الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245349 / تحميل: 6213
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

وبالرغم من أن الله فتح أمامهم أبواب الرحمة ، ولو أردوا اغتنام الفرصة لاستطاعوا حتما إصلاح ماضيهم وحاضرهم ، ولكن لم يغتنم الظالمين من بني إسرائيل هذه الفرصة فحسب ، بل بدّلوا أمر الله ، وقالوا خلاف ما أمروا أن يقولوه :( فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ) .

وفي المآل نزل عليهم بسبب هذا الطغيان والظلم للنفس وللآخرين عذاب من السماء( فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ ) .

ويجب الانتباه إلى أنّ مضمون هاتين الآيتين جاء أيضا ـ مع فارق بسيط ـ في سورة البقرة الآية (58) و (59) وقد أوردنا تفسيرا أكثرا تفصيلا هناك.

والفرق الوحيد بين هذه الآيات المبحوثة هنا ، وآيات سورة البقرة هو أنّه يقول هنا :( بِما كانُوا يَظْلِمُونَ ) ، وقال هناك :( بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) ، ولعل الفارق بين هذين إنما هو لأجل أن الذنوب لها جانبان : أحدهما الجانب المرتبط بالله ، والجانب الآخر مرتبط بنفس الإنسان. وقد أشار القرآن إلى الجانب الأوّل في آية سورة البقرة بعبارة «الفسق» الذي مفهومه الخروج عن طاعة الله ، وإلى الثّاني في الآية الحاضرة بعبارة «الظلم».

ما هي «حطّة» وماذا تعني؟

الجدير بالذكر أن بني إسرائيل كانوا مكلّفين بأن يطهروا قلوبهم وأرواحهم عند دخولهم بيت المقدس من أدران الذنوب بتوبة خالصة وواقعية تتلخص في كلمة «حطّة» وأن يطلبوا من الله المغفرة لكل تلك الجرائم التي ارتكبوها ، وبخاصّة ما آذوا به نبيّهم العظيم موسى بن عمران قبل ورودهم بيت المقدس.

وكلمة «حطّة» التي كانت ـ في الحقيقة ـ شعارهم عند دخولهم بيت المقدس ، هي صورة اختصارية لعبارة «مسألتنا حطّة» يعني نطلب منك يا ربّ أن تحطّ عنّا ذنوبنا بإنزال شآبيب الرحمة والعفو علينا ، لأنّ «حطّة» معناها إنزال

٢٦١

الشيء من علو وهذا الشعار شأنه شأن جميع الشعارات الأخرى لا يكفي فيه أن يكون مجرّد لقلقة لسان ، بل يجب أن يكون اللسان ترجمان الروح ومرآة الوجدان ، ولكنّهم ـ كما سيأتي في الآية اللاحقة ـ مسخوا كثيرا من تلك الشعارات حتى هذا الشعار التربوي ، وجعلوه وسيلة للهو والاستهزاء والسخرية.

* * *

٢٦٢

الآيات

( وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166) )

التّفسير

قصّة فيها عبرة :

في هذه الآيات يستعرض مشهدا آخر من تاريخ بني إسرائيل الزاخر بالحوادث ، وهو مشهد يرتبط بجماعة منهم كانوا يعيشون عند ساحل بحر. غاية ما في الأمر أن الخطاب موجه فيها إلى الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيقول له : اسأل يهود

٢٦٣

عصرك حول تلك الجماعة ، يعني جدّد هذه الخاطرة في أذهانهم عن طريق السؤال ليعتبروا بها ، ويجتنبوا المصير والعقاب الذي ينتظرهم بسبب طغيانهم وتعنتهم.

إنّ هذه القصّة ـ كما أشير إليها في الأحاديث الإسلامية ـ ترتبط بجماعة من بني إسرائيل كانوا يعيشون عند ساحل أحد البحار (والظاهر أنّه ساحل البحر الأحمر المجاور لفلسطين) في ميناء يسمى بميناء «أيلة» (والذي يسمى الآن بميناء ايلات) وقد أمرهم الله تعالى على سبيل الاختبار والامتحان أن يعطّلوا صيد الأسماك في يوم السبت ، ولكنّهم خالفوا هذا التعليم ، فأصيبوا بعقوبة موجعة مؤلمة نقرأ شرحها في هذه الآيات.

في البداية تقول الآية :( وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ ) . أي اسأل يهود عصرك عن قضية القرية التي كانت تعيش على ساحل البحر.

ثمّ تقول : وذكّرهم كيف أنّهم تجاوزوا ـ في يوم السبت ـ القانون الإلهي( إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ ) لأنّ يوم السبت كان يوم عطلتهم ، وكان عليهم أن يكفوا فيه عن الكسب ، وعن صيد السمك ويشتغلوا بالعبادة ، ولكنّهم تجاهلوا هذا الأمر.

ثمّ يشرح القرآن العدوان المذكور بالعبادة التالية :( إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً ) فالأسماك كانت تظهر على سطح الماء في يوم السبت ، بينما كانت تختفي في غيره من الأيّام.

و «السبت» في اللغة تعني تعطيل العمل للاستراحة ، وما نقرؤه في سورة النبأ( وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً ) أشارة ـ كذلك ـ إلى هذا الموضوع ، وسمّى «يوم السبت» بهذا الاسم لأنّ الأعمال العادية والمشاغل كانت تتعطل في هذا اليوم ، ثمّ بقي هذا الاسم لهذا اليوم علما له.

ومن البديهي أنّ صيد الأسماك يشكّل لدى سكنة ساحل البحر مورد كسبهم وتغذيتهم ، وكأنّ الأسماك بسبب تعطيل عملية الصيد في يوم السبت صارت

٢٦٤

تحس بنوع من الأمن من ناحية الصيادين ، فكانت تظهر على سطح الماء أفواجا أفواجا ، بينما كانت تتوغل بعيدا في البحر في الأيّام الأخرى التي كان الصيّادون فيها يخرجون للصيد.

إنّ هذا الموضوع سواء كان له جانب طبيعي عادي أم كان له جانب استثنائي وإلهي ، كان وسيلة لامتحان واختبار هذه الجماعة ، لهذا يقول القرآن الكريم : وهكذا اختبرناهم بشيء يخالفونه ويعصون الأمر فيه( كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) .

وجملة( بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) إشارة إلى أنّ اختبارهم كان بما من شأنه أن يجذبهم ويدعوهم إلى نفسه ، وإلى المعصية والمخالفة ، وجميع الاختبارات كذلك ، لأن الاختبار يجب أن يبيّن مدى مقاومة الأشخاص أمام جاذبية المعاصي والذنوب.

عند ما واجهت هذه الجماعة من بني إسرائيل هذا الامتحان الكبير الذي كان متداخلا مع حياتهم تداخلا كاملا ، انقسموا إلى ثلاث فرق :

«الفريق الأوّل» وكانوا يشكّلون الأكثرية ، وهم الذين خالفوا هذا الأمر الإلهي.

«الفريق الثّاني» وكانوا على القاعدة يشكلون الأقلية ، وهم الذين قاموا ـ تجاة الفريق الأوّل بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

«الفريق الثّالث» وهم الساكتون المحايدون الذين لم يوافقوا العصاة ، ولا قاموا بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وفي الآية الثّانية من الآيات المبحوثة هنا يشرح الحوار الذي دار بين العصاة ، وبين الذين نهوهم عن ارتكاب هذه المخالفة فيقول :( وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ

٢٦٥

مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً ) (1) .

فأجابهم الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر : بأنّنا ننهى عن المنكر لأنّنا نؤدي واجبنا تجاه الله تعالى ، وحتى لا نكون مسئولين تجاهه ، هذا مضافا إلى أنّنا نأمل أن يؤثر كلامنا في قلوبهم ، ويكفوا عن طغيانهم وتعنتهم( قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) .

ويستفاد من الجملة الحاضرة أنّ هؤلاء الواعظين كانوا يفعلون ذلك بهدفين : الأوّل : أنّهم كانوا يعظون العصاة حتى يكونوا معذورين عند الله.

والآخر : عسى أن يؤثروا في نفوس العصاة ، ويفهم من هذا الكلام أنّهم حتى مع عدم احتمال التأثير ، فإنّهم كانوا لا يحجمون عن الوعظ والنصيحة في حين أن المعروف هو أن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشروطين باحتمال التأثير.

ولكن لا بدّ من الانتباه إلى أنّه ربّما يجب بيان الحقائق والوظائف الإلهية حتى مع عدم احتمال التأثير ، وذلك عند ما يكون عدم بيان الأحكام الإلهية ، وعدم إنكار المنكر سببا لتناسي وتنامي البدع ، وحينما يعدّ السكوت دليلا على الرضا والموافقة. ففي هذه الموارد يجب إظهار الحكم الإلهي في مكان حتى مع عدم تأثيره في العصاة والمذنبين.

إنّ هذه النقطة جديرة بالالتفات ، وهي أنّ الناهين عن المنكر كانوا يقولون : نحن نريد أن نكون معذورين عند (ربّكم) وكأنّ هذا إشارة إلى أنّكم أيضا مسئولون أمام الله ، وإنّ هذه الوظيفة ليست وظيفتنا فقط ، بل هي وظيفتكم تجاه ربّكم في الوقت ذاته.

__________________

(1) التعبير بـ «أمّة منهم» يكشف عن أن الفريق الثّاني كانوا أقلّ من العصاة ، لأنّه عبّر عنهم بلفظة «قوما» بدون كلمة منهم) وتقرأ في بعض الآيات أنّ عدد نفوس هذه المدينة كان ثمانين ألف وبضعة آلاف ، وقد ارتكب 70 ألفا منهم هذه المعصية (راجع تفسير البرهان ، المجلد الثّاني ، الصفحة 42).

٢٦٦

ثمّ إنّ الآية اللاحقة تقول : وفي المآل غلبت عبادة الدنيا عليهم ، وتناسوا الأمر الإلهي ، وفي هذا الوقت نجينا الذين كانوا ينهون عن المنكر ، وعاقبنا الظالمين بعقاب أليم منهم بسبب فسقهم وعصيانهم( فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) (1) .

ولا شك أنّ هذا النسيان ليس نسيانا حقيقيا غير موجب للعذر ، بل هو نوع من عدم الاكتراث والاعتناء بأمر الله ، وكأنّه قد نسي بالمرّة.

ثمّ يشرح العقوبات هكذا :( فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ ) (2) .

وواضح أن أمر «كونوا» هنا أمر تكويني مثل :( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (3) .

* * *

بحوث

وهنا نقاط عديدة يجب الالتفات إليها :

1 ـ كيف ارتكبوا هذه المعصية؟

وأمّا كيف بدأت هذه الجماعة عملية التجاوز على هذا القانون الإلهي؟ فقد وقع فيه كلام بين المفسّرين.

__________________

(1) بئيس مشتقة من مادة «بأس» يعني الشديد.

(2) «عتوا» من مادة عتّو على وزن «غلوّ» بمعنى الامتناع عن طاعة أمر ، وما ذكره بعض المفسّرين من تفسيره بمعنى الامتناع فقط يخالف ما قاله أرباب اللغة.

(3) سورة يس ، 28.

٢٦٧

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّهم عمدوا في البداية إلى ما يسمى بالحيلة الشرعية ، فقد أحدثوا أحواضا إلى جانب البحر ، وفتحوا لها أبوابا إلى البحر ، فكانوا يفتحون هذه الأبواب في يوم السبت فتقع فيها أسماك كثيرة مع ورود الماء إليها ، وعند الغروب حينما كانت الأسماك تريد العودة إلى البحر يوصدون تلك فتحبس الأسماك في تلك الأحواض ، ثمّ يعمدون في يوم الأحد إلى صيدها ، وأخذها من الأحواض ، وكانوا يقولون : إنّ الله أمرنا أن لا نصيد السمك ، ونحن لم نصد الأسماك إنّما حاصرناها فقط(1) .

ويقول بعض المفسّرين : إنّهم كانوا يرسلون كلاليبهم وصناراتهم وشباكهم في البحر يوم السبت ، ثمّ يسحبونها يوم الأحد وقد علقت بها الأسماك ، وهكذا كانوا يصيدون السمك حتى في يوم السبت ولكن بصورة ما كرة.

ويظهر من بعض الرّوايات الأخرى أنّهم كانوا يصيدون السمك يوم السبت من دون مبالاة بالنهي الإلهي ، وليس بواسطة أية حيلة.

ولكن من الممكن أن تكون هذه الرّوايات صحيحة بأجمعها وذلك أنّهم في البداية استخدموا ما يسمى بالحيلة الشرعية ، وذلك بواسطة حفر أحواض إلى جانب البحر ، أو إلقاء الكلاليب والصنارات ، ثمّ لما صغرت هذه المعصية في نظرهم ، جرأهم ذلك على كسر احترام يوم السب وحرمته ، فأخذوا يصيدون السمك في يوم السبت تدريجا وعلنا ، واكتسبوا من هذا الطريق ثروة كبيرة جدا.

2 ـ من هم الذين نجوا؟

الظاهر من الآيات الحاضرة أنّ فريقا واحدا من الفرق الثلاثة (العصاة ، المتفرجون ، الناصحون) هو الذي نجى من العذاب الإلهي وهم افراد الفريق

__________________

(1) تفسير البرهان ، المجلد 2 ، الصفحة 22 ، وقد روي هذا الكلام عن ابن عباس في تفسير مجمع البيان في ذيل الآية.

٢٦٨

الثّالث.

وكما جاء في الرّوايات ، فإنّه عند ما رأى هذا الفريق أن عظاته ونصائحه لا تجدي مع العصاة انزعجوا وقالوا : سنخرج من المدينة ، فخرجوا إلى الصحراء ليلا ، واتفق أن أصاب العذاب الإلهي كلا الفريقين الآخرين.

وأمّا ما احتمله بعض المفسّرين من أنّ العصاة هم الذين أصيبوا بالعذاب فقط ، ونجى الساكتون أيضا ، فهو لا يتناسب مع ظاهر الآيات الحاضرة.

3 ـ هل أنّ كلا الفريقين عوقبوا بعقاب واحد

يظهر من الآيات الحاضرة أنّ عقوبة المسخ كانت مقتصرة على العصاة ، لأنّه تعالى يقول :( فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْه ) ولكن من جانب آخر يستفاد من الآيات الحاضرة ـ أيضا ـ أنّ الناصحين الواعظين فقط هم الذين نجوا من العقاب ، لأنّه تعالى يقول :( أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ ) .

من مجموع هاتين الآيتين يتبيّن أنّ العقوبة نالت كلا الفريقين ، ولكن عقوبة المسخ اختصت بالعصاة فقط ، وأمّا عقوبة الآخرين فمن المحتمل أنّها كانت الهلاك والفناء ، بالرغم من أن العصاة أيضا هلكوا بعد مدّة من المسخ حسب ما جاء في هذا الصدد من الرّوايات.(1)

4 ـ هل المسخ كان جسمانيا أو روحانيا؟

«المسخ» أو بتعبير آخر «تغيير الشكل الإنساني إلى الصورة الحيوانية» ومن المسلّم أنّه حدث على خلاف العادة والطبيعة.

على أنّه قد شوهدت حالات جزئية من (موتاسيون) والقفزة ، وتغيير الشكل

__________________

(1) وإذا كان يستفاد من بعض الرّوايات خلاف هذا الموضوع ، فإنّه مضافا إلى أنّه لا يمكن الاعتماد عليه في مقابل ظاهر الآيات فإنّما ضعيفة من حيث السند أيضا ، ويحتمل أن يكون الراوي قد أخطأ في نقل الرواية.

٢٦٩

والصورة في الحيوانات إلى أشكال وصور أخرى ، وقد شكّلت أسس فرضية التكامل في العلوم الطبيعية الحاضرة.

ولكنّ الموارد التي شوهدت فيها ال «موتاسيون» والقفزة إنّما هي في صفات الحيوانات الجزئية ، لا الصفات الكليّة ، يعني أنّه لم يشاهد إلى الآن نوعا من أنواع الحيوان تغيّر على أثر ال «موتاسيون» إلى نوع آخر ، بل يمكن أن تتغير خصوصيات معينة من الحيوان ، ناهيك عن أنّ هذه التغييرات إنّما تظهر في الأجيال التي توجد في المستقبل ، لا أن يحصل هذا التغيير في الحيوان يتولد من أمّه.

وعلى هذا الأساس ، يكون تغير صورة إنسان أو حيوان إلى صورة نوع آخر أمرا خارقا للعادة.

ولكن تقدم أنّ هناك أمورا تحدث على خلاف العادة والطبيعة ، وهذه الأمور ربّما تقع في صورة المعاجز التي يأتي بها الأنبياء ، وأحيانا تكون في صورة الأعمال الخارقة للعادة التي تصدر من بعض الأشخاص ، وإن لم يكونوا أنبياء (وهي تختلف عن معاجز الأنبياء طبعا).

وبناء على هذا ، وبعد القبول بإمكان وقوع المعاجز وخوارق العادة ، لا مانع من مسخ صورة إنسان إلى إنسان آخر. ولا يكون ذلك مستحيلا تأباه العقول.

ووجود مثل هذه الخوارق للعادة ـ كما قلنا في مبحث إعجاز الأنبياء ـ لا هو استثناء وخرق لقانون العلية ، ولا هو خلاف العقل ، بل هو مجرّد كسر قضية «عاديّة طبيعيّة» في مثل هذه الموارد ، ولها نظائر رأيناها في الأشخاص غير العاديين(1) .

__________________

(1) لقد جمع أحد الكتّاب المعاصرين نماذج كثيرة ـ من مصادر موثوقة ـ لأشخاص من البشر أو حيوانات استثنائيّة ، ملفتة للنظر ومثيرة للعجب ، ومن جملة ذلك : إنسان يستطيع قراءة السطور بأصابعه ، أو امرأة وضعت مرتين في خلال شهرين ، وفي كل مرة ولدت ولدا ، أو طفلا كان قلبه خارج صدره ، أو امرأة لم تكن تعرف أنّها حامل حتى لحظة وضعها لوليدها ، وما شابه ذلك.

٢٧٠

بناء على هذا لا مانع من قبول «المسخ» على ما هو عليه في معناه الظاهري الوارد في الآية الحاضرة وبعض الآيات القرآنية الأخرى ، وأكثر المفسّرين قبلوا هذا التّفسير أيضا.

ولكن بعض المفسّرين ـ وهم الأقليّة ـ قالوا : إنّ المسخ هو «المسخ الروحاني» والانقلاب في الصفات الأخلاقية ، بمعنى ظهور صفات مثل صفات القرود أو الخنازير في الطغاة والمتعنتين ، مثل الإقبال على التقليد الأعمى والتوجه الشديد إلى البطنة والشهوة ، التي هي صفات بارزة لهذين الحيوانين. وهذا الاحتمال نقل عن أحد المفسّرين القدامى وهو مجاهد.

وما أخذه البعض على مسألة المسخ ، وأنّه خلاف التكامل ، وأنّه يوجب العودة والرجوع والتقهقر في الخلقة غير صحيح ، لأنّ قانون التكامل يرتبط بالذين يسيرون في طريق التكامل ، لا أولئك الذين انحرفوا عن مسيرة التكامل ، وخرجوا عن دائره هذا القانون.

فعلى سبيل المثال : الإنسان السليم ينمو نموا منتظما في أعوام الطفولة ، ولكنّه إذا حصلت في وجوده بعض النقائص ، فيمكن أن لا يتوقف الرشد والنمو فحسب ، بل يتقهقر ويفقد نموه الفكري والجسماني تدريجا.

ولكن يجب الانتباه على كل حال إلى أنّ المسخ والتبدل والتحول الجسماني يتناسب مع الأعمال التي قام بها الشخص ، يعني أنّ بعض العصاة يسلكون سبيل الطغيان تحت ضغط من دوافع الهوى والشهوة ، وجماعة أخرى تتلوث حياتهم بأدران الذنوب أثر التقليد الأعمى ، ولهذا يظهر المسخ في كل فريق من هذه الفرق بصورة متناسبة مع كيفية أعمالهم.

على أنّه قد جرى الحديث في الآيات الحاضرة فقط عن «القردة» ولم يجر أي حديث عن «الخنازير» ولكن في الآية (60) من سورة المائدة يدور الحديث حول جماعة مسخ بعضهم في صورتين (بعض قردة وبعض خنازير) وهذه الآية

٢٧١

حسبما قال بعض المفسّرين : نزلت حول أصحاب السبت ، فالكبار منهم الذين أطاعوا أمر الشهوة والبطن مسخوا خنازير ، والشباب المقلد لهم تقليدا أعمى وكانوا يشكلون الأكثرية مسخوا قردة.

ولكن على كل حال يجب الالتفات إلى أنّ الممسوخين ـ حسب الرّوايات ـ بقوا على هذه الحالة عدة أيّام ثمّ هلكوا ، ولم يتولد منهم نسل أبدا.

5 ـ المخالفة تحت غطاء الحيلة الشّرعية

إنّ الآيات الحاضرة وإن كانت لا تتضمّن الإشارة إلى تحايل أصحاب السبت في صعيد المعصية ، ولكن ـ كما أسلفنا ـ أشار كثير من المفسّرين في شرح هذه الآيات إلى قصّة حفر الأحواض ، أو نصب الصنارات في البحر في يوم السبت ، ويشاهد هذا الموضوع نفسه في الرّوايات الإسلامية ، وبناء على هذا تكون العقوبة الإلهية التي جرت على هذا الفريق ـ بشدة ـ تكشف عن أن الوجه الحقيقي للذنب لا يتغير أبدا بانقلاب ظاهره ، وباستخدام ما يسمى بالحيلة الشرعية ، فالحرام حرام سواء أتي به صريحا ، أو تحت لفافات كاذبة ، ومعاذير واهية.

إنّ الذين تصوروا أنّه يمكن بالتغيير الصوري تبديل عمل حرام إلى حلال يخدعون أنفسهم في الحقيقة ، ومن سوء الحظ أن هذا العمل رائج بين بعض الغفلة الذين ينسبون أنفسهم إلى الدين وهذا هو الذي يشوّه وجه الدين في نظر الغرباء عن الدين ، ويكرّهه إليهم بشدّة.

إن العيب الأكبر الذي يتسم به هذا العمل ـ مضافا إلى تشويه صورة الدين ـ هو أن هذا العمل التحايلي يصغر الذنب في الأنظار ويقلّل من أهميته وخطورته وقبحه ، ويجرّئ الإنسان في مجال الذنب إلى درجة أنّه يتهيأ شيئا فشيئا لارتكاب الذنوب والمعاصي بصورة صريحة وعلينة. فنحن نقرأ في نهج البلاغة

٢٧٢

أنّ الإمام عليّاعليه‌السلام قال : «إنّ القوم سيفتنون بأموالهم ، ويمنون بدينهم على ربّهم ، ويتمنون رحمته ، ويأمنون سطوته ، ويستحلّون حرامه بالشبهات الكاذبة والأهواء الساهية ، فيستحلّون الخمر بالنّبيذ(1) والسحت بالهدية ، والربا بالبيع» (الخطبة 156).

ويجب الانتباه إلى الدافع وراء أمثال هذه الحيل ، إمّا إلباس الباطن القبيح بلباس قشيب وإظهاره بمظهر حسن أمام الناس ، وإمّا خداع الضمير ، واكتساب طمأنينة نفسية كاذبة.

6 ـ أنواع الابتلاء الإلهي المختلفة

صحيح أنّ صيد السمك من البحر لسكان السواحل لم يكن مخالفة ، ولكن قد ينهي الله جماعة من الناس وبصورة مؤقّتة ، وبهدف الاختبار والامتحان عن مثل هذا العمل ، ليرى مدى تفانيهم ، ويختبر مدى إخلاصهم ، وهذا هو أحد أشكال الامتحان الإلهي.

هذا مضافا إلى أنّ يوم السبت كان عند اليهود يوما مقدسا ، وكانوا قد كلّفوا ـ احتراما لهذا اليوم بالتفرغ للعبادة وممارسة البرامج الدينية ـ والكف ـ عن الكسب والإشتغال بالأعمال اليومية ، ولكن سكان ميناء «أيلة» تجاهلوا كلّ هذه الاعتبارات والمسائل ، فعوقبوا معاقبة شديدة جعلت منهم ومن حياتهم المأساوية ومصيرهم المشؤوم درس وعبرة للأجيال اللاحقة.

* * *

__________________

(1) كان النبيذ عبارة عن وضع مقدار من التمر أو الشعير أو الزبيب في الماء ، عدّة أيّام ، ثمّ شربه وهذا وإن لم يكن حراما شرعا ، ولكنّه على أثر سخونة الهواء تتبدل المواد السكرية فيه إلى مواد كحولية خفيفة.

٢٧٣

الآيتان

( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) )

التّفسير

تفرق اليهود وتشتتهم :

هذه الآيات إشارة إلى قسم من العقوبات الدنيوية التي أصابت جماعة من اليهود خالفت أمر الله تعالى ، وسحقت الحق والعدل والصدق.

فيقول في البداية : واذكروا يوم أخبركم الله بأنّه سيسلّط على هذه الجماعة العاصية المتمردة فريقا يجعلها حليفة العذاب والأذى إلى يوم القيامة( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ ) .

و «تأذّن» و «أذّن» كلاهما بمعنى الإخبار والإعلام ، وكذا جاء بمعنى الحلف والقسم ، وفي هذه الصورة يكون معنى الآية أنّ الله تعالى أقسم بأن يكون مثل

٢٧٤

هؤلاء الأشخاص في العذاب إلى يوم القيامة.

ويستفاد من هذه الآية أنّ هذه الجماعة المتمردة الطاغية لن ترى وجه الاستقرار والطمأنينة أبدا ، وإن أسّست لنفسها حكومة وشيّدت دولة ، فإنّها مع ذلك ستعيش حالة اضطراب دائم وقلق مستمر ، إلّا أن تغيّر ـ بصدق ـ سلوكها ، وتكفّ عن الظلم والفساد.

وفي ختام الآية يضيف تعالى قائلا :( إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) فبالنسبة إلى الكفار سريع العقاب ، وبالنسبة للمذنبين التائبين التائبين غفور رحيم.

وهذه الجملة تكشف عن أنّ الله قد ترك الباب مفتوحا أمامهم حتى لا يظن أحد أنّه قد كتب عليهم المصير المحتوم والشقاء الابدي الذي لا خلاص منه.

وفي الآية اللاحقة يشير تعالى إلى تفرق اليهود في العالم فيقول :( وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ ) فهم متفرقون منقسمون على أنفسهم بعضهم صالحون ، ولهذا عند ما سمعوا بنداء الإسلام وعرفوا دعوة النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آمنوا به ، وبعضهم لم يكونوا كذلك بل ألقوا الحق وراءهم ظهريا ، ولم يرتدعوا عن معصية في سبيل ضمان مصالحهم وحياتهم المادية.

ومرّة أخرى تتجلى هذه الحقيقة في هذه الآية وهي أنّ الإسلام لا يعادي العنصر اليهودي ، ولا يشجبهم لكونهم أتباع دين معيّن ، أو منتمين إلى عنصر وعرق معيّن ، بل يجعل أعمالهم هي مقياس تقييمهم.

ثمّ يضيف تعالى قائلا :( وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) .

أي ربّما نكرمهم ونجعلهم في رفاه ونعمة حتى نثير فيهم روح الشكر ، ويعودوا إلى طريق الحق. وربّما نغرقهم في الشدائد والمصاعب والمصائب حتى ينزلوا عن مركب الغرور والأنانية والتكبر ، ويقفوا على عجزهم ، لعلهم يستيقظون

٢٧٥

ويعودون إلى الله ، والهدف في كلتا الحالتين هو التربية والهداية والعودة إلى الحق.

وعلى هذا الأساس تشمل «الحسنات» كل نعمة ورفاه واستقرار ، كما تشمل «السيئات» كل نقمة وشدة ، وحصر هذين المفهومين في دائر ضيّقة معيّنة لا دليل عليه.

* * *

٢٧٦

الآيتان

( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) )

التّفسير

في الآيات الماضية دار الحديث حول أسلاف اليهود ، ولكن في الآية الحاضرة دار الكلام حول أبنائهم وأخلافهم.

وفي البداية يقول تعالى :( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى ) إنّهم ورثوا التوراة عن أسلافهم ، وكان عليهم أن ينتفعوا بها ويهتدوا ، ولكنّهم رغم ذلك فتنوا بمتاع هذه الدنيا وحطامها الرخيص التافه ، واستبدلوا الحق والهدى بمنافعهم الماديّة.

و «خلف» على وزن «حرف» يأتي غالبا في الأولاد غير الصالحين ـ كما

٢٧٧

ذهب إلى ذلك بعض المفسّرين ، في حين أنّ «الخلف» على وزن «شرف» يأتي بمعنى الولد الصالح(1) .

ثمّ يضيف قائلا : وعند ما وقعوا بين مفترق طريقين : بين ضغط الوجدان من جهة ، والرغبات والمنافع المادية من جهة أخرى عمدوا إلى الأماني والآمال الكاذبة وقالوا : لنأخذ المنافع الدنيوية فعلا سواء من حلال أو حرام ، والله سيرحمنا ويغفر لنا( وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا ) .

إنّ هذه الجملة تكشف عن أنّهم كانوا بعد القيام بمثل هذا العمل يتخذون حالة من الندم العابر والتوبة الظاهرية ، ولكن هذه الندامة ـ كما يقول القرآن الكريم ـ لم تكن لها أية جذور في أعماق نفوسهم ، ولهذا يقول تعالى :( وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ) .

و «عرض» على وزن «غرض» يعني الشيء الذي لاثبات له ولا دوام ، ومن هذا المنطق يطلق على متاع العالم المادي اسم العرض ، لكونه زائلا غير ثابت في الغالب ، فهو يقصد الإنسان يوما ويقبل عليه بوفرة بحيث يضيع الإنسان حسابه ولا يعود قادرا على عده وإحصائه ويبتعد عنه وجمعه وحصره ، يوما آخر بالكلية بحيث لا يملك منه إلّا الحسرة والتذكر المؤلم ، هذا مضافا إلى أن جميع نعم هذه الدنيا هي أساسا غير دائمة ، وغير ثابته(2) .

وعلى كل حال ، فإنّ هذه الجملة إشارة إلى عمليات الارتشاء التي كان يقوم بها بعض اليهود لتحريف الآيات السماوية ، ونسيان أحكام الله لمضادتها لمصالحهم ومنافعهم المادية.

ولهذا قال تعالى في عقيب ذلك :( أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا

__________________

(1) مجمع البيان ، وتفسير ابن الفتوح الرازي ، في ذيل الآية الحاضرة.

(2) يجب الانتباه ، إلى أن «عرض» على وزن «غرض» يختلف عن «عرض» على وزن (فرض) فالأول بمعنى كل رأس مال دنيوي ، والثاني بمعنى المال النقدي.

٢٧٨

يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ ) أي أنّهم أخذ عليهم الميثاق ـ بواسطة كتابهم السماوي التوراة ـ أن لا يفتروا على الله كذبا ، ولا يحرفوا كلماته ، ولا يقولوا إلّا الحق.

ثمّ يقول : لو كان هؤلاء الذين يرتكبون هذه المخالفات جاهلون بالآيات الإلهية ، لكان من الممكن أن ينحتوا لأنفسهم أعذارا ، ولكن المشكلة هي أنّهم رأوا التوراة مرارا وفهموا محتواها ومع ذلك ضيعوا أحكامها ، ونبذوا أمرها وراء ظهورهم( وَدَرَسُوا ما فِيهِ ) . و «الدرس» في اللغة يعني تكرار شيء ، وحيث أن الإنسان عند المطالعة ، وتلقي العلم من الأستاذ والمعلم يكرّر المواضيع ، لهذا أطلق عليه لفظ «الدرس» وإذا ما رأينا أنّهم يستعملون لفظة «درس والاندراس» على انمحاء أثر الشيء فإنّما هو لهذا السبب وبهذه العناية ، ولأنّ الأمطار والرياح والحوادث الأخرى تتوالى على الأبنية القديمة وتبليها.

وفي ختام الآية يقول : إنّ هؤلاء يخطئون في تقديرهم للأمور ، وإنّ هذه الأعمال لن تجديهم نفعا( وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ) .

ألا تفهمون هذه الحقائق الواضحة( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ؟؟

وفي مقابل الفريق المشار إليه سابقا يشير تعالى إلى فريق آخر لم يكتفوا بعدم اقتراف جريمة تحريف الآيات الإلهية وكتمانها فحسب ، بل تمسكوا بحذافيرها وطبقوها في حياتهم حرفا بحرف ، والقرآن يصف هذه الجماعة بأنّهم مصلحو العالم ، ويعترف لهم بأجر جزيل وثواب عظيم ، ويقول عنهم :( وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ) .

وقد وقع كلام بين المفسّرين حول المراد من «الكتاب» وهل أنّه التوراة أو القرآن الكريم؟ بعض ذهب إلى الأوّل ، وبعض إلى الثّاني. والظاهر أنّه إشارة إلى فريق من بني إسرائيل الذين انفصلوا عن الضالين الظالمين ، وعاكسوهم فى سلوكهم وموقفهم. ولا شك أن التمسك بالتوراة والإنجيل وما فيهما من بشائر

٢٧٩

بظهور نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا ينفصل عن الإيمان بهذا النّبي.

إنّ في التعبير بـ «يمسّكون» الذي هو بمعنى الاعتصام والتمسك بشيء نكتة ملفتة للنظر ، لأنّ التمسك بمعنى الأخذ والالتصاق بشيء لحفظه وصيانته ، وهذه هي الصورة الحسيّة للكلمة ، وأمّا الصورة المعنوية لها فهي أن يلتزم الإنسان بالعقيدة بمنتهى الجدية والحرص ، ويسعى في حفظها وحراستها.

إنّ التمسك بالكتاب الإلهي ليس هو أن يمسك الإنسان بيده أوراقا من القرآن أو التوراة أو الإنجيل أو أي كتاب آخر ويشدّها عليه بقوة ، ويجتهد في حفظ غلافه وورقه من التلف ، بل التمسك الواقعي هو أن لا يسمح لنفسه بأن يرتكب أدنى مخالفة لتعاليم ذلك الكتاب ، وأن يجتهد في تحقيق وتطبيق مفاهيمه من الصميم.

إنّ الآيات الحاضرة تكشف لنا بوضوح عن أنّ الإصلاح الواقعي في الأرض لا يمكن من دون التمسك بالكتب السماوية ، ومن دون تطبيق الأوامر والتعاليم الإلهية ، وهذا التعبير يؤكّد ـ مرّة أخرى ـ هذه الحقيقة ، وهي أنّ الدين ليس مجرّد برنامج يرتبط بعالم ما وراء الطبيعة ، وبدار الآخرة ، بل هو برنامج للحياة البشرية ، ويهدف إلى حفظ مصالح جميع أفراد البشر ، وإجراء مبادئ العدل والسلام والرفاه والاستقرار ، وبالتالي كل مفهوم تشمله كلمة «الإصلاح» الواسعة المعنى.

وما نراه من التركيز على خصوص «الصلاة» من بين الأوامر والتعاليم الإلهية ، فإنّما هو لأجل أن الصلاة الواقعية تقوّي علاقة الإنسان بالله الذي يراه حاضرا وناظرا لجميع أعماله وبرامجه ، ومراقبا لجميع أفعاله وأقواله ، وهذا هو الذي عبر عنه في آيات أخرى بتأثير الصلاة في الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وارتباط هذا الموضوع بإصلاح المجتمع الإنساني أوضح من أن يحتاج إلى بيان.

٢٨٠

من كل ما قيل يتّضح أنّ هذا المبدأ والمرتكز الفكري لا يختص باليهود ، بل هو أصل في حياة الأمم والشعوب. وعلى هذا الأساس فإنّ الذين يجمعون متاعا زائلا بواسطة كتمان الحقائق وتحريفها ، ثمّ يرون نتائجه المشؤومة يتّخذون لأنفسهم حالة من التوبة الكاذبة ، توبة سرعان ما تزول وتذوب أمام ابتسامه من منفعة مادية متجدّدة ، كما يذوب الثلج في حرّ القيظ فهؤلاء هم المخالفون لإصلاح المجتمعات البشرية ، وهم الذين يضحون بمصالح الجماعة في سبيل مصالح الفرد ، سواء صدر هذا الفعل من يهوديّ أو مسيحي أو مسلم.

* * *

٢٨١

الآية

( وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١) )

التّفسير

آخر كلام حول اليهود :

«نتقنا» من مادة «نتق» على وزن «قلع» تعني في الأصل قلع وانتزاع شيء من مكانه ، وإلقاءه في جانب آخر ، ويطلق على النساء اللواتي يلدن كثيرا أيضا «ناتق» لأنّهن يفصلن الأولاد من أرحامهن ويخرجنهم بسهولة.

وهذه الآية آخر آية في هذه السورة تتحدث حول حياة بني إسرائيل ، وهي تتضمّن تذكير قصّة أخرى ليهود عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قصّة فيها عبرة ، كما أنّها دليل على إعطاء ميثاق وعهد ، إذ يقول : واذكروا إذ قلعنا الجبل من مكانه وجعلناه فوق رؤوسهم كأنّه مظلّة( وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ ) .

وقد ظنوا أنّه سيسقط على رؤوسهم ، فإنتابهم اضطراب شديد وفزع :( وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ ) .

وفي تلك الحالة قلنا لهم : خذوا ما أعطيناكم من الأحكام بقوة وجديّة

٢٨٢

( خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ ) واذكروا ما جاء فيه حتى تتقوا ، وخافوا من العقاب الإلهي واعملوا بما أخذناه فيه منكم من المواثيق( وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) .

إنّ هذه الآية نفسها جاءت ـ بفارق بسيط في الآية (٦٣) من سورة البقرة ، وكما قلنا هناك فإنّ هذه القصة وقعت ـ حسب ما قال المفسّر المعروف العلّامة الطبرسي في مجمع البيان عن ابن زيد ـ عند ما عاد موسىعليه‌السلام من جبل الطور ، واصطحب معه أحكام التوراة فعند ما عرض على قومه الواجبات والوظائف وأحكام الحلال والحرام تصوروا أنّ العمل بكل هذه الوظائف أمر مشكل ، ولهذا بنوا على المخالفة والعصيان في هذا الوقت نفسه ، رفعت قطعة عظيمة من الجبل فوق رؤوسهم ، بحيث وقعوا في اضطراب عظيم ، فالتجأوا إلى موسىعليه‌السلام وطلبوا منه رفع هذا الخطر والخوف عنهم ، فقال لهم موسىعليه‌السلام في تلك الحالة : لو تعهدتم بأن تكونوا أوفياء لهذه الأحكام لزال عنكم هذا الخطر فسلّموا وتعهّدوا وسجدوا لله تعالى فزال عنهم الخطر ، وأزيحت الصخرة من فوق رؤوسهم.

أسئلة وأجوبة :

وهنا سؤالان أشرنا إليهما في سورة البقرة وإلى جوابيهما ، ونذكر مختصرا عنهما هنا بالمناسبة.

السّؤال الأوّل : ألم يكن لأخذ الميثاق في هذه الحالة صفة الإجبار؟

والجواب : لا شك أنّه كانت تحكم في ذلك الظرف حالة من الإجبار والاضطرار ، ولكن من المسلّم أنّه لمّا ارتفع وزال الخطر فيما بعد كان بإمكانهم مواصلة هذا السلوك باختيارهم.

٢٨٣

هذا مضافا إلى أنّه لا معنى للإجبار في مجال الإعتقاد ، أمّا في مجال العمل فلا مانع من أن يجبر الناس على أمور تربوية تضمن خيرهم وسعادتهم وصلاحهم. فهل من العيب لو أنّنا أجبرنا شخصا على ترك عادة شريرة ، أو سلوك طريق آمن من الخطر ، وعدم سلوك طريق محفوف بالأخطار؟

السّؤال الثّاني : كيف رفع الجبل فوق رؤوسهم :

الجواب : ذهب بعض المفسّرين إلى أن الجبل قلع من مكانه بأمر الله ، واستقر فو رؤوسهم كمظلّة.

وذهب آخرون إلى أنّه اهتز الجبل اهتزازا شديدا بفعل زلزال شديد بحيث شاهد الناس الذين كانوا يسكنون في سفح الجبل ظلّ قسم منه فوق رؤوسهم.

ويحتمل أيضا أن قطعة من الجبل انتزعت من مكانها واستقرت فوق رؤوسهم لحظة واحدة ، ثمّ مرّت وسقطت في جانب آخر.

ولا شك في أنّ هذا الأمر كان أمرا خارقا للعادة وليس حدثا طبيعيا عاديا.

والموضوع الآخر الذي يجب الانتباه إليه هو أنّ القرآن لا يقول : إنّ الجبل صار مظلّة فوق رؤوسهم بل قال : (كأنّه ظلّة).

وهذا التعبير إنّما هو لأجل أنّ المظلّة تنصب على رؤوس الأشخاص لإظهار الحب ، والحال أنّ هذه العملية ـ المذكورة في الآية الحاضرة ـ كانت من باب التهديد ، أو لأجل أنّ المظلة شيء مستقر وثابت ، ولكن رفع الجبل فوق رؤوسهم كان يتسم بعدم الثبات والدوام.

قلنا : مع هذه الآية تختم الآيات المتعلقة بقصة بني إسرائيل والحوادث المختلفة ، والذكريات الحلوة والمرّة التي وقعت في حياتهم.

وهذه القصّة هي آخر قصص الأنبياء التي جاءت في هذه السورة. وذكر هذه القصّة في نهاية قصصهم ـ مع أنّها ليست آخر حدث من الحوادث المرتبطة بهذه

٢٨٤

الجماعة ـ لعله لأجل أنّ الهدف من جميع هذه القصص هو التمسك بآيات الله والعمل بالمواثيق ، ولأجل الوصول إلى التقوى الذي جاء بيانه في هذه الآية والآية السابقة.

يعني أنّ رسالة موسىعليه‌السلام وسائر الأنبياء وأعمالهم مواجهاتهم المستمرة والصعبة وما لقوا من صعاب ومتاعب وشدائد مضنية كانت لأجل تطبيق أوامر الله ، وتنفيذ مبادئ الحق والعدالة والطهر والتقوى في المجتمعات البشرية بشكل كامل.

* * *

٢٨٥

الآيات

( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤) )

التّفسير

العهد الأوّل وعالم الذّر :

الآيات المذكورة أعلاه ، تشير إلى «التوحيد الفطري» ووجود الإيمان في أعماق روح الإنسان ولذلك فإنّ هذه الآيات تكمل الأبحاث الواردة في الآيات المتقدمة من هذه السورة في شأن «التوحيد الاستدلالي»!

وبالرغم من كثرة الأقوال والكلام بين المفسّرين في شأن عالم الذّر ، إلّا أنّنا نحاول أن نبيّن التّفسير الإجمالي لهذه الآيات الكريمة ، ثمّ نختار الأهم من أبحاث المفسّرين ، ونبيّن وجهة نظرنا بصورة استدلالية موجزة!

يقول الله سبحانه مخاطبا نبيّه في هذه الآية( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ

٢٨٦

ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا! ) .

«الذريّة» كما يقول أهل اللغة وعلماؤها ، معناها في الأصل الأبناء الصغار اليافعون ، إلّا أنّها تطلق في الغالب على عموم الأبناء ، وقد تستعمل هذه الكلمة في معنى المفرد ، كما قد تستعمل في معنى الجمع ، إلّا أنّها في الأصل تحمل معنى الجمع!

والجذر اللغوي لهذه الكلمة مختلف فيه ، إذ احتملوا له أوجها متعددة.

فقال بعضهم : إنّ جذر هذه الكلمة مأخوذ من «ذرأ» على زنة «زرع» ومعناه الخلق ، فعلى هذا الوجه يكون معنى الذرية مساويا «للمخلوق».

وقال بعضهم : بل الجذر مأخوذ من «ذرّ» على وزن «شرّ» ويعني الموجودات الصغيرة جدّا كذرّات الغبار مثلا والنمل الصغير ، ومن هنا فإنّ أبناء الإنسان تبدأ حياتهم من نطفة صغيرة جدا.

والاحتمال الثّالث أنّه مأخوذ من مادة ذرو ومعناه النثر والتفريق والتنقية [ومنه ذرو الحنطة(١) ] وإنما سمي أبناء الإنسان بالذرية لأنّهم يتفرقون في أنحاء الأرض بعد التكاثر!

ثمّ يشير الله سبحانه إلى الهدف النهائي من هذا السؤال والجواب ، وأخذ العهد من ذرية آدم في مسألة التوحيد ، فيقول :( أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ ) .

الآية التّالية تشير إلى هدف آخر من أخذ هذا العهد ، وهو أنّه إنّما أخذ ربّك هذا العهد من ذرية بني آدم لئلا تعتذروا( أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ) .

أجل( ... وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) .

__________________

(١) يقال ذرأ فلان الحنطة ذروأ أو ذرّاها تذرية ، أي نقّاها من الشوائب.

٢٨٧

إيضاح لما ورد عن عالم الذّر.

رأينا أنّ الآيات محل البحث تتحدث عن أخذ العهد من ذريّة آدم ، لكن كيف أخذ هذا العهد؟!

لم يرد في النص إيضاح في جزئيات هذا الموضوع ، إلّا أنّ للمفسّرين آراء متعددة تعويلا منهم على الرّوايات الإسلامية «الواردة عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيتهعليهم‌السلام » ومن أهم هذه الآراء رأيان.

١ ـ حين خلق آدم ظهر أبناؤه على صورة الذّر إلى آخر نسل له من البشر «وطبقا لبعض الرّوايات ظهر هذا الذّر أو الذرّات من طينة آدم نفسه» وكان لهذا الذرّ عقل وشعور كاف للاستماع والخطاب والجواب ، فخاطب الله سبحانه الذرّ قائلا( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ) ؟! فأجاب الذرّ جميعا :( بَلى شَهِدْنا ) .

ثمّ عاد هذا الذرّ «أو هذه الذرات» جميعا إلى صلب آدم «أو إلى طينته» ومن هنا فقد سمي بهذا العالم بعالم الذرّ وهذا العهد بعهد «ألست»؟

فبناء على ذلك ، فإنّ هذا العهد المشار إليه آنفا هو عهد تشريعي ، ويقوم على أساس «الوعي الذاتي» بين الله والناس.

٢ ـ إنّ المراد من هذا العالم وهذا العهد هو عالم الاستعداد «والكفاءات» ، و «عهد الفطرة» والتكوين والخلق. فعند خروج أبناء آدم من أصلاب آبائهم إلى أرحام الأمهات ، وهم نطف لا تعدو الذرات الصغار ، وهبهم الله الاستعداد لتقبل الحقيقة التوحيدية ، وأودع ذلك السرّ الإلهي في ذاتهم وفطرتهم بصورة إحساس داخلي كما أودعه في عقولهم وأفكارهم بشكل حقيقة واعية بنفسها.

فبناء على هذا ، فإنّ جميع أبناء البشر يحملون روح التوحيد ، وما أخذه الله من عهد منهم أو سؤاله إيّاهم : ألست بربكم؟ كان بلسان التكوين والخلق ، وما أجابوه كان باللسان ذاته!

٢٨٨

ومثل هذه التعابير غير قليلة في أحاديثنا اليوميّة ، إذ نقول مثلا : لون الوجه يخبر عن سره الباطني «سيماهم في وجوهم» ، أو نقول : إنّ عيني فلان المجهدتين تنبئان أنّه لم ينم الليلة الماضية.

وقد روي عن بعض أدباء العرب وخطبائهم أنّه قال في بعض كلامه : سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك وأينع ثمارك؟ فإنّ لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا! كما ورد في القرآن الكريم التعبير على لسان الحال ، كالآية (١١) من سورة فصلت ، إذ جاء فيها( فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) .

هذا باختصار هو خلاصة الرأيين أو النظرتين المعروفتين في تفسير الآيات آنفة الذكر لّا أنّ التّفسير الأوّل فيه بعض الإشكالات ، ونعرضها في ما يلي :

١ ـ ورد التعبير في نصّ الآيات المتقدمة عن خروج الذريّة من بني آدم من ظهورهم ، إذ قال تعالى( ... مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) مع أنّ التّفسير الأوّل يتكلم عن آدم نفسه أو عن طينة آدم.

٢ ـ إذا كان هذا العهد قد أخذ عن وعي ذاتي وعن عقل وشعور ، فكيف نسيه الجميع؟! ولا يتذكر أحد مع أنّ الفاصلة الزمانية بين زماننا ليست بأبعد مدى من الفاصلة بين هذا العالم والعالم الآخر «أو القيامة»؟ ونحن نقرأ في آيات عديدة من القرآن الكريم أنّ الناس سواء كانوا من أهل الجنّة أو من أهل النّار لا ينسون أعمالهم الدنيوية في يوم القيامة ، ويتذكرون ما اكتسبوه بصورة جيدة ، فلا يمكن أن يوجّه هذا النسيان العمومي في شأن عالم الذر أبدا «ولا مجال لتأويله!».

٣ ـ أيّ هدف كان من وراء مثل هذا العهد؟! فإذا كان الهدف أن يسير المعاهدون ، في طريق الحق عند تذكرهم مثل هذا العهد ، وألّا يسلكوا إلّا طريق معرفة الله ، فينبغي القول بأنّ مثل هذا الهدف لا يتحقق أبدا وبأي وجه كان ، لأنّ

٢٨٩

الجميع نسوه!! وبدون هذا الهدف يعدّ هذا العهد لغوا ولا فائدة فيه.

٤ ـ إنّ الإعتقاد بمثل هذا العالم يستلزم ـ في الواقع ـ القبول بنوع من التناسخ ، لأنّه ينبغي ـ طبقا لهذا التّفسير ـ أن تكون روح الإنسان قد خلقت في هذا العالم قبل ولادته الفعلية ، وبعد فترة طويلة أو قصيرة جاء إلى هذا العالم ثانية ، وعلى هذا فسوف تحوم حوله كثيرا من الإشكالات في شأن التناسخ!

غير أنّنا إذا أخذنا بالتّفسير الثّاني ، فلا يرد عليه أيّ إشكال ممّا سبق ، لأنّ السؤال والجواب ، أو العهد المذكور ـ عهد فطري ، وما يزال كلّ منّا يحس بآثاره في أعماق روحه ، وكما يعبر عنه علماء النفس بـ «الشعور الديني» الذي هو من الإحساسات الأصيلة في العقل الباطني للإنسان. وهذا الإحساس يقود الإنسان على امتداد التأريخ البشري إلى «طريق» معرفة الله ومع وجود هذا الإحساس أو الفطرة لا يمكن التذرّع بأنّ أباءنا كانوا عبدة للأصنام ونحن على آثارهم مقتدون!!( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ) (١) .

والإشكال الوحيد الذي يرد على التّفسير الثّاني هو أنّ هذا السؤال والجواب يتخذ شكلا «كنائيّا» ويتسم بلغة الحوار. إلّا أنّه مع الالتفات إلى ما بيّناه آنفا بأن مثل هذه التعابير كثير في لغة العرب وجميع اللغات ، فلا يبقي أيّ إشكال في هذا المجال.

ويبدو أن هذا التّفسير أقرب من سواه!

__________________

(١) الروم ، ٣٠.

٢٩٠

عالم الذر في الرّوايات الإسلاميّة :

وردت روايات كثيرة في مختلف المصادر الإسلاميّة من كتب الشيعة وأهل السنة حول عالم الذّر بحيث تتصور لأوّل وهلة وكأنّها رواية متواترة فمثلا في تفسير البرهان وردت ٣٧ رواية ، وفي تفسير نور الثقلين وردت ذيل الآيات الآنفة ٣٠ رواية بعضها مشترك والآخر مختلف ، وبملاحظة الاختلاف فيها فقد يصل مجموع ما ورد من الرّوايات إلى أربعين رواية إلّا أنّنا سنجد ـ بعد التدقيق في مضامينها ومحتواها وتقسيمها إلى مجاميع ، وفحصها ـ أنّه لا يمكن أن نعثر رواية واحدة معتبرة منها ، فكيف يمكن الإعتقاد بتواترها؟!

إنّ أكثر تلك الرّوايات منقول عن زرارة ، وبعضها عن صالح بن سهل ، وبعضها عن أبي بصير ، وبعضها عن جابر ، وبعضها عن عبد الله بن سنان ، ومن ذلك يظهر لنا أنّه لو روى شخص واحد روايات كثيرة لكنّها متحدة المضمون فهي تعد بحكم الرواية الواحدة ، وبناء على ذلك فسيقلّ عدد تلك الرّوايات الكثيرة وتتضاءل نسبتها وتبلغ ما بين ١٠ إلى ٢٠ رواية ، هذا من ناحية السند.

أمّا من ناحية المضمون والدليل فإنّ مضامينها تختلف بعضها عن بعض ، فمنها ما يوافق التّفسير الأوّل ، ومنها ما يوافق التّفسير الثّاني ، وبعضها لا يوافق التّفسيرين فالرّوايات المرقمة (٣) و (٤) و (٨) و (١١) و (٢٨) و (٢٩) والمروية عن زرارة في تفسير البرهان ـ ذيل الآيات محل البحث ـ تتفق والتّفسير الأوّل. وما روى عن عبد الله بن سنان في الروايتين (٧) و (١٢) في تفسير البرهان نفسه ، يتفق والتّفسير الثاني أي أنّ بعض هذه الرّوايات مبهم ، وبعضها يمثّل رموزا وعبارات مجازية ، كما في الروايتين (١٨) و (٢٣) المرويتين عن أبي سعيد الخدري وعبد الله الكلبي ،

٢٩١

الواردتين في التّفسير آنف الذكر.

وبعض الرّوايات يذكر «أرواح بني آدم» كما في الرواية (٢٠) المرويّة عن المفضّل! ثمّ إن الرّوايات ـ المذكورة آنفا ـ بعضها ذو سند معتبر ، وبعضها فاقد للسند أو مرسل.

فبناء على ذلك ـ وبملاحظة التعارض بين الرّوايات ـ لا يمكننا التعويل عليها على أنّها وثيقة معتبرة وكما عبّر أكابر علمائنا في مثل هذه الموارد فإنّه ينبغي أن نتجنّب الحكم على مثل هذه الرّوايات ، وأن نكلها إلى أصحابها ورواتها.

وفي هذه الصورة نبقى متمسّكين بالنص القرآني ، وكما ذكرنا أنفا فإن التّفسير الثّاني أكثر انسجاما مع الآيات.

ولو كان أسلوبنا في البحث التفسيري يسمح لنا أن نذكر جميع طوائف الرّوايات ، والتحقيق فيها ـ كنا أشرنا آنفا ـ لفعلنا ذلك ليكون البحث أكثر وضوحا.

إلّا أنّ الراغبين يمكنهم الرجوع إلى التّفسير «نور الثقلين ، وتفسير البرهان ، وبحار الأنوار» ، وليبحثوا في مجاميعها ويصنفوها ، وينظروا في أسانيدها ومضامينها.

* * *

٢٩٢

الآيات

( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧) مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨) )

التّفسير

في هذه الآيات إشارة لقصّة أخرى من قصص بني إسرائيل ، وهي تعد مثلا وأنموذجا لجميع أولئك الذين يتصفون بمثل هذه الصفات.

وكما سنلاحظ خلال تفسير الآيات ـ محل البحث ـ فإنّ للمفسّرين احتمالات متعددة في الذي تتحدث عنه أو (عليه) الآيات إلّا أنّه ممّا لا ريب

٢٩٣

فيه أن مفهوم الآيات ـ كسائر الآيات النازلة في ظروف خاصّة ـ عام وشامل.

والآية الأولى من هذه الآيات يخاطب بها النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول القرآن الكريم( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ ) .

فهذه الآية واضحة أنّها تحكي قصّة رجل كان في البداية في صف المؤمنين ، وحاملا للعلوم الإلهية والآيات ، إلّا أنّه انحراف عن هذا النهج ، فوسوس له الشيطان ، فكانت عاقبة أمره أن انجرّ إلى الضلال والشقاء! والتعبير بـ «انسلخ» وهو من مادة «الانسلاخ» معناه في الأصل الخروج من الجلد يدلّ على أن الآيات والعلوم الإلهية كانت تحيط به إحاطة الجلد بالبدن ، إلّا أنّه خرج منها على حين غرّة واستدار إلى الوراء وغيّر مسيره بسرعة! كما أنّ التعبير القرآني «فأتبعه الشيطان» يستفاد منه أنّ الشيطان كان أوّل الأمر آيسا منه تقريبا ، لأنّه كان يسلك سبيل الحق تماما ، وبعد أن انحرف لحقه الشيطان وتربص له وأخذ يوسوس له حتى انتهى أمره إلى أن يكون من الضالين المنحرفين الأشقياء(١) .

والآية التّالية تكمل هذا الموضوع على النحو التّالي( وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها ) .

إلّا أن من المسلّم أنّ إكراه الناس وإجبارهم على أن يسلكوا سبيل الحق لا ينسجم والسنن الإلهية وحرية الإدارة ، ولا يكون ذلك دليلا على عظمة الشخص ، لهذا فإنّ الآية تضيف مباشرة. إنّنا تركناه وهواه ، وبدلا من أن ينتفع من معارفه فإنّه هوى وانحطّ( وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ ) .

وكلمة (أخلد) من (الإخلاد) وهي تعني السكن الدائم في مكان واحد مع

__________________

(١) تبع واتبع بمعنى لحق أو أدرك.

٢٩٤

حرية الإرادة ، فجملة (أخلد إلى الأرض) تعني اللصوق الدائم بالأرض ، وهي كناية عن عالم المادة وبهارجها ، واللذائذ غير المشروعة للحياة المادية.

ثمّ تشبّه الآية هذا الفرد بالكلب الذي يخرج لسانه لاهثا دائما كالحيوانات العطاشى فتقول( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ) .

فهو لفرط اتّباعه الهوى وتعلقه بعالم المادة انتابته حالة من التعطش الشديد غير المحدود وراء لذائذ الدنيا ، وكل ذلك لم يكن لحاجة ، بل لحالة مرضيّة ، فهو كالكلب المسعور الذي يظهر بحالة عطش كاذب لا يمكن ارواؤها وهي حالة عبيد الذين لا يهمهم غير جمع المال واكتناز الثروة فلا يحسون معه بشبع أبدا.

ثمّ تضيف الآية : إنّ هذا المثال الخاص لا يتعلق بفرد معين ، بل :( ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )

العالم المنحرف «بلعم بن باعوراء» :

كما لاحظنا أنّ الآيات السالفة لم تذكر اسم أحد بعينه ، بل تحدثت عن عالم كان يسير في طريق الحق ابتداء وبشكل لا يفكر معه أحد بأنّه سينحرف يوما ، إلّا أنّه نتيجة لاتّباعه لهوى النفس وبهارج الدنيا انتهى إلى السقوط في جماعة الضالين وأتباع الشياطين.

غير أنّنا نستفيد من أغلب الرّوايات وأحاديث المفسّرين أن هذا الشخص يسمّى (بعلم بن باعوراء) الذي عاصر النّبي موسىعليه‌السلام وكان من مشاهير علماء بني إسرائيل ، حتى أن موسىعليه‌السلام كان يعوّل عليه على أنّه داعية مقتدر ، وبلغ أمره أن دعاءه كان مستجابا لدى الباري جل وعلا ، لكنّه مال نحو فرعون وإغراءاته فانحرف عن الصواب ، وفقد مناصبه المعنوية تلك حتى صار بعدئذ في جبهة

٢٩٥

أعداء موسىعليه‌السلام (١) .

إلّا أننا نستبعد ما يحتمله بعضهم من أن المقصود هو (أمية بن الصلت) الشاعر المعروف في زمان الجاهلية ، الذي كان بادئ أمره ونتيجة لاطلاعه على الكتب السماوية ينتظر نبي آخر الزمان ، ثمّ حصل له هاجس أن النّبي قد يكون هو نفسه ، ولذلك بعد أن بعث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصابه الحسد له وعاداه.

وبعيد كذلك ما احتمله بعضهم من أنّه كان (أبا عامر) الراهب المعروف في الجاهلية ، الذي كان يبشر الناس بظهور رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكنّه بعد ظهوره صار من أعدائه. لأنّ جملة (واتل) وكلمة (نبأ) وجملة (فاقصص القصص) تدل على أنّ تلك الأمور لا تتعلق بأشخاص عاصروا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . بل بأقوام سابقين ، مضافا إلى تلك فإنّ سورة الأعراف من السور المكية وقضيتا [أبي عامر الراهب] و [أمية بن الصلت] تتعلقان بحوادث المدينة.

ولكن بما أن أشخاصا على غرار «بلعم» كانوا موجودين في عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ك (أبي عامر) و (أمية بن الصلت) فإنّ الآيات محل البحث تنطبق على هذه الموارد في كل عصر وزمان ، وإلّا فإنّ مورد القصّة هو «بلعم بن باعوراء» لا غير.

وقد نقل تفسير (المنار) عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن مثل بلعم بن باعوراء في بني إسرائيل كأمية بن أبي الصلت في هذه الأمّة.

وورد عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «الأصل من ذلك بلعم ، ثمّ ضربه الله مثلا لكل مؤثر هواه على هوى الله من أهل القبلة».

ومن هذا يتبيّن أن الخطر الأكيد الذي يهدد المجتمعات الإنسانية هو خطر المثقفين والعلماء الذين يسخّرون معارفهم للفراعنة والجبارين لأجل أهوائهم

__________________

(١) في التوراة الحالية نجد ورود قضية «بلعم بن باعوراء» أيضا ، إلّا أنّ التوراة تبرئه في النهاية من الانحراف ، يراجع بذلك سفر الأعداد الباب ٢٢.

٢٩٦

وميولهم الدنيوية (والإخلاد إلى الأرض) ويضعون كل طاقاتهم الفكرية في سبيل الطاغوت الذي يعمل ما في وسعه لاستغلال مثل هذه الشخصيات لإغفال وإضلال عامّة الناس.

ولا يختص الأمر بزمن النّبي موسىعليه‌السلام أو غيره من الأنبياء ، بل حتى بعد عصر النّبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى يومنا هذا نجد أمثال بلعم بن باعوراء وأبي عامر الراهب وأمية بن الصلت ، يضعون علومهم ومعارفهم ونفوذهم الاجتماعي من أجل الدرهم والدينار ، أو المقام ، أو لأجل الحسد ، تحت إختيار المنافقين وأعداء الحق والفراعنة أمثال بني أمية وبني العباس وسائر الطواغيت.

ويمكن معرفة أولئك العلماء من خلال أوصاف أشارت إليها الآيات محل البحث ، فإنّهم ممن نسي ربّه واتبع هواه ، وهم ذوو نزوات سخروها للرذيلة بدل التوجه نحو الله وخدمة خلقه ، وبسبب هذا التسافل فقدوا كل شيء ووقعوا تحت سلطة الشيطان ووساوسه ، فسهل بيعهم وشراؤهم ، وهم كالكلاب المسعورة التي لا ترتوي أبدا ، ولهذه الأمور ترك هؤلاء سبيل الحقيقة وضلوا عن الطريق حتى غدوا أئمّة الضلال.

ويجب على المؤمنين معرفة مثل هؤلاء الأشخاص والحذر منهم واجتنابهم.

والآيتان التاليتان ـ كنتيجة عامّة وشاملة لقضية ـ (بلعم) والعلماء الدنيويين فتقول أولاهما( ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ ) .

فما أفحش ظلم الإنسان لنفسه وهو يسخّر ملكاته المعنوية وعلومه النافعة التي بإمكانها أن تعود عليه وعلى مجتمعه بالخير ـ ويضعها تحت إختيار المستكبرين وأصحاب القدرة الدنيوية ويبيعها بثمن بخس فيؤدي ذلك إلى سقوطه وسقوط المجتمع والآية الاخيرة تحذّر الإنسان وتؤكّد له أن الخلاص من مثل هذا الانحراف وما يكيده الشياطين لا يمكن إلّا بتوفيق وتسديد من الله

٢٩٧

عزوجل ( مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ) .

وتقدم كرّات بأنّ (الهداية) و (الإضلال) الإلهيين لا يعدان إجبارا ولا بدون حساب أو دليل ، ويقصد بهما إعداد الأرضية للهداية وفتح سبلها أو إيصادها ، وذلك بسبب الأعمال الصالحة أو الطالحة التي صدرت من الإنسان من قبل ، وعلى أية حال فالتصميم النهائي بيد الإنسان نفسه فبناء على هذا فإنّ الآية محل البحث تنسجم مع الآيات المتقدمة التي تذهب إلى أصل حرية الإرادة ولا منافاة بين هذه الآية وتلكم الآيات بتاتا

* * *

٢٩٨

الآيات

( وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩) وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠) وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١) )

التّفسير

علائم أهل النّار :

هذه الآيات تكمل الموضوع الذي تناولته الآيات المتقدمة حول العلماء الذين ركنوا إلى الدنيا ، وعوامل الهداية والضلال. والآيات ـ محل البحث ـ تقسم الناس إلى مجموعتين وتحكى عن صفاتهما وهما أهل النّار ، وأهل الجنّة.

فتتحدث عن المجموعة الأولى ـ أهل النّار أوّلا ، فتأتي بالقسم والتوكيد فتقول( وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ) .

وكلمة «ذرأنا» مشتقّة من «ذرأ» ، وتعني هنا الإيجاد والخلق ، غير أنّها في

٢٩٩

أصل اللغة تعني نشر الشيء وتفريقه ، وقد وردت بهذا المعنى «الثّاني» في القرآن أيضا ، كما في عبارة( تَذْرُوهُ الرِّياحُ ) (١) .

ولأنّ خلق الكائنات يستلزم تفريقها وتوزيعها وانتشارها على وجه الأرض ، فقد جاءت هذه الكلمة بمعنى خلق «المخلوق» أيضا : وعلى كل حال ، فإنّ الإشكال المهم في هذا التعبير هو كيف قال الله سبحانه( وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ) ؟ في حين قال في مكان آخر( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) (٢) وطبقا لمعنى هذه الآية فإنّ الجن والإنس لم يخلقوا لغير عبادة الله والرقي والتكامل والسعادة ، أضف إلى ذلك أنّ هذا التعبير تشمّ منه رائحة الجبر في الخلق ، ومن هنا فقد استدل بعض مؤيدي مدرسة الجبر من أمثال الفخر الرازي بهذه الآية لإثبات مذهبه.

لكنّنا لو ضممنا آيات القرآن بعضها إلى بعض وبحثناها موضوعيّا دون أن نبتلى بالسطحيّة ، لوجدنا الجواب على هذا السؤال كامنا في الآية محل البحث ذاتها ، كما هو بيّن في آيات أخرى من القرآن الكريم أيضا بحيث لا يدع مجالا لأنّ تستغل الآية ليسا فهمها لدى بعض الأفراد. مثل هذا التعبير كمثل قول النجار إذ يقول مثلا : إنّ قسما كبيرا من هذا الخشب وقد هيأته لكي أصنع منه أبوابا جميلة ، والقسم الآخر هو للإحراق والإضرام فالخشب الرائق الجيّد المناسب سأستعمله للقسم الأوّل ، وأمّا الخشب الرديء غير المناسب فسأدعه للقسم الثّاني.

ففي الحقيقة أنّ للنجار هدفين : هدفا «أصيلا» وهدفا (تبعيّا).

فالهدف الأصيل هو صنع الأبواب والأطر الخشبيّة الجيّدة وما إلى ذلك ، وهو يبذل قصارى جهده وسعيه في هذا المضمار

__________________

(١) الكهف ، ٤٥.

(٢) سورة الذاريات : ٥٦.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606