الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245331 / تحميل: 6213
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

وهكذا نلاحظ كثيراً من الأدلة القرآنية التي تؤيد هذا الأمر. إذن ما ذهب إليه الإمامية صحيح ، لا يخالف القرآن كما إدعاه البعض.

وبعد هذا البيان والدراسة في بحث (الغيب) ، ندخل في دراسة القصة الغيبية.

ب ـ أقسام القصة الغيبية :

سبق أن قلنا أنّ هذا النوع من القصص تعد أحداثها بتفاصيلها مصدرها الوحي ، فهذه القصص من قبيل الغيب الذي كشفه الله عَزّ وجَلّ لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي غيب سواء أكانت في الماضي أو المستقبل ، فعلى هذا يمكن تقسيم القصة الغيبية إلى ما يلي :

الأول ـ قصص الماضي :

يحتوي القرآن الكريم على كثير من علوم الغيب ، خصوصاً ما جرى على الأمم الماضية ، فعلى سبيل المثال ما جاء في قصة يوسف عليه السلام مع اخوته حيث أوحى الله سبحانه إلى يوسف في قوله تعالى :( لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ) [يوسف / ١٥]. ففي الآية غيب موحى إلى يوسف ، وكذلك غيب موحى إلى نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإخبار الوحي له بما حصل ليوسف عليه السلام وأكّد على ذلك في قوله تعالى :( ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ) [يوسف / ١٠٢]. إلى غير ذلك مما ذكره القرآن الكريم من أخبار الأمم الماضية ، فالقرآن ذكر تلك القصص على نحو الإختصار ، ثم جاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يوضحها ، فالملاحظ أنّ تلك القصص وما تضمنته من أحداث ليست في متناول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولم تحدث أمامه ، كما أنّه لم يُنشئها ولم يأخذها عن طريق غيره

١٠١

من المؤرخين ، بل مصدره الوحي ، وأخذ عنه أهل بيته عليهم السلام. «وذكر العلامة الجليل الورع الثقة النبيل ، السيد هاشم البحراني في كتابه (مدينة المعاجز) أكثر من ستمائة رواية في إخبارات الأئمة الإثني عشر صلوات الله عليهم»(١٠٥) .

الثاني ـ قصص المستقبل :

يتناول هذا اللون من القصص أموراً مختلفة كلها تتحدث عن أمور غيبية خاصة تحدث في الواقع ، ولو تأملنا ما ذكر في القرآن الكريم ، وعلى لسان النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لأمكن تقسيمه إلى ما يلي :

أولاً ـ أخبار تحققت في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) :

رأى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في المنام ـ وكان ذلك في المدينة المنورة قبل أن يخرج إلى الحديبية ـ أنّ المسلمين دخلوا المسجد الحرام ، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا وحسبوا أنّهم داخلوا مكة عامهم هذا ، فلما إنصرفوا ولم يدخلوا مكة ؛ قال المنافقون : ما حلقنا ولا قصرنا ولا دخلنا المسجد الحرام. فأنزل الله هذه الآية :( لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ) [الفتح / ٢٧]. وكان بين نزول الآية والدخول مدة سنة. وكان عام سبع للهجرة وتَمّ الفتح القريب من دونه ـ وهو صلح الحديبية ـ ، الذي كان مقدمة لفتح مكة سنة ثمان للهجرة.

ثانياً ـ أخبار تحققت بعد حياته :

وهذا ال نوع من القصص منه ما هو مشهور كأخبار آخر الزمان ، المسمى بـ(أحاديث الفتن والملاحم) ، ويندرج تحت هذا النوع كثير من الإخبارات ،

__________________

(١٠٥) ـ النمازي ، الشيخ علي الشاهرودي : مستدرك سفينة البحار ، ج ٨ / ٨٠.

١٠٢

كخبر الدابة التي تخرج للناس في آخر الزمان ، وقد جاء في القرآن الكريم خبرها في قوله تعالى :( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ) [النمل / ٨٢]. ومن أراد تفاصيل ذلك ؛ فليراجع كتب التفسير.

كما ورد على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدة إخبارات غيبية ، من أهمها ما يحل على أهل بيته عليهم السلام كإخباره بمقتل سبطه الحسين عليه السلام في كربلاء ، وقد ذكر منها ابن الأثير في ترجمة أنس بن الحارث حيث قال : «روى حديثه أشعث بن سحيم ، عن أبيه عن أنّه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : (إنّ ابني هذا يقتل بأرض من أرض ال عراق ، فمن أدركه فلينصره) ، فقتل مع الحسين عليه السلام»(١٠٦) .

وأيضاً إخباره عن الإمام المهدي عليه السالم ، وقد ذكرها علماء المسلمين ، لا ينكر ذلك إلا مكابر لا قيمة لرأيه.

ثالثاً ـ أخبار البعث والنشور :

لعلّ من أهم القضايا التي واجه بها نبينا الأعظم عليه السلام مشركي قريش قضية البعث والنشور ، فقد أنكر المشركون هذا الأمر باصرار عنيف ، واستغربوا من ذلك أشد الإستغراب ، وقد سجل القرآن الكريم هذا الإنكار في أكثر من آية ، منها ما يلي :

قوله تعالى :( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ ) [سبأ / ٧ ـ ٨].

__________________

(١٠٦) ـ ابن الاثير ، علي بن محمد : أسد الغابة ، ج ١ / ١٢٣.

١٠٣

وقوله تعالى :( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ) [الجاثية / ٢٤].

وقوله تعالى :( أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ *أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ *قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ *فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ ) [الصافات / ١٦ ـ ١٩].

وإزاء هذا الإنكار لهذه القضية ، إستخدم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم القصة في عرض البعث واليوم الآخر ، وأكّد على ذلك بأن نَزّل المستقبل منزلة الحار ، فهذه القصص في الوقت الذي تحمل الرد على المنكرين ، فإنّها تُؤكِّد الإيمان بالبعث والنشور ، كما أنّ هناك عاملاً جوهرياً يضاف إلى وجود هذا النوع من قصص العالم الآخر ، ووراء كثرته وتكراره أنّ ذلك العالم هو محل العقاب والثواب ، وقضية العقاب والثواب أساسية يتمد عليها منهج التربية في الشريعة الإسلامية ، من أجل قيام الإنسان المسلم على مبادئ دينه والإلتزام بها ، حيث سيظل وازع الإحساس بالمسؤولية ، ـ عما يقول أو يفعل ـ مائلاً أمامه من خلال تصوره لحياة أخرى يؤمن بأنّه سيجازي فيها على سلوكه ، على الخير بالخير في الجنة والنعيم ، وعلى الشر بالشر في النار والعذاب ، كما في قوله تعالى :( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) [الزلزلة / ٧ ـ ٨].

١٠٤

٣ ـ القصة الخيالية

أ ـ الخرافية

ب ـ التمثيلية

ج ـ الخيال العلمي

١٠٥
١٠٦

٢ ـ القصة الخيالية :

هي حكايات يبتدعها خيال المؤلف ، قد تكون نثراً أو نظماً ، والروايات والقصص القصيرة ، هي من أشهر أشكال قصص الخيال رواجاً ، وسمات هذه القصص أنّها تحتوي على عناصر خيالية ، إما كلياً أو جزئياً ، وهذه العناصر تشمل الشخصيات والأوضاع المحيطة ، وفي بعض قصص الخيال تكون العناصر الخيالية واضحة ـ أي بعيدة عن الواقع ـ مثل القصة الإطارية ، وهي قصة تروي في إطارها مجموعة من الحكايات ، ومن أحسن الأمثلة عليها قصة شَهْرَيَار الملك وشَهْرَزَاد في كتاب (ألف ليلة وليلة) ، ومع ذلك ليس من الضروري أن تختلف كثيراً عن الواقع ؛ إذ أنّ كثيراً من نماذج قصص الخيال تمثل شخصيات قريبة من الواقع ، وتصف أوضاعاً واقعية ، وبعض القصص ترتكز على شخصيات وحوادث حقيقية ، وتدمج عادة العناصر الواقعية في قصص الخيال مع الأوضاع والشخصيات والحوادث الخيالية ، والغرض الرئيس لمعظم قصص الخيال هو التسلية ، إلا أنّ هناك بعض الأعمال الجادة من قصص الخيال التي تحفز العقل وتدعو إلى التفكير عن طريق إيجاد الشخصيات ، ووضعها في مواقف محددة ، وتأسيس وجهات النظر ، ويقوم مؤلفو قصص الخيال الجادة بتوضيح الأحكام المميزة بين الأشياء ، وهذه الأحكام تتناول المسائل الأخلاقية والفلسفية والنفسية والإجتماعية ، ولعلّ أهم ما يمكن دراسته من أقسامها هي التالي :

أ ـ الخرافية :

الخُرافَة : «الحديث المستملح من الكذب. وقالوا : حديث خرافة ، ذكر إبن الكلبي في قولهم حديث خرافة أنّ خرافة من بني عُذْرَة أو من جُهَيْنَة ، إختطفته الجن ، ثم رجع إلى قومه فكان يُحدث بأحاديث مما رأى يعجب منها

١٠٧

الناس ، فكذبوه فجرى على ألسن الناس»(١٠٧) . وعُرِّفت الخرافة أيضاً بـ«معتقد لا عقلاني أو ممارسة لا عقلانية. والخرافات قد تكون دينية ، وقد تكون ثقافية أو إجتماعية. فمن الخرافات الدينية إيمان بعض المشلولين أو المقعدين ، بقدرة قديس بعينه أو قديسة بعينها على شفائهم.

ومن الخرافات الثقافية أو الإجتماعية ، إيمان كثير من الناس بأنّ الخرزة الزرقاء تدفع الشر ، وبأنّ نعل الفرس مجلبة للخير»(١٠٨) وبعد هذا التعريف فالحكاية الخرافية : «قصة أو حكاية خيالية قصيرة ذات مغزى في معظم الحكايات الخرافية ، يمثل واحد أو أكثر من الشخصيات حيواناً أو نباتاً أو شيئاً يتكلم ويتصرف كمخلوق بشري ، ويمكن أن نُقص الحكاية الخرافية نثراً أو شعراً ، وفي عديد من الحكايات يمكن تلخيص المراد من القصة ، أو مغزاها في النهاية على شكل مثل شعبي»(١٠٩) .

وهذا النوع من القصة الخيالية لا قيمة له على المستوى الديني ، لا في القرآن الكريم ، ولا في السنة النبوية.

ب ـ التمثيلية :

لست بصدد دراسة القصة التمثيلية من جميع جوانبها ، وإنّما الهدف هو التعريف بها من بعض جوانبها ، في القرآن الكريم والسنة النبوية ، والذي يهمنا بحثه هو التالي :

__________________

(١٠٧) ـ ابن منظور ، محمد بن مكرم : لسان العرب ، ج ٩ / ٦٥ ـ ٦٦.

(١٠٨) ـ البعلبكي ، منير : موسوعة المورد العربية ، ج ١ / ٤٦١.

(١٠٩) ـ الموسوعة العربية العالمية ، ج ٩ / ٤٨١.

١٠٨

١ ـ التعريف بالمثل :

يطلق المثل على معانٍ ثلاثة ، هي كالتالي :

الأول ـ المثل السائر :

هو كلمة موجزة قيلت في مناسبة تناقلتها الأجيال بدون تبديل ، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم : (إنّ من البيان لسحرا)(١١٠) ، قال الميداني : «يعني أنّ بعض البيان يعمل عمل السحر ، ومعنى السحر : إظهار الباطل في صورة الحق ، والبيان : إجتماع الفصاحة والبلاغة ، وذكاء القلب مع اللسَنِ ، وإنما شُبّه بالسحر ، لحدّة عمله في سامعه وسرعة قبول القلب له. يضرب في إستحسان المنطق ، وإيراد الحجة البالغة»(١١١) . والهدف منه مقصور على التطبيق.

الثاني ـ المثل القياسي :

ويقصد به البيانيون متشكل من أي وصف أو قصة أو تصوير رائع لتوضيح فكرة ، عن طريق تشبيه يسميه البلاغيون (التمثيل المركب) لتقريب أمر معقول من محسوس يجمع بذلك بين عمق الفكرة ، وجمال التصوير ولم يقصر على سماع أو نقل ، والإهتمام بصياغة الفكر فيه أكثر من إقتباس مثل سائر ، وحاصل القياسي : هو ما يخلقه المتمثل لغرض ينشده ، ومن نماذجه في القرآن الكريم ، قوله تعالى :( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) [النحل / ١١٢]. فالآية فيها إستعارة تمثيلية ؛ حيث أخذ اللباس في الجوع والخوف الدال على إستعمالها لمن

__________________

(١١٠) ـ الميداني ، احمد بن محمد النيسابوري : مجمع الأمثال ، ج ١ / ٧.

(١١١) ـ نفس المصدر.

١٠٩

كفر بأنعم الله تعالى ـ الأمن والصحة والكفاية في الرزق وغيرها من النعم التي لا تحصى ـ ، ولو إكتفى بالإذاقة لفات ذلك. وفي الأمثال النبوية قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (أيها الناس إياكم وخضراء من الدِمَن. قيل يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وما خضراء الدمن؟ قال : المرأة الحسناء في منبت السوء)(١١٢) .

قال الشريف الرضي : «... أنّه عليه الصلاة والسلام نهى عن نكاح المرأة على ظاهر الحسن ـ وهي منبت السوء ، أو في البيت السوء ـ ، فوجه المجاز في هذا القول ، أنّه عليه الصلاة والسلام ، شَبّه المرأة الحسناء بالروضة الخضرة لجمال ظاهرها ، وشبّه منبتها السوء بالدِمْنَة لقباحته ، والدِمْنَة هي : الأبعار المتجمعة تركبها السوافي ، ويعلوها الهابي ، فإذا أصابها المطر أنبتت نباتاً خضراء يروق منظره ويسوء مخبره ، فنهى عليه الصلاة والسلام عن نكاح المرأة إذا كانت مغموضة في نفسها ، أو مطعوناً عليها في نسبها ، لأنّ أعراق السوء تنزع إلى ولدها ، وتضرب في نسلها ، قال الشاعر :

وأدركنه خالاته فخذلنه

ألا إنّ عِرق السوء لا بدّ مدرك(١١٣)

وفي السيرة الحسينية ما جاء في خطبته في مكة المكرمة : «خُطّ الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي إشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخِيرَ لي مصرع أنا لاقيه ، فكأنّي بأوصالي تُقطعها عُسْلَان الفَلوات بين النَوَاوِيس وكربلا ، فيملأن مني أكراشاً جُوفَاً ، وأجْرُبَة سُغُبَاً»(١١٤) .

__________________

(١١٢) ـ الغروي ، الشيخ محمد : الأمثال النبوية ، ج ١ / ٢٧٢.

(١١٣) ـ الشريف الرضي ، محمد بن الحسين : المجازات النبوية / ٦٠ ـ ٦١.

(١١٤) ـ السماوي ، الشيخ محمد طاهر : إبصار العين في أنصار الحسين / ٦.

١١٠

إنّ بلاغة هذه الخطبة وعُلو مضمونها ، يوجب لنا الإطمئنان بصدورها عن سيد الشهداء عليه السلام ، كما أنّها على وجازتها تضمنت نهج الحسين عليه السلام وهدفه ، ونهايته ووصف مصرعه ومكانه ، والذي يهمنا بحثه ـ هنا ـ بيان بعض أوجهها البلاغية ، المتمثلة فيما يلي :

أولاً ـ عَبّر الحسين عليه السلام عن الموت الذي هو طبيعي للبشر بأنّه : (خط مخط القِلادة على جِيدْ الفَتاة). وهذا التعبير براعة إستهلال عجيبة المعنى ؛ حيث أنّ مخط القلادة يراد منه شيئين :

أ ـ إسم مكان : وهو موضع خط القلادة ـ وهي الجلد المستدير من الجيد ـ ، فكما أنّ ذلك الجلد لازم على الرقبة ، كذلك الموت على ولد آدم.

ب ـ إسم مصدر : والمراد به نفس الخط ، فيكون معنى ذلك : أنّ الموت دائرة لا يخرج ابن آدم عن وسطها ، كما أنّ القلادة دائرة لا يخرج الجيد منها حال تقليده. فإذا كان الموت لابد منه ؛ فليختر الإنسان أفضل ميتة ، وأعظمها شرفاً ونفعاً ، وإن أدّت إلى تقطيع أوصاله.

ثانياً ـ إختيار الحسين عليه السلام لنفسه الموتة الكريمة ، التي هي مرتبطة بأمر السماء التي تتم فيها شهادة الحسين وسعادته ، وسعادة من سار على نهجه ، لقد قضي الأمر وتمت الخيرة ، وكيفية القتلة ومكانها وعَبّر عن ذلك بقوله : (وخِير لي مصرع أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي تُقَطّعها عُسْلَان الفَلوات ، بين النَواوِيس وكربلاء).

فعسلان الفلوات : هي الذئاب ، ولعلّ الحسين عليه السلام يعني بها ـ مجازاً ـ الوحوش البشرية من أعدائه التي وَزّعت جسده الطاهر ، وتركته بالعراء وسلبته ووطأته بالخيول ، ثم تركته بلا مواراة ثلاثة أيام ، وقد عَبّر عن وحشيتهم بقوله

١١١

(فيملأن مني أكراشاً جُوْفَاً ـ أي واسعة ـ ، وأجربة سُغُباً ـ أي البطون الجائعة ـ ، وهذا تعبير عن شدتها وكثرة أكلها من دون محام ولا دافع عن الأعضاء المقطعة ، ويُؤَيّد هذا المعنى ما قاله لأصحابه لما نزل بَطْن العَقَبة : «ما أراني إلا مقتولاً ، فإنّي رأيت في المنام كلاباً تنهشني ، وأشدّها عليّ كلب أبقع»(١١٥) . أراد الحسين عليه السلام أن يُبيّن للمسلمين من خلال خطبته ، تلك الجريمة النكراء التي إقترفها الأمويون في حق البيت النبوي الطاهر ، ومدى اللثم والخسة في نفوس أعدائه ، حيث إمتدت تلك الجريمة ـ بعد تقطيع الحسين عليه السلام بالسيوف ، ووطئ جثته بالخيول ـ لتدخل الرعب والهلع في نفوس النساء والأطفال ، وتُعَرِّضَهم للعطش والحرق والسحق والأسر وضرب السياط ، وبهذا أراد الحسين عليه السلام أن يسجل على صفحات التاريخ ، صوراً من البطش والهمجية التي لا يرتكبها إلا الذئاب المفترسة والوحوش الضارية.

الثالث ـ مطلق ما يسمى بالمثل :

سواء فيه المثل السائر ، والقياسي والفرضي المعروف بالخياليات التي صنعت للإعتبار والموعظة ، كفرضيات كتاب (كليلة ودمنة) ، وكل وصف به نوع غرابة أو إعجاب زائد ، كقوله تعالى :( مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ .) [محمد / ١٥]. المستفاد من كلمات اللغويين أنّ المثل بمعنى التمثيل والتنظير ، وسمي المثل مثلاً لأنّه ماثل بخاطر الإنسان ؛ أي شاخص به. يقول الجوهري : «ومثلت له كذا تمثلاً إذا صَوّرت له مثاله

__________________

(١١٥) ـ المقرّم ، السيد عبد الرزاق الموسوي : مقتل الحسين / ١٨١.

١١٢

بالكتابة وغيرها»(١١٦) . فكأنّ مراد الجوهري الصورة بالكتابة والتمثال بخير الكتابة ؛ لأنّ غير الكتابة إما يكون وصفاً ؛ فهو أمر تخييلي محض ، وإما أن يكون عملاً يدوياً محسوساً فهو التمثال. فيكون الغاية من سوق المثل والتنظير له إقامة الحجة أو إظهار آية دالة على شيء ما. فالأسلوب في الآية عرضها مثول وانتصاب لحقيقتها أمام الناظر. ومن هذا الباب ما جاء عن الحسين عليه السلام في اليوم العاشر من المحرم ، حينما إستدعى ابن سعد ومَثّل له نهايته ، حيث قال له : «أي عمر ، أتزعم أنك تقتلني ويوليك الدّعي بلاد الرّي وجُورجَان ، والله لا تهنأ بذلك ، عهد معهود فاصنع ما أنت صانع ، فإنّك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة ، وكأنّي برأسك على قصبة يتراماه الصبيان بالكوفة ، ويتخذونه غرضاً بينهم ، فصرف بوجهه عنه مغضباً»(١١٧) .

وعند خروج الأكبر عليه السلام إلى الميدان ؛ صاح بعمر بن سعد : «مالك؟! قطع الله رحمك كما قطعت رحمي ، ولم تحفظ قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسَلّط عليك من يذبحك على فراشك»(١١٨) .

٢ ـ أهمية المثل :

للمثل أهمية كبرى يمكن تلخيصها فيما يلي :

١ ـ إنّ أهمية الأمثال بيانية ، حيث لم يكن في كلام العرب أوجز منها ، ولا أشد إختصاراً. قال إبراهيم النظام : «إجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في

__________________

(١١٦) ـ الجوهري ، إسماعيل بن حَمّاد : تاج اللغة وصحاح العربية ، ج ٥ / ١٨١٦.

(١١٧) ـ المقرّم ، عبد الرزاق : مقتل الحسين / ٢٣٥.

(١١٨) ـ نفس المصدر / ٢٥٧.

١١٣

غيره من الكلام : إيجاز اللفظ ، وإصابة المعنى ، وحسن التشبيه ، وجودة الكناية ، فهو نهاية البلاغة»(١١٩) .

٢ ـ إنّ المقصود من ضرب الأمثال ، أنّها تؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه ؛ وذلك لأنّ الغرض في المثل أن تنفعل به النفوس ، وتؤمن به القلوب ، فإن كان مدحاً ؛ كان أبهى وأفخم وأنبل في النفوس ، وأعظم وأهز للعطف ، وأسرع للإلف ، وأذكر وأيسر على الألسن ، وأولى بأن تعتلقه القلوب وأجدر. وإن كان ذماً ؛ كان مَسّه أوجع ، ووقعه أشدّ ، وحَدّه أحد. ومن هذا ما ورد في الخطب الحسينية في الطريق وفي كربلاء. وكذلك ما ورد عن أهل بيته عليهم السلام أثناء الخطب في الكوفة ، ويمكن التركيز منها على ما يلي :

المثل في خطب الإمام الحسين (عليه السلام) :

قال عليه السلام لابن عباس : «والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العَلَقَة من جوفي ، فإذا فعلوا ذلك ؛ سَلّط الله عليهم من يذبهم ، حتى يكونوا أذلّ من فِرَام المرأة»(١٢٠) .

وقال أثناء طريقه إلى الكوفة : «إنّ هؤلاء أخافوني ـ وهذه كتب أهل الكوفة ـ وهم قاتليَّ ، فإذا فعلوا ذلك ولم يدعوا الله محرماً إلا انتهكوه ؛ بعث

__________________

(١١٩) ـ الغروي ، الشيخ محمد : الأمثال النبوية ، ج ١ / ١٠.

(١٢٠) ـ المقرّم ، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين / ٢٣٤.

١١٤

الله إليهم من يقتلهم ، وحتى يكونوا أذلّ من فِرَام الأمّة»(١٢١) . وخاطب الأعداء يوم عاشوراء بقوله : (يا عَبيد الأمّة)(١٢٢) تحقيراً لهم.

إيضاح أهم مفردات المثل الحسيني :

الفِرَام : ورد في كتب اللغة أنّ (الفِرَام) : دواء تُضيِّق به المرأة المسلك ، أو حب الزبيب تحتشى به لذلك ، وكانت في أحراح ثقيف سعة يتضيقن بعجم الزبيب. والفرامة : هي الخرقة تحتشي بها المرأة عند الحيض كالفِرَام ، وفيها يقول الشاعر :

وجَدْتُك فيها كأمِّ الغلام

متى ما تَجِدْ فَارِما تَفْترِم(١٢٣)

وأيضاً قال في (بَطْن العَقَبة) : «إنّهم لن يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جَوفي ، فإذا فعلوا ذلك ؛ سَلّط الله عليهم من يذلهم ، حتى يكونوا أذلّ فرق الأمم»(١٢٤) .

وقال في (الرُهَيَمة) : «وطلبوا دمي فهربت ، وأيم الله ليقتلوني فيلبسهم الله ذِلّاً شاملاً ، وسيفاً قاطعاً ، ويسلط عليهم من يذلهم ، حتى يكونوا أذلّ من قوم سَبأ ؛ إذ ملكتهم إمرأة فحكمت في أموالهم ودمائهم»(١٢٥) . هذه بعض الأمثال الحسينية الواردة في خطبه عليه السلام.

__________________

(١٢١) ـ المصدر السابق / ١٧٥.

(١٢٢) ـ نفس املصدر / ١٦٨.

(١٢٣) ـ ابن منظور ، محمد بن مكرم : لسان العرب ، ج ١٢ / ٤٥١ ـ ٤٥٢.

(١٢٤) ـ المقرم ، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين / ١٨١.

(١٢٥) ـ نفس المصدر / ١٨٥.

١١٥

وإن كان وعظاً ؛ كان أشفى للصدر ، وأدعى للفكر ، وأبلغ في التنبيه والزجر ، ويبصر الغاية.

المثل في خطبة السيدة زينب (عليها السلام) في الكوفة :

ومما ورد في الخطبة الزينبية التي خطبتها في الكوفة ـ من الأمثال ما يلي : «الحمد لله ، والصلاة على أبي محمد وآله الطيبين الأخيار ، أما بعد يا أهل الكوفة ، يا أهل الخَتَل والغَدْر ، أتبكون؟! فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنّه ، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم»(١٢٦) . تشير أم المصائب زينب عليها السلام إلى قوله تعالى :( وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) [النحل / ٩٢].

وبعد مراجعة كتب المفسرين حول هذه الآية ؛ نخرج بالنتيجة التالية :

أولاً ـ هذا مثل قرآني يشير إلى المرأة التي غزلت ثم نقضت غزلها من بعد إمرار وفَتلٍ للغزل ؛ وهي إمرأة حمقاء من قريش ، واسمها رَيطَة بنت عمرو ، بن كعب ، بن سعد ، بن تميم ، بن مُرّة ، وكانت تسمى خَرْقَاء مكة ، كانت تغزل مع جواريها إلى إنتصاف النهار ، ثم تأمرهن أن ينقضن ما غزلن ، ولا يزال ذلك دأبها.

ثانياً ـ هذا نهي من الله للمكلفين أن يتصفوا بالصفات المذكورة في الآية ، المندرجة تحت الألفاظ التالية :

__________________

(١٢٦) ـ المصدر السابق / ٣١١.

١١٦

١ ـ أنْكَاثاً : جمع نِكْث ، وكل شيء نقض بعد الفتل ؛ فهو أنكاث حبلاً كان أو غزلاً.

٢ ـ دَخَلاً : الدَخَل ، ما أدخل في الشيء على فساد ، فالمراد بالدخل وسيلته ، من تسمية السبب باسم المسبب ؛ أي وسيلة للغدر والخدعة والخيانة ؛ تطيبون بها نفوس الناس ثم تخونون وتدعونهم بنقضها. ومعنى ذلك : أنكم كمثلها ، إذا تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم فتؤدونها وتعقدونها ، ثم تخونون وتخدعون بنقضها ونكثلها ، والله ينهاكم عنه.

٣ ـ أرْبَى : أي أكثر عدداً ومنه أربا فلان للزيادة التي يزيدها على غريمة في رأس ماله. ومعنى ذلك لا ينقضوا العهد بسبب أن يكون قوم أكثر من قوم ؛ أي لا تنقضوا عهدكم ، متخذيها دغلاً وغدراً وخديعة ، لمداراتكم قوماً هم أكثر عدداً ممن عاهدتم له ، بل عليكم الوفاء والحفظ لما عاهدتم عليه. فالسيدة زينب عليها السلام تذكرهم وتوبخهم بالعهد والبيعة لسيد الشهداء عليه السلام التي نقضوها ، وشبهتهم بالمرأة التي نقضت غزلها من بعد قوة ، إلى أن قالت : «ألا وهل فيكم إلا الصَلَف النَطَف ، والعجب والكذب والشَنِف ، ومَلِق الإماء ؛ وغَمَز الأعداء؟!» وفي هذا المقطع عَبّرت عنهم بألفاظ تعيبهم وتكشفهم بها توبيخاً لهم (فالصَلَف) : الذي يمتدح بما ليس عنده. وفي حديث المؤمن : (لا عنف ولا صَلَف) ، يقال : سحاب صلف ، إذ كان قليل الماء ، كثير الرعد ، وفي المثل (رُبّ صَلَف تحت الرَاعِدَة) يضرب للرجل يتوعد ثم لا يقوم فيه»(١٢٧) .

__________________

(١٢٧) ـ الطريحي ، الشيخ فخر الدين : مجمع البحرين ، ج ٥ / ٨٢.

١١٧

(والنَطَفَ) : «القذف بالفجور ، أو الفساد ، أو الشر»(١٢٨) .

(والشنف) : المبغض(١٢٩) .

(ومَلِق الإماء) :

«المَلأِق : الضعيف. أو التودد والتذلل ، وإبداء ما باللسان من الإكرام والودّ ما ليس في القلب»(١٣٠) .

(وغَمَز الأعداء) :

«الغَمَز : الضعف والميل والعيب»(١٣١) ؛ أي أنتم ضعاف في عقولكم وعملكم بحيث إستزِهدكم الأعداء ، وسخروا بكم بإطاعتكم لهم. إلى أن قالت : «أو كَمَرْعَى على دِمّنَة ، أو كقَصّةٍ على مَلْحُودَة».

(الدِمنَة) :

«هي ما تُدمّنُه الإبل والغنم بأبوالها وأبعارها ؛ أي تلبّده في مرابضها ؛ فربما نبت الحسن النضير. ومنه الحديث : (فينبتون نبات الدِّمن في السيل) ، هكذا جاء في رواية بكسر الدال وسيكون يرعى البعير ؛ لسرعة ما ينبت فيه»(١٣٢) .

وقيل الدِّمنة : هي المنزل الذي ينزل فيه أخيار العرب وتحصل فيه بسبب نزولهم تغيّر في الأرض بسبب الأحداث الواقعة منهم ومن مواشيهم ، فإذا أمطرت أنبتت نبتاً حسناً شديد الخضرة والطراوة ؛ لكنّه مرعى وَبِيء للإبل

__________________

(١٢٨) ـ لويس ، معلوف : المنجد في اللغة / ٨١٦.

(١٢٩) ـ نفس المصدر / ٤٠٤.

(١٣٠) ـ نفس المصدر / ٧٧٤.

(١٣١) ـ نفس المصدر / ٥٥٩.

(١٣٢) ـ ابن الأثير ، المبارك بن محمد الجزري : نهاية في غريب الحديث ، ج ٢ / ١٣٤.

١١٨

مُضرّبها)(١٣٣) . ومن هذا ، ما ورد في الحديث النبوي (.. إياكم وخَضْرَاء الدِّمن ، وقيل يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وما خضراء الدِّمن؟ قال : المرأة الحسناء في منبت السوء)(١٣٤) .

قال الشريف الرضي (ره) : «والقول الآخر : أن يكون عليه الصلاة والسلام ؛ إنّما نهى في الحقيقة عن تغارض النفاق وتعاير الأخلاق ، وأن يتلقى الرجل أخاه بالظاهر الجميل ، وينطوي عن الباطن الدميم ، أو يخدعه بحلاوة اللسان ، ومن خلفها مرارة الجنان ، وإلى هذا المعنى ذهب الشاعر في قوله :

وقد يَنْبُتُ المرْعَى على دِمَنِ الثّرَى

وتَبْقَى حَزَازَاتُ النفوس كما هِيَا

كأنه أراد ، إنا وإن لقيناكم بظاهر الطلاقة والبشر ، فإنّا نضمر لكم على باطن الغش والغمز ، ومثل هذا قول الآخر :

وفِينَا وإن قِيلَ إصْظَلحْنَا تَضَاغُنٌ

كما طرّ أوبارُ الجِرَابِ على النّشْرِ

وقال أهل العربية : النشر أن ينبت وبر البعير وتحته داء العرّ ؛ وهو الجرب فيرى كأن ظاهره سليم وباطنه سقيم»(١٣٥) ، وبعد هذا الإيضاح يظهر لنا مغزى ما يستفاد من كلام السيدة زينب عليها السلام ، حيث أنّ الغرض هو التعريف بأن الدِّمنَة وإن زها ظاهرها بالنبت ، إلا أنّه لا يفيد الحيوان قوة ؛ لأنّها مجمع الأوساخ والكشافات السامة القاتلة ، فنتاج الدِّمنة لا يكون طيباً ، وأهل الكوفة وإن زها

__________________

(١٣٣) ـ الطريحي ، الشيخ فخر الدين : مجمع البحرين ، ج ٦ / ٢٤٨.

(١٣٤) ـ الحر العاملي ، الشيخ محمد بن الحسن : وسائل الشيعة ، ج ٢٠ / ٣٥ (الباب ٧ من أبواب مقدمات النكاح ـ الحديث ٧).

(١٣٥) ـ الشريف الرضي ، محمد بن ابي احمد الحسين : المجازات النبوية / ٦١.

١١٩

ظاهرهم بالإسلام ؛ إلا أنّ الصدور إنطوت على قلوب مظلمة لا يصدر منها إلا بما يقوم به أهل الجاهلية والإلحاد»(١٣٦) .

(أو كقَصّةٍ على مَلْحُودة) :

«القَصّةُ والقِصّة والقَصُّ ، الجَصّ : لغة حجازية. وقيل : الحجارة من الجَصّ ، وقد قصّصَ داره ، أي جصّصَها. ومدينة مُقصّصَة : مطلية بالقصّ ، وكذلك قبر مُقصّصٌ ، والتقصيص : هو التجصيص ، وذلك أنّ الجَصّ يقال له ، القَصّة. يقال : قصصت البيت وغيره ؛ أي جصّصته. وفي حديث زينب (يا قَصّةٌ عُلى مَلحُودَةٍ) ؛ شبهت أجسادهم بالقبور المتخذة من الجصّ ، وأنفسهم بجيف الموتى التي تشتمل عليها القبور»(١٣٧) .

قال السيد المقرّم (ره) : «والذي أراه ، أنّ النكتة في هذه الإستعارة ، أنّ القصّة بلغة الحجاز الجصّ ، والملحودة ؛ القبر لكونه ذا لحد ، فكان القبر يتزين ظاهره ببياض الجصّ ، ولكن داخله جيفة قذرة ، وأهل الكوفة وإن تزين ظاهرهم بالإسلام ، إلا أنّ قلوبهم كجيف الموتى ؛ بسبب قيامهم بأعمال الجاهلية الوخيمة العاقبة من الغدر وعدم الثبات على المبادئ الصحيحة ؛ وقد إنفردت (متتمة الدعوة الحسينية) بهذه النكات البديعة ، التي لم بسبقها مهرة البلغاء إليها»(١٣٨) .

إلى أن قالت عليها السلام : (ولقد أتيتم بها خَرْقَاء ، شَوْهَاء كِطلَاعِ الأرض ، ومِلء السماء).

__________________

(١٣٦) ـ المقرم ، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين / ٣١١ (بتصرف).

(١٣٧) ـ ابن منظور ، محمد بن مكرم : لسان العرب ، ج ٧ / ٧٦ ـ ٧٧.

(١٣٨) ـ المقرم ، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين / ٣١٢.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

الآيات

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨) )

التّفسير

الفرار من الجهاد ممنوع!

كما ذكرنا في تفسير الآيات السابقة ، فإنّ الحديث عن قصّة معركة بدر وألطاف الله الكثيرة على المسلمين الأوائل من أجل أن يتّخذ منه المسلمين العبرة والدرس في المستقبل ، لذلك فإنّ هذه الآيات توجه خطابها للمؤمنين وتأمرهم أمرا عاما بالقتال :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ ) .

٣٨١

و (لقيتم) من مادة (اللقاء) بمعنى الاجتماع والمواجهة ، وتأتي في أكثر أحيان بمعنى المواجهة في ميدان الحرب.

و (الزّحف) في الأصل بمعنى الحركة إلى أمر ما بحيث تسحب الأقدام على الأرض كحركة الطفل قبل قدرته على المشي ، أو الإبل المرهقة التي تخط أقدامها على الأرض أثناء سيرها ، ويطلق على الجيش الجرار الذي يشاهد من بعيد وكأنّه يحفر الأرض أثناء مسيره.

واستخدام كلمة (زحف) ـ في الآية آنفا ـ تشير إلى أنّه بالرغم من أنّ عدوكم قوي وكثير ، وأنتم قليلون ، فلا ينبغي لكم الفرار من ساحة الحرب ، وكما كان عدوكم كثيرا في ميدان بدر فثبتّم وانتصرتم.

فالفرار من الحرب يعدّ في الإسلام من كبائر الذنوب ، إلّا أنّ ذلك مرتبط ـ كما نبيّن بعض الآيات ـ بكون الأعداء ضعفي عدد المسلمين ، وسنبحث هذا الأمر بعون الله في الآيتين (٦٥) و (٦٦) من هذه السورة. ولذلك تذكر الآية بعدها جزاء من يفر من ميدان الحرب مع الإشارة لمن يستثنون منهم فتقول :( وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ) .

وكما نرى فقد استثنت الآية صورتين من مسألة الفرار ، ظاهرهما أنّهما من صورة الفرار ، غير أنّهما في الحقيقة والواقع صورتان للقتال والجهاد.

الصورة الأولى : عبّر عنها بـ «مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ » و «متحرف» من مادة (التحرّف) أي الابتعاد جانبا من الوسط نحو الأطراف والجوانب ، والمقصود بهذه الجملة هو أنّ المقاتلين يقومون بتكتيك قتالي إزاء الأعداء ، فيفرون من أمامهم نحو الأطراف ليلحقهم الأعداء : ثمّ يغافلوهم في توجيه ضربة قوية إليهم واستخدام فن الهجوم والانسحاب المتتابع وكما يقول العرب : (الحرب كرّ وفرّ).

الصورة الثّانية : أن يرى المقاتل نفسه وحيدا في ساحة القتال ، فينسحب للالتحاق بإخوانه المقاتلين وليهجم معهم من جديد على الأعداء.

٣٨٢

وعلى كل حال ، فلا ينبغي تفسير هذا التحريم بشكل جاف يتنافى وأساليب الحروب وخدعها ، والتي هي أساس كثير من الانتصارات.

وتختتم الآية محل البحث بالقول : إنّ جزاء من يفرّ مضافا إلى استحقاقه لغضب الله فانّ مصيره إلى النّار :( وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

والفعل «باء» مشتق من «البواء» ومعناه الرجوع واتّخاذ المنزل ، جذره في الأصل يعني تصفية محل ما وتسطيحه ، وحيث إنّ الإنسان إذا نزل في محل عدله وسطحه ، فقد جاءت هذه الكلمة هنا بهذا المعنى. وفي الآية إشارة إلى أنّ غضب الله مستمر ودائم عليهم ، فكأنّهم قد اتّخذوا منزلا عند غضب الله.

وكلمة «المأوى» في الأصل معناها «الملجأ» وما نقرؤه في الآية ، محل البحث( وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ ) فهو إشارة إلى أنّ الفارين يطلبون ملجأ ومأوى من فرارهم لينقذوا أنفسهم من الهلكة ، إلّا أنّ ما يحصل هو خلاف ما يطلبون ، إذ ستكون جهنم مأواهم ، وليس ذلك في العالم الآخر فحسب ، بل هو في هذا العالم إذ سيحترقون في جهنم الذلة والانكسار والضياع.

ولذا فقد جاء في «عيون الأخبار» عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام في جواب أحد أصحابه حين سأله عن فلسفة تحريم الفرار من الجهاد فقال : «وحرم الله الفرار من الزحف لما فيه من الوهن في الدين ، والاستخفاف بالرسل والأئمّة العادلةعليهم‌السلام ، وترك نصرتهم على الأعداء ، والعقوبة على إنكار ما دعوا إليه من الإقرار بالرّبوبية وإظهار العدل وترك الجور وإماتة الفساد ، لما في ذلك من جرأة العدوّ على المسلمين ، وما يكون من السبي والقتل وإبطال دين اللهعزوجل وغيره من الفساد»(١)

ومن ضمن الامتيازات الكثيرة التي كانت عند الإمام عليعليه‌السلام ، وربّما يشير

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ١٣٨.

٣٨٣

إلى نفسه أحيانا ليكون نبراسا للآخرين

قوله «إنّي لم أفر من الزحف قطّ ، ولم يبارزني أحد إلّا سقيت الأرض من دمه»(١)

والعجيب أنّ بعض المفسّرين من أهل السنة يصرّ على أنّ حكم الآية السابقة يختص بمعركة بدر ، وأنّ التهديد والوعيد من الفرار من الجهاد يتعلق بالمقاتلين في بدر فحسب ، مع أنّه لا يوجد دليل في الآية على هذا التخصيص ، بل لها مفهوم عام يشمل كل المقاتلين والمجاهدين.

وفي الرّوايات والآيات كثير من القرائن الذي يؤيد هذا المعنى «ولهذا الحكم شروط طبعا سنتناولها نعالجها في الآيات المقبلة من هذه السورة إن شاء الله».

ولئلا يصاب المسلمون بالغرور في انتصارهم ، ولئلا يعتمدوا على قواهم الجسمية فحسب ، وليذكروا الله في قلوبهم دائما ، وليتعلقوا به طلبا لألطافه ، فإنّ الآية التّالية تقول :( فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى ) .

لقد ورد في الرّوايات والتفاسير أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعلي يوم بدر : أعطني حفنة من تراب الأرض وحصاها ، فناوله على ذلك ، فرمى النّبي جهة المشركين بذلك التراب وقال :( فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى ) (٢)

قالوا : كان لهذا الفعل أثر معجز إذ وقع ذلك التراب على وجوه المشركين وعيونهم فملأهم رعبا.

لا شك أنّ الظاهر يشير إلى أنّ النّبي وأصحابه هم الذين أدّوا هذا الدور في معركة بدر ، لكن القرآن يقول : إنكم لم تفعلوا ذلك أوّلا ، لأنّ القدرات الروحية والجسمية والإيمانية التي هي أصل تلك النتائج كلها من عطاء الله وقد تحركتم

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ١٣٩.

(٢) راجع نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ١٤٠.

٣٨٤

بقوة الله وفي سبيل الله. وثانيا قد حصلت في ساحة بدر معاجز كثيرة أشرنا إليها سابقا ، وقد بعثت في نفوس المجاهدين القوّة ، وانهارت بها قوى المشركين ومعنوياتهم ، وكان كل ذلك بألطاف الله سبحانه.

وفي الحقيقة فإنّ الآية محل البحث تشير إلى لطيفة في مذهب «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين» لأنّها في الوقت الذي تخبر عن قتل المسلمين للكافرين ، وتقول إنّ النّبي رمى التراب بوجوه المشركين تسلب منهم كل هذه الأمور (فتأمل بدقّة).

ولا شك في عدم وجود تناقض في مثل هذه العبارة ، بل الهدف هو القول بأنّ هذا الفعل كان منكم ومن الله أيضا ، لأنّه كان بإرادتكم والله منحكم القوة والمدد.

وبناء على ذلك فإنّ الذين اعتقدوا بمذهب الجبر مستدلين بهذه الآية فإنّ الردّ عليهم موجود في الآية ذاتها.

والذين قالوا بوحدة الوجود مستدلين بهذه الآية فإنّ الردّ عليهم موجود في الآية بأسلوب لطيف ، لأنّه إذا كان المراد بأنّ الخالق والمخلوق واحد ، فلا ينبغي أن ينسب الفعل إليهم تارة وينفي عنهم تارة أخرى ، لأنّ النسبة ونفيها دليل على التعدد ، وإذا تجردت الأفكار عن الحكم المسبق والتعصب المقيت لرأينا أن الآية لا ترتبط بأىّ من المذاهب الضّالة ، بل هي تشير إلى المذهب الوسط «أمر بين أمرين» فحسب.

وهذه الإشارة لأجل هدف تربوي ، وهو إزالة الغرور وآثاره ، إذ يقع ذلك عادة في الأفراد بعد الانتصارات.

وتشير الآية في ختامها إلى لطيفة مهمّة أخرى ، وهي أنّ ساحة بدر كانت ساحة امتحان واختبار ، إذ تقول :( وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً ) .

والبلاء معناه الاختبار في الأصل ، غاية ما في الأمر تارة يكون بالنعم فيسمى بلاء حسنا ، وتارة بالمصائب والعقاب فيسمّى بلاء سيئا ، كما تشير إلى

٣٨٥

ذلك الآية (١٦٨) من سورة الأعراف في شأن بني إسرائيل( وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ ) .

لقد شاء الله أن يذيق المؤمنين في أوّل مواجهة مسلحة بينهم وبين أعدائهم طعم النصر ، وأن يجعلهم متفائلين للمستقبل ، وهذه الموهبة الإلهية كانت اختبارا لهم جميعا ، وإلّا أنّه لا ينبغي لهم أن يغتروا بهذا الإنتصار أبدا ، فتكون النتيجة سلبية ، وذلك بأن يروا عدوهم حقيرا وينسوا بناء ذواتهم ويغفلوا عن الاعتماد على الله.

لهذا فإنّ الآية تختتم بهذه الجملة( إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) .

أي أنّ الله سمع صوت استغاثة النّبي والمؤمنين ، واطلع على صدق نياتهم ، فأنزل ألطافه عليهم جميعا ونصرهم على عدوّهم ، وأنّ الله يعامل عباده بهده المعاملة حتى في المستقبل ، فيطلع على ميزان صدق نياتهم وإخلاصهم واستقامتهم ، فالمؤمنون المخلصون ينتصرون أخيرا ، والمراؤن المدعون ينهزمون ويفشلون.

وفي الآية التالية يقول سبحانه تعميما لهذا الموضوع وأنّ مصير المؤمنين والكفار هو ما سمعتم ، فيقول :( ذلِكُمْ ) (١) ثمّ يعقب القرآن مبينا العلّة( وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ ) .

* * *

__________________

(١) في الحقيقة أن هذا الكلمة إشارة إلى جملة مقدرة هي «ذلكم الذي سمعتم هو حال المؤمنين والكافرين ...».

٣٨٦

الآية

( إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩) )

التّفسير

لقد جرى بحث كثير بين المفسّرين حول الذين توجهت إليهم الآية بالحديث ، فبعضهم يعتقد بأنّهم المشركين ، لأنّهم قبل خروجهم من مكّة إلى بدر اجتمعوا حول الكعبة وضربوا على ستائرها (لغرورهم واعتقادهم بأنّهم على الحق). وقالوا : «اللهم أنصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين»(١) .

وروي أنّ أبا جهل دعا فقال : (اللهم ربّنا ديننا القديم ودين محمّد الحديث ، فأي الدينين كان أحب إليك وأرضى عندك فانصر أهله اليوم)(٢) ولذلك فقد نزلت هذه الآية لتقول لهم :( إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ

__________________

(١) هذه الجملة في الحقيقة «ذلكم الذي سمعتم هو حال المؤمنين والكافرين».

(٢) مجمع البيان وتفاسير أخرى.

٣٨٧

مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ) .

والذي يبعد هذا التّفسير أن الحديث في الآيات السابقة واللاحقة لهذه الآية موجه للمؤمنين ، فيستبعد أن تكون بينها آية واحدة تتحدث مع المشركين ، ويضاف لذلك الارتباط المعنوي الموجود بين مضامين كل هذه الآيات ـ ولذلك اعتبر بعض المفسّرين أنّ المخاطبين في الآية هم المؤمنون ، وأحسن صورة لتفسير الآية على هذا الوجه هي : لقد حصل بين بعض المؤمنين جدال حول تقسيم الغنائم بعد واقعة بدر ـ كما رأينا ـ ونزلت آيات توبخهم وتضع الغنائم تحت تصرف شخص الرّسول كاملاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقام بتقسيمها بينهم بالتساوي ، بغية تربيتهم وتعليمهم ، ثمّ ذكّرهم بحوادث بدر وكيف نصرهم الله على عدوّهم القوي.

وهذه الآية تتابع الحديث عن الموضوع نفسه فتخاطب المسلمين وتقول لهم : إنّكم إذا سألتم الله الفتح والنصر فسوف يستجيب لكم وينصركم ، وإذ تركتم الاعتراض والجدال عند النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبذلك مصلحتكم ، وإذا عدتم لنفس الأسلوب من الاعتراض فسنعود نحن أيضا ، ونترككم وحيدين في قبضة الأعداء وحتى إذا كان عددكم كثيرا فبدون نصرة الله لن تقدروا أن تعملوا أي شيء ، وإنّ الله مع المؤمنين المخلصين والطائعين لأوامره وأوامر نبيّه.

وهكذا يستفاد من الآيات وخاصّة من إلقاء اللوم على المسلمين لبعض مخالفتهم ، وكذلك سياق الآيات السابقة وما فيها من أواصر وروابط معنوية واضحة ، فإن التّفسير الثّاني يكون أقرب إلى النظر

* * *

٣٨٨

الآيات

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) )

التّفسير

الذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون!

تتابع هذه الآيات البحوث السابقة ، فتدعو المسلمين إلى الطاعة التامة لأوامر الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السلم أو الحرب أو في أي أمر آخر ، وأسلوب الآيات فيه دلالة على تقصير بعض المؤمنين في التنفيذ والطاعة ، فتبدأ بالقول :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ ) .

وتضيف لتؤكّد الأمر من جديد :( وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ) .

لا شك في أنّ إطاعة أوامر الله تعالى واجبة على الجميع ، المؤمنين وغير المؤمنين ، ولكن بما أنّ المخاطبين والمعنيين بهذا الحديث التربوي هم المؤمنون

٣٨٩

فلهذا كان الكلام في هذه الآية الشريفة موجها إليهم.

الآية الثّانية : تؤكّد هذا المعنى أيضا فتقول :( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ) .

إنّ هذا التعبير الطريف يشير للذين يعلمون ولا يعملون ، ويسمعون ولا يتأثرون ، وفي ظاهرهم أنّهم من المؤمنين ، ولكنّهم لا يطيعون أوامر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهؤلاء لهم آذان سامعة لكل الأحاديث ويعون مفاهيمها ، وبما أنّهم لا يعملون بها ولا يطبقونها فكأنّهم صمّ لا يسمعون ، لأنّ الكلام مقدمة للعمل فلو عدم العمل فلا فائدة من أية مقدمة.

وأمّا المراد من هؤلاء الأشخاص الذين يحذّر القرآن المسلمين لكيلا يصيروا مثلهم ، فيرى بعض أنّهم المنافقون الذين اتخذوا لأنفسهم مواقع في صفوف المسلمين ، وقال آخرون : إنّما تشير إلى طائفة من اليهود ، وذهب بعض بأنّهم المشركون من العرب. ولا مانع من انطباق الآية على هذه الطوائف الثلاث ، وكل ذي قول بلا عمل.

ولما كان القول بلا عمل ، والاستماع بلا تأثر ، أحد الأمراض التي تصّاب بها المجتمعات ، وأساس الكثير من التخلفات ، فقد جاءت الآية الأخرى لتؤكّد على هذه المسألة بأسلوب آخر ، فقالت :( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ) (١) .

ولمّا كان القرآن كتاب عمل فإنّه ينظر إلى النتائج دائما ، فيعتبر كل موجود لا فائده فيه كالمعدوم ، وكل حي عديم الحركة والتأثير كالميت ، وكل حاسّة من حواس الإنسان مفقود إذا لم تؤثر فيه تأثيرا ايجابيا في مسيرة الهداية والسعادة ، وهذه الآية اعتبرت الذين لهم آذن سالمة لكنّهم لا يستمعون لآيات الله ودعوة

__________________

(١) «... صم» جمع «الأصم» وهو الذي لا يسمع و «البكم» جمع «الأبكم» وهو فاقد النطق.

٣٩٠

الحق ونداء السعادة ، كمن لا أذن له ولا سمع لديه ، والذين لهم ألسنة سالمة لكنّها ساكتة عن الدعوة إلى الحق ومكافحة الظلم والفساد ، فلا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر ، بل يضيعون هذه النعمة في التملق والتذلل أمام الطواغيت أو تحريف الحق وتقوية الباطل ، فهؤلاء كمن هو أبكم لا يقدر على الكلام ، وكذلك الذين يتمتعون بنعمة الفكر والعقل ولكنّهم لا يصححون تفكيرهم ، فهؤلاء في عداد المجانين.

وتقول الآية بعدها إن الله لا يمتنع من دعوة هؤلاء إن كانوا صادقين في طلبهم وعلى استعداد لتقبل الحق :( وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ ) .

وقد ورد في الرّوايات أنّ بعض عبدة الأصنام جاءوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : إذا أخرجت لنا جدنا الأكبر (قصي بن كلاب) حيّا من قبره ، وشهد لك بالنبوة ، فسوف نسلّم جميعا! فنزلت الآية لتقول : إنّه لو كان حديثهم صادقا لفعل الله ذلك لهم بواسطة المعجزة ، لكنّهم يكذبون ويأتون بأعذار واهية ، بهدف التخلص من الإذعان لدعوة الحق ويقول تعالى :( وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ) .

فالذين سمعوا دعوة الحق كثيرا ، وبلغت آذانهم آيات القرآن ، وفهموا مضامينها العالية ، لكنّهم أنكروها بسبب عتوهم وعصبيّتهم ، فهم غير مؤهلين للهداية لما اقترفت أيديهم ، ولا شأن بعدئذ لله ورسوله بهم ، فهم في ظلام دامس وضلال بهيم.

كما أنّ هذه الآية تعد جوابا قاطعا للقائلين بمدرسة الجبر ، لأنّها تقرر بأن يكمن في الإنسان نفسه وأنّ الله يعامل الناس بما يبدونه من أنفسهم من استعداد وقابلية في طريق الهداية.

* * *

٣٩١

ملاحظتان

١ ـ «ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم»

لقد حاول بعض الناشئة عمل قياس منطقي من هذه الآية والخروج منه بنتيجة لصالحهم ، فقالوا ، إنّ القرآن يقول في الآية :( وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ ) . وقال أيضا :( وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ) . فيمكن الاستنتاج من هاتين الجملتين الجملة التّالية وهي : لو علم الله فيهم خيرا فهم سيعرضون. وهذا الاستنتاج خطأ محض.

وقد أخطأ هؤلاء لأنّ معنى جملة :( وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ ) . في قسمها الأوّل هو : لو كان لهؤلاء قابلية فسيوصل الحق لأسماعهم ، ولكن القسم الثّاني معناه أن هؤلاء إذا لم تتهيأ لهم القابلية للهداية فسوف لن يستجيبوا وسوف يعرضون والنتيجة أن الجملة المذكورة آنفا وردت في الآية بمعنيين مختلفين ، وعلى هذا لا يمكن تأليف قياس منطقي منهما(١) (فتأمل).

وهذه المسألة تشبه من يقول : إنّني لو كنت أعتقد بأنّ فلانا يستجيب لدعوتي لدعوته ، لكنّه في الحال الحاضر إذا دعوته فسوف لن يستجيب ، ولذلك فسوف لن أدعوه

٢ ـ لاستماع الحق مراحل

إنّ الإنسان قد يسمع أحيانا ألفاظا وعبارات دون التفكير في مضامينها ، إلّا أنّ بعضا لفرط لجاجتهم ، كانوا يرفضون حتى هذا القدر من السمع ، كما يقول

__________________

(١) وبحسب اصطلاح المنطق أنّ الحدّ الوسط غير موجود في القياس آنفا ، لأنّ الجملة الأولى هي (لأسمعهم حال كونهم يعلم فيهم خيرا). والجملة الثّانية (لأسمعهم حال كونه لا يعلم فيهم فهما) والنتيجة أنّ الحدّ الوسط المشترك غير موجود بين الجملتين لتمكين تأليف القياس منهما ، لأنّ الجملتين مختلفتان ومنفصلتان (فتأمل).

٣٩٢

عنهم القرآن( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) (١) .

وتارة يقبل الإنسان باستماع الأحاديث ، لكنّه لا يقرر أبدا العمل بها ، كالمنافقين الذين ورد ذكرهم في الآية (١٦) من سورة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً ) .

وقد يصل وضع هؤلاء أعلى مراحل الخطر ، إذ يسلبون القدرة على معرفة الخبيث والطيب ، وحتى إذا استمعوا الحديث الحق لا يكون بإمكانهم استيعابه وهضمه.

والقرآن يقول عن هذه الطوائف الثلاث ، إنّ هؤلاء في واقعهم صم بكم ، لإنّ الذي يسمع في الحقيقة يجب عليه الإدراك والتفكير والعزم على العمل بإخلاص.

وكم من أناس في عصرنا وزمننا الحاضر عند ما يسمعون آيات القرآن يتفاعلون معها بشكل ملفت للنظر ، لكنّهم في العمل لا يتطابقون بأي شكل مع مضمون القرآن الكريم.

* * *

__________________

(١) سورة فصلت ، الآية ٢٦.

٣٩٣

الآيات

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦) )

التّفسير

دعوة للحياة :

تتابع هذه الآيات دعوة المسلمين المتقدمة للعلم والعمل والطاعة والتسليم لكنّها تتابع الهدف ذاته عن طريق آخر ، فتقول ابتداء :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ ) .

فهذه الآية تقول بصراحة : إنّ دعوة الإسلام هي دعوة للعيش والحياة ، الحياة المعنوية ، الحياة المادية ، الحياة الثقافية ، الحياة الاقتصادية ، الحياة السياسية ،

٣٩٤

الحياة الأخلاقية والاجتماعية ، وأخيرا الحياة والعيش بالمعنى الصحيح على جميع الأصعدة ، وهذه أقصر وأجمع عبارة عن الإسلام ورسالته الخالدة ، إذا سأل أحد عن أهداف الإسلام ، وما يمكن أن يقدمه ، فنقول جملة قصيرة : إنّ هدفه هو الحياة على جميع الأصعدة ، هذا ما يقدمه لنا الإسلام.

ترى هل كان الناس موتى قبل بزوغ الإسلام ونزول القرآن ليدعوهم القرآن إلى الحياة ...؟

وجواب هذا التساؤل : نعم ، فقد كانوا موتى وفاقدي الحياة بمعناها القرآني ، لأنّ الحياة ذات مراحل مختلفة أشار إلى جميعها القرآن الكريم.

فتارة تأتي بمعنى (الحياة النباتية) كما يقول القرآن :( اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ) (١) .

وتارة تأتي بمعنى (الحياة الحيوانية) مثل :( إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى ) (٢) .

وتارة بمعنى (الحياة الفكرية والعقلية) مثل :( أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ ) (٣) وتارة بمعنى «الحياة الخالدة في العالم الآخر) مثل :( يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي ) (٤) .

وتارة بمعنى (العالم والقادر بلا حد ولا نهاية) كما نقول عن الله :( الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ) .

وبالنظر إلى هذه الأقسام التي ذكرناها نعرف أنّ الناس في الجاهلية كانوا يعيشون الحياة الحيوانية والمادية ، وكانوا بعيدين عن الحياة الإنسانية والمعنوية والعقلية ، فجاء القرآن ليدعوهم إلى الحياة.

__________________

(١) الحديد ، ١٧.

(٢) فصلت ، ٣٩.

(٣) الأنعام ، ٢٢.

(٤) الفجر ، ٢٤.

٣٩٥

ومن هنا نعلم أنّ من يضع الدين في قوالب جامدة لا روح فيها بعيدا عن مجالات الحياة ، ويختزله في مسائل فكرية واجتماعية صرفة فقد جانب الصواب كثيرا ، لأنّ الدين الصحيح هو الذي يبعث الحركة في كل جوانب الحياة ، ويحيي الفكر والثقافة والإحساس بالمسؤولية ، ويوجد التكامل والرّقي والوحدة والتألف ، فهو إذا يبعث الحياة في البشرية بكل معنى الكلمة.

وبذلك تتّضح هذه الحقيقة أيضا وهي أن الذين فسّروا الآية بمعنى واحد هو الجهاد أو الإيمان أو القرآن أو الجنّة ، واعتبروا كل واحد من هذه الأمور هو العامل الوحيد للحياة في الآية المباركة ، هؤلاء في الحقيقة حددوا مفهوم الآية ، لأنّه يشتمل على كل ذلك وأكثر حيث يندرج ، ـ ضمن مفهوم الآية ـ كل شيء ، وكل فكر ، وكل قانون يبعث الروح في جانب من جوانب الحياة.

ثمّ يقول تعالى :( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .

إنّ المقصود بالقلب هنا ـ كما ذكرنا سابقا ـ الروح والعقل ، أمّا كيف يحول الله بين المرء وقلبه؟ فقد ذكروا لذلك احتمالات مختلفة فتارة قيل : إنّه إشارة لشدّة قرب الله من عباده ، فكأنّ الله في داخل روح العبد وجسمه ، وكما يقول القرآن الكريم :( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) .

وقيل : إشارة إلى أنّ تقلب القلوب والأفكار هو بيد الله ، كما نقرأ في الدعاء : (يا مقلب القلوب والأبصار).

وقيل : إنّ المقصود هو أنّ الإنسان لولا اللطف الإلهي غير قادر على معرفة الحق من الباطل.

وقيل أيضا : إنّ المقصود هو أنّه ما دام للناس فرصة فينبغي عليهم أداء الطاعات وأعمال الخير ، لأنّ الله قد يحول بواسطة الموت بين المرء وقلبه.

ويمكن بنظرة شاملة جمع كل التفاسير في تفسير واحد ، هو أنّ اللهعزوجل حاضر وناظر ومهيمن على كل المخلوقات. فإنّ الموت والحياة والعلم والقدرة

٣٩٦

والأمن والسكينة والتوفيق والسعادة ، كلّها بيديه وتحت قدرته ، فلا يمكن للإنسان كتمان أمر ما عنه ، أو أن يعمل أمرا بدون توفيقه ، وليس من اللائق التوجه لغيره وسؤال من سواه. لأنّه مالك كل شيء والمحيط بجميع وجود الإنسان. وارتباط هذه الجمل مع سابقتها من جهة أنّه لو دعا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس إلى الحياة ، فذلك لأنّ الذي أرسله هو مالك الحياة والموت والعقل والهداية ومالك كل شي.

وللتأكيد على هذا الموضوع فإنّ الآية تريد أن تقول : إنّكم لستم اليوم في دائرة قدرته فحسب ، بل ستذهبون إليه في العالم الآخر ، فأنتم في محضره وتحت قدرته هنا وهناك.

ثمّ تشير إلى عاقبة السوء لمن يرفض دعوة الله ورسوله إلى الحياة فتقول :( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ) .

وكلمة (فتنة) استعملت في القرآن المجيد بمعان مختلفة ، فقد جاءت تارة بمعنى الإختيار والامتحان ، وتارة بمعنى البلاء والعذاب والمصيبة ، وهي في الأصل بمعنى إدخال الذهب في بوتقة النّار ليتميز جيده من رديئه ، ثمّ استعملت بمعنى الإختيارات التي تكشف الصفات الباطنية للإنسان ، واستحدثت في الابتلاء والجزاء الذي يبعث الصفاء في روح الإنسان ويطهّره من شوائب الذنوب ، وأمّا في هذه الآية فإنّ كلمة (فتنة) بمعنى البلاء والمصائب الاجتماعية التي يصاب بها الجميع فيحترق فيها الأخضر مع اليابس.

وفي الحقيقة فشأن الحوادث الاجتماعية هو هكذا ، فإذا ما توانى مجتمع ما عن أداء رسالته ، وانهارت القوانين على أثر ذلك ، وانعدم الأمن ، فإنّ نار الفتنة ستحرق الأبرار مع الأشرار ، وهذا هو الخطر الذي يحذر الله تبارك وتعالى منه ويحذر في هذه الآية المجتمعات البشرية كلّها.

ومفهوم الآية هنا هو أنّ أفراد المجتمع مسئولين عن أداء وظائفهم ، وكذلك

٣٩٧

فهم مسئولون عن حثّ الآخرين لأداء وظائفهم أيضا ، لأنّ الاختلاف والتشتت في قضايا المجتمع يؤدي إلى انهياره ، ويتضرر بذلك الجميع ، فلا يصحّ أن يقول أحد بأنّني أؤدي رسالتي الاجتماعية ولا علاقة لي بالآثار السلبية الناجمة عن عدم أداء الآخرين لواجباتهم ، لأنّ آثار القضايا الاجتماعية ليست فردية ولا شخصية.

وهذا الموضوع يشبه تماما ما لو احتجنا لصد هجوم الأعداء إلى مائة ألف مقاتل ، فإذا قام خمسون ألف مقاتل بأداء وظائفهم فمن اليقين أنّهم سيخسرون عند منازلتهم العدو ، وهذا الانكسار سيشمل الذين أدوا وظائفهم والذين تقاعسوا عن أدائها وهذه هي خصوصية المسائل الاجتماعية.

ويمكن إيضاح هذه الحقيقة بصورة أجلى وهي : أنّ الأخيار من أبناء المجتمع مسئولون في التصدّي للأشرار لأنّهم لو اختاروا السكوت فسيشاركون أولئك مصيرهم عند الله كما ورد ذلك في حديث مشهور عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : (إنّ اللهعزوجل لا يعذب العامّة بعمل الخاصّة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكرون ، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصّة والعامّة)(١) .

ويتّضح ممّا قلناه أنّ هذا الحكم يصدق في مجال الجزاء الإلهي في الدنيا والآخرة ، وكذلك في مجال النتائج وآثار الأعمال الجماعية(٢) .

وتختتم الآية بلغة التهديد فتقول :( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ) لئلا يصاب هؤلاء بالغفلة بسبب الألطاف والرحمة الإلهية وينسوا شدّة الجزاء الإلهي ، فتأكلهم الفتن وتحيط بهم من كل جانب ، كما أحاطت المجتمع الإسلامي ،

__________________

(١) تفسير المنار ، الجزء ٩ ، ص ٦٣٨.

(٢) فقد جرى الحديث بين المفسّرين حول كلمة «لا تصيبنّ» في أنّها هل هي صيغة نفي أو نهي ، فالذين قالوا بالنهي وفسّروها بمعنى اتّقوا الفتن لأنّها لا تصيب الظالمين وحدهم ، وقال بعض : إنّها صيغة نفي ولكن لما يعتقده علماء العربية بأنّ نون التوكيد لا تظهر في النهي وجواب القسم ، فقد اعتبروا الجملة جوابا لقسم مقدر.

٣٩٨

وأرجعته القهقرى بسبب نسيانه السنن والقوانين الإلهية.

فنظرة قصيرة إلى مجتمعنا الإسلامي في زماننا الحاضر والانكسارات التي أصابته أمام أعدائه ، والفتن الكثيرة ، كالاستعمار والصهيونية ، والإلحاد والمادية ، والفساد الخلقي وتشتت العوائل وسقوط شبابه في وديان الفساد ، والتخلف العلمي ، كل ذلك يجسد مضمون الآية ، وكيف أنّ تلك الفتن أصابت كل صغير وكبير ، وكل عالم وجاهل ، وسيستمر كل ذلك حتى اليوم الذي تتحرك فيه الروح الاجتماعية للمسلمين ، ويهتم الجميع بصلاح المجتمع ولا يتخلفوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ويأخذ القرآن الكريم مرّة أخرى بأيدي المسلمين ليعيدهم نحو تاريخهم ، فكم كانوا في بداية الأمر ضعفاء وكيف صاروا لعلهم يدركون الدرس البليغ الذي علّمهم إيّاه في الآيات السابقة فيقول :( وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ ) .

وهذه عبارة لطيفة تشير إلى الضعف وقلّة العدد التي كان عليها المسلمون في ذلك الزمن ، وكأنّهم كانوا شيئا صغيرا معلقا في الهواء بحيث يمكن للأعداء أخذه متى أردوا ، وهي إشارة لحال المسلمين في مكّة قبل الهجرة قبال المشركين الأقوياء. أو إشارة لحال المسلمين في المدينة بعد الهجرة في مقابل القوى الكبرى كالفرس والروم :( فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) .

* * *

٣٩٩

الآيتان

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨) )

سبب النّزول

لقد وردت عدّة روايات في سبب نزول هاتين الآيتين ، منها ما ورد عن الإمامين الباقر والصّادقعليهما‌السلام من أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بمحاصرة يهود (بني قريضة) واستمرت هذه المحاصرة واحدا وعشرين يوما ، حتى أجبروا على المطالبة بالصلح ، كما جرى ذلك مع اليهود من (بني النضير) وذلك بأن يرحلوا عن أرض المدينة إلى أرض الشام ، لكن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رفض ذلك العرض (لعلّه كان يشك في صدق نيّاتهم) وقال : يجب القبول بحكم (سعد بن معاذ) لكنّهم طلبوا من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يرسل إليهم (أبا لبابة) وهو من أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة ، وكانت له معهم صداقة قديمة ، وكانت عائلته وأبناؤه وأمواله عندهم.

فقبل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك الطلب وأرسل (أبا لبابة) إليهم فاستشاروه : هل من مصلحتهم القبول بتحكيم (سعد بن معاذ)؟ فأشار أبو لبابة إلى حلقه ، بمعنى أنّكم

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606