الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245348 / تحميل: 6213
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

الآيتان

( وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩) )

التّفسير

اليهود وعبادتهم للعجل :

في هذه الآيات يقصّ القرآن الكريم إحدى الحوادث المؤسفة ، وفي نفس الوقت العجيبة التي وقعت في بني إسرائيل بعد ذهاب موسىعليه‌السلام إلى ميقات ربّه ، وهي قصّة عبادتهم للعجل التي تمّت على يد شخص يدعى «السامري» مستعينا بحلي بني إسرائيل وما كان عندهم من آلات الزّينة.

إنّ هذه القصّة مهمّة جدّا بحيث إنّ الله تعالى أشار إليها في أربع سور ، في سورة البقرة الآية (٥١) و (٥٤) و (٩٢) و (٩٣) ، وفي سورة النساء الآية (١٥٣) ، والأعراف الآيات المبحوثة هنا ، وفي سورة طه الآية (٨٨) فما بعد.

٢٢١

على أنّ هذه الحادثة مثل بقية الظواهر الاجتماعية لم تكن لتحدث من دون مقدمة وأرضيّة ، فبنوا إسرائيل من جهة قضوا سنين مديدة في مصر وشاهدوا كيف يعبد المصريون الأبقار أو العجول. ومن جانب آخر عند ما عبروا النيل شاهدوا في الضفة الأخرى مشهدا من الوثنية ، حيث وجدوا قوما يعبدون البقر ، وكما مرّ عليك في الآيات السابقة طلبوا من موسىعليه‌السلام صنما كتلك الأصنام ، ولكن موسىعليه‌السلام وبّخهم وردّهم ، ولا مهم بشدّة.

وثالث ، تمديد مدّة ميقات موسىعليه‌السلام من ثلاثين إلى أربعين ، الذي تسبب في أن تشيع في بني إسرائيل شائعة وفاة موسىعليه‌السلام بواسطة بعض المنافقين ، كما جاء في بعض التفاسير.

والأمر الرابع ، جهل كثير من بني إسرائيل بمهارة السامريّ في تنفيذ خطته المشئومة ، كل هذه الأمور ساعدت على أن تقبل أكثرية بني إسرائيل في مدّة قصيرة على الوثنية ، ويلتفوا حول العجل الذي أوجده لهم السامريّ للعبادة.

وفي الآية الحاضرة يقول القرآن الكريم أوّلا : إنّ قوم موسىعليه‌السلام بعد ذهابه إلى ميقات ربّه صنعوا من حليّهم عجلا ، وكان مجرّد تمثال لا روح فيه ، ولكنّه كان له صوت كصوت البقر ، واختاروه معبودا لهم :( وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ ) .

ومع أنّ هذا العمل (أي صنع العجل من الحليّ) صدر من السامريّ (كما تشهد بذلك آيات سورة طه) إلّا أنّه مع ذلك نسب هذا العمل إلى بني إسرائيل لأنّ كثيرا منهم ساعد السامريّ في هذا العمل وعاضده ، وبذلك كانوا شركاء في جريمته ، في حين رضي بفعله جماعة أكبر منهم.

وظاهر هذه الآية وإن كان يفيد ـ في بدء النظر ـ أنّ جميع قوم موسى شاركوا في هذا العمل ، إلّا أنّه بالتوجه إلى الآية (١٥٩) من هذه السورة ، التي تقول :( وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) يستفاد أنّ المراد من الآية المبحوثة

٢٢٢

هنا ليس كلّهم ، بل أكثرية عظيمة منهم سلكوا هذا السبيل ، وذلك بشهادة الآيات القادمة التي تعكس عجز هارون عن مواجهتها وصرفها عن ذلك.

كيف كان للعجل الذهبي خوار؟

و «الخوار» هو الصوت الخاص الذي يصدر من البقر أو العجل ، وقد ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ السامري بسبب ما كان عنده من معلومات وضع أنابيب خاصّة في باطن صدر العجل الذهبي ، كان يخرج منها هواء مضغوط فيصدر صوت من فم ذلك العجل الذهبيّ شبيه بصوت البقر.

ويقول آخرون : كان العجل قد وضع في مسير الريح بحيث كان يسمع منه صوت على أثر مرور الريح على فمه الذي كان مصنوعا بهيئة هندسية خاصّة.

أمّا ما ذهب إليه جماعة من المفسّرين من أن السامريّ أخذ شيئا من تراب من موضع قدم جبرئيل وصبّه في العجل فصار كائنا حيا ، وأخذ يخور خوارا طبيعيا فلا شاهد عليه في آيات القرآن الكريم ، كما سيأتي بإذن الله في تفسير آيات سورة طه.

وكلمة «جسدا» شاهد على أن ذلك العجل لم يكن حيوانا حيا ، لأنّ القرآن يستعمل هذه اللفظة في جميع الموارد في القرآن الكريم بمعنى الجسم المجرّد من الحياة والروح(١) .

وبغض النظر عن جميع هذه الأمور يبعد أن يكون الله سبحانه قد أعطى الرجل المنافق (مثل السامريّ) مثل تلك القدرة التي يستطيع بها أن يأتي بشيء يشبه معجزة النّبي موسىعليه‌السلام ، ويحيي جسما ميتا ، ويأتي بعمل يوجب ضلال الناس حتما ولا يعرفون وجه بطلانه وفساده.

__________________

(١) راجع الآيات (٨) من سورة الأنبياء ، و (٣٤) من سورة ص.

٢٢٣

أمّا لو كان العجل بصورة تمثال ذهبي كانت أدلة بطلانه واضحة عندهم ، وكان من الممكن أن يكون وسيلة لاختبار الأشخاص لا شيء آخر.

والنقطة الأخرى التي يجب الانتباه إليها ، هي أنّ السامري كان يعرف أن قوم موسىعليه‌السلام قد عانوا سنين عديدة من الحرمان ، مضافا إلى أنّهم كانت تغلب عليهم روح المادية ـ كما هو الحال في أجيالهم في العصر الحاضر ـ ويولون الحليّ والذهب احتراما خاصّا ، لهذا صنع عجلا من ذهب حتى يستقطب إليه اهتمام بني إسرائيل من عبيد الثروة.

أمّا أن هذا الشعب الفقير المحروم من أين كان له كل ذلك الذهب والفضة؟فقد جاء في الرّوايات أن نساء بني إسرائيل كنّ قد استعرن من الفرعونيين كمية كبيرة من الحليّ والذهب والفضّة لإقامة أحد أعيادهن ، ثمّ حدثت مسألة الغرق وهلاك آل فرعون ، فبقيت تلك الحلي عند بني إسرائيل(١) .

ثمّ يقول القرآن الكريم معاقبا وموبّخا : ألم ير بنو إسرائيل أن هذا العجل لا يتكلم معهم ولا يهديهم لشيء ، فكيف يعبدونه؟( أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً ) .

يعني أن المعبود الحقيقي هو من يعرف ـ على الأقل ـ الحسن والقبيح ، وتكون له القدرة على هداية أتباعه ، ويتحدث إلى عبدته ويهديهم سواء السبيل ، ويعرّفهم على طريقة العبادة.

وأساسا كيف يسمح العقل البشري بأن يعبد الإنسان شيئا ميتا صنعه وسوّاه بيده ، حتى لو استطاع ـ افتراضا ـ أن يبدّل الحلّي إلى عجل واقعي فإنّه لا يليق به أن يعبده ، لأنّه عجل يضرب ببلادته المثل.

إنّهم في الحقيقة ظلموا بهذا العمل أنفسهم ، لهذا يقول في ختام الآية :

__________________

(١) راجع تفسير مجمع البيان ، ذيل الآية المبحوثة هنا.

٢٢٤

( اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ ) .

بيد أنّه برجوع موسىعليه‌السلام إليهم ، واتضاح الأمر عرف بنو إسرائيل خطأهم ، وندموا على فعلهم ، وطلبوا من الله أن يغفر لهم ، وقالوا : إذا لم يرحمنا الله ولم يغفر لنا فإنّنا لا شك خاسرون( وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) .

وجملة( سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ ) أي عند ما عثروا على الحقيقة ، أو عند ما وقعت نتيجة عملهم المشؤومة بأيديهم ، أو عند ما سقطت كل الحيل من أيديهم ولم يبق بأيديهم شيء في الأدب العربي كناية عن الندامة ، لأنّه عند ما يقف الإنسان على الحقائق ، ويطلع عليها ، أو يصل إلى نتائج غير مرغوب فيها ، أو تغلق في وجهه أبواب الحيلة ، فإنّه يندم بطبيعة الحال ، ولهذا يكون الندم من لوازم مفهوم هذه الجملة.

وعلى كل حال ، فقد ندم بنو إسرائيل من عملهم ، ولكن الأمر لم ينته إلى هذا الحدّ ، كما نقرأ في الآيات اللاحقة.

* * *

٢٢٥

الآيتان

( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١) )

التّفسير

ردة فعل شديدة تجاه عبادة العجل :

في هاتين الآيتين بيّن تعالى بالتفصيل ما جرى بين موسىعليه‌السلام وبين عبدة العجل عند عودته من ميقاته المشار اليه في الآية السابقة. فهاتان الآيتان تعكسان ردة فعل موسىعليه‌السلام الشديدة التي أدت إلى يقظة هذه الجماعة.

يقول في البدء : ولما عاد موسىعليه‌السلام إلى قومه غضبان ممّا صنع قومه من عبادة العجل ، قال لهم : ضيعتم ديني وأسأتم الخلافة( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ

٢٢٦

غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي ) (١) .

إنّ هذه الآية تفيد بوضوح أن موسى عند رجوعه إلى قومه من الميقات وقبل أن يلتقي ببني إسرائيل كان غضبان أسفا ، وهذا لأجل أن الله تعالى كان قد أخبر موسىعليه‌السلام بأنّه اختبر قومه من بعده وقد أضلّهم السامريّ( قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ ) (٢) .

ثمّ إنّ موسىعليه‌السلام قال لهم :( أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ) .

للمفسّرين كلام كثير في تفسير هذه الجملة ، وقد ذكروا احتمالات عديدة مختلفة ، إلّا أن ظاهر الآيات يفيد أن المراد هو أنّكم تعجلتم في الحكم بالنسبة إلى أمر الله تعالى في قضية تمديد مدّة الميقات من ثلاثين إلى أربعين ، فاعتبرتم عدم مجيئي في المدة المقررة ـ أوّلا ـ دليلا على موتي ، في حين كان يتعين عليكم أن تتريثوا وتنتظروا قليلا ريثما تمرّ أيّام ثمّ تتّضح الحقيقة.

وفي هذا الوقت بالذات ، أي عند ما واجه موسىعليه‌السلام هذه الأزمة الخطيرة من حياة بني إسرائيل ، وكان الغضب الشديد يسر بل كل كيانه ، ويثقل روحه حزن عميق ، وقلق شديد على مستقبل بني إسرائيل ، لأنّ التخريب والإفساد أمر سهل ، وربّما استطاع شخص واحد تخريب كيان عظيم ولكن الإصلاح والتعمير أمر صعب وعسير جدّا. خاصّة أنّه إذا سرت في شعب جاهل متعنت نغمة مخالفة شاذة ، وافقت هوى ورغبة ، فإنّ محوها لا شك لن يكون أمرا ممكنا وسهلا.

فهنا لا بدّ أن يظهر موسىعليه‌السلام غضبه الشديد ويقوم بالحدّ الأعلى من ردّ الفعل والسخط ، كي يوقظ الأفكار المخدّرة لدى بني إسرائيل ، ويوجد انقلابا في

__________________

(١) «الأسف» كما يقول الراغب في «المفردات» بمعنى الحزن المقرون بالغضب ، وهذه الكلمة قد تستعمل في أحد المعنيين أيضا. وتعني في الأصل أن ينزعج الإنسان من شيء بشدة ، ومن الطبيعي أن هذا الانزعاج إذا كان بسبب من هو دونه ظهر مقرونا بالغضب ، وبردة فعل غاضبة ، وإذا كان ممن هو فوقه ممن لا يستطيع مقاومته ظهر من صورة الحزن المجرّد ، وقد نقل عن ابن عباس أيضا أن للحزن والغضب أصل واحد وإن اختلفا لفظا.

(٢) سورة طه ، ٨٥.

٢٢٧

ذلك المجتمع الذي انحرف عن الحق ، إذ العودة إلى الحق والصواب عسيرة في غير هذه الصورة.

إنّ القرآن يستعرض ردّة فعل موسى الشديدة في قبال ذلك المشهد وفي تلك الأزمة ، إذ يقول : إنّ موسى ألقى ألواح التوراة التي كانت بيده ، وعمد إلى أخيه هارون وأخذ برأسه ولحيته وجرهما إلى ناحيته ساخطا غاضبا.

وكما يستفاد من آيات قرآنية أخرى ، وبخاصّة في سورة طه ، أنّه علاوة على ذلك لام هارون بشدّة ، وصاح به ، لماذا قصّرت في المحافظة على عقائد بني إسرائيل وخالفت أمري(١) .

وفي الحقيقة كان هذا الموقف يعكس ـ من جانب ـ حالة موسىعليه‌السلام النفسية ، وانزعاجه الشديد تجاه وثنية بني إسرائيل وانحرافهم ، ومن جانب آخر كان ذلك وسيلة مؤثرة لهزّ عقول بني إسرائيل الغافية ، والفاتهم إلى بشاعة عملهم.

وبناء على هذا إذا كان إلقاء ألواح التوراة في هذا الموقف قبيحا ـ فرضا ـ وكان الهجوم على أخيه لا يبدو كونه عملا صحيحا ، ولكن مع ملاحظة الحقيقة التالية ، وهي أنّه من دون إظهار هذا الموقف الانزعاجي الشديد لم يكن من الممكن إلفات نظر بني إسرائيل إلى بشاعة خطئهم ولكان من الممكن أن تبقى رواسب الوثنية في أعماق نفوسهم وأفكارهم إنّ هذا العمل لم يكن فقط غير مذموم فحسب ، بل كان يعد عملا واجبا وضروريا.

ومن هنا يتّضح أنّنا نحتاج أبدا إلى التبريرات والتوجيهات التي ذهب إليها بعض المفسّرين ، للتوفيق بين عمل موسىعليه‌السلام هذا وبين مقام العصمة التي يتحلى بها الأنبياء ، لأنّه يمكن أن يقال هنا : إنّ موسىعليه‌السلام انزعج في هذه اللحظة من تأريخ بني إسرائيل انزعاجا شديدا لم يسبق له مثيل ، لأنّه وجد نفسه أمام أسوأ

__________________

(١) سورة طه : ٩٢ ـ ٩٣.

٢٢٨

المشاهد ألا وهو الانحراف عن التوحيد إلى عبادة العجل ، وكان يرى جميع آثارها وأخطارها المتوقعة.

وعلى هذا فإنّ إلقاء الألواح ومؤاخذة أخيه بشدّة في مثل هذه اللحظة مسألة طبيعية تماما.

إنّ ردة الفعل الشديدة هذه وإظهار الغضب هذا ، كان له أثر تربوي بالغ في بني إسرائيل ، فقد قلب المشهد رأسا على عقب في حين أنّ موسى لو كان يريد أن ينصحهم بالكلمات اللينة والمواعظ الهادئة ، لكان قبولهم لكلامه ونصحه أقلّ بكثير.

ثمّ إنّ القرآن الكريم ذكر أنّ هارون قال ـ وهو يحاول استعطاف موسى وإثبات برائته في هذه المسألة ـ : يا ابن أمّ هذه الجماعة الجاهلة جعلوني ضعيفا إلى درجة أنّهم كادوا يقتلونني ، فإذن أنا بريء ، فلا تفعل بي ما سيكون موجبا لشماتة الأعداء بي ولا تجعلني في صف هؤلاء الظالمين( قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .

إن التعبير ب : «ابن أمّ» في الآية الحاضرة أو «يا ابن أمّ» (كما في الآية ٩٤ من سورة طه) مع أن موسى وهارون كانا من أب وأم واحدة ، إنّما هو لأجل تحريك مشاعر الرحمة والعطف لدى موسىعليه‌السلام في هذه الحالة الساخنة.

وفي المآل تركت هذه القصّة أثرها ، وسرعان ما التفت بنو إسرائيل إلى قبح أعمالهم ، فاستغفروا الله وطلبوا العفو منه.

لقد هدأ غضب موسىعليه‌السلام بعض الشيء ، وتوجه إلى الله( قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) .

إنّ طلب موسىعليه‌السلام العفو والمغفرة من الله تعالى لنفسه ولأخيه ، لم يكن لذنب اقترفاه ، بل كان نوعا من الخضوع لله ، والعودة إليه ، وإظهار النفرة من أعمال

٢٢٩

الوثنيين القبيحة ، وكذا لإعطاء درس عملي للجميع حتى يفكروا ويروا إذا كان موسى وأخوه ـ وهما لم يقترفا انحرافا ـ يطلبان من الله العفو والمغفرة هكذا ، فالأجدر بالآخرين أن ينتبهوا ويحاسبوا أنفسهم ، ويتوجهوا إلى الله ويسألوه العفو والمغفرة لذنوبهم. وقد فعل بنو إسرائيل هذا فعلا ـ كما تفيد الآيتان السابقتان.

مقاربة بين تواريخ القرآن والتوراة الحاضرة :

يستفاد من الآيات الحاضرة ، وآيات سورة طه أن بني إسرائيل هم الذين صنعوا العجل لا هارون ، وأنّ شخصا خاصا في بني إسرائيل يدعى السامريّ هو الذي أقدم على مثل هذا العمل ، ولكن هارون ـ أخا موسى ووزيره ومساعده ـ لم يكن يتفرج على هذا الأمر بل عارضه ، ولم يأل جهدا في هذا السبيل ، حتى أنّهم كادوا أن يقتلوه لمعارضته لهم.

ولكن العجيب أنّ التوراة الفعلية تنسب صنع العجل والدعوة إلى عبادته إلى هارون خليفة موسىعليه‌السلام ووزيره وأخيه ، إذ نقرأ في الفصل ٣٢ من سفر الخروج من التوراة ، ما يلي :

«لما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النّزول من الجبل ، اجتمع الشعب على هارون وقالوا له : قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا. لأنّ هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ماذا أصابه. فقال لهم هارون : انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها ، فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم وأتوا بها إلى هارون ، فأخذ ذلك من أيديهم وصوّره بالإزميل وصنعه عجلا مسبوكا ، فقالوا : هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر.

فلمّا نظر هارون بنى مذبحا أمامه ونادى هارون وقال : غدا عيد للربّ (ثمّ بين مراسيم تقديم القرابين لهذا العمل».

٢٣٠

ثمّ تشرح التوراة قصّة رجوع موسىعليه‌السلام غاضبا إلى بني إسرائيل وإلقاء التوراة ، ثمّ تقول :

«وقال موسى لهارون : ماذا صنع بك هذا الشعب حتى جلبت عليه خطيّة عظيمة؟!

فقال هارون : لا يحم غضب سيدي. أنت تعرف الشعب إنّه في شرّ».

إنّ ما ذكر هو قسم من قصة عبادة بني إسرائيل للعجل برواية التوراة الحاضرة بالنص ، في حين أن التوراة نفسها تشير في فصول أخرى إلى سمّو مقام هارون وعلو منزلته ، ومن ذلك التصريح بأنّ بعض معاجز موسى قد ظهرت وتحققت على يدي هارون (الإصحاح الثامن من سفر الخروج من التوراة).

كما أنّها تصف هارون بأنّه نبي قد أعلن عن نبوته موسى (الإصحاح الثامن من سفر الخروج أيضا).

وعلى كل حال ، تعترف التوراة لهارون ـ الذي كان خليفة لموسىعليه‌السلام وعارفا بتعاليم شريعته ـ بمنزلة سامية ولكن انظروا إلى الخرافة التي تصف بأنّه كان صانع العجل ، ومن عوامل حصول الوثنية في بني إسرائيل ، وحتى أنّه اعتذر لموسىعليه‌السلام عليه بما هو أقبح من الذنب حيث قال : إنّهم كانوا يميلون إلى الشرّ أساسا وقد شجعتهم عليه.

في حين أنّ القرآن الكريم ينزه هذين القائدين من كل ألوان التلوّث بأدران الشرك والوثنية.

على أنّه ليس هذا المورد هو المورد الوحيد الذي ينزّه فيه القرآن الكريم ساحة الأنبياء والرسل ، وتنسب التوراة الحاضرة أنواع الإهانات والخرافات إلى الأنبياء المطهرين. وفي اعتقادنا أنّ أحد الطرق لمعرفة أصالة القرآن وتحريف التوراة والإنجيل الفعليين ، هو هذه المقارنة بين القضايا التأريخية التي وردت في هذه الكتب حول الأنبياء والرسل.

* * *

٢٣١

الآيات

( إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤) )

التّفسير

لقد فعلت ردة فعل موسىعليه‌السلام الشديدة فعلتها في المآل فقد ندم عبدة العجل الإسرائيليون ـ وهم أكثرية القوم ـ على فعلهم ، وقد طرح هذا الندم في عدّة آيات قبل هذه الآية أيضا (الآية ١٤٩) ومن أجل أن لا يتصور أن مجرّد الندم من مثل هذه المعصية العظيمة يكفي للتوبة ، يضيف القرآن الكريم قائلا :( إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) .

وهكذا لأجل أن لا يتصور أنّ هذا القانون يختص بهم أضاف قائلا :( وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ) .

٢٣٢

إن التعبير بـ «اتّخذوا» إشارة إلى أنّ الوثن ليس له أية واقعية ، ولكن انتخاب عبدة الأوثان هو الذي أعطاه تلك الشخصية والقيمة الوهمية ، ولهذا أتى بكلمة «العجل» وراء هذه الجملة فورا ، يعني أنّ ذلك العجل هو نفس ذلك العجل حتّى بعد انتخابه للعبادة.

أمّا أنّ هذا الغضب ما هو؟ وهذه الذّلة ما هي؟ فالقرآن لم يصرح بشيء عنهما في هذه الآية ، وإنّما اكتفى بإشارة مجملة ، ولكن يمكن أن تكون إشارة إلى الشقاء والمصائب والمشكلات التي ابتلوا بها بعد هذه الحادثة وقبل دخولهم الأرض المقدسة.

أو أنّه إشارة إلى مهمّة قتل بعضهم بعضا العجيبة التي كلّفوا بها كجزاء وعقوبة لمثل ذلك الذنب العظيم.

وهنا قد يطرح هذا السؤال ، وهو أنّ من المرتكزات الفكرية هو أنّ حقيقة التوبة تتحقق بالندامة ، فكيف لم يشمل العفو الإلهي بني إسرائيل مع أنّهم ندموا على فعلهم؟

والجواب هو أنّه ليس لدينا أي دليل على أنّ مجرّد الندامة لوحدها تنفع في جميع الأحوال والمواضع. صحيح أنّ الندامة هي أحد أركان التوبة ، ولكنّها ليست كل شيء.

إنّ معصية عبادة الأوثان السجود للعجل في ذلك النطاق الواسع وفي تلك المدّة القصيرة ، وبالنسبة إلى ذلك الشعب الذي شاهد بأم عينيه كل تلكم المعاجز والآيات ، لم تكن معصية يمكن التغاضي عنها بمثل هذه السهولة ، وكفاية يقول مرتكبها : «أستغفر الله» وينتهي كلّ شيء.

بل لا بدّ أن يرى هذا الشعب غضب الله ويذوق طعم المذلة في هذه الحياة ، ويساط الذين افتروا على الله الكذب بسوط البلاء حتى لا يفكروا مرّة أخرى في ارتكاب مثل هذا الذنب العظيم.

٢٣٣

وفي الآية اللاحقة يكمّل القرآن الكريم هذا الموضوع ويقول في صورة قانون عام :( وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) فالذين يتوبون من بعد السيئة وتتوفر كل شروط التوبة لديهم يغفر الله لهم ويعفو عنهم.

جواب على سؤالين :

١ ـ هل الآيتان الحاضرتان جملة معترضة وقعت وسط قصّة بني إسرائيل كتذكير لرسول الله والمسلمين؟ أو أنّه خطاب الله لموسىعليه‌السلام بعد قصّة عبادة بني إسرائيل للعجل؟

ذهب بعض المفسّرين إلى الاحتمال الأوّل ، وارتضى بعض آخر الاحتمال الثّاني.

والذين ارتضوا الاحتمال الأوّل استدلوا بجملة( إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) لأنّ الجملة في صورة خطاب إلى الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

والذين ارتضوا الاحتمال الثّاني استدلوا بجملة( سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ ) الذي جاء في صورة الفعل المضارع.

ولكن ظاهر الآيات يفيد أنّ هذه الجملة قسم من خطاب الله إلى موسىعليه‌السلام في تعقيب قصّة العجل ، وفعل المضارع (سينالهم) شاهد جيد على هذا الموضوع ، وليس هناك ما يمنع أن يكون «إنّ ربّك» خطاب موجه إلى موسىعليه‌السلام (١) .

٢ ـ لماذا جاء الإيمان في الآية الحاضرة بعد ذكر التوبة والحال أنّه ما لم يكن هناك إيمان لا تتحقق توبة؟

إنّ الجواب على هذا السؤال يتّضح من أن قواعد الإيمان تتزلزل عند

__________________

(١) فيكون التقدير في الآية الحقيقة هكذا : «قال الله لموسى أن الذين ...».

٢٣٤

ارتكاب المعصية ، ويصيبها نوع من الوهن ، إلى درجة أنّنا نقرأ في الأحاديث الإسلامية :

«لا يشرب الخمر وهو مؤمن ، ولا يزني وهو مؤمن» أي أن الإيمان يتضاءل ضوؤه ، ويفقد أثره.

ولكن عند ما تتحقق التوبة يعود الإيمان إلى ضوئه وأثره الأوّل ، وكأنّ الإيمان تجدّد مرّة أخرى.

ثمّ إنّ الآيات الحاضرة ركزت ـ فقط ـ على الذلة في الحياة الدنيا ، ويستفاد من ذلك أن توبة بني إسرائيل من هذه المعصية بعد الندامة من قضية الوثنية وتذوق العقوبة في هذه الدنيا ، قد قبلت بحيث أنّها أزالت عقوبتهم في الآخرة ، وإن بقيت أعباء الذنوب الأخرى التي لم يتوبوا منها في أعناقهم.

الآية الأخيرة من الآيات المبحوثة تقول : ولما سكن غضب موسىعليه‌السلام ، وحصل على النتيجة التي كان يتوخاها ، أخذ الألواح من الأرض ، تلك الألواح التي كانت تحتوي ـ من أوّلها إلى آخرها ـ على الرحمة والهداية ، رحمة وهداية للذين يشعرون بالمسؤولية ، والذين يخافون الله ، ويخضعون لأوامره وتعاليمه( وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ) .

* * *

٢٣٥

الآيتان

( وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦) )

التّفسير

مندوبو بني إسرائيل في الميقات :

في الآيتين الحاضرتين يعود القرآن الكريم مرّة أخرى إلى قصة ذهاب موسى إلى الميقات «الطور» في صحبة جماعة ، ويقص قسما آخر من تلك الحادثة.

٢٣٦

هذا وقد وقع بين المفسّرين كلام في أنّه هل كان لموسىعليه‌السلام ميقات واحد مع ربّه ، أو أكثر من ميقات واحد؟ وقد أقام كل واحد منهم شواهد لإثبات مقصوده من القرآن الكريم ، ولكنّه كما قلنا سابقا ـ في ذيل الآية (١٤٢) من هذه السورة ـ أنّه يظهر من مجموع القرائن في القرآن الكريم والرّوايات أن موسىعليه‌السلام كان له ميقات واحد ، وذلك برفقة جماعة من بني إسرائيل.

وفي هذا الميقات بالذات أنزل الله الألواح على موسى وكلمهعليه‌السلام ، وفي نفس هذا الميقات اقترح بنو إسرائيل على موسىعليه‌السلام أن يطلب من الله أن يريهم نفسه جهرة. في هذا الوقت نفسه نزلت الصاعقة أو حدث الزلزال وغشي على موسىعليه‌السلام وسقط بنو إسرائيل على الأرض مغشيا عليهم ، وقد ورد هذا الموضوع في حديث مرويّ عن علي بن إبراهيم في تفسيره.

إنّ كيفية وضع آيات هذه السورة وإن كان يحدث ـ في بادئ النظر ـ إشكالا ، وهو : كيف أشار الله تعالى أولا إلى ميقات موسىعليه‌السلام ثمّ ذكر قصّة عبادة العجل ، ثمّ عاد مرّة أخرى إلى مسألة الميقات؟

هل هذا النظم وهذا الطراز من الكلام يناسب الفصاحة والبلاغة التي يتسم بها القرآن الكريم؟

ولكن مع الالتفات إلى أنّ القرآن ليس كتاب تأريخ يسجل الحوادث حسب تسلسلها ، بل هو كتاب هداية وتربية وبناء إنساني ، وفي مثل هذا الكتاب توجب أهمية الموضوع أن يترك متابعة حادثة مؤقتا ، ويعمد إلى بحث ضروري آخر ، ثمّ يعود مرّة أخرى لنفس الحادثة الأولى.

بناء على هذا لا توجد أية ضرورة إلى أن نعتبر الآية المذكورة هنا إشارة إلى بقية قصة عبادة العجل ، ونقول : إنّ موسىعليه‌السلام ذهب مرّة أخرى بصحبة بني إسرائيل إلى جبل الطور بعد قضية عبادة العجل للاعتذار إلى الله والتوبة ، كما قال بعض المفسّرين ، لأنّ هذا الاحتمال بغض النظر عن جهات أخرى يبدو بعيدا في

٢٣٧

النظر من جهة أنّه آل إلى هلاك جماعة ذهبت إلى الميقات للاعتذار والتوبة ، فهل من الممكن أن يهلك الله تعالى جماعة أتوا إلى الميقات للاعتذار إلى الله بالنيابة عن قومهم؟!

وعلى كل حال ، فقد قال القرآن الكريم في الآيتين الحاضرتين أوّلا :( وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا ) .

ولكن بني إسرائيل حيث إنّهم سمعوا كلام الله طلبوا من موسىعليه‌السلام أن يطلب من الله تعالى أن يريهم نفسه ـ لبني إسرائيل ـ جهرة ، وفي هذا الوقت بالذات أخذهم زلزال عظيم وهلك الجماعة ، ووقع موسىعليه‌السلام على الأرض مغشيا عليه ، وعند ما أفاق قال : ربّاه لو شئت لأهلكتنا جميعا ، يعني بماذا أجيب قومي لو هلك هؤلاء( فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ ) .

ثمّ قال : ربّاه إنّ هذا المطلب التافة إنّما هو فعل جماعة من السفهاء ، فلا تؤاخذنا بفعلهم :( أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا ) ؟

ولقد اعتبر بعض المفسّرين ـ وجود كلمة «الرجفة» في هذه الآية ، وكلمة «الصاعقة» في الآية (٥٥) من سورة البقرة المتعلقة بطلب رؤية الله جهرة ـ دليلا على التفاوت بين الميقاتين. ولكن ـ كما قلنا سابقا ـ إن الصاعقة في كثير من الأوقات ترافق الرجفة الشديدة ، لأنّه على أثر التصادم بين الشحنات الكهربائية الموجبة في السحب والسالبة في الأرض تبرق شرارة عظيمة تهزّ الجبال والأراضي بشدّة ، وربّما تحطمها وتبعثرها كما جاء في قصّة البلاء الذي نزل على قوم صالح العصاة ، حيث يعبر فيه عنه بالصاعقة تارة (سورة فصلت الآية ١٧) وتارة بالرجفة (سورة الأعراف الآية ٧٨).

وقد استدل بعض المفسّرين بعبارة( بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا ) على أنّ العقوبة هنا كانت لأجل الفعل الذي صدر من بني إسرائيل (مثل عبادة العجل) لا لأجل الكلام الذي قالوه في مجال طلب رؤية الله جهرة.

٢٣٨

والجواب على هذا الكلام واضح أيضا ، لأنّ الكلام فعل من أفعال الإنسان أيضا ، وإطلاق «الفعل» على «الكلام» ليس أمرا جديدا وغير متعارف ، مثلا عند ما نقول : إنّ الله يثيبنا يوم القيامة على أعمالنا ، فإنّ من المسلّم أنّ لفظة أعمالنا تشمل كلماتنا أيضا.

ثمّ إنّ موسىعليه‌السلام قال في عقيب هذا التضرع والطلب من الله : ربّاه إنّي أعلم أن هذا كان اختبارك وامتحانك ، فأنت تضلّ من تشاء (وكان مستحقا لذلك) وتهدي من تشاء (وكان لائقا لذلك)( إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ ) واختبارك.

وهنا أيضا تكلّم المفسّرون في معنى «الفتنة» كثيرا وذهبوا مذاهب شتى ، ولكن بالنظر إلى أن لفظة «الفتنة» جاءت في القرآن الكريم بمعنى الاختبار والامتحان مرارا كما في الآية (٢٨) من سورة الأنفال :( أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) وكذا في الآية (٢) من سورة العنكبوت ، والآية (١٢٦) من سورة التوبة) لا يكون مفهوم الآية الحاضرة غامضا. لأنّه لا شك في أن بني إسرائيل واجهوا في هذا المشهد اختبارا شديدا ، فأراهم الله تعالى أن هذا الطلب (طلب رؤية الله) طلب تافة ومستحيل الوقوع.

وفي ختام الآية يقول موسىعليه‌السلام : رباه :( أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ ) .

من مجموع الآيات والرّوايات يستفاد أنّ الهالكين قد استعادوا حياتهم في المآل وعادوا برفقة موسىعليه‌السلام إلى بني إسرائيل ، وقصّوا عليهم كلّ ما سمعوه وشاهدوه ، وأخذوا في إرشاد الغافلين الجاهلين وهدايتهم.

وفي الآية اللاحقة يشير إلى طلب موسىعليه‌السلام من ربّه وتكميل مسألة التوبة التي ذكرت في الآيات السابقة ، يقول موسى :( وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ ) .

٢٣٩

و «الحسنة» تعني كل خير وجمال ، وعلى هذا الأساس تشمل جميع النعم ، وكذا التوفيق للعمل الصالح ، والمغفرة ، والجنّة ، وكل نوع من أنواع السعادة ، ولا دليل على حصرها بنوع خاص من هذه المواهب ، كما ذهب إليه بعض المفسّرين.

ثمّ يبيّن القرآن الكريم دليل هذا الطلب هكذا :( إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ ) أي عدنا إليك واعتذرنا عمّا فعله سفهاؤنا ، حيث طلبوا ما لا يليق بمقام عظمتك.

و «هدنا» مشتقة من مادة «هود» بمعنى العودة المقترنة بالرفق والهدوء ، وكما قال بعض اللغويين : تشمل العودة من الخير إلى الشر أيضا ، وكذا من الشر إلى الخير(١) ، ولكن جاءت في كثير من الموارد بمعنى التوبة والعودة إلى طاعة الله.

يقول الراغب في «المفردات» نقلا عن بعض : «يهود في الأصل من قولهم : هدنا إليك ، وكان اسم مدح ، ثمّ صار بعد نسخ شريعتهم لازما لهم ، وإن لم يكن فيه معنى المدح».

ولكن بما أن بعض اللغويين ذكر أن معنى هذه اللفظة هو الرجوع من الشر إلى الخير ، أو من الخير إلى الشر ، يمكن القول بأن هذه الكلمة ليست متضمنة للمدح بحال ، بل هي حاكية عن الاضطراب الروحي والقلق الأخلاقي الذي كانت تعاني منه تلك الجماعة.

وقال بعض آخر من المفسّرين أنّ علّة تسمية هؤلاء القوم بـ «اليهود» لا يرتبط مطلقا بهذه اللفظة ، بل لفظة يهود متخذة أصلا من مادة «يهوذا» الذي هو اسم لأحد أبناء يعقوبعليه‌السلام ثمّ تبدلت الذال إلى الدال ، وصارت يهودا ، فيطلق على المنسوب إليه يهودي(٢) .

ولقد أجاب الله ـ في النهاية ـ دعاء موسىعليه‌السلام وقبل توبته ، ولكن لا بصورة

__________________

(١) تفسير المنار ، المجلد التاسع ، الصفحة ٢٢١ ، وقد نقل هذا المعنى عن ابن الأعرابي.

(٢) تفسير أبو الفتوح ، المجلد الخامس ، الصفحة ٣٠٠ ، في تفسير الآية الحاضرة.

٢٤٠

مطلقة ، بل جاء ذلك في ختام الآية مشروطا بشروط ، إذ يقول :( قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ ) وكان مستحقا.

وقد قلنا مرارا ، إنّ «المشيئة» في هذه الموارد ، بل في جميع الموارد ، ليس بمعنى الإرادة المطلقة ومن غير قيد أو شرط ، بل هي إرادة مقترنة بالحكمة والصلاحيات واللياقات ، وبهذا يتّضح الجواب على كل إشكال في هذا الصعيد.

ثمّ يضيف تعالى قائلا( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) .

إنّ هذه الرحمة الواسعة يمكن أن تكون إشارة إلى النعم والمواهب الدنيوية التي تشمل الجميع ويستفيد منها الكل ، برا وفاجرا ، صالحا وطالحا.

كما يمكن أن تكون إشارة إلى أنواع الرحمة المادية والمعنوية ، لأنّ النعم المعنوية لا تختص بقوم دون قوم ، وإن كان لها شرائط تتوفر لدى الجميع.

وبعبارة أخرى : إن أبواب الرحمة الإلهية مفتوحة للجميع ، وإنّ الناس هم الذين عليهم أن يقرروا دخول هذه الأبواب فلو لم تتوفر شرائط الورود في بعض الناس فإنّ ذلك دليل على تقصيرهم هم ، لا محدودية الرحمة الإلهية (والتّفسير الثّاني أنسب مع مفهوم الآية والجملة التي ستأتي).

ولكن حتى لا يظن أحد أنّ قبول التوبة ، أو سعة الرحمة الإلهية وشموليتها ، غير مقيدة وغير مشروطة ، ومن دون حساب أو كتاب ، يضيف في ختام الآية : سرعان ما أكتب رحمتي للّذين تتوفر فيهم ثلاثة أمور : اتقوا ، وآتوا الزكاة ، وآمنوا بآياتي( فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ ) و «التقوى» إشارة إلى اجتناب كل معصية وإثم.

و «الزكاة» مرادة هنا بمعناها الواسع ، وحسب الحديث المعروف «لكل شيء زكاة» يشمل جميع الأعمال الصالحة والطيبة.

وجملة( وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ ) تشمل الإيمان بالمقدسات.

٢٤١

وبهذه الطريقة تتضمّن الآية برنامجا كاملا وجامعا.

وإذا فسرنا الزكاة بمعنى خاص (أي المعنى المتعارف والمصطلح للزكاة) كان ذكرها من بين سائر الوظائف الإلهية ، لأجل أهميتها في صعيد العدالة الاجتماعية.

وقد روي في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قام في الصلاة فقال أعرابي وهو في الصلاة : اللهم ارحمني ومحمّدا ولا ترحم معنا أحدا ، فلمّا سلّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال للأعرابي : لقد تحجرت واسعا ، أي جعلت شيئا واسعا ، أمرا ضيقا محدودا فالرحمة الإلهية لا تنحصر في أحد من الناس(1) .

* * *

__________________

(1) مجمع البيان في تفسير هذه الآية.

٢٤٢

الآية

( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) )

التّفسير

اتبعوا هذا النّبي :

هذه الآية في الحقيقة تكمل الآية السابقة التي تحدثت عن صفات الذين تشملهم الرحمة الإلهية الواسعة ، أي من تتوفر فيهم الصفات الثلاث : التقوى ، وأداء الزكاة ، والإيمان بآيات الله. وفي هذه الآية يذكر صفات أخرى لهم من باب التوضيح ، وهي اتّباع الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ الإيمان بالله غير قابل للفصل عن الإيمان بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتباع دينه ، وهكذا التقوى والزكاة لا يتمان ولا يكملان من دون اتباع القيادة.

٢٤٣

لهذا يقول تعالى :( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ ) .

ثمّ يبيّن ست صفات لهذا الرّسول مضافا إلى مقام الرسالة :

1 ـ أنّه نبيّ الله( النَّبِيَ ) .

والنّبي يطلق على كل من يبيّن رسالة الله إلى الناس ، ويوحى إليه وإن لم يكن مكلّفا بالدعوة والتبليغ ، ولكن الرّسول مضافا إلى كونه نبيّا ـ مكلّف بالدعوة إلى دين الله ، وتبليغه والاستقامة في هذا السبيل.

وعلى هذا يكون مقام الرسالة أعلى من مقام النّبوة ، وبناء على هذا يكون معنى النّبوة مأخوذا في مفهوم الرسالة أيضا ، ولكن حيث أنّ الآية بصدد توضيح وتفصيل خصوصيات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهذا ذكرهما على نحو الاستقلال ، وفي الحقيقة إنّ ما أخذ في مفهوم الرّسول مجملا ، ذكر في الآية بصورة مستقلة من باب توضيح وتحليل صفاته.

2 ـ أنّه نبيّ أمّي لم يتعلم القراءة والكتابة ، وقد نهض من بين جماهير الناس من أرض مكّة أم القرى قاعدة التوحيد الأصلية : (الأمي).

وحول مفهوم «الأميّ» المشتقة من مادة «أمّ» بمعنى الوالدة ، أو من «الأمّة» بمعنى الجماعة ، دار كلام كثير بين المفسّرين ، فبعض فسّره بأنّه لم يتعلم ولم يدرس ، يعني أنّه باق على الحالة التي ولد بها من أمّه أوّل يوم ، ولم يتتلمذ على أحد ، وبعض فسّره بمن نهض من بين جماهير الأمّة ، لا من بين طبقة الأعيان والمترفين والجبارين ، وفسّرته جماعة ثالثة بأنّه ظهر من مكّة «أمّ القرى» لأنّ هذه الكلمة مرادفة لـ «المكي».

والأحاديث الإسلامية الواردة في مصادر مختلفة هي أيضا تفسّر هذه الكلمة تارة بأنّه : لم يدرس وأخرى : بأنّه مكّي(1) .

__________________

(1) للاطلاع على هذه الرّوايات راجع تفسير نور الثقلين ، المجلد الثّاني ، الصفحة 78 و 79 ، وتفسير روح المعاني ، المجلد التّاسع ، الصفحة 70 ، في تفسير الآية الحاضرة.

٢٤٤

ولكن لا مانع أبدا من أن تكون كلمة «الأمّي» إشارة إلى كل المفاهيم والمعاني الثلاثة ، وقد قلنا مرارا : إنّه لا مانع من استعمال لفظة واحدة في عدة معان ، ولهذا الموضوع شواهد كثيرة في الأدب العربي. (وسنبحث بتفصيل حول أميّة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد الفراغ من تفسير هذه الآية).

3 ـ ثمّ إنّ هذا النّبي هو( الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ ) .

وفي صعيد وجود البشارات المختلفة في كتب العهدين (التوراة والإنجيل) حتى التوراة والإنجيل المحرفين الحاضرين أيضا ، سيكون لنا بحث تفصيلي بعد الفراغ من تفسير هذه الآية.

4 ـ ومن سمات هذا النّبي أنّ دعوته تتطابق لنداء العقل مطابقة كاملة ، فهو يدعو إلى كل الخيرات وينهي عن كل الشرور والممنوعات العقلية :( يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ) .

5 ـ كما أنّ محتوى دعوته منسجم مع الفطرة الإنسانية السليمة ، فهو يحل ما ترغب فيه الطباع السليمة ويحرم ما تنفر منه( وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ ) .

6 ـ أنّه ليس كأدعياء النّبوة والرسالة الذين يهدفون إلى توثيق الناس بأغلال الاستعمار والاستثمار والاستغلال ، بل هو على العكس من ذلك ، إنّه يرفع عنهم إصرهم والأغلال التي تكبّل عقولهم وأفكارهم وتثقل كاهلهم( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ ) (1) .

وحيث أنّ هذه الصفات الست بالإضافة إلى الصفة السابعة وهي مقام الرسالة تشكّل من حيث المجموع علامة واضحة ودليل قاطع على صدق دعواه ،

__________________

(1) «الإصر» يعني في الأصل عقد الشيء وحبسه ، ويطلق على كل عمل يمنع الإنسان من الفعالية والحركة ، ويطلق على العهد والميثاق أو العقوبات ، لفظ الإصر ، لأنّ هذه الأمور تحدّ من حركة الإنسان.

٢٤٥

فيضيف القرآن الكريم :( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ ، وَنَصَرُوهُ ، وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) .

و «عزروه» المشتقّة من مادة «تعزير» تعني الحماية والنصرة المقترنة بالاحترام والتبجيل ، ويقول البعض إن هذه اللفظة تعني ـ في الأصل ـ المنع ، فإذا كان المنع من العدوّ ، كان مفهومه النصرة ، وإذا كان المنع من الذنب كان مفهومه العقوبة والتنبيه ، ولهذا يقال للعقوبات الخفيفة «تعزير».

والجدير بالانتباه استعمال كلمة( أُنْزِلَ مَعَهُ ) بدل «أنزل إليه» في حين أننا نعلم أنّه لم يكن لشخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزول من السماء ، ولكن حيث أن النبوة والرسالة نزلا مع القرآن من جانب الله ، لهذا عبر بـ «أنزل معه».

* * *

بحوث

وهنا لا بد من الوقوف عند نقاط هامة هي :

1 ـ خمسة أدلة على النّبوة في آية واحدة

لم ترد في آية من آيات القرآن أدلة عديدة على حقانية دعوة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما جاء في هذه الآية فلو أننا أمعنا النظر بدقة في الصفات السبع التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية لنبيه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لوجدنا أنّها تحتوي على سبعة أدلة واضحة لإثبات نبوته :

الأوّل : أنّه «أمّي» لم يدرس ، ولكنّه مع ذلك أتى بكتاب لم يغيّر مصير أهل الحجاز فقط ، بل كان نقطة تحول هام في التأريخ البشري ، حتى أنّ الذين لم يقبلوا بنبوته لم يشكوا في عظمة كتابه وتعاليمه.

فهل يتفق والحسابات الطبيعية أن يقوم بهذا العمل شخص نشأ في بيئة

٢٤٦

جاهلية ولم يتتلمذ على أحد؟

الثّاني : أنّ دلائل نبوته قد وردت بتعابير مختلفة في الكتب السماوية السابقة على نحو توجد علما لدى المرء بحقانيته فإنّ البشارات التي جاءت في تلك الكتب لا تنطبق إلّا عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقط.

الثّالث : أن محتويات دعوته تنسجم انسجاما كاملا مع العقل ، لأنّه يدعو إلى المعروف ، والنهي عن المنكر والقبائح ، وهذا الموضوع يتّضح بجلاء بمطالعة تعاليمه.

الرّابع : أنّ محتويات دعوته منسجمة مع الطبع السليم والفطرة السويّة.

الخامس : لو لم يكن من جانب الله لكان عليه أن يقوم بما يضمن مصالحه الخاصّة ، وفي هذه الصورة كان يتعين عليه أن لا يرفع الأغلال والسلاسل عن الناس ، بل عليه أن يبقيهم في حالة الجهل والغفلة لاستغلالهم بنحو أفضل ، في حين أنّنا نجده يحرر الناس من الأغلال الثقيلة.

أغلال الجهل والغفلة عن طريق الدعوة المستمرة إلى العلم والمعرفة.

أغلال الوثنية والخلافة عن طريق الدعوة إلى التوحيد.

أغلال التمييز بكل أنواعه ، والحياة الطبقية بجميع أصنافها ، عن طريق الدعوة إلى الأخوة الدينية والإسلامية ، والمساواة أمام القانون.

وهكذا سائر الأغلال الأخرى.

إنّ كل واحد من هذه الدلائل لوحده دليل على حقانية دعوته ، كما أنّ مجموعها دليل أوضح وأقوى.

2 ـ كيف كان النّبي أميّا؟

هناك احتمالات ثلاثة معروفة حول مفهوم «الأمّي» كما قلنا سابقا :

أوّلها : أن معناه : الذي لم يدرس.

٢٤٧

الثّاني : أنّ معناه : المولود في أرض مكّة ، والناهض منها.

الثّالث : أنّ معناه الذي قام من بين صفوف الجماهير.

ولكن الرأي الأشهر هو التّفسير الأوّل ، وهو أكثر انسجاما مع موارد استعمال هذه اللفظة ، ويمكن أن تكون المعاني الثلاثة مرادة برمتها أيضا ، كما قلنا.

ثمّ إنّه لا نقاش بين المؤرخين بأنّ الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يدرس ، ولم يكتب شيئا ، وقد قال القرآن الكريم ـ أيضا ـ في الآية (48) من سورة العنكبوت حول وضع النّبي قبل البعثة :( وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ ) .

وأساسا كان عدد العارفين بالكتابة والقراءة في المحيط الحجازي قليلا جدّا ، حيث كان الجهل هو الحالة السائدة على الناس بحيث أن هؤلاء العارفين بالكتابة والقراءة كانوا معروفين بأعيانهم وأشخاصهم ، فقد كان عددهم في مكّة من الرجال لا يتجاوز (17) شخصا ، ومن النساء امرأة واحدة(1) .

من المسلّم أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو كان قد تعلّم القراءة والكتابة ـ في مثل هذه البيئة ـ لدى أستاذ لشاع ذلك وصار أمرا معروفا للجميع ، وعلى فرض أنّنا لم نقبل بنبوته ، ولكن كيف يمكنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينفي ـ في كتابه ـ بصراحة هذا الموضوع؟ ألا يعترض عليه الناس ويقولون : إن دراستك وتعلّمك للقراءة والكتابة أمر مسلّم معروف لنا ، فكيف تنفي ذلك؟

إنّ هذه قرينة واضحة على أميّة النّبي.

وعلى كل حال ، فإنّ وجود هذه الصفة في النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان تأكيدا على نبوته حتى ينتفي أي احتمال في ارتباطه إلّا بالله وبعالم ما وراء الطبيعة في صعيد دعوته.

__________________

(1) فتوح البلدان ، للبلاذري ، ط مصر ، الصفحة 459.

٢٤٨

هذا بالنسبة إلى فترة ما قبل النّبوة ، وأمّا بعد البعثة فلم ينقل أحد المورّخين أنّه تلقى القراءة أو الكتابة من أحد ، وعلى هذا بقيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أميّته حتى نهاية عمره.

ولكن من الخطأ الكبير أن تتصوّر أنّ عدم التعلّم عند أحد يعني عدم المعرفة بالكتابة والقراءة ، والذين فسّروا «الأمّية» بعدم المعرفة بالكتابة والقراءة كأنّهم لم يلتفتوا إلى هذا التفاوت.

ولا مانع أبدا من أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان عارفا بالقراءة والكتابة بتعليم الله ، ومن دون أن يتتلمذ على يد أحد من البشر ، لأنّ مثل هذه المعرفة هي بلا شك من الكمالات الإنسانية ، ومكملة لمقام النّبوة.

ويشهد بذلك ما ورد في الأحاديث المروية عن أهل البيتعليهم‌السلام (1) أن نص الرواية ولكنّه لأجل أن لا يبقى أي مجال لأدنى تشكيك في دعوته لم يكنصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستفيد من هذه المقدرة.

وقول البعض : إنّ القدرة على الكتابة والقراءة لا تعدّ كمالا ، فهما وسيلة للوصول إلى الكمالات العلميّة ، وليسا بحدّ ذاتها علما حقيقيا ولا كمالا واقعيا فإن جوابه كامن في نفسه ، لأنّ العلم بطريق الكمال كمال أيضا.

قد يقال : إنّه نفي في روايتين عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام بصراحة تفسير «الأمّي» بعدم القراءة والكتابة ، بل بالمنسوب إلى «أم القرى» (مكّة).

ونقول في الردّ : إنّ إحدى هاتين الروايتين «مرفوعة» حسب اصطلاح علم الحديث فلا قيمة لها من حيث السند ، والرواية الأخرى منقولة عن «جعفر بن محمّد الصوفي» وهو مجهول.

__________________

(1) تفسير البرهان المجلد الخامس ، الصفحة 373 ذيل آيات سورة الجمعة.

٢٤٩

وأمّا ما تصوّره البعض من أن الآية الثّانية من سورة الجمعة( يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ) وآيات أخرى دليل على أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتلو القرآن على الناس من شيء مكتوب ، فهو خطأ بالغ ، لأنّ التلاوة تطلق على التلاوة من مكتوب على شيء ، كما تطلق على القراءة حفظا ومن ظهر القلب ، واستعمال لفظة التلاوة في حق الذين يقرءون الأشعار أو الأدعية حفظا ومن على ظهر القلب كثير.

من مجموع ما قلناه نستنتج :

1 ـ أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يتلق القراءة والكتابة من أحد حتما ، وبهذا تكون إحدى صفاته أنّه لم يدرس عند أستاذ.

2 ـ أنّنا لا نملك أي دليل معتبر على أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ أو كتب شيئا قبل النبوة ، أو بعدها.

3 ـ إنّ هذا الموضوع لا يتنافى مع تعليم الله تعالى القراءة أو الكتابة لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

3 ـ البشارات بظهور النّبي في العهدين :

إنّ الشواهد التأريخية القطعية ، وكذا محتويات كتب اليهود والنصارى المقدسة (التوراة والإنجيل) تفيد أن هذه الكتب ليست هي الكتب السماوية التي نزلت على موسى وعيسىعليهما‌السلام وأن يد التحريف قد طالتهما ، بل إنّ بعضها اندرس واندثر ، وأن ما هو موجود الآن باسم الكتب المقدسة بينهم ما هي إلّا خليط من نسائج الأفكار والأدمغة البشرية وشيء من التعاليم التي نزلت على موسى وعيسىعليهما‌السلام ممّا بقي في أيدي تلامذتهم.

وعلى هذا الأساس لا غرور ولا عجب إذا لم نقف على عبارات صريحة حول البشارة بظهور النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٢٥٠

ولكن مع هذا فإنّه يلحظ في ثنايا هذه الكتب المحرفة عبارات تتضمّن إشارات معتدّ بها حول ظهور هذا النّبي العظيم ، وقد جمعها ثلّة من علمائنا في كتب ومؤلفات مستقلة ، أو مقالات تتحدث في هذا المجال. وحيث أن ذكر كل تلك البشائر وما حولها من حديث وكلام ممّا يطول به المقام ، فإنّنا نكتفي بذكر بعض منها على سبيل المثال لا الحصر.

1 ـ جاء في سفر التكوين الاصطلاح 17 العبارة 17 إلى 20 : «وقال إبراهيم لله ليت إسماعيل يعيش أمامك ، فقال الله وأمّا إسماعيل فقد سمعت لك فيه (أي دعاءك في حقه) ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جيدا. اثني عشر رئيسا يلد وأجعله أمّة كبيرة».

2 ـ «لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجيله حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب».

والجدير بالانتباه أن أحد معاني شيلون ـ حسب تصريح المستر هاكس في كتاب قاموس الكتاب المقدس ـ هو الإرسال ، وهو يوافق كلمة «رسول» أو «رسول الله».

3 ـ وفي إنجيل يوحنا الباب 15 العبارة رقم 16 جاء ما يلي : «وأمّا المعزي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلّمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم».

4 ـ وكذا جاء في إنجيل يوحنا ذاته الاصطلاح 16 العبارة رقم 7 : «لكنّي أقول لكم الحق : إنّه خير لكم أن أنطلق. لأنّه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزّي. ولكن إن ذهبت أرسله إليكم ، ومتى جاء ذاك هو يرشدكم إلى جميع الحق ، لأنّه لا يتكلم

٢٥١

من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية».(1) والنقطة الجديرة بالاهتمام أنّه جاءت الكلمة في إنجيل يوحنا باللغة الفارسية «المسلّي» ولكنّها في الإنجيل العربي طبعة لندن (مطبعة وليام وطس عام 1857) جاء مكانها : «فارقليطا».

* * *

__________________

(1) كل النصوص المنقولة هنا مقتبسة من كتاب العهد القديم والجديد طباعة وإصدار دار الكتاب المقدس في العالم العربي عام 1979.

٢٥٢

الآية

( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) )

التّفسير

دعوة النّبي العالميّة :

جاء في حديث عن الإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام قال : جاء نفر من اليهود إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : يا محمّد ، أنت الذي تزعم أنّك رسول الله ، وأنّك الذي يوحى إليك كما يوحى إلى موسى بن عمران؟ فسكت النّبي ساعة ثمّ قال : «نعم أنا سيد ولد آدم ولا فخر ، وأنا خاتم النّبيين ، وإمام المتقين ، ورسول ربّ العالمين.» قالوا : إلى من ، إلى العرب أم إلى العجم ، أم إلينا؟ فأنزل الله هذه الآية التي صرّحت بأنّ رسالة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسالة عالمية(1) .

ولكن مع ذلك لا يمكن إنكار ارتباط هذه الآية بالآية السابقة المتعلقة

__________________

(1) عن المجالس حسب نقل تفسير الصافي ، ج 1 ، في ذيل هذه الآية.

٢٥٣

بصفات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والدعوة إلى اتباع دينه وشريعته.

وفي البداية يأمر الله تعالى رسول الله قائلا :( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ) .

إنّ هذه الآية مثل آيات كثيرة أخرى من القرآن الكريم دليل واضح على عالمية دعوة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي الآية (28) من سورة «سبأ» أيضا نقرأ :( وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ ) .

وفي الآية (19) من سورة الأنعام أيضا نقرأ :( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) أي بلغه القرآن.

وفي مطلع سورة الفرقان نقرأ :( تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً ) فهو أرسل إلى الناس كافة ليحذرهم من المسؤوليات.

هذه نماذج من الآيات التي تشهد بعالمية دعوة الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسوف نبحث حول هذه المسألة أيضا في ذيل الآية (7) من سورة الشورى ، وقد مر لنا في ذيل الآية (92) من سورة الأنعام ـ أيضا ـ بحث مبسوط نوعا ما في هذا الصعيد.

ثمّ إنّه وصف الإله الذي يدعو إليه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بثلاث صفات :

1 ـ( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) فله الحاكمية المطلقة.

2 ـ( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) فلا معبود يليق للعبادة سواه.

3 ـ( يُحيِي وَيُمِيتُ ) بيده نظام الحياة والموت.

وبهذه الطريقة تنفي هذه الآية ألوهية غير خالق السماوات والأرض ، وألوهيّة كل صنم ، وكذا تنفي التثليث المسيحي ، كما وتؤكّد على رسالة النّبي العالمية وقدرة الله تعالى على أمر المعاد.

وفي الختام تدعو جميع أهل العالم إلى الإيمان بالله وبرسوله الذي لم يتعلّم

٢٥٤

القراءة والكتابة والقائم من بين الناس( فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِ ) .

النّبي الذي لا يكتفي بدعوة الآخرين إلى هذه الحقائق فحسب ، بل يؤمن هو في الدرجة الأولى ـ بما يقول ، يعني الإيمان بالله وكلماته( الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ ) .

إنّه لا يؤمن فقط بالآيات التي نزلت عليه ، بل يؤمن بجميع الكتب الحقيقة للأنبياء السابقين.

إنّ إيمانه بدينه والذي يتجلى من خلال أعماله وتصرّفاته دليل واضح على حقانيته ، لأن عمل الآمر بشيء يعكس مدى إيمانه بما يأمر به ويدعو إليه. وإيمانه بقوله أحد الأدلة على صدقه. إنّ تأريخ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برمّته يشهد بهذه الحقيقة وهي أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أكثر من غيره التزاما بالتعاليم التي جاء بها.

أجل ، لا بدّ لكم من اتّباع مثل هذا النّبي حتى تسطع أنوار الهداية على قلوبكم ، لتهتدوا إلى طريق السعادة( وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) .

وهذا إشارة إلى أنّه لا يكفي مجرّد الإيمان ، وإنما يفيد الإيمان إذا اقترن بالاتباع العمليّ.

والجدير بالالتفات إلى أن الآية الحاضرة نزلت في مكّة يوم كان المسلمون يشكلون أقلية صغيرة جدّا بحيث إنّه قلّما كان هناك من يحتمل أن يسيطر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على مكّة فضلا عن جزيرة العرب ، أو قسم كبير من العالم.

وعلى هذا الأساس ، فإنّ الذين يتصورون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ادعى في البداية تبليغ الرسالة لأهل مكّة فقط ، وعند ما انتشر دينه وعلا أمره فكر في السيطرة على الحجاز ، ثمّ فكر في البلاد الأخرى ، وراسل ملوك العالم وأمراءه وقادته ، وأعلن عن رسالته العالمية. تجيب الآية الحاضرة التي نزلت في مكّة على كل تصوراتهم هذه ، فهي تصرح في غير إبهام ولا غموض بأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعلن عن دعوته العالمية منذ البداية.

* * *

٢٥٥

الآيتان

( وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) )

التّفسير

جانب من نعم الله على بني إسرائيل :

في الآيات الحاضرة إشارة إلى حقيقة رأينا نظيرها في القرآن الكريم ، وهذه الحقيقة هي تحري القرآن للحق ، واحترامه لمكانة الأقليات الدينية الصالحة ، يعني أنّه لم يكن ليصف جميع بني إسرائيل بأسرهم بالفساد والإفساد ، وبأنّ هذا العزق القومي برمته ضالّ متمرد من دون استثناء ، بل اعترف بأن منهم أقلية صالحة غير موافقة على أعمال الأكثرية ، وقد أولى القرآن الكريم اهتماما خاصا بهؤلاء فيقول :( وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) .

٢٥٦

إنّ هذه الآية قد تشير إلى فريق صغير لم يسلّموا للسامريّ ودعوته ، وكانوا يدافعون عن دين موسى دائما وأبدا ، أو إلى الفرق والطوائف الصالحة الأخرى التي جاءت بعد موسىعليه‌السلام .

ولكن هذا المعنى يبدو غير منسجم مع ظاهر الآية ، لأن «يهدون» و «يعدلون» فعل مضارع ، وهو على الأقل يحكي عن زمان الحال ، يعني عصر نزول القرآن ، ويثبت وجود مثل هذا الفريق في ذلك الزمان ، إلّا أن نقدّر فعل «كان» فتكون الآية إشارة إلى الزمان الماضي ، ونعلم أن التقدير من دون قرينة خلاف الظاهر.

وكذلك يمكن أن يكون ناظرا إلى الأقلية اليهودية الذين كانوا يعيشون في عصر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذين اعتنقوا الإسلام تدريجا وبعد مطالعة دعوة النّبي ومحتوى رسالته ، وانضموا إلى صفوف المسلمين الصادقين. وهذا التّفسير ينسجم أكثر مع ظاهر الفعلين المضارعين المستعملين فيها.

وما جاء في بعض روايات الشيعة والسنة من أنّ هذه الآية إشارة إلى فريق صغير من بني إسرائيل يعيشون فيما وراء الصين ، عيشة عدل وتقوى وتوحيد وعبودية الله تعالى فغير مقبول ، لأنّه مضافا إلى عدم موافقته لما نعلمه من جغرافيا العالم اليوم ، ومضافا إلى أن التواريخ الحاضرة الموجودة لا تؤيد هذا الموضوع ، فإنّ الأحاديث المذكورة غير معتبرة من حيث السند ، ولا يمكن أن يعتمد عليها كأحاديث صحيحة حسب قواعد علم الرجال.

وفي الآية اللاحقة يشير القرآن الكريم إلى عدّة أقسام من نعم الله على بني إسرائيل.

فيقول أوّلا :( وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً ) وهذا التقطيع والتقسيم إنّما هو لأجل أن يسودهم نظام عادل ، بعيد عن المصادمات الخشنة.

وواضح أنّه عند ما يكون في شعب من الشعوب تقسيمات إدارية صحيحة

٢٥٧

ومنظمة ، ويخضع كل قسم من تلك الأقسام لقيادة قائد قدير ، فإنّ إدارتهم ورعاية العدالة بينهم تكون أسهل ، ولنفس هذا السبب عمدت جميع الدول إلى مثل هذا العمل وأخذت بهذه القاعدة.

و «أسباط» جمع سبط (بفتح السين وبكسرها) تعني في الأصل الانبساط في سهولة ، ثمّ يطلق السبط والأسباط على الأولاد وبخاصّة الأحفاد لأنّهم امتداد العائلة.

والمراد من الأسباط ـ هنا ـ هو قبائل بني إسرائيل وفروعها ، الذين كان كل واحد منها منشعبا ومنحدرا من أحد أولاد يعقوبعليه‌السلام .

والنّعمة الأخرى هي : أنّه عند ما كان بنو إسرائيل متوجهين إلى بيت المقدس وأصابهم العطش الشديد الخطير في الصحراء ، وطلبوا من موسىعليه‌السلام الماء ، أوحي إليه أن اضرب بعصاك الحجر ففعل فنبع الماء فشربوا ونجوا من الهلاك( وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً ) .

وقد كانت الينابيع هذه مقسمة بين أسباط بني إسرائيل بحيث عرف كل سبط منهم نبعه الذي يشرب منه( قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ ) .

ويستفاد من هذه الجملة أنّ هذه الينابيع الاثنى عشر التي نبعت من تلك الصخرة العظيمة كانت معلّمة بعلامات ومتميز بعضها عن بعض بفوارق ، بحيث كان يعرف كل فريق من فرق بني إسرائيل نبعه المختص به والمقرّر له ، لا يقع بينهم أي خلاف ويسود النظم والانضباط في جماعتهم ، ويتمّ الشرب بصورة أسهل وأفضل.

والنّعمة الثالثة هي : أن الله تعالى أرسل لهم ـ في تلك الصحارى الملتهبة حيث لا سقف ولا ضلال ـ سحبا ظلّلتهم( وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ ) .

والنّعمة الرّابعة إنزال المنّ والسلوى عليهم كغذائين لذيذين ومقويين

٢٥٨

( وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ) .

ثمّ إنّ المفسّرين أعطوا تفسيرات متنوعة لهذين الغذاءين «المنّ» و «السلوى» اللذين أنزلهما الله على بني إسرائيل في تلك الصحراء القاحلة (وقد ذكرنا هذه التفاسير عند دراسة الآية 57 من سورة البقرة) وقلنا بأنّه لا يبعد أنّ «المن» كان نوعا من العسل الطبيعي الذي كان في بطون الجبال المجاورة ، أو عصارات وإفرازات نباتية كانت تظهر على أشجار كانت نابتة هنا وهناك في تلك الصحراء ، و «السلوى» نوع من الطير الحلال اللحم شبيه بالحمام.

ثمّ يقول الله تعالى : وقلنا( كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ ) .

ولكنّهم أكلوا وكفروا النعمة ولم يشكروها وبذلك ظلموا في الحقيقة أنفسهم( وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) .

ويجب الانتباه إلى أن مضمون هذه الآية جاء في الآيات (57) و (60) من سورة البقرة مع فارق بسيط ، غاية ما في الأمر أنّه عبر عن نبوع الماء من الصخر هنا بـ «انبجست» وهناك بـ «انفجرت» ، وحسب اعتقاد جماعة من المفسّرين أنّ التفاوت بين هاتين العبارتين هو أن «انفجرت» تعني «خروج الماء بدفع ، وكثرة» و «انبجست» تعني «خروج الماء بقلّة» ولعل هذا التفاوت لأجل الإشارة إلى أنّ عيون الماء المذكورة لم تنبع من الصخرة العظيمة دفعة حتى يصير ذلك سببا لاستيحاشهم وخوفهم وقلقهم ، ولا تكون لهم قدرة على تنظيم المياه المندفقة وحصرها ، بل خرجت ابتداء بهدوء وقلة ، ثمّ توسعت المجاري وكثرت المياه النابعة.

وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ هاتين الكلمتين ترجعان إلى مفهوم واحد.

* * *

٢٥٩

الآيتان

( وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162) )

التّفسير

في تعقيب الآيات السابقة تشير هاتان الآيتان إلى قسم آخر من المواهب الإلهية لبني إسرائيل وطغيانهم تجاه تلك النعم ، وكفرانهم بها.

يقول تعالى : (و) اذكروا( إِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ ) .

وقلنا لهم اطلبوا من الله حطّ الذنوب عنكم وعفوه عن خطاياكم ، وادخلوا من باب بيت المقدس بخضوع( وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً ) .

فإذا قمتم بهذه الأمور غفرنا لكم خطاياكم ، وأعطينا للمحسنين ثوابا أكبر و( نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ) .

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606