الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245153 / تحميل: 6211
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

مطلقة ، بل جاء ذلك في ختام الآية مشروطا بشروط ، إذ يقول :( قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ ) وكان مستحقا.

وقد قلنا مرارا ، إنّ «المشيئة» في هذه الموارد ، بل في جميع الموارد ، ليس بمعنى الإرادة المطلقة ومن غير قيد أو شرط ، بل هي إرادة مقترنة بالحكمة والصلاحيات واللياقات ، وبهذا يتّضح الجواب على كل إشكال في هذا الصعيد.

ثمّ يضيف تعالى قائلا( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) .

إنّ هذه الرحمة الواسعة يمكن أن تكون إشارة إلى النعم والمواهب الدنيوية التي تشمل الجميع ويستفيد منها الكل ، برا وفاجرا ، صالحا وطالحا.

كما يمكن أن تكون إشارة إلى أنواع الرحمة المادية والمعنوية ، لأنّ النعم المعنوية لا تختص بقوم دون قوم ، وإن كان لها شرائط تتوفر لدى الجميع.

وبعبارة أخرى : إن أبواب الرحمة الإلهية مفتوحة للجميع ، وإنّ الناس هم الذين عليهم أن يقرروا دخول هذه الأبواب فلو لم تتوفر شرائط الورود في بعض الناس فإنّ ذلك دليل على تقصيرهم هم ، لا محدودية الرحمة الإلهية (والتّفسير الثّاني أنسب مع مفهوم الآية والجملة التي ستأتي).

ولكن حتى لا يظن أحد أنّ قبول التوبة ، أو سعة الرحمة الإلهية وشموليتها ، غير مقيدة وغير مشروطة ، ومن دون حساب أو كتاب ، يضيف في ختام الآية : سرعان ما أكتب رحمتي للّذين تتوفر فيهم ثلاثة أمور : اتقوا ، وآتوا الزكاة ، وآمنوا بآياتي( فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ ) و «التقوى» إشارة إلى اجتناب كل معصية وإثم.

و «الزكاة» مرادة هنا بمعناها الواسع ، وحسب الحديث المعروف «لكل شيء زكاة» يشمل جميع الأعمال الصالحة والطيبة.

وجملة( وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ ) تشمل الإيمان بالمقدسات.

٢٤١

وبهذه الطريقة تتضمّن الآية برنامجا كاملا وجامعا.

وإذا فسرنا الزكاة بمعنى خاص (أي المعنى المتعارف والمصطلح للزكاة) كان ذكرها من بين سائر الوظائف الإلهية ، لأجل أهميتها في صعيد العدالة الاجتماعية.

وقد روي في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قام في الصلاة فقال أعرابي وهو في الصلاة : اللهم ارحمني ومحمّدا ولا ترحم معنا أحدا ، فلمّا سلّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال للأعرابي : لقد تحجرت واسعا ، أي جعلت شيئا واسعا ، أمرا ضيقا محدودا فالرحمة الإلهية لا تنحصر في أحد من الناس(١) .

* * *

__________________

(١) مجمع البيان في تفسير هذه الآية.

٢٤٢

الآية

( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧) )

التّفسير

اتبعوا هذا النّبي :

هذه الآية في الحقيقة تكمل الآية السابقة التي تحدثت عن صفات الذين تشملهم الرحمة الإلهية الواسعة ، أي من تتوفر فيهم الصفات الثلاث : التقوى ، وأداء الزكاة ، والإيمان بآيات الله. وفي هذه الآية يذكر صفات أخرى لهم من باب التوضيح ، وهي اتّباع الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ الإيمان بالله غير قابل للفصل عن الإيمان بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتباع دينه ، وهكذا التقوى والزكاة لا يتمان ولا يكملان من دون اتباع القيادة.

٢٤٣

لهذا يقول تعالى :( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ ) .

ثمّ يبيّن ست صفات لهذا الرّسول مضافا إلى مقام الرسالة :

١ ـ أنّه نبيّ الله( النَّبِيَ ) .

والنّبي يطلق على كل من يبيّن رسالة الله إلى الناس ، ويوحى إليه وإن لم يكن مكلّفا بالدعوة والتبليغ ، ولكن الرّسول مضافا إلى كونه نبيّا ـ مكلّف بالدعوة إلى دين الله ، وتبليغه والاستقامة في هذا السبيل.

وعلى هذا يكون مقام الرسالة أعلى من مقام النّبوة ، وبناء على هذا يكون معنى النّبوة مأخوذا في مفهوم الرسالة أيضا ، ولكن حيث أنّ الآية بصدد توضيح وتفصيل خصوصيات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهذا ذكرهما على نحو الاستقلال ، وفي الحقيقة إنّ ما أخذ في مفهوم الرّسول مجملا ، ذكر في الآية بصورة مستقلة من باب توضيح وتحليل صفاته.

٢ ـ أنّه نبيّ أمّي لم يتعلم القراءة والكتابة ، وقد نهض من بين جماهير الناس من أرض مكّة أم القرى قاعدة التوحيد الأصلية : (الأمي).

وحول مفهوم «الأميّ» المشتقة من مادة «أمّ» بمعنى الوالدة ، أو من «الأمّة» بمعنى الجماعة ، دار كلام كثير بين المفسّرين ، فبعض فسّره بأنّه لم يتعلم ولم يدرس ، يعني أنّه باق على الحالة التي ولد بها من أمّه أوّل يوم ، ولم يتتلمذ على أحد ، وبعض فسّره بمن نهض من بين جماهير الأمّة ، لا من بين طبقة الأعيان والمترفين والجبارين ، وفسّرته جماعة ثالثة بأنّه ظهر من مكّة «أمّ القرى» لأنّ هذه الكلمة مرادفة لـ «المكي».

والأحاديث الإسلامية الواردة في مصادر مختلفة هي أيضا تفسّر هذه الكلمة تارة بأنّه : لم يدرس وأخرى : بأنّه مكّي(١) .

__________________

(١) للاطلاع على هذه الرّوايات راجع تفسير نور الثقلين ، المجلد الثّاني ، الصفحة ٧٨ و ٧٩ ، وتفسير روح المعاني ، المجلد التّاسع ، الصفحة ٧٠ ، في تفسير الآية الحاضرة.

٢٤٤

ولكن لا مانع أبدا من أن تكون كلمة «الأمّي» إشارة إلى كل المفاهيم والمعاني الثلاثة ، وقد قلنا مرارا : إنّه لا مانع من استعمال لفظة واحدة في عدة معان ، ولهذا الموضوع شواهد كثيرة في الأدب العربي. (وسنبحث بتفصيل حول أميّة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد الفراغ من تفسير هذه الآية).

٣ ـ ثمّ إنّ هذا النّبي هو( الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ ) .

وفي صعيد وجود البشارات المختلفة في كتب العهدين (التوراة والإنجيل) حتى التوراة والإنجيل المحرفين الحاضرين أيضا ، سيكون لنا بحث تفصيلي بعد الفراغ من تفسير هذه الآية.

٤ ـ ومن سمات هذا النّبي أنّ دعوته تتطابق لنداء العقل مطابقة كاملة ، فهو يدعو إلى كل الخيرات وينهي عن كل الشرور والممنوعات العقلية :( يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ) .

٥ ـ كما أنّ محتوى دعوته منسجم مع الفطرة الإنسانية السليمة ، فهو يحل ما ترغب فيه الطباع السليمة ويحرم ما تنفر منه( وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ ) .

٦ ـ أنّه ليس كأدعياء النّبوة والرسالة الذين يهدفون إلى توثيق الناس بأغلال الاستعمار والاستثمار والاستغلال ، بل هو على العكس من ذلك ، إنّه يرفع عنهم إصرهم والأغلال التي تكبّل عقولهم وأفكارهم وتثقل كاهلهم( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ ) (١) .

وحيث أنّ هذه الصفات الست بالإضافة إلى الصفة السابعة وهي مقام الرسالة تشكّل من حيث المجموع علامة واضحة ودليل قاطع على صدق دعواه ،

__________________

(١) «الإصر» يعني في الأصل عقد الشيء وحبسه ، ويطلق على كل عمل يمنع الإنسان من الفعالية والحركة ، ويطلق على العهد والميثاق أو العقوبات ، لفظ الإصر ، لأنّ هذه الأمور تحدّ من حركة الإنسان.

٢٤٥

فيضيف القرآن الكريم :( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ ، وَنَصَرُوهُ ، وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) .

و «عزروه» المشتقّة من مادة «تعزير» تعني الحماية والنصرة المقترنة بالاحترام والتبجيل ، ويقول البعض إن هذه اللفظة تعني ـ في الأصل ـ المنع ، فإذا كان المنع من العدوّ ، كان مفهومه النصرة ، وإذا كان المنع من الذنب كان مفهومه العقوبة والتنبيه ، ولهذا يقال للعقوبات الخفيفة «تعزير».

والجدير بالانتباه استعمال كلمة( أُنْزِلَ مَعَهُ ) بدل «أنزل إليه» في حين أننا نعلم أنّه لم يكن لشخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزول من السماء ، ولكن حيث أن النبوة والرسالة نزلا مع القرآن من جانب الله ، لهذا عبر بـ «أنزل معه».

* * *

بحوث

وهنا لا بد من الوقوف عند نقاط هامة هي :

١ ـ خمسة أدلة على النّبوة في آية واحدة

لم ترد في آية من آيات القرآن أدلة عديدة على حقانية دعوة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما جاء في هذه الآية فلو أننا أمعنا النظر بدقة في الصفات السبع التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية لنبيه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لوجدنا أنّها تحتوي على سبعة أدلة واضحة لإثبات نبوته :

الأوّل : أنّه «أمّي» لم يدرس ، ولكنّه مع ذلك أتى بكتاب لم يغيّر مصير أهل الحجاز فقط ، بل كان نقطة تحول هام في التأريخ البشري ، حتى أنّ الذين لم يقبلوا بنبوته لم يشكوا في عظمة كتابه وتعاليمه.

فهل يتفق والحسابات الطبيعية أن يقوم بهذا العمل شخص نشأ في بيئة

٢٤٦

جاهلية ولم يتتلمذ على أحد؟

الثّاني : أنّ دلائل نبوته قد وردت بتعابير مختلفة في الكتب السماوية السابقة على نحو توجد علما لدى المرء بحقانيته فإنّ البشارات التي جاءت في تلك الكتب لا تنطبق إلّا عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقط.

الثّالث : أن محتويات دعوته تنسجم انسجاما كاملا مع العقل ، لأنّه يدعو إلى المعروف ، والنهي عن المنكر والقبائح ، وهذا الموضوع يتّضح بجلاء بمطالعة تعاليمه.

الرّابع : أنّ محتويات دعوته منسجمة مع الطبع السليم والفطرة السويّة.

الخامس : لو لم يكن من جانب الله لكان عليه أن يقوم بما يضمن مصالحه الخاصّة ، وفي هذه الصورة كان يتعين عليه أن لا يرفع الأغلال والسلاسل عن الناس ، بل عليه أن يبقيهم في حالة الجهل والغفلة لاستغلالهم بنحو أفضل ، في حين أنّنا نجده يحرر الناس من الأغلال الثقيلة.

أغلال الجهل والغفلة عن طريق الدعوة المستمرة إلى العلم والمعرفة.

أغلال الوثنية والخلافة عن طريق الدعوة إلى التوحيد.

أغلال التمييز بكل أنواعه ، والحياة الطبقية بجميع أصنافها ، عن طريق الدعوة إلى الأخوة الدينية والإسلامية ، والمساواة أمام القانون.

وهكذا سائر الأغلال الأخرى.

إنّ كل واحد من هذه الدلائل لوحده دليل على حقانية دعوته ، كما أنّ مجموعها دليل أوضح وأقوى.

٢ ـ كيف كان النّبي أميّا؟

هناك احتمالات ثلاثة معروفة حول مفهوم «الأمّي» كما قلنا سابقا :

أوّلها : أن معناه : الذي لم يدرس.

٢٤٧

الثّاني : أنّ معناه : المولود في أرض مكّة ، والناهض منها.

الثّالث : أنّ معناه الذي قام من بين صفوف الجماهير.

ولكن الرأي الأشهر هو التّفسير الأوّل ، وهو أكثر انسجاما مع موارد استعمال هذه اللفظة ، ويمكن أن تكون المعاني الثلاثة مرادة برمتها أيضا ، كما قلنا.

ثمّ إنّه لا نقاش بين المؤرخين بأنّ الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يدرس ، ولم يكتب شيئا ، وقد قال القرآن الكريم ـ أيضا ـ في الآية (٤٨) من سورة العنكبوت حول وضع النّبي قبل البعثة :( وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ ) .

وأساسا كان عدد العارفين بالكتابة والقراءة في المحيط الحجازي قليلا جدّا ، حيث كان الجهل هو الحالة السائدة على الناس بحيث أن هؤلاء العارفين بالكتابة والقراءة كانوا معروفين بأعيانهم وأشخاصهم ، فقد كان عددهم في مكّة من الرجال لا يتجاوز (١٧) شخصا ، ومن النساء امرأة واحدة(١) .

من المسلّم أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو كان قد تعلّم القراءة والكتابة ـ في مثل هذه البيئة ـ لدى أستاذ لشاع ذلك وصار أمرا معروفا للجميع ، وعلى فرض أنّنا لم نقبل بنبوته ، ولكن كيف يمكنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينفي ـ في كتابه ـ بصراحة هذا الموضوع؟ ألا يعترض عليه الناس ويقولون : إن دراستك وتعلّمك للقراءة والكتابة أمر مسلّم معروف لنا ، فكيف تنفي ذلك؟

إنّ هذه قرينة واضحة على أميّة النّبي.

وعلى كل حال ، فإنّ وجود هذه الصفة في النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان تأكيدا على نبوته حتى ينتفي أي احتمال في ارتباطه إلّا بالله وبعالم ما وراء الطبيعة في صعيد دعوته.

__________________

(١) فتوح البلدان ، للبلاذري ، ط مصر ، الصفحة ٤٥٩.

٢٤٨

هذا بالنسبة إلى فترة ما قبل النّبوة ، وأمّا بعد البعثة فلم ينقل أحد المورّخين أنّه تلقى القراءة أو الكتابة من أحد ، وعلى هذا بقيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أميّته حتى نهاية عمره.

ولكن من الخطأ الكبير أن تتصوّر أنّ عدم التعلّم عند أحد يعني عدم المعرفة بالكتابة والقراءة ، والذين فسّروا «الأمّية» بعدم المعرفة بالكتابة والقراءة كأنّهم لم يلتفتوا إلى هذا التفاوت.

ولا مانع أبدا من أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان عارفا بالقراءة والكتابة بتعليم الله ، ومن دون أن يتتلمذ على يد أحد من البشر ، لأنّ مثل هذه المعرفة هي بلا شك من الكمالات الإنسانية ، ومكملة لمقام النّبوة.

ويشهد بذلك ما ورد في الأحاديث المروية عن أهل البيتعليهم‌السلام (١) أن نص الرواية ولكنّه لأجل أن لا يبقى أي مجال لأدنى تشكيك في دعوته لم يكنصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستفيد من هذه المقدرة.

وقول البعض : إنّ القدرة على الكتابة والقراءة لا تعدّ كمالا ، فهما وسيلة للوصول إلى الكمالات العلميّة ، وليسا بحدّ ذاتها علما حقيقيا ولا كمالا واقعيا فإن جوابه كامن في نفسه ، لأنّ العلم بطريق الكمال كمال أيضا.

قد يقال : إنّه نفي في روايتين عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام بصراحة تفسير «الأمّي» بعدم القراءة والكتابة ، بل بالمنسوب إلى «أم القرى» (مكّة).

ونقول في الردّ : إنّ إحدى هاتين الروايتين «مرفوعة» حسب اصطلاح علم الحديث فلا قيمة لها من حيث السند ، والرواية الأخرى منقولة عن «جعفر بن محمّد الصوفي» وهو مجهول.

__________________

(١) تفسير البرهان المجلد الخامس ، الصفحة ٣٧٣ ذيل آيات سورة الجمعة.

٢٤٩

وأمّا ما تصوّره البعض من أن الآية الثّانية من سورة الجمعة( يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ) وآيات أخرى دليل على أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتلو القرآن على الناس من شيء مكتوب ، فهو خطأ بالغ ، لأنّ التلاوة تطلق على التلاوة من مكتوب على شيء ، كما تطلق على القراءة حفظا ومن ظهر القلب ، واستعمال لفظة التلاوة في حق الذين يقرءون الأشعار أو الأدعية حفظا ومن على ظهر القلب كثير.

من مجموع ما قلناه نستنتج :

١ ـ أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يتلق القراءة والكتابة من أحد حتما ، وبهذا تكون إحدى صفاته أنّه لم يدرس عند أستاذ.

٢ ـ أنّنا لا نملك أي دليل معتبر على أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ أو كتب شيئا قبل النبوة ، أو بعدها.

٣ ـ إنّ هذا الموضوع لا يتنافى مع تعليم الله تعالى القراءة أو الكتابة لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٣ ـ البشارات بظهور النّبي في العهدين :

إنّ الشواهد التأريخية القطعية ، وكذا محتويات كتب اليهود والنصارى المقدسة (التوراة والإنجيل) تفيد أن هذه الكتب ليست هي الكتب السماوية التي نزلت على موسى وعيسىعليهما‌السلام وأن يد التحريف قد طالتهما ، بل إنّ بعضها اندرس واندثر ، وأن ما هو موجود الآن باسم الكتب المقدسة بينهم ما هي إلّا خليط من نسائج الأفكار والأدمغة البشرية وشيء من التعاليم التي نزلت على موسى وعيسىعليهما‌السلام ممّا بقي في أيدي تلامذتهم.

وعلى هذا الأساس لا غرور ولا عجب إذا لم نقف على عبارات صريحة حول البشارة بظهور النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٢٥٠

ولكن مع هذا فإنّه يلحظ في ثنايا هذه الكتب المحرفة عبارات تتضمّن إشارات معتدّ بها حول ظهور هذا النّبي العظيم ، وقد جمعها ثلّة من علمائنا في كتب ومؤلفات مستقلة ، أو مقالات تتحدث في هذا المجال. وحيث أن ذكر كل تلك البشائر وما حولها من حديث وكلام ممّا يطول به المقام ، فإنّنا نكتفي بذكر بعض منها على سبيل المثال لا الحصر.

١ ـ جاء في سفر التكوين الاصطلاح ١٧ العبارة ١٧ إلى ٢٠ : «وقال إبراهيم لله ليت إسماعيل يعيش أمامك ، فقال الله وأمّا إسماعيل فقد سمعت لك فيه (أي دعاءك في حقه) ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جيدا. اثني عشر رئيسا يلد وأجعله أمّة كبيرة».

٢ ـ «لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجيله حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب».

والجدير بالانتباه أن أحد معاني شيلون ـ حسب تصريح المستر هاكس في كتاب قاموس الكتاب المقدس ـ هو الإرسال ، وهو يوافق كلمة «رسول» أو «رسول الله».

٣ ـ وفي إنجيل يوحنا الباب ١٥ العبارة رقم ١٦ جاء ما يلي : «وأمّا المعزي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلّمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم».

٤ ـ وكذا جاء في إنجيل يوحنا ذاته الاصطلاح ١٦ العبارة رقم ٧ : «لكنّي أقول لكم الحق : إنّه خير لكم أن أنطلق. لأنّه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزّي. ولكن إن ذهبت أرسله إليكم ، ومتى جاء ذاك هو يرشدكم إلى جميع الحق ، لأنّه لا يتكلم

٢٥١

من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية».(١) والنقطة الجديرة بالاهتمام أنّه جاءت الكلمة في إنجيل يوحنا باللغة الفارسية «المسلّي» ولكنّها في الإنجيل العربي طبعة لندن (مطبعة وليام وطس عام ١٨٥٧) جاء مكانها : «فارقليطا».

* * *

__________________

(١) كل النصوص المنقولة هنا مقتبسة من كتاب العهد القديم والجديد طباعة وإصدار دار الكتاب المقدس في العالم العربي عام ١٩٧٩.

٢٥٢

الآية

( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨) )

التّفسير

دعوة النّبي العالميّة :

جاء في حديث عن الإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام قال : جاء نفر من اليهود إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : يا محمّد ، أنت الذي تزعم أنّك رسول الله ، وأنّك الذي يوحى إليك كما يوحى إلى موسى بن عمران؟ فسكت النّبي ساعة ثمّ قال : «نعم أنا سيد ولد آدم ولا فخر ، وأنا خاتم النّبيين ، وإمام المتقين ، ورسول ربّ العالمين.» قالوا : إلى من ، إلى العرب أم إلى العجم ، أم إلينا؟ فأنزل الله هذه الآية التي صرّحت بأنّ رسالة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسالة عالمية(١) .

ولكن مع ذلك لا يمكن إنكار ارتباط هذه الآية بالآية السابقة المتعلقة

__________________

(١) عن المجالس حسب نقل تفسير الصافي ، ج ١ ، في ذيل هذه الآية.

٢٥٣

بصفات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والدعوة إلى اتباع دينه وشريعته.

وفي البداية يأمر الله تعالى رسول الله قائلا :( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ) .

إنّ هذه الآية مثل آيات كثيرة أخرى من القرآن الكريم دليل واضح على عالمية دعوة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي الآية (٢٨) من سورة «سبأ» أيضا نقرأ :( وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ ) .

وفي الآية (١٩) من سورة الأنعام أيضا نقرأ :( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) أي بلغه القرآن.

وفي مطلع سورة الفرقان نقرأ :( تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً ) فهو أرسل إلى الناس كافة ليحذرهم من المسؤوليات.

هذه نماذج من الآيات التي تشهد بعالمية دعوة الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسوف نبحث حول هذه المسألة أيضا في ذيل الآية (٧) من سورة الشورى ، وقد مر لنا في ذيل الآية (٩٢) من سورة الأنعام ـ أيضا ـ بحث مبسوط نوعا ما في هذا الصعيد.

ثمّ إنّه وصف الإله الذي يدعو إليه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بثلاث صفات :

١ ـ( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) فله الحاكمية المطلقة.

٢ ـ( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) فلا معبود يليق للعبادة سواه.

٣ ـ( يُحيِي وَيُمِيتُ ) بيده نظام الحياة والموت.

وبهذه الطريقة تنفي هذه الآية ألوهية غير خالق السماوات والأرض ، وألوهيّة كل صنم ، وكذا تنفي التثليث المسيحي ، كما وتؤكّد على رسالة النّبي العالمية وقدرة الله تعالى على أمر المعاد.

وفي الختام تدعو جميع أهل العالم إلى الإيمان بالله وبرسوله الذي لم يتعلّم

٢٥٤

القراءة والكتابة والقائم من بين الناس( فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِ ) .

النّبي الذي لا يكتفي بدعوة الآخرين إلى هذه الحقائق فحسب ، بل يؤمن هو في الدرجة الأولى ـ بما يقول ، يعني الإيمان بالله وكلماته( الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ ) .

إنّه لا يؤمن فقط بالآيات التي نزلت عليه ، بل يؤمن بجميع الكتب الحقيقة للأنبياء السابقين.

إنّ إيمانه بدينه والذي يتجلى من خلال أعماله وتصرّفاته دليل واضح على حقانيته ، لأن عمل الآمر بشيء يعكس مدى إيمانه بما يأمر به ويدعو إليه. وإيمانه بقوله أحد الأدلة على صدقه. إنّ تأريخ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برمّته يشهد بهذه الحقيقة وهي أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أكثر من غيره التزاما بالتعاليم التي جاء بها.

أجل ، لا بدّ لكم من اتّباع مثل هذا النّبي حتى تسطع أنوار الهداية على قلوبكم ، لتهتدوا إلى طريق السعادة( وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) .

وهذا إشارة إلى أنّه لا يكفي مجرّد الإيمان ، وإنما يفيد الإيمان إذا اقترن بالاتباع العمليّ.

والجدير بالالتفات إلى أن الآية الحاضرة نزلت في مكّة يوم كان المسلمون يشكلون أقلية صغيرة جدّا بحيث إنّه قلّما كان هناك من يحتمل أن يسيطر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على مكّة فضلا عن جزيرة العرب ، أو قسم كبير من العالم.

وعلى هذا الأساس ، فإنّ الذين يتصورون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ادعى في البداية تبليغ الرسالة لأهل مكّة فقط ، وعند ما انتشر دينه وعلا أمره فكر في السيطرة على الحجاز ، ثمّ فكر في البلاد الأخرى ، وراسل ملوك العالم وأمراءه وقادته ، وأعلن عن رسالته العالمية. تجيب الآية الحاضرة التي نزلت في مكّة على كل تصوراتهم هذه ، فهي تصرح في غير إبهام ولا غموض بأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعلن عن دعوته العالمية منذ البداية.

* * *

٢٥٥

الآيتان

( وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠) )

التّفسير

جانب من نعم الله على بني إسرائيل :

في الآيات الحاضرة إشارة إلى حقيقة رأينا نظيرها في القرآن الكريم ، وهذه الحقيقة هي تحري القرآن للحق ، واحترامه لمكانة الأقليات الدينية الصالحة ، يعني أنّه لم يكن ليصف جميع بني إسرائيل بأسرهم بالفساد والإفساد ، وبأنّ هذا العزق القومي برمته ضالّ متمرد من دون استثناء ، بل اعترف بأن منهم أقلية صالحة غير موافقة على أعمال الأكثرية ، وقد أولى القرآن الكريم اهتماما خاصا بهؤلاء فيقول :( وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) .

٢٥٦

إنّ هذه الآية قد تشير إلى فريق صغير لم يسلّموا للسامريّ ودعوته ، وكانوا يدافعون عن دين موسى دائما وأبدا ، أو إلى الفرق والطوائف الصالحة الأخرى التي جاءت بعد موسىعليه‌السلام .

ولكن هذا المعنى يبدو غير منسجم مع ظاهر الآية ، لأن «يهدون» و «يعدلون» فعل مضارع ، وهو على الأقل يحكي عن زمان الحال ، يعني عصر نزول القرآن ، ويثبت وجود مثل هذا الفريق في ذلك الزمان ، إلّا أن نقدّر فعل «كان» فتكون الآية إشارة إلى الزمان الماضي ، ونعلم أن التقدير من دون قرينة خلاف الظاهر.

وكذلك يمكن أن يكون ناظرا إلى الأقلية اليهودية الذين كانوا يعيشون في عصر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذين اعتنقوا الإسلام تدريجا وبعد مطالعة دعوة النّبي ومحتوى رسالته ، وانضموا إلى صفوف المسلمين الصادقين. وهذا التّفسير ينسجم أكثر مع ظاهر الفعلين المضارعين المستعملين فيها.

وما جاء في بعض روايات الشيعة والسنة من أنّ هذه الآية إشارة إلى فريق صغير من بني إسرائيل يعيشون فيما وراء الصين ، عيشة عدل وتقوى وتوحيد وعبودية الله تعالى فغير مقبول ، لأنّه مضافا إلى عدم موافقته لما نعلمه من جغرافيا العالم اليوم ، ومضافا إلى أن التواريخ الحاضرة الموجودة لا تؤيد هذا الموضوع ، فإنّ الأحاديث المذكورة غير معتبرة من حيث السند ، ولا يمكن أن يعتمد عليها كأحاديث صحيحة حسب قواعد علم الرجال.

وفي الآية اللاحقة يشير القرآن الكريم إلى عدّة أقسام من نعم الله على بني إسرائيل.

فيقول أوّلا :( وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً ) وهذا التقطيع والتقسيم إنّما هو لأجل أن يسودهم نظام عادل ، بعيد عن المصادمات الخشنة.

وواضح أنّه عند ما يكون في شعب من الشعوب تقسيمات إدارية صحيحة

٢٥٧

ومنظمة ، ويخضع كل قسم من تلك الأقسام لقيادة قائد قدير ، فإنّ إدارتهم ورعاية العدالة بينهم تكون أسهل ، ولنفس هذا السبب عمدت جميع الدول إلى مثل هذا العمل وأخذت بهذه القاعدة.

و «أسباط» جمع سبط (بفتح السين وبكسرها) تعني في الأصل الانبساط في سهولة ، ثمّ يطلق السبط والأسباط على الأولاد وبخاصّة الأحفاد لأنّهم امتداد العائلة.

والمراد من الأسباط ـ هنا ـ هو قبائل بني إسرائيل وفروعها ، الذين كان كل واحد منها منشعبا ومنحدرا من أحد أولاد يعقوبعليه‌السلام .

والنّعمة الأخرى هي : أنّه عند ما كان بنو إسرائيل متوجهين إلى بيت المقدس وأصابهم العطش الشديد الخطير في الصحراء ، وطلبوا من موسىعليه‌السلام الماء ، أوحي إليه أن اضرب بعصاك الحجر ففعل فنبع الماء فشربوا ونجوا من الهلاك( وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً ) .

وقد كانت الينابيع هذه مقسمة بين أسباط بني إسرائيل بحيث عرف كل سبط منهم نبعه الذي يشرب منه( قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ ) .

ويستفاد من هذه الجملة أنّ هذه الينابيع الاثنى عشر التي نبعت من تلك الصخرة العظيمة كانت معلّمة بعلامات ومتميز بعضها عن بعض بفوارق ، بحيث كان يعرف كل فريق من فرق بني إسرائيل نبعه المختص به والمقرّر له ، لا يقع بينهم أي خلاف ويسود النظم والانضباط في جماعتهم ، ويتمّ الشرب بصورة أسهل وأفضل.

والنّعمة الثالثة هي : أن الله تعالى أرسل لهم ـ في تلك الصحارى الملتهبة حيث لا سقف ولا ضلال ـ سحبا ظلّلتهم( وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ ) .

والنّعمة الرّابعة إنزال المنّ والسلوى عليهم كغذائين لذيذين ومقويين

٢٥٨

( وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ) .

ثمّ إنّ المفسّرين أعطوا تفسيرات متنوعة لهذين الغذاءين «المنّ» و «السلوى» اللذين أنزلهما الله على بني إسرائيل في تلك الصحراء القاحلة (وقد ذكرنا هذه التفاسير عند دراسة الآية ٥٧ من سورة البقرة) وقلنا بأنّه لا يبعد أنّ «المن» كان نوعا من العسل الطبيعي الذي كان في بطون الجبال المجاورة ، أو عصارات وإفرازات نباتية كانت تظهر على أشجار كانت نابتة هنا وهناك في تلك الصحراء ، و «السلوى» نوع من الطير الحلال اللحم شبيه بالحمام.

ثمّ يقول الله تعالى : وقلنا( كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ ) .

ولكنّهم أكلوا وكفروا النعمة ولم يشكروها وبذلك ظلموا في الحقيقة أنفسهم( وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) .

ويجب الانتباه إلى أن مضمون هذه الآية جاء في الآيات (٥٧) و (٦٠) من سورة البقرة مع فارق بسيط ، غاية ما في الأمر أنّه عبر عن نبوع الماء من الصخر هنا بـ «انبجست» وهناك بـ «انفجرت» ، وحسب اعتقاد جماعة من المفسّرين أنّ التفاوت بين هاتين العبارتين هو أن «انفجرت» تعني «خروج الماء بدفع ، وكثرة» و «انبجست» تعني «خروج الماء بقلّة» ولعل هذا التفاوت لأجل الإشارة إلى أنّ عيون الماء المذكورة لم تنبع من الصخرة العظيمة دفعة حتى يصير ذلك سببا لاستيحاشهم وخوفهم وقلقهم ، ولا تكون لهم قدرة على تنظيم المياه المندفقة وحصرها ، بل خرجت ابتداء بهدوء وقلة ، ثمّ توسعت المجاري وكثرت المياه النابعة.

وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ هاتين الكلمتين ترجعان إلى مفهوم واحد.

* * *

٢٥٩

الآيتان

( وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢) )

التّفسير

في تعقيب الآيات السابقة تشير هاتان الآيتان إلى قسم آخر من المواهب الإلهية لبني إسرائيل وطغيانهم تجاه تلك النعم ، وكفرانهم بها.

يقول تعالى : (و) اذكروا( إِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ ) .

وقلنا لهم اطلبوا من الله حطّ الذنوب عنكم وعفوه عن خطاياكم ، وادخلوا من باب بيت المقدس بخضوع( وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً ) .

فإذا قمتم بهذه الأمور غفرنا لكم خطاياكم ، وأعطينا للمحسنين ثوابا أكبر و( نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ) .

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) و أنّه في موضع التعليل لقوله:( يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله ) و المعنى أنّه تعالى إنّما جعل هذه المعقّبات و وكّلها بالإنسان يحفظونه بأمره من أمره و يمنعونه من أن يهلك أو يتغيّر في شي‏ء ممّا هو عليه لأنّ سنّته جرت أن لا يغيّر ما بقوم من الأحوال حتّى يغيّروا ما بأنفسهم من الحالات الروحيّة كأن يغيّروا الشكر إلى الكفر و الطاعة إلى المعصية و الإيمان إلى الشرك فيغيّر الله النعمة إلى النقمة و الهداية إلى الإضلال و السعادة إلى الشقاء و هكذا.

و الآية أعني قوله:( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ) إلخ، يدلّ بالجملة على أنّ الله قضى قضاء حتم بنوع من التلازم بين النعم الموهوبة من عنده للإنسان و بين الحالات النفسيّة الراجعة إلى الإنسان الجارية على استقامة الفطرة فلو جرى قوم على استقامة الفطرة و آمنوا بالله و عملوا صالحاً أعقبهم نعم الدنيا و الآخرة كما قال:( وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا ) الأعراف: ٩٦ و الحال ثابتة فيهم دائمة عليهم ما داموا على حالهم في أنفسهم فإذا غيّروا حالهم في أنفسهم غيّر الله سبحانه حالهم الخارجيّة بتغيير النعم نقما.

و من الممكن أن يستفاد من الآية العموم و هو أنّ بين حالات الإنسان النفسيّة و بين الأوضاع الخارجيّة نوع تلازم سواء كان ذلك في جانب الخير أو الشرّ فلو كان القوم على الإيمان و الطاعة و شكر النعمة عمّهم الله بنعمه الظاهرة و الباطنة و دام ذلك عليهم حتّى يغيّروا فيكفروا و يفسقوا فيغيّر الله نعمه نقما و دام ذلك عليهم حتّى يغيّروا فيؤمنوا و يطيعوا و يشكروا فيغيّر الله نقمه نعما و هكذا. هذا.

و لكن ظاهر السياق لا يساعد عليه و خاصّة ما تعقّبه من قوله( وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ ) فإنّه أصدق شاهد على أنّه يصف معنى تغييره تعالى ما بقوم حتّى يغيّروا فالتغيير لما كان إلى السيّئة كان الأصل أعني( ما بِقَوْمٍ ) لا يراد به إلّا الحسنة فافهم ذلك.

على أنّ الله سبحانه يقول:( وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ

٣٤١

يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) الشورى: ٣٠ فيذكر أنّه يعفو عن كثير من السيّئات فيمحو آثارها فلا ملازمة بين أعمال الإنسان و أحواله و بين الآثار الخارجيّة في جانب الشرّ بخلاف ما في جانب الخير كما قال تعالى في نظير الآية:( ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى‏ قَوْمٍ حتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) الأنفال: ٥٣.

و أمّا قوله تعالى:( وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ ) فإنّما دخل في الحديث لا بالقصد الأوّليّ لكنّه تعالى لمّا ذكر أنّ كلّ شي‏ء عنده بمقدار و أنّ لكلّ إنسان معقّبات يحفظونه بأمره من أمره و لا يدعونه يهلك أو يتغيّر أو يضطرب في وجوده و النعم الّتي اُوتيها، و هم على حالهم من الله لا يغيّرها عليهم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم وجب أن يذكر أنّ هذا التغيير من السعادة إلى الشقاء و من النعمة إلى النقمة أيضاً من الاُمور المحكمة المحتومة الّتي ليس لمانع أن يمنع من تحقّقها، و إنّما أمره إلى الله لا حظّ فيه لغيره، و بذلك يتمّ أنّ الناس لا مناص لهم من حكم الله في جانبي الخير و الشرّ و هم مأخوذ عليهم و في قبضته.

فالمعنى: و إذا أراد الله بقوم سوء و لا يريد ذلك إلّا إذا غيّروا ما بأنفسهم من سمات معبوديّة و مقتضيات الفطرة فلا مردّ لذلك السوء من شقاء أو نقمة أو نكال.

ثمّ قوله:( وَ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ ) عطف تفسيريّ على قوله:( إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ ) و يفيد معنى التعليل له فإنّه إذا لم يكن لهم من وال يلي أمرهم إلّا الله سبحانه لم يكن هناك أحد يردّ ما أراد الله بهم من السوء.

فقد بان من جميع ما تقدّم أنّ معنى الآية - على ما يعطيه السياق - و الله أعلم - أنّ لكلّ من الناس على أيّ حال كان معقّبات يعقّبونه في مسيره إلى الله من بين يديه و من خلفه أي في حاضر حاله و ماضيه يحفظونه بأمر الله من أن يتغيّر حاله بهلاك أو فساد أو شقاء بأمر آخر من الله، و هذا الأمر الآخر الّذي يغيّر الحال إنّما يؤثّر أثره إذا غيّر قوم ما بأنفسهم فعند ذلك يغيّر الله ما عندهم من نعمة و يريد بهم السوء و إذا أراد الله بقوم سوء فلا مردّ له لأنّهم لا والي لهم يلي أمرهم من دونه حتّى يردّ ما أراد الله بهم من سوء.

٣٤٢

و قد تبيّن بذلك اُمور:

أحدها: أنّ الآية كالبيان التفصيلي لما تقدّم في الآيات السابقة من قوله:( وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) فإنّ الجملة تفيد أنّ للأشياء حدوداً ثابتة لا تتعدّاها و لا تتخلّف عنها عندالله حتّى تعزب عن علمه، و هذه الآية تفصّل القول في الإنسان أنّ له معقّبات من بين يديه و من خلفه موكّلة عليه يحفظونه و جميع ما يتعلّق به من أن يهلك أو يتغيّر عمّا هو عليه، و لا يهلك و لا يتغيّر إلّا بأمر آخر من الله.

الثاني: أنّه ما من شي‏ء من الإنسان من نفسه و جسمه و أوصافه و أحواله و أعماله و آثاره إلّا و عليه ملك موكّل يحفظه، و لا يزال على ذلك في مسيره إلى الله حتّى يغيّر فالله سبحانه هو الحافظ و له ملائكة حفظة عليها، و هذه حقيقة قرآنيّة.

الثالث: أنّ هناك أمراً آخر يرصد الناس لتغيير ما عندهم و قد ذكر الله سبحانه من شأن هذا الأمر أنّه يؤثّر فيما إذا غيّر قوم ما بأنفسهم فعند ذلك يغيّر الله ما بهم من نعمة بهذا الأمر الّذي يرصدهم، و من موارد تأثيره مجي‏ء الأجل المسمّى الّذي لا يختلف و لا يتخلّف، قال تعالى:( ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى ) الأحقاف: ٣ و قال:( إِنَّ أَجَلَ الله إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ ) نوح: ٤.

الرابع: أنّ أمره تعالى هو المهيمن المتسلّط على متون الأشياء و حواشيها على أيّ حال و أنّ كلّ شي‏ء حين ثباته و حين تغيّره مطيع لأمره خاضع لعظمته، و أنّ الأمر الإلهيّ و إن كان مختلفاً بقياس بعضه إلى بعض منقسماً إلى أمر حافظ و أمر مغيّر ذو نظام واحد لا يتغيّر و قد قال تعالى:( إِنَّ رَبِّي عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) هود ٥٦، و قال:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شيئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحانَ الّذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) يس: ٨٣.

الخامس: أنّ من القضاء المحتوم و السنّة الجارية الإلهيّة التلازم بين الإحسان و التقوى و الشكر في كلّ قوم و بين توارد النعم و البركات الظاهريّة و الباطنيّة و نزولها من عندالله إليهم و بقاؤها و مكثها بينهم ما لم يغيّروا كما يشير إليه قوله

٣٤٣

تعالى:( وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) الأعراف: ٩٦ و قوله:( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ) إبراهيم: ٧ و قال:( هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ ) الرحمن: ٦٠.

هذا هو الظاهر من الآية في التلازم بين شيوع الصلاح في قوم و دوام النعمة عليهم، و أمّا شيوع الفساد فيهم أو ظهوره من بعضهم و نزول النقمة عليهم فالآية ساكتة عن التلازم بينهما و غاية ما يفيده قوله:( لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حتّى يُغَيِّرُوا ) جواز تغيره تعالى عند تغييرهم و إمكانه لا وجوبه و فعليّته، و لذلك غيّر السياق فقال:( وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ ) و لم يقل: فيريد الله بهم من السوء ما لا مردّ له.

و يؤيّد هذا المعنى قوله:( وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) الشورى: ٣٠ حيث يدلّ صريحاً على أنّ بعض التغيير عند التغيير معفوّ عنه.

و أمّا الفرد من النوع فالكلام الإلهيّ يدلّ على التلازم بين صلاح عمله و بين النعم المعنويّة و على التغيّر عند التغيّر دون التلازم بين صلاحه و النعم الجسمانيّة.

و الحكمة في ذلك كلّه ظاهرة فإنّ التلازم المذكور مقتضى حكم التلاؤم و التوافق بين أجزاء النظام و سوق الأنواع إلى غاياتها فإنّ الله جعل للأنواع غايات و جهّزها بما يسوقها إلى غاياتها ثمّ بسط تعالى التلاؤم و التوافق بين أجزاء هذا النظام كان المجموع شيئاً واحداً لا معاندة و لا مضادّة بين أجزائه فمقتضى طباعها أن يعيش كلّ نوع في عافية و نعمة و كرامة حتّى يبلغ غايته فإذا لم ينحرف النوع الإنسانيّ عن مقتضى فطرته الأصليّة و لا منحرف من الأنواع ظاهراً غيره جرى الكون على سعادته و نعمته و لم يعدم رشداً، و أمّا إذا انحرف عن ذلك و شاع فيه الفساد أفسد ذلك التعادل بين أجزاء الكون و أوجب ذلك هجرة النعمة و اختلال المعيشة و ظهور الفساد في البرّ و البحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم الله بعض ما

٣٤٤

عملوا لعلّهم يرجعون.

و هذا المعنى كما لا يخفى إنّما يتمّ في النوع دون الشخص و لذلك كان التلازم بين صلاح النوع و النعم العامّة المفاضة عليهم و لا يجري في الأشخاص لأنّ الأشخاص ربّما بطلت فيها الغايات بخلاف الأنواع فإنّ بطلان غاياتها من الكون يوجب اللعب في الخلقة قال تعالى:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ) الدخان: ٣٨ و قد تقدّم بعض الكلام في هذا الباب في أبحاث الأعمال في الجزء الثاني من الكتاب.

و بما تقدّم يظهر فساد الاعتراض على الآية حيث إنّها تفيد بظاهرها أنّه لا يقع تغيير النعم بقوم حتّى يقع تغيير منهم بالمعاصي مع أنّ ذلك خلاف ما قرّرته الشريعة من عدم جواز أخذ العامّة بذنوب الخاصّة هذا فإنّه أجنبيّ عن مفاد الآية بالكلّيّة.

هذا بعض ما يعطيه التدبّر في الآية الكريمة و للمفسّرين في تفسيرها اختلاف شديد من جهات شتّى:

من ذلك اختلافهم في مرجع الضمير في قوله:( لَهُ مُعَقِّباتٌ ) فمن قائل: إنّ الضمير راجع إلى( مِنْ ) في قوله:( مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ ) إلخ، كما قدّمناه، و من قائل: إنّه يرجع إليه تعالى أي لله ملائكة معقّبات من بين يدي الإنسان و من خلفه يحفظونه. و فيه أنّه يستلزم اختلاف الضمائر. على أنّه يوجب وقوع الالتفات في قوله:( مِنْ أَمْرِ الله ) من غير نكتة ظاهرة، و من قائل: إنّ الضمير للنبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و الآية تذكر أنّ الملائكة يحفظونه. و فيه أنّه كسابقه يستلزم اختلاف الضمائر و الظاهر خلافه. على أنّه يوجب عدم اتّصال الآية بسوابقها و لم يتقدّم للنبيّ- (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) ذكر.

و من قائل: إنّ الضمير عائد إلى من هو سارب بالنهار. و هذا أسخف الوجوه و سنعود إليه.

و من ذلك اختلافهم في معنى المعقّبات فقيل: إنّ أصله المعتقبات صار معقّبات

٣٤٥

بالنقل و الإدغام يقال: اعتقبه إذا حبسه و اعتقب القوم عليه أي تعاونوا و ردّ بأنّه خطأ، و قيل: هو من باب التفعيل و التعقيب هو أن يتبع آخر في مشيته كأنّه يطأ عقبه أي مؤخّر قدمه فقيل: إنّ المعقّبات ملائكة يعقّبون الإنسان في مسيره إلى الله لا يفارقونه و يحفظونه كما تقدّم، و قيل: المعقّبات كتّاب الأعمال من ملائكة الليل و النهار يعقّب بعضهم بعضاً فملائكة الليل تعقّب ملائكة النهار و هم يعقّبون ملائكة الليل يحفظون على الإنسان عمله. و فيه: أنّه خلاف ظاهر قوله:( لَهُ مُعَقِّباتٌ ) على أنّ فيه جعل يحفظونه بمعنى يحفظون عليه.

و قيل: المراد بالمعقّبات الأحراس و الشرط و المواكب الّذين يعقّبون الملوك و الاُمراء و المعنى: أنّ لمن هو سارب بالنهار و هم الملوك و الاُمراء معقّبات من الأحراس و الشرط يحيطون بهم و يحفظونهم من أمر الله أي قضائه و قدره توهّما منهم أنّهم يقدرون على ذلك، و هذا الوجه على سخافته لعب بكلامه تعالى.

و من ذلك اختلافهم في قوله:( مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ ) فقيل: إنّه متعلّق بمعقّبات أي يعقّبونه من بين يديه و من خلفه. و فيه أنّ التعقيب لا يتحقّق إلّا من خلف، و قيل: متعلّق بقوله:( يَحْفَظُونَهُ ) و في الكلام تقديم و تأخير و الترتيب: يحفظونه من بين يديه و من خلفه من أمر الله. و فيه عدم الدليل على ذلك، و قيل: متعلّق بمقدر كالوقوع و الإحاطة و نحوهما أو بنحو التضمين و المعنى له معقّبات يحيطون به من بين يديه و من خلفه و قد تقدّم.

و من جهة اُخرى قيل: إنّ المراد بما بين يديه و ما خلفه ما هو من جهة المكان أي يحيطون به من قدّامه و خلفه يحفظونه من المهالك و المخاطر، و قيل: المراد بهما ما تقدّم من أعماله و ما تأخّر يحفظها عليه الملائكة الحفّظ و يكتبونها و لا دليل على ما في الوجهين من التخصيص، و قيل: المراد بما بين يديه و من خلفه ما للإنسان من الشؤون الجسميّة و الروحيّة ممّا له في حاضر حاله و ما خلّفه وراءه و هو الّذي قدّمناه.

و من ذلك اختلافهم في معنى قوله:( يَحْفَظُونَهُ ) فقيل هو بمعنى يحفظون

٣٤٦

عليه، و قيل: هو مطلق الحفظ، و قيل: هو الحفظ من المضارّ.

و من ذلك اختلافهم في قوله:( مِنْ أَمْرِ الله ) فقيل: هو متعلّق بقوله:( مُعَقِّباتٌ ) و أنّ قوله:( مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ ) و قوله:( يَحْفَظُونَهُ ) و قوله:( مِنْ أَمْرِ الله ) ثلاث صفات لمعقّبات. و فيه أنّه خلاف الظاهر، و قيل: هو متعلّق بقوله:( يَحْفَظُونَهُ ) و( مِنْ ) بمعنى الباء للسببيّة أو المصاحبة و المعنى يحفظونه بسبب أمر الله أو بمصاحبة أمر الله، و قيل: متعلّق بيحفظونه و( مِنْ ) للابتداء أو للنشوّ أي يحفظونه مبتدءً ذلك أو ناشئاً ذلك من أمر الله، و قيل: هو كذلك لكن( مِنْ ) بمعنى( عن ) أي يحفظونه عن أمر الله أن يحلّ به و يغشاه و فسّروا الحفظ من أمر الله بأنّ الأمر بمعنى البأس أي يحفظونه من بأس الله بأن يستمهلوا كلّما أذنب و يسألوا الله سبحانه أن يؤخّر عنه المؤاخذة و العقوبة أو إمضاء شقائه لعلّه يتوب و يرجع، و فساد أغلب هذه الوجوه ظاهر غنيّ عن البيان.

و من ذلك اختلافهم في اتّصال قوله:( لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ ) إلخ فقيل: متّصل بقوله:( سارِبٌ بِالنَّهارِ ) و قد تقدّم معناه، و قيل: متّصل بقوله:( اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) أو قوله:( عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ ) أي كما يعلمهم جعل عليهم حفظة يحفظونهم. و قيل متّصل بقوله:( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ) الآية يعني أنّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) محفوظ بالملائكة. و الحقّ أنّه متّصل بقوله:( وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) و نوع بيان له، و قد تقدّم ذكره.

و من ذلك اختلافهم في اتّصال قوله:( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ ) إلخ فقيل: إنّه متّصل بقوله:( وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ ) الآية أي أنّه لا ينزل العذاب إلّا على من يعلم من جهتهم بالتغيير حتّى لو علم أنّ فيهم من سيؤمن بالله أو من في صلبه ممّن سيولد و يعيش بالإيمان لم ينزل عليهم العذاب، و قيل: متّصل بقوله:( سارِبٌ بِالنَّهارِ ) يعني أنّه إذا اقترف المعاصي فقد غيّر ما به من سمة العبوديّة و بطل حفظه و نزل عليه العذاب. و القولان - كما ترى - بعيدان من السياق و الحقّ أنّ قوله:( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ ) إلخ، تعليل لما تقدّمه من قوله:( يَحْفَظُونَهُ

٣٤٧

مِنْ أَمْرِ الله ) و قد مرّ بيانه.

قوله تعالى: ( هُوَ الّذي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ ) السحاب بفتح السين جمع سحابة بفتحها و لذلك وصف بالثقال.

و الإراء إظهار ما من شأنه أن يحسّ بالبصر للمبصر ليبصره أو جعل الإنسان على صفة الرؤية و الإبصار، و التقابل بين قوله:( يُرِيكُمُ ) و قوله:( يُنْشِئُ ) يؤيّد المعنى الأوّل.

و قوله:( خَوْفاً وَ طَمَعاً ) مفعول له أي لتخافوا و تطمعوا، و يمكن أن يكون مصدرين بمعنى الفاعل حالين من ضمير( يُرِيكُمُ ) أي خائفين و طامعين.

و المعنى: هو الّذي يظهر لعيونكم البرق ليظهر فيكم صفتا الخوف و الطمع كما أنّ المسافر يخافه و الحاضر يطمع فيه، و أهل البحر يخافونه و أهل البرّ يطعمون فيه و يخاف صاعقته و يطمع في غيثه، و يخلق بإنشائه السحابات الّتي تثقل بالمياه الّتي تحملها، و في ذكر آية البرق بالإراءة و آية السحاب بالإنشاء لطف ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ ) إلخ، الصواعق جمع صاعقة و هو القطعة الناريّة النازلة من السماء عن برق و رعد، و الجدل المفاوضة و المنازعة في القول على سبيل المغالبة، و أصله من جدلت الحبل إذا أحكمت فتله، و المحال بكسر الميم مصدر ماحله يماحله إذا ماكره و قاواه ليتبيّن أيّهما أشدّ و جادله لإظهار مساويه و معايبه فقوله:( وَ هُمْ يُجادِلُونَ فِي الله وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ ) معناه - و الله أعلم - أنّ الوثنيّين - و إليهم وجه الكلام في إلقاء هذه الحجج - يجادلون في ربوبيّته تعالى بتلفيق الحجّة على ربوبيّة أربابهم كالتمسّك بدأب آبائهم و الله سبحانه شديد المماحلة لأنّه عليم بمساويهم و معايبهم قدير على إظهارها و فضاحتهم.

قوله تعالى: ( لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَ الّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ‏ءٍ ) إلى آخر الآية الدعاء و الدعوة توجيه نظر المدعوّ إلى الداعي و يتأتّى غالبا بلفظ أو إشارة، و الاستجابة و الإجابة إقبال المدعوّ على الداعي عن دعائه،

٣٤٨

و أمّا اشتمال الدعاء على سؤال الحاجة و اشتمال الاستجابة على قضائها فذلك غاية متمّمة لمعنى الدعاء و الاستجابة غير داخلة في مفهوميهما.

نعم: الدعاء إنّما يكون دعاء حقيقة إذا كان المدعوّ ذا نظر يمكن أن يوجّه إلى الداعي و ذا جدة و قدرة يمكنه بهما استجابة الدعاء و أمّا دعاء من لا يفقه أو يفقه و لا يملك ما ترفع به الحاجة فليس بحقّ الدعاء و إن كان في صورته.

و لمّا كانت الآية الكريمة قرّر فيها التقابل بين قوله( لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ) و بين قوله:( وَ الّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ) إلخ، الّذي يذكر أنّ دعاء غيره خال عن الاستجابة ثمّ يصف دعاء الكافرين بأنّه في ضلال علمنا بذلك أنّ المراد بقوله:( دَعْوَةُ الْحَقِّ ) الدعوة الحقّة غير الباطلة و هي الدعوة الّتي يسمعها المدعوّ ثمّ يستجيبها ألبتّة، و هذا من صفاته تعالى و تقدّس فإنّه سميع الدعاء قريب مجيب و هو الغنيّ ذو الرحمة و قد قال:( أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ ) البقرة: ١٨٦ و قال:( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) المؤمن: ٦٠ فأطلق و لم يشترط في الاستجابة إلّا أن تتحقّق هناك حقيقة الدعاء و أن يتعلّق ذلك الدعاء به تعالى لا غير.

فلفظة دعوة الحقّ من إضافة الموصوف إلى الصفة أو من الإضافة الحقيقيّة بعناية أنّ الحقّ و الباطل كأنّهما يقتسمان الدعاء فقسم منه للحقّ و هو الّذي لا يتخلّف عن الاستجابة، و قسم منه للباطل و هو الّذي لا يهتدي إلى هدف الإجابة كدعاء من لا يسمع أو لا يقدر على الاستجابة.

فهو تعالى لمّا ذكر في الآيات السابقة أنّه عليم بكلّ شي‏ء و أنّ له القدرة العجيبة ذكر في هذه الآية أنّ له حقيقة الدعاء و الاستجابة فهو مجيب الدعاء كما أنّه عليم قدير، و قد ذكر ذلك في الآية بطريقي الإثبات و النفي أعني إثبات حقّ الدعاء لنفسه و نفيه عن غيره.

أمّا الأوّل فقوله:( لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ) و تقديم الظرف يفيد الحصر و يؤيّده ما بعده من نفيه عن غيره، و أمّا الثاني فقوله:( وَ الّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ‏ءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَ ما هُوَ بِبالِغِهِ ) و قد أخبر فيه أنّ

٣٤٩

الّذين يدعوهم المشركون من دون الله لا يستجيبون لهم بشي‏ء و قد بيّن ذلك في مواضع من كلامه فإنّ هؤلاء المدعوّين إمّا أصنام يدعوهم عامّتهم و هي أجسام ميتة لا شعور فيها و لا إرادة، و إمّا أرباب الأصنام من الملائكة أو الجنّ و روحانيّات الكواكب و البشر كما ربّما يتنبّه له خاصّتهم فهم لا يملكون لأنفسهم ضرّاً و لا نفعاً و لا موتاً و لا حياةً و لا نشوراً فكيف بغيرهم و لله الملك كلّه و له القوّة كلّها فلا مطمع عند غيره تعالى.

ثمّ استثنى من عموم نفي الاستجابة صورة واحدة فقط و هي ما يشبه مورد المثل المضروب بقوله:( كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَ ما هُوَ بِبالِغِهِ ) .

فإنّ الإنسان العطشان إذا أراد شرب الماء كان عليه أن يدنو من الماء ثمّ يبسط كفّيه فيغترفه و يتناوله و يبلغ فاه و يرويه و هذا هو حقّ الطلب يبلغ بصاحبه بغيته في هدى و رشاد، و أمّا الظمآن البعيد من الماء يريد الريّ لكن لا يأتي من أسبابه بشي‏ء غير أنّه يبسط إليه كفّيه يبلغ فاه فليس يبلغ ألبتّة فاه و ليس له من طلبه إلّا صورته فقط.

و مثل من يدعو غير الله سبحانه مثل هذا الباسط كفّيه إلى الماء ليبلغ فاه و ليس له من الدعاء إلّا صورته الخالية من المعنى و اسمه من غير مسمّى فهؤلاء المدعوّون من دون الله لا يستجيبون للّذين يدعونهم بشي‏ء و لا يقضون حاجتهم إلّا كما يستجاب لباسط كفّيه إلى الماء ليبلغ فاه و يقضي حاجته أي لا يحصل لهم إلّا صورة الدعاء كما لا يحصل لذلك الباسط إلّا صورة الطلب ببسط الكفّين.

و من هنا يعلم أنّ هذا الاستثناء( إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ ) إلخ، لا ينتقض به عموم النفي في المستثنى منه و لا يتضمّن إلّا صورة الاستثناء فهو يفيد تقوية الحكم في جانب المستثنى منه فإنّ مفاده أنّ الّذين يدعون من دون الله لا يستجاب لهم إلّا كما يستجاب لباسط كفّيه إلى الماء و لن يستجاب له، و بعبارة اُخرى لن ينالوا بدعائهم إلّا أن لا ينالوا شيئاً أي لن ينالوا شيئاً ألبتّة.

و هذا من لطيف كلامه تعالى و يناظر من وجه قوله تعالى الآتي:( قُلْ

٣٥٠

أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا ) و آكد منه كما سيجيي‏ء إن شاء الله.

و قد تبيّن بما تقدّم:

أوّلاً: أنّ قوله:( دَعْوَةُ الْحَقِّ ) المراد به حقّ الدعاء و هو الّذي يستجاب و لا يردّ ألبتّة، و أمّا قول بعضهم: إنّ المراد كلمة الإخلاص شهادة أن لا إله إلّا الله فلا شاهد عليه من جهة السياق.

و ثانياً: أنّ تقدير قوله( وَ الّذينَ يَدْعُونَ ) إلخ بإظهار الضمائر: الّذين يدعوهم المشركون من دون الله لا يستجيب اُولئك المدعوّون للمشركين بشي‏ء.

و ثالثاً: أنّ الاستثناء من قوله:( لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ‏ءٍ ) و في الكلام حذف و إيجاز و المعنى: لا يستجيبون لهم بشي‏ء و لا ينيلونهم شيئاً إلّا كما يستجاب لباسط كفّيه إلى الماء ليبلغ فاه و ينال من بسطه، و لعلّ الاستجابة مضمّن معنى النيل و نحوه.

ثمّ أكّد سبحانه الكلام بقوله:( وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ ) مع ما فيه من الإشارة إلى حقيقة أصيلة اُخرى و هي أنّه لا غرض لدعاء إلّا الله سبحانه فإنّه العليم القدير و الغنيّ ذو الرحمة فلا طريق له إلّا طريق التوجّه إليه تعالى فمن دعا غيره و جعله الهدف لدعائه فقد الارتباط بالغرض و الغاية و خرج بذلك عن الطريق فضلّ دعاؤه فإنّ الضلال هو الخروج عن الطريق و سلوك ما لا يوصل إلى المطلوب.

قوله تعالى: ( وَ لله يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ ظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ ) السجود الخرور على الأرض بوضع الجبهة أو الذقن عليها قال تعالى:( وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً ) يوسف: ١٠٠، و قال:( يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً ) أسرى: ١٠٧. و الواحدة منه سجدة.

و الكره ما يأتي به الإنسان من الفعل بمشّقة فإن حمل عليه من خارج فهو الكره بفتح الكاف و ما حمل عليه من داخل نفسه فهو الكره بضمّها و الطوع يقابل الكره مطلقا.

٣٥١

و قال الراغب: الغدوة و الغداة من أوّل النهار، و قوبل في القرآن الغدوّ بالآصال نحو قوله:( بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ ) و قوبل الغداة بالعشيّ قال:( بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ ) انتهى و الغدوّ جمع غداة كقنىّ و قناة و قال في المجمع: الآصال جمع اُصل - بضمّتين - و اُصل جمع أصيل فهو جمع الجمع مأخوذ من الأصل فكأنّه أصل الليل الّذي ينشأ منه و هو ما بين العصر إلى مغرب الشمس. انتهى.

و الأعمال الاجتماعيّة الّتي يؤتى بها لأغراض معنويّة كالتصدّر الّذي يمثّل به الرئاسة و التقدّم الّذي يمثّل به السيادة و الركوع الّذي يظهر به الصغر و الصغار و السجود الّذي يظهر به نهاية تذلّل الساجد و ضعته قبال تعزّز المسجود له و اعتلائه تسمّى غاياتها بأساميها كما تسمّى نفسها فكما يسمّى التقدّم تقدّماً كذلك تسمّى السيادة تقدّماً و كما أنّ الانحناء الخاصّ ركوع كذلك الصغر و الصغار الخاصّ ركوع و كما أنّ الخرور على الأرض سجود كذلك التذلّل سجود كلّ ذلك بعناية أنّ الغاية من العمل هي المطلوبة بالحقيقة دون ظاهر هيئة العمل.

و هذه النظرة هي الّتي يعتبرها القرآن الكريم في نسبة السجود و ما يناظره من القنوت و التسبيح و الحمد و السؤال و نحو ذلك إلى الأشياء كقوله تعالى:( كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ ) البقرة: ١١٦ و قوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) أسرى: ٤٤ و قوله:( يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) الرحمن: ٢٩ و قوله:( وَ لله يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) النحل: ٤٩.

و الفرق بين هذه الاُمور المنسوبة إلى الأشياء الكونيّة و بينها و هي واقعة في ظرف الاجتماع الإنسانيّ أنّ الغايات موجودة في القسم الأوّل بحقيقة معناها بخلاف القسم الثاني فإنّها إنّما توجد فيها بنوع من الوضع و الاعتبار فذلّة المكوّنات و ضعتها تجاه ساحة العظمة و الكبرياء ذلّة وضعة حقيقيّة بخلاف الخرور على الأرض و وضع الجبهة عليها فإنّه ذلّة وضعة بحسب الوضع و الاعتبار و لذلك ربّما يتخلّف.

فقوله تعالى:( وَ لله يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) أخذ بما تقدّم من

٣٥٢

النظر و لعلّه إنّما خصّ اُولي العقل بالذكر حيث قال:( مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) مع شمول هذه الذلّة و الضعة جميع الموجودات كما في آية النحل المتقدّمة و كما يشعر به ذيل الآية حيث قال:( وَ ظِلالُهُمْ ) إلخ، لأنّ الكلام في السورة مع المشركين و الاحتجاج عليهم فكأنّ في ذلك بعثا لهم أن يسجدوا لله طوعا كما يسجد له من دونهم من عقلاء السماوات و الأرض طوعا حتّى أنّ ظلالهم تسجد له. و لذلك أيضاً تعلّقت العناية بذكر سجود الظلال ليكون آكد في استنهاضهم فافهمه.

ثمّ إنّ هذا التذلّل و التواضع، الّذي هو من عامّة الموجودات لساحة ربّهم عزّ و علا، خضوع ذاتيّ لا ينفكّ عنها و لا يتخلّف فهو بالطوع ألبتّة و كيف لا و ليس لها من نفسها شي‏ء حتّى يتوهّم لها كراهة أو امتناع و جموح و قد قال تعالى:( فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) حم السجدة: ١١.

فالعناية المذكورة توجب الطوع لجميع الموجودات في سجودهم لله تعالى و تقطع دابر الكره عنهم ألبتّة غير أنّ هناك عناية اُخرى ربّما صحّحت نسبة الكره إلى بعضها في الجملة و هي أنّ بعض هذه الأشياء واقعة في مجتمع التزاحم مجهّزة بطباع ربّما عاقتها عن البلوغ إلى غاياتها و مبتغياتها أسباب اُخر و هي الأشياء المستقرّة في عالمنا هذا عالم المادّة الّتي ربّما زوحمت في مآربها و منعتها عن البلوغ إلى مقتضيات طباعها موانع متفرّقة و لا شكّ أنّ مخالف الطبع مكروه كما أنّ ما يلائمه مطلوب.

فهذه الأشياء ساجدة لله خاضعة لأمره في جميع الشؤون الراجعة إليها غير أنّها فيما يخالف طباعها كالموت و الفساد و بطلان الآثار و الآفات و العاهات و نحو ذلك ساجدة له كرها، و فيما يلائم طباعها كالحياة و البقاء و البلوغ إلى الغايات و الظفر بالكمال ساجدة له طوعا كالملائكة الكرام الّذين لا يعصون الله فيما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون.

و ممّا تقدّم يظهر فساد قول بعضهم إنّ المراد بالسجدة هو الحقيقيّ منها يعني الخرور على الأرض بوضع الجبهة عليها مثلاً فهم جميعاً ساجدون غير أنّ المؤمن يسجد

٣٥٣

طوعاً و الكافر يسجد خوفاً من السيف و قد نسب القول به إلى الحسن.

و كذا قول بعض: إنّ المراد بالسجود الخضوع فله يخضع الكلّ إلّا أنّ ذلك من المؤمن خضوع طوع و من الكافر خضوع كره لما يحلّ به من الآلام و الأسقام و نسب إلى الجبائيّ.

و كذا قول آخرين: إنّ المراد بالآية خضوع جميع ما في السماوات و الأرض من اُولي العقل و غيرهم و التعبير بلفظ يخصّ اُولي العقل للتغليب.

و أمّا قوله:( وَ ظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ ) ففيه إلحاق أظلال الأجسام الكثيفة بها في السجود فإنّ الظلّ و إن كان عدميّا من حجب الجسم بكثافته عن نفوذ النور إلّا أنّ له آثاراً خارجيّة و هو يزيد و ينقص في طرفي النهار و يختلف اختلافاً ظاهراً للحسّ فله نحو من الوجود ذو آثاره يخضع في وجوده و آثاره لله و يسجد له.

و هي تسجد لله سبحانه سجدة طوع في جميع الأحيان، و إنّما خصّ الغدوّ و الآصال بالذكر لا لما قيل: إنّ المراد بهما الدوام لأنّه يذكر مثل ذلك للتأبيد إذ لو اُريد سجودها الدائم لكان الأنسب به أن يقال: بأطراف النهار حتّى يعمّ جميع ما قبل الظهر و ما بعده كما وقع في قوله:( وَ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى) طه: ١٣٠.

بل النكتة فيه - والله أعلم - أنّ الزيادة و النقيصة دائمتان للأظلال في الغداة و الأصيل فيمثّلان للحسّ السقوط على الأرض و ذلّة السجود، و أمّا وقت الظهيرة و أوساط النهار فربّما انعدمت الأظلال فيها أو نقصت و كانت كالساكنة لا يظهر معنى السجدة منها ذلك الظهور.

و لا شكّ في أنّ سقوط الأظلال على الأرض و تمثيلها لخرور السجود منظور إليه في نسبة السجود إلى الأظلال في تفيّؤها، و ليس النظر مقصوراً على مجرّد طاعتها التكوينيّة في جميع أحوالها و آثارها و الدليل على ذلك قوله:( أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى‏ ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ سُجَّداً لله وَ هُمْ داخِرُونَ ) النحل: ٤٨ فإنّ العناية بذلك ظاهرة فيه.

٣٥٤

و ليس ذلك قولاً شعريّاً و تصويراً تخييليّاً يتوسّل به في الدعوة الحقّة في كلامه تعالى - و حاشاه - و قد نصّ أنّه ليس بشعر بل الحقائق المتعالية عن الأوهام الثابتة عند العقل السليم البعيدة بطباعها عن الحسّ إذا صادفت موارد أمكن أن يظهر فيها للحسّ نوع ظهور و يتمثّل لها بوجه كان من الحريّ أن يستمدّ به في تعليم الأفهام الساذجة و العقول البسيطة و نقلها من مرتبة الحسّ و الخيال إلى مرحلة العقل السليم المدرك للحقائق من المعارف فإنّه من الحسّ و الخيال الحقّ المستظهر بالحقائق المؤيّد بالحقّ فلا بأس بالركون إليه.

و من هذا الباب عدّه تعالى ما يشاهد من الضلال المتفيّئة من الأجسام المنتصبة بالغدوّ و الآصال ساجدة لله سبحانه لما فيها من السقوط على الأرض كخرور السجود من اُولي العقل.

و من هذا الباب أيضاً ما تقدّم من قوله:( وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ) حيث أطلق التسبيح على صوت الرعد الهائل الّذي يمثّل لساناً ناطقاً بتنزيهه تعالى عن مشابهة المخلوقين و الثناء عليه لرحمته المبشّر به بالريح و السحاب و البرق مع أنّ الأشياء قاطبة مسبّحة بحمده بوجوداتها القائمة به تعالى المعتمدة عليه، و هذا تسبيح ذاتيّ منهم و دلالته دلالة ذاتيّة عقليّة غير مرتبطة بالدلالات اللفظيّة الّتي توجد في الأصوات بحسب الوضع و الاعتبار لكنّ الرعد بصوته الشديد الهائل يمثّل للسمع و الخيال هذا التسبيح الذاتيّ فذكره الله سبحانه بما له من الشأن لينتقل به الأذهان البسيطة إلى معنى التسبيح الذاتيّ الّذي يقوم بذات كلّ شي‏ء من غير صوت قارع و لا لفظ موضوع.

و يقرب من هذا الباب ما تقدّم في مفتتح السورة في قوله تعالى:( رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) و قوله:( وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ ) الآية أنّ التمسّك في مقام الاحتجاج عليه تعالى بالاُمور المجهول أسبابها عند الحسّ ليس لأنّ سببيّته تعالى مقصورة على هذا النوع من الموجودات و الاُمور المعلومة الأسباب في غنى عنه تعالى فإنّ القرآن الكريم ينصّ على عموم قانون السببيّة و أنّه تعالى

٣٥٥

فوق الجميع بل لأنّ الاُمور الّتي لا تظهر أسبابها على الحسّ لبادئ نظرة تنبّه الأفهام البسيطة و تمثّل لها الحاجة إلى سبب أحسن تمثيل فتنتزع إلى البحث عن أسبابها و ينتهي البحث لا محالة إلى سبب أوّل هو الله سبحانه، و في القرآن الكريم من ذلك شي‏ء كثير.

و بالجملة فتسمية سقوط ظلال الأشياء بالغدوّ و الآصال على الأرض سجوداً منها لله سبحانه مبنيّة على تمثيلها في هذه الحال معنى السجدة الذاتيّة الّتي لها في ذواتها بمثال حسّيّ ينبّه الحسّ لمعنى السجدة الذاتيّة و يسهل للفهم البسيط طريق الانتقال إلى تلك الحقيقة العقليّة.

هذا هو الّذي يعطيه التدبّر في كلامه تعالى، و أمّا حمل هذه المعاني على محض الاستعارة الشعريّة أو جعلها مجازاً مثلاً يراد به انقياد الأشياء لأمره تعالى بمعنى أنّها توجد كما شاء أو القول بأنّ المراد بالظلّ هو الشخص فإنّ من يسجد يسجد ظلّه معه فإنّ هذه معان واهية لا ينبغي الالتفات إليها.

قوله تعالى: ( قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا ) الآية بما تشتمل على أمر النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بالاحتجاج على المشركين بمنزلة الفذلكة من الآيات السابقة.

و ذلك أنّ الآيات السابقة تبيّن بأوضح البيان أنّ تدبير السماوات و الأرض و ما فيهما من شي‏ء إلى الله سبحانه كما أنّ خلقها منه و أنّه يملك ما يفتقر إليه الخلق و التدبير من العلم و القدرة و الرحمة و أنّ كلّ من دونه مخلوق مدبّر لا يملك لنفسه نفعاً و لا ضرّاً و ينتج ذلك أنّه الربّ دون غيره.

فأمر تعالى نبيّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أن يسجّل عليهم نتيجة بيانه السابق و يسألهم بعد تلاوة الآيات السابقة عليهم الكاشفة عن وجه الحقّ لهم بقوله:( مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) أي من هو الّذي يملك السماوات و الأرض و ما فيهما و يدبّر أمرها؟ ثمّ أمره أن يجيب هو نفسه عن السؤال و يقول:( اللَّهُ ) لأنّهم و هم مشركون معاندون يمتنعون عن الإقرار بتوحيد الربوبيّة و في ذلك تلويح إلى أنّهم لا يعقلون حجّة

٣٥٦

و لا يفقهون حديثا.

ثمّ استنتج بمعونة هذه النتيجة نتيجة ثانية بها يتّضح بطلان شركهم أوضح البيان و هي أنّ مقتضى ربوبيّته تعالى الثابتة بالحجج السابقة أنّه هو المالك للنفع و الضرر فكلّ من دونه لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرّا فكيف لغيره؟ فاتّخاذ أرباب من دون الله أي فرض أولياء من دونه يلون أمر العباد و يملكون لهم نفعا و ضرّا في الحقيقة فرض لأولياء ليسوا بأولياء لأنّهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً و لا ضرّاً فكيف يملكون لغيرهم ذلك؟.

و هذا هو المراد بقوله مفرّعاً على السؤال السابق:( قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا ) أي فكيف يملكون لغيرهم ذلك؟ أي إذا كان الله سبحانه هو ربّ السماوات و الأرض فقد قلتم باتّخاذكم أولياء آلهة من دونه قولاً يكذّبه نفسه و هو عدم ولايتهم في عين ولايتهم و هو التناقض الصريح بأنّهم أولياء غير أولياء و أرباب لا ربوبيّة لهم.

و بالتأمّل فيما قدّمناه أنّ الآية بمنزلة الفذلكة من سابق البيانات يعود مفاد الآية إلى مثل قولنا: إذا تبيّن ما تقدّم فمن ربّ السماوات و الأرض إلّا الله؟ أ فأتّخذتم من دونه أولياء لا يملكون نفعاً و لا ضرّاً؟ فالعدول عن التفريع إلى أمر النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بقوله: قل كذا و قل كذا و تكراره مرّة بعد مرّة إنّما هو للتنزّه عن خطابهم على ما بهم من قذارة الجهل و العناد و هذا من لطيف نظم القرآن.

قوله تعالى: ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى‏ وَ الْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَ النُّورُ ) مثلان ضربهما الله سبحانه بعد تمام الحجّة و إتمامها عليهم و أمر النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أن يضربهما لهم يبيّن بأحدهما حال المؤمن و الكافر فالكافر بالحجّة الحقّة و الآيات البيّنات غير المسلّم لها أعمى و المؤمن بها بصير فالعاقل لا يسوّي بينهما ببديهة عقله، و يبيّن بالثاني أنّ الكفر بالحقّ ظلمات كما أنّ الكافر الواقع فيها غير بصير و الإيمان بالحقّ نور كما أنّ المؤمن الأخذ به بصير و لا يستويان ألبتّة فمن الواجب على المشركين إن كان لهم عقول سليمة - كما يدعون - أن يسلّموا للحقّ

٣٥٧

و يرفضوا الباطل و يؤمنوا بالله وحده.

قوله تعالى: ( أَمْ جَعَلُوا لله شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ - إلى قوله -وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) في التعبير بقوله:( جَعَلُوا ) و( عَلَيْهِمْ ) دون أن يقال جعلتم و عليكم دليل على أنّ الكلام مصروف عنهم إلى النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) دون أن يؤمر بإلقائه إليهم.

ثمّ العود في جواب هذا الاحتمال الّذي يتضمّنه قوله:( أَمْ جَعَلُوا لله شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ) إلى الأمر بإلقائه إليهم بقوله:( قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) دليل على أنّ السؤال إنّما هو عن النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و المطلوب من إلقاء توحيد الخالق إليهم هو الإلقاء الابتدائيّ لا الإلقاء بنحو الجواب، و ليس إلّا لأنّهم لا يقولون بخالق غير الله سبحانه كما قال تعالى:( وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) لقمان: ٢٥، الزمر: ٣٨ و قد كرّر تعالى نقل ذلك عنهم.

فهؤلاء الوثنيون ما كانوا يرون لله سبحانه شريكاً في الخلق و الإيجاد و إنّما كانوا ينازعون الإسلام في توحيد الربوبيّة لا في توحيد الاُلوهيّة بمعنى الخلق و الإيجاد، و تسليمهم توحيد الخالق المبدع و قصر ذلك على الله يبطل قولهم بالشركاء في الربوبيّة و تتمّ الحجّة عليهم لأنّ اختصاص الخلق و الإيجاد بالله سبحانه ينفي استقلال الوجود و العلم و القدرة عن غيره تعالى و لا ربوبيّة مع انتفاء هذه النعوت الكماليّة.

و لذلك لم يبق لهم في القول بربوبيّة شركائهم مع الله سبحانه إلّا أن ينكروا توحّده تعالى في الخلق و الإيجاد و يثبتوا بعد الخلق و الإيجاد لآلهتهم و هم لا يفعلونه و هذا هو الموجب لذكره تعالى هذا الاحتمال لنبيّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) من دون أن يخاطبهم به أو يأمره أن يخاطبهم.

فكأنّه تعالى إذ يقول:( أَمْ جَعَلُوا لله شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ) يقول لنبيّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): هؤلاء تمّت عليهم الحجّة في توحيد الربوبيّة من جهة اختصاصه تعالى بالخلق و الإيجاد فلم يبق لهم إلّا أن يقولوا بشركة شركائهم في

٣٥٨

الخلق و الإيجاد فهل هم قائلون بأنّ شركائهم خلقوا خلقاً كخلقه ثمّ تشابه الخلق عليهم فقالوا بربوبيّتهم إجمالاً مع الله.

ثمّ أمر النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أن يلقي إليهم ما يقطع دابر هذا الاحتمال فقال:( قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) و الجملة صدرها دعوى دليلها ذيلها أي أنّه تعالى واحد في خالقيّته لا شريك له فيها، و كيف يكون له فيها شريك و له وحدة يقهر كلّ عدد و كثرة و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ :) يوسف: ٣٩ بعض الكلام في معنى كونه تعالى هو الواحد القهّار، و تبيّن هناك أنّ مجموع هاتين الصفتين ينتج صفة الأحديّة.

و قد بان ممّا ذكرناه وجه تغيير السياق في قوله:( أَمْ جَعَلُوا لله شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ) و الإعراض عن سياق الخطاب السابق فتأمّل في ذلك و اعلم أنّ أكثر المفسّرين اشتبه عليهم الحال في الحجج الّتي تقيمها الآيات القرآنيّة لإثبات ربوبيّته تعالى و توحيده فيها و نفي الشريك عنه فخلطوا بينها و بين ما اُقيمت لإثبات الصانع فتنبّه لذلك.

( بحث روائي)

في الكافي، بإسناده عن عبد الرحيم القصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله تبارك و تعالى( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) فقال: قال رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): أنا المنذر و عليّ الهادي‏ الحديث.

أقول: و روى هذا المعنى الكلينيّ في الكافي، و الصدوق في المعاني، و الصفّار في البصائر، و العيّاشيّ و القمّيّ في تفسيريهما و غيرهم بأسانيد كثيرة مختلفة.

و معنى قوله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم):( أنا المنذر و عليّ الهادي) أنّي مصداق المنذر و الإنذار هداية مع دعوة و علىّ مصداق للهادي من غير دعوة و هو الإمام لا أنّ المراد بالمنذر هو رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و المراد بالهادي هو عليّ (عليه السلام) فإنّ ذلك مناف لظاهر الآية ألبتّة.

٣٥٩

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن مردويه و أبو نعيم في المعرفة و الديلميّ و ابن عساكر و ابن النجّار قال: لمّا نزلت:( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) وضع رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) يده على صدره فقال: أنا المنذر و أومأ بيده إلى منكب عليّ فقال: أنت الهادي يا عليّ بك يهتدي المهتدون من بعدي:.

أقول: و رواه الثعلبيّ في الكشف، عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس عن النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم).

و في مستدرك الحاكم، بإسناده عن إبراهيم بن الحكم بن ظهير عن أبيه عن الحكم بن جرير عن أبي بريدة الأسلميّ قال: دعا رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بالطهور و عنده عليّ بن أبي طالب فأخذ رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بيد عليّ بعد ما تطهّر فألصقها بصدره ثمّ قال:( إنّما أنت منذر) و يعني نفسه ثمّ ردّها إلى صدر عليّ ثمّ قال:( و لكلّ قوم هاد) ثمّ قال له: أنت منار الأنام و غاية الهدى و أمير القرّاء أشهد على ذلك إنّك كذلك:.

أقول: و رواه ابن شهرآشوب عن الحاكم في شواهد التنزيل، و المرزبانيّ في ما نزل من القرآن في أميرالمؤمنين.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبدالله بن أحمد في زوائد المسند و ابن أبي حاتم و الطبرانيّ في الأوسط و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه و ابن عساكر عن عليّ بن أبي طالب: في قوله تعالى:( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) قال: رسول الله المنذر و أنا الهادي. و في لفظ: و الهادي رجل من بني هاشم يعني نفسه.

أقول: و من طرق أهل السنّة في هذا المعنى روايات اُخرى كثيرة.

و في المعاني، بإسناده عن محمّد بن مسلم قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) في قوله تعالى:( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) قال: كلّ إمام هاد لكلّ قوم في زمانهم.

و في الكافي، بإسناده عن فضيل قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله عزّوجلّ:( وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) فقال: كلّ إمام هاد للقرن الّذي هو فيهم.

و فيه، بإسناده عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام)( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606