الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 606
المشاهدات: 233271
تحميل: 5422


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 233271 / تحميل: 5422
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 5

مؤلف:
العربية

إلّا أنّه حين يجد أنّ بعض الخشب لا ينفعه شيئا ، فسيكون مضطرا إلى نبذه ليكون حطبا للحرق والإشعال ، فهذا الهدف «تبعيّ» لا أصلي.

والفرق الوحيد بين هذا المثال وما نحن فيه ، أنّ الاختلاف بين أجزاء الخشب ليس اختيارا ، واختلاف الناس له صلة وثيقة بأعمالهم أنفسهم ، وهم مختارون وإرادتهم حرّة بإزاء أعمالهم.

وخير شاهد على هذا الكلام ما جاء من صفات لأهل النّار وصفات لأهل الجنّة في الآيات محل البحث ، التي تدل على أنّ الأعمال هي نفسها أساس هذا التقسيم ، إذ كان فريق منهم في الجنّة ، وفريق في السعير.

وتعبير آخر فإنّ الله سبحانه ـ ووفقا لصريح آيات القرآن المختلفة ـ خلق الناس جميعهم على نسق واحد طاهرين ، ووفّر لهم أسباب السعادة والتكامل ، إلّا أنّ قسما منهم اختاروا بأعمالهم جهنم فكانوا من أهلها فكان عاقبة أمرهم خسرا وأن قسما منهم اختاروا بأعمالهم الجنّة وكان عاقبة أمرهم السعادة ثمّ يلخّص القرآن صفات أهل النّار في ثلاث جمل ، إذ تقول الآية :( لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ) .

وقد قلنا مرارا : إنّ التعبير بـ «القلب» في مصطلح القرآن يعني الفكر والروح وقوّة العقل ، أي أنّهم بالرّغم ممّا لديهم من استعداد للتفكير ، وأنّهم ليسوا كالبهائم فاقدي الشعور والإدراك ، إلّا أنّهم في الوقت ذاته لا يفكرون في عاقبتهم ولا يستغلون تفكيرهم ليبلغوا السعادة.

والصفة الثّانية التي ذكرتها الآية لأهل النّار( وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها ) والصفة الثّالثة الواردة في حقهم( وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ ) .

لأنّ البهائم والأنعام لا تملك هذه الاستعدادات والإمكانات ، إلّا أنّهم بما لديهم من عقل سالم وعين باصرة وأذن سامعة ، بإمكانهم أن يبلغوا كل مراتب

٣٠١

الرقي والتكامل ، إلّا أنّهم نتيجة لاتباعهم هواهم ورغبتهم ـ بكل هذه التوافه من الأمور تركوا هذه الاستعدادات جانبا وكان شقاؤهم كبيرا لهذا السبب :( أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ) .

فالمعين الذي يحييهم ويروي ظمأهم موجود إلى جانبهم وهم على مقربة منه ، إلّا أنّهم يتصارخون من الظمأ. وأبواب السعادة مفتحة أمامهم لكنّهم لا يلتفتون إليها.

ويتّضح ممّا ذكرناه أنفا أنّهم اختاروا بأنفسهم سبل شقائهم وهدروا النعم الكبرى «العقل والعين والأذن ...» لا أنّ الله أجبرهم على أن يكونوا من أهل النّار.

لماذا هم كالأنعام؟

لقد شبّه القرآن الكريم الجاهلين الغافلين عديمي الشعور بالأنعام والبهائم مرارا ، إلّا أن تشبيه القرآن هؤلاء بالأنعام لعلّه بسبب انهماكهم باللذائذ والشهوات الجنسية والنوم فحسب ، فهم كالأمم التي تحلم في الوصول إلى حياة مادية مرفهة تحت شعارات برّاقة تخدع الإنسان بأنّ آخر هدف للعدالة الاجتماعية والقوانين البشرية هو الحصول على الخبز والماء وكما يشبهها الإمام عليعليه‌السلام في نهج البلاغة قائلا : «كالبهيمة المربوطة همّها علفها ، أو المرسلة شغلها تقممها»(1) .

وبتعبير آخر : إنّ جماعة منهم تنعم بالرفاه كالأغنام المربوطة التي تدجن لتسمن ، وجماعة آخرين كالغنم السائمة الباحثة عن العلف والماء في الصحراء ، إلّا أن هدف كل منهما هو ما يشبع البطن ليس إلّا!.

وهذا الذي ذكرناه أنفا قد يصدق على شخص معين كما قد يصدق أمّة كاملة

__________________

(1) نهج البلاغة ، من كتاب له و 24 رقم 45.

٣٠٢

برمّتها ، فالأمم التي لا تفكر بنفسها وتتلهى بالأمور التافهة غير الصائبة ، ولا تعالج جذور شقائها ولا تطمح لأسباب الرقّي ، ليس لها آذان سامعة ولا أعين باصرة ، فهي من أهل النّار أيضا ، لا نار القيامة فحسب ، بل هي مبتلاة بنار الدنيا وشقائها كذلك.

وفي الآية التّالية إشارة إلى حال أهل الجنّة وبيان لصفاتهم ، فتبدأ الآية بدعوة الناس إلى التدبّر والتوجّه إلى أسماء الله الحسنى كمقدمة للخروج من صف أهل النّار ، فتقول :( وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها ) .

والمرد من «أسماء الله الحسنى» هي صفات الله المختلفة التي هي حسنى جميعا ، فنحن نعرف أنّ الله عالم قادر رازق عادل جواد كريم رحيم ، كما أنّ له صفات أخرى حسنى من هذا القبيل أيضا.

فالمراد من دعاء الله بأسمائه الحسنى ، ليس هو ذكر هذه الألفاظ وجريانها على اللسان فحسب ، كأن نقول مثلا : يا عالم يا قادر يا أرحم الراحمين. بل ينبغي أن نتمثّل هذه الصفات في وجودنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلا ، وأن يشع إشراق من علمه وشعاع من قدرته وجانب من رحمته الواسعة فينا وفي مجتمعنا.

وبتعبير آخر : ينبغي أن نتّصف بصفاته ونتخلّق بأخلاقه ، لنستطيع بهذا الشعاع ، شعاع العلم والقدرة والرحمة والعدل أن نخرج أنفسنا ومجتمعنا الذي نعيش فيه من سلك أهل النّار ثمّ تحذر الآية من هذا الأمر ، وهو أن لا تحرّف أسماؤه فتقول :( وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

والإلحاد ـ في الأصل ـ مأخوذ من مادة «اللّحد» على زنة «المهد» التي تعني الحفرة التي تقع في طرف واحد ، وعلى هذا الأساس فقد سمّيت الحفرة التي تكون في جانب القبر «لحدا».

ثمّ أطلق هذا الاستعمال «الإلحاد» على كل عمل ينحرف عن الحدّ الوسط

٣٠٣

نحو الإفراط أو التفريط ، ولذلك فقد سمّي الشرك وعبادة الأوثان إلحادا أيضا.

والمقصود من الإلحاد في أسماء الله هو أن نحرف ألفاظها أو مفاهيمها.

بحيث نصفه بصفات لا تليق بساحته المقدسة ، كما يصفه المسيحيون بالتثليث «الله والابن وروح القدس» أو أن نطبّق صفاته على المخلوقين كما فعل ذلك المشركون وعبدة الأوثان إذ اشتقوا لأصنامهم أسماء من أسماء الله فسمّوها اللات والعزّى ومناة ...(وغيرها) فهذه الأسماء مشتقّة من الله والعزيز والمنان «على التوالي».

أو أنّهم حرفوا صفاته حتى شبّهوه بالمخلوقات ، أو عطلوا صفاته ، وما إلى ذلك.

أو أنّهم اكتفوا بذكر الاسم فحسب دون أن يتمثلوه ويعرفوا آثاره في أنفسهم وفي مجتمعاتهم.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة إلى صفتين من أبرز صفات أهل الجنّة ، إذ تقول الآية :( وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) .

وفي الواقع ، إنّ لأهل الجنّة منهجين ممتازين فأفكارهم وأهدافهم ودعواتهم وثقافاتهم حقّة ، وهي في اتجاه الحق أيضا ، كما أنّ أعمالهم وخططهم وحكوماتهم قائمة على أساس الحق والحقيقة.

* * *

بحوث

1 ـ ما هي الأسماء الحسنى؟

في كتب الأحاديث «لأهل السنة والشيعة» أبحاث كثيرة عن أسماء الله الحسنى ، نورد خلاصتها في هذا المجال مضافا إليها ما نعتقده نحن في هذا الصدد.

٣٠٤

لا شك أنّ الأسماء الحسنى تعني الأسماء الكريمة ، ونحن نعرف أن أسماء الله كلّها تحمل مفاهيم حسنى ، ولذلك فجميع أسمائه أسماء حسنى ، سواء كانت صفات لذاته المقدّسة الثبوتية كالعلم والقادر ، أم كانت صفات سلبية كالقدّوس مثلا ، أو صفات تحكي فعلا من أفعاله كالخالق أو الغفور أو الرحمان أو الرحيم إلخ

ومن ناحية أخرى ، لا شك أنّ صفات الله لا يمكن إحصاؤها ، لأنّ كمالاته غير متناهية ، ويمكن أن يذكر لكل صفة من صفاته أو كمال من كمالاته اسم إلّا أن ما نستفيده من الأحاديث أنّ لبعض صفاته أهمية أكثر من سواها ، ولعل «الأسماء الحسنى» الواردة من الآية في الآية محل البحث إشارة إلى هذه الطائفة من الأسماء المتميّزة ، إذ ورد عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّةعليهم‌السلام من أهل بيته روايات كثيرة بهذا المعنى كالرواية الواردة في كتاب التوحيد «للصّدوق» عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق ، عن آبائهعليهم‌السلام ، عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أنّه قال : «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ لله تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسما ـ مائة إلّا واحدة ـ من أحصاها دخل الجنّة»(1) .

كما ورد في كتاب التوحيد عن الإمام علي بن موسى الرّضاعليه‌السلام عن آبائه عن عليعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ للهعزوجل تسعة وتسعين اسما من دعا الله بها استجاب له ومن أحصاها دخل الجنّة»(2) .

وقد جاء في كتب أحاديث (أهل السنّة) «كما في كتاب صحيح البخاري وصحيح مسلم والترمذي وكتب أخرى» هذا المضمون ذاته : إنّ لله تسعة وتسعين اسما فمن دعاء بها استجاب دعاءه ، ومن أحصاها فهو من أهل الجنّة(3) .

__________________

(1) تفسير الميزان ، ومجمع البيان ، ونور الثقلين ، ذيل الآية.

(2) تفسير الميزان ، ومجمع البيان ، ونور الثقلين.

(3) المصدر السابق.

٣٠٥

ويستفاد من بعض الأحاديث أن هذه الأسماء التسعة والتسعين كلها في القرآن ، كالرّواية الواردة عن ابن عباس أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لله تسعة وتسعون اسما من أحصاها دخل الجنّة ، وهي في القرآن»(1) .

ولذلك فقد سعى جماعة من العلماء إلى أن يستخرجوا أسماء الله الحسنى من القرآن ، إلّا أن ما جاء في القرآن من أسماء وصفات لله سبحانه تزيد على تسعة وتسعين اسما ، فبناء على ذلك لعل الأسماء الحسنى من بين تلك الأسماء ، لا أنّه لا يوجد في القرآن غير تسعة وتسعين اسما لله المشار إليها آنفا (في بعض الأحاديث) وقد صرّحت بعض هذه الرّوايات بالأسماء الحسنى «التسعة والتسعين» ونحن نوردها هنا ، إلّا أنّه ينبغي الالتفات إلى أن بعض هذه الأسماء الواردة في هذه الرواية لم ترد في القرآن بالصيغة الواردة في الرواية ذاتها وإنّما ورد مضمونها أو مفهومها في القرآن.

فقد جاء في الرّواية المنقولة في كتاب «التوحيد» للصّدوق عن الإمام الصادق عن آبائه عن علي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فبعد أن أشارعليه‌السلام إلى أنّ لله تسعة وتسعين اسما قال وهي : «الله ، الإله ، الواحد ، الأحد ، الصمد ، الأول ، الآخر ، السميع ، البصير ، القدير ، القادر ، العلي ، الأعلى ، الباقي ، البديع ، الباري ، الأكرم ، الباطن ، الحي ، الحكيم ، العليم ، الحليم ، الحفيظ ، الحق ، الحسيب ، الحميد ، الحفي ، الرب ، الرحمن ، الرحيم ، الذارئ ، الرازق ، الرقيب ، الرؤوف ، الرائي ، السّلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، السيد ، السبّوح ، الشهيد ، الصادق ، الصانع ، الظاهر ، العدل ، العفو ، الغفور ، الغني ، الغياث ، الفاطر ، الفرد ، الفتاح ، الفالق ، القديم ، الملك ، القدوس ، القوي ، القريب ، القيّوم ، القابض ، الباسط ، قاضي الحاجات ،

__________________

(1) المصدر السابق.

٣٠٦

المجيد ، المولى ، المنان ، المحيط ، المبين ، المغيث ، المصوّر ، الكريم ، الكبير ، الكافي ، كاشف الضر ، الوتر ، النور ، الوهّاب ، الناصر ، الواسع ، الودود ، الهادي ، الوفي ، الوكيل ، الوارث ، البرّ ، الباعث ، التواب ، الجليل ، الجواد ، الخبير ، الخالق ، خير الناصرين ، الديان ، الشكور ، العظيم ، اللطيف ، الشافي»(1) .

لكن الأهم ـ هنا ـ وينبغي ملاحظته والالتفات إليه ، هو أنّ المراد من دعاء الله بأسمائه الحسنى هل يعني أن نعدّ هذه الأسماء أو أن نجريها على الألسنة فحسب ، بحيث أن من ذكر هذه التسعة والتسعين اسما دون أن يتمثل محتواها ويفهمها كان من السعداء ، أو أنّه ستجاب دعوته. بل الهدف هو أن يؤمن الإنسان بهذه الأسماء والصفات ، ثمّ يسعى ـ ما استطاع إلى ذلك سبيلا ـ لأنّ يعكس في وجوده إشراقا من مفاهيم تلك الأسماء ، أي للعالم ، القادر ، الرحمان ، الرحيم ، الغفور ، القوي ، الغني ، الرازق ، وأمثالها. فإنّ كان كذلك كان من أهل الجنّة ، وكان دعاؤه مستجابا ونال كل خير قطعا.

ويستفاد ضمنا ممّا ذكرناه آنفا أنّه لو وردت في بعض الرّوايات الأخرى والأدعية أسماء غير هذه الأسماء لله سبحانه ، حتى لو وصلت إلى الألف ـ مثلا ـ فلا منافاة بينها وبين ما نقلناه هنا أبدا ، لأنّ أسماء الله لا حد لها ولا حصر ، وهي ـ كذاته وكمالاته ـ لا نهاية لها. وإن كان لبعض هذه الأسماء أو الصفات ميزات خاصّة.

من ذلك الرواية الواردة في أصول الكافي عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير هذه الآية ، إذ يقول : «نحن والله الأسماء الحسنى»(2) فهي إشار إلى أن إشعاعا من صفاته قد انعكس فينا ، فمن عرفنا فقد عرف ذاته المقدسة أو أنّه لو ورد مثلا في بعض الأحاديث أنّ جميع الأسماء الحسنى تتلخص في

__________________

(1) الميزان ، ج 8 ، ص 376 ، نقلا عن التوحيد للصدوق.

(2) نور الثقلين ، ج 2 ، ص 103.

٣٠٧

التوحيد الخالص ، فإنّما هو لأن جميع صفاته ترجع إلى ذاته المقدسة.

ويشير الفخر الرازي في تفسيره إلى أمر قابل للملاحظة ، وهو أنّ جميع صفات الله تعالى يعود إلى إحدى حقيقتين «استغناء ذاته عن كل شيء» أو «احتياج الآخرين إلى ذاته المقدسة ...»(1) .

2 ـ الأمّة الهداة!

قرأنا في الآيات محل البحث أنّ طائفة من عباد الله يدعون نحو الحق ويحكمون به( وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) .

هناك تعبيرات مختلفة في الرّوايات الواردة في كتب الأحاديث الإسلامية ، في المراد من هذه الأمّة. ومن جملة هذه الرّوايات ما ورد عن أمير المؤمنين أنّه قالعليه‌السلام . المراد من الآية هو «أمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »(2) .

ويعني الإمام بهم أتباع النّبي الصادقين المنزّهين عن كل بدعة وانحراف وتغيير أو حياد من تعاليمه الكريمة ولهذا فقد ورد في حديث آخر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «والذي نفسي بيده لتفرقن هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النّار إلّا فرقة( وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) ، وهذه التي تنجو من هذه الأمّة».

ولعل العدد ـ 73 ـ للكثرة ، وهو إشارة إلى الطوائف المختلفة التي ظهرت في طول تاريخ الإسلام في عقائد عجيبة غريبة ، ولحسن الحظ قد انقرض أغلبها فلم يبق منها إلّا أسماؤها في كتب «تاريخ العقائد».

وفي حديث آخر ورد في كتب أهل السنة عن الإمام عليعليه‌السلام ضمن إشارته لاختلاف الأمم التي تظهر بعدئذ في الأمّة الإسلامية ، أن قالعليه‌السلام «الفرقة الناجية

__________________

(1) تفسير الفخر الرازي ، ج 15 ، ص 66.

(2) نور الثقلين ، ج 2 ، ص 105.

٣٠٨

أنا وشيعتي وأتباع مذهبي»(1)

وجاء في بعض الرّوايات الأخرى أنّ المراد من قول تعالى :( وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ ) ، هم الأئمّة من أهل البيتعليهم‌السلام »(2) .

وواضح أنّ الرّوايات المذكورة أنفا كلّها تعالج حقيقة واحدة ، وهي بيان للمصاديق المختلفة لهذه الحقيقة ، وهي أن الآية تشير إلى أمّة تدعو إلى الحق وتعمل بالحق وتحكم به ، وتسير في مسير الإسلام الصحيح. غاية ما في الأمر أنّ بعضهم في قمة هذه الأمّة ورأسها وبعضهم في مراحل أخر وممّا يسترعي النظر أنّ هؤلاء الذين عبّرت عنهم الآية بقولها( وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ ) على اختلاف لغاتهم وقوميّاتهم ومراحلهم العلمية وأمثالها ، هم أمّة واحدة لا غير ، ولذلك فإنّ القرآن قال عنهم :( أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) ولم يعبر عنهم بـ «أمم يهدون إلخ ...».

3 ـ اسم الله الأعظم

جاء في بعض الرّوايات عن قصة بلعم بن باعورا الذي ورد ذكره ـ آنفا ـ أنّه كان يعرف الاسم الأعظم ، ولا بأس أن نشير إلى هذا الموضوع لمناسبة ورود الأسماء الحسنى في الآيات محل البحث فقد وردت روايات مختلفة في شأن الاسم الأعظم ، ويستفاد منها أن من يعرف الاسم الأعظم لا يكون مستجاب الدعاء فحسب ، بل تكون له القدرة على أن يتصرف في عالم الطبيعة وأن يقوم بأعمال مهمّة والاسم الأعظم ، أيّ اسم هو من أسماء الله؟!

بحث علماء الإسلام كثيرا في هذا الشأن ، وأغلب أبحاثهم تدور في أن

__________________

(1) تفسير البرهان ، ج 2 ، ص 53.

(2) نور الثقلين ، ج 2 ، ص 104 ـ 105.

٣٠٩

يعثروا على اسم من بين أسماء الله له هذه الخصوصيّة العجيبة والأثر الكبير.

إلّا أن الأهم في البحث أن نعثر على اسم أو صفة من صفاته تعالى بتطبيقها على وجودنا نحصل على تكامل روحي تترتب عليه تلك الآثار.

وبتعبير آخر : إنّ المسألة المهمّة هي التخلق بصفات الله والاتصاف بها ووجودها في الإنسان ، وإلّا كيف يمكن أن يكون الشخص الرديء الوضيع مستجاب الدعوة بمجرّد معرفته الاسم الأعظم؟! وإذا ما سمعنا أنّ بلعم بن باعوراء كان لديه هذا الاسم الأعظم إلّا أنّه فقده ، فمفهوم هذا الكلام أنّه كان قد بلغ ـ بسبب بناء شخصيته وإيمانه وعلمه وتقواه ـ إلى مثل هذه المرحلة من التكامل المعنوي ، بحيث كان مستجاب الدعوة عند الله ، إلّا أنّه سقط أخيرا في الوحل ، فقد تلك الروحية بسبب اتباعه لهوى النفس وانقياده لفراعنة زمانه ، ولعل المراد من نسيان الاسم الأعظم هو هذه الحالة أو هذا المعنى.

كما أنّنا لو قرأنا ـ أيضا ـ أن الأنبياء والأئمّة الكرام كانوا يعرفون الاسم الأعظم ، فمفهوم هذا الكلام هو أنّهم جسّدوا اسم الله الأعظم في وجودهم ، واستضاءوا بشعاعه ، فأولاهم الله ـ بهذه الحال ـ مثل هذه المقام العظيم.

* * *

٣١٠

الآيتان

( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) )

التّفسير

الاستدراج!

تعقيبا على البحث السابق الذي عالجته الآيات المتقدمة ـ والذي يبيّن حال أهل النّار ، تبيّن هاتان الآيتان واحدة من سنن الله في شأن كثير من عباده المجرمين المعاندين ، وهي ما عبّر عنها القرآن «بعذاب الاستدراج».

والاستدراج جاء في موطنين من القرآن : أحدهما في الآيتين محل البحث ، والآخر في الآية (44) من سورة القلم ، وكلا الموطنين يتعلقان بمكذّبي آيات الله ومنكر بها.

وكما يقول أهل اللغة ، فإنّ للاستدراج معنيين :

أحدهما : أخذ الشيء تدريجا ، لأنّ أصل الاستدراج مشتق من (الدرجة) فكما أنّ الإنسان ينزل من أعلى العمارة إلى أسفلها بالسلالم درجة درجة ، أو يصعد من الأسفل إلى الأعلى درجة درجة ومرحلة مرحلة ، فقد سمي هذا الأمر

٣١١

استدراجا.

والمعنى الثّاني للاستدراج هو ، اللّف والطّي ، كطّي السّجل أو «الطومار» ولفّه. وهذان المعنيان أوردهما الراغب في مفرداته ، إلّا أنّ التأمل بدقّة في المعنيين يكشف أنّهما يرجعان إلى مفهوم كلي جامع واحد : وهو العمل التدريجي.

وبعد أن عرفنا معنى الاستدراج نعود إلى تفسير الآية محل البحث.

يقول سبحانه في الآية الأولى :( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ) .

أي سنعذبهم بالاستدراج شيئا فشيئا ، ونطوي حياتهم.

والآية الثّانية تؤكّد الموضوع ذاته ، وتشير بأنّ الله لا يتعجل بالعذاب عليهم ، بل يمهلهم لعلهم يحذرون ويتعظون ، فإذا لم ينتبهوا من نومتهم ابتلوا بعذاب الله ، فتقول الآية( وَأُمْلِي لَهُمْ ) .

لأنّ الاستعجال يتذرع به من يخاف الفوت ، والله قوي ولا يفلت من قبضته أحد( إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) .

و «المتين» معناه القوي المحكم الشديد ، وأصله مأخوذ من المتن ، وهو العضلة المحكمة التي تقع في جانب الكتف (في الظهر).

و «الكيد» والمكر متساويان في المعنى ، وكما ذكرنا في ذيل الآية (54) من سورة آل عمران ، أنّ المكر يعني في أصل اللغة الاحتيال ومنع الآخر من الوصول إلى قصده.

ويستفاد من الآية ـ آنفة الذكر وآيات أخرى وبعض الأحاديث الشريفة الواردة ـ في شأن الاستدراج ، أو العذاب الاستدراجي ، أنّ الله لا يتعجل بالعذاب على الطغاة والعاصين المتجرئين وفقا لسنته في عباده ، بل يفتح عليهم أبواب النعم. فكلّما ازدادوا طغيانا زادهم نعما.

٣١٢

وهذا الأمر لا يخلو من إحدى حالتين ، فإمّا أن تكون هذه النعم مدعاة للتنبيه والإيقاظ فتكون الهداية الإلهية في هذه الحال عملية.

أو أنّ هذه النعم تزيدهم غرورا وجهلا ، فعندئذ يكون عقاب الله لهم في آخر مرحلة أوجع ، لأنّهم حين يغرقون في نعم الله وملذاتهم ويبطرون ، فإنّ الله سبحانه يسلب عندئذ هذه النعم منهم ، ويطوي سجل حياتهم ، فيكون هذا العقاب صارما وشديدا جدّا وهذا المعنى بجميع خصوصياته لا يحمله لفظ الاستدراج وحده ، بل يستفاد هذا المعنى يفيد( مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ) أيضا.

وعلى كل حال ، فهذه الآية تنذر جميع المجرمين والمذنبين بأنّ تأخير الجزاء من قبل الله لا يعني صحة أعمالهم أو طهارتهم ، ولا عجزا وضعفا من الله ، وأن لا يحسبوا أنّ النعم التي غرقوا فيها هي دليل على قربهم من الله ، فما أقرب من أن تكون هذه النعم والانتصارات مقدمة لعقاب الاستدراج. فالله سبحانه يغشّيهم بالنعم ويمهلهم ويرفعهم عاليا ، إلّا أنّه يكبسهم على الأرض فجأة حتى لا يبقى منهم أثر ، ويطوي بذلك وجودهم وتأريخ حياتهم كله.

يقول الإمام عليعليه‌السلام في نهج البلاغة أنّه «من وسّع عليه في ذات يده فلم ير ذلك استدراجا فقد أمن مخوفا»(1) .

كما جاء عنهعليه‌السلام في روضة الكافي أنّه قال : «ثمّ إنّه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس في ذلك الزمان شيء أخفى من الحق ، ولا أظهر من الباطل ، ولا أكثر من الكذب على الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إلى أن قال ـ يدخل الداخل لما يسمع من حكم القرآن فلا يطمئن جالسا حتى يخرج من الدين ، ينتقل من دين ملك إلى دين ملك ، ومن ولاية إلى ولاية ملك ، ومن طاعة ملك إلى طاعة ملك ، ومن عهود ملك إلى

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 2 ، ص 106.

٣١٣

عهود ملك ، فاستدرجهم الله تعالى من حيث لا يعلمون»(1) .

ويقول الإمام الصادقعليه‌السلام : «كم من مغرور بما قد أنعم الله عليه ، وكم من مستدرج يستر الله عليه ، وكم من مفتون بثناء الناس عليه»(2) .

وجاء عنهعليه‌السلام في تفسير الآية المشار إليها آنفا أنّه قال : «هو العبد يذنب الذنب فتجدد له النعمة معه ، تلهيه تلك النعمة عن الاستغفار عن ذلك الذنب»(3) .

وورد عنهعليه‌السلام في كتاب الكافي أيضا : «إنّ الله إذا أراد بعبد خيرا فأذنب ذنبا أتبعه بنقمة ويذكره الاستغفار ، وإذا أراد بعبد شرّا فأذنب ذنبا أتبعه بنعمة لينسيه الاستغفار ، ويتمادى بها ، وهو قولهعزوجل :( سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ) بالنعم عند المعاصي»(4) .

* * *

__________________

(1) المصدر السابق.

(2) تفسير نور الثقلين ، ج 2 ، ص 106.

(3) المصدر السابق.

(4) تفسير البرهان ، ج 2 ، ص 53.

٣١٤

الآيات

( أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) )

سبب النّزول

روى المفسّرون أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين كان بمكّة ، صعد ذات ليلة على جبل الصفا ودعا الناس إلى توحيد الله ، وخاصّة قبائل قريش ، وحذرهم من عذاب الله ، وقال : «إنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، قولوا ، لا إله إلّا الله تفلحوا» فقال المشركون : إنّ صاحبهم قد جنّ ، بات ليلا يصوت حتى الصباح ، فنزلت الآيات وألجمتهم وردت قولهم.

ورغم أنّ الآية لها شأن خاص ، إلّا أنّها في الوقت ذاته لمّا كانت تدعو إلى معرفة النّبي وهدف الخلق والتهيؤ للعالم الآخر ، ففيها ارتباط وثيق بالمواضيع التي سبق بيانها في شأن أهل الجنّة وأهل النّار.

٣١٥

التّفسير

التهم والأباطيل :

في الآية الأولى من الآيات ـ محل البحث ـ يردّ الله سبحانه على كلام المشركين الذي لا أساس له بزعمهم أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد جنّ ، فيقول سبحانه :( أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ ) (1) .

وهذا التعبير يشير إلى أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن شخصا مجهولا بينهم ، وتعبيرهم بـ «الصاحب» يعني المحب والمسامر والصديق وما إلى ذلك. وكان النّبي معهم أكثر من أربعين عاما يرون ذهابه وإيابه وتفكيره وتدبيره دائما وآثار النبوغ كانت بادية عليه ، فمثل هذا الإنسان الذي كان يعدّ من أبرز الوجوه والعقلاء قبل الدعوة إلى الله ، كيف تلصق به مثل هذه التهمة بهذه السرعة؟! أمّا كان الأفضل أن يتفكروا ـ بدلا من إلصاق التهم به ـ أن يكون صادقا في دعواه وهو مرسل من قبل الله سبحانه؟! كما عقب القرآن الكريم وبيّن ذلك بعد قوله أو لم يتفكروا؟ فقال :( إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) .

وفي الآية التّالية ـ استكمالا للموضوع آنف الذكر ـ دعاهم القرآن إلى النظر في عالم الملكوت ، عالم السموات والأرض ، إذ تقول الآية :( أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ ) .

ليعلموا أنّ هذا العالم الواسع ، عالم الخلق ، عالم السموات والأرض ، بنظامه الدقيق المحيّر المذهل لم يخلق عبثا ، وإنّما هناك هدف وراء خلقه. ودعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحقيقة ، هي من أجل ذلك الهدف ، وهو تكامل الإنسان وتربيته وارتقاؤه.

و «الملكوت» في الأصل مأخوذ من «الملك» ويعني الحكومة والمالكية ،

__________________

(1) «الجنّة» كما يذهب إليه أصحاب اللغة معناها الجنون ، ومعناها في الأصل : الحائل والمانع فكأنما يلقى على العقل حائل عند الجنون.

٣١٦

والواو والتاء المزيدتان المردفتان به هما للتأكيد والمبالغة. ويطلق هذا الاستعمال على حكومة الله المطلقة التي لا حدّ لها ولا نهاية فالنظر إلى عالم الملكوت ونظامه الكبير الواسع المملوك لله سبحانه يقوّي الإيمان بالله والإيمان بالحق ، كما أنّه يكشف عن وجود هدف مهم في هذا العالم الكبير المنتظم أيضا. وفي الحالين يدعو الإنسان إلى البحث عن ممثل الله ورسول رحمته الذي يستطيع أن يطبق الهدف من الخلق في الأرض.

ثمّ تقول الآية معقبة لتنبّههم من نومة الغافلين( وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) .

أي : أوّلا : ليس الأمر كما يتصورون ، فأعمارهم لا تخلد والفرص تمر مرّ السحاب ، ولا يدري أحد أهو باق إلى غد أم لا؟! فمع هذه الحال ليس من العقل التسويف وتأجيل عمل اليوم إلى غد.

ثانيا : إذ لم يكونوا ليؤمنوا بهذا القرآن العظيم الذي فيه ما فيه من الدلائل الواضحة والبراهين اللائحة الهادية إلى الإيمان بالله ، فأي كتاب ينتظرونه خير من القرآن ليؤمنوا به؟ وهل يمكن أن يؤمنوا بكلام آخر ودعوة أخرى غير هذه؟!

وكما نلاحظ فإنّ الآيات محل البحث توصد جميع سبل الفرار بوجه المشركين ، فمن ناحية تدعوهم إلى أن يتفكروا في شخصيّة النّبي وعقله وسابق أعماله فيهم لئلا يتملّصوا من دعوته باتهامهم إيّاه بالجنون.

ومن ناحية أخرى تدعوهم إلى أن ينظروا في ملكوت السماوات والأرض ، والهدف من خلقهما ، وأنّهما لم يخلقا عبثا.

ومن ناحية ثالثة تقول :( وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ) لئلا يسوّفوا قائلين اليوم وغدا وبعد غد إلخ ومن ناحية رابعة تقول : إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن فإنّهم لن يؤمنوا بأي حديث آخر وأي كتاب آخر ، إذ ليس فوق القرآن كتاب أبدا

٣١٧

وأخيرا فإنّ الآية التالية ، وهي آخر آية من الآيات محل البحث ، تختتم الكلام بالقول( مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) .

وكما ذكرنا مرارا فإن مثل هذه التعابير لا تشمل جميع الكفار والمجرمين ، بل تختص بأولئك الذين يقفون بوجه الحقائق معاندين ألدّاء ، حتى كأنّما على أبصارهم غشاوة وفي سمعهم صمم وعلى قلوبهم طبع ، فلا يجدون إلّا أسدالا من الظلمات تحجب طريقهم. وكل ذلك هو نتيجة أعمالهم أنفسهم ، وهو المقصود بالإضلال الإلهي( مَنْ يُضْلِلِ اللهُ ) .

* * *

٣١٨

الآية

( يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187) )

سبب النّزول

أيّان يوم القيامة؟!

وفقا لمّا ورد في بعض الرّوايات(1) فإنّ قريشا أرسلت عدّة أنفار إلى نجران ليسألوا اليهود الساكنين فيها ـ إضافة إلى المسيحيين هناك ـ مسائل ملتوية ثمّ يلقوها على النّبي عند رجوعهم إليه ، ظنّا منهم أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيعجز عن إجابتهم ، ومن جملة هذه الأسئلة كان هذا السؤال : متى تقوم الساعة؟! فلما سألوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك السؤال نزلت الآية محل البحث وأفحمتهم!(2)

* * *

__________________

(1) تفسير البرهان ، ج 2 ، ص 54.

(2) يرى بعض المفسّرين كالمرحوم الطبرسي أن سبب النّزول هو في جماعة من اليهود الذين جاءوا النّبي وسألوه عن يوم القيامة ، إلّا أنّه لمّا كانت السورة نازلة في مكّة ، ولم يكن بين النّبي واليهود فيها خصام وجدال ، فهذا الموضوع مستبعد جدّا.

٣١٩

التّفسير

مع أنّ هذه الآية ذات سبب خاص في النّزول ـ كما ذكروا ـ إلّا أنّها في الوقت ذاته لها علاقة وثيقة بالآيات المتقدمة أيضا ، لأنّه قد وردت الإشارة إلى يوم القيامة ولزوم الاستعداد لمثل ذلك اليوم في الآيات السابقة. وبالطبع فإنّ موضوعا كهذا يستدعي السؤال عن موعده وقيامه ، ويستثير كثيرا من الناس أن يسألوه : أيّان يوم القيامة؟ لهذا فإنّ القرآن يقول :( يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها ) ؟!

وبالرغم من أنّ «الساعة» تعني زمان نهاية الدنيا ، إلّا أنّها في الغالب ـ أو دائما كما ذهب البعض ـ تأتي بمعنى القيامة في القرآن الكريم ، وخاصّة من بعض القرائن التي تكتنف الآية ـ محل البحث ـ إذ تؤكّد هذا الموضوع كجملة : متى تقوم الساعة؟ الواردة في شأن نزول الآية : وكلمة «أيّان» تساوي «متى» وهما للسّؤال عن الزمان ، والمرسى مصدر ميمي من الإرساء ، وهما بمعنى واحد ، وهو ثبات الشيء أو وقوعه ، لذلك يطلق على الحبل وصف «الراسي» فيقال : جبال راسيات ، فبناء على ذلك فإنّ «أيّان مرساها» تعني : في أي وقت تقع القيامة وتكون ثابتة؟!

ثمّ تضيف الآية مخاطبة النّبي أن يردهم بصراحة قائلة :( قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ) .

إلّا أنّ الآية تذكر علامتين مجملتين ، فتقول أوّلا :( ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) .

أية حادثة يمكن أن تكون أثقل من هذه ، إذ تضطرب لهولها جميع الأجرام السماوية «قبيل القيامة» فتخمد الشمس ويظلم القمر وتندثر النجوم ، ويتكون

٣٢٠