الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245184 / تحميل: 6211
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

من تعاملهم مع الهنود الحمر في امريكا ، ولو تجاوزنا بعض المظالم والضغوطات التي قمنا بها في حروبنا غير المشروعة ضدهم ، فأن تعاملنا ( شعوب اوروبا ) مع شعوب الشرق يبقىٰ باعثاً علىٰ العداء والبغضاء ، فلو لم يستطع الاوروبيون الاستفادة مباشرة من الشرقيين كما حصل في الهند ، حيث كانوا لا يبقون لهم الّا ما يسدون به رمقهم ، بأسم الضرائب ، فقد كانوا يحصلون منهم الاموال من خلال تجارة غير مشروعة ومضاربات مالية ، ومن هنا يتّضح حجم الانحطاط الاخلاقي الذي وصل اليه الاوروبيون ، ولو اردنا محاكمة التجّار الاوروبيون علىٰ ضوء قانونهم التجاري لما نجىٰ إلّا القليلين منهم من اشد العقوبات ».

حرب الافيون في الصين

ثم يقول الدكتور لوبون :

« ومن الصفحات السوداء في تاريخ اوروبا ، تلك التي تختص بالعلاقة مع الصين في القرن التاسع عشر ، ولربما ينال احفادنا يوماً ما عقاب ما فعلناه هناك علىٰ يد الصينيين(1) ، فما هو تعليق الشعوب الاوروبية علىٰ الحرب المدمرة التي تعرف بحرب الافيون ، حيث قام الانجليز بادخال سمّ قاتل ( الترياق ) الىٰ الصين ، فعارضت الحكومة الصينية آنذاك هذا العمل لكن الانجليز اجبروهم علىٰ الاستسلام والقبول في النهاية بالقوة ومن خلال دوي ________________

(1) ونحن أيضاً ننتظر ذلك اليوم ، حيث تنتقم الشعوب المستضعفة ، وليس الشعب الصيني فقط ، منهم ان شاء الله.

٢٢١

المدافع ، وصحيح ان بريطانيا تجني حالياً مائة وخمسين مليون جنيه في السنة من تجاره ( الترياق ) ، لكنه وحسب الاحصائية التي قام بها حديثاً الدكتور كريستليب(1) فأن هذا الترياق ينتهي بستمائة الف صيني سنوياً الىٰ خشبة الاعدام ، وحرب الترياق المدمرة مثال يحتفظ به الصينيون علىٰ وحشية الاوروبيين وانحطاطهم الاخلاقي ، وهو ما سينقلونه لأجيالهم اللاحقة أيضاً(2) فعندما كان المبشرون الانجليز يدعون الصينيين الىٰ النصرانية ، كان جوابهم : سبجان الله ! انكم تسمّونا اولاً وتقتلوننا وبعد ذلك تعطونا دروساً في التقوىٰ والعفة.

وبعد ان ينقل الدكتور لوبون حديثاً عن السيد ششوار(3) في بعض الصينيين والهنود للاوروبيين ، يضيف :

« تعاملنا مع شعوب الشرق ، يعطيعم الحق في بعضنا والعداء لنا ، فكلما تصورت نفسي شرقياً لا اجد تردداً في اظهار ذلك البغض والعداء للاوروبيين ، فحتىٰ لو اظهرنا نحن الاوروبيين الامانة والصدق حالياً في جميع معاملاتنا مع شعوب الشرق ، يبقىٰ من مصلحة الشرق ان يقطع كل علاقة له بالقرب مع الغرب ويكمل الجدار القديم الذي بناه ذلك الملك العاقل علىٰ حدود الصين ».

________________

(1) Dr. Chritlieb

(2) يجب ان نشكر الشعب الصيني الذي وصفهم بالوحوش والبرابرة ، في حين ان بعض ابناء شعبنا ورغم المآسي التي لحقت بهم من الاوروبيين وهي اخطر مئات المرات من حرب الافيون ، لا يزالون يعبدونهم مثل الاصنام.

3 ـ Mr. Rochechouart

٢٢٢

كان ذلك اعترافاً من اشهر علماء اوروبا المنصف الدكتور لوبون ، ويظهر منه المستوىٰ الذي وصل اليه ظلم الغرب واعتداءاته علىٰ الشعوب والدول المستضعفة التي تطالب بأستقلالها وحقوقها ، اجل هؤلاء السارقون الدوليون والمدججون بالسلاح والتكنولوجيا والسباع الضارية ، هم انفسهم الذين يعتبرون قطع يد السارق عقاباً له عملاً وحشياً خلافاً للعواطف الانسانية !

سعادة الدكتور ، هذه بضع نماذج قدمتها لكم عن قوانين الاسلام العظيم ، واعتذر لضيق المجال عن ذكر جميع القوانين التي اتىٰ بها الاسلام ، ومقارنتها بالقوانين الوضعية التي تحكم عالمنا المعاصر.

فهذه القوانين السامية هي التي ادت الىٰ انتشار الاسلام بسرعة بين الناس في عالم الامس وعالم اليوم ، كما ان دقتها العلمية هي التي جعلت كبار علماء العالم يسلمون امام عظمة نبي الاسلام الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله ورسالته.

٢٢٣

البحث في قوانين الاسلام العسكرية

العقيد : ما ارودتموه في اثبات قوة القوانين الاسلامية من الناحية العلمية وفي جميع شؤون الحياة المادية والمعنوية ، قياساً بقوانين عالم اليوم ، مقنع جداً ، لكن الجزء الذي ارأىٰ صعوبة في قبوله من كلامكم ، هو ان القوانين الاسلامية المحيّرة للعقول هي العامل الوحيد في التقدّم السريع الذي كان للاسلام في عالم الامس وانتشاره في عالم اليوم ، لأنه والحق يقال ، وكما اشار الىٰ ذلك الكثير من المبشرين المسيحيين فان الحروب الكثيرة التي خاضها المسلمون ، لعبت دوراً كبيراً وهاماً في تقدم الاسلام وانتشاره.

الشيخ : سيادة العقيد ! ان الذين يرون ان الاسلام انتشر بالسيف ، أمّا ان يكونوا من اعداء الاسلام أو أنَّهم ممن يجهلون البرنامج العسكري والحربي للاسلام ، ولا يدركون الهدف الاساسي الذي ينشده المسلمون من الحرب ، ولأثبات بطلان التهم التي تصدر من اعداء الاسلام وخاصة المبشرين المسيحيين الذين استفادوا من جهل المسلمين بتاريخهم وادعوا أن الاسلام انتشر بالسيف والقوة ، سوف أكون مضطراً لشرح البرنامج العسكري الاسلامي وهدف المسلمين من الحرب.

جوع وميدان معركة !

وفي هذه الاثناء ارتفع صوت عامل مطعم القطار في الممر :

٢٢٤

الغداء الغداء ايها السادة الغداء جاهز.

نظر الشيخ وبقية الاصدقاء الىٰ ساعاتهم فوجدوا الوقت ، اول الظهر.

الدكتور : سيادة العقيد ، الوقت اول الظهر ، ولن ادعك تجر هذا الشيخ الىٰ ساحة القتال وهو جائع ، فأنت عسكري وتستطيع تحمل الجوع ، لكن هذا العم يتحدث لنا منذ ساعات وبالتأكيد ليس بأستطاعته الآن شرح برنامج الاسلام العسكري ببطن فارغة.

العقيد : سعادة الدكتور ، اتصوّر انك اتّخذت الشيخ ذريعة ، والحقيقة انكم انتم الجائعون ، وهنا ضحك الاصدقاء.

الدكتور : بالتأكيد ، الجميع جياع ، والامر لا يختص بي سوىٰ انني تكلمت بصراحة ، لكنكم اضمرتم ذلك ، حسناً ، مع انني جائع جداً ، إلّا اني اوافق علىٰ الحديث عن البرنامج الحربي يطرحه الاسلام اولاً ، ثم نذهب للغداء من بعد.

العقيد : شكراً علىٰ ذلك.

الشيخ : قبل الدخول في بحث قوانين الاسلام العسكرية ، لابد من الاشارة إلى أن الاسلام دين كامل ومذهب مستقل ، ولو كان هذا الدين لا يملك برنامجاً ، واحكاماً فيما يتعلق بالامور العسكرية فانه بلا شك ناقص وغير تام.

ولا بدّ ان يكون لهذا الدين السماوي الكامل افضل واكمل القوانين أيضاً في المجال العسكري ، لأن الاسلام لا يواجه في مسيرة الكمال التي يدعو لها اهل العلم والمنطق أو الناس البسطاء غير المتعلمين فقط ، بل هناك الجبابرة

٢٢٥

والطواغيت الذين يُعد الاسلام خطراً مواجهاً لهم في استمرار سيطرتهم واستضعافهم للناس والمحرومين ، لذلك من الطبيعي ان يقفوا ضده ويضعوا العوائق في طريقه ، وهؤلاء الذين لم يتعاملوا مع المسلمين إلّا بمنطق القوة والسيف ، كان لابدّ للمسلمين أيضاً ان يواجهونهم بنفس المنطق الذي لا يفهمون غيره وان يزيلوهم عن طريق الدعوة الىٰ الاسلام الذي هو السبيل لكمال الانسان وسعادته ، والآن حيث اتّضحت الحاجة الىٰ برنامج ونظام حربي الاسلامي ، لابد من شرح قوانين الاسلام واحكامه العسكرية لمعرفة قوتها وقيمتها الحقيقية.

ان اغلب الحروب ، تحدث للتوسع وفتح البلدان واستعمارها واستثمارها ، وفي هذه الحروب تهاجم دولة ، دولة اخرىٰ وتحاول الانتصار عليها بأية وسيلة حتىٰ تسيطر علىٰ ذلك البلد وتوسع من دائرة سلطتها وحكومتها ، لذلك نشاهد الجرائم والمآسي التي تأتي بها تلك الحروب في الماضي والحاضر وتلك الاعمال الدنيئة التي يخجل الانسان من ذكرها.

أمّا الاسلام فلا يهدف من حروبه فتح البلدان أو استثمار الشعوب ، لأنه اساساً يقف في حروبه امام الطغاة الذين قاموا بأستثمار الناس وعملوا على تخلفهم.

وللاسلام أهداف مقدّسة وانسانية سامية في الحروب والمعارك التي يخوضها ، لذلك فالبرنامج العسكري الوحيد المليء بالمفاخر والاعتزاز هو البرنامج العسكري الاسلامي ، لأن حروب الاسلام هي حروب تحريرية ، وعلىٰ هذا الاساس ، فالقوانين العسكرية والحربية الاسلامية بمستوىٰ من الشرف والنخوة ، استطيع ان ادعي معه بصراحة انه لا يوجد مثيل لها في جميع

٢٢٦

القوانين العسكرية والحربية في العالم ، وهذه بعض المواد الاساسية للنظام العسكري والحربي في الاسلام :

1 ـ علىٰ الجندي المسلم عندما يواجه العدو ، ان يدعوه في البدء الىٰ الاسلام ، وفيما لو قبل الدعوة واصبح مسلماً فلا يحق لأحد من جيش المسلمين الاعتداء عليه أو علىٰ ماله وبلده ، بل لو اعتدىٰ أحد الجنود المسلمين علىٰ ذلك الشخص الحديث الاسلام وقتله ، لابدّ من معاقبة ذلك الجندي المسلم ، والاقتصاص منه علىٰ اساس قانون القصاص.

2 ـ فيما لم يقبل الاعداء غير المسلمين الدعوة الىٰ الاسلام ، لايحق للجنود المسلمين ايضاً مهاجمتهم والاقتتال معهم ، بل يجب ان يدعوهم لأعطاء الجزية(1) ولو قبلوا بذلك لايحق للجيش الاسلامي الاعتداء عليهم ومهاجمتهم.

3 ـ بعد ان يمتنع الاعداء غير المسلمين من دفع الجزية ، عند ذاك تكون دور الحرب معهم ، لكن الحرب تكون مع الجنود غير المسلمين الذين جاؤا الىٰ ساحة المعركة بهدف القتال ، ولو فرّوا من ساحة القتال لا يحق للمسلمين مطاردتهم ، ولو اندحر جيش الكفار ودخل المسلمون بلاد الاعداء ، لا يحق لهم التعرّض الىٰ الشيوخ والعجائز وقتلهم ، أو ايذاء الاطفال والنساء والضعفاء ، وحتىٰ الحيوانات ، كما يجب عليهم ان لا يدمروا المزارع والبساتين ، ولا يخربوا الانهار والقنوات ، ولا يحق لهم تخريب الابنية أو قطع الاشجار المثمرة

________________

(1) ضريبة خاصة تؤخذ من المشركين ( اهل الكتاب ) حسب قدراتهم المالية ، وفي المقابل تتعهد الدولة الاسلامية بضمان امنهم.

٢٢٧

والخضراء.

عندما أراد جيش المسلمين التحرك نحو مؤته ، خطب فيهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال :

« ستجدون فيها رجالاً معتزلين الناس فلا تتعرضوا لهم ، لاتقتلن امرأة ولا صغيراً ضرعاً ولا كبيراً فانياً ولا تقطعن نخلاً ولا شجراً ولا تهدمن بناء »(1) .

وفي خطبة لأمير المؤمنين عليعليه‌السلام لجيشه قبل قتال جيش معاوية ، يقول :

« فاذا كانت الهزيمة باذن الله فلا تقتلوا مدبراً ولا تصيبوا معوراً ولا تجهزوا علىٰ جريح ولا تهيجوا النساء بأذىٰ »(2) .

أصدقائي الاعزاء !

هذه بعض مواد القانون الحربي في الاسلام ، وكما تلاحظون ، مع ان هدف المسلمين هو احتلال البلدان غير الاسلامية ، ( من اجل غاية مقدسة سنشرحها لاحقاً ) ، لكنهم يراعون جميع جوانب الفضيلة والانسانية ، والقوانين الحربية في الاسلام لا تسمح بأي عمل غير اخلاقي أو مما يخدش بالرجولة والضمير.

________________

(1) نواسخ التواريخ.

(2) نهج البلاغة : 16 ، طبعة مصر.

٢٢٨

لنكتشف مجرىٰ الماء

في احدىٰ معارك الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مع اليهود ، كان اليهود قد لجأوا الىٰ حصن منيع لا يطاله المسلمون ، فبقي المسلمون محاصرين للحصن اياماً ، وهم يفكرون بحلّ لفتح الحصن والانتصار علىٰ اليهود ، وفي مثل تلك اللحظات الحساسة جاء أحد قادة الجيش الاسلامي الىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال ان ماء شرب اهالي الحصن يأتي من خارجها ، ونستطيع نحن من خلال اكتشاف مجرىٰ الماء ان نسيطر عليه ، ونمنع عنهم الماء فنضطرهم الىٰ الاستسلام ، فهل تسمح لنا القيام بذلك ؟ فأجابه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لن اسمح لكم بذلك ، ففي الحصن اشخاص كبار في السن طاعنين ومرضىٰ وفيها نساء واطفال وحيوانات ، فلماذا نمنع الماء وهم لا يقاتلوننا(1) .

لن اسمح بمنع الماء

حدث في معركة صفين ان جيش معاوية استولىٰ علىٰ أطراف نهر الفرات قبل وصول جيش الامام عليعليه‌السلام ، ولم يسمح لجيش الامام عليعليه‌السلام ان يأخذ من ماء النهر ، فأشتد العطش بجيش الامام عليعليه‌السلام فطلبوا الاذن من الامام بالهجوم علىٰ قوات معاوية التي تحول دون وصولهم للنهر ، فسمح لهم الامام بذلك ، وبعد هجوم سريع استطاع جيش الامام علي ان يخرج الفرات من قبضة جيش معاوية.

________________

(1) ناسخ التواريخ.

٢٢٩

ورداً لما قام به معاوية وجيشه من دناءة ، اقترحوا علىٰ الامام عليعليه‌السلام ان لا يسمح هو أيضاً لجيش معاوية الاستفادة من ماء الفرات ، وبذلك سيفقد الجيش قدرته علىٰ الصمود من شدة العطش ، فينهار ويستسلم دفعة واحدة ، فأجابهم الامامعليه‌السلام علىٰ اقتراحهم : لا اكافيهم ، بمثل ما فعلوا ، افسحوا لهم عن الشريعة(1) .

اصدقائي الاعزاء !

يتّضح من المثالين التاريخيين اللذين سقتهما ، كيف ان انتصار الجنود المسلمين علىٰ الاعداء ممزوج بالرجولة والفضيلة.

هدف الاسلام الاساسي من الحرب مع غير المسلمين

الطالب الجامعي ، حسن : القوانين الحربية والعسكرية الاسلامية التي نقلتها ـ والخطاب للشيخ ـ رجولية وعطوفة جداً ، وصحيح انه لا يوجد مثل هذه القوانين الفاضلة المشرّعة لساحة القتال حيث يصل الغضب والحقد ذروته ، في جميع قوانين العالم الحربية ، لكنه يبقىٰ هناك سؤال وهو هدف الاسلام من الحرب والانتصار علىٰ الدول غير الاسلامية ؟

الشيخ : لم يكن هدف المسلمين من الانتصار علىٰ الدول غير الاسلامية ، هو ادخالهم الىٰ الاسلام بالسيف ، بل الهدف الاساسي والمهم من

________________

(1)المصدر نفسه.

٢٣٠

ذلك هو ايجاد حالة من الترابط والاختلاط التام بين المسلمين وغير المسلمين ، كي يطلعوا علىٰ قوانين الاسلام السامية عن قرب ، ويشاهدوها عملياً من خلال تصرفات المسلمين ، وبالنتيجة سيدخلون الاسلام بأرادتهم ورغبتهم ، لأنه ليس هناك شك من ان القوانين الاسلامية فطرية وطبيعية وجذابة بشكل لو شوهد تطبيقها من قبل المسلمين ، ستكسب إليها كل انسان سليم القلب ، لذلك كان الناس يدخلون الاسلام افواجاً في البلدان التي فتحها المسلمون والتي شاهدوا فيها وفعة وسموّ القوانين الاسلامية وافضليتها ، من خلال سلوكيات المسلمين ، وهكذا ينتشر الاسلام بالمنطق والاستدلال ودون اي اكراه أو الزام.

لم ينتشر الاسلام بالسيف

الآن وقد تحدثنا عن برنامج الاسلام الحربي وقوانينه وكذلك الهدف الاساسي من الحرب بالنسبة للمسلمين ، سنجيب عن التهم الباطلة التي يرمي بها المبشرون والقساوسة المشركين الاسلام ، من انه دين انتشر بحد السيف ومن خلال الحروب التي خاضها المسلمون وفتحوا بها البلدان.

واجاباتنا علىٰ تلك التهم ، نحددها في عدة مواضيع :

1 ـ علىٰ مدىٰ ثلاثة عشر عاماً من البعثة ، كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في ذروة ضعفه العسكري وهو بين اعدائه الاقواياء الذين يسيطرون علىٰ كل شيء في مكة ، وفي تلك الفترة اعتنق الكثيرين الاسلام دون ان يرهبهم سيف ، لأنه فضلاً عن عدم وجود سيف وقوة للمسلمين ، فقد كانوا اقلية تخاف ان يتخطفها الناس

٢٣١

علىٰ حد تعبير القرآن الكريم ، وكانوا يضطرون احياناً للهجرة من ديارهم وترك اموالهم الىٰ بلدان اجنبية لكي يحفظوا اسلامهم.

اذن في الصدر الاول بحيث بدأ انتشار الاسلام لم يكن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يمتلك قوة يرهب بها الناس لدخول الاسلام ، بل ان هؤلاء الناس ذوو النفوس النقية ، دخلوا الاسلام ونبذوا الكفر في ذروة قوته ، وبأختصار ، فلاسلام انتشر في البداية علىٰ اساس الاستدال والمنطق والايمان ، وبعد ذلك بدأ بفتح البلدان للهدف الذي ذكرناه مسبقاً.

2 ـ وكما قلنا سابقاً ، كان المسلمون وقبل بدأ القتال يدعون المشركين من الكفار الىٰ دفع الجزية ، وفيما لو دفعوا الجزية ، كان لهم الحق ان يبقوا علىٰ دينهم للأبد وتحت ظل الحكومة الاسلامية ، وهذا اكبر دليل علىٰ ان المسلمين لم يهدفوا في فتحهم البلدان الىٰ اجبار الناس علىٰ دخول الاسلام ، لانهم كان بأستطاعتهم ان لا يأخذوا الجزية من غير المسلمين ، ويجبروهم علىٰ دخول الاسلام.

3 ـ يحقُّ للذين يدفعون الجزية للمسلمين ليس فقط البقاء علىٰ دينهم ، بل اقامة شعائرهم الدينية الخاصة والذهاب الىٰ الكنائس والمعابد بشكل علني ، في ظل حماية المسلمين.

في حين لو كان المسلمون يريدون اجبار الكفار علىٰ دخول الاسلام ، لما اجازوا لهم اقامة شعائرهم بشكل علني في محافلهم ومعابدهم.

4 ـ الدليلان الرابع والخامس اللذان نسوقهما علىٰ ان هدف الاسلام من الحروب التي قام بها بعد انتشاره وقوته ، لم يكن ارغام الناس علىٰ الدخول فيه

٢٣٢

بالقوة ، هذان النموذجان عن تعامل نبي الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله مع غير المسلمين :

وثيقة صلح الحديبية

في وثيقة صلح الحديبية ( وهي منطقة قريبة من المدينة ) التي وقّعت بين المسلمين والكفار ، تعهد المسلمون بأرجاع اي شخص من كفار مكة يدخل الاسلام ويلجأ الىٰ المدينة. فقال أحد المسلمين لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، خذ منهم عهداً بأعادة أي شخص يرتد عن الاسلام ويذهب الى مكة.

فقال نبي الاسلام : لا آخذ مثل هذا العهد من اهالي مكة(1) لان المسلم الذي يرتد عن الدين ويلجأ الىٰ الكفار ، لن يفيدنا اذا اعادوه لنا ، لأن القلب هو مركز الايمان ، والشخص الذي لا يدخل الاسلام عن قناعة ورغبة ، لن يكون مسلماً حقيقياً.

الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يعطي اربعة اشهر مهلة

بعد ان نقض اهل مكة مفاد صلح الحديبية ، تحرك الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لفتح مكة ، فدخل جيش الاسلام مكة دون مقاومة تذكر ـ كما مرّ سابقاً ـ سوىٰ مقاومة صغيرة لبعض شباب مكة بزعامة صفوان بن اُمية وعكرمة بن أبي جهل ، وبعد قتال محدود ، اندحرت مجاميع الكفار ، وسيطر المسلمون علىٰ مكة كلها ، فهرب صفوان بن اُمية وعكرمة بن أبي جهل من مكة بنية مغادرة

________________

(1) ناسخ التواريخ.

٢٣٣

الحجاز تماماً ، إلّا ان عمير بن وهب ، جاء الىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وشفع لصفوان بن اُمية ، فقبل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله شفاعة عمير ، وعفىٰ عن صفوان ، فذهب عمير بن وهب الىٰ خارج مكة ، وأبلغ صفوان عفو الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله له ، وطلب منه ان يعود مطمئناً الىٰ مكة ، فقال له صفوان : أخاف أن يمكر بي نبيكم ويقتلني عند دخولي مكة ، فطمأنه عمير بأن ليس في الاسلام مكراً وخديعة ، عند ذلك اطمئن صفوان إلى كلام عمير بن وهب ورجع إلى مكة ، وعندما قابل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : يا محمد عمير بن وهب يدعي انك أعطيتني الامان.

فقال الرسول : يصدق عمير.

فطلب صفوان مهلة شهرين من الرسول كي يطلع علىٰ الاسلام ، ومن ثمّ يسلم ، فقال له الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : لك اربعة اشهر مهلة.

لكن صفوان اسلم عن قناعة قبل انقضاء المهله(1) .

ومن خلال هذه القصة يتّضح ، انه لو كان هدف الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله هو اجبار الناس علىٰ الاسلام بقوة السيف لما أمهل صفوان يوماً واحداً فضلاً عن اعطائه اربعة اشهر ، أو لاكتفىٰ بالشهرين اللذين طلبهما صفوان منه كمهلة.

اصدقائي الاعزاء !

هذه دلائل لا تقبل الشك ، يتضح خلالها هدف المسلمين من الحرب ، وهو غير اجبار الناس علىٰ الاسلام بالقوة ، بل ان اهم هدف من وراء ذلك هو

________________

1 ـ حياة محمد (ص).

٢٣٤

مدّ جسر وثيق من العلاقة والارتباط بين المسلمين وغير المسلمين لكي تطلع شعوب الدول غير الاسلامية علىٰ قوانين الاسلام العظيم ، ولكي لا يحول طواغيت الارض ، ولا تقف الانظمة الكافرة امام تعالي الانسان وخلاصة وتحرره من رجسها وذل عبودية غير الله.

لذلك فمن حقنا القول ان كلام المبشرين في ان الاسلام انتصر وانتشر بحد السيف ما هي الّا تهم باطلة ودنيئة تصدر عن اعداء الاسلام والحاقدين عليه.

اعتراف كبار العلماء بأن الاسلام لم ينتشر بالسيف

ولكي يعرف اصدقائي الاعزاء مقاصد المبشرين المسيحيين أكثر من التهم التي يسوقونها ضد الاسلام ، سننقل هنا بعض ما قاله كبار علماء اوروبا المسيحيين حول سرعة انتشار الاسلام :

يقول الدكتور غوستاف لوبون في كتابه حضارة الاسلام والعرب :

« ينتشر الاسلام بطريق بسيط وسهل ، جعل الجميع يحتارون في امره ، ولا بدّ ان نعتبر ذلك من خصوصيات الاسلام التي ينفرد بها دون غيره من الاديان ، ففي كل مكان وضع المسلمين اقدامهم ترسخ الاسلام في قلوب الناس ، في الصين وفي افريقيا الوسطىٰ وروسيا ، ولم يكن ذلك عن طريق الحرب وبواسطة الجيوش ، بل عن طريق التجار والتجارة ، واليوم نشاهد ملايين المسلمين في تلك البلدان ، فهؤلاء لم يدخلوا الاسلام بالترغيب أو القوة بل عن قناعة ورغبة ورضىٰ ، ولم نسمع لحد الآن عن قوة عسكرية

٢٣٥

كانت تدعم اولئك التجار ، والاغرب من ذلك هو نمو الاسلام وانتشاره السريع اين ما وصل التجار ودعوا الناس إليه ، فعلىٰ سبيل المثال منذ قرون والاسلام في روسيا ينتشر ، وفي الهند التي يعيش فيها الآن ملايين المسلمين ، صرف المبشرين والقساوسة البروتستانت مبالغ طائلة لنشر المسيحية دون نتيجة ، وفي الصين التي تعتبر من المناطق التي تفتخر بتراثها القومي لم يستطع المبشرون المسيحيون رغم الوسائل الكثيرة التي استخدموها هناك أن ينشروا المسيحية واعترفوا بكل صراحة عن عجزهم ، لكن الاسلام انتشر وينتشر هناك يومياً علىٰ الرغم من عدم وجود دعم خارجي ، بحيث يصل مجموع المسلمين اليوم هناك اكثر من اربعين مليون مسلم في كل انحاء الصين ، وفي بكين وحدها هناك اليوم ما يزيد علىٰ مائة الف مسلم ».

ثم يضيف الدكتور لوبون حول كيفية معاملة المسلمين مع شعوب الدول التي يفتحونها والحرية التي كانت للنصارىٰ في ظل الحكم الاسلامي ، فيقول :

« لقد عامل العرب الاندلسيين ( الاسبان ) الذين فتحت بلادهم علىٰ ايدي المسلمين ، كما كانوا يعاملون اهل مصر والشام ، وقد تركوا لهم حرية التصرف بأموالهم ومعابدهم وخيرّوهم في البقاء تحت حكم وقضاء اشخاص من نفس دينهم بشرط ان يدفعوا جزية سنوية ، ولقد كانت الشروط بسيطة وسهلة بحيث قبل بها الجميع مباشرة ، وكان تعامل المسلمين مع الشعوب التي فتحت بلادها حسناً بحيث كان يجوز للأساقفة ان يعقدوا لأنفسهم مجالس دينية ».

٢٣٦

اعتراف الدكتور لورا فاكسيا واغليري

يقول الدكتور فاغليري استاذ جامعة نابل :

« كانت حياة الشعوب المغلوبة وحقوقها المدنية وثرواتها الوطنية مصانة من قبل الدولة الاسلامية بشكل يتساوىٰ تقريباً مع ما كان للمسلمين انفسهم ».

ويضيف في مكان آخر :

« كان العرب الفاتحون مستعدون وفي ذروة قوتهم وانتصاراتهم ، لأن يقولوا لأعداءهم : كفّوا عن الحرب وادفعوا ضريبة مالية معتدلة ، ولكم ان تعيشوا تحت حمايتنا بشكل كامل ، ولكم من الحقوق مالنا ، ولو نظرنا جيداً الىٰ اقوال النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أوالىٰ فتوحات المسلمين ، في صدر الاسلام ، سنشاهد بسهولة كذب تهمة ادخال الناس بقوة السيف الىٰ الاسلام. فالقرآن الكريم يقول :

( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) (1) .

ثم يضيف الدكتور واغليري :

« في التاريخ الاسلامي نماذج عديدة علىٰ مداراة الاسلام مع اتباع الاديان الالهية الاخرىٰ ، كما تعهد الرسول بنفسه حماية معابد مسيحيوا نجران ، وكذلك امر احد قادة الجيش الذي ارسله الىٰ اليمن ان لا يتعرض لأي شخص

________________

(1) سورة البقرة : 258.

٢٣٧

من اليهود في اماكنهم ومساكنهم ، وكان هذا تعامل المسلمين مع اتباع الديانات الاخرىٰ ، فهم احرار في العمل حسب آرائهم وشعائرهم الدينية ، بشرط ان يدفعوا ضريبة جزئية تسمىٰ الجزية ، وهذه الجزية عادة اقل من الضريبة التي يدفعها المسلمون انفسهم للدولة الاسلامية ، وفي مقابل تلك الجزية ، ولأتباع الديانات الاخرىٰ الحق في حرية العمل حسب مذاهبهم ولا يجبرون علىٰ تركها ، كما ان الدولة الاسلامية توفر لهم الحماية التامة ».

اصدقائي الاعزاء !

كان ذلك موجزاً عن برنامج الاسلام الحربي وهدف المسلمين من الحروب وكيفية تعامل المسلمين مع شعوب البلدان التي يسيطرون عليها واستشهدنا في ذلك بنماذج من تاريخ الاسلام ، واقوال علماء اوروبا ، واثبتنا ان المسلمين لوحدهم لم يجبروا الآخرين علىٰ اعتناق دينهم بالقوة والسيف ، بل منحوا الآخرين حرية دينية تامة في ظل حكمهم.

لكن لننظر ماذا فعل هؤلاء المسيحيون والاوروبيون عندما دارت الامور واستولوا هم علىٰ بلاد المسلمين ، لقد قاموا بجرائم ومجازر ومآسي سوّدت وجه التاريخ ويخجل الانسان من مجرد ذكرها !

تاريخ الحروب الصليبية الاسود

ولكي لا يتصور اصدقائي ان حديثي عن توحش وجرائم الشعوب الاوروبية مصدره التعصب الديني ، سأنقل لكم بعض الجرائم التي قام بها

٢٣٨

الصليبوين في الحروب الدموية والمعروفة بالحروب الصليبية ، وذلك ايضاً علىٰ حدّ ما جاء في كلام وكتابات العلماء والمؤرخين القساوسة الاوروبيين المسيحيين.

يتحدث الدكتور غوستاف لوبون في البداية عن الحرب التي شنها المسيحيين والاوروبيين ضد المسلمين ، فيقول :

« الكلام حول القتال الذي دار بين العالم الاوروبي المتوحش ، واسمىٰ الحضارات التي نشاهد آثارها في التاريخ ».

ثم يضيف :

« لقد قامت المسيحية الاوروبية بارتكاب اعمال وحشية في الحروب الصليبية ، لا يمكن ان اعبر عنها بشيء سوىٰ انهم ( المسيحيين ) كانوا قد جنوا ، فعندما انتصر الصليبيون علىٰ المسلمين الاتراك ، قاموا بقطع رؤوس المجروحين المسلمين وحملوها معهم علىٰ خيلولهم الىٰ معسكرهم وهم يفتخرون بما قاموا به ، ثم قاموا برمي تلك الرؤوس من فوق حصار كانوا يضربونه حول احدىٰ المدن المسلمين ، بأتجاه اهالي المدينة ، ان تصرفات المسيحيين الاوروبيين المشينة في جميع تلك الحروب جعلتهم بمستوىٰ اكثر الناس توحشاً وبربرية علىٰ وجه الارض ، وكانوا في تعاملهم السيء ذلك لا يفرقون بين اتباع دينهم واعدائهم أو الناس العاديين من النساء والاطفال والشيوخ والشبان والعسكر الذي يواجهونه ، في المدن التي يهاجمونها ، اي انهم كانوا يقتلون وينهبون الجميع دون استثناء ».

٢٣٩

تقول انكومن(1) ابنة امبراطور القسطنطنية :

« من جملة ماكان الاوروبيون يرفهون عن انفسهم فيه في تلك الحروب ، هو انهم كانوا يقتلون كل طفل يمرّ من امامهم ويلقون به في النار ! ».

ويقول الراهب روبرت(2) وهو من القساوسة المسيح حول المجازر التي ارتكبها المسيحيين الاوروبيين بحق المسلمين في مدينة مارا(3) :

« كان الجيش المسيحي يتحرك في انحاء المدينة مثل اللبوة التي سرقوا اطفالها ، وكانوا يتلذّون بالمجازر التي يرتكبونها بحق الناس ، فكانوا يقطعون أيدي الاطفال ويضربون اعناق الشيوخ والشبان ، ومن اجل ان يسرعوا في عملهم ، كانوا يشنقون عدة اشخاص في حبل واحد !

وكان المسيحيون في تلك الحروب ينهبون كل مايجدون عند الحيّ والميت من نقود ومجوهرات ، وكانت ازقة مدينة « مارا » تحولت الىٰ بركة من الدماء ، تسبح فيها جثث القتلىٰ المنتشرة في جميع ارجاء المدينة ، وكان المسيحيون يعبرون من فوقها !

في وصفه لدخول المسيحيين الاوروبيين الىٰ القدس ، يقول العالم الاوروبي المعروف ، رايموند داجلس(4) :

« عندما احتل المسيحيون الاوروبيون سور المدينة وقلاعها ، ظهرت

________________

(1) Aonicomnen

(2) Robert

(3) Marrat

(4) Rayimond Dagiles

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

تعالى( وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ ) .

وسواء كان الحديث الشريف يدلّ على ما فسّره المفسّرون وأشرنا إليه آنفا ، أو كما عبرنا عنه بشروط القائد أو المبلغ ، فهو يبيّن هذه الحقيقة ، وهي أنّ هذه الآية القصيرة الوجيزة تتضمّن منهجا جامعا واسعا كليّا في المجالات الأخلاقية والاجتماعية ، بحيث يمكننا أن نجد فيها جميع المناهج الإيجابية البناءة والفضائل الإنسانية. وكما يقول بعض المفسّرين : إنّ إعجاز القرآن بالنسبة إلى الإيجاز في المبنى ، والسعة في المعنى ، يتجلى في الآية محل البحث تماما.

وينبغي الالتفات إلى أنّ الآية وإن كانت تخاطب النّبي نفسه إلّا أنّها تشمل جميع الأمّة والمبلغين والقادة.

كما ينبغي الالتفات إلى أنّ الآيات محل البحث ليس فيها ما يخالف مقام العصمة أيضا ، لأنّ الأنبياء والمعصومين ينبغي أن يستعيذوا بالله من وساوس الشيطان ، كما أنّ أيّ أحد لا يستغني عن لطف الله ورعايته والاستعاذة به من وساوس الشياطين ، حتى المعصومين.

وجاء في بعض الرّوايات أنّه لما نزلت الآية( خُذِ الْعَفْوَ ) سأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جبرئيل عن ذلك فقال جبرئيل : لا أدري ، حتى أسأل العالم ثم أتاه فقال : «يا محمّد ، إنّ الله يأمرك أن تعفو عمن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك»(١) .

وجاء في حديث آخر أنّه لما نزلت آية( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ ) قال النّبي : كيف يا ربّ والغضب؟ فنزل قوله( وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٢) .

وينبغي الإشارة إلى أنّ الآية الثّانية هنا جاءت في سورة فصلت الآية (٣٦)

__________________

(١) مجمع البيان ، ذيل الآية محل البحث.

(٢) روى ذلك صاحب المنار قائلا : روي عن جدنا الإمام الصادقرضي‌الله‌عنه في ج ٩ ، ص ٥٣٨.

٣٤١

بتفاوت يسير بين الآيتين ، إذ ورد التعبير مكان قوله تعالى :( إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) .

وفي الآية التّالية بيان للانتصار على وساوس الشيطان بهذا النحو( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ ) . أي يتذكرون ما أنعم الله عليهم ، ويفكرون في سوء عاقبة الذنب وعذاب الآخرة فيتّضح لهم بذلك طريق الحق.

والطّائف : هو الذي يطوف ويدور حول الشيء ، فكأن وساوس الشيطان تدور حول فكر الإنسان وروحه كالطائف حول الشيء ليجد منفذا إليه ، فإذا تذكر الإنسان في مثل هذه الحالة ربّه ، واستعاذ من وساوس الشيطان وعاقبة أمره ، أبعدها عنه. وإلّا أذعن لها وانقاد وراء الشيطان.

وأساسا فإنّ كل إنسان في آية مرحلة من الإيمان ، أو أي عمر كان ، يبتلى بوساوس الشياطين. وربّما أحس أحيانا أن في داخله قوة مهيمنة تدفعه نحو الذنب وتدعوه إليه ، ولا شك أن مثل هذه الحالة من الوساوس في مرحلة الشباب أكثر منها في أية مرحلة أخرى ، ولا سيما إذا كانت البيئة أو المحيط كما هو في العصر الحاضر من التحلّل والحريّة ، لا الحرية بمعناها الحقيقي ، بل بما يذهب إليه الحمقى «من الانسلاخ من كل قيد والتزام أخلاقي أو اجتماعي أو ديني» فتزداد الوساوس الشيطانية عند الشباب.

وطريق النجاة الوحيد من هذا التلوّث والتحلل في مثل هذه الظروف ، هو تقوية رصيد التقوى أولا ، كما أشارت إليه الآية( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا ) ثمّ المراقبة والتوجه نحو النفس ، والالتجاء إلى الله وتذكر ألطافه ونعمه وعقابه الصارم للمذنب وهناك إشارات كثيرة في الرّوايات الإسلاميّة إلى أثر ذكر الله العميق في معالجة الوساوس الشيطانية. حتى أن الكثير من المؤمنين والعلماء وذوي المنزلة

٣٤٢

كانوا يحسون بالخطر عند مواجهة وساوس الشيطان ، وكانوا يحاربونها «بالمراقبة» المذكورة في كتب علم الأخلاق بالتفصيل.

والوساوس الشيطانية مثلها مثل الجراثيم الضارة التي تبحث عن البنية الضعيفة لتنفذ فيها. إلّا أنّ الأجسام القوية تطرد هذه الجرائم فلا تؤثر فيها.

وجملة( فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ ) إشارة إلى حقيقة أن الوساوس الشيطانية تلقي حجابا على البصيرة «الباطنية» للإنسان ، حتى أنّه لا يعرف العدوّ من الصديق ، ولا الخير من الشر. إلّا أن ذكر الله يكشف الحجب ويزيد الإنسان بصيرة وهدى ، ويمنحه القدرة على معرفة الحقائق والواقعيات ، المعرفة التي تخلّصه من مخالب الوساوس الشيطانية.

وملخص القول : أننا لا حظنا في الآية السابقة كيف ينجو المتقون من نزغ الشيطان ووسوسته بذكر الله ، إلّا أن الآثمين إخوة الشياطين يبتلون بمزيد الوساوس فلا ينسلخون عنها ، كما تعبّر الآية التالية عن ذلك قائلة :( وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ ) .

«الإخوان» كناية عن الشياطين ، والضمير «هم» يعود على المشركين والآثمين ، كما نقرأ هذا المصطلح في الآية (٢٧) من سورة الإسراء( إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ ) .

و «يمدونهم» فعل مأخوذ من الإمداد ومعناه الإعانة والإدامة ، أي أنّهم يسوقونهم في هذا الطريق دائما.

وجملة( ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ ) تعني أنّ الشياطين لا يألون جهدا في إضلال المشركين والآثمين.

ثمّ تذكر الآية التّالية حال جماعة من المشركين والمذنبين البعيدين عن المنطق ، فتقول : إنّهم يكذبونك ـ يا رسول الله ـ عند ما تتلوا عليهم آيات القرآن ، ولكن عند ما لا تأتيهم بآية ، أو يتأخر الوحي يتساءلون عن سبب ذلك :( وَإِذا لَمْ

٣٤٣

تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها ) (١) ولكن قل لهم انني لا اعمل ولا أقول إلّا بما يوحى الله اليّ( قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

ويتّضح من هذه الآية ـ ضمنا ـ أنّ جميع أقوال النّبي وأفعاليه مصدرها وحي السماء ، ومن قال بغير ذلك فهو بعيد عن القرآن.

* * *

__________________

(١) الاجتباء مأخوذ من الجباية ، وأصلها جمع الماء في الحوض ونحوه ، ولذلك يسمّي حوض الماء بـ «الجابية ، وجمع الخراج يسمّى جباية أيضا. ثمّ توسعوا في الاستعمال فأطلقوا على جمع الأشياء وانتخابها واختيار ما يراد منها اجتباء. فجملة «لولا اجتبيتها» تعني لو لا اخترتها.

٣٤٤

الآيات

( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦) )

التّفسير

( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ) : لقد بدأت هذه السورة (سورة الأعراف) ببيان عظمة القرآن ، وتنتهي بالآيات ـ محل البحث ـ التي تتكلم عن القرآن أيضا.

وبالرغم من أنّ المفسّرين ذكروا أسبابا لنزول الآية الأولى ـ من هذه الآيات محل البحث ـ منها مثلا ما روي عن ابن عباس وجماعة آخرين ، أنّ المسلمين في بادئ أمرهم كانوا يتكلمون في الصلاة ، وربّما ورد شخص (جديد) أثناء الصلاة فيسأل المصلين وهم مشغولون بصلاتهم : كم ركعة صليتم؟ فيجيبونه : كذا ركعة. فنزلت الآية ومنعتهم أو نهتهم عن ذلك.

٣٤٥

كما نقل الزّهري سببا آخر لنزول الآية ، وهو أنّه لما كان النّبي يقرأ القرآن ، كان شاب من الأنصار يقرأ معه القرآن بصورت مرتفع ، فالآية نزلت ونهت عن ذلك.

وأيّا كان شأن نزول هذه الآية ، فهي تقول :( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) والفعل «انصتوا» مأخوذ من مادة «الإنصات» ومعناه : السكوت المشفوع بالإصغاء والاستماع.

وقد اختلف المفسّرون في أن الإنصات والسكوت هنا في الآية ، هل هو عند قراءة القرآن في جميع الموارد؟ أم هو منحصر وقت الصلاة وعند قراءة إمام الجماعة؟ أم هو عند ما يقرأ إمام الجمعة ـ في خطبة الصلاة ـ القرآن؟

كما أنّ هناك أحاديث شتى في هذا الصدد في كتب الفريقين في تفسير هذه الآية. والذي يستفاد من ظاهر الآية أن هذا الحكم عام غير مختص بحال ما ولا وقت معيّن. إلّا أنّ الرّوايات المتعددة الواردة عن الأئمّة الطاهرين ، بالإضافة إلى إجماع العلماء واتفاقهم على عدم وجوب الاستماع عند قراءة القرآن في أية حال ، يستدل من ذلك على أن هذا الحكم بصورة كليّة حكم استحبابي ، أي ينبغي إن قرئ القرآن ـ حيثما كان ، وكيف كان ـ أن يستمع الآخرون وينصتوا احتراما للقرآن ، لأنّ القرآن ليس كتاب قراءة فحسب ، بل هو كتاب فهم وإدراك ، ثمّ هو كتاب عمل أيضا.

وهذا الحكم المستحب ورد عليه التأكيد إلى درجة أنّ بعض الرّوايات عبّرت عنه بالوجوب.

إذ ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله : «يجب الإنصات للقرآن في الصّلاة وفي

٣٤٦

غيرها وإذا قرئ عندك القرآن وجب عليك الإنصات والاستماع»(١) .

حتى أنّه يستفاد من بعض الرّوايات أنّ لو كان إمام الجماعة مشغولا بالقراءة في الصلاة ، وقرأ شخص آخر آية من القرآن فيستحب للإمام السكوت حتى ينهي قراءة الآية ، ثمّ يكمل الإمام قراءته. حيث ورد عن الإمام الصّادقعليه‌السلام أنّ أمير المؤمنين عليّاعليه‌السلام كان مشغولا بصلاة الصبح ، وكان ابن الكوّا ـ ذلك المنافق الفظّ القلب ـ خلف الإمام مشغولا بالصلاة ، فقرأ فجأة( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) وكان هدفه من قراءة الآية أن يعترض على الإمام عليّ مكنيّا عن قبول الحكم في صفين ـ كما احتملوا ذلك ـ لكن الإمام سكت احتراما للقرآن حتى ينتهي ابن الكوّا من قراءة الآية ، ثمّ رجع الإمام إلى قراءته فأعاد ابن الكوا عمله مرّة ثانية ، فسكت الإمام أيضا ، فكرر ابن الكوّا القراءة ثالثة فسكت عليعليه‌السلام أيضا ، ثمّ تلا قوله تعالى :( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ) وهو يشير إلى أن عذاب الله وعقابه الأليم في انتظار المنافقين وغير المؤمنين ، وينبغي أن يتحمل الإنسان أذاهم ، ثمّ أن الإمام أكمل السورة وهوى إلى الركوع(٢) .

ويستفاد من مجمع ما تقدّم ، ولا سيما من البحث آنف الذكر ، أن الاستماع والسكوت عند قراءة آيات القرآن أمر حسن جدّا إلّا أنّه بشكل عام غير واجب ولعلّ جملة( لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) إضافة إلى الرّوايات والإجماع ، تشير إلى استحباب هذا الحكم أيضا.

والمورد الوحيد الذي يجب فيه السكوت أو يكون حكم السكوت فيه واجبا ، هو في صلاة الجماعة ، إذ على المأموم أن يسكت ويستمع لقراءة الإمام ، حتى أنّ جمعا من الفقهاء قالوا : إنّ هذه الآية تدل على سقوط الحمد والسورة من

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ٥٧.

(٢) تفسير البرهان.

٣٤٧

قبل المأموم «عند صلاة الجماعة».

ومن جملة الرّوايات الدالة على هذا الحكم ما روي من حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام «وإذا قرئ القرآن في الفريضة خلف الإمام فاستمعوا له وانصتوا لعلّكم ترحمون»(١) .

وأمّا استعمال «لعل» في هذه الجملة ، فهو ـ كما أشرنا سابقا ـ لغرض أن تشملكم رحمة الله ، فمجرّد السكوت غير كاف ، بل توجد أمور أخرى منها العمل بالآي أيضا.

ولا بأس أن نذكر الملاحظة التي بيّنها الفقيه المعروف الفاضل المقداد السيوري في كتابه «كنز العرفان» إذ فسّر الآية تفسيرا آخر فقال : إنّ المراد من الآية هو الإصغاء للآيات وإدراك مفاهيمها والإذعان لإعجازها.

ولعل هذا التّفسير كان بسبب أنّ الآية السابقة كانت تتكلم عن المشركين ، إذ كانوا يتذرعون بحجج واهية في شأن نزول القرآن ، فالقرآن يقول لهم : فاستمعوا وانصتوا لعلكم تعرفون الحق(٢) .

وليس هناك مانع من أن نعتبر مفهوم الآية واسعا بحيث يشمل جميع الكفار والمسلمين ، فغير المسلمين عليه أن يستمع وينصت للقرآن ويكفر فيه حتى يؤمن فينال رحمة ربّه ، والمسلم عليه أن يستمع ويدرك مفهوم الآي ويعمل به لينال رحمة ربّه ، لأنّ القرآن كتاب إيمان وعلم وعمل لجميع ، لا لطائفة خاصّة أو فريق معين.

وفي الآية التّالية إكمالا للأمر السابق يخاطب القرآن النّبي الكريم ـ وهذا الحكم كلي وعام أيضا وإن كان الخطاب موجها للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما هو الحال في سائر آيات القرآن الأخرى وأحكامها ـ إذ يقول سبحانه في كتابه :( وَاذْكُرْ رَبَّكَ

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ٥٧.

(٢) كنز العرفان ، ج ١ ، ص ١٩٥.

٣٤٨

فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً ) (١) .

ثمّ يضيف قائلا :( وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ ) .

[والآصال : جمع الأصيل ، ومعناه قبيل المغرب أو عند الغروب].

( وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ ) .

فذكر الله في كل حال وفي كل وقت ، صباحا ومساء ، مدعاة لإيقاظ القلوب وجلائها من الدرن ، وإبعاد الغفلة عن الإنسان. ومثله مثل مزنة الربيع ، إذا نزلت أمرعت القلوب بأزهار التوجه والإحساس بالمسؤولية والبصيرة ، وكل عمل إيجابي بنّاء! ثمّ تختتم هذه الآية سورة الأعراف بهذه العبارة ، وهي أنّكم لستم المكلّفون بذكر الله من يذكر الله ليس هو أنتم فحسب ، بل( إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ) .

والتعبير ب( عِنْدَ رَبِّكَ ) لا يعني القرب المكاني ، لأنّ الله ليس له مكان خاص ، بل هو إشارة إلى القرب المقامي ، أي أنّ الملائكة وغيرهم من المقربين على رغم مقامهم ومنزلتهم عند الله ، فهم لا يقصرون في التسبيح والذكر لله والسجود له.

والسجدة عند تلاوة هذه الآية مستحبة ، إلّا أنّ بعض أهل السنة كأصحاب أبي حنيفة وأتباعه يقولون بوجوبها.

ربّنا نور قلوبنا بنور ذكرك ، ذلك النور الذي يفتح لنا طريقنا نحو الحقيقة ، ونستمد منه المدد في نصرة راية الحق ومكافحة الظالمين وأن تدرك مسئولينا ونؤدي رسالتنا ـ آمين.

* * *

__________________

(١) التضرّع مأخوذ من الضرع وهو الثدي ، والفعل تضرع يطلق على من يتحلب اللبن بأصابعه ، ثمّ توسع في هذا الاستعمال فأطلق على إظهار الخضوع والتواضع.

٣٤٩
٣٥٠

سورة الأنفال

وهي مدينة

وعدد آياتها خمس وسبعون آية

٣٥١
٣٥٢

«سورة الأنفال»

نظرة خاطفة إلى محتويات هذه السورة

في الآيات الخمس والسبعين التي تتكون منها سورة الأنفال أثيرت مباحث مهمّة جدّا.

ففي مستهلها إشارة إلى قسم مهم من المسائل المالية من جملتها الأنفال والغنائم التي يعدّ كلّ منهما دعامة لبيت المال. كما تضمّنت هذه السورة مباحث أخرى منها : صفات المؤمنين الصادقين وما يمتازون به ، قصّة معركة بدر ، وهي أوّل مواجهة مسلحة بين المسلمين وأعدائهم ، وما تضمّنت من أحداث عجيبة تلهم العبر.

بعض أحكام الجهاد ووظائف المسلمين إزاء هجوم العدوّ المتواصل.

ما جرى للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ليلته التاريخية «ليلة المبيت».

حال المشركين قبل الإسلام وخرافاتهم.

ضعف المسلمين وعجزهم بادئ الأمر ثمّ تقويتهم ببركة الإسلام.

حكم الخمس وكيفية تقسيمه.

وجوب الاستعداد «العسكري والسياسي والاجتماعي» للجهاد في كل زمان ومكان.

رجحان قوى المسلمين والمعنوية على عدوهم بالرغم من قلّة عددهم

٣٥٣

ظاهرا.

حكم أسرى الحرب وكيفية معاملتهم.

المهاجرون والذين لم يهاجروا.

مواجهة المنافقين وطريقة التعرّف عليهم. وأخيرا نجد في هذه السورة سلسلة مسائل أخرى أخلاقية واجتماعية بنّاءة.

فلا غرابة أن نقرأ بعض الرّوايات الواردة في شأن هذه السورة وفضيلتها ، كالرّواية الواردة عن الإمام الصادق إذ تقول مثلا : «من قرأ سورة الأنفال وبراءة في كل شهر لم يدخله نفاق أبدا ، وكان من شيعة أمير المؤمنين حقّا ، ويأكل يوم القيامة من موائد الجنّة معهم حتى يفرغ الناس من الحساب»(١) .

وكما أشرنا من قبل فإنّ فضائل سور القرآن والثواب العظيم الذي وعد به من يتلو هذه السور ، كل ذلك لا يتأتى بمجرّد قراءة الألفاظ ، بل القراءة مقدمة للتفكّر ، والتفكّر وسيلة للفهم ، والفهم مقدّمة للعمل. وبما أنّ سورة الأنفال شرحت كيفية البراءة من صفات المنافقين ، وكذلك ذكرت صفات المؤمنين الصادقين حقّا ، فمن قرأها وتمثلها في حياته لم يدخله نفاق أبدا.

وكذلك من قرأ صفات المجاهدين في هاتين السورتين ، وجوانب من التّضحيات الواردة عن أمير المجاهدين عليعليه‌السلام وتمثلها ، كان من شيعة أمير المؤمنينعليه‌السلام حقا.

* * *

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ذيل الآية.

٣٥٤

الآية

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ )

( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١) )

سبب النّزول

ورد عن ابن عباس أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عيّن في يوم معركة بدر جوائز للمقاتلين المسلمين ترغيبا ، كأنّ يقولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثلا : من جاءني بفلان من الأعداء أسيرا فله عندي كذا «جائزة».

وكان هذا الترغيب ـ إضافة إلى ايقاده روح الإيمان والجهاد في وجودهم ـ مدعاة أن يثب المقاتلون الفتية في تسابق «افتخاري» نحو الهدف.

إلّا أنّ الكهول والشيوخ ظلّوا ثابتين تحت ظلال الرايات ، فلمّا انتهت معركة بدر أسرع المقاتلون الفتيان لأخذ الجوائز من النّبي ، إلّا أنّ الشيوخ وكبار السنّ قالوا : إنّ لنا نصيبا أيضا ، لأنّنا كنّا سندا وظهيرا لكم ، ولو اشتدّ بكم الأمر لرجعتم إلينا حتما. واحتدم النقاش حينئذ بين رجلين من الأنصار في شأن غنائم المعركة.

فنزلت الآية ـ محل البحث ـ وقالت بصراحة : إنّ الغنائم هي للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فله

٣٥٥

أن يتصرّف فيها ما يشاء. فقسّمها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المسلمين بالتساوي ، وأمر أن يصطلح الإخوة المسلمون فيما بينهم.

التّفسير

إنّ الآية ـ محل البحث ـ كما قرأنا في سبب النّزول ، نزلت بعد معركة بدر وتتكلم على غنائم الحرب وتبيّن حكما إسلاميا واسعا بشكل عام ، فتخاطب النّبي بالقول :( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ! ) .

فبناء على ذلك( فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) .

أي أنّ الإيمان ليس بالكلام فحسب ، بل هو الطاعة لله والرّسول دون قيد أو شرط وفي جميع مسائل الحياة لا في غنائم الحرب وحدها.

ما هي الأنفال؟

الأنفال في الأصل مأخوذة من مادة «نفل» على زنة «نفع» ومعناها الزيادة ، وإنما سمّيت الصلوات المستحبة نافلة

لأنّها زيادة على الصلوات الواجبة ، وكذلك يطلق على الحفيد نافلة لأنّه زيادة في الأبناء.

ويطلق لفظ «نوفل» على من يهب المزيد من العطاء.

وإنّما سمّيت غنائم الحرب أنفالا أيضا لأنّها كمية من الأموال الإضافية التي تبقى دون صاحب ، وتقع في أيدي المقاتلين دون أن يكون لها مالك خاص. أو لأنّ المقاتلين إنّما يحاربون للانتصار على العدو لا للغنائم ، فالغنيمة أو الغنائم موضوع إضافي يقع في أيديهم.

* * *

٣٥٦

ملاحظات

١ ـ بالرّغم من أنّ الآية محل البحث نازلة في شأن غنائم الحرب ، إلّا أنّ لمفهومها حكما كلّيا وعامّا ، وهي تشمل جميع الأموال الإضافية التي ليس لها مالك خاص. لهذا ورد في الرّوايات عن أهل البيتعليهم‌السلام أنّ الأنفال لها مفهوم واسع ، إذ نقرأ في بعض الرّوايات المعتبرة عن الإمامين «الباقر والصادقعليهما‌السلام » ما يلي : «إنّها ما أخذ من دار الحرب من غير قتال ، كالذي انجلى عنها أهلها وهو المسمّى فيئا ، وميراث من لا وارث له ، وقطائع الملوك إذا لم تكن مغصوبة والآجام وبطون الأدوية والموات ، فإنّها لله ولرسوله ، وبعده لمن قام مقامه يصرفه حيث يشاء من مصالحه ومصالح عياله»(١)

وبالرّغم من أنّ الحديث ـ أنف الذكر ـ لم يتحدّث عن جميع غنائم الحرب ، إلّا أنّنا نقرأ حديثا آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام يقول فيه : «إنّ غنائم بدر كانت للنّبي خاصّة فقسمها بينهم تفضلا منه»(٢) .

ونستنتج ممّا ذكر آنفا أنّ مفهوم الأنفال أساسا لا يقتصر على غنائم الحرب فحسب ، بل يشمل جميع الأموال التي ليس لها مالك خاص ، وهذه الأموال جميعها لله وللرسول ولمن يلي أمره ويخلفه ، وبتعبير آخر : إنّ هذه الأموال للحكومة الإسلاميّة ، وتصرف في منافع المسلمين العامّة.

غاية ما في الأمر أنّ قانون الإسلام في غنائم الحرب والأموال المنقولة التي تقع في أيدي المقاتلين المسلمين عند القتال ـ كما سنفصل ذلك في هذه السورة ـ مبنيّ على أن يعطى أربعة أخماسها ـ ترغيبا ـ للمقاتلين المسلمين وتعويضا عن أتعابهم ، ويصرف خمسها في المصارف التي أشارت إليها الآية

__________________

(١) كنز العرفان ، ج ١ ، ص ٢٥٤.

(٢) المصدر السابق.

٣٥٧

(٤١) من هذه السورة.

وعلى هذا الأساس فإنّ الغنائم داخلة في مفهوم الأنفال العام ، وهي في الأصل ملك الحكومة الإسلامية ، وإعطاء أربعة أخماسها للمقاتلين عطية وتفضل منها.

٢ ـ قد يتصور أنّ الآية محل البحث «بناء على شمولها غنائم الحرب أيضا» تتنافى والآية ٤١ من هذه السورة التي تقول :( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ) وسائر المصارف. لأنّ مفهومها أنّ أربعة الأخماس الباقية هي للمقاتلين المسلمين.

إلّا أنّه مع ملاحظة ما ذكرناه آنفا يتّضح أنّ غنائم الحرب في الأصل كلها لله وللرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإعطاء أربعة أخماسها للمقاتلين نوع من التفضل والهديّة ، وبتعبير آخر : إنّ الحكومة الإسلامية تهب أربعة الأخماس من حقها إلى المجاهدين ، فلا يبقى عندئذ أي تناف بين الآيتين.

ويتّضح أيضا أن آية الخمس لا تنسخ أية الأنفال ، ـ كما تصوّر ذلك بعض المفسّرين ـ بل كلّ منهما باق على قوّته!

٣ ـ كما قرأنا في شأن النّزول آنفا ، أنّ مشاجرة وقعت بين بعض الأنصار في شأن غنائم الحرب ، وقطعا لهذه المشاجرة فقد نفت الآية أن تكون الغنائم لغير الله والرّسول ثمّ أمرت المسلمين بإصلاح ذات البين.

وأساسا فإنّ إصلاح ذات البين وإيجاد التفاهم وقلع الكدر والبغضاء من صدور المسلمين ، وتبديل كل ذلك بالمحبّة ، يعدّ من أهم الأغراض الإسلامية.

وكلمة «ذات» تعني الخلقة والبنية وأساس الشيء ، والبين يعني حالة الارتباط والعلاقة بين شخصين أو شيئين. فبناء على هذا فإنّ إصلاح ذات البين يعني إصلاح أساس الارتباطات ، وتقوية العلاقات وتحكيمها ، وإزالة عوامل التفرقة والنفاق.

٣٥٨

وقد أولت التعاليم الإسلامية عناية فائقة لهذا الموضوع حتى عدته من أفضل العبادات.

يقول أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في آخر وصاياه ـ عند ما عممه ابن ملجم بالسيف ـ لولديه «إنّي سمعت جدّكما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إصلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام»(١) .

وجاء عن الإمام الصادقصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتاب الكافي أنّه قال : «صدقة يحبّها الله إصلاح بين النّاس إذا تفاسدوا ، وتقارب بينهم إذا تباعدوا»(٢) .

كما ورد عنهعليه‌السلام في الكتاب آنف الذكر ذاته أنّه قال للمفصل : «إذا رأيت بين اثنين من شيعتنا منازعة فافتدها من مالي»(٣) .

ولهذا نقرأ في بعض الرّوايات عن أبي حنيفة سابق الحاجّ قال : مرّ بنا المفضّل وأنا وختني نتشاجر في ميراث ، فوقف علينا ساعة ثمّ قال لنا : تعالوا إلى المنزل فأتيناه فأصلح بيننا بأربعمائة درهم فدفعها إلينا من عنده حتّى إذا استوثق كلّ واحد منّا من صاحبه ، قال أمّا إنّها ليست من مالي ولكن أبو عبد اللهعليه‌السلام أمرني إذا تنازع رجلان من أصحابنا في شيء أن أصلح بينهما وأفتديها من ماله ، فهذا من مال أبي عبد اللهعليه‌السلام (٤) .

والسبب في كل هذا التأكيد في المسائل الاجتماعية يتجلى بقليل من التأمل ، لأنّ عظمة الأمّة وقدرتها وعزّتها لا يمكن تحقيقه إلّا في ظل التفاهم والتعاون. فإذا لم يتمّ إصلاح ذات البين ، ولم تطو الخلافات الصغيرة والمشاجرات ، تنفذ جذور العداوة والبغضاء في القلوب تدريجا ، وتتحول الأمّة

__________________

(١) نهج البلاغة.

(٢) الحديثان ١ و ٢ من أصول الكافي باب إصلاح بين الناس.

(٣) المصدر السابق.

(٤) المصدر السابق.

٣٥٩

القوية المتحدة إلى جماعات متفرقة متناحرة ، وتضعف أمام الأعداء والحوادث ، كما يحدق الخطر بالمسائل العبادية في مثل هذه الأمّة من صلاة وصيام ، وحتى بحيثية القرآن و (موجوديته).

ولذلك فقد أوجبت الشريعة الإسلامية إصلاح ذات البين في بعض مراحله ، وجازت الإنفاق من بيت المال لتحقق هذا الأمر ، وندبت إلى ذلك في مراحله الأخرى التي لا تتعلق بمصير المسلمين مباشرة ، وعدت ذلك مستحبا مؤكّدا

* * *

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606