الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245192 / تحميل: 6211
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الإنسانية والملكات الأخلاقية ، وصدق النية وطهارتها وإخلاصها.

وإذا رأينا أنّ بعض الرّوايات الإسلامية تشير ـ فقط ـ إلى اللباس الجيّد أو مشط الشعر ، أو إذا رأينا أنّ بعضها الآخر يتحدث ـ فقط ـ عن مراسيم صلاة العيد وصلاة الجمعة ، فإنّ ذلك لا يدل على الانحصار ، بل الهدف هو بيان مصاديقها الواضحة(١) .

وهكذا إذا رأينا أنّ طائفة أخرى من الرّوايات تفسر الزينة بالقادة الصالحين(٢) ، فإنّ كل ذلك يدل على سعة مفهوم الآية الذي يشمل جميع أنواع الزينة الظاهرية والباطنية.

وهذا الحكم وإن كان يتعلق بجميع أبناء آدم في كل زمان ومكان ، إلّا أنّه ينطوي ضمنا على ذم عمل قبيح كان يقوم به جماعة من الأعراب في العهد الجاهلي عند دخولهم في المسجد الحرام والطواف بالكعبة المعظمة ، حيث كانوا يطوفون بالبيت المعظم عراة من دون ساتر يستر عوراتهم ، كما أنّه يتضمن ـ أيضا ـ نصيحة لأولئك الذين يرتدون عند إقامة الصلاة أو الدخول إلى المساجد ثيابا وسخة خلقة أو ألبسة تخصّ المنزل ، ويشتركون في مراسيم عبادة وهم على تلك الهيئة المزرية ، الأمر الذي نشاهده اليوم ـ وللأسف ـ بين بعض الغفلة السذج من المسلمين ، في حين أننا مكلّفون ـ طبقا للآية الحاضرة ، والرّوايات الواردة في هذا الصعيد ـ بأن نرتدي لدى ارتيادنا للمساجد أفضل ثيابنا وألبستنا.

ثمّ في العبارة اللاحقة يشير سبحانه إلى مواهب أخرى ، يعني الأطعمة والأشربة الطاهرة الطيبة ، ويقول :( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ) .

ولكن حيث أنّ الإنسان حريص بحكم طبيعته البشرية ، يمكن أن يسيء

__________________

(١) للاطلاع على هذه الرّوايات راجع تفسير البرهان المجلد ٢ ، الصفحة الثّانية ٩ و ١٠ وتفسير نور الثقلين المجلد الثّاني الصفحة ١٨ و ١٩.

(٢) المصدر السابق.

٢١

استخدام هذين التعليمين ، وبدل أن يستفيد من نعمة اللباس والغذاء الصحيح بالشكل المعقول والمعتدل ، يسلك سبيل الإسراف والتبذير والبذخ ، لهذا أضاف مباشرة قائلا :( وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) .

وكلمة «الإسراف» كلمة جامعة جدّا بحيث تشمل كل إفراط في الكم والكيف ، وكذا الأعمال العابثة والإتلاف وما شابه ذلك ، وهذا هو أسلوب القرآن خاصّة ، فهو عند الحث على الاستفادة من مواهب الحياة والطبيعة يحذّر فورا من سوء استخدامها ، ويوصي برعاية الاعتدال.

وفي الآية اللاحقة يعمد إلى الرّد ـ بلهجة أكثر حدّة ـ على من يظن أنّ تحريم أنواع الزينة والتزين والاجتناب من الأطعمة الطيبة الحلال علامة الزهد ، وسببا للتقرب إلى الله فيقول : أيّها النّبي( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ) ؟

إذا كانت هذه الأمور قبيحة فإنّ الله تعالى لا يخلق القبيح ، وإذا خلقها الله ليتمتع بها عباده فكيف يمكن أن يحرّمها؟ وهل يمكن أن يكون هناك تناقض بين جهاز الخلق ، وبين التعاليم الدينية؟!

ثمّ أضاف للتأكيد :( قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ ) أي أنّ هذه النعم والمواهب قد خلقت للمؤمنين في هذه الحياة ، وإن كان الآخرون ـ أيضا ـ يستفيدون منها رغم عدم صلاحيتهم لذلك ، ولكن في يوم القيامة حيث الحياة الأعلى والأفضل ، وحيث يتميز الخبيث عن الطيب ، فإنّ هذه المواهب والنّعم ستوضع تحت تصرف المؤمنين الصالحين فقط ، ويحرم منها الآخرون حرمانا كليّا.

وعلى هذا الأساس فإنّ ما هو للمؤمنين في الدنيا والآخرة ، وخاص بهم في العالم الآخر كيف يمكن أن يحرّم عليهم؟ أنّ الحرام هو ما يورث مفسدة ، لا ما هو نعمة وموهبة.

٢٢

هذا وقد احتمل أيضا في تفسير هذه العبارة من الآية أنّ هذه المواهب وإن كانت في هذه الدنيا ممزوجة بالآلام والمصائب والبلايا ، إلّا أنّها توضع تحت تصرف المؤمنين وهي خالصة من كل ذلك في العالم الآخر (ولكن التّفسير الأوّل يبدو أنّه أنسب).

وفي ختام الآية يقول من باب التأكيد :( كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) .

الزّينة والتّجمل من وجهة نظر الإسلام :

لقد اختار الإسلام ـ كسائر الموارد ـ حدّ التوسط والاعتدال في مجال الانتفاع والاستفادة من أنواع الزينة ، لا كما يظن البعض من أنّ التمتع والاستفادة من الزينة والتجمل ـ مهما كان بصورة معتدلة ـ أمر مخالف للزّهد ، ولا كما يتصور المفرطون في استعمال الزينة والتجمل الذين يجوّزون لأنفسهم فعل كل عمل شائن بغية الوصول إلى هذا الهدف الرخيص.

ولو أننا أخذنا بناء الجسم والروح بنظر الإعتبار ، لرأينا أنّ تعاليم الإسلام في هذا الصعيد تنسجم تماما مع خصائص الروح الإنسانية وبناء الجسم البشري ومتطلباتهما ، واحتياجاتهما الذاتية.

توضيح ذلك : إنّ غريزة حبّ الجمال ـ باعتراف علماء النفس ـ هي إحدى أبعاد الروح الإنسانية الأربعة ، والتي تشكل مضافا إلى غريزة حب الخير ، وغريزة حب الاستطلاع ، وغريزة التّدين ، الأبعاد الأصلية في النفس الإنسانية. ويعتقدون بأنّ جميع الظواهر الجمالية الأدبية والشعرية ، والصناعات الجميلة ، والفن بمعناه الواقعي ، إنّما هو نتيجة هذه الغريزة وهذا الإحساس.

ومع هذا كيف يمكن أن يعمد قانون صحيح إلى خنق هذا الحس المتأصل والمتجذر في أعماق الروح الإنسانية ، ويتجاهل العواقب السيئة في حال عدم

٢٣

إشباعه بصورة صحيحة.

ولهذا لم يكتف في الإسلام بتجويز التمتع بجمال الطبيعة والاستفادة من الألبسة الجميلة والمناسبة ، واستعمال كل أنواع العطور ، وما شابه ذلك ، بل أوصى بذلك وحثّ عليه أيضا ، ورويت في هذا المجال أحاديث كثيرة عن أئمّة الدين في المصادر والكتب الموثوقة.

فإننا نقرأ ـ مثلا ـ في تاريخ حياة الإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام أنّه عند ما كان ينهض إلى الصلاة كان يرتدي أحسن ثيابه ، ولما سئل : لماذا يلبس أحسن ثيابه؟ قال : «إنّ الله جميل يحبّ الجمال ، فأتجمل لربّي وهو يقول : خذوا زينتكم عند كل مسجد»(١) .

وفي الحديث أنّ أحد الزهاد ، ويدعى عباد بن كثير البصري ، رأى الإمام الصادقعليه‌السلام وهو يلبس ثيابا غالية الثمن فقال معترضا عليه : يا أبا عبد الله ، إنّك من أهل بيت نبوة وكان أبوك وكان ، فما لهذه الثياب المزينة عليك؟ فلو لبست دون هذه الثياب. فقال له أبو عبد اللهعليه‌السلام : «ويلك ـ يا عباد ـ من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيّبات من الرّزق؟»(٢) .

وأحاديث أخرى.

إنّ هذا التعبير ، أي أنّ الله جميل يحب الجمال ، أو أنّ الله مصدر الجمال إشارة إلى هذه الحقيقة ، وهي : أنّ الاستفادة من كل نوع من أنواع الزينة والجمال لو كان ممنوعا لما خلق الله تلك الزينة أبدا ، إنّ خلق الأشياء الجميلة في عالم الوجود دليل على أنّ خالقها يحبّ الجمال.

ولكن المهم هنا أنّ الناس يسلكون ـ غالبا ـ في مثل هذه المواضيع طريق الإفراط والمبالغة ، ويعمدون إلى الترف بمختلف الحجج والمعاذير.

__________________

(١) الوسائل ، المجلد الثالث ، أبواب أحكام الملابس.

(٢) الوسائل ، أبواب أحكام الملابس الباب ٧ ، ح ٣.

٢٤

ولهذا يعمد القرآن الكريم فورا وبعد ذكر هذا الحكم الإسلامي ـ كما أسلفنا ـ إلى تحذير المسلمين من الإسراف والإفراط والمبالغة في الاستفادة من هذه الأمور ، ففي أكثر من عشرين موضعا من القرآن الكريم يشير إلى مسألة الإسراف ويذمّه بشدّة (وقد تحدثنا بإسهاب حول الإسراف في تفسير الآيات المناسبة).

وعلى كل حال ، فإنّ أسلوب القرآن الكريم والإسلام في هذا الصعيد أسلوب يتسم بالتوازن والاعتدال ، فلا جمود فيه يقمع الرغبات المودعة في الروح الإنسانية إلى الجمال ، ولا هو يؤيد مسلك المسرفين المتطرفين وذوي البطنة والجشع في التمتع بالزينة والجمال.

بل هو ينهي حتى عن التزين والتجمل المعتدل في المجتمعات التي يعيش فيها محرومين مساكين ، ولهذا نلاحظ في بعض الرّوايات والأحاديث أنّه عند ما يسأل أحد الأئمّة : لماذا يلبس ثيابا فاخرة ، وقد كان جدّه لا يلبس مثل هذه الثياب؟ فيجيب الإمامعليه‌السلام قائلا : «إنّ على بن أبي طالبعليه‌السلام كان في زمان ضيق فإذا اتّسع الزمان فأبرار الزّمان أولى به»(١) .

توصية صحية هامّة :

إنّ عبارة( كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا ) التي جاءت في الآية الحاضرة ، وإن كانت تبدو للنظر أمرا بسيطا جدّا ، إلّا أنّه ثبت اليوم أنّه واحد من أهم الأوامر والتعاليم الصحيحة ، وذلك لأنّ تحقيقات العلماء توصلت إلى أنّ منبع الكثير من الأمراض والآلام هو الأطعمة الإضافية الزائدة التي تبقي في بدن الإنسان إنّ هذه المواد الإضافية تشكل من جانب عبئا ثقيلا على القلب وغيره من أجهزة الجسم ، وهي من جانب آخر منبع مهيّأ لمختلف أنواع العفونات والأمراض ، ولهذا فإنّ

__________________

(١) الوسائل ، ج ٣ ، أبواب الملابس الباب ٧ ، ح ١١.

٢٥

الخطوة الأولى لعلاج الكثير من الأمراض هو أن تحترق هذه المواد الزائدة التي تمثل ـ في الحقيقة ـ فضلات الجسم ، وتتم عملية تطهير الجسم منها عمليا.

إنّ العامل الأصل في وجود هذه المواد الزائدة هو الإسراف ، والإفراط في الأكل والبطنة ، والطريق إلى تجنب هذه الحالة ليس إلّا رعاية الاعتدال في الأكل ، وخاصّة في عصرنا هذا الذي كثرت فيه أمراض مختلفة مثل السكري ، وتصلب الشرايين ، وأنواع السكتة ، وما شابه ذلك من الأمراض التي يعدّ الإفراط في الأكل مع عدم الحركة البدنية بالمقدار الكافي أحد العوامل الاساسية لها ، وليس هناك من سبيل لإزالة هذه الأمراض وتجنبها إلّا الحركة البدنية الكافية ، والاعتدال في المأكل والمشرب.

وقد نقل المفسّر الكبير العلامة «الطبرسي» في «مجمع البيان» قصة رائعة في هذا المجال وهي أنّه : حكي أنّ هارون الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق ، فقال ذات يوم لعلي بن الحسين بن واقد : ليس في كتابكم من علم الطب شيء ، والعلم علمان : علم الأديان ، وعلم الأبدان.

فقال له علي : قد جمع الله الطب كلّه في نصف آية من كتابه وهو قوله :( كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا ) وجمع نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الطب في قوله : «المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء ، وأعط كل بدن ما عودته».

فقال الطبيب : ما ترك كتابكم ولا نبيّكم لجالينوس طبّا(١) .

فمن كان يظن أنّ هذه التوصية سطحية ، فما عليه إلّا أن يجرّبها في حياته كما يدرك أهميتها ويسبر غورها ، ويشاهد المعجزة في سلامة الجسم برعاية هذا الدّستور الصحي.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٤ ، ص ٤١٣.

٢٦

الآية

( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣) )

التّفسير

المحرمات الإلهية :

لقد شاهدنا مرارا أنّ القرآن الكريم كلّما تحدث عن أمر مباح أو لازم ، تحدث فورا عن ما يقابله ، من الأمور القبيحة والمحرمات ، ليكمّل كلّ واحد منهما الآخر.

وهنا أيضا تحدّث ـ عقيب السماح بالتمتع والاستفادة من المواهب الإلهية وإباحة كل ما هو زينة وجمال ـ عن المحرمات على نحو العموم ، ثمّ أشار بصورة خاصّة إلى عدة نقاط مهمّة.

ففي البداية تحدث عن تحريم الفواحش وقال : يا أيّها النّبى( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ) .

و «الفواحش» جمع «فاحشة» وتعني الأعمال القبيحة البالغة في القبح

٢٧

والسوء لا جميع الذنوب ، ولعلّ التأكيد على هذا المطلب (ما ظهر منها وما بطن) هو لأجل أنّ العرب الجاهليين كانوا لا يستقبحون عمل الزنا إذا أتي به سرّا ، ويحرّمونه إذا كان ظاهرا مكشوفا.

ثمّ إنّه عمّم الموضوع ، وأشار إلى جميع الذنوب وقال «والإثم» أي كل إثم. والإثمّ في الأصل يعني كل عمل مضرّ ، وكل ما يوجب انحطاط مقام الإنسان وتردّي منزلته ، ويمنعه ويحرمه من نيل الثواب والأجر الحسن. وعلى هذا يدخل كل نوع من أنواع الذنوب في المفهوم الواسع للإثم.

ولكن بعض المفسّرين أخذوا الإثمّ هنا فقط بمعنى «الخمر» واستدلوا لذلك بالشعر المعروف.

شربت الإثمّ حتى ضلّ عقلي

كذاك الإثمّ يصنع بالعقول(١)

ولكنّ الظاهر أنّ هذا المعنى ليس هو تمام مفهوم الكلمة ، بل أحد مصاديقه.

ومرّة أخرى يشير بصورة خاصّة إلى عدد من كبريات المعاصي والآثام ، فيقول :( وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ ) أي كل نوع من أنواع الظلم ، والتجاوز على حقوق الآخرين.

و «البغي» يعني السعي والمحاولة لتحصيل شيء ، ولكن يراد منه غالبا الجهود المبذولة لغصب حقوق الآخرين ، ولهذا يكون مفهومه ـ في الغالب ـ مساويا لمفهوم الظلم.

ومن الواضح أنّ وصف «البغي» في الآية المبحوثة بوصف «غير الحق» من قبيل التوضيح والتأكيد على معنى «البغي».

ثمّ أشار تعالى إلى مسألة الشرك وقال :( وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً ) فهو أيضا محرّم عليكم.

__________________

(١) التبيان عند تفسير الآية المبحوثة ، وتاج العروس مادة «إثم».

٢٨

ومن الواضح أنّ جملة( ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً ) للتأكيد ، ولإلفات النظر إلى حقيقة أنّ المشركين لا يملكون أي دليل منطقي وأي برهان معقول ، وكلمة «السلطان» تعني كل دليل وبرهان يوجب تسلّط الإنسان وانتصاره على من يخالفه.

وآخر ما يؤكّد عليه من المحرمات هو نسبة شيء لم يستند إلى علم الله( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) .

ولقد بحثنا حول القول على الله بغير علم عند تفسير الآية (٢٨) من نفس هذه السورة أيضا.

ولقد أكّد في الآيات القرآنية والأحاديث الإسلامية على هذه المسألة كثيرا ، ومنع المسلمون بشدة عن قول ما لا يعلمون إلى درجة أنّه روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من أفتى بغير علم لعنته ملائكة السماوات والأرض».(١)

ولو أنّنا أمعنا النظر ودققنا جيدا في أوضاع المجتمعات البشرية ، والمصائب والمتاعب التي تعاني منها تلكم المجتمعات ، لعرفنا أنّ القسط الأكبر من هذا الشقاء ناشئ من بث الشائعات ، والقول بغير علم ، والشهادة بغير الحق ، وإبداء وجهات نظر لا تستند إلى برهان أو دليل.

* * *

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ، طبقا لرواية تفسير نور الثقلين ، المجلد الثّاني ، الصفحة ٢٦.

٢٩

الآية

( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤) )

التّفسير

لكلّ أمّة أجل :

في هذه الآية يشير الله تعالى إلى واحدة من سنن الكون والحياة ، يعني فناء الأمم وزوالها ، ويلقي ضوءا أكثر على الأبحاث التي تتعلق بحياة أبناء البشر على وجه الأرض ومصير العصاة ، التي سبق الحديث عنها في الآيات السابقة.

فيقول أوّلا :( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ) .

ثمّ يشير إلى أنّ هذا الأجل لا يتقدم ولا يتأخر إن جاء( فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) .

أي أنّ الأمم والشعوب مثل الأفراد ، لها موت وحياة ، وأنّ الأمم تندثر وينمحي أثرها من على وجه الأرض ، وتحل مكانها أمم أخرى ، وإنّ سنّة الموت وقانون الفناء لا يختصان بأفراد الإنسان ، بل تشمل الجماعات والأقوام والأمم أيضا ، مع فارق وهو أنّ موت الشعوب والأمم يكون ـ في الغالب ـ على أثر

٣٠

انحرافها عن جادة الحق والعدل ، والإقبال على الظلم والجور ، والانغماس في بحار الشهوات ، والغرق في أمواج الإفراط في التجمل والرفاهية.

فعند ما تسلك الأمم في العالم هذه المسالك وتنحرف عن سنن الكون وقوانين الخلقة ، تفقد مصادرها الحيوية الواحد تلو الآخر ، وتسقط في النهاية.

إنّ دراسة زوال مدنيات كبرى ، مثل حضارة بابل ، وفراعنة مصر ، وقوم سبأ ، والكلدانيين والآشوريين ، ومسلمي الأندلس وأمثالها ، توضح الحقيقة التالية ، وهي أنّه لدى صدور الأمر بزوال هذه المدنيات والحضارات الكبرى إثر بلوغ الفساد أوجه فيها لم تستطع حكوماتها أن تحفظ أسسها المتزعزعة حتى ساعة واحدة.

ويجب الالتفات إلى أنّ «الساعة» في اللغة تعني أصغر وحدة زمنية ، فربّما تكون بمعنى لحظة ، وربّما تكون بمعنى أقل قدر من الزمن ، وإن كانت الساعة تعني في عرفنا الحاضر اليوم مدة واحد من أربع وعشرين ساعة في اليوم.

الرد على خطأ :

رأت بعض المذاهب المختلفة التي ظهرت في القرون الأخيرة بغية الوصول إلى أهدافها ، أن تزعزع ـ بظنها ـ قبل أي شيء أسس خاتمية رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولهذا تمسكت ببعض الآيات القرآنية التي لا تدل على هدفها ، وبمعونة من تفسيرها بالرأي ، وشيء من المغالطة والسفسطة للتدليل على مقصودها.

ومن تلك الآيات الآية المبحوثة هنا. فقالوا : إنّ القرآن يصرّح بأنّ لكل أمّة أجلا ونهاية ، والمراد من الأمّة الدين والشريعة ، ولهذا فإنّ للدّين الإسلامي أمدا ونهاية أيضا!.

إنّ أفضل الطرق لتقييم هذا الاستدلال هو أن ندرس المعنى الواقعي للفظة

٣١

الأمّة في اللغة ، ثمّ في القرآن الكريم.

يستفاده من كتب اللغة ، وكذا من موارد استعمال هذه اللفظة في القرآن الكريم ، والتي تبلغ ٦٤ موضعا ، إنّ الأمّة في الأصل تعني الجماعة.

فمثلا في قصة موسى نقرأ هكذا :( وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ) (١) أي يمتحون الماء من البئر لأنفسهم ولأنعامهم.

وكذا نقرأ في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ) (٢) .

كما نقرأ أيضا :( وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ ) (٣) . والمعنيون بالأمّة هم أهالي مدينة إيلة من بني إسرائيل.

ونقرأ حول بني إسرائيل :( وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً ) (٤) .

من هذه الآيات يتّضح جيدا أنّ الأمّة تعني الجماعة ، ولا تعني الدين ، ولا أتباع الدين ، ولو أنّنا لا حظنا استعمالها في أتباع الدين ، فإنّما هو بلحاظ أنّهم جماعة.

وعلى هذا الأساس يكون معنى الآية المبحوثة هنا هو أنّ لكل جماعة من الجماعات البشرية نهاية ، فليس آحاد الناس هم الذين يموتون ، وتكون لأعمارهم آجال وآماد فحسب ، بل الأمم هي الأخرى تموت ، وتتلاشى وتنقرض.

وأساسا لم تستعمل لفظة الأمّة في الدين أبدا ، ولهذا فإنّ الآية لا ترتبط بمسألة الخاتمية مطلقا.

* * *

__________________

(١) القصص ، ٢٣.

(٢) آل عمران ، ١٠٤.

(٣) الأعراف ، ١٦٤.

(٤) الأعراف ، ١٦٠.

٣٢

الآيتان

( يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦) )

التفسير

تعليم آخر لأبناء آدم :

مرّة أخرى يخاطب الله سبحانه أبناء آدم وذريّته ، إذ يقول :( يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (١) أي إذا أتاكم رسلي يتلون عليكم آياتي فاتّبعوهم ، لأنّ من اتّقى منكم واتبعهم وأصلح نفسه والآخرين كان في أمن من عذاب الله الأليم ، فلا يخاف ولا يحزن.

وفي الآية اللاحقة يضيف سبحانه وتعالى قائلا :( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) .

__________________

(١) «أمّا» مركبة في الأصل من «أن» ، و «ما» و «إن» حرف شرط و «ما» حرف للتأكيد.

٣٣

فتلك عاقبة المؤمنين ، وهذه عاقبة المكذبين لهم.

رد على سفسطة أخرى :

أقدم جماعة من مختلقي الأديان والمذاهب في العصور الأخيرة ـ على غرار ما قلنا في تفسير الآيات السابقة ـ على التمسك بطائفة من الآيات القرآنية بغية تعبيد الطريق لأهدافهم والتمهيد لتحقيقها ، وادعوا كونها دليلا على نفي خاتمية رسول الإسلام ، على حين لا ترتبط هذه الآيات بتلك المسألة قط.

ومن تلكم الآيات الآية الحاضرة ، فهم من دون أن يلاحظوا ما يسبقها وما يلحقها من الآيات قالوا : إن «يأتينّكم» فعل مضارع ، ويدلّ على أنّه من الممكن أن يبعث الله رسلا آخرين في المستقبل.

ولكن لو رجعنا إلى الوراء قليلا ، واستعرضنا الآيات التي تتحدث عن خلقة آدم وسكونته في الجنّة ، ثمّ إخراجه منها هو وزوجته. ولا حظنا أنّ المخاطبين في هذه الآيات ليسوا المسلمين ، بل مجموع البشر وجميع أبناء آدم ، لا تضح جواب هذه الشّبهة وردّ هذا الاستدلال ، لأنّه لا شك أنّه قد بعث لمجموع أبناء آدم رسل كثيرون ، جاء ذكر أسماء طائفة معتد بها في القرآن الكريم ، وجاء ذكر آخرين في كتب التواريخ.

غاية ما في الأمر أنّ هذا الفريق من مختلقي المذاهب والأديان ، تجاهلوا الآيات السابقة بغية إضلال الناس وخداعهم ، وقالوا : إنّ المخاطبين في هذه الآية هم خصوص المسلمين ، واستنتجوا من ذلك إمكان وجود رسل آخرين.

إنّ لأمثال هذه السفسطات نظائر كثيرة في السابق ، وبخاصّة في حالة الفصل بين آية وأخرى وجملة وأخرى ، والتغافل عن سوابق الآية ولواحقها ، فينتزعون منها مفهوما يوافق رغباتهم وإن كان يقابل المفهوم الواقعي للآية في الحقيقة.

* * *

٣٤

الآية

( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (٣٧) )

التفسير

من هذه الآية فما بعد تتضمّن الآيات بيان أقسام مختلفة من المصير السيء الذي ينتظر المفترين والمكذبين لآيات الله تعالى ، وفي البداية تشير إلى كيفية حالهم عند الموت ، إذ تقول :( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ ) .

وكما أسلفنا ـ في سورة الأنعام في ذيل الآية ٢١ ـ لقد عرف «أظلم الناس» في عدّة آيات من القرآن الكريم بتعابير مختلفة ، ولكن الصفات التي ذكرت لهم تعود كلّهم إلى جذر واحد ، وهو الشرك وعبادة الأصنام وتكذيب آيات الله سبحانه. وفي الآية المبحوثة هنا ذكرت مسألة الافتراء على الله سبحانه كصفة بارزة من صفاتهم ، مضافا إلى صفة التكذيب بالآيات الإلهية.

٣٥

ونظرا إلى أنّ منشأ جميع أنواع الشقاء في نظر القرآن هو الشرك ، ورأس مال جميع السعادات هو التوحيد ، يتّضح لماذا يكون هؤلاء الضالون المضلون أظلم الناس. إنّ هؤلاء ظلموا أنفسهم كما ظلموا المجتمع الذي يقيمون فيه ، إنّهم يغرسون النفاق والتفرقة في كل مكان ، ويشكّلون سدّا ومانعا كبيرا في طريق وحدة الصفوف والتقدم والإصلاحات الواقعية(١) .

ثمّ إنّه تعالى يصف وضعهم عند الموت فيقول :( أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ ) . أي أنّ هؤلاء سيأخذون ما هو نصيبهم وما هو مقدر مكتوب لهم من النعم المختلفة ، حتى إذا استوفوا حظهم من العمر ، وانتهوا إلى آجالهم النهائية ، حينئذ تأتيهم ملائكتنا الموكلون بقبض أرواحهم.

والمراد من «الكتاب» هي المقدرات من النعم المختلفة التي قدرها الله تعالى لعباده في هذا العالم ، وإن احتمل بعض المفسّرين أن يكون المراد من الكتاب هو العذاب الإلهي ، أو ما هو أعمّ من المعنيين.

ولكن بالنظر إلى كلمة (حتى) التي تشير عادة إلى انتهاء الشيء ، يتّضح أنّ المراد هو فقط نعم الدنيا المتنوعة المختلفة التي لكل أحد فيها حظ ونصيب ، سواء المؤمن أو الكافر ، الصالح والطالح ، والتي تؤخذ عند الموت ، لا العقوبات الإلهية التي لا تنتهي بحلول الموت ، والتعبير بالكتاب عن هذه النعم والمقدرات إنّما هو لأجل شبهها بالأمور التي تخضع للتقسيم والأسهم وتكتب.

وعلى كل حال ، فإنّ عقوباتهم تبدأ منذ لحظة حلول الموت ، ففي البداية يواجهون التوبيخ وعتاب الملائكة المكلّفين بقبض أرواحهم ، فيسألونهم : أين معبوداتكم الّتي اتخذتموها من دون الله والتي طالما تحدثتم عنها ، وكنتم

__________________

(١) لمزيد من التوضيح راجع تفسير الآية (٢١) من سورة الأنعام.

٣٦

تسوقون إليها ثرواتكم سفها.( قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) .

فيجيبهم هؤلاء بعد أن يرون أنفسهم منقطعين عن كلّ شيء ، ويرون كيف تبددت جميع أوهامهم وتصوراتهم الخاطئة حول آلهتهم وذهبت أدراج الرياح ، قائلين : لا نرى منها أثرا وإنّها لا تملك أن تدافع عنّا ، وأنّ جميع ما فعلناه من العبادة لها كان عبثا وباطلا( قالُوا ضَلُّوا عَنَّا ) .

وهكذا يشهدون على أنفسهم بالكفر والضلال( وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ ) .

إنّ ظاهر المسألة وإن كان يوحي بأنّ الملائكة تسأل وأنّهم يجيبون ، ولكنّه في الحقيقة نوع من العقوبة النفسية لهم يلفتون بها نظرهم إلى الوضع المأساوي الذي يصيبهم من جراء أعمالهم ، ويرونهم كيف ضلوا وتاهوا في المتاهات والضلالات مدة طويلة من العمر ، وضيّعوا كل رؤوس أموالهم الثمينة دون جدوى دون أن يحصدوا منها حصيلة مسرّة مشرّفة في حين أغلق في وجههم طريق العودة ، وهذا هو أوّل سوط جهنّمي من سياط العقوبة الإلهية التي تتعرض لها أرواحهم.

* * *

٣٧

الآيتان

( قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩) )

التفسير

تنازع القادة والاتباع في جهنم!

في هذه الآية يواصل القرآن الكريم بيان المصير المشؤوم للمكذبين بآيات الله.

ففي الآيات السابقة صور لنا وضعهم عند حلول الموت ، وسؤال الملائكة القابضة للأرواح لهم ، وهنا يرسم لنا ما يجري بين الجماعات المظلّة والغاوية ، وبين من تعرضوا للإغواء في يوم القيامة.

ففي يوم القيامة يقول الله لهم : التحقوا بمن يشابهكم من الجن والإنس ممن

٣٨

سبقوكم ، وذوقوا نفس مصيرهم النّار( قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ ) .

إنّ هذا الأمر يمكن أن يكون بشكل أمر تكويني ، يعني أن يجعلهم جميعا في مكان واحد ، أو يكون شبيها بأمر تشريعي يصدر إليهم يسمعونه بآذانهم ، ويكونون مجبورين على إطاعته.

وعند ما يدخل الجميع في النّار تبدأ مصادماتهم مع زملائهم وأشباههم في المسلك ، وهي مصادمات عجيبة ، فكلّما دخلت جماعة منهم في النّار لعنت الأخرى واعتبرتها سببا لشقائها ومسئولة عن بلائها ومحنتها( كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها ) (١) .

ولعلنا قلنا مرارا : إنّ ساحة القيامة وما يجري فيها انعكاس واسع وكبير لمجريات هذه الدنيا. فلطالما رأينا في هذا العالم الجماعات والفرق والأحزاب المنحرفة تلعن إحداها الأخرى ، وتبدي تنفرها منها. على العكس من أنبياء الله ، والمؤمنين الصالحين ، والمصلحين الخيّرين ، فإنّ كل واحد منهم يؤيّد برنامج الآخر ، ويعلن عن ارتباطه به واتحاده معه في الأهداف والغايات.

إلّا أنّ الأمر لا ينتهي إلى هذا الحدّ ، بل عند ما يستقر الجميع ـ بمنتهى الذلّة والصغار ـ في الجحيم والعذاب الأليم ، تبدأ كل واحدة منها برفع شكايتها إلى الله من الأخرى.

ففي البداية يبدأ المخدوعون المغرّر بهم بعرض شكايتهم ، وحيث أنّهم لا يجدون مناصا ممّا هم فيه يقولون : ربّنا إنّ هؤلاء المغوين هم الذين أضلونا وخدعونا ، فضاعف يا ربّ عذابهم ، عذابا لضلالهم وعذابا لإضلالهم إيّانا. وهذا هو ما يتضمّنه قوله تعالى :( حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ

__________________

(١) التعبير بالأخت كناية عن الارتباط الفكري والصلة الروحية بين هذه الفرق المنحرفة ، وحيث أن الأمة مؤنث لفظي ، لهذا عبر عنها بالأخت ، لا الأخ.

٣٩

رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ ) .

ولا شك أنّ هذا الطلب منطقي ومعقول جدّا ، بل إنّ المضلين سينالون ضعفا من العذاب حتى من دون هذا الطلب ، لأنّهم يتحملون مسئولية انحراف من أضلوا أيضا دون أن ينقص من عذابهم شيء ، ولكن العجيب هو أن يقال لهم في معرض الإجابة على طلبهم : سيكون لكلتا الطائفتين ضعفان من العذاب وليس للمضلين فقط( قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ ) .

ومع الإمعان والدقة يتّضح لماذا ينال المخدوعون المضللون ضعفا من العذاب أيضا ، لأنّه لا يستطيع أئمّة الظلم والجور ورؤوس الانحراف والضلال أن ينفذوا لوحدهم برامجهم ، بل هؤلاء الأتباع المعاندون المتعصبون لأسيادهم هم الذين يمدون قادة الضلال ورؤوس الانحراف بالقوّة والمدّد الذي يوصلهم إلى أهدافهم الشريرة ، وعلى هذا الأتباع يجب أن ينالوا ضعفا من العذاب أيضا ، عذابا لضلالهم هم ، وعذابا لمساعدتهم للظالمين وإعانتهم قادة الانحراف.

ولهذا نقرأ في حديث معروف عن الإمام الكاظمعليه‌السلام حول أحد شيعته يدعى صفوان ، حيث نهاه عن التعاون مع هارون الرشيد قائلا : «يا صفوان كلّ شيء منك حسن جميل ما خلا شيئا واحدا».

قلت : جعلت فداك أي شيء؟

قالعليه‌السلام إكراؤك جمالك من هذا الرجل (هارون الرشيد العباسي).

قلت : والله ما أكريته أشرا ولا بطرا ولا للصيد ولا للهو ، ولكنّي أكريته لهذا الطريق (يعني طريق مكّة) فقال ليعليه‌السلام : يا صفوان أيقع كراؤك عليهم؟ قلت : نعم جعلت فداك.

فقال لي : أتحبّ بقاءهم حتى يخرج كراؤك. قلت : نعم.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

بدرجة يطيعون اوامره وينفذون وصاياه الىٰ هذا الحدّ !

فأنظر ـ والكلام لابن سينا ـ الفارق الىٰ ايّ مستوىٰ ! اجل يا بهمنيار ، فلا يمكن الادعاء بما للعظماء كذباً.

الاصدقاء جميعهم : الحقيقة عين ما اشرت إليه.

السبب الحقيقي لنفوذ نبي الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله

العقيد : اصدقائي ارجو ان لا تستعجلوا الحكم ، مع ان كلام الشيخ لا يمكن انكاره الى حدّ ما ، فنفوذ الرسول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ليس عادياً ، لكني اتصور ان جزءاً من نفوذ قدرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في الناس الذين عاصروا ذلك العظيم هي الاعمال التي كانوا يرونها منه والتي كانوا يتصورونها معاجز ، في حين ان المعجزة والامر الذي ليس له اسباب وعلل طبيعية وعادية ، مشكوك فيه في عالمنا المعاصر ، والجزء الآخر من نفوذه والذي يرتبط بعصرنا فهو محصور بين المسلمين غير العلماء ، وطبيعي فالنفوذ الىٰ قلوب مثل هذه النماذج من الناس ليس امراً عجيباً أو صعباً.

طالب الطب ، حسن : انا اوافق سيادة العقيد في هذا الرأي.

الشيخ : اشكركم أيُّها السادة ، علىٰ طرحكم ما ترونه موضع اشكال بحرية تامة ودون مجاملات ، وهدفنا من طرح هذه المواضيع هو دراسة الاشكالات التي يراها الاصدقاء في مواجهة الدين الاسلامي المقدس ، والاجابة عليها.

٨١

الاصدقاء جميعهم : نحن مسرورون لهذا اللقاء ، وهذا اليوم الذي تعرّفنا فيه عليك لهو من اجمل ايام حياتنا ، فكلامك جميل ، واجوبتك وافية ، كما ان سفرنا يمضي بسرور ونحن مستفيدون من وقتنا.

الشيخ : تتلخص اشكالات سيادة العقيد في ثلاثة محاور :

الأول : ايمان اهل ذلك العصر بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان بالمعجزة الىٰ حدّ ما.

الثاني : من الصعب اليوم القبول بالمعجزة.

الثالث : نفوذ رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله اليوم ، غالباً ما نجده بين غير المتعلمين وغير العلماء.

وسنتكلم في المواضيع الثلاثة ـ ان شاء الله ـ حسب طريقتنا ، اي بشكل مختصر ومفيد.

أمّا الموضوع الأوّل :

خلافاً لما قاله سيادة العقيد ، فأن اغلب اهالي الجزيرة العربية والمسلمون الذين عاصروا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله تأثروا بقوانين الاسلام التي جاء بها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ( طبعاً بالحد الذي كان المستوىٰ الفكري لذلك العصر يسمح به ) وبالاعجاز القرآني من حيث الفصاحة والبلاغة وكذلك بحياة الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله التي كانت غريبة عنهم ، وليست بسائر المعجزات.

لأنه : إذا كان ايمان العرب بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله حدث بالمعاجز فقط ، كان لابدّ ان يكون تقدم الاسلام وانتشاره سريعاً في السنوات الثلاثة عشرة التي قضاها

٨٢

الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في مكة بعد البعثة ، لان اكبر واعظم معجزاته كانت في مكة ، في حين ان نمو الاسلام في مكة وقياساً للسنوات العشرة التي قضاها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة يعد لاشيء ، بل اصبحت الحياة له لا تطاق في مكة وهو مهدد بالقتل فيها مما اضطره للخروج منها ليلاً والهجرة الىٰ المدينة بأمر من الله تبارك وتعالىٰ ، اما المدينة فقد استقبلته واحتضنته وعاهدته في الدفاع عنه بكل ما تستطيع ، وقد وفو بعهدهم اليه حقاً ، لكن ما الذي دعىٰ أهل المدينة لاستقبال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واحتضانه والدفاع عنه بالغالي والرخيص ؟

لم تكن المعجزات هي التي جعلتهم يقومون بذلك ، لأنهم لم يروا أية معجزة منه يوم تعهدوا له بالدفاع عنه ، بل كان موسم الحج وقد جاؤا الىٰ مكة فسمعوا كلمات القرآن المحيرة ، وسألوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن الاسلام وقوانينه واحكامه وما يدعوا اليه ، وبعد ان تعرفوا عليه آمنوا به طوعاً ، وسبب افتتانهم به هو ان قبيلتين منهم ( الأوس والخزرج ) كانتا تتقاتلان لقرن من الزمن ، وكانت بينهما دماء ومآسي ، فكم من الشباب قتلوا وكم من النساء ترمّلن وكم من الاطفال تيتموا وكم من الآباء ثكلوا.

كان اهل المدينة قد عانوا الكثير ، كانوا يعيشون حالة من التوحش الكامل ، وقد ملّوا من الجرائم والدماء ، وكان انحطاطهم الاخلاقي بمستوىٰ جعلهم يستشرون ضرورة وجود مصلح وقوانين عادلة تنقذهم من شقائهم ، كانوا بحاجة الىٰ قوة تستبدل البغض والحقد الذي في قلوبهم بالعاطفة والمحبة ، لقد فهموا ان عليهم ايقاف حمامات الدم تلك ونبذ حياة التوحش والظلم والجريمة.

٨٣

ولكن ، من هو الشخص الذي يقوم بذلك العمل الجبار ويبلغهم تلك الآمال ؟ من هو الرجل الذي يرفع لواء العدل ويجمع هؤلاء المظلومين تحت رايته ؟ وهل يمكن ان يجدوا مثل ذلك الشخص وبتلك المواصفات في بلاد مثل الجزيرة العربية ؟

اجل ، لقد رأىٰ اهل المدينة ذلك الرجل الذي ينشدونه في سفر حجهم وادركوا انه الوحيد الذي يستطيع انهاء وضعهم المأساوي ، ولهذا اجتمعوا حول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ونصروه في الشدائد والمشكلات ، ولماذا لا يفتتنوا بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! ولماذا لايفتدوه بأموالهم وانفسهم ، فرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما رآه ذو قلب سليم وشاهد صفاته التي لا تجتمع لأحد ، إلّا وخضع امامه واستسلم له ! فأي صخرة صماء ذلك الذي يرىٰ جميع تلك الفضائل : الوفاء والتواضع ، حسن الخلق ، نصرة المظلوم ، الرأفة ، الشجاعة ، الشهامة ، العفو ، الأدب ، الصدق ، الامانة ، عدم الاعتناء بالدنيا ومئات الفضائل الأخرىٰ ، ولا يمتلىء قلبه بحب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! فهل يمكن لبشر عادي ان يكون هكذا ؟

اجل صفاته واخلاقه مع الناس ومع ابنائه وازواجه ومع اتباعه ومع العبيد والصغار و الخ هي التي جعلت الناس تفتتن به ويكون له نفوذ في قلوبها ، وليست المعجزات التي جاء بها.

٨٤

سيرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله المليئة بالفخر

سيادة العقيد ! من أجل أن يتّضح الموضوع بشكل جيد ، ولكي تعرفوا هل معجزات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أو اسلوبه اخلاقي هو الذي سخر قلوب اهل زمانه له ، سأضطر الىٰ بحث مختصر حول اخلاق الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وفضائله وملكاته الفاضلة.

بلع العلى بكماله

كشف الدجى بجماله

حسنت جميع خصاله

صلّوا عليه وآله

معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأهل بيته

كان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مبتسم علىٰ الدوام مع اهل بيته ، ولم يكن فظَّاً غليظاً معهم ، فقد كان يحنو عليهم ويعاملهم برأفة ، كان يحاول جهد الامكان ان لا يغتمّوا ولا يحزنوا ، وكان عادلاً بينهم حتىٰ انه لم يشتكي منه احد مدىٰ حياته ، يساعدهم في اعمال البيت ، وكان يقول : مساعدة الزوجة في عملها بالبيت صدقة ، ومع ان بعض نساءه كنّ يتجرأن عليه ويعاملنه وكأنه رجل عادي كسائر الرجال وكنّ يؤذينه ويغضبنه ويتعرضنّ عليه ويتدخلن في اعماله ، مع ذلك كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله محافظاً علىٰ عدالته بينهنّ ، ويجب ان لا نتصور ان جميع وسائل الراحل كانت متوفرة لتلك النساء ، لانهنّ نساء امبراطور الاسلام ، أبداً فلا

٨٥

الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كان امبراطوراً ، ولا نساءه كنّ مثل حريم الاباطرة.

فلم يكن لهنّ قصور ولا غلمان وجواري ، وفي بعض الاحيان لم تتوفر لهنّ ابسط ضروريات الحياة ، لكن ثغر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الضحوك ووجهه البَشر وقلبه الرحيم العطوف ، كان بلسماً لكل وضنك ذلك العيش.

تقول اُمّ سلمة : احدىٰ نساء النبي :

في ليلة زفافي،حيث دخلت بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كنت اسكن في غرفة لم يكن فيها الّا قليل من الشعير ومطحنة يدوية ووعاء للعجين وقدر لعمل الخبز وكوز ماء ، فطحنت الشعير وعجنته وصنعت اقراصاً من الخبز ، اكلتها. وهكذا كانت حياة نساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حتىٰ في ليلة زفافهنَّ.

معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأبنائه

لا يمكن وصف المحبة والعطف الذي كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يغدقه علىٰ ابناءه ، لقد كان يحب ابناءه واحفاده كثيراً جداً ، كان يجلسهم علىٰ ركبتيه ويداعبهم ويقبل وجوههم ، حتىٰ انه كان يلاعبهم احياناً ، ومحبته لابنته الزهراءعليها‌السلام وابنائهاعليهم‌السلام معروفة ومشهورة.

معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأصدقائه

معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأصدقائه ومحبيه ، تشبه معاملته لابنائه ، ولهذا السبب كان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله محبوباً عند اصدقائه ، الى حدّ يفوق التصوّر.

٨٦

وفي حادثة وقعت بعد معركة احد ، كانت مكة قد اعدّتها ودبّرتها ، حيث جاءت مجموعة من الاعراب الىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة وطلبت ان يذهب معهم جماعة من المسلمين لتبليغ الدين وبيان الاحكام ، فأرسل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله معهم جماعة من المسلمين برئاسة عاصم بن ثابت ، لكن الأعراب قاموا بقتل المسلمين غيلة إلّا اثنين منهم اسروهم وارسلوهم الىٰ مكة وباعوهم علىٰ المشركين ، وكان زيد بن دثية احد الاسيرين ، فأشتراه صفوان بن اُمية ، لكي يقتله ثأراً لأبيه ، وبعد ان سجنه لفترة ، تقرر ان يُقتل في يوم معين.

وفي ذلك اليوم اجتمع اهل مكة جميعهم ، ليشاهدوا قتل ذلك الشاب المسلم ، انتقاماً لقتلاهم في بدر.

وفي النهاية ، حانت ساعة الاعدام ، فجاءوا ب‍ « زيد » وقد اجتمعت جميع طبقات مكة من كبارها ورؤساء قريش من التجار والمزارعين والنساء والفتيات والاطفال ، اجتمعوا اطرف المشنقة ، في تلك اللحظات التفت أبو سفيان وهو زعيم قريش الىٰ زيد وقال : أتحبُّ ان يكون محمداً مكانك هنا حتىٰ يعدم وترجع انت سالماً الىٰ اهلك ، اقسم عليك بمن تعبد ان تقول الصدق ؟

فأجابه زيد : يا أبا سفيان ، أقسم باللهِ ، أحبُّ ان اُقتل هنا ولا تصيب قدم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله شوكة فتؤذيه ! إفصاح أبو سفيان بعد تلك الاجابة : لم أرَ احداً اعزّ من محمد عند اصحابه.

أجل ، كان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ودوداً مع اصحابه للحد الذي جعلهم يهيمون بحبه ، فلم يحملهم في حياته شيئاً ، ومع انه كان القائد وزعيم المسلمين الذي

٨٧

فتح الجزيرة العربية واخضع الجميع للاسلام ، لكنه وفي احدىٰ اسفاره ارادوا ان يذبحوا شاة للأكل ، فتعهد كل واحد بعمل ، فقال احدهم : انا أذبحها ، وقال الآخر : انا اسلخها وقال الثالث : أنا اطبخها ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وانا اجمع الحطب للطبخ.

واضح ان العمل الذي تكفّل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله به اشقّ من أعمال الآخرين ، لأنه كان يحتاج الىٰ كمية كبيرة من حطب الصحراء ! لكي تطبخ شاة ، لذلك قال المسلمون : يا رسول الله ، نحن نجمع الحطب ولا تؤذي نفسك انت.

لم يقل المسلمون ذلك مجاملة منهم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لأنهم بذلوا كل ما يملكون من اجله ، هؤلاء الناس لا يتحدثوان زيفاً وتملّقاً وانما لم يحبوا ان يتعب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه.

لكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لهم : اعلم انكم لا تحبون ان اتعب ، لكني لا اُريد ان افضل علىٰ اصحابي ، والله لا يحب الذين يميزون انفسهم عن الآخرين.

وهكذا عندما بنىٰ المسلمون مسجد المدينة ، كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يحمل معهم الحجارة والتراب ، وعندما حفروا الخندق(1) اختص الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لنفسه حصة من العمل كسائر المسلمين ، بل انه كان يعمل اكثر من الآخرين.

________________

(1) هو الخندق الذي حفره المسلمون حول المدينة لصد الاعداء في معركة الاحزاب.

٨٨

اصدقائي !

ألم يكن اهل الجزيرة العربية محقّون في الخضوع لهذا الرجل والافتتنان به ؟! وهل رأيتم رجلاً في العالم يتعامل بهذه الروح السمحة والمحبة للخير مع اتباعه والذين يأتمرون بأوامره وهو في قمة هرم السلطة ؟! هذه التصرفات والمعاملة الاخلاقية لا توجد الّا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأعدائه

لقد عامل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله اعداءه كما كان يعامل اصدقاءه واصحابه ، فأي شخص لم ينتقم بشدة في اليوم الذي يتسلط فيه علىٰ اعدائه وينتصر عليهم ؟! لكن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كان رؤوفاً بأعدائه ، ينظر اليهم بعين العطف ، وكان متسامحاً للحد الذي وصفوه ـ الاعداء ـ بالعظيم والكريم.

ففي غزوة ذات الرقاع ، كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله واقفاً الىٰ جانب نهر ، وفجأة جاء سيل وحال بين الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وجيش المسلمين ، فرأىٰ احد جنود العدو ان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لوحده وبعيداً عن معسكره ، فجاءه شاهراً سيفه ظاناً ان اللحظة مؤاتية لقتل الرسول ، وقال : يا محمد ، من سينجيك مني ؟

قال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ربي.

ضحك الرجل مستهزءاً ، وهوىٰ بسيفه بقوة علىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكن الله وقىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله شره ، فوقعت به فرسه قبل ان يضرب ضربته ، ووقع علىٰ الارض ، فوقف الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فوق رأسه وأعاد عليه كلامه ، قال : من سينجيك

٨٩

مني ؟!

فقال الرجل وعيناه تبرق املاً : جودك وكرمك يامحمد !!

فما هو اساس ذلك الكلام في تلك اللحظات الحرجة ؟ هل قال الرجل كلامه تملّقاً ؟! بالتأكيد ، لم يقله تملّقاً.

لقد رأىٰ الرجل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله شاهراً سيفه فوق رأسه ، وتذكر اللحظات السابقة ، كان والوضح حرجاً بالنسبة له في الظاهر ، لانه لو قام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بقتله كان قد فعل ماكان هو يريد فعله قبل لحظات ، الاّ انه لم يوفق لذلك ، والأمل الوحيد لذلك المشرك هو أن الذي يريد قتله ليس انساناً عادياً كسائر الناس بل هو رجل الحق ، كريم بمعنىٰ الكرم ، عفوّ ورؤوف ، لقد تكلّم الرجل المشرك بكلامه استناداً الىٰ تاريخ ذلك الرجل الذي يريد قتله ، فحياته مليئة بالكرم والبذل والعمل الصالح والمحبة ، ولا بدّ أنَّ المشرك تذكر تلك السنة التي اصاب القحط فيها مكة ، فكان ذلك الرجل الذي شهر سيفه الآن عليه ، مثل الأب الرحيم علىٰ ابناءه ، يشتري الطعام بأمواله واموال خديجة ( بعد الاستأذان منها ) ، كان يشتري القمح والشعير والابل ويقدمها الىٰ الضعفاء في مكة واطرافها ، وبذلك نجّاهم من الموت جوعاً.

كان المشرك يعلم ان هذا الرجل يحمل بين جنبيه قلباً عطوفاً رحيماً ، فكان محقاً بأن يأمل ويرجو في تلك اللحظات الحرجة تماماً ، لذلك قرر الاجابة علىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بما يعرفه عن ماضيه وعطفه واحسانه ، لكن الوقت كان ضيقاً واللحظة خطرة ، فليس هناك مجال للأسهاب في الكلام ، ولهذا اجاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله موجزاً ، وقال : « جودك وكرمك يا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله » ، أي عظمتك

٩٠

ومقامك وعفوك ورأفتك يمكن ان تنجيني.

أجل ، لقد فكّر ذلك الرجل بشكل صحيح ، وكان رجاءه في محله ، لقد انجاه كرم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لأنه عندما سمع تلك العبارة ، انزل السيف جانباً ، وقال للرجل : انهض واسرع الىٰ جيشك(1) .

أيُّها السادة !

ألا يستطيع هذا الرجل ان يسخر قلوب الناس بهذه الاخلاق والمكارم الالهية التي هي بذاتها من اكبر المعجزات ؟! هل ان تأثير هذه التصرفات في جذب قلوب الناس اقل من بيان سائر المعجزات ؟

اعجاز النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الاخلاقي عند فتح مكة

اشرنا من قبل أن اهل مكة شاهدوا اكبر المعجزات علىٰ مدىٰ ثلاثة عشرة سنة من بداية البعثة ، تلك المعجزات التي لو رآها أي انسان لأعترف بالنبوة والرسالة ، إلّا انهم كانوا اصم من الصخر فلم تؤثر فيهم ولم يؤمنوا بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكن اولئك الناس عندما شاهدوا عفو الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وعطفه عليهم عند فتح مكة لانت قلوبهم وآمنوا بالدين.

لقد كان لمعاملة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لهم في ذلك اليوم اكبر الاثر في اسلامهم ، وهو بنفس الوقت خير دليل علىٰ ما قاله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن نفسه :

________________

(1) روضة الكافي ، تأليف ثقة الاسلام الكلينيقدس‌سره

٩١

« ادبني ربي فأحسن تأديبي ».

كما انه نموذج كامل لأسلوبه الاخلاقي في التعامل مع اعدائه.

دخل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مكة دون قتال ( سوىٰ مقاومة صغيرة من بعض المشركين ابيدت علىٰ يد جيش الاسلام ).

ومكّة هي مسقط رأسه التي يهفو إليها قلبه علىٰ الدوام ، حتىٰ في الليلة التي اراد ان يهاجر فيها الىٰ المدينة ، نظر الىٰ اطرافها بحسرة ، واغرورقت عيناه بالدموع ، فنزل عليه الامين جبرائيل ووعده من جانب الله بأن يرجعه اليها. وكانت سنوات تمرّ علىٰ ذلك الوعد الالهي ، والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ينتظر ، فمضت اشهر وسنين ببطء وحان الوقت الذي ينجز فيه الوعد.

* * *

عقد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله صلحاً مع كفار قريش وأهل مكة في الحديبية ، إلّا ان الكفار لم يعملوا بمفاد الصلح ، فكانت النتيجة ان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عزم علىٰ فتح مكة بأمر من الله ، وسار نحوا بعشرة آلاف مسلم ، وقد علم اهل مكة من خلال ابي سفيان « الذي ذكرناه تفاصيل لقاءه بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قرب مكة » بالتعبئة العامة للمسلمين.

طوىٰ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الطريق بين المدينة ومكة ، حتىٰ وصل الىٰ« ذي طوىٰ »(1) . نظر الىٰ ما حوله ، فوجد جيشاً قوامه عشرة آلاف مقاتل مستعدون

________________

(1) مكان مشرف علىٰ مكة.

٩٢

لنصرته وقلوبهم تطفح بالمحبة. فتذكّر يوم هجرته ، ذلك اليوم الذي خرج فيه خائفاً يريد الحفاظ علىٰ نفسه من مكة هذه. لكنه يعود اليها اليوم ومعه عشرة آلاف مقاتل من المسلمين الشجعان ، فمن الذي منحه تلك القوة ؟!

أهو غير ربّه الذي يدعوه ؟! بالتأكيد لا.

فلا احد يستطيع ان يحببه الىٰ قلوب الناس بهذا الشكل سوىٰ الله القادر والمهيمن ، اذن ، فاليوم هو اليوم الذي وعده به الله ، وقريب ما يتحقق الوعد الالهي.

نعم ، جميع ما حدث كان بنصر الله ، فلماذا لا يسجد له ، لماذا لا يعبده ؟ وكان ان صاح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« لا إله الّا الله ، وحده وحده ، انجز وعده ، ونصر عبده ، واعزّ جنده ، وهزم الاحزاب وحده ».

وذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نِعَم الله ، تلك النِعَم التي يعجز عن شكرها ، واتقدت شعلة الحب الالهي في قلبه اكثر من ذي قبل ، يريد ان يسجد لربه ، لكنه لا يزال على ظهر الناقة ، تجسم العشق الالهي ورأفة الله به بحيث لم يستطع الصبر لينزل من علىٰ ظهر الناقة كي يسجد ، فسجد شكراً لله وهو علىٰ الناقة ، ثم رفع رأسه من السجود ، فوقعت عيناه علىٰ مكة ، تلك المدينة التي تتوسطها الكعبة ، حيث بناها جده ابراهيم الخليلعليه‌السلام ، موطن آباءه والمكان الذي يهفو اليه قلبه.

جميع تلك الاسباب جعلته يناجي مكة ويظهر لها حبه ، فقال : الله يعلم احبك ، ولو لا ان اهلك اخرجوني عنك لما آثرت عليك بلداً ، ولا ابتغيت بك بدلاً ، اني لمغتم على مفارقتك.

٩٣

فلماذا خاطب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مكّة بهذا الكلام ؟!

وكأنما كان يسمع مسقط رأسه ، أي مكة هذه ، تعاتبه وتقول له : لماذا هجرتني ، وفارقتني ثمان سنوات ، ياحبيب الله ، انا ايضاً أحبك ، فلماذا تركتني الىٰ المدينة التي اخترتها بدلاً مني ، فهل كنت سيئة معك ؟!

وبعد أن أتمّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كلامه ، تحرك من ذي طوىٰ ودخل الحجون(1) ، فأغتسل هناك وركب ناقته حتىٰ يدخل مكة.

مكّة في انتظار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله

اجتمع اهل مكة ووقفوا مع زعماء قريش ورؤساء القبائل الىٰ جانب الكعبة ، لكي ينظروا دخول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكانوا يريدون بذلك أمرين :

الأول : رؤية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

الثاني : معرفة مصيرهم.

دخل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مكة واستسلم الحجر الاسود من علىٰ الناقة ، ثم ارتفع صوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالتكبير :

الله اكبر الله اكبر

فتعالت معه حناجر عشرة آلاف مسلم الله اكبر ، كان صوت التكبير يملأ سماء مكة وينعكس في جبالها ، لكن تأثيره في قلوب المشركين كان اشدّ.

________________

(1) محل اقرب الىٰ مكة من ذي طوىٰ.

٩٤

لقد خاف زعماء قريش من ذلك الصوت ، وكأنما سمعوا صيحة من السماء ، فأضطربت قلوبهم واخذت تخفق بشدّة.

بعد التكبير ، ترجل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من الناقة ، ودخل الكعبة كي يطهرها من رجز الاوثان ، فلا يجدر ببيت بُنيَ فيه الله ان يكون مأوىٰ الاثم ومركز الاصنام ، وكان علىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ان يطهر البيت من تلك الاصنام والآلهه المصنوعة من الخشب أو الحجر.

وقام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بالاطاحة بالاصنام الواحدة بعد الاُخرىٰ ، بعصاه ، وهو يقول :

( جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ) (1) .

( قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ) (2) .

أجل ، لقد انتهىٰ زمان الاصنام وعبادتها ، انتهى عصر الانحناء والخضوع امام آلهة صنعت من معدن أو خشب علىٰ هيئة البشر ، لقد حان الوقت الذي يعبد فيه الناس الله سبحانه وتعالىٰ ، ويخرجوا من ذلّ عبادة هذه الاوثان ، الىٰ عزّ عبادة رب العالمين.

وبعد ان فرغ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من الاطاحة بالاوثان ، توجه الىٰ اهل مكة ، فوجدهم قد اصطفوا مثل التماثيل التي صنعت من حجر ، وكأن علىٰ رؤوسهم الطير ، لا يتحركون ولا يحركون ساكناً ، ووجوهم المصفرة تعبر عن اضطرابهم الداخلي ( بعد ان شاهدوا قوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وجيش المسلمين ) ، كانت عيونهم

________________

(1) سورة الاسراء : 81.

(2) سورة سبأ : 49.

٩٥

تريد الخروج من حدقاتها من شدة الخوف ، كانوا غارقين في افكارهم ، ويتصورون المصير الذي ينتظرهم ، بعد تلك الحروب التي خاضوها ضد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والاذية التي آذوه ، لكنهم في نفس الوقت يرجون شيئاً من شخص الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأن اهل مكة يعرفون جيداً ، ان الرجل الذي دخل مكة اليوم ظافراً منتصراً ، هو محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ذو القلب العطوف والرحيم ، محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي من شيمه العفو عند المقدرة والصفح عمن اساء له ، محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي لا يظلم حتىٰ اعتىٰ اعدائه واقساهم ، محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ليس كالآخرين الذي لا يفكرون عند انتصارهم سوىٰ بالانتقام ، فهو الذي وصفه الله سبحانه وتعالىٰ في القرآن ، فقال :

( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) (1)

فلماذا لا يرجوا أهل مكة فيه الخير ؟! ولماذا لا يمتزج خوفهم واضطرابهم بالامل ؟! لقد رأىٰ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك الخوف والرجاء في وجوههم ، لكنه اراد ان يسمعه منهم ، فقال لهم : ماذا تقولون وتظنون ؟

فأجابه اهل مكة : نقول خيراً ونظن خيراً ، اخ كريم وابن اخ كريم وقد قدرت.

كان جواب اهل مكة مزيج من الخوف والامل ، فعبارة « قد قدرت » استخدمت للتعبير عن الخوف ، لكن العبارات التي سبقت ذلك كانت مفعمة بالرجاء لكن كفة الامل والرجاء كانت تفوق احتمال الانتقام.

ومن حقِّ أهل مكة ان يأملوا العفو والمسح من مثل ذلك الرجل العظيم ،

________________

(1) سورة الانبياء : 107.

٩٦

لأنه لو كان يريد الانتقام منهم ، لما اعطىٰ أبا سفيان الامان ، وجعل بيته مأمناً لأهل مكة ، فلماذا لا يأملوا بعد ذلك ، في حين ان ابا سفيان في خارج مكة عندما التقىٰ برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد ان شاهد جيش المسلمين وهو واقف مع العباس عمّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان قد سمع سعد بن عباد رئيس قبيلة الخزرج ، يقول بصوت عال :

اليوم يوم الملحمة ، اليوم تسبىٰ الحرمة ، اليوم تذل قريش.

فخاف أبو سفيان بعد سماعة ذلك الكلام ، واخبر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ، فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تخف يا ابا سفيان ، سعد مخطيء ، اليوم يوم المرحمة ، اليوم تصان الحرمة ، اليوم تعزّ قريش.

ألم يكن اهل مكة محقّون في رجائهم ؟ لذلك اجابوا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وقالوا : نقول خيراً ونظن خيراً.

أما النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فعندما سمع جوابهم ذلك ، اغرورقت عيناه المباركة بالدمع ، وعندما رأىٰ ذلك أهل مكة تجلت امام اعينهم جميع اعمالهم السيئة السابقة ، فتذكروا التهم التي كالوها له ، والسباب والرمي بالحجارة والحصار في شعب ابي طالب ومهاجمة بيته ليلاً لقتله واجباره علىٰ ترك وطنه الىٰ يثرب ، ومئات الاعمال الاخرىٰ التي جعلتهم يقفون ذلك الموقف النادم اليوم ، وشاهدوا ايضاً ذلك الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي قاسىٰ ماقاساه منهم ، لكنه يقف اليوم ويعاملهم بلطف ورأفة وهو المنتصر والفاتح الذي يستطيع الانتقام.

فالخجل الذي اعتراهم من مواقفهم تلك من جهة ، والرأفة والحب الذي شاهدوه من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة اخرىٰ ، اهاجتهم وجعلت اصواتهم ترتفع

٩٧

بالبكاء ، لقد كان الجميع يذرفون الدموع ، النادمون من سوء اعمالهم ، والمنتصرون الذين عادوا الىٰ وطنهم وحرروا قبلتهم ، حتىٰ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يذرف الدمع ، وبعد لحظات من تلك الحالة ، قال لهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : سأقول لكم ما قاله أخي يوسفعليه‌السلام لأخوته الذين غدروا به :

( قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) (1) .

صحيح انكم لم تنظروا فيّ انكم قومي وعشيرتي ، فأستبحتم ايذائي والوقوف بوجهي ، ولكن لا تخافوا « اذهبوا فأنتم الطلقاء » ، ولا يحق لاحد ان يتعرض لكم ولأموالكم.

وبهذه الكلمات المتقطبة ، خطّ علىٰ اعمالهم السيئة وغفر لهم اخطاء عشرين سنة بحقه.

اصدقائي الاعزاء !

أي واحدة من معجزات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تستطيع ان تسخر قلوب اعتىٰ الاعداء مثل هذا الحدّ الذي يفوق تصور البشر ؟ ألم يكن هؤلاء الناس ، هم انفسهم الذين شاهدوا اكبر المعجزات علىٰ مدىٰ عشرين سنة ولم يأمنوا ولم تتغير نفوسهم ، بل كلما جاءهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بمعجزة وآية جديدة ، كانوا يزدادون غضباً وغيضاً وتتحد صفوفهم اكثر في عدائه ، في حين ان العفو العام الذي أعلنه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو في الحقيقة من معجزاته الاخلاقية التي ليس لها ________________

(1) سورة يوسف : 92.

٩٨

مثيل ، استطاع ان يحرك عواطفهم ، للحد الذي تعالىٰ فيه صوت البكاء من تلك القلوب القاسية حتىٰ ملأ ارجاء مكة.

النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يدعو بالسوء

وفي معركة اُحد ، بعد ان دحر جيش الاسلام قوىٰ المشركين ، وعلىٰ اثر غفلة المسلمين وعدم اطاعتهم أوامر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، استفاد جيش المشركين من تلك الفرصة ، وهجم من جديد علىٰ المسلمين ، فكانت نتيجة حملاته المتكررة والشديدة ان فرّ المسلمون الّا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ونفر من المجاهدين الذين صمدوا رغم شدة البلاء ، وقد جرح الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وكسر سنّة وكان الخطر محيط به من كل جانب ، في تلك اللحظات ، قال له بعض اصحابه الذين صمدوا معه : ادعو يا رسول الله علىٰ اعدائك بالهلاك. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما بعثت لذلك ، وانما بعثت لأكون رحمة للعالمين.

اجل هذه النماذج قليلة من معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأعدائه.

معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لغلمانه

المعاملة التي كانت للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مع غلمانه ، لا يوجد مثيل لها الّا في عترته الطاهرة ، فلم يكن يُحسن إليهم فقط ، ويعاملهم كأفراد الاسرة ، بل وصىٰ المسلمين بهم كثيراً ، فقال : اطعموهم مما تطعمون والبسوهم مما تلبسون. ولم يطلب منهم يوماً القيام بعمل يذلّهم أو يكون لهم عاراً ، ولم يكن يشكل علىٰ

٩٩

اعمالهم.

يقول أنس الذي لازم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سنوات عديدة : خدمت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عشرة سنوات ، فلم يزجرني بكلمة ابداً خلال تلك الفترة ، ولم يشكل علىٰ ايّ عمل قمت به لرأفته ، ولم يؤاخذني علىٰ شيء لم افعله أو عمل قصرّت فيه.

ورأفته كانت بحيث يقول أنس : طلب مني النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يوماً ان انجز له عمل ، لكني شغلت في الطريق بمشاهدة لعب الاطفال ، فمضىٰ علىٰ ذلك وقت كثير ، وانا لازلت انظر الاطفال في لعبهم ، وفجأة رأيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يمسك بقميصي من الخلف ، ويقول لي وهو يبتسم : اذهب الىٰ ما أرسلتك اليه.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606