الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245145 / تحميل: 6211
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

إلّا أنّه حين يجد أنّ بعض الخشب لا ينفعه شيئا ، فسيكون مضطرا إلى نبذه ليكون حطبا للحرق والإشعال ، فهذا الهدف «تبعيّ» لا أصلي.

والفرق الوحيد بين هذا المثال وما نحن فيه ، أنّ الاختلاف بين أجزاء الخشب ليس اختيارا ، واختلاف الناس له صلة وثيقة بأعمالهم أنفسهم ، وهم مختارون وإرادتهم حرّة بإزاء أعمالهم.

وخير شاهد على هذا الكلام ما جاء من صفات لأهل النّار وصفات لأهل الجنّة في الآيات محل البحث ، التي تدل على أنّ الأعمال هي نفسها أساس هذا التقسيم ، إذ كان فريق منهم في الجنّة ، وفريق في السعير.

وتعبير آخر فإنّ الله سبحانه ـ ووفقا لصريح آيات القرآن المختلفة ـ خلق الناس جميعهم على نسق واحد طاهرين ، ووفّر لهم أسباب السعادة والتكامل ، إلّا أنّ قسما منهم اختاروا بأعمالهم جهنم فكانوا من أهلها فكان عاقبة أمرهم خسرا وأن قسما منهم اختاروا بأعمالهم الجنّة وكان عاقبة أمرهم السعادة ثمّ يلخّص القرآن صفات أهل النّار في ثلاث جمل ، إذ تقول الآية :( لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ) .

وقد قلنا مرارا : إنّ التعبير بـ «القلب» في مصطلح القرآن يعني الفكر والروح وقوّة العقل ، أي أنّهم بالرّغم ممّا لديهم من استعداد للتفكير ، وأنّهم ليسوا كالبهائم فاقدي الشعور والإدراك ، إلّا أنّهم في الوقت ذاته لا يفكرون في عاقبتهم ولا يستغلون تفكيرهم ليبلغوا السعادة.

والصفة الثّانية التي ذكرتها الآية لأهل النّار( وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها ) والصفة الثّالثة الواردة في حقهم( وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ ) .

لأنّ البهائم والأنعام لا تملك هذه الاستعدادات والإمكانات ، إلّا أنّهم بما لديهم من عقل سالم وعين باصرة وأذن سامعة ، بإمكانهم أن يبلغوا كل مراتب

٣٠١

الرقي والتكامل ، إلّا أنّهم نتيجة لاتباعهم هواهم ورغبتهم ـ بكل هذه التوافه من الأمور تركوا هذه الاستعدادات جانبا وكان شقاؤهم كبيرا لهذا السبب :( أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ) .

فالمعين الذي يحييهم ويروي ظمأهم موجود إلى جانبهم وهم على مقربة منه ، إلّا أنّهم يتصارخون من الظمأ. وأبواب السعادة مفتحة أمامهم لكنّهم لا يلتفتون إليها.

ويتّضح ممّا ذكرناه أنفا أنّهم اختاروا بأنفسهم سبل شقائهم وهدروا النعم الكبرى «العقل والعين والأذن ...» لا أنّ الله أجبرهم على أن يكونوا من أهل النّار.

لماذا هم كالأنعام؟

لقد شبّه القرآن الكريم الجاهلين الغافلين عديمي الشعور بالأنعام والبهائم مرارا ، إلّا أن تشبيه القرآن هؤلاء بالأنعام لعلّه بسبب انهماكهم باللذائذ والشهوات الجنسية والنوم فحسب ، فهم كالأمم التي تحلم في الوصول إلى حياة مادية مرفهة تحت شعارات برّاقة تخدع الإنسان بأنّ آخر هدف للعدالة الاجتماعية والقوانين البشرية هو الحصول على الخبز والماء وكما يشبهها الإمام عليعليه‌السلام في نهج البلاغة قائلا : «كالبهيمة المربوطة همّها علفها ، أو المرسلة شغلها تقممها»(١) .

وبتعبير آخر : إنّ جماعة منهم تنعم بالرفاه كالأغنام المربوطة التي تدجن لتسمن ، وجماعة آخرين كالغنم السائمة الباحثة عن العلف والماء في الصحراء ، إلّا أن هدف كل منهما هو ما يشبع البطن ليس إلّا!.

وهذا الذي ذكرناه أنفا قد يصدق على شخص معين كما قد يصدق أمّة كاملة

__________________

(١) نهج البلاغة ، من كتاب له و ٢٤ رقم ٤٥.

٣٠٢

برمّتها ، فالأمم التي لا تفكر بنفسها وتتلهى بالأمور التافهة غير الصائبة ، ولا تعالج جذور شقائها ولا تطمح لأسباب الرقّي ، ليس لها آذان سامعة ولا أعين باصرة ، فهي من أهل النّار أيضا ، لا نار القيامة فحسب ، بل هي مبتلاة بنار الدنيا وشقائها كذلك.

وفي الآية التّالية إشارة إلى حال أهل الجنّة وبيان لصفاتهم ، فتبدأ الآية بدعوة الناس إلى التدبّر والتوجّه إلى أسماء الله الحسنى كمقدمة للخروج من صف أهل النّار ، فتقول :( وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها ) .

والمرد من «أسماء الله الحسنى» هي صفات الله المختلفة التي هي حسنى جميعا ، فنحن نعرف أنّ الله عالم قادر رازق عادل جواد كريم رحيم ، كما أنّ له صفات أخرى حسنى من هذا القبيل أيضا.

فالمراد من دعاء الله بأسمائه الحسنى ، ليس هو ذكر هذه الألفاظ وجريانها على اللسان فحسب ، كأن نقول مثلا : يا عالم يا قادر يا أرحم الراحمين. بل ينبغي أن نتمثّل هذه الصفات في وجودنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلا ، وأن يشع إشراق من علمه وشعاع من قدرته وجانب من رحمته الواسعة فينا وفي مجتمعنا.

وبتعبير آخر : ينبغي أن نتّصف بصفاته ونتخلّق بأخلاقه ، لنستطيع بهذا الشعاع ، شعاع العلم والقدرة والرحمة والعدل أن نخرج أنفسنا ومجتمعنا الذي نعيش فيه من سلك أهل النّار ثمّ تحذر الآية من هذا الأمر ، وهو أن لا تحرّف أسماؤه فتقول :( وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

والإلحاد ـ في الأصل ـ مأخوذ من مادة «اللّحد» على زنة «المهد» التي تعني الحفرة التي تقع في طرف واحد ، وعلى هذا الأساس فقد سمّيت الحفرة التي تكون في جانب القبر «لحدا».

ثمّ أطلق هذا الاستعمال «الإلحاد» على كل عمل ينحرف عن الحدّ الوسط

٣٠٣

نحو الإفراط أو التفريط ، ولذلك فقد سمّي الشرك وعبادة الأوثان إلحادا أيضا.

والمقصود من الإلحاد في أسماء الله هو أن نحرف ألفاظها أو مفاهيمها.

بحيث نصفه بصفات لا تليق بساحته المقدسة ، كما يصفه المسيحيون بالتثليث «الله والابن وروح القدس» أو أن نطبّق صفاته على المخلوقين كما فعل ذلك المشركون وعبدة الأوثان إذ اشتقوا لأصنامهم أسماء من أسماء الله فسمّوها اللات والعزّى ومناة ...(وغيرها) فهذه الأسماء مشتقّة من الله والعزيز والمنان «على التوالي».

أو أنّهم حرفوا صفاته حتى شبّهوه بالمخلوقات ، أو عطلوا صفاته ، وما إلى ذلك.

أو أنّهم اكتفوا بذكر الاسم فحسب دون أن يتمثلوه ويعرفوا آثاره في أنفسهم وفي مجتمعاتهم.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة إلى صفتين من أبرز صفات أهل الجنّة ، إذ تقول الآية :( وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) .

وفي الواقع ، إنّ لأهل الجنّة منهجين ممتازين فأفكارهم وأهدافهم ودعواتهم وثقافاتهم حقّة ، وهي في اتجاه الحق أيضا ، كما أنّ أعمالهم وخططهم وحكوماتهم قائمة على أساس الحق والحقيقة.

* * *

بحوث

١ ـ ما هي الأسماء الحسنى؟

في كتب الأحاديث «لأهل السنة والشيعة» أبحاث كثيرة عن أسماء الله الحسنى ، نورد خلاصتها في هذا المجال مضافا إليها ما نعتقده نحن في هذا الصدد.

٣٠٤

لا شك أنّ الأسماء الحسنى تعني الأسماء الكريمة ، ونحن نعرف أن أسماء الله كلّها تحمل مفاهيم حسنى ، ولذلك فجميع أسمائه أسماء حسنى ، سواء كانت صفات لذاته المقدّسة الثبوتية كالعلم والقادر ، أم كانت صفات سلبية كالقدّوس مثلا ، أو صفات تحكي فعلا من أفعاله كالخالق أو الغفور أو الرحمان أو الرحيم إلخ

ومن ناحية أخرى ، لا شك أنّ صفات الله لا يمكن إحصاؤها ، لأنّ كمالاته غير متناهية ، ويمكن أن يذكر لكل صفة من صفاته أو كمال من كمالاته اسم إلّا أن ما نستفيده من الأحاديث أنّ لبعض صفاته أهمية أكثر من سواها ، ولعل «الأسماء الحسنى» الواردة من الآية في الآية محل البحث إشارة إلى هذه الطائفة من الأسماء المتميّزة ، إذ ورد عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّةعليهم‌السلام من أهل بيته روايات كثيرة بهذا المعنى كالرواية الواردة في كتاب التوحيد «للصّدوق» عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق ، عن آبائهعليهم‌السلام ، عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أنّه قال : «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ لله تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسما ـ مائة إلّا واحدة ـ من أحصاها دخل الجنّة»(١) .

كما ورد في كتاب التوحيد عن الإمام علي بن موسى الرّضاعليه‌السلام عن آبائه عن عليعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ للهعزوجل تسعة وتسعين اسما من دعا الله بها استجاب له ومن أحصاها دخل الجنّة»(٢) .

وقد جاء في كتب أحاديث (أهل السنّة) «كما في كتاب صحيح البخاري وصحيح مسلم والترمذي وكتب أخرى» هذا المضمون ذاته : إنّ لله تسعة وتسعين اسما فمن دعاء بها استجاب دعاءه ، ومن أحصاها فهو من أهل الجنّة(٣) .

__________________

(١) تفسير الميزان ، ومجمع البيان ، ونور الثقلين ، ذيل الآية.

(٢) تفسير الميزان ، ومجمع البيان ، ونور الثقلين.

(٣) المصدر السابق.

٣٠٥

ويستفاد من بعض الأحاديث أن هذه الأسماء التسعة والتسعين كلها في القرآن ، كالرّواية الواردة عن ابن عباس أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لله تسعة وتسعون اسما من أحصاها دخل الجنّة ، وهي في القرآن»(١) .

ولذلك فقد سعى جماعة من العلماء إلى أن يستخرجوا أسماء الله الحسنى من القرآن ، إلّا أن ما جاء في القرآن من أسماء وصفات لله سبحانه تزيد على تسعة وتسعين اسما ، فبناء على ذلك لعل الأسماء الحسنى من بين تلك الأسماء ، لا أنّه لا يوجد في القرآن غير تسعة وتسعين اسما لله المشار إليها آنفا (في بعض الأحاديث) وقد صرّحت بعض هذه الرّوايات بالأسماء الحسنى «التسعة والتسعين» ونحن نوردها هنا ، إلّا أنّه ينبغي الالتفات إلى أن بعض هذه الأسماء الواردة في هذه الرواية لم ترد في القرآن بالصيغة الواردة في الرواية ذاتها وإنّما ورد مضمونها أو مفهومها في القرآن.

فقد جاء في الرّواية المنقولة في كتاب «التوحيد» للصّدوق عن الإمام الصادق عن آبائه عن علي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فبعد أن أشارعليه‌السلام إلى أنّ لله تسعة وتسعين اسما قال وهي : «الله ، الإله ، الواحد ، الأحد ، الصمد ، الأول ، الآخر ، السميع ، البصير ، القدير ، القادر ، العلي ، الأعلى ، الباقي ، البديع ، الباري ، الأكرم ، الباطن ، الحي ، الحكيم ، العليم ، الحليم ، الحفيظ ، الحق ، الحسيب ، الحميد ، الحفي ، الرب ، الرحمن ، الرحيم ، الذارئ ، الرازق ، الرقيب ، الرؤوف ، الرائي ، السّلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، السيد ، السبّوح ، الشهيد ، الصادق ، الصانع ، الظاهر ، العدل ، العفو ، الغفور ، الغني ، الغياث ، الفاطر ، الفرد ، الفتاح ، الفالق ، القديم ، الملك ، القدوس ، القوي ، القريب ، القيّوم ، القابض ، الباسط ، قاضي الحاجات ،

__________________

(١) المصدر السابق.

٣٠٦

المجيد ، المولى ، المنان ، المحيط ، المبين ، المغيث ، المصوّر ، الكريم ، الكبير ، الكافي ، كاشف الضر ، الوتر ، النور ، الوهّاب ، الناصر ، الواسع ، الودود ، الهادي ، الوفي ، الوكيل ، الوارث ، البرّ ، الباعث ، التواب ، الجليل ، الجواد ، الخبير ، الخالق ، خير الناصرين ، الديان ، الشكور ، العظيم ، اللطيف ، الشافي»(١) .

لكن الأهم ـ هنا ـ وينبغي ملاحظته والالتفات إليه ، هو أنّ المراد من دعاء الله بأسمائه الحسنى هل يعني أن نعدّ هذه الأسماء أو أن نجريها على الألسنة فحسب ، بحيث أن من ذكر هذه التسعة والتسعين اسما دون أن يتمثل محتواها ويفهمها كان من السعداء ، أو أنّه ستجاب دعوته. بل الهدف هو أن يؤمن الإنسان بهذه الأسماء والصفات ، ثمّ يسعى ـ ما استطاع إلى ذلك سبيلا ـ لأنّ يعكس في وجوده إشراقا من مفاهيم تلك الأسماء ، أي للعالم ، القادر ، الرحمان ، الرحيم ، الغفور ، القوي ، الغني ، الرازق ، وأمثالها. فإنّ كان كذلك كان من أهل الجنّة ، وكان دعاؤه مستجابا ونال كل خير قطعا.

ويستفاد ضمنا ممّا ذكرناه آنفا أنّه لو وردت في بعض الرّوايات الأخرى والأدعية أسماء غير هذه الأسماء لله سبحانه ، حتى لو وصلت إلى الألف ـ مثلا ـ فلا منافاة بينها وبين ما نقلناه هنا أبدا ، لأنّ أسماء الله لا حد لها ولا حصر ، وهي ـ كذاته وكمالاته ـ لا نهاية لها. وإن كان لبعض هذه الأسماء أو الصفات ميزات خاصّة.

من ذلك الرواية الواردة في أصول الكافي عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير هذه الآية ، إذ يقول : «نحن والله الأسماء الحسنى»(٢) فهي إشار إلى أن إشعاعا من صفاته قد انعكس فينا ، فمن عرفنا فقد عرف ذاته المقدسة أو أنّه لو ورد مثلا في بعض الأحاديث أنّ جميع الأسماء الحسنى تتلخص في

__________________

(١) الميزان ، ج ٨ ، ص ٣٧٦ ، نقلا عن التوحيد للصدوق.

(٢) نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ١٠٣.

٣٠٧

التوحيد الخالص ، فإنّما هو لأن جميع صفاته ترجع إلى ذاته المقدسة.

ويشير الفخر الرازي في تفسيره إلى أمر قابل للملاحظة ، وهو أنّ جميع صفات الله تعالى يعود إلى إحدى حقيقتين «استغناء ذاته عن كل شيء» أو «احتياج الآخرين إلى ذاته المقدسة ...»(١) .

٢ ـ الأمّة الهداة!

قرأنا في الآيات محل البحث أنّ طائفة من عباد الله يدعون نحو الحق ويحكمون به( وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) .

هناك تعبيرات مختلفة في الرّوايات الواردة في كتب الأحاديث الإسلامية ، في المراد من هذه الأمّة. ومن جملة هذه الرّوايات ما ورد عن أمير المؤمنين أنّه قالعليه‌السلام . المراد من الآية هو «أمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »(٢) .

ويعني الإمام بهم أتباع النّبي الصادقين المنزّهين عن كل بدعة وانحراف وتغيير أو حياد من تعاليمه الكريمة ولهذا فقد ورد في حديث آخر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «والذي نفسي بيده لتفرقن هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النّار إلّا فرقة( وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) ، وهذه التي تنجو من هذه الأمّة».

ولعل العدد ـ ٧٣ ـ للكثرة ، وهو إشارة إلى الطوائف المختلفة التي ظهرت في طول تاريخ الإسلام في عقائد عجيبة غريبة ، ولحسن الحظ قد انقرض أغلبها فلم يبق منها إلّا أسماؤها في كتب «تاريخ العقائد».

وفي حديث آخر ورد في كتب أهل السنة عن الإمام عليعليه‌السلام ضمن إشارته لاختلاف الأمم التي تظهر بعدئذ في الأمّة الإسلامية ، أن قالعليه‌السلام «الفرقة الناجية

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ١٥ ، ص ٦٦.

(٢) نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ١٠٥.

٣٠٨

أنا وشيعتي وأتباع مذهبي»(١)

وجاء في بعض الرّوايات الأخرى أنّ المراد من قول تعالى :( وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ ) ، هم الأئمّة من أهل البيتعليهم‌السلام »(٢) .

وواضح أنّ الرّوايات المذكورة أنفا كلّها تعالج حقيقة واحدة ، وهي بيان للمصاديق المختلفة لهذه الحقيقة ، وهي أن الآية تشير إلى أمّة تدعو إلى الحق وتعمل بالحق وتحكم به ، وتسير في مسير الإسلام الصحيح. غاية ما في الأمر أنّ بعضهم في قمة هذه الأمّة ورأسها وبعضهم في مراحل أخر وممّا يسترعي النظر أنّ هؤلاء الذين عبّرت عنهم الآية بقولها( وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ ) على اختلاف لغاتهم وقوميّاتهم ومراحلهم العلمية وأمثالها ، هم أمّة واحدة لا غير ، ولذلك فإنّ القرآن قال عنهم :( أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) ولم يعبر عنهم بـ «أمم يهدون إلخ ...».

٣ ـ اسم الله الأعظم

جاء في بعض الرّوايات عن قصة بلعم بن باعورا الذي ورد ذكره ـ آنفا ـ أنّه كان يعرف الاسم الأعظم ، ولا بأس أن نشير إلى هذا الموضوع لمناسبة ورود الأسماء الحسنى في الآيات محل البحث فقد وردت روايات مختلفة في شأن الاسم الأعظم ، ويستفاد منها أن من يعرف الاسم الأعظم لا يكون مستجاب الدعاء فحسب ، بل تكون له القدرة على أن يتصرف في عالم الطبيعة وأن يقوم بأعمال مهمّة والاسم الأعظم ، أيّ اسم هو من أسماء الله؟!

بحث علماء الإسلام كثيرا في هذا الشأن ، وأغلب أبحاثهم تدور في أن

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ٥٣.

(٢) نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ١٠٤ ـ ١٠٥.

٣٠٩

يعثروا على اسم من بين أسماء الله له هذه الخصوصيّة العجيبة والأثر الكبير.

إلّا أن الأهم في البحث أن نعثر على اسم أو صفة من صفاته تعالى بتطبيقها على وجودنا نحصل على تكامل روحي تترتب عليه تلك الآثار.

وبتعبير آخر : إنّ المسألة المهمّة هي التخلق بصفات الله والاتصاف بها ووجودها في الإنسان ، وإلّا كيف يمكن أن يكون الشخص الرديء الوضيع مستجاب الدعوة بمجرّد معرفته الاسم الأعظم؟! وإذا ما سمعنا أنّ بلعم بن باعوراء كان لديه هذا الاسم الأعظم إلّا أنّه فقده ، فمفهوم هذا الكلام أنّه كان قد بلغ ـ بسبب بناء شخصيته وإيمانه وعلمه وتقواه ـ إلى مثل هذه المرحلة من التكامل المعنوي ، بحيث كان مستجاب الدعوة عند الله ، إلّا أنّه سقط أخيرا في الوحل ، فقد تلك الروحية بسبب اتباعه لهوى النفس وانقياده لفراعنة زمانه ، ولعل المراد من نسيان الاسم الأعظم هو هذه الحالة أو هذا المعنى.

كما أنّنا لو قرأنا ـ أيضا ـ أن الأنبياء والأئمّة الكرام كانوا يعرفون الاسم الأعظم ، فمفهوم هذا الكلام هو أنّهم جسّدوا اسم الله الأعظم في وجودهم ، واستضاءوا بشعاعه ، فأولاهم الله ـ بهذه الحال ـ مثل هذه المقام العظيم.

* * *

٣١٠

الآيتان

( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) )

التّفسير

الاستدراج!

تعقيبا على البحث السابق الذي عالجته الآيات المتقدمة ـ والذي يبيّن حال أهل النّار ، تبيّن هاتان الآيتان واحدة من سنن الله في شأن كثير من عباده المجرمين المعاندين ، وهي ما عبّر عنها القرآن «بعذاب الاستدراج».

والاستدراج جاء في موطنين من القرآن : أحدهما في الآيتين محل البحث ، والآخر في الآية (٤٤) من سورة القلم ، وكلا الموطنين يتعلقان بمكذّبي آيات الله ومنكر بها.

وكما يقول أهل اللغة ، فإنّ للاستدراج معنيين :

أحدهما : أخذ الشيء تدريجا ، لأنّ أصل الاستدراج مشتق من (الدرجة) فكما أنّ الإنسان ينزل من أعلى العمارة إلى أسفلها بالسلالم درجة درجة ، أو يصعد من الأسفل إلى الأعلى درجة درجة ومرحلة مرحلة ، فقد سمي هذا الأمر

٣١١

استدراجا.

والمعنى الثّاني للاستدراج هو ، اللّف والطّي ، كطّي السّجل أو «الطومار» ولفّه. وهذان المعنيان أوردهما الراغب في مفرداته ، إلّا أنّ التأمل بدقّة في المعنيين يكشف أنّهما يرجعان إلى مفهوم كلي جامع واحد : وهو العمل التدريجي.

وبعد أن عرفنا معنى الاستدراج نعود إلى تفسير الآية محل البحث.

يقول سبحانه في الآية الأولى :( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ) .

أي سنعذبهم بالاستدراج شيئا فشيئا ، ونطوي حياتهم.

والآية الثّانية تؤكّد الموضوع ذاته ، وتشير بأنّ الله لا يتعجل بالعذاب عليهم ، بل يمهلهم لعلهم يحذرون ويتعظون ، فإذا لم ينتبهوا من نومتهم ابتلوا بعذاب الله ، فتقول الآية( وَأُمْلِي لَهُمْ ) .

لأنّ الاستعجال يتذرع به من يخاف الفوت ، والله قوي ولا يفلت من قبضته أحد( إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) .

و «المتين» معناه القوي المحكم الشديد ، وأصله مأخوذ من المتن ، وهو العضلة المحكمة التي تقع في جانب الكتف (في الظهر).

و «الكيد» والمكر متساويان في المعنى ، وكما ذكرنا في ذيل الآية (٥٤) من سورة آل عمران ، أنّ المكر يعني في أصل اللغة الاحتيال ومنع الآخر من الوصول إلى قصده.

ويستفاد من الآية ـ آنفة الذكر وآيات أخرى وبعض الأحاديث الشريفة الواردة ـ في شأن الاستدراج ، أو العذاب الاستدراجي ، أنّ الله لا يتعجل بالعذاب على الطغاة والعاصين المتجرئين وفقا لسنته في عباده ، بل يفتح عليهم أبواب النعم. فكلّما ازدادوا طغيانا زادهم نعما.

٣١٢

وهذا الأمر لا يخلو من إحدى حالتين ، فإمّا أن تكون هذه النعم مدعاة للتنبيه والإيقاظ فتكون الهداية الإلهية في هذه الحال عملية.

أو أنّ هذه النعم تزيدهم غرورا وجهلا ، فعندئذ يكون عقاب الله لهم في آخر مرحلة أوجع ، لأنّهم حين يغرقون في نعم الله وملذاتهم ويبطرون ، فإنّ الله سبحانه يسلب عندئذ هذه النعم منهم ، ويطوي سجل حياتهم ، فيكون هذا العقاب صارما وشديدا جدّا وهذا المعنى بجميع خصوصياته لا يحمله لفظ الاستدراج وحده ، بل يستفاد هذا المعنى يفيد( مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ) أيضا.

وعلى كل حال ، فهذه الآية تنذر جميع المجرمين والمذنبين بأنّ تأخير الجزاء من قبل الله لا يعني صحة أعمالهم أو طهارتهم ، ولا عجزا وضعفا من الله ، وأن لا يحسبوا أنّ النعم التي غرقوا فيها هي دليل على قربهم من الله ، فما أقرب من أن تكون هذه النعم والانتصارات مقدمة لعقاب الاستدراج. فالله سبحانه يغشّيهم بالنعم ويمهلهم ويرفعهم عاليا ، إلّا أنّه يكبسهم على الأرض فجأة حتى لا يبقى منهم أثر ، ويطوي بذلك وجودهم وتأريخ حياتهم كله.

يقول الإمام عليعليه‌السلام في نهج البلاغة أنّه «من وسّع عليه في ذات يده فلم ير ذلك استدراجا فقد أمن مخوفا»(١) .

كما جاء عنهعليه‌السلام في روضة الكافي أنّه قال : «ثمّ إنّه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس في ذلك الزمان شيء أخفى من الحق ، ولا أظهر من الباطل ، ولا أكثر من الكذب على الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إلى أن قال ـ يدخل الداخل لما يسمع من حكم القرآن فلا يطمئن جالسا حتى يخرج من الدين ، ينتقل من دين ملك إلى دين ملك ، ومن ولاية إلى ولاية ملك ، ومن طاعة ملك إلى طاعة ملك ، ومن عهود ملك إلى

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ١٠٦.

٣١٣

عهود ملك ، فاستدرجهم الله تعالى من حيث لا يعلمون»(١) .

ويقول الإمام الصادقعليه‌السلام : «كم من مغرور بما قد أنعم الله عليه ، وكم من مستدرج يستر الله عليه ، وكم من مفتون بثناء الناس عليه»(٢) .

وجاء عنهعليه‌السلام في تفسير الآية المشار إليها آنفا أنّه قال : «هو العبد يذنب الذنب فتجدد له النعمة معه ، تلهيه تلك النعمة عن الاستغفار عن ذلك الذنب»(٣) .

وورد عنهعليه‌السلام في كتاب الكافي أيضا : «إنّ الله إذا أراد بعبد خيرا فأذنب ذنبا أتبعه بنقمة ويذكره الاستغفار ، وإذا أراد بعبد شرّا فأذنب ذنبا أتبعه بنعمة لينسيه الاستغفار ، ويتمادى بها ، وهو قولهعزوجل :( سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ) بالنعم عند المعاصي»(٤) .

* * *

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ١٠٦.

(٣) المصدر السابق.

(٤) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ٥٣.

٣١٤

الآيات

( أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦) )

سبب النّزول

روى المفسّرون أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين كان بمكّة ، صعد ذات ليلة على جبل الصفا ودعا الناس إلى توحيد الله ، وخاصّة قبائل قريش ، وحذرهم من عذاب الله ، وقال : «إنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، قولوا ، لا إله إلّا الله تفلحوا» فقال المشركون : إنّ صاحبهم قد جنّ ، بات ليلا يصوت حتى الصباح ، فنزلت الآيات وألجمتهم وردت قولهم.

ورغم أنّ الآية لها شأن خاص ، إلّا أنّها في الوقت ذاته لمّا كانت تدعو إلى معرفة النّبي وهدف الخلق والتهيؤ للعالم الآخر ، ففيها ارتباط وثيق بالمواضيع التي سبق بيانها في شأن أهل الجنّة وأهل النّار.

٣١٥

التّفسير

التهم والأباطيل :

في الآية الأولى من الآيات ـ محل البحث ـ يردّ الله سبحانه على كلام المشركين الذي لا أساس له بزعمهم أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد جنّ ، فيقول سبحانه :( أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ ) (١) .

وهذا التعبير يشير إلى أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن شخصا مجهولا بينهم ، وتعبيرهم بـ «الصاحب» يعني المحب والمسامر والصديق وما إلى ذلك. وكان النّبي معهم أكثر من أربعين عاما يرون ذهابه وإيابه وتفكيره وتدبيره دائما وآثار النبوغ كانت بادية عليه ، فمثل هذا الإنسان الذي كان يعدّ من أبرز الوجوه والعقلاء قبل الدعوة إلى الله ، كيف تلصق به مثل هذه التهمة بهذه السرعة؟! أمّا كان الأفضل أن يتفكروا ـ بدلا من إلصاق التهم به ـ أن يكون صادقا في دعواه وهو مرسل من قبل الله سبحانه؟! كما عقب القرآن الكريم وبيّن ذلك بعد قوله أو لم يتفكروا؟ فقال :( إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) .

وفي الآية التّالية ـ استكمالا للموضوع آنف الذكر ـ دعاهم القرآن إلى النظر في عالم الملكوت ، عالم السموات والأرض ، إذ تقول الآية :( أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ ) .

ليعلموا أنّ هذا العالم الواسع ، عالم الخلق ، عالم السموات والأرض ، بنظامه الدقيق المحيّر المذهل لم يخلق عبثا ، وإنّما هناك هدف وراء خلقه. ودعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحقيقة ، هي من أجل ذلك الهدف ، وهو تكامل الإنسان وتربيته وارتقاؤه.

و «الملكوت» في الأصل مأخوذ من «الملك» ويعني الحكومة والمالكية ،

__________________

(١) «الجنّة» كما يذهب إليه أصحاب اللغة معناها الجنون ، ومعناها في الأصل : الحائل والمانع فكأنما يلقى على العقل حائل عند الجنون.

٣١٦

والواو والتاء المزيدتان المردفتان به هما للتأكيد والمبالغة. ويطلق هذا الاستعمال على حكومة الله المطلقة التي لا حدّ لها ولا نهاية فالنظر إلى عالم الملكوت ونظامه الكبير الواسع المملوك لله سبحانه يقوّي الإيمان بالله والإيمان بالحق ، كما أنّه يكشف عن وجود هدف مهم في هذا العالم الكبير المنتظم أيضا. وفي الحالين يدعو الإنسان إلى البحث عن ممثل الله ورسول رحمته الذي يستطيع أن يطبق الهدف من الخلق في الأرض.

ثمّ تقول الآية معقبة لتنبّههم من نومة الغافلين( وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) .

أي : أوّلا : ليس الأمر كما يتصورون ، فأعمارهم لا تخلد والفرص تمر مرّ السحاب ، ولا يدري أحد أهو باق إلى غد أم لا؟! فمع هذه الحال ليس من العقل التسويف وتأجيل عمل اليوم إلى غد.

ثانيا : إذ لم يكونوا ليؤمنوا بهذا القرآن العظيم الذي فيه ما فيه من الدلائل الواضحة والبراهين اللائحة الهادية إلى الإيمان بالله ، فأي كتاب ينتظرونه خير من القرآن ليؤمنوا به؟ وهل يمكن أن يؤمنوا بكلام آخر ودعوة أخرى غير هذه؟!

وكما نلاحظ فإنّ الآيات محل البحث توصد جميع سبل الفرار بوجه المشركين ، فمن ناحية تدعوهم إلى أن يتفكروا في شخصيّة النّبي وعقله وسابق أعماله فيهم لئلا يتملّصوا من دعوته باتهامهم إيّاه بالجنون.

ومن ناحية أخرى تدعوهم إلى أن ينظروا في ملكوت السماوات والأرض ، والهدف من خلقهما ، وأنّهما لم يخلقا عبثا.

ومن ناحية ثالثة تقول :( وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ) لئلا يسوّفوا قائلين اليوم وغدا وبعد غد إلخ ومن ناحية رابعة تقول : إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن فإنّهم لن يؤمنوا بأي حديث آخر وأي كتاب آخر ، إذ ليس فوق القرآن كتاب أبدا

٣١٧

وأخيرا فإنّ الآية التالية ، وهي آخر آية من الآيات محل البحث ، تختتم الكلام بالقول( مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) .

وكما ذكرنا مرارا فإن مثل هذه التعابير لا تشمل جميع الكفار والمجرمين ، بل تختص بأولئك الذين يقفون بوجه الحقائق معاندين ألدّاء ، حتى كأنّما على أبصارهم غشاوة وفي سمعهم صمم وعلى قلوبهم طبع ، فلا يجدون إلّا أسدالا من الظلمات تحجب طريقهم. وكل ذلك هو نتيجة أعمالهم أنفسهم ، وهو المقصود بالإضلال الإلهي( مَنْ يُضْلِلِ اللهُ ) .

* * *

٣١٨

الآية

( يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧) )

سبب النّزول

أيّان يوم القيامة؟!

وفقا لمّا ورد في بعض الرّوايات(١) فإنّ قريشا أرسلت عدّة أنفار إلى نجران ليسألوا اليهود الساكنين فيها ـ إضافة إلى المسيحيين هناك ـ مسائل ملتوية ثمّ يلقوها على النّبي عند رجوعهم إليه ، ظنّا منهم أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيعجز عن إجابتهم ، ومن جملة هذه الأسئلة كان هذا السؤال : متى تقوم الساعة؟! فلما سألوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك السؤال نزلت الآية محل البحث وأفحمتهم!(٢)

* * *

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ٥٤.

(٢) يرى بعض المفسّرين كالمرحوم الطبرسي أن سبب النّزول هو في جماعة من اليهود الذين جاءوا النّبي وسألوه عن يوم القيامة ، إلّا أنّه لمّا كانت السورة نازلة في مكّة ، ولم يكن بين النّبي واليهود فيها خصام وجدال ، فهذا الموضوع مستبعد جدّا.

٣١٩

التّفسير

مع أنّ هذه الآية ذات سبب خاص في النّزول ـ كما ذكروا ـ إلّا أنّها في الوقت ذاته لها علاقة وثيقة بالآيات المتقدمة أيضا ، لأنّه قد وردت الإشارة إلى يوم القيامة ولزوم الاستعداد لمثل ذلك اليوم في الآيات السابقة. وبالطبع فإنّ موضوعا كهذا يستدعي السؤال عن موعده وقيامه ، ويستثير كثيرا من الناس أن يسألوه : أيّان يوم القيامة؟ لهذا فإنّ القرآن يقول :( يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها ) ؟!

وبالرغم من أنّ «الساعة» تعني زمان نهاية الدنيا ، إلّا أنّها في الغالب ـ أو دائما كما ذهب البعض ـ تأتي بمعنى القيامة في القرآن الكريم ، وخاصّة من بعض القرائن التي تكتنف الآية ـ محل البحث ـ إذ تؤكّد هذا الموضوع كجملة : متى تقوم الساعة؟ الواردة في شأن نزول الآية : وكلمة «أيّان» تساوي «متى» وهما للسّؤال عن الزمان ، والمرسى مصدر ميمي من الإرساء ، وهما بمعنى واحد ، وهو ثبات الشيء أو وقوعه ، لذلك يطلق على الحبل وصف «الراسي» فيقال : جبال راسيات ، فبناء على ذلك فإنّ «أيّان مرساها» تعني : في أي وقت تقع القيامة وتكون ثابتة؟!

ثمّ تضيف الآية مخاطبة النّبي أن يردهم بصراحة قائلة :( قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ) .

إلّا أنّ الآية تذكر علامتين مجملتين ، فتقول أوّلا :( ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) .

أية حادثة يمكن أن تكون أثقل من هذه ، إذ تضطرب لهولها جميع الأجرام السماوية «قبيل القيامة» فتخمد الشمس ويظلم القمر وتندثر النجوم ، ويتكون

٣٢٠

من بقاياها عالم جديد بثوب آخر!(1) ثمّ إنّ قيام الساعة يكون على حين غرّة ، وبدون مقدمات تدريجية ، بل على شكل مفاجئ وانقلاب سريع.

ثمّ تقول الآية مرّة أخرى :( يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها ) (2) .

وتضيف الآية مخاطبة النّبي الكريم :( قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) .

وربّما يسأل ـ أو يتساءل ـ بعض الناس : لم كان علم الساعة خاصّا بالله وذاته المقدسة ، ولا يعلم بها حتى الأنبياء؟!

والجواب على ذلك : إن عدم معرفة الناس بوقوع يوم القيامة وزمانها «بضميمة كون القيامة لا تأتي إلّا بغتة» ومع الالتفات إلى هول يوم القيامة وعظمتها ، هذا الأمر يبعث على أن يتوقّع الناس وقوع يوم القيامة في أي وقت ويترقبوها باستمرار ، ويكونوا على أهبة الاستعداد والتهيؤ ، لكي ينجوا من أهوالها. فعدم المعرفة هذا له أثر مثبت جلي في تربية النفوس والالتفات إلى المسؤولية واتقاء الذنوب.

* * *

__________________

(1) قال بعض المفسّرين أنّ المراد من هذه الجملة هو أن معرفة القيامة أو علمها ثقيل على أهل الأرض والسماوات ، إلّا أنّ الحقّ هو التّفسير المذكور آنفا «في المتن» لأنّ القول بحذف كلمتي العلم والأهل خلاف ظاهر الآية.

(2) الحفي في الأصل هو من يسأل عن الشيء بتتابع وإصرار ، ولما كان الإصرار في السؤال باعثا على زيادة العلم ، فقد تستعمل هذه اللفظة على العالم كما هي هنا أيضا.

٣٢١

الآية

( قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) )

سبب النّزول

روى بعض المفسّرين «كالعلّامة الطبرسي في مجمع البيان» أن أهل مكّة قالوا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا كان لك ارتباط بالله ، أفلا يطلعك الله على غلاء السلع أو زهادتها في المستقبل ، لتهيئ عن هذا الطريق ما فيه النفع والخير وتدفع عنك ما فيه الضرر والسوء ، أو يطلعك الله على السّنة الممحلة «القحط» أو العام المخصب العشب ، فينتقل إلى الأرض الخصيبة؟ فنزلت عندئذ الآية ـ محل البحث ـ وكانت جواب سؤالهم.

التّفسير

لا يعلم الغيب إلّا الله :

بالرّغم من أنّ هذه الآية لها شأن خاص في نزولها ، إلّا أنّ ارتباطها بالآية

٣٢٢

السابقة واضح ، لأنّ الكلام كان في الآية السابقة على عدم علم أحد بقيام الساعة إلّا الله ، والكلام في هذه الآية على نفي علم الغيب عن العباد بصورة كلية.

ففي الجملة الأولى من هذه الآية خطاب للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :( قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ ) .

ولا شك أنّ كل إنسان يستطيع أن ينفع نفسه ، أو يدفع عنها الشر ، ولكن على الرغم من هذه الحال فإنّ الآية ـ محل البحث ، كما نلاحظ ـ تنفي هذه القدرة عن البشر نفيا مطلقا. وذلك لأنّ الإنسان في أعماله ليس له قوّة من نفسه ، بل القوّة والقدرة والاستطاعة كلّها من الله ، وهو سبحانه الذي أودع فيه كل تلك القوّة والقدرة وما شاكلهما.

وبتعبير آخر : إنّ مالك جميع القوى والقدرات وذو الإختيار المستقل ـ وبالذات ـ في عالم الوجود هو اللهعزوجل فحسب ، والآخرون حتى الأنبياء والملائكة يكتسبون منه القدرة ويستمدون منه القوّة ، وملكهم وقدرتهم هي بالغير لا بالذات وجملة «إلّا ما يشاء الله» شاهد على هذا الموضوع أيضا.

وفي كثير من آيات القرآن الأخرى نرى نفي المالكية والنفع والضرر عن غير الله ، ولذلك فقد نهت الآيات عن عبادة الأصنام وما سوى الله سبحانه ونقرأ في الآيتين (3) و (4) من سورة الفرقان( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً ) فكيف يملكون لغيرهم؟!

وهذه هي عقيدة المسلم ، إذ لا يرى أحدا «بالذات» رازقا ومالكا وخالقا وذا نفع أو ضرر إلّا الله ، ولذا فحين يتوجه المسلم إلى أحد طالبا منه شيئا فهو يطلبه مع التفاته إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ ما عند ذلك الشخص فهو من الله (فتأمل بدقّة).

٣٢٣

ويتّضح من هذا إنّ الذين يتذرعون بمثل هذه الآيات لنفي كل توسل بالأنبياء والأئمّة ، ويعدون ذلك شركا ، في خطأ فاضح ، حيث تصوروا بأنّ التوسل بالنّبي أو الإمام مفهومه أن نعدّ النّبي أو الإمام مستقلا بنفسه في قبال الله ـ والعياذ بالله ـ وأنّه يملك النفع والضرر أيضا.

ولكن من يتوسل بالنّبي أو الإمام مع الإعتقاد بأنّه لا يملك شيئا من نفسه ، بل يطلبه من الله ، أو أنّه يستشفع به إلى الله ، فهذا الإعتقاد هو التوحيد عينه والإخلاص ذاته. وهو ما أشار إليه القرآن في الآية محل البحث بقوله :( إِلَّا ما شاءَ اللهُ ) أو بقوله :( إِلَّا بِإِذْنِهِ ) في الآية( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) .

فبناء على ذلك فإنّ فريقين من الناس على خطأ في مسألة التوسل بالنّبي والأئمّة الطاهرين الفريق الأوّل : من يزعم أنّ النّبي أو الإمام له قدرة وقوة مستقلة بالذات في قبال الله ، فهذا الإعتقاد شرك بالله.

والفريق الآخر : من ينفي القدرة ـ بالغير ـ عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة الطاهرينعليهم‌السلام ، فهذا الإعتقاد انحراف عن مفاد آيات القرآن الصريحة.

إذن : الحق هو أنّ النّبي والأئمّة يشفعون للمتوسل بهم بإذن الله وأمره ، ويطلبون حل معضلته من الله.

وبعد بيان هذا الموضوع تشير الآية إلى مسألة مهمّة أخرى ردّا على سؤال جماعة منهم فتقول :( وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ ) (1) .

لأنّ الذي يعرف أسرار الغيب يستطيع أن يختار ما هو في صالحه ، وأن يجتنب عمّا يضرّه.

__________________

(1) في الحقيقة أن هناك حذفا في الآية تقديره «لا أعلم الغيب» والجملة التي بعدها شاهدة على ذلك.

٣٢٤

ثمّ تحكي الآية عن مقام النّبي الواقعي ورسالته ، في جملة موجزة صريحة ، فتقول على لسانه :( إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

* * *

ملاحظة

ألم يكن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلم الغيب؟!

يحكم بعض السطحيين لدى قراءتهم لهذه الآية ـ وبدون الأخذ بنظر الإعتبار الآيات القرآنية الأخرى ، بل حتى القرائن الموجودة في هذه الآية أيضا ـ أنّ الآية آنفة الذكر دليل على نفي علم الغيب عن الأنبياء نفيا مطلقا مع أنّ الآية ـ محل البحث ـ تنفي علم الغيب المستقل وبالذات عن النّبي ، كما أنّها تنفي القدرة على كل نفع وضرّ بصورة مستقلة. ونعرف أنّ كل إنسان يملك لنفسه وللآخرين النفع أو الضر.

فبناء على ذلك فإنّ هذه الجملة المتقدمة شاهد واضح على أنّ الهدف ليس هو نفي مالكية النفع والضر أو نفي علم الغيب بصورة مطلقة ، بل الهدف نفي الاستقلال ، وبتعبير آخر : إنّ النّبي لا يعرف شيئا من نفسه ، بل يعرف ما أطلعه الله عليه من أسرار غيبه ، كما تقول الآيتان (26) و (27) من سورة الجن( عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ) .

وأساسا ، فإنّ كمال مقام القيادة لا سيما إذا كان الهدف قيادة العالم بأسره ، وفي جميع المجالات الماديّة والمعنوية ، هو الاحاطة الواسعة بالكثير من المسائل الخفية عن سائر الناس ، لا المعرفة بأحكام الله وقوانينه فحسب ، بل المعرفة بأسرار عالم الوجود ، والبناء البشري ، وقسم من حوادث المستقبل والماضي ، فهذا القسم من العلم يطلعه الله على رسله ، وإذا لم يطلعهم عليه لم

٣٢٥

تكمل قيادتهم!

وبتعبير آخر : إنّ أحاديث الأنبياء والرسل وسيرتهم ستكون محدودة بظروف عصرهم ومحيطهم ، لكن عند ما يكونون عارفين بهذا القسم من أسرار الغيب فسيقومون ببناء حضارة على مستوى الأجيال القادمة ، فتكون مناهجهم صالحة لمختلف الظروف والمتغيّرات

* * *

٣٢٦

الآيات

( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193) )

التّفسير

جحد نعمة عظمى :

في هذه الآيات إشارة إلى جانب آخر من حالات المشركين وأسلوب تفكيرهم ، والردّ على تصوّراتهم الخاطئة. لما كانت الآية السابقة تجعل جميع ألوان النفع والضرّ وعلم الغيب منحصرا بالله ، وكانت في الحقيقة إشارة إلى توحيد

٣٢٧

أفعال الله. فالآيات محل البحث تعدّ مكملة لها لأنّ هذه الآيات تشير إلى توحيد أفعال الله أيضا.

تقول الآية الأولى من هذه الآيات( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها ) فجعل الحياة والسكن جنبا إلى جنب( فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ ) (1) .

وبمرور الأيّام والليالي ثقل الحمل( فَلَمَّا أَثْقَلَتْ ) كان كل من الزوجين ينتظر الطفل ، ويتمنّى أن يهبه الله ولدا صالحا ، فلذلك( دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) وعند ما استجاب الله دعاءهما ، ورزقهما الولد الصالح أشركا بالله( فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

الجواب على سؤال مهم!

هناك بين المفسّرين كلام في المراد من الزوجين الذين تكلمت عنهما الآيتان الأوليان من الآيات محل البحث هل أنّ المراد من «النفس الواحدة» وزوجها آدم وحواء؟ مع أنّ آدم من الأنبياء وحواء امرأة مؤمنة كريمة ، فكيف ينحرفان عن مسير التوحيد ويسلكان مسير الشرك؟!

وإذا كان المراد من النفس الواحدة غير آدم وتشمل الآية جميع أفراد البشر ، فكيف ينسجم التعبير إذا وقوله تعالى( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ) ؟!

ثمّ بعد هذا ما المراد من الشرك ، وأي عمل أو تفكير قام به الزوجان فجعلا لله شركاء؟!

__________________

(1) تغشاها فعل يليه ضمير التأنيث وهو غشي ، ومعناه غطّى ، وهذه الجملة كناية لطيفة عن المقاربة الجنسية والمضاجعة.

٣٢٨

وفي الجواب على مثل هذه الأسئلة نقول : يوجد طريقان لتفسير الآيتين هاتين «وما بعدهما» ، ولعل جميع ما قاله المفسّرون على اختلاف آرائهم يرجع إلى هذين الطريقين الأوّل : إنّ المراد من نفس «واحدة». هو الواحد الشخصي كما ورد هذا المعنى في آيات أخرى من القرآن أيضا ، ومنها أوّل آية من سورة النساء.

والتعبير بالنفس الواحدة ـ أساسا ـ جاء في خمسة مواطن في القرآن المجيد ، واحدة منها في الآية ـ محل البحث ـ والأربعة الأخرى هي في سورة النساء (الآية الأولى) وسورة الأنعام ، الآية (98) ، وسورة لقمان ، الآية (28) ، وسورة الزمر ، الآية (6) ، وبعض هذه الآيات لا علاقة لها ببحثنا هذا ، وبعضها يشبه الآية محل البحث. فبناء على ذلك فالآيات ـ محل البحث ـ تشير إلى آدم وزوجه حوّاء فحسب!

وعلى هذا فالمراد بالشرك ليس هو عبادة غير الله أو الإعتقاد بألوهية غيره ، بل لعل المراد شي آخر من قبيل ميل الإنسان لطفله ، الميل الذي ربّما يجعله غافلا عن الله أحيانا.

والتّفسير الثاني : هو أنّ المراد من النفس الواحدة هو الواحد النوعي ، أي أن الله خلقكم جميعا من نوع واحد كما خلق أزواجكم من جنسكم أيضا.

وبذلك فإنّ الآيتين وما بعدهما من الآيات ـ محل البحث ـ تشير إلى نوع الناس ، فهم يدعون الله وينتظرون الوالد الصالح في كمال الإخلاص لله والانقطاع إليه ، كمن يحدق بهم الخطر فيلتجئوا إلى الله ، ويعاهدون الله على شكره بعد حلّ معضلاتهم. ولكن عند ما يرزقهم الله الولد الصالح ، أو يحلّ مشاكلهم ينسون جميع عهودهم فإنّ كان الولد جميلا قالوا : إنّه اكتسب جماله من أبيه أو أمّه ، وهذا هو قانون الوارثة. وتارة يقولون : إنّ غذاؤه والظروف الصحية تسببت في نموّه وسلامته. وتارة يعتقدون بتأثير الأصنام ويقولون : إنّ ولدنا كان من بركة الأصنام

٣٢٩

وعطائها! وأمثال هذا الكلام وهكذا يهملون التأثير الرّباني بشكل عام ، ويرون العلّة الأصلية هي العوامل الطبيعية أو المعبودات الخرافية(1) .

والقرائن في الآيات ـ محل البحث ـ تدل على أن التّفسير الثّاني أكثر انسجاما وأكثر تفهما لغرض الآية ، لأنّه : أوّلا : إن تعبيرات الآي تحكي عن حال زوجين كانا يعيشان في مجتمع ما من قبل ، ورأيا الأبناء الصالحين وغير الصالحين فيه ، ولهذا طلبا من الله وسألاه أن يرزقهما الولد الصالح. ولو كانت الآيات تتكلم على آدم وحواء فهو خلاف الواقع ، لأنّه لم يكن يؤمئذ ولد صالح وغير صالح حتى يسألا الله الولد الصالح.

ثانيا : الضمائر الواردة في آخر الآية الثّانية والآيات التي تليها ، كلها ضمائر «جمع» ويستفاد من هذا أنّ المراد من ضمير التثنية هو إشارة إلى الفريقين لا إلى الشخصين.

ثالثا : أنّ الآيات التي تلت الآيتين الأوّليين تكشف عن أنّ المقصود بالشرك هو عبادة الأصنام ، لا محبّة الأولاد والغفلة عن الله ، وهذا الأمر لا ينسجم والنّبي آدم وزوجه!

فبملاحظة هذه القرائن يتّضح أنّ الآيات ـ محل البحث ـ تتكلم عن نوع الإنسان وزوجه ليس إلّا.

وكما ذكرنا في الجزء الثّاني من التّفسير الأمثل أن خلق زوج الإنسان من الإنسان ليس معناه أن جزءا من بدنه انفصل عنه وتبدل إلى زوج له يسكن إليه «كما ورد في رواية إسرائيلية أن حواء خلقت من ضلع آدم الأيسر!».

بل المراد أن زوج الإنسان من نوعه وجنسه ، كما نقرأ في الآية (21) من

__________________

(1) يرى بعض المفسّرين أن بداية الآية يتعلق بآدم وحواء ، وذيل الآية تتعلق بأبناء آدم وحواء ، وهذا تكلّف ، لأنّه يحتاج إلى حذف وتقدير ، وهو لا ينسجم وظاهر الآية.

٣٣٠

سورة مريم! قوله تعالى :( أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها ) .

رواية مجعولة :

جاء في بعض المصادر الحديثية لأهل السنّة ، وبعض كتب الحديث الشيعية غير المعتبرة ، في تفسير الآيات محل البحث ، حديث لا ينسجم مع العقائد الإسلامية ، ولا يليق بشأن الأنبياء أبدا. وهذا الحديث كما جاء في مسند أحمد هو : أنّ سمرة بن جندب روى عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : لمّا ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال : سميّه : عبد الحارث ، فعاش وكان ذلك من وحي الشّيطان وأمره(1) «الحارث اسم من أسماء الشيطان».

وجاء في بعض الرّوايات الوارد فيها هذا المضمون ذاته أن آدم رضي بهذا الأمر!!

وسواء أكان راوي هذه الرواية سمرة بن جندب ـ الكذاب المشهور ـ أم غيره أمثال كعب الأحبار أو وهب بن منبه اللذين كانا من علماء اليهود ثمّ أسلما ، ويعتقد بعضهم أنّهما أدخلا في الثقافة الإسلامية خرافات التوراة وبني إسرائيل.

ومهما يكن الأمر فالرواية بنفسها خير دليل على فسادها وبطلائها ، لأنّ آدم الذي هو خليفة الله «في أرضه» ونبيّه الكبير ، وكان يعلم الأسماء ، بالرغم من كونه بترك الأولى هبط إلى الأرض ، إلّا أنّه لم يكن إنسانا يختار سبيل الشرك ويسمّي ولده عبد الشيطان ، فهذا الأمر يصدق في مشرك جاهل فحسب لا في آدم والأعجب من ذلك أنّ الحدى أنف الذكر يتضمن معجزة للشيطان أو كرامة له ، إذ بتسميته الولد باسمه عاش الولد خلافا للأبناء الآخرين. وإنّه لمدعاة

__________________

(1) مسند بن حنبل ، وفقا لما وراه تفسير المنار ، ج 9 ، ص 522.

٣٣١

للأسف الشديد أن ينساق كثير من المفسّرين تحت وطأة هذا الحديث المختلق وأضرابه ، فيجعلون مثل هذه الأباطيل تفسيرا للآي. وعلى كل حال ، فإنّ مثل هذا الكلام لما كان مخالفا للقرآن ، ومخالفا للعقل أيضا ، فينبغي أن ينبذ في سلة المهملات.

وتعقيبا على هذا الأمر يردّ القرآن ـ بأسلوب بيّن متين ـ عقيدة المشركين وأفكارهم مرة أخرى ، فيقول :( أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ) .

وليس هذا فحسب ، فهم ضعاف( وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ) .

والأوثان والأصنام في حالة لو ناديتموها لما استجابت لكم( وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ ) .

فمن كان بهذه المنزلة وبهذا المستوى أنّى له بهداية الآخرين!

ويحتمل بعض المفسّرين احتمالا آخر في تفسير الآية ، وهو أنّ الضمير «هم» يرجع إلى المشركين لا إلى الأصنام ، أي أنّهم إلى درجة من الإصرار والعناد بحيث لا يسمعونكم ولا يذعنون لكم ولا يسلمون.

كما ويحتمل أنّ المراد هو أنّكم لو طلبتم منهم الهداية ، فلن يتحقق دعاؤكم وطلبكم على كل حال( سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ ) .

وطبقا للاحتمال الثّاني يكون معنى الجملة على النحو التالي : سواء عليكم أطلبتم من الأصنام شيئا ، أو لم تطلبوا ففي الحالين لا أثر لها ، لأنّ لا تقدر على أداء أي شيء أو التأثير في شيء.

يقول الفخر الرازي في تفسيره : إذا المشركين إذا ابتلوا بمشكلة تضرعوا إلى الأصنام ودعوها ، وإذا لم يصبهم أذى أو سوء كانوا يسكتون عنها ، فالقرآن يخاطبهم بالقول( سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ ) .

* * *

٣٣٢

الآيتان

( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) )

التّفسير

هاتان الآيتان ـ محل البحث ـ تواصلان الكلام على التوحيد ومكافحة الشرك ، وتكملان ما عالجته الآيات السابقة ، فتعدّان كل شرك في العبادة عملا سفيها وبعيدا عن المنطق والعقل!

والتدفيق في مضمون هاتين الآيتين يكشف أنّهما تبطلان منطق المشركين بأربعة أدلة ، والسرّ في كون القرآن يعالج إبطال الشرك باستدلالات مختلفة ، وكل حين يأتي ببرهان مبين ، لأن الشرك ألدّ أعداء الإيمان ، وأكبر عدوّ لسعادة الفرد والمجتمع.

ولما كانت للشرك جذور مختلفة وأفانين متعددة في أفكار البشر ، فإنّ

٣٣٣

القرآن يستغل كل فرصة لقطع جذوره الخبيثة وأفانينه التي تهدد المجتمع الإنساني.

فتقول الآية الأولى من هاتين الآيتين :( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ ) .

فبناء على ذلك لا معنى لأن يسجد الإنسان لشيء مثله ، وأن يمدّ يد الضراعة والحاجة إليه ، وأن يجعل مقدّراته ومصيره تحت يده!

وبتعبير آخر : إنّ مفهوم هذه الآية هو أنّكم ـ أيّها المشركون ـ لو أمعنتم النظر لرأيتم معبوداتكم ذات أجسام وأسيرة المكان والزمان ، وتحكمها قوانين الطبيعة ، وهي محدودة من حيث الحياة والعمر والإمكانات الأخرى. وخلاصة الأمر : ليس لها امتياز عليكم ، وإنّما جعلتم لها امتيازا عليكم بتصوراتكم وتخيلاتكم!

ثمّ إنّ كلمة «عباد» جمع «عبد» ويطلق هذا اللفظ على الموجود الحي ، مع أن الآية استعملته في الأصنام ، فكانت لذلك تفاسير متعددة التّفسير الأوّل : أنّه من المحتمل أن تشير الآية إلى المعبودين من جنس الإنسان أو المخلوقات الأخرى ، كالمسيح إذ عبده النصارى ، والملائكة إذ عبدتها جماعة من المشركين العرب.

والتّفسير الثاني : أنّ الآية تنزلت وحكت ما توهمه المشركين في الأصنام بأنّ لها القدرة ، فكانوا يكلمونها ويتضرعون إليها ، فالآية ـ محل البحث ـ تخاطبهم بأنّه على فرض أنّ للأصنام عقلا وشعورا ، فهي لا تعدو أن تكون عبادا أمثالكم.

التّفسير الثّالث : أنّ العبد في اللغة يطلق أحيانا على الموجود الذي يرزح تحت نيز الآخر ويخضع له ، حتى لو لم يكن له عقل وشعور ، ومن هذا القبيل أنّ العرب يطلقون على الطريق المطرّق بالذهاب والإياب أنّه «معبّد».

٣٣٤

ثمّ تضيف الآية : أنّكم لو تزعمون بأنّ لهم عقلا وشعورا( فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .

وهذا هو الدليل الثّاني على إبطال منطق المشركين ، وهو كون الأصنام لا تستطيع أن تعمل شيئا ، وهي ساكتة عاجزة عن الإجابة والردّ وفي البيان الثّالث تبرهن الآية على أنّ الأصنام أضعف حتى من عبادها المشركين ، فتساءل مستنكرة :( أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ ) (1) ( بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها ) .

وهكذا فإنّ الأصنام من الضعة بمكان حتى أنّها بحاجة إلى من يدافع عنها ويحامي عنها ، فليس لها أعين تبصر بها ، ولا آذان تسمع بها ، ولا أرجل تمشي بها ، ولا أي إحساس آخر. وأخيرا فإنّ الآية تبيّن ضمن تعبير هو في حكم الدليل الرّابع مخاطبة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلة :( قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ ) .

أي إذا كنت كاذبا ، وأنّ الأصنام مقربات عند الله ، وقد تجرأت عليها فلم لا تعضب عليّ؟ وليس لها ولا لكم ولمكائدكم أي تأثير علي. فبناء على ذلك فاعلموا أنّ هذه الأصنام موجودات غير مؤثرة ، وإنّما تصوراتكم هي التي أضفت عليها ذلك التوهّم!.

* * *

__________________

(1) يبطشون فعل مشتق من «البطش» على زنة «العرش» ومعناه الاستيلاء بالشدّة والصولة والقدرة!

٣٣٥

الآيات

( إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198) )

التّفسير

المعبودات التي لا قيمة لها :

تعقيبا على الآية المتقدمة التي كانت تخاطب المشركين بالقول (على لسان النّبي) :( ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ ) منبهة إياهم أنّهم لا يستطيعون أن يصيبوا النّبي بأدنى ضرر ، فإنّ الآية الأولى ـ من الآيات ـ محل البحث ـ تذكر الدليل على ذلك فتقول :( إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ ) .

وليس وليي وحدي فحسب ، بل هو ولي جميع الصالحين( وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ) .

ثمّ يؤكّد القرآن بالآية التّالية على بطلان عبادة الأوثان مرّة أخرى فيقول :( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ) .

٣٣٦

بل أبعد من ذلك( وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا ) وبالغرم من العيون المصنوعة لهم التي يخيل إلى الرائي أنّها تنظر :( وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) .

وكما أشرنا سابقا أيضا ، فالآية ـ محل البحث ـ يحتمل أن تشير إلى الأصنام كما يحتمل أن تشير إلى المشركين. ففي الصورة الأولى مفهومها ـ كما قدمنا بيانه ـ أمّا في الصورة الثّانية فيكون مفهومها : أنّه لو دعا المسلمون هؤلاء المشركين المعاندين إلى طريق التوحيد الصحيح ما قبلوا ذلك منهم ، وهم ينظرون إليك ويرون دلائل الصدق والحق فيك ، إلّا أنّهم لا يبصرون الحقائق!

ومضمون الآيتين الأخيرتين ورد في الآيات السابقة أيضا ، وهذا التكرار إنّما هو لمزيد التأكيد على مكافحة الشرك وقلع جذوره التي نفذت في أفكار المشركين وأرواحهم عن طريق التلقين والتقرير المتكرر.

* * *

٣٣٧

الآيات

( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) )

التّفسير

وساوس الشّيطان :

في هذه الآيات يبيّن القرآن شروط التبليغ وقيادة الناس وإمامتهم بأسلوب أخّاذ رائق وجيز ، وهي في الوقت ذاته تتناسب والآيات المتقدمة التي كانت تشير إلى مسألة تبليغ المشركين أيضا.

ففي الآية الأولى ـ من الآيات محل البحث ـ إشارة إلى ثلاث من وظائف القادة والمبلغين ، فتوجه الخطاب للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتقول في البداية( خُذِ الْعَفْوَ ) .

٣٣٨

العفو : قد يأتي بمعنى الزيادة في الشيء أحيانا ، كما قد يأتي بمعنى الحدّ الوسط ، كما يأتي بمعنى قبول العذر والصفح عن المخطئين والمسيئين ، وتأتي أحيانا بمعنى استسهال الأمور.

والقرائن الموجودة في الآية تدلّ على أنّ الآية محل البحث لا علاقة لها بالمسائل المالية وأخذ المقدار الإضافي من أموال الناس ، كما ذهب إليه بعض المفسّرين ، بل مفهومها المناسب هو استسهال الأمور ، والصفح ، واختيار الحدّ الوسط(1) .

ومن البديهي أنّه لو كان القائد أو المبلغ شخصا فظا صعبا ، فإنّه سيفقد نفوذه في قلوب الناس ويتفرقون عنه ، كما قال القرآن الكريم :( وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) (2) .

ثمّ تعقيب الآية بذكر الوظيفة الثّانية للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتأمره بأن يرشد الناس إلى حميد الأفعال التي يرتضيها العقل ويدعو إليها اللهعزوجل قائلة :( وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ ) .

وهي تشير إلى أنّ ترك الشدّة لا يعني المجاملة ، بل هو أن يقول القائد أو المبلغ الحق ، ويدعو الناس إلى الحق ولا يخفي شيئا.

أمّا الوظيفة الثّالثة للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهي أن يتحمل الجاهلين ، فتقول :( وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ ) .

فالقادة والمبلغون يواجهون في مسيرهم أفرادا متعصّبين جهلة يعانون من انحطاط فكري وثقافي وغير متخلقين بالأخلاق الكريمة ، فيرشقونهم بالتهم ، ويسيئون الظن بهم ويحاربونهم.

فطريق معالجة هذه المعضلة لا يكون بمواجهة المشركين بالمثل ، بل

__________________

(1) لمزيد من التوضيح يراجع الجزء الثّاني من التّفسير الأمثل في هذا الصدد.

(2) آل عمران ، 159.

٣٣٩

الطريق السليم هو التحمل والجلد وعدم الاكثرات بمثل هذه الأمور. والتجربة خير دليل على أنّ هذا الأسلوب هو الأسلوب الأمثل لمعالجة الجهلة ، وإطفاء النائرة ، والقضاء على الحسد والتعصب ، وما إلى ذلك.

وفي الآية التّالية دستور آخر ، وهو في الحقيقة يمثل الوظيفة الرّابعة التي ينبغي على القادة والمبلغين أن يتحملوها ، وهي أن لا يدعوا سبيلا للشيطان إليهم ، سواء كان متمثلا بالمال أم الجاه أم المقام وما إلى ذلك ، وأن يردعوا الشياطين أو المتشيطنين ووساوسهم ، لئلا ينحرفوا عن أهدافهم.

فالقرآن يقول :( وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (1) .

أجمع آية أخلاقية :

روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «لا آية في القرآن أجمع في «المسائل» الأخلاقية من هذه الآية»(2) «أي الآية الأولى من الآيات محل البحث».

قال بعض الحكماء في تفسير هذا الحديث : إنّ أصول الفضائل الأخلاقية وفقا لأصول القوي الإنسانية «العقل» و «الغضب» و «الشّهوة» تتلخص في ثلاثة أقسام :

1 ـ الفضائل العقلية : وتدعى بالحكمة ، وتتلخص بقوله تعالى :( وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ) .

2 ـ والفضائل النّفسية في مواجهة الطغيان والشهوة ، وتدعى بالعفة ، وتتلخص بـ «خذ العفو».

3 ـ والتسلط على القوة الغضبية ، وتدعى بالشجاعة ، وتتلخص في قوله

__________________

(1) ينزغ مأخوذ من مادة «النزغ» على زنة «النزع» ومعناه الدخول في الأمر لإفساده أو الإثارة ضده!

(2) مجمع البيان ، ذيل الآية.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606