الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 606
المشاهدات: 233210
تحميل: 5422


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 233210 / تحميل: 5422
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 5

مؤلف:
العربية

الإنسانية والملكات الأخلاقية ، وصدق النية وطهارتها وإخلاصها.

وإذا رأينا أنّ بعض الرّوايات الإسلامية تشير ـ فقط ـ إلى اللباس الجيّد أو مشط الشعر ، أو إذا رأينا أنّ بعضها الآخر يتحدث ـ فقط ـ عن مراسيم صلاة العيد وصلاة الجمعة ، فإنّ ذلك لا يدل على الانحصار ، بل الهدف هو بيان مصاديقها الواضحة(1) .

وهكذا إذا رأينا أنّ طائفة أخرى من الرّوايات تفسر الزينة بالقادة الصالحين(2) ، فإنّ كل ذلك يدل على سعة مفهوم الآية الذي يشمل جميع أنواع الزينة الظاهرية والباطنية.

وهذا الحكم وإن كان يتعلق بجميع أبناء آدم في كل زمان ومكان ، إلّا أنّه ينطوي ضمنا على ذم عمل قبيح كان يقوم به جماعة من الأعراب في العهد الجاهلي عند دخولهم في المسجد الحرام والطواف بالكعبة المعظمة ، حيث كانوا يطوفون بالبيت المعظم عراة من دون ساتر يستر عوراتهم ، كما أنّه يتضمن ـ أيضا ـ نصيحة لأولئك الذين يرتدون عند إقامة الصلاة أو الدخول إلى المساجد ثيابا وسخة خلقة أو ألبسة تخصّ المنزل ، ويشتركون في مراسيم عبادة وهم على تلك الهيئة المزرية ، الأمر الذي نشاهده اليوم ـ وللأسف ـ بين بعض الغفلة السذج من المسلمين ، في حين أننا مكلّفون ـ طبقا للآية الحاضرة ، والرّوايات الواردة في هذا الصعيد ـ بأن نرتدي لدى ارتيادنا للمساجد أفضل ثيابنا وألبستنا.

ثمّ في العبارة اللاحقة يشير سبحانه إلى مواهب أخرى ، يعني الأطعمة والأشربة الطاهرة الطيبة ، ويقول :( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ) .

ولكن حيث أنّ الإنسان حريص بحكم طبيعته البشرية ، يمكن أن يسيء

__________________

(1) للاطلاع على هذه الرّوايات راجع تفسير البرهان المجلد 2 ، الصفحة الثّانية 9 و 10 وتفسير نور الثقلين المجلد الثّاني الصفحة 18 و 19.

(2) المصدر السابق.

٢١

استخدام هذين التعليمين ، وبدل أن يستفيد من نعمة اللباس والغذاء الصحيح بالشكل المعقول والمعتدل ، يسلك سبيل الإسراف والتبذير والبذخ ، لهذا أضاف مباشرة قائلا :( وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) .

وكلمة «الإسراف» كلمة جامعة جدّا بحيث تشمل كل إفراط في الكم والكيف ، وكذا الأعمال العابثة والإتلاف وما شابه ذلك ، وهذا هو أسلوب القرآن خاصّة ، فهو عند الحث على الاستفادة من مواهب الحياة والطبيعة يحذّر فورا من سوء استخدامها ، ويوصي برعاية الاعتدال.

وفي الآية اللاحقة يعمد إلى الرّد ـ بلهجة أكثر حدّة ـ على من يظن أنّ تحريم أنواع الزينة والتزين والاجتناب من الأطعمة الطيبة الحلال علامة الزهد ، وسببا للتقرب إلى الله فيقول : أيّها النّبي( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ) ؟

إذا كانت هذه الأمور قبيحة فإنّ الله تعالى لا يخلق القبيح ، وإذا خلقها الله ليتمتع بها عباده فكيف يمكن أن يحرّمها؟ وهل يمكن أن يكون هناك تناقض بين جهاز الخلق ، وبين التعاليم الدينية؟!

ثمّ أضاف للتأكيد :( قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ ) أي أنّ هذه النعم والمواهب قد خلقت للمؤمنين في هذه الحياة ، وإن كان الآخرون ـ أيضا ـ يستفيدون منها رغم عدم صلاحيتهم لذلك ، ولكن في يوم القيامة حيث الحياة الأعلى والأفضل ، وحيث يتميز الخبيث عن الطيب ، فإنّ هذه المواهب والنّعم ستوضع تحت تصرف المؤمنين الصالحين فقط ، ويحرم منها الآخرون حرمانا كليّا.

وعلى هذا الأساس فإنّ ما هو للمؤمنين في الدنيا والآخرة ، وخاص بهم في العالم الآخر كيف يمكن أن يحرّم عليهم؟ أنّ الحرام هو ما يورث مفسدة ، لا ما هو نعمة وموهبة.

٢٢

هذا وقد احتمل أيضا في تفسير هذه العبارة من الآية أنّ هذه المواهب وإن كانت في هذه الدنيا ممزوجة بالآلام والمصائب والبلايا ، إلّا أنّها توضع تحت تصرف المؤمنين وهي خالصة من كل ذلك في العالم الآخر (ولكن التّفسير الأوّل يبدو أنّه أنسب).

وفي ختام الآية يقول من باب التأكيد :( كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) .

الزّينة والتّجمل من وجهة نظر الإسلام :

لقد اختار الإسلام ـ كسائر الموارد ـ حدّ التوسط والاعتدال في مجال الانتفاع والاستفادة من أنواع الزينة ، لا كما يظن البعض من أنّ التمتع والاستفادة من الزينة والتجمل ـ مهما كان بصورة معتدلة ـ أمر مخالف للزّهد ، ولا كما يتصور المفرطون في استعمال الزينة والتجمل الذين يجوّزون لأنفسهم فعل كل عمل شائن بغية الوصول إلى هذا الهدف الرخيص.

ولو أننا أخذنا بناء الجسم والروح بنظر الإعتبار ، لرأينا أنّ تعاليم الإسلام في هذا الصعيد تنسجم تماما مع خصائص الروح الإنسانية وبناء الجسم البشري ومتطلباتهما ، واحتياجاتهما الذاتية.

توضيح ذلك : إنّ غريزة حبّ الجمال ـ باعتراف علماء النفس ـ هي إحدى أبعاد الروح الإنسانية الأربعة ، والتي تشكل مضافا إلى غريزة حب الخير ، وغريزة حب الاستطلاع ، وغريزة التّدين ، الأبعاد الأصلية في النفس الإنسانية. ويعتقدون بأنّ جميع الظواهر الجمالية الأدبية والشعرية ، والصناعات الجميلة ، والفن بمعناه الواقعي ، إنّما هو نتيجة هذه الغريزة وهذا الإحساس.

ومع هذا كيف يمكن أن يعمد قانون صحيح إلى خنق هذا الحس المتأصل والمتجذر في أعماق الروح الإنسانية ، ويتجاهل العواقب السيئة في حال عدم

٢٣

إشباعه بصورة صحيحة.

ولهذا لم يكتف في الإسلام بتجويز التمتع بجمال الطبيعة والاستفادة من الألبسة الجميلة والمناسبة ، واستعمال كل أنواع العطور ، وما شابه ذلك ، بل أوصى بذلك وحثّ عليه أيضا ، ورويت في هذا المجال أحاديث كثيرة عن أئمّة الدين في المصادر والكتب الموثوقة.

فإننا نقرأ ـ مثلا ـ في تاريخ حياة الإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام أنّه عند ما كان ينهض إلى الصلاة كان يرتدي أحسن ثيابه ، ولما سئل : لماذا يلبس أحسن ثيابه؟ قال : «إنّ الله جميل يحبّ الجمال ، فأتجمل لربّي وهو يقول : خذوا زينتكم عند كل مسجد»(1) .

وفي الحديث أنّ أحد الزهاد ، ويدعى عباد بن كثير البصري ، رأى الإمام الصادقعليه‌السلام وهو يلبس ثيابا غالية الثمن فقال معترضا عليه : يا أبا عبد الله ، إنّك من أهل بيت نبوة وكان أبوك وكان ، فما لهذه الثياب المزينة عليك؟ فلو لبست دون هذه الثياب. فقال له أبو عبد اللهعليه‌السلام : «ويلك ـ يا عباد ـ من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيّبات من الرّزق؟»(2) .

وأحاديث أخرى.

إنّ هذا التعبير ، أي أنّ الله جميل يحب الجمال ، أو أنّ الله مصدر الجمال إشارة إلى هذه الحقيقة ، وهي : أنّ الاستفادة من كل نوع من أنواع الزينة والجمال لو كان ممنوعا لما خلق الله تلك الزينة أبدا ، إنّ خلق الأشياء الجميلة في عالم الوجود دليل على أنّ خالقها يحبّ الجمال.

ولكن المهم هنا أنّ الناس يسلكون ـ غالبا ـ في مثل هذه المواضيع طريق الإفراط والمبالغة ، ويعمدون إلى الترف بمختلف الحجج والمعاذير.

__________________

(1) الوسائل ، المجلد الثالث ، أبواب أحكام الملابس.

(2) الوسائل ، أبواب أحكام الملابس الباب 7 ، ح 3.

٢٤

ولهذا يعمد القرآن الكريم فورا وبعد ذكر هذا الحكم الإسلامي ـ كما أسلفنا ـ إلى تحذير المسلمين من الإسراف والإفراط والمبالغة في الاستفادة من هذه الأمور ، ففي أكثر من عشرين موضعا من القرآن الكريم يشير إلى مسألة الإسراف ويذمّه بشدّة (وقد تحدثنا بإسهاب حول الإسراف في تفسير الآيات المناسبة).

وعلى كل حال ، فإنّ أسلوب القرآن الكريم والإسلام في هذا الصعيد أسلوب يتسم بالتوازن والاعتدال ، فلا جمود فيه يقمع الرغبات المودعة في الروح الإنسانية إلى الجمال ، ولا هو يؤيد مسلك المسرفين المتطرفين وذوي البطنة والجشع في التمتع بالزينة والجمال.

بل هو ينهي حتى عن التزين والتجمل المعتدل في المجتمعات التي يعيش فيها محرومين مساكين ، ولهذا نلاحظ في بعض الرّوايات والأحاديث أنّه عند ما يسأل أحد الأئمّة : لماذا يلبس ثيابا فاخرة ، وقد كان جدّه لا يلبس مثل هذه الثياب؟ فيجيب الإمامعليه‌السلام قائلا : «إنّ على بن أبي طالبعليه‌السلام كان في زمان ضيق فإذا اتّسع الزمان فأبرار الزّمان أولى به»(1) .

توصية صحية هامّة :

إنّ عبارة( كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا ) التي جاءت في الآية الحاضرة ، وإن كانت تبدو للنظر أمرا بسيطا جدّا ، إلّا أنّه ثبت اليوم أنّه واحد من أهم الأوامر والتعاليم الصحيحة ، وذلك لأنّ تحقيقات العلماء توصلت إلى أنّ منبع الكثير من الأمراض والآلام هو الأطعمة الإضافية الزائدة التي تبقي في بدن الإنسان إنّ هذه المواد الإضافية تشكل من جانب عبئا ثقيلا على القلب وغيره من أجهزة الجسم ، وهي من جانب آخر منبع مهيّأ لمختلف أنواع العفونات والأمراض ، ولهذا فإنّ

__________________

(1) الوسائل ، ج 3 ، أبواب الملابس الباب 7 ، ح 11.

٢٥

الخطوة الأولى لعلاج الكثير من الأمراض هو أن تحترق هذه المواد الزائدة التي تمثل ـ في الحقيقة ـ فضلات الجسم ، وتتم عملية تطهير الجسم منها عمليا.

إنّ العامل الأصل في وجود هذه المواد الزائدة هو الإسراف ، والإفراط في الأكل والبطنة ، والطريق إلى تجنب هذه الحالة ليس إلّا رعاية الاعتدال في الأكل ، وخاصّة في عصرنا هذا الذي كثرت فيه أمراض مختلفة مثل السكري ، وتصلب الشرايين ، وأنواع السكتة ، وما شابه ذلك من الأمراض التي يعدّ الإفراط في الأكل مع عدم الحركة البدنية بالمقدار الكافي أحد العوامل الاساسية لها ، وليس هناك من سبيل لإزالة هذه الأمراض وتجنبها إلّا الحركة البدنية الكافية ، والاعتدال في المأكل والمشرب.

وقد نقل المفسّر الكبير العلامة «الطبرسي» في «مجمع البيان» قصة رائعة في هذا المجال وهي أنّه : حكي أنّ هارون الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق ، فقال ذات يوم لعلي بن الحسين بن واقد : ليس في كتابكم من علم الطب شيء ، والعلم علمان : علم الأديان ، وعلم الأبدان.

فقال له علي : قد جمع الله الطب كلّه في نصف آية من كتابه وهو قوله :( كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا ) وجمع نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الطب في قوله : «المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء ، وأعط كل بدن ما عودته».

فقال الطبيب : ما ترك كتابكم ولا نبيّكم لجالينوس طبّا(1) .

فمن كان يظن أنّ هذه التوصية سطحية ، فما عليه إلّا أن يجرّبها في حياته كما يدرك أهميتها ويسبر غورها ، ويشاهد المعجزة في سلامة الجسم برعاية هذا الدّستور الصحي.

* * *

__________________

(1) مجمع البيان ، المجلد 4 ، ص 413.

٢٦

الآية

( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33) )

التّفسير

المحرمات الإلهية :

لقد شاهدنا مرارا أنّ القرآن الكريم كلّما تحدث عن أمر مباح أو لازم ، تحدث فورا عن ما يقابله ، من الأمور القبيحة والمحرمات ، ليكمّل كلّ واحد منهما الآخر.

وهنا أيضا تحدّث ـ عقيب السماح بالتمتع والاستفادة من المواهب الإلهية وإباحة كل ما هو زينة وجمال ـ عن المحرمات على نحو العموم ، ثمّ أشار بصورة خاصّة إلى عدة نقاط مهمّة.

ففي البداية تحدث عن تحريم الفواحش وقال : يا أيّها النّبى( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ) .

و «الفواحش» جمع «فاحشة» وتعني الأعمال القبيحة البالغة في القبح

٢٧

والسوء لا جميع الذنوب ، ولعلّ التأكيد على هذا المطلب (ما ظهر منها وما بطن) هو لأجل أنّ العرب الجاهليين كانوا لا يستقبحون عمل الزنا إذا أتي به سرّا ، ويحرّمونه إذا كان ظاهرا مكشوفا.

ثمّ إنّه عمّم الموضوع ، وأشار إلى جميع الذنوب وقال «والإثم» أي كل إثم. والإثمّ في الأصل يعني كل عمل مضرّ ، وكل ما يوجب انحطاط مقام الإنسان وتردّي منزلته ، ويمنعه ويحرمه من نيل الثواب والأجر الحسن. وعلى هذا يدخل كل نوع من أنواع الذنوب في المفهوم الواسع للإثم.

ولكن بعض المفسّرين أخذوا الإثمّ هنا فقط بمعنى «الخمر» واستدلوا لذلك بالشعر المعروف.

شربت الإثمّ حتى ضلّ عقلي

كذاك الإثمّ يصنع بالعقول(1)

ولكنّ الظاهر أنّ هذا المعنى ليس هو تمام مفهوم الكلمة ، بل أحد مصاديقه.

ومرّة أخرى يشير بصورة خاصّة إلى عدد من كبريات المعاصي والآثام ، فيقول :( وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ ) أي كل نوع من أنواع الظلم ، والتجاوز على حقوق الآخرين.

و «البغي» يعني السعي والمحاولة لتحصيل شيء ، ولكن يراد منه غالبا الجهود المبذولة لغصب حقوق الآخرين ، ولهذا يكون مفهومه ـ في الغالب ـ مساويا لمفهوم الظلم.

ومن الواضح أنّ وصف «البغي» في الآية المبحوثة بوصف «غير الحق» من قبيل التوضيح والتأكيد على معنى «البغي».

ثمّ أشار تعالى إلى مسألة الشرك وقال :( وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً ) فهو أيضا محرّم عليكم.

__________________

(1) التبيان عند تفسير الآية المبحوثة ، وتاج العروس مادة «إثم».

٢٨

ومن الواضح أنّ جملة( ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً ) للتأكيد ، ولإلفات النظر إلى حقيقة أنّ المشركين لا يملكون أي دليل منطقي وأي برهان معقول ، وكلمة «السلطان» تعني كل دليل وبرهان يوجب تسلّط الإنسان وانتصاره على من يخالفه.

وآخر ما يؤكّد عليه من المحرمات هو نسبة شيء لم يستند إلى علم الله( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) .

ولقد بحثنا حول القول على الله بغير علم عند تفسير الآية (28) من نفس هذه السورة أيضا.

ولقد أكّد في الآيات القرآنية والأحاديث الإسلامية على هذه المسألة كثيرا ، ومنع المسلمون بشدة عن قول ما لا يعلمون إلى درجة أنّه روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من أفتى بغير علم لعنته ملائكة السماوات والأرض».(1)

ولو أنّنا أمعنا النظر ودققنا جيدا في أوضاع المجتمعات البشرية ، والمصائب والمتاعب التي تعاني منها تلكم المجتمعات ، لعرفنا أنّ القسط الأكبر من هذا الشقاء ناشئ من بث الشائعات ، والقول بغير علم ، والشهادة بغير الحق ، وإبداء وجهات نظر لا تستند إلى برهان أو دليل.

* * *

__________________

(1) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ، طبقا لرواية تفسير نور الثقلين ، المجلد الثّاني ، الصفحة 26.

٢٩

الآية

( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) )

التّفسير

لكلّ أمّة أجل :

في هذه الآية يشير الله تعالى إلى واحدة من سنن الكون والحياة ، يعني فناء الأمم وزوالها ، ويلقي ضوءا أكثر على الأبحاث التي تتعلق بحياة أبناء البشر على وجه الأرض ومصير العصاة ، التي سبق الحديث عنها في الآيات السابقة.

فيقول أوّلا :( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ) .

ثمّ يشير إلى أنّ هذا الأجل لا يتقدم ولا يتأخر إن جاء( فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) .

أي أنّ الأمم والشعوب مثل الأفراد ، لها موت وحياة ، وأنّ الأمم تندثر وينمحي أثرها من على وجه الأرض ، وتحل مكانها أمم أخرى ، وإنّ سنّة الموت وقانون الفناء لا يختصان بأفراد الإنسان ، بل تشمل الجماعات والأقوام والأمم أيضا ، مع فارق وهو أنّ موت الشعوب والأمم يكون ـ في الغالب ـ على أثر

٣٠

انحرافها عن جادة الحق والعدل ، والإقبال على الظلم والجور ، والانغماس في بحار الشهوات ، والغرق في أمواج الإفراط في التجمل والرفاهية.

فعند ما تسلك الأمم في العالم هذه المسالك وتنحرف عن سنن الكون وقوانين الخلقة ، تفقد مصادرها الحيوية الواحد تلو الآخر ، وتسقط في النهاية.

إنّ دراسة زوال مدنيات كبرى ، مثل حضارة بابل ، وفراعنة مصر ، وقوم سبأ ، والكلدانيين والآشوريين ، ومسلمي الأندلس وأمثالها ، توضح الحقيقة التالية ، وهي أنّه لدى صدور الأمر بزوال هذه المدنيات والحضارات الكبرى إثر بلوغ الفساد أوجه فيها لم تستطع حكوماتها أن تحفظ أسسها المتزعزعة حتى ساعة واحدة.

ويجب الالتفات إلى أنّ «الساعة» في اللغة تعني أصغر وحدة زمنية ، فربّما تكون بمعنى لحظة ، وربّما تكون بمعنى أقل قدر من الزمن ، وإن كانت الساعة تعني في عرفنا الحاضر اليوم مدة واحد من أربع وعشرين ساعة في اليوم.

الرد على خطأ :

رأت بعض المذاهب المختلفة التي ظهرت في القرون الأخيرة بغية الوصول إلى أهدافها ، أن تزعزع ـ بظنها ـ قبل أي شيء أسس خاتمية رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولهذا تمسكت ببعض الآيات القرآنية التي لا تدل على هدفها ، وبمعونة من تفسيرها بالرأي ، وشيء من المغالطة والسفسطة للتدليل على مقصودها.

ومن تلك الآيات الآية المبحوثة هنا. فقالوا : إنّ القرآن يصرّح بأنّ لكل أمّة أجلا ونهاية ، والمراد من الأمّة الدين والشريعة ، ولهذا فإنّ للدّين الإسلامي أمدا ونهاية أيضا!.

إنّ أفضل الطرق لتقييم هذا الاستدلال هو أن ندرس المعنى الواقعي للفظة

٣١

الأمّة في اللغة ، ثمّ في القرآن الكريم.

يستفاده من كتب اللغة ، وكذا من موارد استعمال هذه اللفظة في القرآن الكريم ، والتي تبلغ 64 موضعا ، إنّ الأمّة في الأصل تعني الجماعة.

فمثلا في قصة موسى نقرأ هكذا :( وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ) (1) أي يمتحون الماء من البئر لأنفسهم ولأنعامهم.

وكذا نقرأ في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ) (2) .

كما نقرأ أيضا :( وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ ) (3) . والمعنيون بالأمّة هم أهالي مدينة إيلة من بني إسرائيل.

ونقرأ حول بني إسرائيل :( وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً ) (4) .

من هذه الآيات يتّضح جيدا أنّ الأمّة تعني الجماعة ، ولا تعني الدين ، ولا أتباع الدين ، ولو أنّنا لا حظنا استعمالها في أتباع الدين ، فإنّما هو بلحاظ أنّهم جماعة.

وعلى هذا الأساس يكون معنى الآية المبحوثة هنا هو أنّ لكل جماعة من الجماعات البشرية نهاية ، فليس آحاد الناس هم الذين يموتون ، وتكون لأعمارهم آجال وآماد فحسب ، بل الأمم هي الأخرى تموت ، وتتلاشى وتنقرض.

وأساسا لم تستعمل لفظة الأمّة في الدين أبدا ، ولهذا فإنّ الآية لا ترتبط بمسألة الخاتمية مطلقا.

* * *

__________________

(1) القصص ، 23.

(2) آل عمران ، 104.

(3) الأعراف ، 164.

(4) الأعراف ، 160.

٣٢

الآيتان

( يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36) )

التفسير

تعليم آخر لأبناء آدم :

مرّة أخرى يخاطب الله سبحانه أبناء آدم وذريّته ، إذ يقول :( يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (1) أي إذا أتاكم رسلي يتلون عليكم آياتي فاتّبعوهم ، لأنّ من اتّقى منكم واتبعهم وأصلح نفسه والآخرين كان في أمن من عذاب الله الأليم ، فلا يخاف ولا يحزن.

وفي الآية اللاحقة يضيف سبحانه وتعالى قائلا :( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) .

__________________

(1) «أمّا» مركبة في الأصل من «أن» ، و «ما» و «إن» حرف شرط و «ما» حرف للتأكيد.

٣٣

فتلك عاقبة المؤمنين ، وهذه عاقبة المكذبين لهم.

رد على سفسطة أخرى :

أقدم جماعة من مختلقي الأديان والمذاهب في العصور الأخيرة ـ على غرار ما قلنا في تفسير الآيات السابقة ـ على التمسك بطائفة من الآيات القرآنية بغية تعبيد الطريق لأهدافهم والتمهيد لتحقيقها ، وادعوا كونها دليلا على نفي خاتمية رسول الإسلام ، على حين لا ترتبط هذه الآيات بتلك المسألة قط.

ومن تلكم الآيات الآية الحاضرة ، فهم من دون أن يلاحظوا ما يسبقها وما يلحقها من الآيات قالوا : إن «يأتينّكم» فعل مضارع ، ويدلّ على أنّه من الممكن أن يبعث الله رسلا آخرين في المستقبل.

ولكن لو رجعنا إلى الوراء قليلا ، واستعرضنا الآيات التي تتحدث عن خلقة آدم وسكونته في الجنّة ، ثمّ إخراجه منها هو وزوجته. ولا حظنا أنّ المخاطبين في هذه الآيات ليسوا المسلمين ، بل مجموع البشر وجميع أبناء آدم ، لا تضح جواب هذه الشّبهة وردّ هذا الاستدلال ، لأنّه لا شك أنّه قد بعث لمجموع أبناء آدم رسل كثيرون ، جاء ذكر أسماء طائفة معتد بها في القرآن الكريم ، وجاء ذكر آخرين في كتب التواريخ.

غاية ما في الأمر أنّ هذا الفريق من مختلقي المذاهب والأديان ، تجاهلوا الآيات السابقة بغية إضلال الناس وخداعهم ، وقالوا : إنّ المخاطبين في هذه الآية هم خصوص المسلمين ، واستنتجوا من ذلك إمكان وجود رسل آخرين.

إنّ لأمثال هذه السفسطات نظائر كثيرة في السابق ، وبخاصّة في حالة الفصل بين آية وأخرى وجملة وأخرى ، والتغافل عن سوابق الآية ولواحقها ، فينتزعون منها مفهوما يوافق رغباتهم وإن كان يقابل المفهوم الواقعي للآية في الحقيقة.

* * *

٣٤

الآية

( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) )

التفسير

من هذه الآية فما بعد تتضمّن الآيات بيان أقسام مختلفة من المصير السيء الذي ينتظر المفترين والمكذبين لآيات الله تعالى ، وفي البداية تشير إلى كيفية حالهم عند الموت ، إذ تقول :( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ ) .

وكما أسلفنا ـ في سورة الأنعام في ذيل الآية 21 ـ لقد عرف «أظلم الناس» في عدّة آيات من القرآن الكريم بتعابير مختلفة ، ولكن الصفات التي ذكرت لهم تعود كلّهم إلى جذر واحد ، وهو الشرك وعبادة الأصنام وتكذيب آيات الله سبحانه. وفي الآية المبحوثة هنا ذكرت مسألة الافتراء على الله سبحانه كصفة بارزة من صفاتهم ، مضافا إلى صفة التكذيب بالآيات الإلهية.

٣٥

ونظرا إلى أنّ منشأ جميع أنواع الشقاء في نظر القرآن هو الشرك ، ورأس مال جميع السعادات هو التوحيد ، يتّضح لماذا يكون هؤلاء الضالون المضلون أظلم الناس. إنّ هؤلاء ظلموا أنفسهم كما ظلموا المجتمع الذي يقيمون فيه ، إنّهم يغرسون النفاق والتفرقة في كل مكان ، ويشكّلون سدّا ومانعا كبيرا في طريق وحدة الصفوف والتقدم والإصلاحات الواقعية(1) .

ثمّ إنّه تعالى يصف وضعهم عند الموت فيقول :( أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ ) . أي أنّ هؤلاء سيأخذون ما هو نصيبهم وما هو مقدر مكتوب لهم من النعم المختلفة ، حتى إذا استوفوا حظهم من العمر ، وانتهوا إلى آجالهم النهائية ، حينئذ تأتيهم ملائكتنا الموكلون بقبض أرواحهم.

والمراد من «الكتاب» هي المقدرات من النعم المختلفة التي قدرها الله تعالى لعباده في هذا العالم ، وإن احتمل بعض المفسّرين أن يكون المراد من الكتاب هو العذاب الإلهي ، أو ما هو أعمّ من المعنيين.

ولكن بالنظر إلى كلمة (حتى) التي تشير عادة إلى انتهاء الشيء ، يتّضح أنّ المراد هو فقط نعم الدنيا المتنوعة المختلفة التي لكل أحد فيها حظ ونصيب ، سواء المؤمن أو الكافر ، الصالح والطالح ، والتي تؤخذ عند الموت ، لا العقوبات الإلهية التي لا تنتهي بحلول الموت ، والتعبير بالكتاب عن هذه النعم والمقدرات إنّما هو لأجل شبهها بالأمور التي تخضع للتقسيم والأسهم وتكتب.

وعلى كل حال ، فإنّ عقوباتهم تبدأ منذ لحظة حلول الموت ، ففي البداية يواجهون التوبيخ وعتاب الملائكة المكلّفين بقبض أرواحهم ، فيسألونهم : أين معبوداتكم الّتي اتخذتموها من دون الله والتي طالما تحدثتم عنها ، وكنتم

__________________

(1) لمزيد من التوضيح راجع تفسير الآية (21) من سورة الأنعام.

٣٦

تسوقون إليها ثرواتكم سفها.( قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) .

فيجيبهم هؤلاء بعد أن يرون أنفسهم منقطعين عن كلّ شيء ، ويرون كيف تبددت جميع أوهامهم وتصوراتهم الخاطئة حول آلهتهم وذهبت أدراج الرياح ، قائلين : لا نرى منها أثرا وإنّها لا تملك أن تدافع عنّا ، وأنّ جميع ما فعلناه من العبادة لها كان عبثا وباطلا( قالُوا ضَلُّوا عَنَّا ) .

وهكذا يشهدون على أنفسهم بالكفر والضلال( وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ ) .

إنّ ظاهر المسألة وإن كان يوحي بأنّ الملائكة تسأل وأنّهم يجيبون ، ولكنّه في الحقيقة نوع من العقوبة النفسية لهم يلفتون بها نظرهم إلى الوضع المأساوي الذي يصيبهم من جراء أعمالهم ، ويرونهم كيف ضلوا وتاهوا في المتاهات والضلالات مدة طويلة من العمر ، وضيّعوا كل رؤوس أموالهم الثمينة دون جدوى دون أن يحصدوا منها حصيلة مسرّة مشرّفة في حين أغلق في وجههم طريق العودة ، وهذا هو أوّل سوط جهنّمي من سياط العقوبة الإلهية التي تتعرض لها أرواحهم.

* * *

٣٧

الآيتان

( قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) )

التفسير

تنازع القادة والاتباع في جهنم!

في هذه الآية يواصل القرآن الكريم بيان المصير المشؤوم للمكذبين بآيات الله.

ففي الآيات السابقة صور لنا وضعهم عند حلول الموت ، وسؤال الملائكة القابضة للأرواح لهم ، وهنا يرسم لنا ما يجري بين الجماعات المظلّة والغاوية ، وبين من تعرضوا للإغواء في يوم القيامة.

ففي يوم القيامة يقول الله لهم : التحقوا بمن يشابهكم من الجن والإنس ممن

٣٨

سبقوكم ، وذوقوا نفس مصيرهم النّار( قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ ) .

إنّ هذا الأمر يمكن أن يكون بشكل أمر تكويني ، يعني أن يجعلهم جميعا في مكان واحد ، أو يكون شبيها بأمر تشريعي يصدر إليهم يسمعونه بآذانهم ، ويكونون مجبورين على إطاعته.

وعند ما يدخل الجميع في النّار تبدأ مصادماتهم مع زملائهم وأشباههم في المسلك ، وهي مصادمات عجيبة ، فكلّما دخلت جماعة منهم في النّار لعنت الأخرى واعتبرتها سببا لشقائها ومسئولة عن بلائها ومحنتها( كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها ) (1) .

ولعلنا قلنا مرارا : إنّ ساحة القيامة وما يجري فيها انعكاس واسع وكبير لمجريات هذه الدنيا. فلطالما رأينا في هذا العالم الجماعات والفرق والأحزاب المنحرفة تلعن إحداها الأخرى ، وتبدي تنفرها منها. على العكس من أنبياء الله ، والمؤمنين الصالحين ، والمصلحين الخيّرين ، فإنّ كل واحد منهم يؤيّد برنامج الآخر ، ويعلن عن ارتباطه به واتحاده معه في الأهداف والغايات.

إلّا أنّ الأمر لا ينتهي إلى هذا الحدّ ، بل عند ما يستقر الجميع ـ بمنتهى الذلّة والصغار ـ في الجحيم والعذاب الأليم ، تبدأ كل واحدة منها برفع شكايتها إلى الله من الأخرى.

ففي البداية يبدأ المخدوعون المغرّر بهم بعرض شكايتهم ، وحيث أنّهم لا يجدون مناصا ممّا هم فيه يقولون : ربّنا إنّ هؤلاء المغوين هم الذين أضلونا وخدعونا ، فضاعف يا ربّ عذابهم ، عذابا لضلالهم وعذابا لإضلالهم إيّانا. وهذا هو ما يتضمّنه قوله تعالى :( حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ

__________________

(1) التعبير بالأخت كناية عن الارتباط الفكري والصلة الروحية بين هذه الفرق المنحرفة ، وحيث أن الأمة مؤنث لفظي ، لهذا عبر عنها بالأخت ، لا الأخ.

٣٩

رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ ) .

ولا شك أنّ هذا الطلب منطقي ومعقول جدّا ، بل إنّ المضلين سينالون ضعفا من العذاب حتى من دون هذا الطلب ، لأنّهم يتحملون مسئولية انحراف من أضلوا أيضا دون أن ينقص من عذابهم شيء ، ولكن العجيب هو أن يقال لهم في معرض الإجابة على طلبهم : سيكون لكلتا الطائفتين ضعفان من العذاب وليس للمضلين فقط( قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ ) .

ومع الإمعان والدقة يتّضح لماذا ينال المخدوعون المضللون ضعفا من العذاب أيضا ، لأنّه لا يستطيع أئمّة الظلم والجور ورؤوس الانحراف والضلال أن ينفذوا لوحدهم برامجهم ، بل هؤلاء الأتباع المعاندون المتعصبون لأسيادهم هم الذين يمدون قادة الضلال ورؤوس الانحراف بالقوّة والمدّد الذي يوصلهم إلى أهدافهم الشريرة ، وعلى هذا الأتباع يجب أن ينالوا ضعفا من العذاب أيضا ، عذابا لضلالهم هم ، وعذابا لمساعدتهم للظالمين وإعانتهم قادة الانحراف.

ولهذا نقرأ في حديث معروف عن الإمام الكاظمعليه‌السلام حول أحد شيعته يدعى صفوان ، حيث نهاه عن التعاون مع هارون الرشيد قائلا : «يا صفوان كلّ شيء منك حسن جميل ما خلا شيئا واحدا».

قلت : جعلت فداك أي شيء؟

قالعليه‌السلام إكراؤك جمالك من هذا الرجل (هارون الرشيد العباسي).

قلت : والله ما أكريته أشرا ولا بطرا ولا للصيد ولا للهو ، ولكنّي أكريته لهذا الطريق (يعني طريق مكّة) فقال ليعليه‌السلام : يا صفوان أيقع كراؤك عليهم؟ قلت : نعم جعلت فداك.

فقال لي : أتحبّ بقاءهم حتى يخرج كراؤك. قلت : نعم.

٤٠