الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل3%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245173 / تحميل: 6211
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

الآيات

( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) )

التّفسير

خمس صفات خاصّة بالمؤمنين :

كان الكلام في الآية السابقة عن تقوى الله وطاعته وطاعة رسوله بعد المشاجرة اللفظية بين بعض المسلمين في شأن الغنائم.

وإكمالا لهذا الموضوع فالآيات ـ محل البحث ـ تذكر صفات المؤمنين بحق في عبارات موجزة غزيرة المعنى.

فيشير الذكر الحكيم في هذه الآيات إلى خمس صفات بارزة في المؤمنين : ثلاث منها ذات جانب معنوي وروحاني وباطني ، واثنتين منها لها جانب عملي

٣٦١

وخارجي فالثلاث الأولى عبارة عن «الإحساس بالمسؤولية» و «الإيمان» و «التوكل».

والاثنتان الأخريان هما الارتباط بالله ، والارتباط بخلق الله سبحانه.

فتقول الآيات أوّلا :( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ) .

و «الوجل» حالة الخوف التي تنتاب الإنسان ، وهو ناشئ عن أحد أمرين : فقد ينشأ عند إدراك المسؤولية واحتمال عدم القيام بالوظائف اللازمة التي ينبغي على الإنسان أداؤها بأكمل وجه امتثالا لأمر الله تعالى.

وقد ينشأ عند إدراك عظمة مقام الله ، والتوجه إلى وجوده المطلق الذي لا نهاية له ، ومهابته التي لا حدّ لها.

وتوضيح ذلك : قد يتفق للإنسان أن يمضي لرؤية شخص عظيم هو ـ بحق ـ جدير بالعظمة من جميع الجوانب ، فالإنسان الذي يمضي لرؤيته قد يقع تحت تأثير ذلك المقام وتلك العظمة ، بحيث يحس بنوع من الرهبة في داخله ويضطرب قلبه حتى أنّه لو أراد الكلام لتعلثم ، وقد ينسى ما أراد أن يقوله ، حتى لو كان ذلك الشخص يحب هذا الإنسان ويحب الآخرين جميعا ولم يصدر عنه ما يدعو إلى القلق.

فهذا الخوف والاضطراب أو المهابة مصدرها عظمة ذلك الشخص ، يقول القرآن الكريم في هذا الصدد :( لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ) (١) .

كما نقرأ في آية أخرى من قوله تعالى :( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) (٢) .

وهكذا فإن العلاقة قائمة بين العلم والخوف أيضا ، وبناء على ذلك فمن

__________________

(١) الحشر ، ٢١.

(٢) فاطر ، ٢٨.

٣٦٢

الخطأ أن نعدّ أساس الخوف والخشية عدم أداء الوظائف المطلوبة فحسب.

ثمّ تبيّن الآية الصفة الثّانية للمؤمنين فتقول :( وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً ) .

إنّ النمو والتكامل من خصائص جميع الموجودات الحية ، فالموجودات الفاقد للنمو والتكامل إمّا أن يكون ميتا أو في طريقه إلى الموت. والمؤمنون حقّا لهم إيمان حيّ ينمو غرسه يوما بعد يوم بسقيه من آيات الله ، وتفتح أزهاره وبراعمه ، ويؤتي ثماره أكثر فأكثر ، فهم ليسوا كالموتى من الجمود وعدم التحرك ، ففي كل يوم جديد يكون لهم فكر جديد وتكون صفاتهم مشرقة جديدة وهذه الدّرجات مبهمة لم يعين مقدارها وميزانها ، وهذا الإبهام يشير إلى أنّها درجات كريمة عالية.

وللمؤمنين إضافة لدرجاتهم رحمة من الله ومغفرة ورزق كريم.

والحق أنّنا ـ نحن المسلمين ـ الذين ندّعي الإسلام وقد نرى أنفسنا أولي فضل على الإسلام والقرآن ، نتهم القرآن والإسلام جهلا بأنّهما سبب التأخر والانحطاط ، وترى لو أنّنا طبقنا فقط مضامين هذه الآيات محل البحث على أنفسنا والتي تمثل صفات المؤمنين بحق ، ولم نتكل على هذا وذاك ، وأن نطوي كل يوم مرحلة جديدة من الإيمان والمعرفة ، وأن نحس دائما بالمسؤولية لتقوية علاقتنا بالله وبعباده فننفق ما رزقنا الله في سبيل تقدم المجتمع ، أنكون بمثل ما نحن عليه اليوم؟!

وينبغي ذكر هذا الموضوع أيضا ، وهو أنّ الإيمان ذو مراحل ودرجات ، فقد يكون ضعيفا في بعض مراحله حتى أنّه لا يبدو منه أي شيء عملي مؤثر ، أو يكون ملوّثا بكثير من السيّئات. إلّا أنّ الإيمان المتين الراسخ من المحال أن يكون غير بناء أو غير مؤثر وما يراه البعض من أن العمل ليس جزءا من الإيمان ، فلاقتصارهم على أدنى مراحل الإيمان.

* * *

٣٦٣

الآيتان

( كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) )

التّفسير

قرأنا في الآية الأولى من هذه السورة أنّ بعض المسلمين من جديدي العهد بالإسلا ، كانوا غير راضين عن كيفية تقسيم غنائم معركة بدر (إلى حد ما).

ففي الآيتين محل البحث يقول الله سبحانه لأولئك : هذه ليست أوّل مرّة تكرهون شيئا مع أنّه فيه صلاحكم كما كان الأمر في أساس غزوة بدر وكانوا غير راضين بادئ الأمر ، إلّا أنّهم رأوا كيف تمت هذه المعركة لصالح الإسلام والمسلمين.

فإذن لا ينبغي أن تقوّم أحكام الله بالنظرات الضيقة المحدودة ، بل ينبغي الانصياع والتسليم لها ليستفاد من نتائجها النهائية.

تقول الآية الأولى من الآيتين محل البحث : إنّ عدم رضا بعض المسلمين في شأن تقسيم الغنائم يشبه عملية إخراجك من مكّة وعدم رضى بعض المؤمنين

٣٦٤

بذلك :( كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ ) .

والتعبير بالحق إشارة إلى أنّ أمر الخروج كان طبقا لوحي الإلهي ودستور سماوي ، وكانت نتيجته الوصول إلى الحق واستقرار المجتمع الإسلامي ، إلّا أنّ هؤلاء الأفراد لا يرون إلّا ظواهر الأمور ، ولهذا :( يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ) .

إلّا أنّ الحوادث التالية كشفت لهم عن خطئهم في حساباتهم ، وأنّ خوفهم وقلقهم دونما أساس ، وأنّ هذه المعركة (معركة بدر) حققت للمسلمين انتصارات مشرقة ، فمع رؤية مثل هذه النتائج علام يجادلون في الحق وتمتد ألسنتهم بالاعتراض؟!

والتعبير ب( فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) يكشف ضمنا ـ أوّلا ـ أن هذا التشاجر أو المحاورة لم تكن عن نفاق أو عدم إيمان ، بل عن ضعف الإيمان وعدم امتلاك النظرة الثاقبة في المسائل الإسلامية.

وثانيا : إنّ الذين جادلوا في شأن الغنائم كانوا قلّة وفريقا من المؤمنين ، غير أنّ بقيتهم وغالبيتهم أذعنوا لأمر رسول الله واستجابوا له.

* * *

٣٦٥

الآيتان

( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨) )

غزوة بدر أوّل مواجهة مسلحة بين الإسلام والكفر

لما كانت الآيات السابقة قد أشارت إلى معركة بدر ، فإنّ الآيتين أعلاه وما بعدهما من الآيات قد أماطت اللثام عن جوانب مهمّة وحساسة في تلك المعركة ليستلهم المسلمون من هذه الآيات الحقائق التي مرّت بهم في الماضي القريب ، ويجعلوها أمام أعينهم للعبرة والاتعاظ.

ولإيضاح الآيتين محل البحث والآيات التّالية ، من المناسب أن نلقي الضوء على ما جرى في هذه المعركة الحاسمة ، وكيف كانت هذه المواجهة المسلحة الأولى وهذا الجهاد الإسلامي بوجه العدوّ اللدود؟ لتتجلى لنا دقائق الأمور ولطائف ما أشارت إليه الآيات الكريمة في شأن معركة بدر الكبرى.

بدأت معركة بدر ـ طبقا لما يقول المؤرخون والمحدّثون والمفسّرون ـ حين

٣٦٦

كان أبو سفيان كبير مكّة عائدا بقافلة تجارية مهمّة مؤلفة من أربعين شخصا ، وتحوي على ثروة تجارية تقدّر بخمسين ألف دينار من الشام نحو المدينة.

فأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه أن يتعبأوا ويتهيئوا لمواجهة هذه القافلة الكبيرة التي تحمل جل رأس مال العدوّ معها ، وبمصادرة أموال القافلة لتوجيه ضربة اقتصادية نحو العدوّ وتعقبها ضربة عسكرية قاصمة.

وكان للنّبي وأصحابه الحق في مثل هذه الحملة أو الهجوم ، لأنّه ـ أوّلا ـ عند ما هاجر المسلمون من مكّة نحو المدينة استولى أهل مكّة على كثير من أموالهم ، ونزلت بهم خسارة كبيرة. فكان لهم الحق أن يجبروا مثل هذه الخسارة.

ثمّ بعد هذا كلّه برهن أهل مكّة طيلة الثلاثة عشر عاما التي أقام النّبي وأصحابه بمكّة خلالها أنّهم لا يألون جهدا في إيذاء النّبي وأصحابه ، بل أرادوا به الوقيعة والمكيدة ، فإنّ عدوّا كهذا لن يسكت عن النّبي ودعوته بمجرّد هجرته إلى المدينة ، ومن المسلم به أنّه سيعبئ قواه في المستقبل لمواجهة النّبي والإيقاع به.

إذن فالعقل والمنطق يوجبان أن يسارع المسلمون بمبادرة عاجلة لمصادرة أموال أهل مكّة لتدمير دعامتهم الاقتصادية ، وليوفروا على أنفسهم إمكانية التهيؤ العسكري والاقتصادي لمواجهة العدو مستقبلا.

وهذه المبادرة كانت ولا تزال في جميع الخطط العسكرية قديمها وحديثها وأمّا من يرى أن توجّه النّبي نحو قافلة أبي سفيان ـ ودون الأخذ بنظر الإعتبار هذه الجهات المشار إليها آنفا ـ نوعا من الإغارة ، فإمّا أن يكون جاهلا لا يعرف جذور المسائل التأريخية في الإسلام أو أنّه مغرض يريد تحوير الواقعيات والثوابت التاريخية.

وعلى كل حال ، فإنّ أبا سفيان عرف عن طريق أتباعه وأصدقائه تصميم النّبي على مواجهة قافلته ، هذا من جهة ، كما أنّ القافلة حينما كانت متجهة نحو الشام للإتيان بمال التجارة تعرضت لتحركات من هذا القبيل. لهذا فإنّ أبا سفيان

٣٦٧

أرسل من يمضي إلى مكّة بسرعة ليخبر أهلها بما سيؤول إليه أمر القافلة.

فمضى رسول أبي سفيان بحالة مثيرة كما أوصاه أبو سفيان ، إذ خرم أنف بعيره وبتر أذنيه والدماء تسيل على وجه البعير لهيجانه ، وقد شقّ ثوبه ـ أو طمريه ـ وركب بعيره على خلاف ما يركب الناس «إذ ظهره كان إلى رقبة البعير ووجهه إلى عجزه» ليلفت الناس إليه من كل مكان. فلما دخل مكّة أخذ يصرخ قائلا : أيّها الناس الأعزة ، أدركوا قافلتكم ، أدركوا قافلتكم وأسرعوا وتعجلوا إليها ، وإن كنت لا أعتقد أنّكم ستدركونها في الوقت المناسب ، فإنّ محمّدا ورجالا مارقين من دينكم قد خرجوا من المدينة ليتعرضوا لقافلتكم.

وكانت عاتكة بنت عبد المطلب عمّة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آنئذ قد رأت رؤيا موحشة عجيبة ، وقد تناقلت الأفواه رؤياها فيزداد الناس هيجانا.

وكانت عاتكة قد رأت قبل ثلاثة أيّام من مجيء رسول أبي سفيان إلى مكّة ، أنّ شخصا يصرخ : أيّها الناس تعجّلوا إلى قتلاكم ، ثمّ صعد هذا المنادي إلى أعلى جبل أبي قيس وأخذ حجرا كبيرا فرماه فتلاشى الحجر في الهواء ، ولم يبق بيت في مكّة لقريش إلّا نزل فيه منه شيء ، كما أن وادي مكّة يجري دما عبيطا.

فلمّا استيقظت فزعة مرعوبة من نومها وقصّت رؤياها على أخيها العباس ، ذهل الناس لهول هذه الرؤيا.

لكن أبا جهل لما بلغه ذلك قال : ما رأت عاتكة رؤيا ، هذه نبيّة ثانية في بني عبد المطلب ، وباللات والعزّى لننظرن ثلاثة أيّام ، فإن كان ما رأت حقّا فهو كما رأت ، وإن كان غير ذلك لنكتبنّ بيننا كتابا : أنّه ما من أهل بيت من العرب أكذب رجالا ونساء من بني هاشم.

ولكن لم يكد يمضي اليوم الثّالث حتى كان ما من أمر ذلك الرجل الذي هزّ مكّة وأهلها.

ولما كان أكثر أهل مكّة شركاء في هذه القافلة فقد تعبئوا بسرعة وتحركوا

٣٦٨

نحو القافلة بحوالي ٩٥٠ مقاتلا و ٧٠٠ بعير ومائة فرس ، وكان أبو جهل يقود هذا الجيش. ومن جهة أخرى ولكي يسلم أبو سفيان من تعرض النّبي وأصحابه لقافلته ، فقد غير مسيره واتجه نحو مكّة بسرعة.

وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قارب بدرا في نحو من ثلاثمائة وثلاث عشر رجلا كانوا يمثلون رجال الإسلام آنئذ «وبدر منطقة ما بين مكّة والمدينة» وقد بلغه خبر تهيؤ أبي جهل ومن معه لمواجهته.

فتشاور النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أصحابه : هل يلحقون القافلة ويصادرون أموالها ، أو أن عليهم أن يتهيئوا لمواجهة جيش العدوّ؟ فقالت طائفة من أصحابه : نقاتل عدوّنا ، وكرهت طائفة أخرى ذلك وقالت : إنما خرجنا لمصادرة أموال القافلة.

ودليلها معها ، إذ أنّها لم تخرج إلّا لهذا السبب (من المدينة) ولم يكن النّبي وأصحابه عازمين على مواجهة جيش أبي جهل ولم يتعبأوا لذلك ، في حين أن أبا جهل قد تعبأ لهم ويريد قتالهم.

وقد ازداد هذا التردد بين الطائفتين ، خاصّة بعد أن عرف أصحاب النّبي أنّ جيش العدوّ ثلاثة أضعافهم وتجهيزاته أضعاف تجهيزاتهم ، إلّا أنّ النّبي بالرغم من كل ذلك قبل بالقول الأوّل «أي قتال العدوّ» فلما التقى الجيشان لم يصدق العدوّ أن المسلمين قد وردوا الميدان بهذه القلّة ، بل ظن العدوّ أنّهم مختبئون وأنّهم سيحدقون به عند المواجهة ، لذلك فقد أرسل شخصا ليرصد الأمور فرجع وأخبرهم بأنّ المسلمين ليسوا أكثر ممّا رأوهم.

ومن جهة أخرى ـ كما أشرنا آنفا ـ فإنّ طائفة من المسلمين كانت في قلق واضطراب وكانت تصرّ على عدم مواجهة هذا الجيش اللجب ، إذ لا موازنة بين أصحاب النّبي وأصحاب أبي جهل! لكن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طمأنهم بوعد الله وقال : «إنّ الله وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف الله الميعاد» قافلة قريش أو جيش قريش ، ولن يخلف الله وعده ، فوالله لكأنّي أرى مصرع أبي جهل وجماعة من

٣٦٩

أصحابه بعينيّ.

ثمّ أمر النّبي أن ينزل أصحابه إلى بئر بدر «وبدر في الأصل اسم رجل من قبيلة جهينة حفر بئرا في ذلك الموضوع فسميّت باسمه ، وسمّيت الأرض بأرض بدر أيضا».

وفي هذه الأثناء استطاع أبو سفيان أن يفرّ بقافلته من الخطر المحدق به ، واتّجه نحو مكّة عن طريق ساحل البحر الأحمر غير المطروق ، وأرسل رسولا إلى قريش : إنّ الله نجيّ قافلتكم ، ولا أظن أنّ مواجهة محمّد في هذا الظرف مناسبة ، لأنّ له أعداء يكفونكم أمره. إلّا أنّ أبا جهل لم يرض باقتراح أبي سفيان وأقسم باللات والعزّى أنّه سيواجه محمّدا ، بل سيدخل المدينة لتعقيب أصحابه أو؟؟؟ سيأسرهم جميعا ويمضي بهم لمكّة ، حتى يبلغ خبر هذا الإنتصار آذان العرب.

وأخيرا ورد جيش قريش أرض بدر وأرسلوا غلمانهم للاستقاء من ماء بدر ، فأسرهم أصحاب النّبي وأخذوهم للتحقيق إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسألهم النّبي : من أنتم؟ فقالوا : يا محمّد نحن عبيد قريش ، قال : كم القوم؟! فقالوا : لا علم لنا بعددهم ، قال : كم ينحرون في كل يوم جزورا؟ فقالوا : تسعة إلى عشرة.

فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : القوم تسعمائة الى ألف (كل مائة يأكلون بعيرا واحدا).

كان الجوّ مكفهرا بالرعب والوحشة ، إذ كان جيش قريش معبّأ مدججا بالسلاح ، ولديه المؤونة والعدّد ، حتى النساء اللائي ينشدن الأشعار والمغنيات اللائي يثرن الحماسة. وكان جيش أبي جهل يرى نفسه أمام طائفة صغيرة أو قليلة من الناس ، ولا يصدّق أنّهم سينزلون الميدان.

فلمّا رأي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أصحابه قلقون وربّما لا ينامون الليل من الخوف فيواجهون العدو غدا بمعنويات مهزورة قال لهم كما وعده الله : لا تحزنوا فإنّ كان عددكم قليلا فإنّ الله سيمدكم بالملائكة ، وسرّى عن قلوبهم حتى ناموا ليلتهم مطمئنين راجين النصر على عدوّهم.

٣٧٠

المشكلة الأخرى التي كان أصحاب النّبي يواجهونها ، هي أن أرض بدر كانت غير صالحة للنزال لما فيها من الرمال ، فنزل المطر تلك الليلة ، فأفاد منه أصحاب النّبي فاغتسلوا منه وتوضأوا وأصبحت الأرض صلبة صالحة للنزال ، العجيب في ذلك أنّ المطر كان في جهة العدوّ شديدا بحيث أربكهم وأزعجهم.

والخبر الجديد الذي حصل عليه أصحاب النّبي من جواسيسهم الذين تحسسوا ليلا حالة العدو أنّ جيش قريش مع كل تلك الإمكانات العسكرية في حالة من الرعب بمكانة لا توصف ، فكأنّ الله أنزل عليها جيشا من الرعب والوحشة.

وعند الصباح اصطفّ جيش المسلمين الصغير بمعنويات عالية ليواجهوا عدوّهم ، ولكن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إتماما للحجّة ولئلا يبقى مجال للتذرع بالذرائع الواهية ـ أرسل إلى قريش ممثلا عنه ليقول لهم : إنّ النّبي لا يرغب في قتالكم لا يحبّ أن تكونوا أوّل جماعة تحاربه. فوافق بعض قادة قريش على هذا الاقتراح ورغبوا في الصلح ، إلّا أنّ أبا جهل امتنع وأبى بشدّة.

وأخيرا اشتعلت نار الحرب ، فالتقى أبطال الإسلام بجيش الشرك والكفر ، ووقف حمزة عمّ النّبي وعلي ابن عمّ النّبي الذي كان أصغر المقاتلين سنّا وجها لوجه مع صناديد قريش وقتلوا من بارزهم فانهار ما تبقى من معنويات العدوّ ، فأصدر أبو جهل أمرا عاما بالحملة ، وكان قد أمر بقتل أصحاب النّبي من أهل المدينة «الأنصار» وأن يؤسر المهاجرون من أهل مكّة. فقال النّبي لأصحابه : «غضّوا أبصاركم وعضو على نواجذ ولا تستلوا سيفا حتى آذان لكم».

ثمّ مدّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يديه إلى الدعاء ، ورفع بهما نحو السماء فقال : «يا ربّ إن تهلك هذه العصابة لم تعبد وإن شئت أن لا تعبد لا تعبد ...»

فهبت ريح عاصف الى العدوّ ، وكان المسلمون يحملون على عدوّهم والرياح تهب من خلفهم بوجه العدوّ ، وأثبت المسلمون جدارة فائقة وصمدوا

٣٧١

للقتال حتى قتلوا منهم سبعين «وأبو جهل من القتلى» وأسروا سبعين ، وانهزم الجمع وولّوا الدبر ، ولم يقتل من المسلمين إلّا نفر قليل ، وكانت هذه المعركة أوّل مواجهة مسلحة بين المسلمين وعدوّهم من قريش ، وانتهت بالنصر الساحق للمسلمين على عدوّهم(١) .

التّفسير

والآن وبعد أن عرفنا باختصار كيف كانت غزوة بدر ، نعود ثانية إلى تفسير الآيتين.

في الآية الأولى ـ من الآي محل البحث ـ إشارة إلى وعد الله بالنصر في معركة بدر إجمالا ، إذ تقول الآية :( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ ) .

لكنكم لخوفكم من الخسائر واخطار وبلايا الحرب لم تكونوا راغبين فيها( وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ) .

وقد جاء في بعض الرّوايات الإسلامية أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لهم : «إحدى الطائفتين لكم ، إمّا العير وإمّا النفير».

وكلمة العير تعني القافلة ، والنفير يعني الجيش.

إلّا أنّه ـ كما يلاحظ في الآية الكريمة ، أنّ التعبير جاء بذات الشكوكة مكان الجيش والنفير ، وبغير ذات الشوكة مكان القافلة أو العير.

وهذا التعبير يحمل في نفسه معنى لطيفا ، لأنّ الشوكة ترمز إلى القدرة وتعني الشدّة ، وأصلها مأخوذ من الشوك ، ثمّ استعملت هذه الكلمة «الشوكة» في نصول الرماح ، ثمّ أطلق هذا الاستعمال توسعا على كل نوح من الأسلحة ، ولما كان السلاح يمثل القوّة والقدرة ، والشدّة فقد عبر عنه بالشوكة.

__________________

(١) لمزيد من الإيضاح يراجع تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ١٢١ إلى ١٣٦ ومجمع البيان ج ٤ ، ص ٥٢١ ، ٥٢٣ ، وما ذكرناه بتصرف واختصار.

٣٧٢

فبناء على هذا فإنّ ذات الشوكة تعني الجماعة المسلحة ، وغير ذات الشوكة تعني الجماعة غير المسلحة ، ولو اتفق أن يوجد فيها رجال مسلحون فهم معدودون لا يكترث بهم. أي أن فيكم من يرغب في مواجهة العدو غير مسلحة ، وذلك بمصادرة أموال تجارته ، وذلك ابتغاء الراحة أو حبّا منه للمنافع المادية ، في حين أن الحرب أثبتت بعد تمامها أن الصلاح يكمن في تحطيم قوى العدو العسكرية ، لتكون الطريق لا حبة لانتصارات كبيرة في المستقبل ، ولهذا فإنّ الآية تعقب بالقول( وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ ) (١) .

فعلى هذا ، كانت واقعة بدر درسا كبير للمسلمين للإفادة منه في الحوادث الآتية ، ويؤكّد لهم أن يتدبروا عواقب الأمور ، ولا يكونوا سطحيين يأخذون بالمصالح الآنية ، وبالرغم من أنّ بعد النظر يقترن بالمصاعب عادة ، وقصر النظر على العكس من ذلك يقترن بالمنافع المادية والراحة المؤقتة ، إلّا أنّ النصر في الحالة الأولى يكون شاملا ومتجذّرا ، أمّا في الحالة الثّانية فهو انتصار سطحي موقت.

ولم يكن هذا درسا لمسلمي ذلك اليوم فحسب ، بل ينبغي لمسلمي اليوم أن يستلهموا من ذلك التعليم السماوي ، فعليهم ألّا يغضوا أبصارهم عن المناهج الأصولية بسبب المشاكل والأتعاب ويستبدلوها بمناهج غير الأصولية قليلة الأتعاب.

وفي آخر آية يماط اللثام عن الأمر بصورة أجلى ، إذ تقول الآية الكريمة( لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ) .

ترى هل الآية هذه تأكيد لما ورد في الآية السابقة ، كما يبدو لأوّل وهلة ، أم هو موضوع جديد تتضمنه الآية؟!

__________________

(١) الدابر بمعنى ذيل الشيء وعقبه ، فبناء على هذا يكون معنى «ويقطع دابر الكافرين» هو استئصال جذورهم.

٣٧٣

قال بعض المفسّرين ، كالفخر الرّازي في تفسيره الكبير ، وصاحب المنار : إنّ الحقّ في الآية المتقدمة إشارة لانتصار المسلمين في معركة بدر ، إن الحقّ في الآية محل البحث ، «الثّانية» إشارة لانتصار الإسلام والقرآن الذي كان نتيجة الإنتصار العسكري في معركة بدر ، وهكذا فإنّ الإنتصار العسكري ـ في تلك الظروف الخاصّة ـ مقدمة لانتصار الإسلام والمسلمين.

كما يرد هذا الاحتمال ، وهو أن الآية السابقة تشير إلى إرادة الله «الإرادة التشريعية» التي كانت جلية في أوامر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والآية الثّانية تشير إلى نتيجة هذا الحكم والأمر (فلاحظوا بدقة!)

* * *

٣٧٤

الآيات

( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ) ( ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤) )

٣٧٥

التّفسير

دروس مفيدة من ساحة المعركة :

إنّ هذه الآيات تتحدث عن اللحظات الحساسة من واقعة بدر ، والألطاف الإلهية الكثيرة التي شملت المسلمين لتثير في نفوسهم الإحساس بالطاعة والشكر ، ولتعبيد الدرب نحو انتصارات المستقبل.

وتشير ابتداء لإمداد الملائكة فتقول :( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ ) .

جاء في بعض الرّوايات أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يستغيث ويدعو ربّه مع بقية المسلمين ، وقد رفع يديه نحو السماء قائلا : «اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إنّ تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض)(١) .

وعند ذلك( فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ) .

وكلمة (مردفين) من (الإرداف) بمعنى اتّخاذ محل خلف الشيء فيكون مفهومها أنّ الملائكة كانت تتابع بعضها بعضا في النّزول لنصرة المسلمين.

واحتمل معنى آخر في الآية ، وهو أنّ مجموعة الألف من الملائكة كانت تتبعها مجموعات أخرى ، ليتطابق هذا المعنى والآية (١٢٤) من سورة آل عمران ، والتي تقول عن لسان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ ) .

إلّا أنّ الظاهر أنّ عدد الملائكة في بدر هو الألف ، وكلمة مردفين صفة هذا الألف. وآية سورة آل عمران كانت وعدا للمسلمين في أنزال ملائكة أكثر لنصرة المسلمين إذا ما اقتضى الأمر.

ولئلا يعتقد بعض بأنّ النصر كان بيد الملائكة فحسب ، فإنّ الآية تقول :( وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ

__________________

(١) مجمع البيان ، ذيل الآية.

٣٧٦

حَكِيمٌ ) . لأنّ الله عزيز ومقتدر لا يستطيع أحد الوقوف مقابل إرادته ، وحكيم لا ينزل نصرته إلّا للأفراد الصالحين والمستحقين لذلك.

هل قاتلت الملائكة؟

لقد جرى البحث في هذه المسألة كثيرا بين المفسّرين ، فبعضهم يرى أنّ الملائكة دخلت ساحة القتال وهاجمت الأعداء بأسلحتها الخاصّة ، وقتلت بعضهم. ونقلت بعض الرّوايات في تأييد ذلك.

إلّا أنّ القرائن تؤيد الرأي الذي يقول : إنّ الملائكة نزلت لتطمئن قلوب المؤمنين ، ويزداد عزمهم ، وهذا الرأي أقرب إلى الواقع لعدّة أدلة :

أوّلا : لقد قرأنا في الآية قوله تعالى :( وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ ) فإذا ما علم المسلمون بهذا المدد فإنّهم يقاتلون بصورة أفضل ، لا أن الملائكة شاركت في الحرب.

ثانيا : إذا كانت الملائكة هي التي قتلت جنود الأعداء ، فأيّة فضيلة للمجاهدين في معركة بدر وما ورد عن مقامهم ومنزلتهم من روايات كثيرة؟

ثالثا : كان عدد المقتولين في بدر هو (٧٠ نفرا) وقد كان الكثير منهم قد سقط بسيف عليعليه‌السلام ، والقسم الآخر بيد المقاتلين الآخرين ، وهؤلاء معروفون بأسمائهم في التاريخ ، فبناء على ذلك ـ من الذي ـ بقي لتقتله الملائكة؟!

ثمّ تذكر الآية النعمة الثّانية التي اكتنفت المؤمنين فتقول :( إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ ) .

و (يغشى) من مادة (الغشيان) بمعنى تغطية الشيء وإحاطته. فكأنّ النوم كالغطاء الذي وضع عليهم فغطّاهم.

و (النعاس) يطلق على بداية النوم ، أو النوم القليل أو الخفيف الناعم ولعلها إشارة إلى أنّه بالرغم من هدوئكم النفس لم يأتكم نوم عميق يمكّن الأعداء من

٣٧٧

استغلاله والهجوم عليكم. وهكذا استفاد المسلمون من هذه النعمة العظيمة من تلك الليلة.

والرحمة الثّالثة التي وصلتكم هي :( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ ) .

وهذا الرّجز قد يكون وساوس الشيطان ، أو رجزا بدنيا كجنابة بعضهم ، أو الأمرين معا. وعلى أية حال ، فإنّ الماء ملأ الوديان من أطراف بدر بعد أن استولى الأعداء على آبار بدر وكان المسلمون بحاجة ماسة للغسل ورفع العطش ، فإذا هذا الماء قد ذهب بكل تلك الأرجاس.

ثمّ أنّ الله تعالى أراد بذلك تقوية معنويات المسلمين وكذلك تثبيت الرمال المتحركة تحت أقدامهم بواسط المطر :( وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ ) ويمكن أن يكون المراد من تثبيت الأقدام هو رفع المعنويات وزيادة الثبات والاستقامة ببركة تلك النعمة ، أو إشارة إلى هذين الأمرين.

والنعمة الأخرى التي أنعمها الله على المجاهدين في بدر ، هي الرعب الذي أصاب به الله قلوب أعدائهم ، فزلزل معنوياتهم بشدة ، فيقول تعالى( إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ) .

( سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ) .

وإنّه لمن العجب والغرابة أن ينهار جيش قريش القوي أمام جيش المسلمين القليل ، وأن تذهب معنوياتهم ـ كما ينقل التاريخ ـ بصورة يخاف معها الكثير منهم من منازلة المسلمين ، وحتى أنّهم كانوا يفكرون بأنّ المسلمين ليسوا أشخاصا مألوفين ، وكانوا يقولون بأنّ المسلمين قد جاؤوكم من قرب يثرب (المدينة) بهدايا يحملونها على إبلهم هي الموت.

ولا شك أنّ هذا الرعب الذي أصاب قلوب المشركين ، والذي كان من عوامل النصر ، لم يكن جزافا ، فلقد أثبت المسلمون شجاعتهم وأقاموا صلاة

٣٧٨

الجماعة ، وكانت شعارتهم قوية. فإظهار المؤمنون الصادقين وفاءهم وخطبة بعضهم مثل سعد بن معاذ نيابة عن الأنصار أمام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلا : «بأبي أنت وأمّي ، يا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّنا قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أنّ ما جئت به حق من عند الله فمرنا بما شئت وخذ من أموالنا ما شئت ، واترك منه ما شئت والذي أخذت منه أحبّ إليّ من الذي تركت منه ، والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضنا معك إنّنا لنرجوا أن يقرّ اللهعزوجل عينيك بنا ...».

مثل هذا الحديث سرعان ما انتشر بين الأعداء والأصدقاء ، أضف إلى ذلك ما رآه المشركون من ثبات راسخ عند المسلمين يوم كانوا في مكّة رجالا ونساء.

اجتمعت كل هذه الأمور لترسم صورة الخوف عند المشركين.

ثمّ الريح العاتية التي كانت تهب على المشركين والمطر الشديد عليهم والخواطر المخفية لرؤيا (عاتكة) في مكّة ، وغيرها من العوامل التي كانت تبعث فيهم الخوف والهلع الشديد.

ثمّ آن القرآن يذكّر المسلمين بالأمر الذي أصدره النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمسلمين بأنّ عليهم اجتناب الضرب غير المؤثر في المشركين ، حال القتال لئلا تضيع قوتهم فيه ، بل عليهم توجيه ضربات مؤثرة وقاطعة( فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ ) .

و (البنان) جمع (البنانة) بمعنى رؤوس أصابع الأيدي أو الأرجل ، أو الأصابع نفسها ، وفي هذه الآية يمكن أن تكون كناية عن الأيدي والأرجل أو بالمعنى الأصلي نفسه ، فإنّ قطع الأصابع من الأيدي يمنع من حمل السلاح ، وقطعها من الأرجل يمنع الحركة ، ويحتمل أن يكون المعنى هو إذا كان العدو مترجلا ، فيجب أن تكون الأهداف رؤوسهم ، وإذ كان راكبا فالأهداف أيديهم وأرجلهم.

كما أنّ بعضا يرى أنّ هذه الجملة هي خطاب للملائكة ، إلّا أنّ القرائن تدل

٣٧٩

على أنّ المخاطبين هم المسلمون ، وإذا كان الملائكة هم المخاطبين فيها فيمكن أن يكون الهدف من الضرب على الرؤوس والأيدي والأرجل ، هو إيجاد الرعب فيهم لترتبك أيديهم وأرجلهم فتسقط وتنحني رؤوسهم. (وبالطبع فإنّ هذا التّفسير يخالف الظاهر من العبارة ، ويجب إثباته بالقرائن تحدثنا عنها سابقا من مسألة عدم قتال الملائكة).

وبعد كل تلك الأحاديث ، ولكيلا يقول شخص بأنّ هذه الأوامر الصادقة تخالف الرحمة والشفقة وأخلاق الرجولة ، فإنّ الآية تقول :( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ ) .

و (شاقوا) من مادة (الشقاق) وهي في الأصل بمعنى الإنفطار والانفصال ، وبما أنّ المخالف أو العدوّ ويبتعد عن الآخرين فقد سمي عمله شقاقا :( وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ) .

ثمّ يؤكّد هذا الموضوع : ويقول : ذوقوا العذاب الدنيوي من القتل في ميدان الحرب والأسر والهزيمة السافرة ، ومع ذلك انتظروا عذاب الآخرة أيضا :( ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ ) .

* * *

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606