الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245202 / تحميل: 6211
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

السابقة و اللاحقة و التدبّر فيها - و الله أعلم - أن يكون المراد بدخولهم من حيث أمرهم أبوهم أنّهم دخلوا مصر أو دار العزيز فيها من أبواب متفرّقة كما أمرهم أبوهم حينما ودّعوه للرحيل، و إنّما اتّخذ يعقوب (عليه السلام) هذا الأمر وسيلة لدفع ما تفرّسه من نزول مصيبة بهم تفرّق جمعهم و تنقص من عددهم كما اُشير إليه في الآية السابقة لكن اتّخاذ هذه الوسيلة و هي الدخول من حيث أمرهم أبوهم لم يكن ليدفع عنهم البلاء و كان قضاء الله سبحانه ماضيا فيهم و أخذ العزيز أخاهم من أبيهم لحديث سرقة الصواع و انفصل منهم كبيرهم فبقي في مصر و أدّى ذلك إلى تفرّق جمعهم و نقص عددهم فلم يغن يعقوب أو الدخول من حيث أمرهم من الله من شي‏ء.

لكنّ الله سبحانه قضى بذلك حاجة في نفس يعقوب (عليه السلام) فإنّه جعل هذا السبب الّذي تخلّف عن أمره و أدّى إلى تفرّق جمعهم و نقص عددهم بعينه سببا لوصول يعقوب إلى يوسف (عليه السلام) فإنّ يوسف أخذ أخاه إليه و رجع سائر الإخوة إلّا كبيرهم إلى أبيهم ثمّ عادوا إلى يوسف يسترحمونه و يتذلّلون لعزّته فعرّفهم نفسه و أشخص أباه و أهله إلى مصر فاتّصلوا به.

فقوله:( ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ الله مِنْ شَيْ‏ءٍ ) أي لم يكن من شأن يعقوب أو هذا الأمر الّذي اتّخذه وسيلة لتخلّصهم من هذه المصيبة النازلة أن يغني عنهم من الله شيئاً ألبتّة و يدفع عنهم ما قضى الله أن يفارق اثنان منهم جمعهم بل اُخذ منهم واحد و فارقهم و لزم أرض مصر آخر و هو كبيرهم.

و قوله:( إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها ) قيل: إنّ( إِلَّا ) بمعنى لكن أي لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها الله فردّ إليه ولده الّذي فقده و هو يوسف.

و لا يبعد أن يكون( إِلَّا ) استثنائيّة فإنّ قوله:( ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ الله مِنْ شَيْ‏ءٍ ) في معنى قولنا: لم ينفع هذا السبب يعقوب شيئاً أو لم ينفعهم جميعاً شيئاً و لم يقض الله لهم جميعاً به حاجة إلّا حاجة في نفس يعقوب، و قوله:( قَضاها ) استئناف و جواب سؤال كأنّ سائلاً يسأل فيقول: ماذا فعل بها؟ فاُجيب بقوله:( قَضاها ) .

و قوله:( وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ ) الضمير ليعقوب أي إنّ يعقوب لذو

٢٤١

علم بسبب ما علّمناه من العلم أو بسبب تعليمنا إيّاه و ظاهر نسبة التعليم إليه تعالى أنّه علم موهبيّ غير اكتسابيّ و قد تقدّم أنّ إخلاص التوحيد يؤدّي إلى مثل هذه العناية الإلهيّة، و يؤيّد ذلك أيضاً قوله تعالى بعده:( وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) إذ لو كان من العلم الاكتسابيّ الّذي يحكم بالأسباب الظاهريّة و يتوصّل إليه من الطرق العاديّة المألوفة لعلمه الناس و اهتدوا إليه.

و الجملة:( وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ ) إلخ، ثناء على يعقوب (عليه السلام)، و العلم الموهبيّ لا يضلّ في هدايته و لا يخطئ في إصابته و الكلام كما يفيده السياق يشير إلى ما تفرّس له يعقوب (عليه السلام) من البلاء و توسّل به من الوسيلة و حاجته في يوسف في نفسه لا ينساها و لا يزال يذكرها، فمن هذه الجهات يعلم أنّ في قوله:( وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ ) إلخ، تصديقاً ليعقوب (عليه السلام) فيما قاله لبنيه و تصويبا لما اتّخذه من الوسيلة لحاجته بأمرهم بما أمر و توكّله على الله فقضى الله له حاجة في نفسه.

هذا ما يعطيه التدبّر في سياق الآيات و للمفسّرين أقوال عجيبة في معنى الآية كقول بعضهم: إنّ المراد بقوله:( ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ - إلى قوله -قَضاها ) إنّه لم يكن دخولهم كما أمرهم أبوهم يغني عنهم أو يدفع عنهم شيئاً أراد الله إيقاعه بهم من حسد أو أصابه عين و كان يعقوب (عليه السلام) عالما بأنّ الحذر لا يدفع القدر و لكن كان ما قاله لبنيه حاجة في نفسه فقضى يعقوب تلك الحاجة أي أزال به اضطراب قلبه و أذهب به القلق عن نفسه.

و قول بعضهم: إنّ المعنى أنّ الله لو قدر أن تصيبهم العين لأصابتهم و هم متفرّقون كما تصيبهم مجتمعين.

و قول بعضهم: إنّ معنى قوله:( وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ ) إلخ أنّه لذو يقين و معرفة بالله لأجل تعليمنا إيّاه و لكنّ أكثر الناس لا يعلمون مرتبته.

و قول بعضهم: إنّ اللّام في( لِما عَلَّمْناهُ ) للتقوية و المعنى أنّه يعلم ما علّمناه فيعمل به لأنّ من علم شيئاً و هو لا يعمل به كان كمن لا يعلم. إلى غير ذلك من أقاويلهم.

٢٤٢

قوله تعالى: ( وَ لَمَّا دَخَلُوا عَلى‏ يُوسُفَ آوى‏ إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) الإيواء إليه ضمّه و تقريبه منه في مجلسه و نحوه، و الابتئاس اجتلاب البؤس و الاغتمام و الحزن، و ضمير الجمع للإخوة.

و معنى الآية:( وَ لَمَّا دَخَلُوا عَلى‏ يُوسُفَ ) بعد دخولهم مصر( آوى) و قرّب( إِلَيْهِ أَخاهُ ) الّذي أمرهم أن يأتوا به إليه و كان أخا له من أبيه و اُمّه( قالَ ) له( إِنِّي أَنَا أَخُوكَ ) أي يوسف الّذي فقدته منذ سنين - و الجملة خبر بعد خبر أو جواب سؤال مقدّر( فَلا تَبْتَئِسْ ) و لا تغتمّ( بِما كانُوا ) أي الإخوة( يَعْمَلُونَ ) من أنواع الأذى و المظالم الّتي حملهم عليها حسدهم لي و لك و نحن أخوان من اُمّ أو لا تبتئس بما كان غلماني يعملون فإنّه كيد لحبسك عندي.

و ظاهر السياق أنّه عرّفه نفسه بإسرار القول إليه و سلّاه على ما عمله الإخوة و طيّب نفسه فلا يعبأ بقول بعضهم أنّ معنى قوله: إنّي أنا أخوك: أنا أخوك مكان أخيك الهالك - و قد كان أخبره أنّه كان له أخ من اُمّه هلك من قبل فبقي وحده لا أخ له من اُمّه - و لم يعترف يوسف له بالنسب و لكنّه أراد أن يطيّب نفسه.

و ذلك أنّه ينافيه ما في قوله:( إِنِّي أَنَا أَخُوكَ ) من وجوه التأكيد و ذلك إنّما يناسب تعريفه نفسه بالنسب ليستيقن أنّه هو يوسف. على أنّه ينافي أيضاً ما سيأتي من قوله لإخوته عند تعريفهم نفسه:( أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا ) فإنّه إنّما يناسب ما إذا علم أخوه أنّه أخوه فاعتزّ بعزّته كما لا يخفى.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) السقاية الظرف الّذي يشرب فيه، و الرحل ما يوضع على البعير للركوب، و العير القوم الّذين معهم أحمال الميرة و ذلك اسم للرجال و الجمال الحاملة للميرة و إن كان قد يستعمل في كلّ واحد من دون الآخر، ذكر ذلك الراغب في مفرداته.

و معنى الآية ظاهر و هذه حيلة احتالها يوسف (عليه السلام) ليأخذ بها أخاه إليه كما قصّة و فصّله الله تعالى و جعل ذلك مقدّمة لتعريفهم نفسه في حال التحق به أخوه

٢٤٣

و هما منعّمان بنعمة الله مكرمان بكرامته.

و قوله:( ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) الخطاب لإخوة يوسف و فيهم أخوه لاُمّه، و من الجائز توجيه الخطاب إلى الجماعة في أمر يعود إلى بعضهم إذا كان لا يمتاز عن الآخرين، و في القرآن منه شي‏ء كثير، و هذا الأمر الّذي سمّي سرقة و هو وجود السقاية في رحل البعير كان قائماً بواحد منهم و هو أخو يوسف لاُمّه لكن عدم تعيّنه بعد من بينهم كان مجوّزاً لخطابهم جميعا بأنّكم سارقون فإنّ معنى هذا الخطاب في مثل هذا المقام أنّ السقاية مفقودة و هي عند بعضكم ممّن لا يتعيّن إلّا بعد الفحص و التفتيش.

و من المعلوم من السياق أنّ أخا يوسف لاُمّه كان عالماً بهذا الكيد مستحضراً منه و لذلك لم يتكلّم من أوّل الأمر إلى آخره و لا بكلمة و لا نفى عن نفسه السرقة و لا اضطرب كيف؟ و قد عرّفه يوسف أنّه أخاه و سلّاه و طيّب نفسه فليس إلّا أنّ يوسف (عليه السلام) كان عرّفه ما هو غرضه من هذا الصنع، و أنّه إنّما يريد بتسميته سارقا و إخراج السقاية من رحله أن يقبض عليه و يأخذه إليه فتسميته سارقا إنّما كان اتّهاماً في نظر الإخوة و أمّا بالنسبة إليه و في نظره فلم يكن تسمية جدّيّة و تهمة حقيقيّة بل توصيفاً صوريّاً فحسب لمصلحة لازمة جازمة.

فنسبه السرقة إليهم - بالنظر إلى هذه الجهات - لم تكن من الافتراء المذموم عقلا المحرّم شرعاً، على أنّ القائل هو المؤذّن الّذي أذّن بذلك.

و ذكر بعض المفسّرين: أنّ القائل:( إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) . بعض من فقد الصاع من قوم يوسف من غيره أمره و لم يعلم أنّ يوسف أمر بجعل الصاع في رحالهم.

و قال بعضهم: إنّ يوسف (عليه السلام) أمر المنادي أن ينادي به و لم يرد به سرقة الصاع، و إنّما عنى به أنّكم سرقتم يوسف من أبيه و ألقيتموه في الجبّ، و نسب ذلك إلى أبي مسلم المفسّر.

و قال بعضهم: إنّ الجملة استفهاميّة، و التقدير: أ إنّكم لسارقون؟ بحذف همزة الاستفهام، و لا يخفى ما في هذه الوجوه من البعد.

٢٤٤

قوله تعالى: ( قالُوا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ ) الفقد - كما قيل - غيبة الشي‏ء عن الحسّ بحيث لا يعرف مكانه، و الضمير في قوله:( قالُوا ) للإخوة و هم العير، و قوله:( ما ذا تَفْقِدُونَ ) مقول القول و الضمير في قوله:( عَلَيْهِمْ ) ليوسف و فتيانه كما يدلّ عليه السياق.

و المعنى قال إخوة يوسف المقبلين ليوسف و فتيانه: ما ذا تفقدون؟ و في السياق دلالة على أنّ المنادي إنّما ناداهم من ورائهم و قد أخذوا في السير.

قوله تعالى: ( قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) الصواع بالضمّ السقاية و قيل: إنّ الصواع هو الصاع الّذي يكال به، و كان صواع الملك إناء يشرب فيه و يكال به و لذلك سمّي تارة سقاية و اُخرى صواع، و يجوز فيه التذكير و التأنيث، و لذلك قال:( وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ ) و قال:( ثُمَّ اسْتَخْرَجَها ) .

و الحمل ما يحمله الحامل من الأثقال، و قد ذكر الراغب أنّ الأثقال المحمولة في الظاهر كالشي‏ء المحمول على الظهر تختصّ باسم الحمل بكسر الحاء، و الأثقال المحمولة في الباطن كالولد في البطن و الماء في السحاب و الثمرة في الشجرة تختصّ باسم الحمل بفتح الحاء.

و قال في المجمع: الزعيم و الكفيل و الضمين نظائر و الزعيم أيضاً القائم بأمر القوم و هو الرئيس.

و لعلّ القائل:( نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ ) هو فتيان يوسف و القائل:( وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) يوسف (عليه السلام) نفسه لأنّه هو الرئيس الّذي يقوم بأمر الإعطاء و المنع و الضمانة و الكفالة و الحكم، و يعود معنى الكلام على هذا إلى نحو من قولنا: أجاب عنهم يوسف و فتيانه أمّا فتيانه فقالوا:( نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ ) ، و أمّا يوسف فقال:( وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ‏ ) ، و هذه جعالة.

و ظاهر بعض المفسّرين: أنّ قوله:( وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) تتمّة قول المؤذّن:( أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) و على هذا فقوله:( قالُوا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ - إلى قوله -صُواعَ الْمَلِكِ ) معترض.

٢٤٥

قوله تعالى: ( قالُوا تَالله لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَ ما كُنَّا سارِقِينَ ) المراد بالأرض أرض مصر و هي الّتي جاؤها و معنى الآية ظاهر.

و في قولهم:( لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ ) دلالة على أنّهم فتّشوا و حقّق في أمرهم أوّل ما دخلوا مصر للميرة بأمر يوسف (عليه السلام) بدعوى الخوف من أن يكونوا جواسيس و عيونا أو نازلين بها لأغراض فاسدة اُخرى فسألوا عن شأنهم و محلّهم و نسبهم و أمثال ذلك، و به يتأيّد ما ورد في بعض الروايات أنّ يوسف أظهر لهم أنّه في ريب من أمرهم فسألهم عن شأنهم و مكانهم و أهلهم و عند ذلك ذكروا أنّ لهم أبا شائخا و أخا من أبيهم فأمر بإتيانهم به، و سيأتي في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى.

و قولهم:( وَ ما كُنَّا سارِقِينَ ) نفي أن يكونوا متّصفين بهذه الصفة الرذيلة من قبل أو يعهد منهم أهل البيت ذلك.

قوله تعالى: ( قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ ) أي قال فتيان يوسف أو هو و فتيانه سائلين منهم عن الجزاء: ما جزاء السرق أو ما جزاء الّذي سرق منكم إن كنتم كاذبين في إنكاركم.

و الكلام في قولهم:( إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ ) في نسبة الكذب إليهم يقرب من الكلام في قولهم:( إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) و قد تقدّم.

قوله تعالى: ( قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) مرادهم أنّ جزاء السرق نفس السارق أو جزاء السارق نفسه بمعنى أنّ من سرق مالاً يصير عبداً لمن سرق ماله و هكذا كان حكمه في سنّة يعقوب (عليه السلام) كما يدلّ عليه قولهم:( كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) أي هؤلاء الظالمين و هم السرّاق لكنّهم عدلوا عنه إلى قولهم:( جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ ) للدلالة على أنّ السرقة إنّما يجازى بها نفس السارق لا رفقته و صحبه و هم أحد عشر نسمة لا ينبغي أن يؤاخذ منهم لو تحقّقت السرقة إلّا السارق بعينه من غير أن يتعدّى إلى نفوس الآخرين و رحالهم ثمّ للمسروق منه أن يملك السارق نفسه يفعل به ما يشاء.

٢٤٦

قوله تعالى: ( فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ ) فيه تفريع على ما تقدّم أي أخذ بالتفتيش و الفحص بالبناء على ما ذكروه من الجزاء فبدأ بأوعيتهم و ظروفهم قبل وعاء أخيه للتعمية عليهم حذراً من أن يتنبّهوا و يتفطّنوا أنّه هو الّذي وضعها في رحل أخيه ثمّ استخرجها من وعاء أخيه و عند ذلك استقرّ الجزاء عليه لكونها في رحله.

قوله تعالى: ( كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ) إلى آخر الآية. الإشارة إلى ما جرى من الأمر في طريق أخذ يوسف (عليه السلام) أخاه لاُمّه من عصبة إخوته، و قد كان كيداً لأنّه يوصل إلى ما يطلبه منهم من غير أن يعلموا و يتفطّنوا به و لو علموا لما رضوا به و لا مكّنوه منه، و هذا هو الكيد غير أنّه كان بإلهام من الله سبحانه أو وحي منه إليه علّمه به طريق التوصّل إلى أخذ أخيه. و لذلك نسب الله سبحانه ذلك إلى نفسه مع توصيفه بالكيد فقال:( كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ) .

و ليس كلّ كيد بمنفيّ عنه تعالى و إنّما تتنزّه ساحة قدسه عن الكيد الّذي هو ظلم و نظيره المكر و الإضلال و الاستدراج و غيرها.

و قوله:( ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ) بيان للسبب الداعي إلى الكيد، و هو أنّه كان يريد أن يأخذ أخاه إليه، و لم يكن في دين الملك أي سنّته الجارية في أرض مصر طريق يؤدّي إلى أخذه، و لا أنّ السرقة حكمها استعباد السارق و لذلك كادهم يوسف - بأمر من الله - بجعل السقاية في رحله ثمّ إعلام أنّهم سارقون حتّى ينكروه فيسألهم عن جزائه إن كانوا كاذبين فيخبروا أنّ جزاء السرق عندهم أخذ السارق و استعباده فيأخذهم بما رضوا به لأنفسهم.

و على هذا فلم يكن له أن يأخذ أخاه في دين الملك إلّا في حال يشاء الله ذلك و هو هذا الحال الّذي رضوا فيه أن يجازوا بما رضوا به لأنفسهم.

و من هنا يظهر أنّ الاستثناء يفيد أنّه كان من دين الملك أن يؤخذ المجرم بما يرضاه لنفسه من الجزاء و هو أشقّ، و كان ذلك متداولاً في كثير من السنن

٢٤٧

القوميّة و سياسات الملوك.

و قوله:( نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) امتنان على يوسف (عليه السلام) بما رفعه الله على إخوته، و بيان لقوله:( كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ) و كان امتناناً عليه.

و في قوله:( وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) بيان أنّ العلم من الاُمور الّتي لا يقف على حدّ ينتهي إليه بل كلّ ذي علم يمكن أن يفرض من هو أعلم منه.

و ينبغي أن يعلم أنّ ظاهر قوله:( ذِي عِلْمٍ ) هو العلم الطارئ على العالم الزائد على ذاته لما في لفظة( ذِي ) من الدلالة على المصاحبة و المقارنة فالله سبحانه و علمه الّذي هو صفة ذاته عين ذاته، و هو تعالى علم غير محدود كما أنّ وجوده أحدي غير محدود، خارج بذاته عن إطلاق الكلام.

على أنّ الجملة( وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) إنّما تصدق فيما أمكن هناك فرض( فَوْقَ ) و الله سبحانه لا فوق له و لا تحت له و لا وراء لوجوده و لا حدّ لذاته و لا نهاية.

و لا يبعد أن يكون قوله:( وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) إشارة إلى كونه تعالى فوق كلّ ذي علم بأن يكون المراد بعليم هو الله سبحانه اُورد في هيئة النكرة صوناً للّسان عن تعريفه للتعظيم.

قوله تعالى: ( قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ) إلى آخر الآية، القائلون هم إخوة يوسف (عليه السلام) لأبيه، و لذلك نسبوا يوسف إلى أخيهم المتّهم بالسرقة لأنّهما كانا من اُمّ واحدة، و المعنى أنّهم قالوا: إن يسرق هذا صواع الملك فليس ببعيد منه لأنّه كان له أخ و قد تحقّقت السرقة منه من قبل فهما يتوارثان ذلك من ناحية اُمّهما و نحن مفارقوهما في الاُمّ.

و في هذا نوع تبرئة لأنفسهم من السرقة لكنّه لا يخلو من تكذيب لما قالوه آنفاً:( وَ ما كُنَّا سارِقِينَ ) لأنّهم كانوا ينفون به السرقة عن أبناء يعقوب جميعا و إلّا لم يكن ينفعهم ألبتّة فقولهم:( فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ) يناقضه و هو ظاهر. على

٢٤٨

أنّهم أظهروا بهذه الكلمة ما في نفوسهم من الحسد ليوسف و أخيه - و لعلّهم لم يشعروا به - و هذا يكشف عن اُمور مؤسّفة كثيرة فيما بينهم.

و بهذا يتّضح بعض الاتّضاح معنى قول يوسف:( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) كما أنّ الظاهر أنّ قوله:( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) إلى آخر الآية كالبيان لقوله:( فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِها لَهُمْ ) و كما أنّ قوله:( وَ لَمْ يُبْدِها لَهُمْ ) عطف تفسير لقوله:( فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ ) .

و المعنى - و الله أعلم -( فَأَسَرَّها ) أي أخفى هذه الكلمة الّتي قالوها أي لم يتعرّض لما نسبوا إليه من السرقة و لم ينفه و لم يبيّن حقيقة الحال بل( فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِها لَهُمْ ) و كأنّ هناك قائلاً يقول: كيف أسرّها في نفسه فاُجيب أنّه( قالَ: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) و أسوأ حالا لما في أقوالكم من التناقض و في نفوسكم من غريزة الحسد الظاهرة و اجترائكم على الكذب في حضرة العزيز بعد هذا الإكرام و الإحسان كلّه( وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ ) إنّه قد سرق أخ له من قبل فلم يكذّبهم في وصفهم و لم ينفه.

و ذكر بعض المفسّرين أنّ معنى قوله:( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) إلخ: أنّكم أسوأ حالا منه لأنّكم سرقتم أخاكم من أبيكم و الله أعلم أسرق أخ له من قبل أم لا.

و فيه: أنّ من الجائز أن يكون هذا المعنى بعض ما قصده يوسف بقوله:( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) لكنّ الكلام فيما تلقّاه إخوته من قوله هذا و الظرف هذا الظرف هم ينكرون يوسف (عليه السلام) و هو لا يريد أن يعرّفهم نفسه، و لا ينطبق قوله في مثل هذا الظرف إلّا بما تقدّم.

و ربّما ذكر بعضهم أنّ الّتي أسرّها يوسف في نفسه و لم يبدها لهم هي كلمته:( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكان ) فلم يخاطبهم بها ثمّ جهر بقوله:( وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ ) و هذا بعيد غير مستفاد من السياق.

قوله تعالى: ( قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) سياق الآيات يدلّ على أنّهم إنّما قالوا هذا القول لمّا

٢٤٩

شاهدوا أنّه استحقّ الأخذ و الاستعباد، و ذكروا أنّهم أعطوا أباهم موثقا من الله أن يرجعوه إليه فلم يكن في مقدرتهم أن يرجعوا إلى أبيهم و لا يكون معهم، فعند ذلك عزموا أن يفدوه بواحد منهم إن قبل العزيز، و كلّموا العزيز في ذلك أن يأخذ أيّ من شاء منهم، و يخلي عن سبيل أخيهم المتّهم ليرجعوه إلى أبيه.

و معنى الآية ظاهر، و في اللفظ ترقيق و استرحام و إثارة لصفة الفتوّة و الإحسان من العزيز.

قوله تعالى: ( قالَ مَعاذَ الله أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ ) ردّ منه (عليه السلام) لسؤالهم أن يأخذ أحدهم مكانه و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا ) إلى آخر الآية قال في المجمع: اليأس قطع الطمع من الأمر يقال يئس ييأس و أيس يأيس لغة، و استفعل مثل استيأس و استأيس. قال: و يئس و استيأس بمعنى مثل سخر و استسخر و عجب و استعجب.

و النجيّ القوم يتناجون الواحد و الجمع فيه سواء قال سبحانه:( وَ قَرَّبْناهُ نَجِيًّا ) و إنّما جاز ذلك لأنّه مصدر وصف به، و المناجاة المسارّة و أصله من النجوة هو المرتفع من الأرض فإنّه رفع السرّ من كلّ واحد إلى صاحبه في خفية، و النجوى يكون اسماً و مصدراً قال سبحانه:( وَ إِذْ هُمْ نَجْوى‏ ) أي يتناجون، و قال في المصدر:( إِنَّمَا النَّجْوى‏ مِنَ الشَّيْطانِ ) و جمع النجيّ أنجية قال: و برح الرجل براحا إذا تنحّى عن موضعه. انتهى.

و الضمير في قوله:( فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ ) ليوسف و يمكن أن يكون لأخيه و المعنى( فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا ) أي إخوة يوسف( مِنْهُ ) أي من يوسف أن يخلّي عن سبيل أخيه و لو بأخذ أحدهم بدلا منه( خَلَصُوا ) و خرجوا من بين الناس إلى فراغ( نَجِيًّا ) يتناجون في أمرهم أ يرجعون إلى أبيهم و قد أخذ منهم موثقا من الله أن يعيدوا أخاهم إليه أم يقيمون هناك و لا فائدة في إقامتهم؟ ما ذا يصنعون؟.

( قالَ كَبِيرُهُمْ ) مخاطباً لسائرهم( أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً

٢٥٠

مِنَ الله ) ألّا ترجعوا من سفركم هذا إليه إلّا بأخيكم،( وَ مِنْ قَبْلُ ) هذه الواقعة( ما فَرَّطْتُمْ ) أي تفريطكم و تقصيركم( فِي ) أمر( يُوسُفَ ) عهدتم أباكم أن تحفظوه و تردّوه إليه سالماً فألقيتموه في الجبّ ثمّ بعتموه من السيّارة ثمّ أخبرتم أباكم أنّه أكله الذئب.

( فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ ) أي فإذا كان الشأن هذا الشأن لن أتنحّى و لن اُفارق أرض مصر( حتّى يَأْذَنَ لِي أَبِي ) برفعه اليد عن الموثق الّذي واثقته به( أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ ) فيجعل لي طريقا إلى النجاة من هذه المضيقة الّتي سدّت لي كلّ باب و ذلك إمّا بخلاص أخي من يد العزيز من طريق لا أحتسبه أو بموتي أو بغير ذلك من سبيل!!.

أمّا أنا فاختار البقاء هاهنا و أمّا أنتم فارجعوا إلى أبيكم إلى آخر ما ذكر في الآيتين التاليتين.

قوله تعالى: ( ارْجِعُوا إِلى‏ أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَ ما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَ ما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ ) قيل المراد بقوله:( وَ ما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا ) إنّا لم نشهد في شهادتنا هذه:( إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ ) إلّا بما علمنا من سرقته، و قيل المراد ما شهدنا عند العزيز أنّ السارق يؤخذ بسرقته و يسترقّ إلّا بما علمنا من حكم المسألة، قيل و إنّما قالوا ذلك حين قال لهم يعقوب: ما يدري الرجل أنّ السارق يؤخذ بسرقته و يسترقّ؟ و إنّما علم ذلك بقولكم، و أقرب المعنيين إلى السياق أوّلهما.

و قوله:( وَ ما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ ) قيل أي لم نكن نعلم أنّ ابنك سيسرق فيؤخذ و يسترقّ و إنّما كنّا نعتمد على ظاهر الحال و لو كنّا نعلم ذلك لما بادرنا إلى تسفيره معنا و لا أقدمنا على الميثاق.

و الحقّ أنّ المراد بالغيب كونه سارقاً مع جهلهم بها و معنى الآية إنّ ابنك سرق و ما شهدنا في جزاء السرقة إلّا بما علمنا و ما كنّا نعلم أنّه سرق السقاية و أنّه سيؤخذ بها حتّى نكفّ عن تلك الشهادة فما كنّا نظنّ به ذلك.

٢٥١

قوله تعالى: ( وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَ الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَ إِنَّا لَصادِقُونَ ) أي و أسأل جميع من صاحبنا في هذه السفرة أو شاهد جريان حالنا عند العزيز حتّى لا يبقى لك أدنى ريب في أنّا لم نفرط في أمره بل إنّه سرق فاسترقّ.

فالمراد بالقرية الّتي كانوا فيها بلدة مصر - على الظاهر - و بالعير الّتي أقبلوا فيها القافلة الّتي كانوا فيها و كان رجالها يصاحبونهم في الخروج إلى مصر و الرجوع منها ثمّ أقبلوا مصاحبين لهم، و لذلك عقّبوا عرض السؤال بقولهم:( وَ إِنَّا لَصادِقُونَ ) أي فيما نخبرك من سرقته و استرقاقه لذلك، و نكلّفك السؤال لإزالة الريب من نفسك.

٢٥٢

( سورة يوسف الآيات ٨٣ - ٩٢)

قَالَ بَلْ سَوّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَميلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِم جَميعاً إِنّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ( ٨٣) وَتَوَلّى‏ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى‏ عَلَى‏ يُوسُفَ وَابْيَضّتْ عَينَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيم( ٨٤) قَالُوا تَاللّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّى‏ تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ( ٨٥) قَالَ إِنّمَا أَشْكُوا بَثّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ( ٨٦) يَا بَنِيّ اذْهَبُوا فَتَحَسّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رّوْحِ اللّهِ إِنّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَوْحِ اللّهِ إِلّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ( ٨٧) فَلَمّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يا أَيّهَا الْعَزِيزُ مَسّنَا وَأَهْلَنَا الضّرّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدّقْ عَلَيْنَا إِنّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدّقِينَ( ٨٨) قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ( ٨٩) قَالُوا أَءِنّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنّهُ مَن يَتّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ( ٩٠) قَالُوا تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنّا لَخَاطِئِينَ( ٩١) قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ( ٩٢)

٢٥٣

( بيان‏)

الآيات تتضمّن محاورة يعقوب بنيه بعد رجوعهم ثانياً من مصر و إخبارهم إيّاه خبر أخي يوسف و أمره برجوعهم ثالثاً إلى مصر و تحسّسهم من يوسف و أخيه إلى أن عرّفهم يوسف (عليه السلام) نفسه.

قوله تعالى: ( قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) في المقام حذف كثير يدلّ عليه قوله:( ارْجِعُوا إِلى‏ أَبِيكُمْ فَقُولُوا ) إلى آخر الآيتين و التقدير و لمّا رجعوا إلى أبيهم و قالوا ما وصّاهم به كبيرهم قال أبوهم بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً إلخ.

و قوله:( قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ) حكاية ما أجابهم به يعقوب (عليه السلام) و لم يقل (عليه السلام) هذا القول تكذيباً لهم فيما أخبروه به و حاشاه أن يكذب خبراً يحتفّ بقرائن الصدق و تصاحبه شواهد يمكن اختباره بها، و لا رماهم بقوله:( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ) رميا بالمظنّة بل ليس إلّا أنّه وجد بفراسة إلهيّة أنّ هذه الواقعة ترتبط و تتفرّع على تسويل نفسانيّ منهم إجمالاً و كذلك كان الأمر فإنّ الواقعة من أذناب واقعة يوسف و كانت واقعته من تسويل نفسانيّ منهم.

و من هنا يظهر أنّه (عليه السلام) لم ينسب إلى تسويل أنفسهم عدم رجوع أخي يوسف فحسب بل عدم رجوعه و عدم رجوع كبيرهم الّذي توقّف بمصر و لم يرجع إليه، و يشهد لذلك قوله:( عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً ) فجمع في ذلك بين يوسف و أخيه و كبير الإخوة فلم يذكر أخا يوسف وحده و لا يوسف و أخاه معا، فظاهر السياق أنّ ترجّيه رجوع بنيه الثلاثة مبنيّ على صبره الجميل قبال ما سوّلت لهم أنفسهم أمراً.

فالمعنى - و الله أعلم - أنّ هذه الواقعة ممّا سوّلت لكم أنفسكم كما قلت ذلك في واقعة يوسف فصبر جميل قبال تسويل أنفسكم عسى الله أن يأتيني بأبنائي الثلاثة جميعاً.

٢٥٤

و من هنا يظهر أنّ قولهم: إنّ المعنى: ما عندي أنّ الأمر على ما تصفونه بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فيما أظنّ، ليس في محلّه.

و قوله:( عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) ترجّ مجرّد لرجوعهم جميعاً مع ما فيه من الإشارة إلى أنّ يوسف حيّ لم يمت - على ما يراه - و ليس مشربا معنى الدعاء، و لو كان في معنى الدعاء لم يختمه بقوله:( إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) بل بمثل قولنا: إنّه هو السميع العليم أو الرؤف الرحيم أو ما يناظرهما كما هو المعهود في الأدعية المنقولة في القرآن الكريم.

بل هو رجاء لثمرة الصبر فهو يقول: إنّ واقعة يوسف السابقة و هذه الواقعة الّتي أخذت منّي ابنين آخرين إنّما هما لأمر مّا سوّلته لكم أنفسكم فسأصبر صبرا و أرجو به أن يأتيني الله بأبنائي جميعاً و يتمّ نعمته على آل يعقوب كما وعدنيه إنّه هو العليم بمورد الاجتباء و إتمام النعمة حكيم في فعله يقدّر الاُمور على ما تقتضيه الحكمة البالغة فلا ينبغي للإنسان أن يضطرب عند البلايا و المحن بالطيش و الجزع و لا أن ييأس من روحه و رحمته.

و الاسمان: العليم الحكيم هما اللّذان ذكرهما يعقوب ليوسف (عليه السلام) لأوّل مرّة أوّل رؤياه فقال:( إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ثمّ ذكرهما يوسف ليعقوب (عليه السلام) ثانياً حيث رفع أبويه على العرش و خرّوا له سجداً فقال:( يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ - إلى أن قال -هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) .

قوله تعالى: ( وَ تَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا أَسَفى‏ عَلى‏ يُوسُفَ وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ) قال الراغب في المفردات: الأسف الحزن و الغضب معا، و قد يقال لكلّ واحد منهما على الانفراد و حقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام فمتى كان ذلك على من دونه انتشر فصار غضبا، و متى كان على من فوقه انقبض فصار حزنا - إلى أن قال - و قوله تعالى:( فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ ) أي أغضبونا قال أبوعبدالله(١) الرضا: إنّ الله لا يأسف كأسفنا و لكن له أولياء يأسفون و يرضون

____________________

(١) كذا في النسخة المنقولة عنها و الصحيح أبوالحسن.

٢٥٥

فجعل رضاهم رضاه و غضبهم‏ غضبه. قال: و على ذلك قال: من أهان لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة. انتهى.

و قال: الكظم مخرج النفس يقال: أخذ بكظمه، و الكظوم احتباس النفس و يعبّر به عن السكوت كقولهم: فلان لا يتنفّس إذا وصف بالمبالغة في السكوت، و كظم فلان حبس نفسه قال تعالى:( إِذْ نادى‏ وَ هُوَ مَكْظُومٌ ) و كظم الغيظ حبسه قال تعالى:( وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ ) ، و منه كظم البعير إذا ترك الاجترار و كظم السقاء شدّة بعد ملئه مانعاً لنفسه. انتهى.

و قوله:( وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ ) ابيضاض العين أي سوادها هو العمى و بطلان الإبصار و ربّما يجامع قليل إبصار لكن قوله الآتي:( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى‏ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً ) الآية ٩٣ من السورة يشهد بأنّه كناية عن ذهاب البصر.

و معنى الآية:( ثمّ تولّى ) و أعرض يعقوب (عليه السلام)( عَنْهُمْ ) أي عن أبنائه بعد ما خاطبهم بقوله:( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ) ( وَ قالَ: يا أَسَفى) و يا حزني( عَلى‏ يُوسُفَ وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ ) و ذهب بصره( مِنَ الْحُزْنِ ) على يوسف( فَهُوَ كَظِيمٌ ) حابس غيظه متجرّع حزنه لا يتعرّض لبنيه بشي‏ء.

قوله تعالى: ( قالُوا تَالله تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حتّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ ) الحرض و الحارض المشرف على الهلاك و قيل: هو الّذي لا ميت فينسى و لا حيّ فيرجي، و المعنى الأوّل أنسب بالنظر إلى مقابلته الهلاك، و الحرض لا يثنّى و لا يجمع لأنّه مصدر.

و المعنى: نقسم بالله لا تزال تذكر يوسف و تديم ذكره منذ سنين لا تكفّ عنه حتّى تشرف على الهلاك أو تهلك، و ظاهر قولهم هذا أنّهم إنّما قالوه رقّة بحاله و رأفة به، و لعلّهم إنّما تفوّهوا به تبرّما ببكائه و سأمة من طول نياحه ليوسف، و خاصّة من جهة أنّه كان يكذّبهم في ما كانوا يدعونه من أمر يوسف، و كان ظاهر بكائه و تأسّفه أنّه يشكوهم كما ربّما يؤيّده قوله:( ما أَشْكُو ) إلخ.

٢٥٦

قوله تعالى: ( قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى الله وَ أَعْلَمُ مِنَ الله ما لا تَعْلَمُونَ) قال في المجمع: البثّ الهمّ الّذي لا يقدر صاحبه على كتمانه فيبثّه أي يفرّقه، و كلّ شي‏ء فرّقته فقد بثثته و منه قوله:( وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ) انتهى فهو من المصدر بمعنى المفعول أي المبثوث.

و الحصر الّذي في قوله:( إنّما أَشْكُو ) إلخ، من قصر القلب فيكون مفاده أنّي لست أشكو بثّي و حزني إليكم معاشر ولدي و أهلي، و لو كنت أشكوه إليكم لانقطع في أقلّ زمان كما يجري عليه دأب الناس في بثّهم و حزنهم عند المصائب، و إنّما أشكو بثّي و حزني إلى الله سبحانه، و لا يأخذه ملل و لا سأمة فيما يسأله عنه عباده و يبرمه أرباب الحوائج و يلحّون عليه و أعلم من الله ما لا تعلمون فلست أيأس من روحه و لا أقنط من رحمته.

و في قوله:( ‏وَ أَعْلَمُ مِنَ الله ما لا تَعْلَمُونَ‏ ) إشارة إجماليّة إلى علمه بالله لا يستفاد منه إلّا ما يساعد على فهمه المقام كما أشرنا إليه.

قوله تعالى: ( يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ الله إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) قال في المجمع: التحسّس - بالحاء - طلب الشي‏ء بالحاسّة و التجسّس - بالجيم - نظيره‏ و في الحديث: لا تحسّسوا و لا تجسّسوا، و قيل إنّ معناهما واحد و نسق أحدهما على الآخر لاختلاف اللفظين كقول الشاعر( متى أدن منه ينأى عنه و يبعد) .

و قيل: التجسّس بالجيم البحث عن عورات الناس، و بالحاء الاستماع لحديث قوم و سئل ابن عبّاس عن الفرق بينهما؟ قال: لا يبعد أحدهما عن الآخر: التحسّس في الخير و التجسّس في الشرّ. انتهى.

و قوله:( وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ الله ) الروح بالفتح فالسكون النفس أو النفس الطيّب و يكنّى به عن الحالة الّتي هي ضدّ التعب و هي الراحة و ذلك أنّ الشدّة الّتي فيها انقطاع الأسباب و انسداد طرق النجاة تتصوّر اختناقاً و كظماً للإنسان و بالمقابلة الخروج إلى فسحة الفرج و الظفر بالعافية تنفّساً و روحاً لقولهم يفرّج

٢٥٧

الهمّ و ينفّس الكرب فالرّوح المنسوب إليه تعالى هو الفرج بعد الشدّة بإذن الله و مشيّته، و على من يؤمن بالله أن يعتقد أنّ الله يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد لا قاهر لمشيّته و لا معقّب لحكمه، و ليس له أن ييأس من روح الله و يقنط من رحمته فإنّه تحديد لقدرته و في معنى الكفر بإحاطته و سعة رحمته كما قال تعالى حاكيا عن لسان يعقوب (عليه السلام):( إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) و قال حاكيا عن لسان إبراهيم (عليه السلام):( وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّاالضَّالُّونَ ) الحجر: ٥٦، و قد عدّ اليأس من روح الله في الأخبار المأثورة من الكبائر الموبقة.

و معنى الآية - ثمّ قال يعقوب لبنيه آمراً لهم -( يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ ) الّذي اُخذ بمصر و ابحثوا عنهما لعلّكم تظفرون بهما( وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ الله ) و الفرج الّذي يرزقه الله بعد الشدّة( إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) الّذين لا يؤمنون بأنّ الله يقدر أن يكشف كلّ غمّة و ينفّس عن كلّ كربة.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ وَ جِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ ) إلخ، البضاعة المزجاة المتاع القليل، و في الكلام حذف و التقدير فساروا بني يعقوب إلى مصر و لمّا دخلوا على يوسف قالوا إلخ.

كانت لهم - على ما يدلّ عليه السياق - حاجتان إلى العزيز و لا مطمع لهم بحسب ظاهر الأسباب إلى قضائهما و استجابته عليهم فيهما.

إحداهما: أن يبيع منهم الطعام و لا ثمن عندهم يفي بما يريدونه من الطعام على أنّهم عرفوا بالكذب و سجّل عليهم السرقة من قبل و هان أمرهم على العزيز لا يرجى منه أن يكرمهم بما كان يكرمهم به في الجيئة الأولى.

و ثانيتهما: أن يخلّي عن سبيل أخيهم المأخوذ بالسرقة، و قد استيأسوا منه بعد ما كانوا ألحّوا عليه فأبى العزيز حتّى عن تخلية سبيله بأخذ أحدهم مكانه.

و لذلك لمّا حضروا عند يوسف العزيز و كلّموه و هم يريدون أخذ الطعام و إعتاق أخيهم أوقفوا أنفسهم موقف التذلّل و الخضوع و بالغوا في رقّة الكلام

٢٥٨

استرحاما و استعطافا فذكروا أوّلاً ما مسّهم و أهلهم من الضرّ و سوء الحال ثمّ ذكروا قلّة ما أتوا به من البضاعة ثمّ سألوه إيفاء الكيل، و أمّا حديث أخيهم المأخوذ فلم يصرّحوا بسؤال تخلية سبيله بل سألوه أن يتصدّق عليهم و إنّما يتصدّق بالمال و الطعام مال و أخوهم المسترقّ مال العزيز ظاهراً ثمّ حرّضوه بقولهم:( إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ) و هو في معنى الدعاء.

فمعنى الآية:( يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ ) و أحاط بنا جميعاً المضيقة و سوء الحال( وَ جِئْنا ) إليك( بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ ) و متاع قليل لا يعدل ما نسألك من الطعام غير أنّه نهاية ما في وسعنا( فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنا ) و كأنّهم يريدون به أخاهم أو إيّاه و الطعام( إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ) خيرا.

و قد بدؤا القول بخطاب( يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ ) و ختموه بما في معنى الدعاء و أتوا خلاله بذكر سوء حالهم و الاعتراف بقلّة بضاعتهم و سؤاله أن يتصدّق عليهم و هو من أمرّ السؤال و الموقف موقف الاسترحام ممّن لا يستحقّ ذلك لسوء سابقته، و هم عصبة قد اصطفّوا أمام عزيز مصر.

و عند ذلك تمّت الكلمة الإلهيّة أنّه سيرفع يوسف و أخاه و يضع عنده سائر بني يعقوب لظلمهم، و لذلك لم يلبث يوسف (عليه السلام) دون أن أجابهم بقوله:( هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ ) و عرّفهم نفسه، و قد كان يمكنه (عليه السلام) أن يخبر أباه و إخوته مكانه و أنّه بمصر طول هذه المدّة غير القصيرة لكن الله سبحانه شاء أن يوقف إخوته أمامه و معه أخوه المحسود موقف المذلّة و المسكنة و هو متّك على أريكة العزّة.

قوله تعالى: ( قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ ) إنّما يخاطب المخطئ المجرم بمثل هل علمت و أ تدري و أ رأيت و نحوها و هو عالم بما فعل لتذكيره جزاء عمله و وبال ذنبه لكنّه (عليه السلام) أعقب استفهامه بقوله:( إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ ) و فيه تلقين عذر.

فقوله:( هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ ) مجرّد تذكير لعملهم بهما من

٢٥٩

غير توبيخ و مؤاخذة ليعرّفهم من الله عليه و على أخيه و هذا من عجيب فتوّة يوسف (عليه السلام)، و يا لها من فتوّة.

قوله تعالى: ( قالُوا أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا ) إلى آخر الآية تأكيد الجملة المستفهم عنها للدلالة على أنّ الشواهد القطعيّة قامت على تحقّق مضمونها و إنّما يستفهم لمجرّد الاعتراف فحسب.

و قد قامت الشواهد عندهم على كون العزيز هو أخاهم يوسف و لذلك سألوه بقولهم:( أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ ) مؤكّداً بإنّ و اللّام و ضمير الفصل فأجابهم بقوله:( أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي ) و إنّما ألحق أخاه بنفسه و لم يسألوا عنه و ما كانوا يجهلونه ليخبر عن منّ الله عليهما، و هما معا المحسودان و لذا قال:( قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا ) .

ثمّ أخبر عن سبب المنّ الإلهيّ بحسب ظاهر الأسباب فقال:( إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) و فيه دعوتهم إلى الإحسان و بيان أنّه يتحقّق بالتقوى و الصبر.

قوله تعالى: ( قالُوا تَالله لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ ) الإيثار هو الاختيار و التفضيل، و الخطأ ضدّ الصواب و الخاطئ و المخطئ من خطأ خطأً و أخطأ إخطاء بمعنى واحد، و معنى الآية ظاهر و فيها اعترافهم بالخطأ و تفضيل الله يوسف عليهم.

قوله تعالى: ( قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) التثريب التوبيخ و المبالغة في اللوم و تعديد الذنوب، و إنّما قيّد نفي التثريب باليوم ليدلّ على مكانة صفحة و إغماضه عن الانتقام منهم و الظرف هذا الظرف هو عزيز مصر اُوتي النبوّة و الحكم و علم الأحاديث و معه أخوه و هم أذّلاء بين يديه معترفون بالخطيئة و أنّ الله آثره عليهم بالرغم من قولهم أوّل يوم:( لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى‏ أَبِينا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

ثمّ دعا لهم و استغفر بقوله:( يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) و هذا دعاء و استغفار منه لإخوته الّذين ظلموه جميعاً و إن كان الحاضرون عنده اليوم بعضهم

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

تعالى( وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ ) .

وسواء كان الحديث الشريف يدلّ على ما فسّره المفسّرون وأشرنا إليه آنفا ، أو كما عبرنا عنه بشروط القائد أو المبلغ ، فهو يبيّن هذه الحقيقة ، وهي أنّ هذه الآية القصيرة الوجيزة تتضمّن منهجا جامعا واسعا كليّا في المجالات الأخلاقية والاجتماعية ، بحيث يمكننا أن نجد فيها جميع المناهج الإيجابية البناءة والفضائل الإنسانية. وكما يقول بعض المفسّرين : إنّ إعجاز القرآن بالنسبة إلى الإيجاز في المبنى ، والسعة في المعنى ، يتجلى في الآية محل البحث تماما.

وينبغي الالتفات إلى أنّ الآية وإن كانت تخاطب النّبي نفسه إلّا أنّها تشمل جميع الأمّة والمبلغين والقادة.

كما ينبغي الالتفات إلى أنّ الآيات محل البحث ليس فيها ما يخالف مقام العصمة أيضا ، لأنّ الأنبياء والمعصومين ينبغي أن يستعيذوا بالله من وساوس الشيطان ، كما أنّ أيّ أحد لا يستغني عن لطف الله ورعايته والاستعاذة به من وساوس الشياطين ، حتى المعصومين.

وجاء في بعض الرّوايات أنّه لما نزلت الآية( خُذِ الْعَفْوَ ) سأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جبرئيل عن ذلك فقال جبرئيل : لا أدري ، حتى أسأل العالم ثم أتاه فقال : «يا محمّد ، إنّ الله يأمرك أن تعفو عمن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك»(١) .

وجاء في حديث آخر أنّه لما نزلت آية( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ ) قال النّبي : كيف يا ربّ والغضب؟ فنزل قوله( وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٢) .

وينبغي الإشارة إلى أنّ الآية الثّانية هنا جاءت في سورة فصلت الآية (٣٦)

__________________

(١) مجمع البيان ، ذيل الآية محل البحث.

(٢) روى ذلك صاحب المنار قائلا : روي عن جدنا الإمام الصادقرضي‌الله‌عنه في ج ٩ ، ص ٥٣٨.

٣٤١

بتفاوت يسير بين الآيتين ، إذ ورد التعبير مكان قوله تعالى :( إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) .

وفي الآية التّالية بيان للانتصار على وساوس الشيطان بهذا النحو( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ ) . أي يتذكرون ما أنعم الله عليهم ، ويفكرون في سوء عاقبة الذنب وعذاب الآخرة فيتّضح لهم بذلك طريق الحق.

والطّائف : هو الذي يطوف ويدور حول الشيء ، فكأن وساوس الشيطان تدور حول فكر الإنسان وروحه كالطائف حول الشيء ليجد منفذا إليه ، فإذا تذكر الإنسان في مثل هذه الحالة ربّه ، واستعاذ من وساوس الشيطان وعاقبة أمره ، أبعدها عنه. وإلّا أذعن لها وانقاد وراء الشيطان.

وأساسا فإنّ كل إنسان في آية مرحلة من الإيمان ، أو أي عمر كان ، يبتلى بوساوس الشياطين. وربّما أحس أحيانا أن في داخله قوة مهيمنة تدفعه نحو الذنب وتدعوه إليه ، ولا شك أن مثل هذه الحالة من الوساوس في مرحلة الشباب أكثر منها في أية مرحلة أخرى ، ولا سيما إذا كانت البيئة أو المحيط كما هو في العصر الحاضر من التحلّل والحريّة ، لا الحرية بمعناها الحقيقي ، بل بما يذهب إليه الحمقى «من الانسلاخ من كل قيد والتزام أخلاقي أو اجتماعي أو ديني» فتزداد الوساوس الشيطانية عند الشباب.

وطريق النجاة الوحيد من هذا التلوّث والتحلل في مثل هذه الظروف ، هو تقوية رصيد التقوى أولا ، كما أشارت إليه الآية( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا ) ثمّ المراقبة والتوجه نحو النفس ، والالتجاء إلى الله وتذكر ألطافه ونعمه وعقابه الصارم للمذنب وهناك إشارات كثيرة في الرّوايات الإسلاميّة إلى أثر ذكر الله العميق في معالجة الوساوس الشيطانية. حتى أن الكثير من المؤمنين والعلماء وذوي المنزلة

٣٤٢

كانوا يحسون بالخطر عند مواجهة وساوس الشيطان ، وكانوا يحاربونها «بالمراقبة» المذكورة في كتب علم الأخلاق بالتفصيل.

والوساوس الشيطانية مثلها مثل الجراثيم الضارة التي تبحث عن البنية الضعيفة لتنفذ فيها. إلّا أنّ الأجسام القوية تطرد هذه الجرائم فلا تؤثر فيها.

وجملة( فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ ) إشارة إلى حقيقة أن الوساوس الشيطانية تلقي حجابا على البصيرة «الباطنية» للإنسان ، حتى أنّه لا يعرف العدوّ من الصديق ، ولا الخير من الشر. إلّا أن ذكر الله يكشف الحجب ويزيد الإنسان بصيرة وهدى ، ويمنحه القدرة على معرفة الحقائق والواقعيات ، المعرفة التي تخلّصه من مخالب الوساوس الشيطانية.

وملخص القول : أننا لا حظنا في الآية السابقة كيف ينجو المتقون من نزغ الشيطان ووسوسته بذكر الله ، إلّا أن الآثمين إخوة الشياطين يبتلون بمزيد الوساوس فلا ينسلخون عنها ، كما تعبّر الآية التالية عن ذلك قائلة :( وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ ) .

«الإخوان» كناية عن الشياطين ، والضمير «هم» يعود على المشركين والآثمين ، كما نقرأ هذا المصطلح في الآية (٢٧) من سورة الإسراء( إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ ) .

و «يمدونهم» فعل مأخوذ من الإمداد ومعناه الإعانة والإدامة ، أي أنّهم يسوقونهم في هذا الطريق دائما.

وجملة( ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ ) تعني أنّ الشياطين لا يألون جهدا في إضلال المشركين والآثمين.

ثمّ تذكر الآية التّالية حال جماعة من المشركين والمذنبين البعيدين عن المنطق ، فتقول : إنّهم يكذبونك ـ يا رسول الله ـ عند ما تتلوا عليهم آيات القرآن ، ولكن عند ما لا تأتيهم بآية ، أو يتأخر الوحي يتساءلون عن سبب ذلك :( وَإِذا لَمْ

٣٤٣

تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها ) (١) ولكن قل لهم انني لا اعمل ولا أقول إلّا بما يوحى الله اليّ( قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

ويتّضح من هذه الآية ـ ضمنا ـ أنّ جميع أقوال النّبي وأفعاليه مصدرها وحي السماء ، ومن قال بغير ذلك فهو بعيد عن القرآن.

* * *

__________________

(١) الاجتباء مأخوذ من الجباية ، وأصلها جمع الماء في الحوض ونحوه ، ولذلك يسمّي حوض الماء بـ «الجابية ، وجمع الخراج يسمّى جباية أيضا. ثمّ توسعوا في الاستعمال فأطلقوا على جمع الأشياء وانتخابها واختيار ما يراد منها اجتباء. فجملة «لولا اجتبيتها» تعني لو لا اخترتها.

٣٤٤

الآيات

( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦) )

التّفسير

( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ) : لقد بدأت هذه السورة (سورة الأعراف) ببيان عظمة القرآن ، وتنتهي بالآيات ـ محل البحث ـ التي تتكلم عن القرآن أيضا.

وبالرغم من أنّ المفسّرين ذكروا أسبابا لنزول الآية الأولى ـ من هذه الآيات محل البحث ـ منها مثلا ما روي عن ابن عباس وجماعة آخرين ، أنّ المسلمين في بادئ أمرهم كانوا يتكلمون في الصلاة ، وربّما ورد شخص (جديد) أثناء الصلاة فيسأل المصلين وهم مشغولون بصلاتهم : كم ركعة صليتم؟ فيجيبونه : كذا ركعة. فنزلت الآية ومنعتهم أو نهتهم عن ذلك.

٣٤٥

كما نقل الزّهري سببا آخر لنزول الآية ، وهو أنّه لما كان النّبي يقرأ القرآن ، كان شاب من الأنصار يقرأ معه القرآن بصورت مرتفع ، فالآية نزلت ونهت عن ذلك.

وأيّا كان شأن نزول هذه الآية ، فهي تقول :( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) والفعل «انصتوا» مأخوذ من مادة «الإنصات» ومعناه : السكوت المشفوع بالإصغاء والاستماع.

وقد اختلف المفسّرون في أن الإنصات والسكوت هنا في الآية ، هل هو عند قراءة القرآن في جميع الموارد؟ أم هو منحصر وقت الصلاة وعند قراءة إمام الجماعة؟ أم هو عند ما يقرأ إمام الجمعة ـ في خطبة الصلاة ـ القرآن؟

كما أنّ هناك أحاديث شتى في هذا الصدد في كتب الفريقين في تفسير هذه الآية. والذي يستفاد من ظاهر الآية أن هذا الحكم عام غير مختص بحال ما ولا وقت معيّن. إلّا أنّ الرّوايات المتعددة الواردة عن الأئمّة الطاهرين ، بالإضافة إلى إجماع العلماء واتفاقهم على عدم وجوب الاستماع عند قراءة القرآن في أية حال ، يستدل من ذلك على أن هذا الحكم بصورة كليّة حكم استحبابي ، أي ينبغي إن قرئ القرآن ـ حيثما كان ، وكيف كان ـ أن يستمع الآخرون وينصتوا احتراما للقرآن ، لأنّ القرآن ليس كتاب قراءة فحسب ، بل هو كتاب فهم وإدراك ، ثمّ هو كتاب عمل أيضا.

وهذا الحكم المستحب ورد عليه التأكيد إلى درجة أنّ بعض الرّوايات عبّرت عنه بالوجوب.

إذ ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله : «يجب الإنصات للقرآن في الصّلاة وفي

٣٤٦

غيرها وإذا قرئ عندك القرآن وجب عليك الإنصات والاستماع»(١) .

حتى أنّه يستفاد من بعض الرّوايات أنّ لو كان إمام الجماعة مشغولا بالقراءة في الصلاة ، وقرأ شخص آخر آية من القرآن فيستحب للإمام السكوت حتى ينهي قراءة الآية ، ثمّ يكمل الإمام قراءته. حيث ورد عن الإمام الصّادقعليه‌السلام أنّ أمير المؤمنين عليّاعليه‌السلام كان مشغولا بصلاة الصبح ، وكان ابن الكوّا ـ ذلك المنافق الفظّ القلب ـ خلف الإمام مشغولا بالصلاة ، فقرأ فجأة( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) وكان هدفه من قراءة الآية أن يعترض على الإمام عليّ مكنيّا عن قبول الحكم في صفين ـ كما احتملوا ذلك ـ لكن الإمام سكت احتراما للقرآن حتى ينتهي ابن الكوّا من قراءة الآية ، ثمّ رجع الإمام إلى قراءته فأعاد ابن الكوا عمله مرّة ثانية ، فسكت الإمام أيضا ، فكرر ابن الكوّا القراءة ثالثة فسكت عليعليه‌السلام أيضا ، ثمّ تلا قوله تعالى :( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ) وهو يشير إلى أن عذاب الله وعقابه الأليم في انتظار المنافقين وغير المؤمنين ، وينبغي أن يتحمل الإنسان أذاهم ، ثمّ أن الإمام أكمل السورة وهوى إلى الركوع(٢) .

ويستفاد من مجمع ما تقدّم ، ولا سيما من البحث آنف الذكر ، أن الاستماع والسكوت عند قراءة آيات القرآن أمر حسن جدّا إلّا أنّه بشكل عام غير واجب ولعلّ جملة( لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) إضافة إلى الرّوايات والإجماع ، تشير إلى استحباب هذا الحكم أيضا.

والمورد الوحيد الذي يجب فيه السكوت أو يكون حكم السكوت فيه واجبا ، هو في صلاة الجماعة ، إذ على المأموم أن يسكت ويستمع لقراءة الإمام ، حتى أنّ جمعا من الفقهاء قالوا : إنّ هذه الآية تدل على سقوط الحمد والسورة من

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ٥٧.

(٢) تفسير البرهان.

٣٤٧

قبل المأموم «عند صلاة الجماعة».

ومن جملة الرّوايات الدالة على هذا الحكم ما روي من حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام «وإذا قرئ القرآن في الفريضة خلف الإمام فاستمعوا له وانصتوا لعلّكم ترحمون»(١) .

وأمّا استعمال «لعل» في هذه الجملة ، فهو ـ كما أشرنا سابقا ـ لغرض أن تشملكم رحمة الله ، فمجرّد السكوت غير كاف ، بل توجد أمور أخرى منها العمل بالآي أيضا.

ولا بأس أن نذكر الملاحظة التي بيّنها الفقيه المعروف الفاضل المقداد السيوري في كتابه «كنز العرفان» إذ فسّر الآية تفسيرا آخر فقال : إنّ المراد من الآية هو الإصغاء للآيات وإدراك مفاهيمها والإذعان لإعجازها.

ولعل هذا التّفسير كان بسبب أنّ الآية السابقة كانت تتكلم عن المشركين ، إذ كانوا يتذرعون بحجج واهية في شأن نزول القرآن ، فالقرآن يقول لهم : فاستمعوا وانصتوا لعلكم تعرفون الحق(٢) .

وليس هناك مانع من أن نعتبر مفهوم الآية واسعا بحيث يشمل جميع الكفار والمسلمين ، فغير المسلمين عليه أن يستمع وينصت للقرآن ويكفر فيه حتى يؤمن فينال رحمة ربّه ، والمسلم عليه أن يستمع ويدرك مفهوم الآي ويعمل به لينال رحمة ربّه ، لأنّ القرآن كتاب إيمان وعلم وعمل لجميع ، لا لطائفة خاصّة أو فريق معين.

وفي الآية التّالية إكمالا للأمر السابق يخاطب القرآن النّبي الكريم ـ وهذا الحكم كلي وعام أيضا وإن كان الخطاب موجها للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما هو الحال في سائر آيات القرآن الأخرى وأحكامها ـ إذ يقول سبحانه في كتابه :( وَاذْكُرْ رَبَّكَ

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ٥٧.

(٢) كنز العرفان ، ج ١ ، ص ١٩٥.

٣٤٨

فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً ) (١) .

ثمّ يضيف قائلا :( وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ ) .

[والآصال : جمع الأصيل ، ومعناه قبيل المغرب أو عند الغروب].

( وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ ) .

فذكر الله في كل حال وفي كل وقت ، صباحا ومساء ، مدعاة لإيقاظ القلوب وجلائها من الدرن ، وإبعاد الغفلة عن الإنسان. ومثله مثل مزنة الربيع ، إذا نزلت أمرعت القلوب بأزهار التوجه والإحساس بالمسؤولية والبصيرة ، وكل عمل إيجابي بنّاء! ثمّ تختتم هذه الآية سورة الأعراف بهذه العبارة ، وهي أنّكم لستم المكلّفون بذكر الله من يذكر الله ليس هو أنتم فحسب ، بل( إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ) .

والتعبير ب( عِنْدَ رَبِّكَ ) لا يعني القرب المكاني ، لأنّ الله ليس له مكان خاص ، بل هو إشارة إلى القرب المقامي ، أي أنّ الملائكة وغيرهم من المقربين على رغم مقامهم ومنزلتهم عند الله ، فهم لا يقصرون في التسبيح والذكر لله والسجود له.

والسجدة عند تلاوة هذه الآية مستحبة ، إلّا أنّ بعض أهل السنة كأصحاب أبي حنيفة وأتباعه يقولون بوجوبها.

ربّنا نور قلوبنا بنور ذكرك ، ذلك النور الذي يفتح لنا طريقنا نحو الحقيقة ، ونستمد منه المدد في نصرة راية الحق ومكافحة الظالمين وأن تدرك مسئولينا ونؤدي رسالتنا ـ آمين.

* * *

__________________

(١) التضرّع مأخوذ من الضرع وهو الثدي ، والفعل تضرع يطلق على من يتحلب اللبن بأصابعه ، ثمّ توسع في هذا الاستعمال فأطلق على إظهار الخضوع والتواضع.

٣٤٩
٣٥٠

سورة الأنفال

وهي مدينة

وعدد آياتها خمس وسبعون آية

٣٥١
٣٥٢

«سورة الأنفال»

نظرة خاطفة إلى محتويات هذه السورة

في الآيات الخمس والسبعين التي تتكون منها سورة الأنفال أثيرت مباحث مهمّة جدّا.

ففي مستهلها إشارة إلى قسم مهم من المسائل المالية من جملتها الأنفال والغنائم التي يعدّ كلّ منهما دعامة لبيت المال. كما تضمّنت هذه السورة مباحث أخرى منها : صفات المؤمنين الصادقين وما يمتازون به ، قصّة معركة بدر ، وهي أوّل مواجهة مسلحة بين المسلمين وأعدائهم ، وما تضمّنت من أحداث عجيبة تلهم العبر.

بعض أحكام الجهاد ووظائف المسلمين إزاء هجوم العدوّ المتواصل.

ما جرى للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ليلته التاريخية «ليلة المبيت».

حال المشركين قبل الإسلام وخرافاتهم.

ضعف المسلمين وعجزهم بادئ الأمر ثمّ تقويتهم ببركة الإسلام.

حكم الخمس وكيفية تقسيمه.

وجوب الاستعداد «العسكري والسياسي والاجتماعي» للجهاد في كل زمان ومكان.

رجحان قوى المسلمين والمعنوية على عدوهم بالرغم من قلّة عددهم

٣٥٣

ظاهرا.

حكم أسرى الحرب وكيفية معاملتهم.

المهاجرون والذين لم يهاجروا.

مواجهة المنافقين وطريقة التعرّف عليهم. وأخيرا نجد في هذه السورة سلسلة مسائل أخرى أخلاقية واجتماعية بنّاءة.

فلا غرابة أن نقرأ بعض الرّوايات الواردة في شأن هذه السورة وفضيلتها ، كالرّواية الواردة عن الإمام الصادق إذ تقول مثلا : «من قرأ سورة الأنفال وبراءة في كل شهر لم يدخله نفاق أبدا ، وكان من شيعة أمير المؤمنين حقّا ، ويأكل يوم القيامة من موائد الجنّة معهم حتى يفرغ الناس من الحساب»(١) .

وكما أشرنا من قبل فإنّ فضائل سور القرآن والثواب العظيم الذي وعد به من يتلو هذه السور ، كل ذلك لا يتأتى بمجرّد قراءة الألفاظ ، بل القراءة مقدمة للتفكّر ، والتفكّر وسيلة للفهم ، والفهم مقدّمة للعمل. وبما أنّ سورة الأنفال شرحت كيفية البراءة من صفات المنافقين ، وكذلك ذكرت صفات المؤمنين الصادقين حقّا ، فمن قرأها وتمثلها في حياته لم يدخله نفاق أبدا.

وكذلك من قرأ صفات المجاهدين في هاتين السورتين ، وجوانب من التّضحيات الواردة عن أمير المجاهدين عليعليه‌السلام وتمثلها ، كان من شيعة أمير المؤمنينعليه‌السلام حقا.

* * *

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ذيل الآية.

٣٥٤

الآية

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ )

( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١) )

سبب النّزول

ورد عن ابن عباس أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عيّن في يوم معركة بدر جوائز للمقاتلين المسلمين ترغيبا ، كأنّ يقولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثلا : من جاءني بفلان من الأعداء أسيرا فله عندي كذا «جائزة».

وكان هذا الترغيب ـ إضافة إلى ايقاده روح الإيمان والجهاد في وجودهم ـ مدعاة أن يثب المقاتلون الفتية في تسابق «افتخاري» نحو الهدف.

إلّا أنّ الكهول والشيوخ ظلّوا ثابتين تحت ظلال الرايات ، فلمّا انتهت معركة بدر أسرع المقاتلون الفتيان لأخذ الجوائز من النّبي ، إلّا أنّ الشيوخ وكبار السنّ قالوا : إنّ لنا نصيبا أيضا ، لأنّنا كنّا سندا وظهيرا لكم ، ولو اشتدّ بكم الأمر لرجعتم إلينا حتما. واحتدم النقاش حينئذ بين رجلين من الأنصار في شأن غنائم المعركة.

فنزلت الآية ـ محل البحث ـ وقالت بصراحة : إنّ الغنائم هي للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فله

٣٥٥

أن يتصرّف فيها ما يشاء. فقسّمها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المسلمين بالتساوي ، وأمر أن يصطلح الإخوة المسلمون فيما بينهم.

التّفسير

إنّ الآية ـ محل البحث ـ كما قرأنا في سبب النّزول ، نزلت بعد معركة بدر وتتكلم على غنائم الحرب وتبيّن حكما إسلاميا واسعا بشكل عام ، فتخاطب النّبي بالقول :( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ! ) .

فبناء على ذلك( فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) .

أي أنّ الإيمان ليس بالكلام فحسب ، بل هو الطاعة لله والرّسول دون قيد أو شرط وفي جميع مسائل الحياة لا في غنائم الحرب وحدها.

ما هي الأنفال؟

الأنفال في الأصل مأخوذة من مادة «نفل» على زنة «نفع» ومعناها الزيادة ، وإنما سمّيت الصلوات المستحبة نافلة

لأنّها زيادة على الصلوات الواجبة ، وكذلك يطلق على الحفيد نافلة لأنّه زيادة في الأبناء.

ويطلق لفظ «نوفل» على من يهب المزيد من العطاء.

وإنّما سمّيت غنائم الحرب أنفالا أيضا لأنّها كمية من الأموال الإضافية التي تبقى دون صاحب ، وتقع في أيدي المقاتلين دون أن يكون لها مالك خاص. أو لأنّ المقاتلين إنّما يحاربون للانتصار على العدو لا للغنائم ، فالغنيمة أو الغنائم موضوع إضافي يقع في أيديهم.

* * *

٣٥٦

ملاحظات

١ ـ بالرّغم من أنّ الآية محل البحث نازلة في شأن غنائم الحرب ، إلّا أنّ لمفهومها حكما كلّيا وعامّا ، وهي تشمل جميع الأموال الإضافية التي ليس لها مالك خاص. لهذا ورد في الرّوايات عن أهل البيتعليهم‌السلام أنّ الأنفال لها مفهوم واسع ، إذ نقرأ في بعض الرّوايات المعتبرة عن الإمامين «الباقر والصادقعليهما‌السلام » ما يلي : «إنّها ما أخذ من دار الحرب من غير قتال ، كالذي انجلى عنها أهلها وهو المسمّى فيئا ، وميراث من لا وارث له ، وقطائع الملوك إذا لم تكن مغصوبة والآجام وبطون الأدوية والموات ، فإنّها لله ولرسوله ، وبعده لمن قام مقامه يصرفه حيث يشاء من مصالحه ومصالح عياله»(١)

وبالرّغم من أنّ الحديث ـ أنف الذكر ـ لم يتحدّث عن جميع غنائم الحرب ، إلّا أنّنا نقرأ حديثا آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام يقول فيه : «إنّ غنائم بدر كانت للنّبي خاصّة فقسمها بينهم تفضلا منه»(٢) .

ونستنتج ممّا ذكر آنفا أنّ مفهوم الأنفال أساسا لا يقتصر على غنائم الحرب فحسب ، بل يشمل جميع الأموال التي ليس لها مالك خاص ، وهذه الأموال جميعها لله وللرسول ولمن يلي أمره ويخلفه ، وبتعبير آخر : إنّ هذه الأموال للحكومة الإسلاميّة ، وتصرف في منافع المسلمين العامّة.

غاية ما في الأمر أنّ قانون الإسلام في غنائم الحرب والأموال المنقولة التي تقع في أيدي المقاتلين المسلمين عند القتال ـ كما سنفصل ذلك في هذه السورة ـ مبنيّ على أن يعطى أربعة أخماسها ـ ترغيبا ـ للمقاتلين المسلمين وتعويضا عن أتعابهم ، ويصرف خمسها في المصارف التي أشارت إليها الآية

__________________

(١) كنز العرفان ، ج ١ ، ص ٢٥٤.

(٢) المصدر السابق.

٣٥٧

(٤١) من هذه السورة.

وعلى هذا الأساس فإنّ الغنائم داخلة في مفهوم الأنفال العام ، وهي في الأصل ملك الحكومة الإسلامية ، وإعطاء أربعة أخماسها للمقاتلين عطية وتفضل منها.

٢ ـ قد يتصور أنّ الآية محل البحث «بناء على شمولها غنائم الحرب أيضا» تتنافى والآية ٤١ من هذه السورة التي تقول :( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ) وسائر المصارف. لأنّ مفهومها أنّ أربعة الأخماس الباقية هي للمقاتلين المسلمين.

إلّا أنّه مع ملاحظة ما ذكرناه آنفا يتّضح أنّ غنائم الحرب في الأصل كلها لله وللرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإعطاء أربعة أخماسها للمقاتلين نوع من التفضل والهديّة ، وبتعبير آخر : إنّ الحكومة الإسلامية تهب أربعة الأخماس من حقها إلى المجاهدين ، فلا يبقى عندئذ أي تناف بين الآيتين.

ويتّضح أيضا أن آية الخمس لا تنسخ أية الأنفال ، ـ كما تصوّر ذلك بعض المفسّرين ـ بل كلّ منهما باق على قوّته!

٣ ـ كما قرأنا في شأن النّزول آنفا ، أنّ مشاجرة وقعت بين بعض الأنصار في شأن غنائم الحرب ، وقطعا لهذه المشاجرة فقد نفت الآية أن تكون الغنائم لغير الله والرّسول ثمّ أمرت المسلمين بإصلاح ذات البين.

وأساسا فإنّ إصلاح ذات البين وإيجاد التفاهم وقلع الكدر والبغضاء من صدور المسلمين ، وتبديل كل ذلك بالمحبّة ، يعدّ من أهم الأغراض الإسلامية.

وكلمة «ذات» تعني الخلقة والبنية وأساس الشيء ، والبين يعني حالة الارتباط والعلاقة بين شخصين أو شيئين. فبناء على هذا فإنّ إصلاح ذات البين يعني إصلاح أساس الارتباطات ، وتقوية العلاقات وتحكيمها ، وإزالة عوامل التفرقة والنفاق.

٣٥٨

وقد أولت التعاليم الإسلامية عناية فائقة لهذا الموضوع حتى عدته من أفضل العبادات.

يقول أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في آخر وصاياه ـ عند ما عممه ابن ملجم بالسيف ـ لولديه «إنّي سمعت جدّكما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إصلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام»(١) .

وجاء عن الإمام الصادقصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتاب الكافي أنّه قال : «صدقة يحبّها الله إصلاح بين النّاس إذا تفاسدوا ، وتقارب بينهم إذا تباعدوا»(٢) .

كما ورد عنهعليه‌السلام في الكتاب آنف الذكر ذاته أنّه قال للمفصل : «إذا رأيت بين اثنين من شيعتنا منازعة فافتدها من مالي»(٣) .

ولهذا نقرأ في بعض الرّوايات عن أبي حنيفة سابق الحاجّ قال : مرّ بنا المفضّل وأنا وختني نتشاجر في ميراث ، فوقف علينا ساعة ثمّ قال لنا : تعالوا إلى المنزل فأتيناه فأصلح بيننا بأربعمائة درهم فدفعها إلينا من عنده حتّى إذا استوثق كلّ واحد منّا من صاحبه ، قال أمّا إنّها ليست من مالي ولكن أبو عبد اللهعليه‌السلام أمرني إذا تنازع رجلان من أصحابنا في شيء أن أصلح بينهما وأفتديها من ماله ، فهذا من مال أبي عبد اللهعليه‌السلام (٤) .

والسبب في كل هذا التأكيد في المسائل الاجتماعية يتجلى بقليل من التأمل ، لأنّ عظمة الأمّة وقدرتها وعزّتها لا يمكن تحقيقه إلّا في ظل التفاهم والتعاون. فإذا لم يتمّ إصلاح ذات البين ، ولم تطو الخلافات الصغيرة والمشاجرات ، تنفذ جذور العداوة والبغضاء في القلوب تدريجا ، وتتحول الأمّة

__________________

(١) نهج البلاغة.

(٢) الحديثان ١ و ٢ من أصول الكافي باب إصلاح بين الناس.

(٣) المصدر السابق.

(٤) المصدر السابق.

٣٥٩

القوية المتحدة إلى جماعات متفرقة متناحرة ، وتضعف أمام الأعداء والحوادث ، كما يحدق الخطر بالمسائل العبادية في مثل هذه الأمّة من صلاة وصيام ، وحتى بحيثية القرآن و (موجوديته).

ولذلك فقد أوجبت الشريعة الإسلامية إصلاح ذات البين في بعض مراحله ، وجازت الإنفاق من بيت المال لتحقق هذا الأمر ، وندبت إلى ذلك في مراحله الأخرى التي لا تتعلق بمصير المسلمين مباشرة ، وعدت ذلك مستحبا مؤكّدا

* * *

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606