجة عملهم المشؤومة بأيديهم ، أو عند ما سقطت كل الحيل من أيديهم ولم يبق بأيديهم شيء في الأدب العربي كناية عن الندامة ، لأنّه عند ما يقف الإنسان على الحقائق ، ويطلع عليها ، أو يصل إلى نتائج غير مرغوب فيها ، أو تغلق في وجهه أبواب الحيلة ، فإنّه يندم بطبيعة الحال ، ولهذا يكون الندم من لوازم مفهوم هذه الجملة.

وعلى كل حال ، فقد ندم بنو إسرائيل من عملهم ، ولكن الأمر لم ينته إلى هذا الحدّ ، كما نقرأ في الآيات اللاحقة.

* * *

٢٢٥

الآيتان

( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١) )

التّفسير

ردة فعل شديدة تجاه عبادة العجل :

في هاتين الآيتين بيّن تعالى بالتفصيل ما جرى بين موسىعليه‌السلام وبين عبدة العجل عند عودته من ميقاته المشار اليه في الآية السابقة. فهاتان الآيتان تعكسان ردة فعل موسىعليه‌السلام الشديدة التي أدت إلى يقظة هذه الجماعة.

يقول في البدء : ولما عاد موسىعليه‌السلام إلى قومه غضبان ممّا صنع قومه من عبادة العجل ، قال لهم : ضيعتم ديني وأسأتم الخلافة( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ

٢٢٦

غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي ) (١) .

إنّ هذه الآية تفيد بوضوح أن موسى عند رجوعه إلى قومه من الميقات وقبل أن يلتقي ببني إسرائيل كان غضبان أسفا ، وهذا لأجل أن الله تعالى كان قد أخبر موسىعليه‌السلام بأنّه اختبر قومه من بعده وقد أضلّهم السامريّ( قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ ) (٢) .

ثمّ إنّ موسىعليه‌السلام قال لهم :( أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ) .

للمفسّرين كلام كثير في تفسير هذه الجملة ، وقد ذكروا احتمالات عديدة مختلفة ، إلّا أن ظاهر الآيات يفيد أن المراد هو أنّكم تعجلتم في الحكم بالنسبة إلى أمر الله تعالى في قضية تمديد مدّة الميقات من ثلاثين إلى أربعين ، فاعتبرتم عدم مجيئي في المدة المقررة ـ أوّلا ـ دليلا على موتي ، في حين كان يتعين عليكم أن تتريثوا وتنتظروا قليلا ريثما تمرّ أيّام ثمّ تتّضح الحقيقة.

وفي هذا الوقت بالذات ، أي عند ما واجه موسىعليه‌السلام هذه الأزمة الخطيرة من حياة بني إسرائيل ، وكان الغضب الشديد يسر بل كل كيانه ، ويثقل روحه حزن عميق ، وقلق شديد على مستقبل بني إسرائيل ، لأنّ التخريب والإفساد أمر سهل ، وربّما استطاع شخص واحد تخريب كيان عظيم ولكن الإصلاح والتعمير أمر صعب وعسير جدّا. خاصّة أنّه إذا سرت في شعب جاهل متعنت نغمة مخالفة شاذة ، وافقت هوى ورغبة ، فإنّ محوها لا شك لن يكون أمرا ممكنا وسهلا.

فهنا لا بدّ أن يظهر موسىعليه‌السلام غضبه الشديد ويقوم بالحدّ الأعلى من ردّ الفعل والسخط ، كي يوقظ الأفكار المخدّرة لدى بني إسرائيل ، ويوجد انقلابا في

__________________

(١) «الأسف» كما يقول الراغب في «المفردات» بمعنى الحزن المقرون بالغضب ، وهذه الكلمة قد تستعمل في أحد المعنيين أيضا. وتعني في الأصل أن ينزعج الإنسان من شيء بشدة ، ومن الطبيعي أن هذا الانزعاج إذا كان بسبب من هو دونه ظهر مقرونا بالغضب ، وبردة فعل غاضبة ، وإذا كان ممن هو فوقه ممن لا يستطيع مقاومته ظهر من صورة الحزن المجرّد ، وقد نقل عن ابن عباس أيضا أن للحزن والغضب أصل واحد وإن اختلفا لفظا.

(٢) سورة طه ، ٨٥.

٢٢٧

ذلك المجتمع الذي انحرف عن الحق ، إذ العودة إلى الحق والصواب عسيرة في غير هذه الصورة.

إنّ القرآن يستعرض ردّة فعل موسى الشديدة في قبال ذلك المشهد وفي تلك الأزمة ، إذ يقول : إنّ موسى ألقى ألواح التوراة التي كانت بيده ، وعمد إلى أخيه هارون وأخذ برأسه ولحيته وجرهما إلى ناحيته ساخطا غاضبا.

وكما يستفاد من آيات قرآنية أخرى ، وبخاصّة في سورة طه ، أنّه علاوة على ذلك لام هارون بشدّة ، وصاح به ، لماذا قصّرت في المحافظة على عقائد بني إسرائيل وخالفت أمري(١) .

وفي الحقيقة كان هذا الموقف يعكس ـ من جانب ـ حالة موسىعليه‌السلام النفسية ، وانزعاجه الشديد تجاه وثنية بني إسرائيل وانحرافهم ، ومن جانب آخر كان ذلك وسيلة مؤثرة لهزّ عقول بني إسرائيل الغافية ، والفاتهم إلى بشاعة عملهم.

وبناء على هذا إذا كان إلقاء ألواح التوراة في هذا الموقف قبيحا ـ فرضا ـ وكان الهجوم على أخيه لا يبدو كونه عملا صحيحا ، ولكن مع ملاحظة الحقيقة التالية ، وهي أنّه من دون إظهار هذا الموقف الانزعاجي الشديد لم يكن من الممكن إلفات نظر بني إسرائيل إلى بشاعة خطئهم ولكان من الممكن أن تبقى رواسب الوثنية في أعماق نفوسهم وأفكارهم إنّ هذا العمل لم يكن فقط غير مذموم فحسب ، بل كان يعد عملا واجبا وضروريا.

ومن هنا يتّضح أنّنا نحتاج أبدا إلى التبريرات والتوجيهات التي ذهب إليها بعض المفسّرين ، للتوفيق بين عمل موسىعليه‌السلام هذا وبين مقام العصمة التي يتحلى بها الأنبياء ، لأنّه يمكن أن يقال هنا : إنّ موسىعليه‌السلام انزعج في هذه اللحظة من تأريخ بني إسرائيل انزعاجا شديدا لم يسبق له مثيل ، لأنّه وجد نفسه أمام أسوأ

__________________

(١) سورة طه : ٩٢ ـ ٩٣.

٢٢٨

المشاهد ألا وهو الانحراف عن التوحيد إلى عبادة العجل ، وكان يرى جميع آثارها وأخطارها المتوقعة.

وعلى هذا فإنّ إلقاء الألواح ومؤاخذة أخيه بشدّة في مثل هذه اللحظة مسألة طبيعية تماما.

إنّ ردة الفعل الشديدة هذه وإظهار الغضب هذا ، كان له أثر تربوي بالغ في بني إسرائيل ، فقد قلب المشهد رأسا على عقب في حين أنّ موسى لو كان يريد أن ينصحهم بالكلمات اللينة والمواعظ الهادئة ، لكان قبولهم لكلامه ونصحه أقلّ بكثير.

ثمّ إنّ القرآن الكريم ذكر أنّ هارون قال ـ وهو يحاول استعطاف موسى وإثبات برائته في هذه المسألة ـ : يا ابن أمّ هذه الجماعة الجاهلة جعلوني ضعيفا إلى درجة أنّهم كادوا يقتلونني ، فإذن أنا بريء ، فلا تفعل بي ما سيكون موجبا لشماتة الأعداء بي ولا تجعلني في صف هؤلاء الظالمين( قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .

إن التعبير ب : «ابن أمّ» في الآية الحاضرة أو «يا ابن أمّ» (كما في الآية ٩٤ من سورة طه) مع أن موسى وهارون كانا من أب وأم واحدة ، إنّما هو لأجل تحريك مشاعر الرحمة والعطف لدى موسىعليه‌السلام في هذه الحالة الساخنة.

وفي المآل تركت هذه القصّة أثرها ، وسرعان ما التفت بنو إسرائيل إلى قبح أعمالهم ، فاستغفروا الله وطلبوا العفو منه.

لقد هدأ غضب موسىعليه‌السلام بعض الشيء ، وتوجه إلى الله( قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) .

إنّ طلب موسىعليه‌السلام العفو والمغفرة من الله تعالى لنفسه ولأخيه ، لم يكن لذنب اقترفاه ، بل كان نوعا من الخضوع لله ، والعودة إليه ، وإظهار النفرة من أعمال

٢٢٩

الوثنيين القبيحة ، وكذا لإعطاء درس عملي للجميع حتى يفكروا ويروا إذا كان موسى وأخوه ـ وهما لم يقترفا انحرافا ـ يطلبان من الله العفو والمغفرة هكذا ، فالأجدر بالآخرين أن ينتبهوا ويحاسبوا أنفسهم ، ويتوجهوا إلى الله ويسألوه العفو والمغفرة لذنوبهم. وقد فعل بنو إسرائيل هذا فعلا ـ كما تفيد الآيتان السابقتان.

مقاربة بين تواريخ القرآن والتوراة الحاضرة :

يستفاد من الآيات الحاضرة ، وآيات سورة طه أن بني إسرائيل هم الذين صنعوا العجل لا هارون ، وأنّ شخصا خاصا في بني إسرائيل يدعى السامريّ هو الذي أقدم على مثل هذا العمل ، ولكن هارون ـ أخا موسى ووزيره ومساعده ـ لم يكن يتفرج على هذا الأمر بل عارضه ، ولم يأل جهدا في هذا السبيل ، حتى أنّهم كادوا أن يقتلوه لمعارضته لهم.

ولكن العجيب أنّ التوراة الفعلية تنسب صنع العجل والدعوة إلى عبادته إلى هارون خليفة موسىعليه‌السلام ووزيره وأخيه ، إذ نقرأ في الفصل ٣٢ من سفر الخروج من التوراة ، ما يلي :

«لما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النّزول من الجبل ، اجتمع الشعب على هارون وقالوا له : قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا. لأنّ هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ماذا أصابه. فقال لهم هارون : انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها ، فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم وأتوا بها إلى هارون ، فأخذ ذلك من أيديهم وصوّره بالإزميل وصنعه عجلا مسبوكا ، فقالوا : هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر.

فلمّا نظر هارون بنى مذبحا أمامه ونادى هارون وقال : غدا عيد للربّ (ثمّ بين مراسيم تقديم القرابين لهذا العمل».

٢٣٠

ثمّ تشرح التوراة قصّة رجوع موسىعليه‌السلام غاضبا إلى بني إسرائيل وإلقاء التوراة ، ثمّ تقول :

«وقال موسى لهارون : ماذا صنع بك هذا الشعب حتى جلبت عليه خطيّة عظيمة؟!

فقال هارون : لا يحم غضب سيدي. أنت تعرف الشعب إنّه في شرّ».

إنّ ما ذكر هو قسم من قصة عبادة بني إسرائيل للعجل برواية التوراة الحاضرة بالنص ، في حين أن التوراة نفسها تشير في فصول أخرى إلى سمّو مقام هارون وعلو منزلته ، ومن ذلك التصريح بأنّ بعض معاجز موسى قد ظهرت وتحققت على يدي هارون (الإصحاح الثامن من سفر الخروج من التوراة).

كما أنّها تصف هارون بأنّه نبي قد أعلن عن نبوته موسى (الإصحاح الثامن من سفر الخروج أيضا).

وعلى كل حال ، تعترف التوراة لهارون ـ الذي كان خليفة لموسىعليه‌السلام وعارفا بتعاليم شريعته ـ بمنزلة سامية ولكن انظروا إلى الخرافة التي تصف بأنّه كان صانع العجل ، ومن عوامل حصول الوثنية في بني إسرائيل ، وحتى أنّه اعتذر لموسىعليه‌السلام عليه بما هو أقبح من الذنب حيث قال : إنّهم كانوا يميلون إلى الشرّ أساسا وقد شجعتهم عليه.

في حين أنّ القرآن الكريم ينزه هذين القائدين من كل ألوان التلوّث بأدران الشرك والوثنية.

على أنّه ليس هذا المورد هو المورد الوحيد الذي ينزّه فيه القرآن الكريم ساحة الأنبياء والرسل ، وتنسب التوراة الحاضرة أنواع الإهانات والخرافات إلى الأنبياء المطهرين. وفي اعتقادنا أنّ أحد الطرق لمعرفة أصالة القرآن وتحريف التوراة والإنجيل الفعليين ، هو هذه المقارنة بين القضايا التأريخية التي وردت في هذه الكتب حول الأنبياء والرسل.

* * *

٢٣١

الآيات

( إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤) )

التّفسير

لقد فعلت ردة فعل موسىعليه‌السلام الشديدة فعلتها في المآل فقد ندم عبدة العجل الإسرائيليون ـ وهم أكثرية القوم ـ على فعلهم ، وقد طرح هذا الندم في عدّة آيات قبل هذه الآية أيضا (الآية ١٤٩) ومن أجل أن لا يتصور أن مجرّد الندم من مثل هذه المعصية العظيمة يكفي للتوبة ، يضيف القرآن الكريم قائلا :( إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) .

وهكذا لأجل أن لا يتصور أنّ هذا القانون يختص بهم أضاف قائلا :( وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ) .

٢٣٢

إن التعبير بـ «اتّخذوا» إشارة إلى أنّ الوثن ليس له أية واقعية ، ولكن انتخاب عبدة الأوثان هو الذي أعطاه تلك الشخصية والقيمة الوهمية ، ولهذا أتى بكلمة «العجل» وراء هذه الجملة فورا ، يعني أنّ ذلك العجل هو نفس ذلك العجل حتّى بعد انتخابه للعبادة.

أمّا أنّ هذا الغضب ما هو؟ وهذه الذّلة ما هي؟ فالقرآن لم يصرح بشيء عنهما في هذه الآية ، وإنّما اكتفى بإشارة مجملة ، ولكن يمكن أن تكون إشارة إلى الشقاء والمصائب والمشكلات التي ابتلوا بها بعد هذه الحادثة وقبل دخولهم الأرض المقدسة.

أو أنّه إشارة إلى مهمّة قتل بعضهم بعضا العجيبة التي كلّفوا بها كجزاء وعقوبة لمثل ذلك الذنب العظيم.

وهنا قد يطرح هذا السؤال ، وهو أنّ من المرتكزات الفكرية هو أنّ حقيقة التوبة تتحقق بالندامة ، فكيف لم يشمل العفو الإلهي بني إسرائيل مع أنّهم ندموا على فعلهم؟

والجواب هو أنّه ليس لدينا أي دليل على أنّ مجرّد الندامة لوحدها تنفع في جميع الأحوال والمواضع. صحيح أنّ الندامة هي أحد أركان التوبة ، ولكنّها ليست كل شيء.

إنّ معصية عبادة الأوثان السجود للعجل في ذلك النطاق الواسع وفي تلك المدّة القصيرة ، وبالنسبة إلى ذلك الشعب الذي شاهد بأم عينيه كل تلكم المعاجز والآيات ، لم تكن معصية يمكن التغاضي عنها بمثل هذه السهولة ، وكفاية يقول مرتكبها : «أستغفر الله» وينتهي كلّ شيء.

بل لا بدّ أن يرى هذا الشعب غضب الله ويذوق طعم المذلة في هذه الحياة ، ويساط الذين افتروا على الله الكذب بسوط البلاء حتى لا يفكروا مرّة أخرى في ارتكاب مثل هذا الذنب العظيم.

٢٣٣

وفي الآية اللاحقة يكمّل القرآن الكريم هذا الموضوع ويقول في صورة قانون عام :( وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) فالذين يتوبون من بعد السيئة وتتوفر كل شروط التوبة لديهم يغفر الله لهم ويعفو عنهم.

جواب على سؤالين :

١ ـ هل الآيتان الحاضرتان جملة معترضة وقعت وسط قصّة بني إسرائيل كتذكير لرسول الله والمسلمين؟ أو أنّه خطاب الله لموسىعليه‌السلام بعد قصّة عبادة بني إسرائيل للعجل؟

ذهب بعض المفسّرين إلى الاحتمال الأوّل ، وارتضى بعض آخر الاحتمال الثّاني.

والذين ارتضوا الاحتمال الأوّل استدلوا بجملة( إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) لأنّ الجملة في صورة خطاب إلى الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

والذين ارتضوا الاحتمال الثّاني استدلوا بجملة( سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ ) الذي جاء في صورة الفعل المضارع.

ولكن ظاهر الآيات يفيد أنّ هذه الجملة قسم من خطاب الله إلى موسىعليه‌السلام في تعقيب قصّة العجل ، وفعل المضارع (سينالهم) شاهد جيد على هذا الموضوع ، وليس هناك ما يمنع أن يكون «إنّ ربّك» خطاب موجه إلى موسىعليه‌السلام (١) .

٢ ـ لماذا جاء الإيمان في الآية الحاضرة بعد ذكر التوبة والحال أنّه ما لم يكن هناك إيمان لا تتحقق توبة؟

إنّ الجواب على هذا السؤال يتّضح من أن قواعد الإيمان تتزلزل عند

__________________

(١) فيكون التقدير في الآية الحقيقة هكذا : «قال الله لموسى أن الذين ...».

٢٣٤

ارتكاب المعصية ، ويصيبها نوع من الوهن ، إلى درجة أنّنا نقرأ في الأحاديث الإسلامية :

«لا يشرب الخمر وهو مؤمن ، ولا يزني وهو مؤمن» أي أن الإيمان يتضاءل ضوؤه ، ويفقد أثره.

ولكن عند ما تتحقق التوبة يعود الإيمان إلى ضوئه وأثره الأوّل ، وكأنّ الإيمان تجدّد مرّة أخرى.

ثمّ إنّ الآيات الحاضرة ركزت ـ فقط ـ على الذلة في الحياة الدنيا ، ويستفاد من ذلك أن توبة بني إسرائيل من هذه المعصية بعد الندامة من قضية الوثنية وتذوق العقوبة في هذه الدنيا ، قد قبلت بحيث أنّها أزالت عقوبتهم في الآخرة ، وإن بقيت أعباء الذنوب الأخرى التي لم يتوبوا منها في أعناقهم.

الآية الأخيرة من الآيات المبحوثة تقول : ولما سكن غضب موسىعليه‌السلام ، وحصل على النتيجة التي كان يتوخاها ، أخذ الألواح من الأرض ، تلك الألواح التي كانت تحتوي ـ من أوّلها إلى آخرها ـ على الرحمة والهداية ، رحمة وهداية للذين يشعرون بالمسؤولية ، والذين يخافون الله ، ويخضعون لأوامره وتعاليمه( وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ) .

* * *

٢٣٥

الآيتان

( وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦) )

التّفسير

مندوبو بني إسرائيل في الميقات :

في الآيتين الحاضرتين يعود القرآن الكريم مرّة أخرى إلى قصة ذهاب موسى إلى الميقات «الطور» في صحبة جماعة ، ويقص قسما آخر من تلك الحادثة.

٢٣٦

هذا وقد وقع بين المفسّرين كلام في أنّه هل كان لموسىعليه‌السلام ميقات واحد مع ربّه ، أو أكثر من ميقات واحد؟ وقد أقام كل واحد منهم شواهد لإثبات مقصوده من القرآن الكريم ، ولكنّه كما قلنا سابقا ـ في ذيل الآية (١٤٢) من هذه السورة ـ أنّه يظهر من مجموع القرائن في القرآن الكريم والرّوايات أن موسىعليه‌السلام كان له ميقات واحد ، وذلك برفقة جماعة من بني إسرائيل.

وفي هذا الميقات بالذات أنزل الله الألواح على موسى وكلمهعليه‌السلام ، وفي نفس هذا الميقات اقترح بنو إسرائيل على موسىعليه‌السلام أن يطلب من الله أن يريهم نفسه جهرة. في هذا الوقت نفسه نزلت الصاعقة أو حدث الزلزال وغشي على موسىعليه‌السلام وسقط بنو إسرائيل على الأرض مغشيا عليهم ، وقد ورد هذا الموضوع في حديث مرويّ عن علي بن إبراهيم في تفسيره.

إنّ كيفية وضع آيات هذه السورة وإن كان يحدث ـ في بادئ النظر ـ إشكالا ، وهو : كيف أشار الله تعالى أولا إلى ميقات موسىعليه‌السلام ثمّ ذكر قصّة عبادة العجل ، ثمّ عاد مرّة أخرى إلى مسألة الميقات؟

هل هذا النظم وهذا الطراز من الكلام يناسب الفصاحة والبلاغة التي يتسم بها القرآن الكريم؟

ولكن مع الالتفات إلى أنّ القرآن ليس كتاب تأريخ يسجل الحوادث حسب تسلسلها ، بل هو كتاب هداية وتربية وبناء إنساني ، وفي مثل هذا الكتاب توجب أهمية الموضوع أن يترك متابعة حادثة مؤقتا ، ويعمد إلى بحث ضروري آخر ، ثمّ يعود مرّة أخرى لنفس الحادثة الأولى.

بناء على هذا لا توجد أية ضرورة إلى أن نعتبر الآية المذكورة هنا إشارة إلى بقية قصة عبادة العجل ، ونقول : إنّ موسىعليه‌السلام ذهب مرّة أخرى بصحبة بني إسرائيل إلى جبل الطور بعد قضية عبادة العجل للاعتذار إلى الله والتوبة ، كما قال بعض المفسّرين ، لأنّ هذا الاحتمال بغض النظر عن جهات أخرى يبدو بعيدا في

٢٣٧

النظر من جهة أنّه آل إلى هلاك جماعة ذهبت إلى الميقات للاعتذار والتوبة ، فهل من الممكن أن يهلك الله تعالى جماعة أتوا إلى الميقات للاعتذار إلى الله بالنيابة عن قومهم؟!

وعلى كل حال ، فقد قال القرآن الكريم في الآيتين الحاضرتين أوّلا :( وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا ) .

ولكن بني إسرائيل حيث إنّهم سمعوا كلام الله طلبوا من موسىعليه‌السلام أن يطلب من الله تعالى أن يريهم نفسه ـ لبني إسرائيل ـ جهرة ، وفي هذا الوقت بالذات أخذهم زلزال عظيم وهلك الجماعة ، ووقع موسىعليه‌السلام على الأرض مغشيا عليه ، وعند ما أفاق قال : ربّاه لو شئت لأهلكتنا جميعا ، يعني بماذا أجيب قومي لو هلك هؤلاء( فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ ) .

ثمّ قال : ربّاه إنّ هذا المطلب التافة إنّما هو فعل جماعة من السفهاء ، فلا تؤاخذنا بفعلهم :( أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا ) ؟

ولقد اعتبر بعض المفسّرين ـ وجود كلمة «الرجفة» في هذه الآية ، وكلمة «الصاعقة» في الآية (٥٥) من سورة البقرة المتعلقة بطلب رؤية الله جهرة ـ دليلا على التفاوت بين الميقاتين. ولكن ـ كما قلنا سابقا ـ إن الصاعقة في كثير من الأوقات ترافق الرجفة الشديدة ، لأنّه على أثر التصادم بين الشحنات الكهربائية الموجبة في السحب والسالبة في الأرض تبرق شرارة عظيمة تهزّ الجبال والأراضي بشدّة ، وربّما تحطمها وتبعثرها كما جاء في قصّة البلاء الذي نزل على قوم صالح العصاة ، حيث يعبر فيه عنه بالصاعقة تارة (سورة فصلت الآية ١٧) وتارة بالرجفة (سورة الأعراف الآية ٧٨).

وقد استدل بعض المفسّرين بعبارة( بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا ) على أنّ العقوبة هنا كانت لأجل الفعل الذي صدر من بني إسرائيل (مثل عبادة العجل) لا لأجل الكلام الذي قالوه في مجال طلب رؤية الله جهرة.

٢٣٨

والجواب على هذا الكلام واضح أيضا ، لأنّ الكلام فعل من أفعال الإنسان أيضا ، وإطلاق «الفعل» على «الكلام» ليس أمرا جديدا وغير متعارف ، مثلا عند ما نقول : إنّ الله يثيبنا يوم القيامة على أعمالنا ، فإنّ من المسلّم أنّ لفظة أعمالنا تشمل كلماتنا أيضا.

ثمّ إنّ موسىعليه‌السلام قال في عقيب هذا التضرع والطلب من الله : ربّاه إنّي أعلم أن هذا كان اختبارك وامتحانك ، فأنت تضلّ من تشاء (وكان مستحقا لذلك) وتهدي من تشاء (وكان لائقا لذلك)( إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ ) واختبارك.

وهنا أيضا تكلّم المفسّرون في معنى «الفتنة» كثيرا وذهبوا مذاهب شتى ، ولكن بالنظر إلى أن لفظة «الفتنة» جاءت في القرآن الكريم بمعنى الاختبار والامتحان مرارا كما في الآية (٢٨) من سورة الأنفال :( أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) وكذا في الآية (٢) من سورة العنكبوت ، والآية (١٢٦) من سورة التوبة) لا يكون مفهوم الآية الحاضرة غامضا. لأنّه لا شك في أن بني إسرائيل واجهوا في هذا المشهد اختبارا شديدا ، فأراهم الله تعالى أن هذا الطلب (طلب رؤية الله) طلب تافة ومستحيل الوقوع.

وفي ختام الآية يقول موسىعليه‌السلام : رباه :( أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ ) .

من مجموع الآيات والرّوايات يستفاد أنّ الهالكين قد استعادوا حياتهم في المآل وعادوا برفقة موسىعليه‌السلام إلى بني إسرائيل ، وقصّوا عليهم كلّ ما سمعوه وشاهدوه ، وأخذوا في إرشاد الغافلين الجاهلين وهدايتهم.

وفي الآية اللاحقة يشير إلى طلب موسىعليه‌السلام من ربّه وتكميل مسألة التوبة التي ذكرت في الآيات السابقة ، يقول موسى :( وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ ) .

٢٣٩

و «الحسنة» تعني كل خير وجمال ، وعلى هذا الأساس تشمل جميع النعم ، وكذا التوفيق للعمل الصالح ، والمغفرة ، والجنّة ، وكل نوع من أنواع السعادة ، ولا دليل على حصرها بنوع خاص من هذه المواهب ، كما ذهب إليه بعض المفسّرين.

ثمّ يبيّن القرآن الكريم دليل هذا الطلب هكذا :( إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ ) أي عدنا إليك واعتذرنا عمّا فعله سفهاؤنا ، حيث طلبوا ما لا يليق بمقام عظمتك.

و «هدنا» مشتقة من مادة «هود» بمعنى العودة المقترنة بالرفق والهدوء ، وكما قال بعض اللغويين : تشمل العودة من الخير إلى الشر أيضا ، وكذا من الشر إلى الخير(١) ، ولكن جاءت في كثير من الموارد بمعنى التوبة والعودة إلى طاعة الله.

يقول الراغب في «المفردات» نقلا عن بعض : «يهود في الأصل من قولهم : هدنا إليك ، وكان اسم مدح ، ثمّ صار بعد نسخ شريعتهم لازما لهم ، وإن لم يكن فيه معنى المدح».

ولكن بما أن بعض اللغويين ذكر أن معنى هذه اللفظة هو الرجوع من الشر إلى الخير ، أو من الخير إلى الشر ، يمكن القول بأن هذه الكلمة ليست متضمنة للمدح بحال ، بل هي حاكية عن الاضطراب الروحي والقلق الأخلاقي الذي كانت تعاني منه تلك الجماعة.

وقال بعض آخر من المفسّرين أنّ علّة تسمية هؤلاء القوم بـ «اليهود» لا يرتبط مطلقا بهذه اللفظة ، بل لفظة يهود متخذة أصلا من مادة «يهوذا» الذي هو اسم لأحد أبناء يعقوبعليه‌السلام ثمّ تبدلت الذال إلى الدال ، وصارت يهودا ، فيطلق على المنسوب إليه يهودي(٢) .

ولقد أجاب الله ـ في النهاية ـ دعاء موسىعليه‌السلام وقبل توبته ، ولكن لا بصورة

__________________

(١) تفسير المنار ، المجلد التاسع ، الصفحة ٢٢١ ، وقد نقل هذا المعنى عن ابن الأعرابي.

(٢) تفسير أبو الفتوح ، المجلد الخامس ، الصفحة ٣٠٠ ، في تفسير الآية الحاضرة.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

وكانت قرطبة ، عاصمة المسلمين آنذاك ، مركز مهماً للعلم والفن والتجارة في اوروبا وكانت تفوق اكبر العواصم الاوروبية ».

اسبانيا في ظل الحكم الاوروبي

يقول عالم فرنسا المعروف :

« عندما كانت الاندلس ( اسبانيا ) تحت حكم المسلمين ، بلغت ذروة تحضّرها ، إلّا ان تلك الاندلس نفسها اتجهت نحو السقوط والانحدار بعد حكم المسلمين ومجىء الحكم المسيحي الاوروبي ، وعلىٰ حدّ اعتراف كبار علماء اوروبا لم تشاهد دولة بلغت تلك المدارج من الرقي بهذه السرعة في ظل حكم المسلمين ، كما انه لم يشاهد مثلها في سرعة السقوط والتدني خلال حكم النصارىٰ الذين دمروا كل شيء وقوضوا كل الاُمور حتى عدد السكان بسبب كثرة القتل الذي قاموا به.

لقد اضطربت احوال الاندلس بمجىء الاوروبيين في جميع المجالات من الزراعة والتجارة الىٰ العلم والادب ، فالاندلس لم تكن متحضرة قبل حكم المسلمين لها ، لكنها وصلت الىٰ اعلىٰ درجات التحضّر والعمران في فترة الحكم الاسلامي ، ولكنها تراجعت حضارياً بشدة مع انتهاء فترة حكم المسلمين وتسلط الاوروبيين والنصارىٰ عليها.

فعندما سقطت ( غرناطة ) آخر عاصمة للمسلمين هناك بيد النصارىٰ ، ذهب جميع ذلك التساهل الديني الذي كان العرب يعاملونهم به ، وعلىٰ الرغم

٢٦١

من المعاهدات التي كانت بينهم(1) عاملوهم بأشد درجة من القسوة والظلم ، وبعد قرن علىٰ ذلك قرروا اخراج المسلمين من البلاد بشكل تام ، لقد كان المسلمون متفوقون عليهم في جميع العلوم حتىٰ تحت ظل حكمهم ـ النصارىٰ ـ للحد الذي شكىٰ الاسبان ذلك الىٰ حكومتهم من ان المسلمين لم يتركوا لهم مجالاً للقيام بعمل محترم ومرموق ، والحقيقة ان النصارىٰ لم يكونوا جديرين للقيام باي عمل ، حتىٰ لا يحتاجوا المسلمين في انجازه.

خلاصة القول :

انه وبعد حكم المسلمين اغلقت المعامل التي كانوا قد شيدوها بأيديهم ، واختلت امور الزراعة ، فصارت الاراضي التي احياها المسلمون الى موات ، مما اثر ذلك علىٰ العمران المدني ، لذلك نشاهد تدني في امور المدن ايضاً ، ففي اشبيلية التي كان فيها علىٰ حكم المسلمين الف وستمائة مصنع وكان يعمل في تلك المصانع اكثر من مائة وثلاثين الف عامل ، تقلص العدد في طل حكم النصارىٰ الىٰ ثلاثمائة مصنع فقط !

وفي طليلة وحدها كان هناك خمسين مصنع للنسيج والاقمشة في فترة حكم المسلمين ، بقيت منها ثلاثة عشر فقط بعدهم ، اما المصانع التي كانت مخصصة لانتاج الاقمشة الحريرية والتي كان يعمل فيها اكثر من اربعين الف عامل ، فقد اغلقت جميعها ، هذا الامر ادىٰ الى خراب مدن مشهورة كانت

________________

(1) لمزيد الاطلاع حول نص تلك المعاهدات : راجع ، تاريخ العالم الحديث الاسلام ، تاليف الدكتور لوثروب ستودارد ( الاميركي ).

٢٦٢

عامرة في فترة حكم المسلمين مثل ، قرطبة ، وسقوبية وبورغوس.

وقد وصل الامر الىٰ الاوروبيين لرادوا ان ينشئوا في بداية القرن الثامن عشر مصنعاً في سقوبية ، ولأنه لم يكن قد بقي هناك واحداً من الصناعيين المسلمين اضطروا لأن يأتوا بالصناعيين والعمال من هولندا. وبشكل عام لقد سقطت الاندلس في الفقر والحرمان والتخلف علىٰ يد النصارىٰ بعد ان كانت القمة الحضارية في اوروبا والعالم في فترة حكم المسلمين.

نماذج مضحكة من جهل الاوروبيين

سيادة العقيد : من اجل ان تتعرفوا اكثر علىٰ هؤلاء الذين ترونهم افضل منكم ، سأنقل لكم نماذج عن جهلهم ومستوىٰ انحطاطهم الفكري في الماضي ، لكي تعرفوا مدىٰ تخلفهم عندما كان للمسلمين مجد وعظمة علمية في الدنيا :

1 ـ مسكين فلتن الامريكي ، لقد صنع زورقاً بخارياً سرعته ما يقرب من خمسة عشر كيلو متراً في الساعة وقام بتجربته في احد الانهار في امريكا ، المتفرجون الامريكيون الذين كانوا يشاهدون حركة الزورق من علىٰ ساحل النهر ، تصوروا ان هذا الزورق ما هو الّا عفريت والدخان الذي يتصاعد من مدخنة غرفة المحرك انفاس ذلك العفريت !!

2 ـ وفي السويد كانوا يقومون بشنق الشيوخ والعجائز والمرضىٰ الذين يصعب علاجهم ، ولا زالت هناك بعض اعواد المشانق بأسماء بعض الاسر ...!

3 ـ وفي بريطانيا والىٰ قرون متأخرة كان هناك قانون يجيز للمرأة ان

٢٦٣

يكون لها اكثر من زوج !

4 ـ نقل بعض المثقفين الفرنسيين الىٰ ملك فرنسا ، ان المسلمين في الاندلس يرصون ارض شوارعهم وازقتهم بأحجار ظريفة ويبالغون في الحفاظ علىٰ نظافتها ، في حين ان شوارع وازقة بلادنا غير مرصوصة بالحجارة والخنازير سائبة فيها علىٰ الدوام مما يزيد في اوساخها ، وبعد ان استمع ملك فرنسا الىٰ كلام هؤلاء ، امر برسم خرائط عن شوارع وازقة مدن الاندلس ، وبعد ذلك ترص شوارع وازقة مدن فرنسا علىٰ غرارها ، كما امر بمنع خروج الخنازير الىٰ الشوارع والازقة.

وما ان سمع الشعب الفرنسي بقرارات الملك ، حتىٰ قامت هناك انتفاضة عامة سميت بالحركة المسيحية في باريس ، واعتبر الباريسيون ان منع حرية الخنازير أمر يخالف التعاليم النصرانية ، وقد وصل الامر الىٰ حدّ اضطر فيه ملك فرنسا لأن يمنح الخنازير حرية التجوال في الشوارع والازقة ، بل ومن اجل جبران ما امر به في السابق ، امر بأن يتعلق في رقبة كل واحد منها جرس خاص ، دلالة علىٰ قدسيتها(1) ، وبالنهاية كانت هذه الاجراس هي السبب في موت ملك فرنسا.

ففي أحد الايام حيث كان الملك ممتطياً جواده ، فاجئته مجموعة من تلك الخنازير بأجراسها ، فارتهب الجواد من صوت اجراسها وقفز من مكانه ،

________________

(1) يشاهد اليوم في الغرب اهتمام بالغ بالكلاب والقطط حتىٰ انهم يعدونها كأحد افراد الاسرة ...!

وحول مكانة الكلاب عند الغربيين راجع :

صحيفة اطلاعات ( بالفارسية ) العدد 9271 بتاريخ 13 / 3 / 1957. مقال بقلم الدكتور زهيري.

٢٦٤

فوقع الملك من علىٰ ظهره وكان في ذلك موته.

5 ـ يقول الدكتور غوستاف لوبون : « كان الجمود والتحجر يسود الاندلس بعد حكم المسلمين لحد ، اقترح مجموعة من المثقفين الاوروبيين علىٰ حكامهم ضرورة تنظيف الشوارع والازقة من القاذورات من اجل نظافة العابرين ، ولمجرد هذا الاقتراح تشكلت هيئة طبية اوروبية وخالفته ، وكان تعليمهم : هو ان آباءنا كانوا عقلاء وكانوا راضون عن مثل هذا الوضع ولابد لنا نحن اتباع نهج اسلافنا في ذلك وان اخراج القاذورات من الشوارع والازقة وتنظيفها بعد عملاً لا تعرف نتائجه ؟! »

فطير وشراب

الدكتور : هل صحيح ان الشعوب الاوروبية كانت علىٰ هذا المستوىٰ من الانحطاط حتىٰ القرن الثامن عشر ؟!

الشيخ : حضرة الدكتور ! لا يقتصر الامر علىٰ الماضي بل في عصر الذرة الذي ينظر فيه شعبنا اليهم بقداسة ، هناك خرافات شائعة بينهم تجعل كل انسان عاقل في حيرة من امره.

ولقد تأصلت هذه الخرافات في عقول كبار سياسييهم وعلماءهم ، بحيث انهم ينفذونها ويلتزمون بها دون اي تحفظ او انتباه ، واليكم بعضها :

أ ـ واحدة من تلك الخرافات التي شارك فيها العديد من الشخصيات في اوروبا وامريكا ، شعائر تسمىٰ « الفطير المقدّس » وهو انهم يحضرون في اليوم الذي يقولون فيه بصلب عيسىٰ ، فطائر يعدونها من دقيق جيد ، ويأخذونها الىٰ

٢٦٥

البابا أو كبير القساوسة ، فياتي البابا أو كبير القساوسة بذلك الفطير ومعه زجاجة شراب الىٰ الكنيسة وقد امتلأت لكبار الشخصيات والناس العاديين وهم مصطفّون ومستعدون ، فيضع كبير القساوسة من ذلك الشراب في كأس من الفضة ، والفطائر في منديل نظيف ، وبعد ان يعبر من امام المصطفين ، يقف ووجهه نحو الشرق مقابل الجميع ويقرأ من الاية 48 الىٰ الآية 58 من الانجيل(1) علىٰ الشراب والفطير الذي بيديه ـ في شعائر خرافية للغاية ـ ثم يسجد علىٰ ذلك الفطير ويخاطبه وهو ساجد : انت يا عيسىٰ رب السماوات والارضين ، انت الذي تجسمت في بطن مريم ، انت ابن الله الذي ولدت قبل جميع العوالم ، وأنت الذي تنجو ببركته من ايدي الشياطين ، وانت الذي تجلس علىٰ يمين الاب في السماوات ! نسألك أن تغفر لنا وأن تغفر لاُمّتك التي دفعت دمك ثمناً لخلاصها !

وبعد ذلك يرفع رأسه من السجود ويمسك بالشراب والفطير أمام الحاضرين فيسجد الجميع امامهما ، لانهم يعتقدون ان ذلك الفطير وبعد ان قرأ عليه القس الاكبر تلك الآيات تحول الىٰ جسم المسيح. وبعد ان يتم الجميع سجودهم ، يمسك القس الاكبر بكأس الخمرة ويخاطب الحاضرين قائلاً : لقد امسك عيسىٰ قبل موته كأس الخمرة واعطاه للحواريين ـ والعياذ بالله ـ وقال لهم اشربوه فهذا دمي ، وبعد ذلك الخطاب يقوم القس ومن بعده الحاضرين بالسجود امام ذلك الكأس الذي يعتقدون بأنه دم عيسىٰ ، ثمّ يقوم القس الاكبر بتقطيع الفطائر بحيث تكون الواحدة بمقدار حبّة الحمص أو أصغر ، ثم يقف هو وبيده قطع الفطير ويمسك قس آخر بكأس الشراب فيأتي المصطفون واحد

________________

(1) الباب السادس من انجيل يوحنا ، ص 155 ، طبع لندن 1901 م.

٢٦٦

بعد واحد اليه يضع في فمهم قطعة من الفطير يبلعونها دون ان تنالها اسنانهم ، لأنها من جسم عيسىٰ ! ثم الىٰ القس الآخر فيشربون من كأس الخمرة دون ان يمسونه ، ويعتدون انهم وبعد ان أكلوا الفطير وشربوا الخمرة اصبحوا جميعاً ابناء الله.

هنا يعجب الاصدقاء من ذلك الكلام الذي رواه لهم الشيخ.

الاصفهاني يشتري النار !

ب ـ ومن الخرافات الاُخرىٰ السائدة حتىٰ اليوم في الدول الغربية ، قصة بيع الجنة وتفصيل ذلك هو ان المسيحيين يؤمنون بأن عيسىٰ قتل لكي يخلّص بدمه اتباعه من الذنوب والعذاب عند ابيه !!! ( الله ) ، ولذلك فان عيسىٰ يستطيع ان يغفر للمذنبين شخصياً

وهذه العقيدة الوهمية اصبحت وسيلة بيد القساوسة لأخذ الاموال من الناس ، فالمسيحي المذنب يأتي الىٰ القس ويعترف بذنبه فيغفر له القس ذنوبه بأعتباره ممثلاً للمسيح ثم يدفع للقس مبلغاً من المال ازاء شراء قطعة ارض في الجنة.

يقال ان أحد الاصفهانيين اطلع علىٰ هذا الأمر في روما ، فذهب الىٰ القس الأكبر وبعد ان اعترف بمجموعة من الذنوب طلب من القس ان يبيعه جميع جهنم ، ومهما أراد القس الاكبر بنصيحته من ان جهنم مركز العذاب في الآخرة ، ويستطيع هو ان يشتري قطعة ارض من جنة مقابل المبلغ الذي يدفعه ، إلّا ان الاصفهاني اصرّ علىٰ شراء جميع جهنم ، وفي النهاية باعه القس

٢٦٧

الأكبر جميع جهنم ازاء مبلغ زهيد ، فطلب الاصفهاني من القس سنداً للملكية ، فكتب له القس الاكبر كتاباً بذلك ووقعه ، فأخذ الاصفهاني الوثيقة ودخل الىٰ اكبر كنيسة ، هناك وخاطب المسيحيين قائلاً ، لاتذهبوا بعد اليوم الىٰ البابا لشراء أرض في الجنة ، لأن شراء الجنة كان خوفاً من جهنم والآن ارحتكم من ذلك ، فقد اشتريت جميع جهنم من البابا وهذه وثيقة الملكية موقعة من قبل البابا نفسه ، وسيضطر الله الىٰ ادخالكم الجنة لأنه لم يبق لديه مكان آخر.

وبعد ان رأىٰ النصارىٰ وثيقة الملكية بيد الاصفهاني موقعة من قبل البابا ، ايقنوا من صحة الامر ، فكانوا يذنبون دون خوف ودون مراجعة للقساوسة من اجل الاعتراف أو شراء الجنة ، وبعد فترة من الزمن شاهد القساوسة عدم مراجعة احد للاعتراف أو شراء الجنة ، وفهموا ان سبب ذلك هو حيلة الاصفهاني التي دبرها ضدهم ، فأضطروا لأن يذهبوا اليه ويعيدوا سند ملكية جهنم اليهم مقابل مبلغ طائل من المال ، وبهذا الشكل عادوا من جديد الىٰ بيع الجنة وغفران الذنوب !

وهنا ينفجر الاصدقاء ضاحكين.

ج ـ ومن أعمال الاوروبيين غير المنطقية معاملتهم للكلاب ، فمن الغريب ان يعجب المؤرخون الاوروبيون الىٰ وضع اجراس في اعناق الخنازير في فرنسا ـ كما تحدثنا عن ذلك سابقا ـ ويعتبرونه دليل علىٰ انحطاط وتوحش الشعوب الاوروبية السابقة ، في حين انهم لم يعتبروا وضع علامة دفع الضرائب في رقبة الكلاب واعداد سيارات ومطاعم وغرف نوم خاصة لها دليلاً علىٰ التوحش والانحطاط الفكري.

٢٦٨

اصدقائي الاعزاء !

هذه والعشرات من امثالها من الخرافات والوهم الذي يسود صميم اوروبا واميركا ويشيع بين رجالها وعلمائها وشعوبها التي ترفع راية الحضارة المعاصرة ، وللاسف الشديد فان بعض افراد شعوبنا الاسلامية والشرقية ومن خلال مشاهدتها لتطور الغرب الصناعي تتصور ان كل ما يقومون به اكبر دليل علىٰ الحضارة والمدنية لمجرد انه صادر من قبلهم !!!

٢٦٩

التقدم العلمي عند المسلمين

حسن ، الطالب الجامعي : كلامك قيّم وهو وثيقة فخر لنا نحن المسلمون ، ولكن يجب ان لا ننسىٰ ان العالم الاوروبي اصبح قدوة للبشرية في جميع العلوم والفنون ، وبالتقدم الذي احرزوه في هذا المجال ، لهم حق كثير علىٰ عاتق العالم ، واعترافاً بالجميل ، يجب ان نقدمهم ( نحن وجميع الشعوب الاخرىٰ ) علىٰ انفسنا.

استمع الشيخ الىٰ كلام حسن ثم تنهّد وقال : بني حسن ، كلما سمعت مثل هذا الكلام يصدر عن اخواني المسلمين وهم يرون انفسهم في مرتبة دون تلك الشعوب الاوروبية المغرورة ويرونهم معلموهم في كل شيء ، اتأثر كثيراً ، بني ، كلامك حول اوروبا وتعليمها للمسلمين ، شبيه بأن تأتي مجموعة من السارقين ، فيسرقون كل ما تملك من اموال ، ثم يعطونك جزءاً يسيراً جداً منها ـ لأغراض في انفسهم ـ فتشكرهم وتنظر اليهم كأولياء نعمتك وتكون ممتناً لهم علىٰ الدوام ، في حين انها اموالك التي سرقوها منك وهي اتعابك واتعاب آباءك السابقين !!

اصدقائي الاعزاء !

يجب ان نقول وللأسف الشديد : آه من جهل وعدم ومعرفة بعض المسلمين ، آه لكل هذا الشقاء وهذه التعاسة !

٢٧٠

اصدقائي ، معلموا البشرية هم المسلمون وليسوا الاوروبيون ! وهم مدانون لنا في العلم ، لا ان نكون نحن الممتنين لهم ! ولقب « الاستاذ » جدير بنا ، لا الاوروبيون والشعوب الغربية ! ومنجزاتهم العلمية التي ادت الىٰ جميع هذا الصناعات والاكتشافات ، مصدرها نحن ! علماء الغرب يعترفون : « المسلمون اساتذتنا »

الدكتور : ايها الشيخ لقد ادعيت امراً كبيراً ، لا اتصوّر انك تقوىٰ علىٰ اثباته !

الشيخ : سعادة الدكتور ! هناك العديد من حقائق الوجود لم تكونوا تتصورونها من قبل ، ومن أجل ان لا يكون كلامي اعتباطاً ، سأنقل لكم في البداية أقوال بعض علماء اوروبا في هذا الصدد ، ثم سأثبت لكم ـ بحول الله وقوته ـ ان الاوروبيين كانوا تلامذة المسلمين في كل واحدة من العلوم وانهم اخذوها منا ، حسب اعتراف علماءهم الكبار.

واليكم نصوص من تلك الاعترافات :

1 ـ يقول العالم الفرنسي المعروف ، ليبري(1) :

« لو لم يظهر الاسلام والمسلمين في التاريخ لتأخّرت النهضة العلمية الاوروبية قرون عديدة ».

2 ـ ويقول الكاتب الانجليزي الكبير ، برناردشو(2) :

________________

(1) Libre

(2) Birnazd Shaw

٢٧١

« تقدم وتطور العلم والفلسفة ، في جميع انحاء العالم هو من عمل المسلمين ».

3 ـ ويقول الفيلسوف المعروف ، ديكارت(1) مؤسس الفلسفة الحديثة :

« جوب الفرنسي ، الذي يهدُ من اشهر علماء اوروبا ، اخذ العلم في الاندلس من المسلمين ».

4 ـ ويقول الدكتور غوستاف لوبون ، حول « روسن مارتن » الذي لم يبخل منزلة المسلمين وخدماتهم في مجال العلم : « مستبعد أن يتجاهل شخص مثل روسن مارتن خدمات المسلمين وحقهم العلمي علينا نحن الشعوب الاوروبية ».

5 ـ ويقول ارنست رينان(2) الفيلسوف الفرنسي المعروف :

« ان كل ما يمتكله البرت الكبير كان قد أخذه عن العالم المسلم ابن سينا ، كما ان القديس ثوماس اخذ فلسفته عن الفيلسوف المسلم ابن رشد الاندلسي أيضاً ».

6 ـ ويقول المؤرخ الفرنسي المعروف ، السيد سديو(3) :

« التقدم والتطور الحضاري الاوروبي المعاصر سببه العلوم التي نشرها المسلمون في شتىٰ انحاء العالم من شرقها الىٰ غربها ، ولابد من الاعتراف بهذه الحقيقة وهي ان المسلمين اساتذة شعوب اوروبا الأوّلين ».

________________

(1) Discartes

(2). E. Renan

(3) Mr. sidilot

٢٧٢

7 ـ ويقول العالم الانجليزي المعروف ، بوغولد :

« كانت الجامعات الاسلامية في بغداد والاندلسي تستقبل الطلبة الاجانب من اليهود والنصارى ، وكانت تدفع تكاليف الدراسة من خزانة الحكومة ، كما كانت تحترمهم كثيراً ، ولقد استفاد مئات الشبان الاوروبيين من هذه الحرية والمساعدة الاسلامية وكانوا يدرسون مختلف العلوم والمعارف في تلك المراكز العلمية ».

8 ـ ويقول بوغيزجيفاي :

« لقد أوجد المسلمون مراكز الثقافة رسمياً في القرون الوسطىٰ ، وأسّسوا الجامعات ، وكان كل اوروبي يدخل الجامعات الاسلامية ، يفتخر بين اقرانه ويكون مرفوع الرأس في عشيرته واسرته ، وكانوا يعتبرونه عظيماً وعالماً ».

9 ـ ويقول القس الفرنسي المعروف ، راموزار سيلوستر :

« في ذلك العصر الذي سطع فيه شعاع الاسلام من بغداد ( في الشرق ) وغرناطة ( في الغرب ) ، كان الاوروبيون يغطون في سبات عميق ، وبعده فترة طويلة ظهرت مجموعة صغيرة منهم اتجهت نحن المراكز العلمية الاسلامية وبدأوا يحتلون جامعات الاندلس ( دولة المسلمين في اوروبا ) ».

10 ـ ويقول المؤرخ الاميركي ، درابر :

« كانت للمسلمين باع طويلة في جميع العلوم القديمة منها والحديثة ، وكانت لهم مهارة خاصة في الميكانيك والديناميك والايذوستاتيك ، وفي مسائل علم الفيزياء ، وعلم الكيمياء في مباحث التقطير والتصعيد والتذويب

٢٧٣

والتصفية ، وكانت الجامعات الاسلامية تدرس جميع العلوم من الفيزياء والكيمياء والهيئة ، حتىٰ الزراعة والاسعافات واخلاق الفلاسفة الكبار ، ولم تشاهد جامعة مثل الجامعات الاسلامية فيها ستة آلاف طالب ».

11 ـ ويقول المؤرخ الفرنسي الشهير « سديلو » في كتاب « تاريخ العرب » :

«كان المسلمون في القرون الوسطىٰ ، القمّة في الفسلفة ومختلف الفنون ، واين ما وطئت اقدامهم ارضاً نشروا فيها العلم ، حتىٰ وصلت علومهم الىٰ اوروبا وادت الىٰ النهضة العلمية الاوروبية »(1) .

12 ـ ويقول « جوزيف ماك كاب » :

« لا يوجد في التاريخ شعب وقدم يهتم بالعلم والمعرفة للحد الذي سيطر حب العلم والفن علىٰ جميع طبقاته ، إلّا المسلمين »(2) .

13 ـ ويقول « رنبورت » :

لا بدّ من الاعتراف ان العلوم الطبيعية والفلكية والفلسفة والرياضيات التي احيت اوروبا في القرن العاشر ، كانت مأخوذة من القرآن ، بل اوروبا مدينة بكامل نهضتها للاسلام »(3) .

14 ـ ويقول جورجي زيدان :

________________

(1) روح الدين الاسلامي.

(2) عظمة المسلمين في اسبانيا.

(3) نو دانش ، سنة 1985 ( بالفارسية ).

٢٧٤

« اينما حكم الاسلام ، تقدم العلم والادب بسرعة »(1) .

15 ـ وفي مكان آخر يقول المؤرخ الاميركي « درابر » ، استاذ جامعة نيويورك :

« اذا اردنا كتابة آثار نهضة المسلمين العلمية ، سنخرج من اطار كتاب ـ نزاع العلم والدين ـ ولكن يكفي ان نعلم ان المسلمين تقدّموا وترقّوا كثيراً في العلوم القديمة التي كانت موجودة قبلهم ، كما انّهم أوجدوا علوماً جديدة لم تكن في السابق ، واكتشفوا وسائل عديدة في الكيمياء وغيرها من العلوم ، ولهذا اعتبروهم مؤسسوا علم الكيمياء.

وفي ذلك العصر كانت الجامعات الاسلامية مفتوحة بوجه عامة المسلمين وعلماء اوروبا ، وكان الامراء والسلاطين يتجهون نحو الدول والبلدان الاسلامية للعلاج »(2) .

16 ـ ويقول « دالامبر » في كتابه « الهيئة » : « لم تكن خدمات المسلمين تقتصر في ابحاثهم واكتشافاتهم وتقدمهم العلمي فقط ، بل انهم نفخوا في العلم روحاً خاصة ، ونشروه في ارجاء العالم من خلال الكتب التي الّفوها والجامعات التي اسسوها ، وبهذا الشكل احسنوا الىٰ العالم واوروبا ، حيث يمكن القول ان المسلمين كانوا اساتذة الاوروبيين في العلوم والفنون علىٰ مدىٰ قرون »(3) .

________________

(1) تاريخ الحضارة اسلامية.

(2) روح الدين الاسلامي.

(3) العالم الاسلامي.

٢٧٥

17 ـ ويقول كريستوف كولومبس(1) مكتشف القارة الاميركية :

« لقد استفدت في الوصول الىٰ هدفي السامي وهو كشف طريق الهند من كتاب العالم ابن رشد الاندلسي ، حتىٰ استطعت في النهاية ان اكتشف جزيرة امريكا ».

18 ـ ويقول أي. دي. همبلت ، أحد كبار علماء اوروبا :

« يجب ان نعتبر المسلمين هم المؤسسون الحقيقيّون للعلوم الطبيعية »(2) .

اصدقائي الاعزاء !

هذه نماذج من اعترافات كبار علماء اوروبا في تقدم المسلمين في مختلف العلوم ، وكونهم اساتذة اوروبا وسائر الشعوب في العالم.

وبعد ذلك سأبدأ بحثي حول التطور العلمي للمسلمين في مجالات العلوم الحديثة ، وسأورد لكم في ذلك ادلة قاطعة :

________________

(1) Christopher Columbes

(2) صورة الاسلام.

٢٧٦

تقدم المسلمين في مجال الطب

يقول المستشرق الفرنسي الكبير الدكتور غوستاف لوبون والذي يحمل شهادة دكتوراه في الطب والطبيعيات والاجتماع : « الطب أيضاً مثل الهيئة والرياضيات والكيمياء من العلوم التي كانت للمسلمين اكتشافات ودراسات فيها ، وقد توصلوا الىٰ نتائج مهمة فيه ، وكتب الطب العربية لم تفقد مثل سائر تصانيفهم لأنها ترجمت الىٰ اللاتينية.

ومن اشهر اطباء المسلمين محمد بن زكرياء الرازي الذي يعد من علماء الكيمياء أيضاً ، كان الرازي يعلم الطب في بغداد لفترة خمسين سنة ، وقد كتب مصنفات عديدة في التاريخ والكيمياء والطب ، وله مؤلفات في الحمىٰ البثورية ، مثل الحصبة وامثالها ، ويعد كتابه « علاج الاطفال » اول كتاب في هذا المجال ، ففيه معالجات حديثة مثل استخدام الماء البارد في تخفيض درجة الحرارة ( الحمىٰ ) والذي لا يزال يستخدم في الطب الاوروبي الحديث ، واستخدم الكحول للجروح والحجامة للسكتة وأمثالها.

واشهر كتاب للرازي في الطب هو « الكبير » ، وهو يحتوي على جميع المسائل الطبية وله كتاب آخر في الطب يسمى « المنصورية » والذي كتبه باسم الخليفة المنصور ، ويتضمن عشرة أبواب :

الأوّل : في التشريح ( الفسيولوجيا ).

الثاني : في الامزجة.

٢٧٧

الثالث : في الاغذية والادوية.

الرابع : في الحفاظ علىٰ الصحة.

الخامس : في الأدوية التي تزيّن الجسم.

السادس : في لوازم حفظ الصحة خلال السفر.

السابع : في الجراحة.

الثامن : في السموم.

التاسع : في امراض الكلية.

العاشر : في انواع الحمّىٰ.

وأغلب كتب الرازي مترجمة الىٰ اللاتينية ومطبوعة أكثر من مرّة ، خاصة انها طبعت في فينيسيا ( البندقية )(1) سنة 1509 ميلادية ، وفي باريس سنة 1528 ، وكتابه حول الحصبة طبع مرتان باللاتينية سنة 1745 ميلادية.

وبقيت كتب الرازي في الطب تدرس لفترة طويلة في الكليات الطبية الاوروبية ، وفي لوفين(2) كانت كتب الرازي وكتب ابن سينا في الطب تدرس حتىٰ القرن السابع عشر ( اي الىٰ ما قبل ثلاثة قرون ).

ومن علماء المسلمين الآخرين في الطب « علي بن العباس » الذي كتب العديد من المصنفات في هذا المجال وانتقد فيها عبارات هيبوكرات

________________

(1) Vines

2 ـ Lovin

٢٧٨

وجالينوس واوري باز وبول دوجين ، واثبت خطأهم.

ومن اشهر علماء المسلمين في هذا المجال هو الشيخ الرئيس ابو علي بن سينا ، الذي استمرت آراءه ومصنفاته الطبية علىٰ قوتها لفترة طويلة جداً ، بحيث سميّ « ملك الاطباء » ، وقد ترجمت كتب ابن سينا الىٰ جميع لغات العالم ، وكانت تعد الاساس والمبنىٰ في الطب علىٰ مدىٰ ستة قرون خاصة في جامعات فرنسا وايطاليا التي اعتمدتها كمنهاج دراسية ، وقد اعيد طبعها في القرن الثامن عشر ( قبل قرنين ) مرتان ، ولم يمض علىٰ حذفها من مناهج الجامعات الفرنسية والايطالية اكثر من خمسين سنة فقط.

ومن اطباء المسلمين « ابو مروان عبد الملك بن زهرة » من علماء القرن الثاني عشر في اشبيلية ، ورغم ان شهرته ليست بمستوىٰ سائر اطباء المسلمين ، إلّا ان له كمانة رفيعة في الطب ، وقد قام باصلاحات عديدة في العلاج ، واثبت ان للطبيعة تأثير بالغ في جميع افعال واعمال الجسم ، وبشكل عام كان يرىٰ امكانية دفع الامراض دون الحاجة الىٰ دواء ، واستطاع ابن زهرة خلافاً لما كان سائداً في ذلك العصر ، الجمع بين الجراحة والعلاج وخواص الأدوية وله اُسس وأحكام صائبة لا يمكن الشك فيها حول الكسر والخلع الذي يحدث في العظام.

أمّا الطبيب المسلم الآخر ، فهو « ابن رشد » الذي ولد سنة 1126 في قرطبة ، وتوفي في سنة 1188 م ، ورغم مؤلفاته في الطب الّا ان شهرته كانت في الفلسفة ، ولابن رشد شرح علىٰ الكتاب ابن سينا في الطب ، وله مؤلفات في الترياق والسمّيّات وأقسام الحمّىٰ والامراض الاُخرىٰ ، وقد طبعت كتبه

٢٧٩

الطبية في اوروبا عدة مرّات بعد ان ترجمت الىٰ اللاتينية(1) .

يقول الدكتور غوستاف لوبون :

« لقد ترجمت كتب ابن سينا في الطب الىٰ جميع لغات العالم ، وبقيت الاساس والمبنىٰ في الطب علىٰ مدىٰ ستمائة سنة »(2) .

ويقول جورجي زيدان :

« الطب الاسلامي ، هو خلاصة ذلك العلم عند الشعوب المتحضرة آنذاك حتىٰ زمن ظهور الاسلام ، وقد قام المسلمون بجمع الطب الايراني واليوناني والكلداني والهندي واضافوا عليه اشياء كثيرة وانتقدوه في الكثير من الاشياء »(3) .

تغيير المناخ في الطب الاسلامي

يقول الدكتور غوستاف لوبون :

« كان الاطباء المسلمون مطلعين علىٰ فوائد المناخ بشكل تام ، للحد الذي يوصي ابن رشد في شرحه لكتاب ابن سينا في الطب ، بتغيير الجو ( المناخ ) لعلاج المصاب بالسلّ ، فيقول : في فصل الشتاء تعد ارض الحجاز والحبشة مفيدة لعلاج هذا المرض ، كما ان اطباء اوروبا يرسلون المصابين بهذا

________________

(1) حضارة الاسلام والعرب.

(2) المصدر نفسه.

(3) تاريخ الحضارة الاسلامية.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606