الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245209 / تحميل: 6211
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) .

وهذه الآية على ايجازها تشتمل على أمرين ونهيين وبشارتين ، وهي خلاصة قصّة كبيرة وذات أحداث ومجريات ننقلها بصورة مضغوطة :

كانت سلطة فرعون وحكومته الجائرة قد خططت تخطيطا واسعا لذبح «الأطفال» من بني إسرائيل حتى أن القوابل [من آل فرعون] كن يراقبن النساء الحوامل [من بني إسرائيل].

ومن بين هؤلاء القوابل كانت قابلة لها علاقة مودّة مع أمّ موسىعليه‌السلام «وكان الحمل خفيّا لم يظهر أثره على أم موسى» وحين أحست أم موسى بأنّها مقرّب وعلى أبواب الولادة أرسلت خلف هذه القابلة وأخبرتها بالواقع ، وأنّها تحمل جنينا في بطنها وتوشك أن تضعه ، فهي بحاجة ـ هذا اليوم ـ إليها.

وحين ولد موسىعليه‌السلام سطع نور بهيّ من عينيه فاهتزّت القابلة لهذا النور وطبع حبّه في قلبها ، وأنار جميع زوايا قلبها.

فالتفتت القابلة إلى أم موسى وقالت لها : كنت أروم أن أخبر الجهاز الفرعوني بهذا الوليد ليأتي الجلاوزة فيقتلوه «وأنال بذلك جائزتي» ولكن ما عسى أن أفعل وقد وقع حبّه الشديد في قلبي ، وأنا غير مستعدة لأن تنقص ولو شعرة واحدة من رأسه ، فاهتمي بالمحافظة عليه ، وأظنّ أن عدوّنا المتوقع سيكون هذا الطفل أخيرا.

ثمّ خرجت القابلة من بيت أمّ موسى فرآها بعض الجواسيس من جلاوزة فرعون وصمموا على أن يدخلوا البيت ، فعرفت أخت موسى ما أقدموا عليه فأسرعت إلى أمّها وأخبرتها بأن تتهيأ للأمر ، فارتبكت ولم تدر ما ذا تصنع؟! وفي هذه الحالة من الارتباك وهي ذاهلة لفت وليدها «موسى» بخرقة وألقته في التنور فإذا بالمأمورين والجواسيس يقتحمون الدار ، فلم يجدوا شيئا إلّا التنور المشتعل نارا فسألوا أم موسى عن سبب دخول القابلة عليها فقالت : إنّها صديقتي وقد

١٨١

جاءت زائرة فحسب ، فخرجواءايسين.

ثمّ عادت أمّ موسى إلى رشدها وصوابها وسألت «أخت موسى» عن أخيها فأظهرت عدم معرفتها بمكانه ، وإذا البكاء يعلو من داخل التنور ، فركضت إلى التنور فرأت موسى مسالما وقد جعل الله النّار عليه بردا وسلاما «الله الذي نجّى إبراهيم الخليل من نار النمرود» فأخرجت وليدها سالما من التنور.

لكن الأمّ لم تهدأ إذ أن الجواسيس يمضون هنا وهناك ويفتشون البيوت يمنة ويسرة ، وكان الخطر سيقع لو سمعوا صوت هذا الطفل الرضيع.

وفي هذه الحال اهتدت أم موسى بإلهام جديد ، إلهام ظاهره أنّه مدعاة للخطر ، ولكن مع ذلك أحسّت بالاطمئنان أيضا.

كان ذلك من الله ولا بدّ أن يتحقق ، فلبست ثياب عملها وصممت على أن تلقي وليدها في النيل.

فجاءت إلى نجّار مصري «وكان النجار من الأقباط والفراعنة أيضا» فطلبت منه أن يصنع صندوقا صغيرا.

فسألها النجار قائلا : ما تصنعين بهذا الصندوق مع هذه الأوصاف؟ ولكن الأمّ لما كانت غير متعودة على الكذب لم تستطع دون أن تقول الحق والواقع ، وأنّها من بني إسرائيل ولديها طفل تريد إخفاءه في الصندوق.

فلمّا سمع النجّار القبطي هذا الخبر صمم على أن يخبر الجلاوزة والجلّادين ، فمضى نحوهم لكن الرعب سيطر على قلبه فارتج على لسانه وكلّما حاول أن يفهمهم ولو كلمة واحدة لم يستطع ، فأخذ يشير إليهم إشارات مبهمة ، فظن أولئك أنّه يستهزئ بهم فضربوه وطردوه ، ولما عاد إلى محله عاد عليه وضعه الطبيعي ، فرجع ثانية إليهم ليخبرهم فعادت عليه الحالة الأولى من الارتجاج والعيّ ، وأخيرا فقد فهم أن هذا أمر إلهي وسرّ خفي ، فصنع الصندوق وأعطاه لأم موسى.

ولعلّ الوقت كان فجرا والناس ـ بعد ـ نيام ، وفي هذه الحال خرجت أم

١٨٢

موسى وفي يديها الصندوق الذي أخفت فيه ولدها موسى ، فاتجهت نحو النيل وأرضعت موسى حتى ارتوى ، ثمّ ألقت الصندوق في النيل فتلقفته الأمواج وأخذت تسير به مبتعدة عن الساحل ، وكانت أم موسى تشاهد هذا المنظر وهي على الساحل وفي لحظة أحست أن قلبها انفصل عنها ومضى مع الأمواج ، فلو لا لطف الله الذي شملها وربط على قلبها لصرخت ولانكشف الأمر واتضح كل شيء.

ولا أحد يستطيع أن يصور ـ في تلك اللحظات الحساسة ـ قلب الأم بدقّة.

لا يستطيع أيّ أحد أن يصور حال أم موسى وما أصابها من الهلع والفزع ساعة ألقت طفلها في النيل ولكنّ هذه الأبيات المترجمة عن الشاعرة «پروين اعتصامي» ـ بتصرف ـ تحكي صورة «تقريبية» عن ذلك الموقف :

أمّ موسى حين ألقت طفلها

للذي رب السما أوحى لها

نظرت للنيل يمضي مسرعا

آه لو تعرف حقا حالها

ودوي الموج فيه صاخب

وفتاها شاغل بلبالها

* * *

وتناغيه بصمت : ولدي

كيف يمضي بك هذا الزورق

دون ربان ، وإن ينسك من

هو ذو لطف فمن ذا يشفق

فأتاها الوحي : مهلا ، ودعي

باطل الفكر ووهما يزهق

* * *

إن موسى قد مضى للمنزل

فاتق الله ولا تستعجلي

قد تلقينا الذي ألقيته

بيد ترعى الفتى لا تجهلي

وخرير الماء أضحى مهده

في اهتزاز مؤنس إن تسألي

* * *

وله الموج رؤوما حدبا

فاق من يحدب أمّا وأبا

١٨٣

كل نهر ليس يطغى عبثا

إن أمر الله كان السببا

* * *

يأمر البحر فيغدو هائجا

وله الطوفان طوعا مائجا

عالم الإيجاد من آثاره

كل شيء لعلاه عارجا

* * *

أين تمضين دعيه فله

خير ربّ يرتضيه لا هجا

كل هذا من جهة!

ولكن تعالوا لنرى ما يجري في قصر فرعون؟!

ورد في الأخبار أنّ فرعون كانت له بنت مريضة ، ولم يكن له من الأبناء سواها ، وكانت هذه البنت تعاني من آلام شديدة لم ينفعها علاج الأطباء ، فلجأ إلى الكهنة فقالوا له : نتكهّن ونتوقع أن إنسانا يخرج من البحر يكون شفاؤها من لعاب فمه حين يدهن به جسدها ، وكان فرعون وزوجه «آسية» في انتظار هذا «الحادث» وفي يوم من الأيّام فجأة لاح لعيونهما صندوق تتلاطمه أمواج النيل فلفت الأنظار ، فأمر فرعون عمّاله أن يأتوا به ليعرفوا ما به؟!

ومثل الصندوق «المجهول» الخفيّ أمام فرعون ، ولم يتمكن أحد أن يفتحه.

بلى كان على فرعون أن يفتحه لينجو موسى على يد فرعون نفسه ، وفتح الصندوق على يده فعلا!.

فلمّا وقعت عين آسية عليه سطع منه نور فأضاء قلبها ، ودخل حبّه في قلوب الجميع ، ولا سيما قلب امرأة فرعون «آسية» وحين شفيت بنت فرعون من لعاب فمه زادت محبّته أكثر فأكثر(١) .

ولنعد الآن إلى القرآن الكريم لنسمع خلاصة القصّة من لسانه! يقول القرآن

__________________

(١) ورد هذا القسم من الرّواية عن ابن عباس في تفسير الفخر الرازي كما هناك روايات آخرها في تفسير «أبو الفتوح» و «مجمع البيان».

١٨٤

في هذا الصدد :( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ) .

كلمة «التقط» مأخوذة من مادة «التقاط» ومعناها في الأصل الوصول إلى الشيء دون جهد وسعي ، وإنّما سميت الأشياء التي يعثر عليها «لقطة» للسبب نفسه أيضا

وبديهي أنّ الفراعنة لم يجلبوا الصندوق الذي فيه الطفل الرضيع من الماء ليربوه في أحظانهم فيكون لهم عدوا لدودا ، بل أرادوه ـ كما قالت امرأة فرعون ـ قرة عين لهم.

ولكن النتيجة والعاقبة كان ما كان وحدث ما حدث وكما يقول علماء الأدب : إنّ اللام في الآية هنا( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ ) هي «لا العاقبة» ليست «لام العلة» ولطافة التعبير كامنة في أنّ الله سبحانه يريد أن يبيّن قدرته ، وكيف أن هذه الجماعة «الفراعنة» عبّأت جميع قواها لقتل بني إسرائيل ، وإذا الذي أرادوا قتله ـ وكانت كل هذه المقدمات من أجله ـ يتربى في أحضانهم كأعزّ أبنائهم.

والتعبير ـ ضمنا ـ بآل فرعون يدل على أنّ الملتقط لم يكن واحدا ، بل اشترك في التقاط الصندوق جماعة من آل فرعون ، وهذا بنفسه شاهد على أنّهم كانوا ينتظرون مثل هذا الحدث!.

ثمّ تختتم الآية بالقول :( إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ ) .

كانوا خاطئين في كل شيء ، وأي خطأ أعظم من أن يحيدوا عن طريق العدل والحقّ ، وأن يبنوا قواعد حكمهم على الظلم والجور والشرك!.

وأي خطأ أعظم أن يذبحوا آلاف الأطفال ليقتلوا موسىعليه‌السلام ، ولكن الله سبحانه أودعه في أيديهم وقال لهم : خذوا عدوّكم هذا وربّوه ليكبر عندكم؟!(١)

__________________

(١) يقول الراغب في مفرداته : إن الفرق بين «الخاطئ» «والمخطئ» هو أنّ الخاطئ هو من يقدم على عمل لا يخرج من عهدته ويطوي طريق الخطأ بنفسه أمّا المخطي فيقال في من يقدم على عمل ويخرج من عهدته ، إلّا أنّه يخطئ في الأثناء صدفة ، فيتلف العمل.

١٨٥

ويستفاد من الآية التالية أن شجارا حدث ما بين فرعون وامرأته ، ويحتمل أن بعض أتباعه كانوا قد وقفوا عند رأس الطفل ليقتلوه ، لأنّ القرآن الكريم يقول في هذا الصدد :( وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ) .

ويلوح للنظر أنّ فرعون وجد في مخايل الطفل والعلائم الأخرى ومن جملتها إيداعه في التابوت «الصندوق» وإلقاءه بين أمواج النيل ، وما إلى ذلك ـ أن هذا الطفل من بني إسرائيل ، وأن زوال ملكه على يده ، فجثم كابوس ثقيل على صدره من الهم وألقى على روحه ظلّة ، فأراد أن يجري قانون إجرامه عليه.

فأيده أطرافه وأتباعه المتملّقون على هذه الخطة ، وقالوا : ينبغي أن يذبح هذا الطفل ، ولا دليل على أن لا يجري هذا القانون عليه.

ولكن آسية امرأة فرعون التي لم ترزق ولدا ذكرا ، ولم يكن قلبها منسوجا من قماش عمال قصر فرعون ، وقفت بوجه فرعون وأعوانه ومنعتهم من قتله.

وإذا أضفنا قصّة شفاء بنت فرعون بلعاب فم موسى ـ على ما قدمناه ـ فسيكون دليلا آخر يوضح كيفية انتصار آسية في هذه الازمة.

ولكن القرآن ـ بجملة مقتضية وذات مغزى كبير ـ ختم الآية قائلا :( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ! ) .

أجل ، إنّهم لم يشعروا أنّ أمر الله النافذ ومشيئته التي لا تقهر ، اقتضت أن يتربى هذا الطفل في أهم المراكز خطرا ولا أحد يستطيع أن يردّ هذه المشيئة ، ولا يمكن مخالفتها أبدا

* * *

١٨٦

ملاحظة

تخطيط الله العجيب

إظهار القدرة ليس معناه أن الله إذا أراد أن يهلك قوما جبارين ، يرسل عليهم جنود السماوات والأرض ، فيهلكهم ويدمرهم تدميرا.

إظهار القدرة هو أن يجعل الجبابرة والمستكبرين يدمرون أنفسهم بأيديهم ، يلهم قلوبهم بالإلقاء أنفسهم في البئر التي حفروها لغيرهم ، وأن يصنعوا لأنفسهم سجنا يموتون فيه! وأن يرفعوا أعواد المشانق ليعدموا عليها!

وفي قضية الفراعنة الجبابرة المعاندين حدث مثل هذا ، وتمّت تربية موسى ونجاته في جميع المراحل على أيديهم.

فالقابلة التي أولدت موسى كانت من الأقباط.

والنجار الذي صنع الصندوق الذي أخفي فيه موسى كان قبطيّا.

والذين التقطوا الصندوق كانوا من آل فرعون!.

والذي فتح باب الصندوق كان فرعون بنفسه أو امرأته آسية.

وأخيرا فإن المكان الآمن والهادىء الذي تربّى فيه موسى ـ البطل الذي قهر فرعون ـ هو قصر فرعون ذاته.

وبهذا الشكل يظهر الله تعالى قدرته.

* * *

١٨٧

الآيات

( وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) )

التّفسير

عودة موسى إلى حضن أمّه :

في هذه الآيات تتجسد مشاهد جديدة فأمّ موسى التي قلنا عنها : إنّها ألقت ولدها في أمواج النيل ، بحسب ما فصّلنا آنفا اقتحم قلبها طوفان شديد من الهمّ على فراق ولدها ، فقد أصبح مكان ولدها الذي كان يملأ قلبها خاليا وفارغا منه.

فأوشكت أن تصرخ من أعماقها وتذيع جميع أسرارها ، لكن لطف الله تداركها ، وكما يعبّر القرآن الكريم( وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .

١٨٨

«الفارغ» معناه الخالي ، والمقصود به هنا أن قلب أم موسى أصبح خاليا من كل شيء إلّا من ذكر موسى وإن كان بعض المفسّرين يرون أن المقصود به هو خلوّ القلب من الهمّ والغمّ ، أو أنّه خال من الإلهام والبشائر التي بشرت بها أم موسى من قبل ، ولكن مع الالتفات لهذه الجمل والتدقيق فيها يبدوا هذا التّفسير غير صحيح.

وطبيعيّ تماما أنّ أمّا تفارق ولدها بهذه الصورة يمكن أن تنسى كل شيء إلّا ولدها الرضيع ، ويبلغ بها الذهول درجة لا تلتفت معها إلى ما سيصيبها وولدها من الخطر لو صرخت من أعماقها وأذاعت أسرارها.

ولكن الله الذي حمّل أم موسى هذا العبء الثقيل ربط على قلبها لتؤمن بوعد الله ، ولتعلم أنّه بعين الله ، وأنّه سيعود إليها وسيكون نبيّا.

كلمة «ربطنا» من مادة «ربط» ومعناها في الأصل شدّ وثاق الحيوان أو ما أشبهه بمكان ما ليكون محفوظا في مكانه ، ولذلك يدعى هذا المحلّ الذي تربط فيه الحيوانات بـ «الرباط» ثمّ توسعوا في اللغة فصار معنى الربط : الحفظ والتقوية والاستحكام ، والمقصود من «ربط القلب» هنا تقويته أي تثبيت قلب أم موسى ، لتؤمن بوعد الله وتتحمل هذا الحادث الكبير.

وعلى أثر لطف الله أحست أم موسى بالاطمئنان ، ولكنّها أحبت أن تعرف مصير ولدها ، ولذلك أمرت أخته أن تتبع أثره وتعرف خبره( وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ) .

كلمة «قصّيه» مأخوذة من مادة «قصّ» على زنة «نصّ» ومعناها البحث عن آثار الشيء ، وإنّما سميّت القصّة قصّة لأنّها تحمل في طياتها أخبارا مختلفة يتبع بعضها بعضا.

فاستجابت «أخت موسى» لأمر أمّها ، وأخذت تبحث عنه بشكل لا يثير الشبهة ، حتى بصرت به من مكان بعيد ، ورأت صندوقه الذي كان في الماء يتلقفه

١٨٩

آل فرعون ويقول القرآن في هذا الصدد :( فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ ) .

ولكن أولئك لم يلتفتوا إلى أن أخته تتعقبه( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) .

قال البعض : إن خدم فرعون كانوا قد خرجوا بالطفل من القصر بحثا عن مرضعة له ، فرأتهم أخت موسى.

ويبدوا أنّ التّفسير الأوّل أقرب للنظر ، فعلى هذا بعد رجوع أم موسى إلى بيتها أرسلت أخته للبحث عنه ، فرأت ـ من فاصلة بعيدة ـ كيف استخرجه آل فرعون من النيل لينجو من الخطر المحدق.

هناك تفاسير أخرى لجملة( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) أيضا.

فالعلامة «الطبرسي» لا يستعبد أن يكون تكرار هذه الجملة في الآية السابقة والآيات اللاحقة إشارة إلى هذه الحقيقة ، وهي أن فرعون جاهل بالأمور الى هذه الدرجة فكيف يدعي الرّبوبية؟ وكيف يريد أن يحارب مشيئة الله التي لا تقهر!؟.

وعلى كل حال ، فقد اقتضت مشيئة الله أن يعود هذا الطفل إلى أمّه عاجلا ليطمئن قلبها ، لذلك يقول القرآن الكريم :( وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ ) (١) .

وطبيعي أن الطفل الرضيع حين تمر عليه عده ساعات فإنه يجوع ويبكي ولا يطيق تحمل الجوع ، فيجب البحث عن مرضع له ، ولا سيما أن ملكة مصر «امرأة فرعون» تعلق قلبها به بشدّة ، وأحبّته كروحها العزيزة.

كان عمال القصر يركضون من بيت لآخر بحثا عن مرضع له ، والعجيب في الأمر أنّه كان يأبى أثداء المرضعات.

لعل ذلك آت من استيحاشه من وجوه المرضعات ، أو أنّه لم يكن يتذوق

__________________

(١) «المراضع» جمع «مرضع» على زنة «مخبر» ومعناها المرأة التي تسقي الطفل لبنها من ثديها ، وقال البعض : (المراضع) جمع (مرضع) على زنة (مكتب) أي مكان الإرضاع ، أي ، «الأثداء» وقال البعض : يحتمل أن تكون الكلمة جمعا للمصدر الميمي «مرضع» بمعنى الرضاع ، ولكن المعنى الأوّل أنسب كما يبدو

١٩٠

ألبانهن ، إذ يبدو لبن كلّ منهن مرّا في فمه ، فكأنّه يريد أن يقفز من أحضان المراضع ، وهذا هو التحريم التكويني من قبل الله تعالى إذ حرّم عليه المراضع جميعا.

ولم يزل الطفل لحظة بعد أخرى يجوع أكثر فأكثر وهو يبكي وعمال فرعون يدورون به بحثا عن مرضع بعد أن ملأ قصر فرعون بكاء وضجيجا ، وما زال العمال في مثل هذه الحال حتى صادفوا بنتا أظهرت نفسها بأنّها لا تعرف الطفل ، فقالت :( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ ) .

إنّني أعرف امرأة من بني إسرائيل لها ثديان مملوءان لبنا ، وقلب طافح بالمحبّة ، وقد فقدت وليدها ، وهي مستعدة أن تتعهد الطفل الذي عندكم برعايتها.

فسّر بها هؤلاء وجاءوا بأمّ موسى إلى قصر فرعون ، فلمّا شمّ الطفل رائحة أمّه التقم ثديها بشغف كبير ، وأشرقت عيناه سرورا ، كما أن عمّال القصر سرّوا كذلك لأنّ البحث عن مربية له أعياهم ، وامرأة فرعون هي الأخرى لم تكتم سرورها للحصول على هذه المرضع أيضا.

ولعلهم قالوا للمرضع : أين كنت حتى الآن ، إذ نحن نبحث عن مثلك منذ مدّة فليتك جئت قبل الآن ، فمرحبا بك وبلبنك الذي حلّ هذه المشكلة.

تقول بعض الرّوايات : حين استقبل موسى ثدي أمّه ، قال هامان وزير فرعون لأم موسى : لعلك أمّه الحقيقية ، إذ كيف أبى جميع هذه المراضع ورضي بك ، فقالت : أيّها الملك ، لأنّي امرأة ذات عطر طيب ولبني عذب ، لم يأتي طفل رضيع إلّا قبل بي ، فصدّقها الحاضرون وقدموا لها هدايا ثمينة(١) .

ونقرأ في هذا الصدد حديثا قال الراوي : فقلت للإمام الباقرعليه‌السلام ؛ فكم مكث موسى غائبا من أمّه حتى ردّه الله؟ قال «ثلاثة أيّام»(٢) .

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٤ ، ص ٢٣١.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٦.

١٩١

وقال بعضهم : هذا التحريم التكويني لأنّ الله لم يرد لموسى أن يرتضع من الألبان الملوثة بالحرام الملوّثة بأموال السرقة ، أو الملوّثة بالإجرام والرشوة وغصب حقوق الآخرين ، وإنّما أراد لموسى أن يرتضع من لبن طاهر كلبن أمّه ليستطيع أن ينهض بوجه الأرجاس ويحارب الآثمين.

وتم كل شيء بأمر الله( فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (١) .

هنا ينقدح سؤال مهم وهو : هل أودع آل فرعون الطفل «موسى» عند أمّه لترضعه وتأتي به كل حين ـ أو كل يوم ـ إلى قصر فرعون لتراه امرأة فرعون؟!

أم أنّهم أودعوا موسى في القصر وطلبوا من المرضع «أم موسى» أن تأتي بين فترات متناسبة إلى القصر لترضعه؟!

لا يوجد دليل قوي لأيّ من الاحتمالين ، إلّا أن الاحتمال الأوّل أقرب للنظر كما يبدو!

وهناك سؤال آخر أيضا ، وهو : هل انتقل موسى إلى قصر فرعون بعد إكماله فترة الرضاعة ، أم أنّه حافظ على علاقته بأمّه وعائلته وكان يتردد ما بين القصر وبيته؟!

قال بعضهم : أودع موسى بعد فترة الرضاعة عند فرعون وامرأته ، وتربى موسى عندهما ، تنقل في هذا الصدد قصص عريضة حول موسى وفرعون ، ولكن هذه العبارة التي قالها فرعون لموسىعليه‌السلام بعد بعثته( أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ؟! ) (٢) ، تدل بوضوح على أن موسى عاش في قصر فرعون مدة ، بل مكث هناك سنين طويلة.

ويستفاد من تفسير علي بن إبراهيم أن موسىعليه‌السلام بقي مع كمال الاحترام في

__________________

(١) تحدثنا عن الجذر اللغوي لمادة «تقرّ عينها» في ذيل الآية «٧٤» من سورة الفرقان ـ فيراجع هناك.

(٢) الشعراء ، الآية ١٨.

١٩٢

قصر فرعون حتى مرحلة البلوغ ، إلّا أنّ كلامه عن توحيد الله أزعج فرعون بشدة إلى درجة أنّه صمّم على قتله ، فترك موسى القصر ودخل المدينة فوجد فيها رجلين يقتتلان ، أحدهما من الأقباط والآخر من الأسباط ، فواجه النزاع بنفسه «وسيأتي تفصيل ذلك في شرح الآيات المقبلة إن شاء الله»(١) .

* * *

__________________

(١) لاحظ تفسير علي بن إبراهيم طبقا لما ورد في نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٧.

١٩٣

الآيات

( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) )

التّفسير

موسىعليه‌السلام وحماية المظلومين :

في هذه الآيات نواجه المرحلة الثّالثة من قصّة موسىعليه‌السلام وما جرى له مع فرعون ، وفيها مسائل تتعلق ببلوغه ، وبعض الأحداث التي شاهدها وهو في مصر قبل أن يتوجه إلى «مدين» ثمّ سبب هجرته إلى مدين.

تقول الآيات في البداية( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً

١٩٤

وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) .

كلمة «أشدّ» مشتقّة من مادة «الشدّة» وهي القوّة.

وكلمة «استوى» مشتقة من «الاستواء» ومعناها كمال الخلقة واعتدالها.

وهناك كلام بين المفسّرين في الفرق بين المعنيين :

فقال بعض المفسّرين : المقصود من بلوغ الأشد هو أن يصل الإنسان الكمال من حيث القوى الجسمانية ، وغالبا ما يكون في السنة الثامنة عشرة من العمر أمّا الإستواء فهو الاستقرار والاعتدال في أمر الحياة ، وغالبا ما يحصل ذلك بعد الكمال الجسماني.

وقال بعضهم : إنّ المقصود من بلوغ الأشد هو الكمال الجسماني ، وأمّا الاستواء فهو الكمال العقلي والفكري.

ونقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام في كتاب معاني الأخبار قال : فلمّا بلغ أشدّه واستوى قال : «أشدّه ثمان عشر سنة واستوى ، التحى»(١) .

وليس بين هذه التعابير فرق كبير ، ومن مجموعها ـ مع ملاحظة المعنى اللغوي للكلمتين «الأشدّ والاستواء» ـ يستفاد منهما أنّهما يدلان على التكامل في القوى الجسمية والعقلية والروحية.

ولعل الفرق بين «الحكم» و «العلم» هو أنّ الحكم يراد منه العقل والفهم والقدرة على القضاء الصحيح ، والعلم يراد به العرفان الذي لا يصحبه الجهل.

أمّا التعبير( كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) فيدل بصورة جليّة على أن موسىعليه‌السلام كان جديرا بهذه المنزلة ، نظرا لتقواه وطهارته وأعماله الصالحة ، إذ جازاه الله «بالعلم والحكم» وواضح أنّ المراد بالحكم والعلم هنا ليس النبوّة والوحي وما إليهما لأنّ موسىعليه‌السلام يومئذ لم يبعث بعد ، وبقي مدّة بعد ذلك حتى بعث نبيّا.

بل المقصود والمراد من الحكم والعلم هما المعرفة والنظرة الثاقبة والقدرة

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٧.

١٩٥

على القضاء الصحيح وما شابه ذلك ، وقد منح الله هذه الأمور لموسىعليه‌السلام لطهارته وصدقه وأعماله الصالحة كما ذكرنا آنفا.

ويفهم من هذا التعبير ـ إجمالا ـ أنّ موسىعليه‌السلام لم يتأثر بلون المحيط الذي عاشه في قصر فرعون ، وكان يسعى إلى تحقيق العدل والحق ما استطاع إلى ذلك سبيلا رغم أنّ جزئيات تلك الأعوام غير واضحة.

وعلى كل حال فإن موسى( دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها ) .

فما هي المدينة المذكورة في الآية المتقدمة؟ لا نعرفها على وجه التحقيق لكن الاحتمال القوي أنّها عاصمة مصر وكما يقول بعض المفسّرين فإنّ موسىعليه‌السلام على أثر المشاجرات بينه وبين فرعون ، ومخالفاته له ولسلطته التي كانت تشتدّ يوما بعد يوم حتى بلغت أوجها ، حكم عليه بالتبعيد عن العاصمة لكنّه برغم ذلك فقد سنحت له فرصة خاصّة والناس غافلون عنه أن يعود إلى المدينة ويدخلها.

ويحتمل أيضا ، أنّ المقصود دخوله المدينة من جهة قصر فرعون لأنّ القصور يومئذ كانت تشاد على أطراف المدينة ليعرف الداخل إليها والخارج منها.

والمقصود من جملة( عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها ) هو الزمن الذي يستريح الناس فيه من أعمالهم ، ولا تراقب المدينة في ذلك الحين بدقّة ، ولكن أي حين وأي زمن هو؟!

قال بعضهم : هو أوّل الليل ، لأنّ الناس يتركون أعمالهم ويعطلون دكاكينهم ومحلاتهم ابتغاء الراحة والنوم ، وجماعة يذهبون للتنزه ، وآخرون لأماكن أخرى هذه الساعة هي المعبر عنها بساعة الغفلة في بعض الرّوايات الإسلامية.

وهناك حديث شريف عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا الشأن يقول : «تنفّلوا في ساعة الغفلة ولو بركعتين خفيفتين».

١٩٦

وقد ورد في ذيل هذا الحديث الشريف هذه العبارة «وساعة الغفلة ما بين المغرب والعشاء»(١) .

والحق أنّ هذه الساعة ساعة غفلة وكثيرا ما تحدث الجنايات والفساد والانحرافات الأخلاقية في مثل هذه لساعة من أوّل الليل فلا الناس مشغولون بالكسب والعمل ، ولا هم نائمون ، بل هي حالة غفلة عمومية تغشى المدينة عادة ، وتنشط مراكز الفساد أيضا في هذه الساعة.

واحتمل البعض أن ساعة الغفلة هي ما بعد نصف النهار ، حيث يستريح الناس من أعمالهم استراحة مؤقتة ، ولكن التّفسير الأوّل أقرب للنظر كما يبدو.

وعلى كل حال ، موسى دخل المدينة ، وهنالك واجه مشادّة ونزاعا ، فاقترب من منطقة النزاع( فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ ) .

والتعبير بـ «شيعته» يدل على أن موسى قبل أن يبعث كان له أتباع وأنصار وشيعة من بني إسرائيل ، وربّما كان قد اختارهم لمواجهة فرعون وحكومته كنواة اساسية.

فلمّا بصر الإسرائيلي بموسى استصرخه( فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ) .

فجاءه موسىعليه‌السلام لاستنصاره وتخليصه من عدوّه الظالم الذي يقال عنه أنّه كان طباخا في قصر فرعون ، وكان يريد من الإسرائيلي أن يحمل معه الحطب إلى القصر ، فضرب موسى هذا العدو بقبضة يده القوية على صدره ، فهوى إلى الأرض ميتا في الحال تقول الآية :( فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ ) (٢) .

وممّا لا شك فيه ، فإنّ موسى لم يقصد أن يقتل الفرعوني ، ويتّضح ذلك من خلال الآيات التالية أيضا ولا يعني ذلك أن الفراعنة لم يكونوا يستحقون القتل ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٥ ، ص ٢٤٩ [باب ٢٠ من أبواب الصلوات المندوبة].

(٢) «وكز» مأخوذ من «الوكز» على زنة «رمز» ومعناه الضرب بقبضة اليد ، وهناك معان اخرى لا تناسب المقام

١٩٧

ولكن لاحتمال وقوع المشاكل والتبعات المستقبلية على موسى وجماعته.

لذلك فإنّ موسىعليه‌السلام أسف على هذا الأمر( قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ) .

وبتعبير آخر : فإنّ موسىعليه‌السلام كان يريد أن يبعد الفرعوني عن الرجل الإسرائيلي ، وإن كان الفرعونيون يستحقون أكثر من ذلك. لكن ظروف ذلك الوقت لم تكن تساعد على مثل هذا العمل ، وكما سنرى فإن ذلك الأمر دعا موسىعليه‌السلام إلى أن يخرج من مصر إلى أرض مدين وحرمه من البقاء في مصر.

ثمّ يتحدث القرآن عن موسىعليه‌السلام فيقول :( قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .

ومن المسلم به أنّ موسىعليه‌السلام لم يصدر منه ذنب هنا ، بل ترك الأولى ، فكان ينبغي عليه أن يحتاط لئلا يقع في مشكلة ، ولذلك فإنّه استغفر ربّه وطلب منه العون ، فشمله اللطيف الخبير بلطفه.

لذلك فإنّ موسىعليه‌السلام حين نجا بلطف الله من هذا المأزق( قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ ) من عفوك عني وانقاذي من يد الأعداء وجميع ما أنعمت علي منذ بداية حياتي لحدّ الآن( فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) . ومعينا للظالمين.

بل سأنصر المؤمنين المظلومين ، ويريد موسىعليه‌السلام أن يقول : إنّه لا يكون بعد هذا مع فرعون وجماعته أبدا بل سيكون إلى جانب الإسرائيليين المضطهدين ..».

واحتمل بعضهم أن يكون المقصود بـ «المجرمين» هو هذا الإسرائيلي الذي نصره موسى ، إلّا أن هذا الاحتمال بعيد جدّا ، حسب الظاهر.

* * *

١٩٨

مسألتان

١ ـ ألم يكن عمل موسى هذا مخالفا للعصمة!

للمفسّرين أبحاث مذيّلة وطويلة في شأن المشاجرة التي حدثت بين القبطي والإسرائيلي وقتل موسى للقبطي.

وبالطبع فإنّ أصل هذا العمل ليس مسألة مهمّة لأنّ الظلمة الأقباط والفراعنة المفسدين الذين قتلوا آلاف الأطفال من بني إسرائيل ولم يتأبّوا يحجموا عن أية جريمة ضد بني إسرائيل ، لم تكن لهم حرمة عند بني إسرائيل.

إنّما المهم عند علماء التّفسير هو تعبيرات موسىعليه‌السلام التي ولّدت إشكالات عندهم.

فهو تارة يقول :( هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) .

وفي مكان آخر يقول :( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ) .

فكيف تنسجم أمثال هذه التعابير مع عصمة الأنبياء حتى قبل بعثتهم ورسالتهم.

ولكن هذه الإشكالات تزول بالتوضيح المتقدم في تفسير الآية الآنفة ، وهو أن ما صدر من موسىعليه‌السلام هو من قبيل «ترك الأولى» لا أكثر ، إذ كان عليه أن يحتاط قبل أن يضرب القبطي ، فلم يحتط ، فأوقع نفسه في مشاكل جانبية ، لأنّ قتل القبطي لم يكن أمرا هينا حتى يعفو عنه الفراعنة.

ونعرف أن ترك الأولى لا يعني أنّه عمل حرام ذاتا ، بل يؤدي الى ترك عمل أهم وأفضل ، دون أن يصدر منه عمل مخالف ومناف لذلك العمل!.

ونظير هذه التعابير ما ورد في بعض قصص الأنبياء من جملتهم أبو البشر آدمعليه‌السلام التي تقدم شرحه في ذيل الآية (١٩) من سورة الأعراف.

ونقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام في تفسير الآيات

١٩٩

المتقدمة :

«قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ » يعنى الاقتتال الذي وقع بين الرجل لا ما فعله موسىعليه‌السلام من قتله «إنه» يعنى الشيطان «عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ » ـ وأمّا المراد من جملة ـ «رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي » يعنى ان موسى يريد أن يقول وضعت نفسي غير موضعها بدخول هذه المدينة «فَاغْفِرْ لِي » أي استرني من أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلوني ...».(١)

٢ ـ دعم المجرمين وإسنادهم من أعظم الآثام :

هناك باب مفصل في الفقه الإسلامي فيه أحاديث وافرة تتحدث حول «الإعانة على الإثم» و «معاونة الظلمة» وتدل على أن واحدا من أسوأ الآثام إعانة الظالمين والمجرمين ، وتكون سببا لأن يشترك المعين في مصيرهم الأسود.

وأساسا فإنّ الظلمة والمجرمين ـ أمثال فرعون ـ في المجتمع أيّا كان هم أفراد معدودون ، وإذا لم يساعد المجتمع هؤلاء لم يكونوا فراعنة ، فهؤلاء القلّة المتفرعنون إنّما يعتمدون على الناس الضعاف أو الانتهازيين وعبدة الدنيا ، الذين يلتفّون حولهم ويكونون لهم أجنحة وأذرعا ، أو على الأقل يكثّرون السواد ليوفروا لهم القدرة الشيطانية.

وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تشير إلى هذا الأصل الإسلامي ، فنحن نقرأ في الآية الثّانية من سورة المائدة قوله تعالى :( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) .

كما أنّ القرآن يصرّح في بعض آياته بالقول :( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا

__________________

(١) عيون أخبار الرضا طبقا لما ورد في تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٩.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

من كل ما قيل يتّضح أنّ هذا المبدأ والمرتكز الفكري لا يختص باليهود ، بل هو أصل في حياة الأمم والشعوب. وعلى هذا الأساس فإنّ الذين يجمعون متاعا زائلا بواسطة كتمان الحقائق وتحريفها ، ثمّ يرون نتائجه المشؤومة يتّخذون لأنفسهم حالة من التوبة الكاذبة ، توبة سرعان ما تزول وتذوب أمام ابتسامه من منفعة مادية متجدّدة ، كما يذوب الثلج في حرّ القيظ فهؤلاء هم المخالفون لإصلاح المجتمعات البشرية ، وهم الذين يضحون بمصالح الجماعة في سبيل مصالح الفرد ، سواء صدر هذا الفعل من يهوديّ أو مسيحي أو مسلم.

* * *

٢٨١

الآية

( وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١) )

التّفسير

آخر كلام حول اليهود :

«نتقنا» من مادة «نتق» على وزن «قلع» تعني في الأصل قلع وانتزاع شيء من مكانه ، وإلقاءه في جانب آخر ، ويطلق على النساء اللواتي يلدن كثيرا أيضا «ناتق» لأنّهن يفصلن الأولاد من أرحامهن ويخرجنهم بسهولة.

وهذه الآية آخر آية في هذه السورة تتحدث حول حياة بني إسرائيل ، وهي تتضمّن تذكير قصّة أخرى ليهود عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قصّة فيها عبرة ، كما أنّها دليل على إعطاء ميثاق وعهد ، إذ يقول : واذكروا إذ قلعنا الجبل من مكانه وجعلناه فوق رؤوسهم كأنّه مظلّة( وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ ) .

وقد ظنوا أنّه سيسقط على رؤوسهم ، فإنتابهم اضطراب شديد وفزع :( وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ ) .

وفي تلك الحالة قلنا لهم : خذوا ما أعطيناكم من الأحكام بقوة وجديّة

٢٨٢

( خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ ) واذكروا ما جاء فيه حتى تتقوا ، وخافوا من العقاب الإلهي واعملوا بما أخذناه فيه منكم من المواثيق( وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) .

إنّ هذه الآية نفسها جاءت ـ بفارق بسيط في الآية (٦٣) من سورة البقرة ، وكما قلنا هناك فإنّ هذه القصة وقعت ـ حسب ما قال المفسّر المعروف العلّامة الطبرسي في مجمع البيان عن ابن زيد ـ عند ما عاد موسىعليه‌السلام من جبل الطور ، واصطحب معه أحكام التوراة فعند ما عرض على قومه الواجبات والوظائف وأحكام الحلال والحرام تصوروا أنّ العمل بكل هذه الوظائف أمر مشكل ، ولهذا بنوا على المخالفة والعصيان في هذا الوقت نفسه ، رفعت قطعة عظيمة من الجبل فوق رؤوسهم ، بحيث وقعوا في اضطراب عظيم ، فالتجأوا إلى موسىعليه‌السلام وطلبوا منه رفع هذا الخطر والخوف عنهم ، فقال لهم موسىعليه‌السلام في تلك الحالة : لو تعهدتم بأن تكونوا أوفياء لهذه الأحكام لزال عنكم هذا الخطر فسلّموا وتعهّدوا وسجدوا لله تعالى فزال عنهم الخطر ، وأزيحت الصخرة من فوق رؤوسهم.

أسئلة وأجوبة :

وهنا سؤالان أشرنا إليهما في سورة البقرة وإلى جوابيهما ، ونذكر مختصرا عنهما هنا بالمناسبة.

السّؤال الأوّل : ألم يكن لأخذ الميثاق في هذه الحالة صفة الإجبار؟

والجواب : لا شك أنّه كانت تحكم في ذلك الظرف حالة من الإجبار والاضطرار ، ولكن من المسلّم أنّه لمّا ارتفع وزال الخطر فيما بعد كان بإمكانهم مواصلة هذا السلوك باختيارهم.

٢٨٣

هذا مضافا إلى أنّه لا معنى للإجبار في مجال الإعتقاد ، أمّا في مجال العمل فلا مانع من أن يجبر الناس على أمور تربوية تضمن خيرهم وسعادتهم وصلاحهم. فهل من العيب لو أنّنا أجبرنا شخصا على ترك عادة شريرة ، أو سلوك طريق آمن من الخطر ، وعدم سلوك طريق محفوف بالأخطار؟

السّؤال الثّاني : كيف رفع الجبل فوق رؤوسهم :

الجواب : ذهب بعض المفسّرين إلى أن الجبل قلع من مكانه بأمر الله ، واستقر فو رؤوسهم كمظلّة.

وذهب آخرون إلى أنّه اهتز الجبل اهتزازا شديدا بفعل زلزال شديد بحيث شاهد الناس الذين كانوا يسكنون في سفح الجبل ظلّ قسم منه فوق رؤوسهم.

ويحتمل أيضا أن قطعة من الجبل انتزعت من مكانها واستقرت فوق رؤوسهم لحظة واحدة ، ثمّ مرّت وسقطت في جانب آخر.

ولا شك في أنّ هذا الأمر كان أمرا خارقا للعادة وليس حدثا طبيعيا عاديا.

والموضوع الآخر الذي يجب الانتباه إليه هو أنّ القرآن لا يقول : إنّ الجبل صار مظلّة فوق رؤوسهم بل قال : (كأنّه ظلّة).

وهذا التعبير إنّما هو لأجل أنّ المظلّة تنصب على رؤوس الأشخاص لإظهار الحب ، والحال أنّ هذه العملية ـ المذكورة في الآية الحاضرة ـ كانت من باب التهديد ، أو لأجل أنّ المظلة شيء مستقر وثابت ، ولكن رفع الجبل فوق رؤوسهم كان يتسم بعدم الثبات والدوام.

قلنا : مع هذه الآية تختم الآيات المتعلقة بقصة بني إسرائيل والحوادث المختلفة ، والذكريات الحلوة والمرّة التي وقعت في حياتهم.

وهذه القصّة هي آخر قصص الأنبياء التي جاءت في هذه السورة. وذكر هذه القصّة في نهاية قصصهم ـ مع أنّها ليست آخر حدث من الحوادث المرتبطة بهذه

٢٨٤

الجماعة ـ لعله لأجل أنّ الهدف من جميع هذه القصص هو التمسك بآيات الله والعمل بالمواثيق ، ولأجل الوصول إلى التقوى الذي جاء بيانه في هذه الآية والآية السابقة.

يعني أنّ رسالة موسىعليه‌السلام وسائر الأنبياء وأعمالهم مواجهاتهم المستمرة والصعبة وما لقوا من صعاب ومتاعب وشدائد مضنية كانت لأجل تطبيق أوامر الله ، وتنفيذ مبادئ الحق والعدالة والطهر والتقوى في المجتمعات البشرية بشكل كامل.

* * *

٢٨٥

الآيات

( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤) )

التّفسير

العهد الأوّل وعالم الذّر :

الآيات المذكورة أعلاه ، تشير إلى «التوحيد الفطري» ووجود الإيمان في أعماق روح الإنسان ولذلك فإنّ هذه الآيات تكمل الأبحاث الواردة في الآيات المتقدمة من هذه السورة في شأن «التوحيد الاستدلالي»!

وبالرغم من كثرة الأقوال والكلام بين المفسّرين في شأن عالم الذّر ، إلّا أنّنا نحاول أن نبيّن التّفسير الإجمالي لهذه الآيات الكريمة ، ثمّ نختار الأهم من أبحاث المفسّرين ، ونبيّن وجهة نظرنا بصورة استدلالية موجزة!

يقول الله سبحانه مخاطبا نبيّه في هذه الآية( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ

٢٨٦

ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا! ) .

«الذريّة» كما يقول أهل اللغة وعلماؤها ، معناها في الأصل الأبناء الصغار اليافعون ، إلّا أنّها تطلق في الغالب على عموم الأبناء ، وقد تستعمل هذه الكلمة في معنى المفرد ، كما قد تستعمل في معنى الجمع ، إلّا أنّها في الأصل تحمل معنى الجمع!

والجذر اللغوي لهذه الكلمة مختلف فيه ، إذ احتملوا له أوجها متعددة.

فقال بعضهم : إنّ جذر هذه الكلمة مأخوذ من «ذرأ» على زنة «زرع» ومعناه الخلق ، فعلى هذا الوجه يكون معنى الذرية مساويا «للمخلوق».

وقال بعضهم : بل الجذر مأخوذ من «ذرّ» على وزن «شرّ» ويعني الموجودات الصغيرة جدّا كذرّات الغبار مثلا والنمل الصغير ، ومن هنا فإنّ أبناء الإنسان تبدأ حياتهم من نطفة صغيرة جدا.

والاحتمال الثّالث أنّه مأخوذ من مادة ذرو ومعناه النثر والتفريق والتنقية [ومنه ذرو الحنطة(١) ] وإنما سمي أبناء الإنسان بالذرية لأنّهم يتفرقون في أنحاء الأرض بعد التكاثر!

ثمّ يشير الله سبحانه إلى الهدف النهائي من هذا السؤال والجواب ، وأخذ العهد من ذرية آدم في مسألة التوحيد ، فيقول :( أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ ) .

الآية التّالية تشير إلى هدف آخر من أخذ هذا العهد ، وهو أنّه إنّما أخذ ربّك هذا العهد من ذرية بني آدم لئلا تعتذروا( أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ) .

أجل( ... وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) .

__________________

(١) يقال ذرأ فلان الحنطة ذروأ أو ذرّاها تذرية ، أي نقّاها من الشوائب.

٢٨٧

إيضاح لما ورد عن عالم الذّر.

رأينا أنّ الآيات محل البحث تتحدث عن أخذ العهد من ذريّة آدم ، لكن كيف أخذ هذا العهد؟!

لم يرد في النص إيضاح في جزئيات هذا الموضوع ، إلّا أنّ للمفسّرين آراء متعددة تعويلا منهم على الرّوايات الإسلامية «الواردة عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيتهعليهم‌السلام » ومن أهم هذه الآراء رأيان.

١ ـ حين خلق آدم ظهر أبناؤه على صورة الذّر إلى آخر نسل له من البشر «وطبقا لبعض الرّوايات ظهر هذا الذّر أو الذرّات من طينة آدم نفسه» وكان لهذا الذرّ عقل وشعور كاف للاستماع والخطاب والجواب ، فخاطب الله سبحانه الذرّ قائلا( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ) ؟! فأجاب الذرّ جميعا :( بَلى شَهِدْنا ) .

ثمّ عاد هذا الذرّ «أو هذه الذرات» جميعا إلى صلب آدم «أو إلى طينته» ومن هنا فقد سمي بهذا العالم بعالم الذرّ وهذا العهد بعهد «ألست»؟

فبناء على ذلك ، فإنّ هذا العهد المشار إليه آنفا هو عهد تشريعي ، ويقوم على أساس «الوعي الذاتي» بين الله والناس.

٢ ـ إنّ المراد من هذا العالم وهذا العهد هو عالم الاستعداد «والكفاءات» ، و «عهد الفطرة» والتكوين والخلق. فعند خروج أبناء آدم من أصلاب آبائهم إلى أرحام الأمهات ، وهم نطف لا تعدو الذرات الصغار ، وهبهم الله الاستعداد لتقبل الحقيقة التوحيدية ، وأودع ذلك السرّ الإلهي في ذاتهم وفطرتهم بصورة إحساس داخلي كما أودعه في عقولهم وأفكارهم بشكل حقيقة واعية بنفسها.

فبناء على هذا ، فإنّ جميع أبناء البشر يحملون روح التوحيد ، وما أخذه الله من عهد منهم أو سؤاله إيّاهم : ألست بربكم؟ كان بلسان التكوين والخلق ، وما أجابوه كان باللسان ذاته!

٢٨٨

ومثل هذه التعابير غير قليلة في أحاديثنا اليوميّة ، إذ نقول مثلا : لون الوجه يخبر عن سره الباطني «سيماهم في وجوهم» ، أو نقول : إنّ عيني فلان المجهدتين تنبئان أنّه لم ينم الليلة الماضية.

وقد روي عن بعض أدباء العرب وخطبائهم أنّه قال في بعض كلامه : سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك وأينع ثمارك؟ فإنّ لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا! كما ورد في القرآن الكريم التعبير على لسان الحال ، كالآية (١١) من سورة فصلت ، إذ جاء فيها( فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) .

هذا باختصار هو خلاصة الرأيين أو النظرتين المعروفتين في تفسير الآيات آنفة الذكر لّا أنّ التّفسير الأوّل فيه بعض الإشكالات ، ونعرضها في ما يلي :

١ ـ ورد التعبير في نصّ الآيات المتقدمة عن خروج الذريّة من بني آدم من ظهورهم ، إذ قال تعالى( ... مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) مع أنّ التّفسير الأوّل يتكلم عن آدم نفسه أو عن طينة آدم.

٢ ـ إذا كان هذا العهد قد أخذ عن وعي ذاتي وعن عقل وشعور ، فكيف نسيه الجميع؟! ولا يتذكر أحد مع أنّ الفاصلة الزمانية بين زماننا ليست بأبعد مدى من الفاصلة بين هذا العالم والعالم الآخر «أو القيامة»؟ ونحن نقرأ في آيات عديدة من القرآن الكريم أنّ الناس سواء كانوا من أهل الجنّة أو من أهل النّار لا ينسون أعمالهم الدنيوية في يوم القيامة ، ويتذكرون ما اكتسبوه بصورة جيدة ، فلا يمكن أن يوجّه هذا النسيان العمومي في شأن عالم الذر أبدا «ولا مجال لتأويله!».

٣ ـ أيّ هدف كان من وراء مثل هذا العهد؟! فإذا كان الهدف أن يسير المعاهدون ، في طريق الحق عند تذكرهم مثل هذا العهد ، وألّا يسلكوا إلّا طريق معرفة الله ، فينبغي القول بأنّ مثل هذا الهدف لا يتحقق أبدا وبأي وجه كان ، لأنّ

٢٨٩

الجميع نسوه!! وبدون هذا الهدف يعدّ هذا العهد لغوا ولا فائدة فيه.

٤ ـ إنّ الإعتقاد بمثل هذا العالم يستلزم ـ في الواقع ـ القبول بنوع من التناسخ ، لأنّه ينبغي ـ طبقا لهذا التّفسير ـ أن تكون روح الإنسان قد خلقت في هذا العالم قبل ولادته الفعلية ، وبعد فترة طويلة أو قصيرة جاء إلى هذا العالم ثانية ، وعلى هذا فسوف تحوم حوله كثيرا من الإشكالات في شأن التناسخ!

غير أنّنا إذا أخذنا بالتّفسير الثّاني ، فلا يرد عليه أيّ إشكال ممّا سبق ، لأنّ السؤال والجواب ، أو العهد المذكور ـ عهد فطري ، وما يزال كلّ منّا يحس بآثاره في أعماق روحه ، وكما يعبر عنه علماء النفس بـ «الشعور الديني» الذي هو من الإحساسات الأصيلة في العقل الباطني للإنسان. وهذا الإحساس يقود الإنسان على امتداد التأريخ البشري إلى «طريق» معرفة الله ومع وجود هذا الإحساس أو الفطرة لا يمكن التذرّع بأنّ أباءنا كانوا عبدة للأصنام ونحن على آثارهم مقتدون!!( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ) (١) .

والإشكال الوحيد الذي يرد على التّفسير الثّاني هو أنّ هذا السؤال والجواب يتخذ شكلا «كنائيّا» ويتسم بلغة الحوار. إلّا أنّه مع الالتفات إلى ما بيّناه آنفا بأن مثل هذه التعابير كثير في لغة العرب وجميع اللغات ، فلا يبقي أيّ إشكال في هذا المجال.

ويبدو أن هذا التّفسير أقرب من سواه!

__________________

(١) الروم ، ٣٠.

٢٩٠

عالم الذر في الرّوايات الإسلاميّة :

وردت روايات كثيرة في مختلف المصادر الإسلاميّة من كتب الشيعة وأهل السنة حول عالم الذّر بحيث تتصور لأوّل وهلة وكأنّها رواية متواترة فمثلا في تفسير البرهان وردت ٣٧ رواية ، وفي تفسير نور الثقلين وردت ذيل الآيات الآنفة ٣٠ رواية بعضها مشترك والآخر مختلف ، وبملاحظة الاختلاف فيها فقد يصل مجموع ما ورد من الرّوايات إلى أربعين رواية إلّا أنّنا سنجد ـ بعد التدقيق في مضامينها ومحتواها وتقسيمها إلى مجاميع ، وفحصها ـ أنّه لا يمكن أن نعثر رواية واحدة معتبرة منها ، فكيف يمكن الإعتقاد بتواترها؟!

إنّ أكثر تلك الرّوايات منقول عن زرارة ، وبعضها عن صالح بن سهل ، وبعضها عن أبي بصير ، وبعضها عن جابر ، وبعضها عن عبد الله بن سنان ، ومن ذلك يظهر لنا أنّه لو روى شخص واحد روايات كثيرة لكنّها متحدة المضمون فهي تعد بحكم الرواية الواحدة ، وبناء على ذلك فسيقلّ عدد تلك الرّوايات الكثيرة وتتضاءل نسبتها وتبلغ ما بين ١٠ إلى ٢٠ رواية ، هذا من ناحية السند.

أمّا من ناحية المضمون والدليل فإنّ مضامينها تختلف بعضها عن بعض ، فمنها ما يوافق التّفسير الأوّل ، ومنها ما يوافق التّفسير الثّاني ، وبعضها لا يوافق التّفسيرين فالرّوايات المرقمة (٣) و (٤) و (٨) و (١١) و (٢٨) و (٢٩) والمروية عن زرارة في تفسير البرهان ـ ذيل الآيات محل البحث ـ تتفق والتّفسير الأوّل. وما روى عن عبد الله بن سنان في الروايتين (٧) و (١٢) في تفسير البرهان نفسه ، يتفق والتّفسير الثاني أي أنّ بعض هذه الرّوايات مبهم ، وبعضها يمثّل رموزا وعبارات مجازية ، كما في الروايتين (١٨) و (٢٣) المرويتين عن أبي سعيد الخدري وعبد الله الكلبي ،

٢٩١

الواردتين في التّفسير آنف الذكر.

وبعض الرّوايات يذكر «أرواح بني آدم» كما في الرواية (٢٠) المرويّة عن المفضّل! ثمّ إن الرّوايات ـ المذكورة آنفا ـ بعضها ذو سند معتبر ، وبعضها فاقد للسند أو مرسل.

فبناء على ذلك ـ وبملاحظة التعارض بين الرّوايات ـ لا يمكننا التعويل عليها على أنّها وثيقة معتبرة وكما عبّر أكابر علمائنا في مثل هذه الموارد فإنّه ينبغي أن نتجنّب الحكم على مثل هذه الرّوايات ، وأن نكلها إلى أصحابها ورواتها.

وفي هذه الصورة نبقى متمسّكين بالنص القرآني ، وكما ذكرنا أنفا فإن التّفسير الثّاني أكثر انسجاما مع الآيات.

ولو كان أسلوبنا في البحث التفسيري يسمح لنا أن نذكر جميع طوائف الرّوايات ، والتحقيق فيها ـ كنا أشرنا آنفا ـ لفعلنا ذلك ليكون البحث أكثر وضوحا.

إلّا أنّ الراغبين يمكنهم الرجوع إلى التّفسير «نور الثقلين ، وتفسير البرهان ، وبحار الأنوار» ، وليبحثوا في مجاميعها ويصنفوها ، وينظروا في أسانيدها ومضامينها.

* * *

٢٩٢

الآيات

( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧) مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨) )

التّفسير

في هذه الآيات إشارة لقصّة أخرى من قصص بني إسرائيل ، وهي تعد مثلا وأنموذجا لجميع أولئك الذين يتصفون بمثل هذه الصفات.

وكما سنلاحظ خلال تفسير الآيات ـ محل البحث ـ فإنّ للمفسّرين احتمالات متعددة في الذي تتحدث عنه أو (عليه) الآيات إلّا أنّه ممّا لا ريب

٢٩٣

فيه أن مفهوم الآيات ـ كسائر الآيات النازلة في ظروف خاصّة ـ عام وشامل.

والآية الأولى من هذه الآيات يخاطب بها النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول القرآن الكريم( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ ) .

فهذه الآية واضحة أنّها تحكي قصّة رجل كان في البداية في صف المؤمنين ، وحاملا للعلوم الإلهية والآيات ، إلّا أنّه انحراف عن هذا النهج ، فوسوس له الشيطان ، فكانت عاقبة أمره أن انجرّ إلى الضلال والشقاء! والتعبير بـ «انسلخ» وهو من مادة «الانسلاخ» معناه في الأصل الخروج من الجلد يدلّ على أن الآيات والعلوم الإلهية كانت تحيط به إحاطة الجلد بالبدن ، إلّا أنّه خرج منها على حين غرّة واستدار إلى الوراء وغيّر مسيره بسرعة! كما أنّ التعبير القرآني «فأتبعه الشيطان» يستفاد منه أنّ الشيطان كان أوّل الأمر آيسا منه تقريبا ، لأنّه كان يسلك سبيل الحق تماما ، وبعد أن انحرف لحقه الشيطان وتربص له وأخذ يوسوس له حتى انتهى أمره إلى أن يكون من الضالين المنحرفين الأشقياء(١) .

والآية التّالية تكمل هذا الموضوع على النحو التّالي( وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها ) .

إلّا أن من المسلّم أنّ إكراه الناس وإجبارهم على أن يسلكوا سبيل الحق لا ينسجم والسنن الإلهية وحرية الإدارة ، ولا يكون ذلك دليلا على عظمة الشخص ، لهذا فإنّ الآية تضيف مباشرة. إنّنا تركناه وهواه ، وبدلا من أن ينتفع من معارفه فإنّه هوى وانحطّ( وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ ) .

وكلمة (أخلد) من (الإخلاد) وهي تعني السكن الدائم في مكان واحد مع

__________________

(١) تبع واتبع بمعنى لحق أو أدرك.

٢٩٤

حرية الإرادة ، فجملة (أخلد إلى الأرض) تعني اللصوق الدائم بالأرض ، وهي كناية عن عالم المادة وبهارجها ، واللذائذ غير المشروعة للحياة المادية.

ثمّ تشبّه الآية هذا الفرد بالكلب الذي يخرج لسانه لاهثا دائما كالحيوانات العطاشى فتقول( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ) .

فهو لفرط اتّباعه الهوى وتعلقه بعالم المادة انتابته حالة من التعطش الشديد غير المحدود وراء لذائذ الدنيا ، وكل ذلك لم يكن لحاجة ، بل لحالة مرضيّة ، فهو كالكلب المسعور الذي يظهر بحالة عطش كاذب لا يمكن ارواؤها وهي حالة عبيد الذين لا يهمهم غير جمع المال واكتناز الثروة فلا يحسون معه بشبع أبدا.

ثمّ تضيف الآية : إنّ هذا المثال الخاص لا يتعلق بفرد معين ، بل :( ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )

العالم المنحرف «بلعم بن باعوراء» :

كما لاحظنا أنّ الآيات السالفة لم تذكر اسم أحد بعينه ، بل تحدثت عن عالم كان يسير في طريق الحق ابتداء وبشكل لا يفكر معه أحد بأنّه سينحرف يوما ، إلّا أنّه نتيجة لاتّباعه لهوى النفس وبهارج الدنيا انتهى إلى السقوط في جماعة الضالين وأتباع الشياطين.

غير أنّنا نستفيد من أغلب الرّوايات وأحاديث المفسّرين أن هذا الشخص يسمّى (بعلم بن باعوراء) الذي عاصر النّبي موسىعليه‌السلام وكان من مشاهير علماء بني إسرائيل ، حتى أن موسىعليه‌السلام كان يعوّل عليه على أنّه داعية مقتدر ، وبلغ أمره أن دعاءه كان مستجابا لدى الباري جل وعلا ، لكنّه مال نحو فرعون وإغراءاته فانحرف عن الصواب ، وفقد مناصبه المعنوية تلك حتى صار بعدئذ في جبهة

٢٩٥

أعداء موسىعليه‌السلام (١) .

إلّا أننا نستبعد ما يحتمله بعضهم من أن المقصود هو (أمية بن الصلت) الشاعر المعروف في زمان الجاهلية ، الذي كان بادئ أمره ونتيجة لاطلاعه على الكتب السماوية ينتظر نبي آخر الزمان ، ثمّ حصل له هاجس أن النّبي قد يكون هو نفسه ، ولذلك بعد أن بعث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصابه الحسد له وعاداه.

وبعيد كذلك ما احتمله بعضهم من أنّه كان (أبا عامر) الراهب المعروف في الجاهلية ، الذي كان يبشر الناس بظهور رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكنّه بعد ظهوره صار من أعدائه. لأنّ جملة (واتل) وكلمة (نبأ) وجملة (فاقصص القصص) تدل على أنّ تلك الأمور لا تتعلق بأشخاص عاصروا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . بل بأقوام سابقين ، مضافا إلى تلك فإنّ سورة الأعراف من السور المكية وقضيتا [أبي عامر الراهب] و [أمية بن الصلت] تتعلقان بحوادث المدينة.

ولكن بما أن أشخاصا على غرار «بلعم» كانوا موجودين في عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ك (أبي عامر) و (أمية بن الصلت) فإنّ الآيات محل البحث تنطبق على هذه الموارد في كل عصر وزمان ، وإلّا فإنّ مورد القصّة هو «بلعم بن باعوراء» لا غير.

وقد نقل تفسير (المنار) عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن مثل بلعم بن باعوراء في بني إسرائيل كأمية بن أبي الصلت في هذه الأمّة.

وورد عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «الأصل من ذلك بلعم ، ثمّ ضربه الله مثلا لكل مؤثر هواه على هوى الله من أهل القبلة».

ومن هذا يتبيّن أن الخطر الأكيد الذي يهدد المجتمعات الإنسانية هو خطر المثقفين والعلماء الذين يسخّرون معارفهم للفراعنة والجبارين لأجل أهوائهم

__________________

(١) في التوراة الحالية نجد ورود قضية «بلعم بن باعوراء» أيضا ، إلّا أنّ التوراة تبرئه في النهاية من الانحراف ، يراجع بذلك سفر الأعداد الباب ٢٢.

٢٩٦

وميولهم الدنيوية (والإخلاد إلى الأرض) ويضعون كل طاقاتهم الفكرية في سبيل الطاغوت الذي يعمل ما في وسعه لاستغلال مثل هذه الشخصيات لإغفال وإضلال عامّة الناس.

ولا يختص الأمر بزمن النّبي موسىعليه‌السلام أو غيره من الأنبياء ، بل حتى بعد عصر النّبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى يومنا هذا نجد أمثال بلعم بن باعوراء وأبي عامر الراهب وأمية بن الصلت ، يضعون علومهم ومعارفهم ونفوذهم الاجتماعي من أجل الدرهم والدينار ، أو المقام ، أو لأجل الحسد ، تحت إختيار المنافقين وأعداء الحق والفراعنة أمثال بني أمية وبني العباس وسائر الطواغيت.

ويمكن معرفة أولئك العلماء من خلال أوصاف أشارت إليها الآيات محل البحث ، فإنّهم ممن نسي ربّه واتبع هواه ، وهم ذوو نزوات سخروها للرذيلة بدل التوجه نحو الله وخدمة خلقه ، وبسبب هذا التسافل فقدوا كل شيء ووقعوا تحت سلطة الشيطان ووساوسه ، فسهل بيعهم وشراؤهم ، وهم كالكلاب المسعورة التي لا ترتوي أبدا ، ولهذه الأمور ترك هؤلاء سبيل الحقيقة وضلوا عن الطريق حتى غدوا أئمّة الضلال.

ويجب على المؤمنين معرفة مثل هؤلاء الأشخاص والحذر منهم واجتنابهم.

والآيتان التاليتان ـ كنتيجة عامّة وشاملة لقضية ـ (بلعم) والعلماء الدنيويين فتقول أولاهما( ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ ) .

فما أفحش ظلم الإنسان لنفسه وهو يسخّر ملكاته المعنوية وعلومه النافعة التي بإمكانها أن تعود عليه وعلى مجتمعه بالخير ـ ويضعها تحت إختيار المستكبرين وأصحاب القدرة الدنيوية ويبيعها بثمن بخس فيؤدي ذلك إلى سقوطه وسقوط المجتمع والآية الاخيرة تحذّر الإنسان وتؤكّد له أن الخلاص من مثل هذا الانحراف وما يكيده الشياطين لا يمكن إلّا بتوفيق وتسديد من الله

٢٩٧

عزوجل ( مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ) .

وتقدم كرّات بأنّ (الهداية) و (الإضلال) الإلهيين لا يعدان إجبارا ولا بدون حساب أو دليل ، ويقصد بهما إعداد الأرضية للهداية وفتح سبلها أو إيصادها ، وذلك بسبب الأعمال الصالحة أو الطالحة التي صدرت من الإنسان من قبل ، وعلى أية حال فالتصميم النهائي بيد الإنسان نفسه فبناء على هذا فإنّ الآية محل البحث تنسجم مع الآيات المتقدمة التي تذهب إلى أصل حرية الإرادة ولا منافاة بين هذه الآية وتلكم الآيات بتاتا

* * *

٢٩٨

الآيات

( وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩) وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠) وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١) )

التّفسير

علائم أهل النّار :

هذه الآيات تكمل الموضوع الذي تناولته الآيات المتقدمة حول العلماء الذين ركنوا إلى الدنيا ، وعوامل الهداية والضلال. والآيات ـ محل البحث ـ تقسم الناس إلى مجموعتين وتحكى عن صفاتهما وهما أهل النّار ، وأهل الجنّة.

فتتحدث عن المجموعة الأولى ـ أهل النّار أوّلا ، فتأتي بالقسم والتوكيد فتقول( وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ) .

وكلمة «ذرأنا» مشتقّة من «ذرأ» ، وتعني هنا الإيجاد والخلق ، غير أنّها في

٢٩٩

أصل اللغة تعني نشر الشيء وتفريقه ، وقد وردت بهذا المعنى «الثّاني» في القرآن أيضا ، كما في عبارة( تَذْرُوهُ الرِّياحُ ) (١) .

ولأنّ خلق الكائنات يستلزم تفريقها وتوزيعها وانتشارها على وجه الأرض ، فقد جاءت هذه الكلمة بمعنى خلق «المخلوق» أيضا : وعلى كل حال ، فإنّ الإشكال المهم في هذا التعبير هو كيف قال الله سبحانه( وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ) ؟ في حين قال في مكان آخر( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) (٢) وطبقا لمعنى هذه الآية فإنّ الجن والإنس لم يخلقوا لغير عبادة الله والرقي والتكامل والسعادة ، أضف إلى ذلك أنّ هذا التعبير تشمّ منه رائحة الجبر في الخلق ، ومن هنا فقد استدل بعض مؤيدي مدرسة الجبر من أمثال الفخر الرازي بهذه الآية لإثبات مذهبه.

لكنّنا لو ضممنا آيات القرآن بعضها إلى بعض وبحثناها موضوعيّا دون أن نبتلى بالسطحيّة ، لوجدنا الجواب على هذا السؤال كامنا في الآية محل البحث ذاتها ، كما هو بيّن في آيات أخرى من القرآن الكريم أيضا بحيث لا يدع مجالا لأنّ تستغل الآية ليسا فهمها لدى بعض الأفراد. مثل هذا التعبير كمثل قول النجار إذ يقول مثلا : إنّ قسما كبيرا من هذا الخشب وقد هيأته لكي أصنع منه أبوابا جميلة ، والقسم الآخر هو للإحراق والإضرام فالخشب الرائق الجيّد المناسب سأستعمله للقسم الأوّل ، وأمّا الخشب الرديء غير المناسب فسأدعه للقسم الثّاني.

ففي الحقيقة أنّ للنجار هدفين : هدفا «أصيلا» وهدفا (تبعيّا).

فالهدف الأصيل هو صنع الأبواب والأطر الخشبيّة الجيّدة وما إلى ذلك ، وهو يبذل قصارى جهده وسعيه في هذا المضمار

__________________

(١) الكهف ، ٤٥.

(٢) سورة الذاريات : ٥٦.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606