الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245284 / تحميل: 6212
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

لو قبلتم فسوف تقتلون فلا ترضوا بهذا العرض ، فهبط أمين الوحي جبرائيلعليه‌السلام إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره بذلك.

يقول أبو لبابة : فو الله ما زالت قدماي حتى عرفت إنّي خنت الله ورسوله ، وعند ذاك نزلت هذه الآيات في أبي لبابة. وقد عاد أبو لبابة معلنا ندمه الشديد وأتى بحبل وربط نفسه به إلى أحد أعمدة مسجد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وقال : والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى يموت أو يقبل الله توبته. واستمر على هذه الحال دون أكل وشرب إلى سبعة أيّام ، حتى فقد وعيه وسقط على الأرض مغشيا عليه ، فقبل الله توبته ، وقام المؤمنون بإبلاغة الخبر ، لكنّه أقسم أن لا يفكّ نفسه من العمد حتى يأتيه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويفك عنه الحبل ، فجاءه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفكّ حبله ، وقال (أبو لبابة) : إنّ من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها بالذنب وأن انخلع من مالي ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له : «يجزيك الثلث أن تصدّق به»(١) .

وقد جاء هذا المضمون نفسه في كتب أهل السنة حول سبب النّزول ، إلّا أنّ بعضهم استبعد النّزول في شأن (بني قريضة) ، لأنّ سابقاتها من الآيات تتعلق بحادثة بدر ، ولأنّ هذه القضية لم تقع إلّا بعد مدّة طويلة من واقعة بدر ، لهذا قالوا : إنّ المقصود في الرّوايات هو أنّ حادثة بني قريضة من مصاديق الآية ، لا أنّها نزلت فيها ، وإنّ هذه العبارة يوردها الكثيرون في أسباب النّزول. فعلى سبيل المثال فقد جاء في بعض الكتب نقلا عن بعض الصحابة أنّ الآية الفلانية قد نزلت في قتل عثمان ، غير أنّ من المعلوم أنّ قتل عثمان حدث بعد سنين طويلة من وفاة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ويحتمل أيضا أن الآية قد نزلت في بني قريضة ، ولكن بما أنّها كانت تتناسب والآيات النازلة في قضية بدر ، فقد أمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإلحاقها بتلك الآيات.

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ١٤٣.

٤٠١

التّفسير

الخيانة وأساسها :

يوجه الله سبحانه في الآية الأولى من الآي محل البحث الخطاب إلى المؤمنين فيقول :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ ) .

إنّ الخيانة لله ورسوله ، هي وضع الأسرار العسكرية للمسلمين في تصرف أعدائهم ، أو تقوية الأعداء أثناء محاربتهم ، أو بصورة عامّة ترك الواجبات والمحرمات والأوامر الإلهية ، ولذلك فقد ورد عن (ابن عباس) : إنّ من ترك شيئا من الأوامر الإسلامية فقد ارتكب خيانة بحق الله ورسوله.

ثمّ تقول الآية :( وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ ) (١) .

و (الخيانة) في الأصل معناها : الامتناع عن دفع حق أحد مع التعهد به ، وهي ضد (الأمانة) والأمانة وإن كانت تطلق على الأمانة المالية غالبا ، لكنّها في منطق القرآن ذات مفهوم أوسع يشمل شؤون الحياة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية كافة ، ولذلك جاء في الأحاديث : «المجالس بالأمانة».

ونقرأ في حديث آخر : «إذا حدث الرجل بحديث ثمّ التفت فهو أمانة. ومن ذلك تكون أرض الإسلام أمانة إلهية بأيدي المسلمين وأبنائهم أيضا. وفوق كل ذلك فإنّ القرآن المجيد وتعاليمه كل ذلك يعد أمانة إلهية كبرى ، وقد قال بعضهم : إنّ أمانة الله هي أوامره ، وأمانة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سنته ، وأمانة المؤمنين أموالهم وأسرارهم ، ولكن الأمانة في الآية ـ آنفا ـ تشتمل على كل ذلك.

على كل حال ، فإنّ الخيانة في الأمانة من أقبح الأعمال وشرّ الذنوب. فإنّ من يخون الأمانة منافق في الحقيقة ، كما ورد في الحديث عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . حيث قال : «آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا

__________________

(١) «تخونوا) في الأصل (لا تخونوا) وقد حذفت (لا) بقرينة الجملة السابقة.

٤٠٢

ائتمن خان ، وإن صام وصلى وزعم أنّه مسلم».

كما أن ترك الخيانة في الأمانة يعدّ من الحقوق والواجبات الإنسانية ، حتى إذا كان صاحب الأمانة غير مسلم فلا تجوز خيانة أمانته.

ويقول القرآن في آخر الآية :( وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أي أنّه قد يصدر منكم على نحو الخطأ ما هو خيانة ، ولكن تقدموا على الخيانة وأنتم تعلمون ، فإنّ عملا كعمل (أبي لبابة) لم يكن لجهل أو خطأ ، بل بسبب الحب المفرط للمال والبنين وحفظ المصالح الشخصية الذي قد يسد في لحظة حساسة كل شيء بوجه الإنسان ، فكأنّه لا يرى بعينه ولا يسمع بأذنيه فيخون الله ورسوله ، وهذه في الحقيقة خيانة مع العلم ، والمهم أن يستيقظ الإنسان بسرعة كما فعل (أبو لبابة) ليصلح ما قام بتخريبه.

والآية بعدها تحذر المسلمين ليجتنبوا الماديات والمنافع العابرة ، لئلا تلقى على عيونهم وآذانهم غشاء فيرتكبون خيانة تعرّض المجتمع إلى الخطر فتقول :( وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) .

وكلمة «فتنة» ـ كما ذكرنا ـ تأتي في مثل هذه الموارد بمعنى وسيلة الامتحان ، والحقيقة أنّ أهم وسيلة لامتحان الإيمان والكفر والشخصية وفقدانها ، وميزان القيم الإنسانية للأفراد هو هذان الموضوعان (المال والأولاد).

فكيفية جمع المال وكيفية إنفاقه ، والمحافظة عليه وميزان التعلق به ، كل تلك ميادين لامتحان البشر ، فكم من أناس يلتزمون بظاهر العبادة وشعائر الدين ، حتى المستحبات يلتزمون بشدّة في أدائها ، لكنّهم إذا ما ابتلوا بقضية مالية ، تراهم ينسون كل شيء ويدعون الأوامر الإلهية ومسائل الحق والعدل والإنسانية جانبا.

أمّا عن الأبناء فهم ثمار قلب الإنسان وبراعم حياته المتفتحة ، ولهذا نجد الكثير من الناس المتمسكين بالدين والمسائل الأخلاقية والإنسانية ، لا يراعوا الحق والدين بالنسبة للمسائل المتعلقة بمصلحة أبنائهم ، فكأنّ ستارا يلقى على

٤٠٣

أفكارهم فينسون كل الأمور ، ويصير حبّهم لأبنائهم سببا ليحلّوا الحرام ويحرموا الحلال ، ومن أجل توفير المستقيل لأبنائهم يستحقون كل حق ويقدمون على كل منكر ، فيجب علينا الاعتصام بالله العظيم في هذين الميدانين العظيمين للامتحان ، وأن نحذر بشدّة ، فكم من الناس زلت أقدامهم وسقطوا فيهما ، وظلت لعنة التأريخ تلاحقهم أبدا بذلك. فإذا زلت لنا قدم يوما ، فيجب علينا الإسراع في تصحيح المسير ك (أبي لبابة) وإذا كان المال هو السبب في الانحراف ، فعلينا بذله وإنفاقه في سبيل الله.

وفي نهاية الآية بشارة كبرى لمن يخرج من هذين الامتحانين منتصرا ، فتقول :( وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) .

فمهما كان حبّ الأبناء كبيرا ، ومهما كانت الأموال محبوبة وكثيرة ، فإنّ جزاء الله وثوابه أعلى وأعظم من كل ذلك.

وهنا تثار أسئلة كثيرة ، منها : لماذا يمتحن الله الناس مع إحاطته العلمية بكل شيء؟ولماذا يكون الامتحان شاملا للجميع حتى الأنبياء؟ وما هي مواد الامتحان الإلهي وما هي السبل للتغلب عليها؟ وقد أجبنا على كل تلك الأسئلة في المجلد الأولى من التّفسير الأمثل.

* * *

٤٠٤

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩) )

التّفسير

الإيمان ووضوح الرّؤية :

تناولت الآيات السابقة أوامر حياتية تتضمّن السعادة المادية والمعنوية للإنسان ، لكن العمل بها غير ممكن إلّا في ظلال التقوى ، لذلك جاءت هذه الآية المباركة لتؤكّد أهمية التقوى وآثارها في مصير الإنسان ، وقد بيّنت الآية أربعة ثمار ونتائج للتقوى.

فقالت ابتداء :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً ) .

وكلمة «فرقان» صيغة مبالغة من مادة (فرق) وهي هنا بمعنى الشيء الذي يفصل بين الحق والباطل تماما.

إنّ هذه الجملة الموجزة والكبيرة في معناها قد بيّنت إحدى أهم المسائل المؤثره في مصير الإنسان ، وهي أنّ درب الإنسان نحو النصر محفوف دائما بالمصاعب والحفر فإذا لم يبصرها جيدا ويحسن معرفتها واتقاءها فسيسقط فيها

٤٠٥

لا محالة ، فأهم مسألة في هذا الطريق هي معرفة الحق والباطل ، معرفة الحسن والقبيح ، معرفة الصديق والعدو ، معرفة الفوائد والأضرار ، معرفة عوامل السعادة والضياع ، فإذا استطاع الإنسان معرفة هذه الحقائق جيدا فسيسهل عليه الوصول إلى الهدف.

إنّ المشكلة التي تعترض الإنسان غالبا هي خطأه في تشخيص الباطل واختياره على الحق ، وانتخاب العدوّ بدل الصديق ، وطريق الضلال بدل طريق الهداية ، وهنا يحتاج الإنسان إلى بصر وبصيرة قويّة ، ووضوح رؤية. إنّ هذه الآية المباركة تقول : إنّ هذه البصيرة ثمرة لشجرة التقوى. أمّا كيف تعطي هذه التقوى البصيرة للإنسان؟ فقد يكون الأمر مبهما لدى البعض ، لكن قليلا من الدقّة والتأمل كافية لتوضيح العلاقة الوثيقة بين هذين الإثنين ، ولإيضاح ذلك نقول :

أوّلا : إنّ قوّة عقل الإنسان تستطيع إدراك الحقائق بقدر كاف ، ولكن ستائر من الحرص والطمع والشهوة وحبّ النفس والحسد ، والحبّ المفرط للمال والأزواج والأولاد والجاه والمنصب كل ذلك يغدوّ كالدخان الأسود أمام بصيرة العقل ، أو كالغبار الغليظ الذي يملأ الآفاق ، وهنا لا يمكن للإنسان معرفة الحق والباطل في أجواء مظلمة ، أمّا إذا غسل تلك الغشاوة بماء التقوى وانقشع ذلك الدخان الأسود ، عند ذاك تسهل عليه رؤية نور الحق.

ثانيا : أنّنا نعلم أنّ كل كمال في أي مكان إنّما هو قبس من كمال الحق ، وكلّما اقترب الإنسان من الله فإنّ نور الكمال المطلق سينعكس في وجوده أكثر ، وعلى ذلك فإنّ أي علم ومعرفة فهو نبع من علمه ومعرفته تعالى ، وكلّما تقدّم الإنسان في ظلال التقوى وترك المعاصي من الله ، ذابت قطرة وجوده في بحر وجود العظيم أكثر ، وسيحصل على مقدار أكثر من العلم والمعرفة.

وبعبارة أخرى فإنّ قلب الإنسان كالمرآة ، ووجود الله كالشمس الساطعة على الوجود ، فإذا تلوثت مرآة قلبه من الأهواء حتى اسودت ، فسوف لا تعكس

٤٠٦

النور ، فإذا تمّ جلاؤها بالتقوى وزال الدرن عنها ، فإنّ تلك الشمس الوضاءة الساطعة ستنعكس فيها وتنير كل مكان.

ولذلك فإنّنا نرى على مدى التأريخ بعض النساء والرجال المتّقين يملكون وضوحا من الرؤية لا يمكن بلوغه بوسائل العلم والمعرفة أبدا ، فهم يرون أسباب الكثير من الحوادث التي تعصف بالمجتمع غير المرئية ، ويرون وجود أعداء الحق وإن حجبتها آلاف الستائر الخادعة.

وهذا الأثر العجيب للتقوى في معرفة الواقع ، جاء ذكره في الكثير من الرّوايات والآيات الأخرى ، ففي سورة البقرة تقول الآية ٢٨٢ :( اتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ ) ، وجاء في الحديث المعروف : «المؤمن ينظر بنور الله».

وفي نهج البلاغة في قصار الكلم : «أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع».

ثالثا : بالتحليل العقلي يمكن فهم العلاقة الوثيقة بين التقوى وإدراك الحقائق أيضا ، لأنّ المجتمعات التي تسير في دروب الفساد والرذيلة وأجهزة الإعلام فيها تطبل لذلك الميسر ، والصحافة والراديو والتلفزيون كلها تدعو للتلوث والانحراف وخدمة الفساد ، فمن البديهي أن يصعب على الناس تمييز الحق من الباطل ، الجيد من الرديء ، ونتيجة الأمر ، فإنّ انعدام التقوى يكون سببا لفقدان القدرة على هذه المعرفة أو سوء المعرفة.

ومثال آخر : فإنّ عائلة غير متقيّة ، وصغارها يشبون في محيط ملوث بالفساد والرّذيلة ، فمن العسير على هؤلاء في المستقبل تمييز الجيد من الرديء ، وإهدار القوى والطاقات في الذنوب يتسبب بقاء الناس على مستوى دان من البصيرة والمعرفة وانحطاط في التفكير حتى وإن كانوا متقدمين في الصناعة والحياة المادية.

وبناء على ما تقدم فإنّنا نرى أنّ ادنى انحراف عن التقوى يسبب نوعا من

٤٠٧

العمى وسوء المعرفة ، لذلك نرى في العالم الصناعي اليوم مجتمعات متقدمة جدّا في العلم والصناعة ، ولكنّها في حياتها اليومية مصابة بأمراض ومشاكل شديدة تبعث على الاستغراب والتعجب ، وهنا تتجلى عظمة ما قاله القرآن الكريم.

ونظرا إلى أنّ التقوى لا تنحصر بالتقوى في العمل ، بل تشمل التقوى في الفكر والعقل ، فإنّ هذه الحقيقة تتّضح بصورة أجلى. فالتقوى في الفكر تعني مواجهة التسيّب وعدم الانضباط في التفكير ، بمعنى أن نبحث في دراساتنا وتحقيقاتنا عن أصح الأدلة وأوثق البراهين ، وأن لا نلتزم بعقيدة دون التحقيق الكافي والدقة اللازمة.

والذين يراعون التقوى ويلتزمونها في تفكيرهم سيبلغون النتائج الصحيحة أسرع بكثير ممن لا يلتزم بها ، كما أنّ الخلط والخطأ يكثر عند من لا يتقي الله في استدلالاته وأسلوب تفكيره.

وهناك أمر آخر يجب الانتباه إليه ، لأنّ الكثير من مفاهيمنا الإسلامية قد تعرضت للتشويه بين المسلمين ، وهو أنّ الكثير من الناس يتصور أنّ الإنسان المتقي هو الذي يكثر من غسل بدنه ولباسه ويعتبر كل فرد وكل شيء نجسا ومشكوكا فيه ، وينزوي جانبا متجنبا الخوض في الأمور الاجتماعية ، ويسكت أمام كل واقعة ، فهذه النظرات المغلوطة عن التقوى والمتقين في الحقيقة إحدى عوامل انحطاط المجتمعات الإسلامية ، لأنّ هذه التقوى لا تنتج معرفة ولا وضوح رؤية ولا تكون فرقانا بين الحق والباطل.

وعلى كل حال ، وبعد أن اتّضح أوّل ثواب للمتقين نعود لتفسير بقية الآية وسائر الثمار الأربعة لها.

يقول القرآن الكريم : إنّه إضافة إلى معرفة الحق من الباطل فإنّ من آثار التقوى أن يغطي على ذنوبكم ويمحوا آثارها من وجودكم( وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) .

٤٠٨

مضافا إلى ذلك ، فإنّه تعالى سيشملكم بمغفرته( وَيَغْفِرْ لَكُمْ ) .

وثمار كثيرة أخرى تنتظركم لا يعلمها إلّا الله :( وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) .

فهذه الآثار الأربعة هي ثمرات في شجرة التقوى ، ووجود روابط طبيعية بين التقوى وقسم من هذه الآثار لا يمنع من نسبة كل ذلك إلى الله تبارك وتعالى ، لأنّنا وكما قلنا مرارا في هذا التّفسير فإنّ أي موجود ذي آثار إنّما تحصل بمشيئة الله وقدرته ، فيمكن نسبة تلك الآثار إلى اللهعزوجل ، وإلى ذلك الموجود أيضا.

وأمّا الفرق بين (تكفير السيئات) و (الغفران). فقد قال بعض المفسّرين بأنّ الأولى إشارة إلى الحجب من الدنيا ، والثّانية إلى النجاة من الجزاء الأخروي ، ويرد احتمال آخر هنا وهو أن (تكفير السيئات) تشير للآثار النفسية والاجتماعية للذنوب والتي تزول بفعل التقوى ، ولكن (الغفران) إشارة إلى مسألة العفو الإلهي والخلاص من الجزاء

* * *

٤٠٩

الآية

( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠) )

سبب النّزول

ذكر المفسّرون والمحدثون أن الآية ـ محل البحث ـ تشير إلى الحوادث التي أدت إلى هجرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكّة إلى المدينة.

هذه الحوادث وإن رويت بعبارات مختلفة إلّا أنّها تتفق جميعا على حقيقة أنّ اللهعزوجل قد أنقذ نبيّه الكريم عن طريق الإعجاز من خطر محدق به ، ونروي هذه الحادثة وفقا لمّا ورت في الدّر المنثور ومجمع البيان ذيل الآية آنفا قال المفسّرون : إنّها نزلت في شأن «دار النّدوة» وذلك أنّ نفرا من قريش اجتمعوا فيها وهي دار قصيّ بن كلاب ، وتآمروا في أمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال عروة بن هشام : نتربص به ريب المنون ، وقال أبو البختري : أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه ، وقال أبو جهل : ما هذا برأي ، ولكن اقتلوه بأن يجتمع عليه من كل بطن رجل فيضربوه بأسيافهم ضربة رجل واحد فيرضى بنو هاشم حينئذ بالديّة ، فصوّب

٤١٠

إبليس هذا الرأي ، وكان قد جاءهم في صورة شيخ كبير من أهل نجد ، وخطّأ الأولّين.

فاتفقوا على هذا الرأي وأعدّو الرجال والسلاح وجاء جبرئيلعليه‌السلام فأخبر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخرج إلى الغار وأمر عليّا فبات على فراشه ، فلمّا أصبحوا وفتشوا عن الفراش ، وجدوا عليّاعليه‌السلام وقد ردّ الله مكرهم فقالوا : أين محمّد؟ فقال : لا أدري ، فاقتصّوا أثره وأرسلوا في طلبه ، فلمّا بلغوا الجبل ومرّوا بالغار رأوا على بابه نسج العنكبوت ، فقالوا : لو كان هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاثا ثمّ قدم المدينة»(١) .

التّفسير

سرّ بداية الهجرة :

يعتقد بعض المفسّرين أنّ هذه الآية ، وخمس آيات تليها ، نزلت في مكّة لأنّها تشير إلى هجرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن سياقها يدل على نزولها بعد الهجرة ، إذ تتكلم على حادثة سابقة.

فبناء على ذلك تكون هذه الآية قد نزلت في المدينة بالرغم من حديثها عن هجرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتحدث عن الذكرى الكبرى والنعمة العظمى التي منّ الله بها على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين ، فتقول في بدايتها( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ) .

كلمة «المكر» كما ذكرنا سلفا تعني في اللغة التدبير والتخطيط والحيلة.

ثمّ تضيف الآية قائلة :( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ) .

فإذا أمعنّا النظر في موضوع هجرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّنا سنجد أنّ المشركين قد بذلوا كل ما في وسعهم وجهدهم من طاقات فكرية وجسدية للقضاء على نبيّ

__________________

(١) الدر المنثور وفقا لما نقل عنه صاحب المنار ، ومجمع البيان ذيل الآية.

٤١١

الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى أنّهم أعدّوا جائزة لهذا الغرض وهي مائة ناقة ، وهذا العدد من الإبل كان يعدّ ثروة كبرى يومئذ «هذه الجائزة لكلّ من يقبض على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى بعد أن خرج عن قبضتهم» وقد طفق الكثير يجوبون الفيافي والجبال ليبحثوا عنه طلبا لتلك الجائزة الكبرى حتى بلغوا الغار ، ولكن الله سبحانه أذهب بأتعابهم أدراج الرياح بواسطة نسيج العنكبوت!

ونظرا إلى أنّ هجرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تمثل مرحلة جديدة في التأريخ الإسلامي ، بل التأريخ الإنساني ، فإنّنا نستنتج أنّ الله قد غير مسيرة التأريخ البشري بما نسجته العنكبوت من خيوط! وهذا الأمر لا ينحصر بهجرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل في جميع تأريخ الأنبياء ، فإنّ الله سبحانه أذل أعداءهم ودمرهم وأباد قوى الضلال بأسباب هيّنة كالريح ـ مثلا ـ أو كثرة البعوض ، أو الطير الصغيرة التي تسمّى بالأبابيل ، ليبيّن حالة الضعف البشري والعجز إزاء قدرته اللامتناهية وليردع الإنسان عن التفكير بالطغيان والعناد.

وممّا يسترعي النظر أنّ الالتجاء إلى هذه الأساليب الثّلاثة : السجن والنفي والقتل ، لم يكن منحصرا بالمشركين في مواجهة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحسب ، فإنّ الطغاة يلجأون إلى هذه الأساليب الثّلاثة دائما للقضاء على المصلحين وإسكاتهم ، والحيلولة دون بسط نفوذهم بين المستضعفين ، إلّا أنّه كما كانت النتيجة خلاف ما أراده مشركو مكّة في شأن النّبي وأضحت مقدمة لتحرك إسلامي جديد ، فكذلك مثل هذه الموجهات الشديدة قد باءت نتائجها في مواطن أخرى بعكس ما كان متوقعا(١)

* * *

__________________

(١) الملاحظة اللطيفة هنا هو أنّ كتابة هذا التّفسير كانت في الاجزاء السابقة تسير مسيرا بطيئا ، ولكن بما أن راقم هذه السّطور حين كتابة هذا الجزء من التّفسير كان قد نفي من قبل حكومة الطاغوت إلى مدينة «مهاباد» و «أنارك» فإنّ كتابة هذا التّفسير قد سارعت الخطى بحيث إنّني أكملت تمام هذا الجزء في ذلك المنفي.

٤١٢

الآيات

( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١) وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥) )

التّفسير

القائلون شططا :

ذكر في الآية السابقة مثل خرافي من منطق المشركين العملي ، وفي هذه الآيات مثل آخر من منطقهم الفكري ، ليتّضح أنّ هؤلاء لم يمتلكوا سلامة في

٤١٣

الفكر ولا صحة في العمل ، فجميع أساليبهم خاوية بغير أساس.

تقول الآية الأولى من الآيات محل البحث :( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) .

كانوا يقولون مثل هذا الكلام عند ما يعجزون عن مواجهة القرآن ومعارضته ، وكانوا يعرفون جيدا أنّهم غير قادرين على معارضة القرآن ، إلّا أنّهم ولحقدهم وعصبيتهم ، أو لأنّهم يريدون إضلال الناس ، كانوا يقولون : إنّ الإتيان بمثل هذه الآيات غير عسير ولو نشاء لقلنا مثلها ، ولكنّهم لم يستطيعوا أن يأتوا بمثلها أبدا ، وما هذا القول منهم سوى ادعاء فارغ يهدفون بذلك إلى إبقاء كيانهم الاجتماعي ـ كسائر الجبايرة في التأريخ ـ إلى أمر معدود.

والآية التّالية تتحدث عن منطق عجيب آخر فتقول :( وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) .

لقد كانوا يقولون ذلك لشدّة تعصبهم وعنادهم ، وكانوا يتصورون أنّ الدين الإسلامي لا أساس له أبدا ، وإلّا فإنّ أحدا يحتمل حقانية الإسلام كيف يمكنه أن يدعو على نفسه بمثل هذا الدعاء؟

كما ويحتمل أيضا أنّ شيوخ المشركين وسادتهم يقولون ذلك الكلام لتضليل الناس وليثبتوا لبسطائهم أنّ رسالة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باطلة تماما ، في حين أنّهم لا يعتقدون بما يقولون. وكأنّهم ـ أي المشركين ـ يريدون أن يقولوا للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّك تتكلم عن الأنبياء السابقين ، وإنّ الله قد أهلك أعداءهم بحجارة أمطرها عليهم «كما هي الحال في شأن قوم لوط» فإن كنت صادقا فيما تقول فأمطر علينا حجارة من السماء!

وقد ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام (في مجمع البيان) أنّه لما نصب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علياعليه‌السلام يوم غدير خم فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، طار ذلك في البلاد ، فقدم على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النعمان بن الحارث الفهري ، فقال : أمرتنا من الله

٤١٤

أن نشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسول الله ، وأمرتنا بالجهاد والحج والصوم والصلاة والزكاة فقبلناها ، ثمّ لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فهذا شيء منك أو أمر من عند الله؟

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والله الذي لا إله إلّا هو ، إن هذا من الله». فولّى النعمان بن الحارث وهو يقول : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ، فرماه الله بحجر على رأسه فقتله(١) .

وهذا الحديث لا ينافي نزول الآية في قصّة الغدير ، لأنّ سبب النّزول لم يكن موضوع النعمان ، بل إن النعمان قد اقتبس من الآية في الدعاء على نفسه ، وهذا يشبه قولنا في الدعاء مقتبسين ذلك من القرآن( رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ) «وسيأتي تفصيل هذا الموضوع وما ذكرته كتب أهل السنة من أساتيد كثيرة له في ذيل الآية الأولى من سورة المعارج( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) بإذن الله».

وفي ما تقدم من الآيات نلاحظ أنّ المشركين وجّهوا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إشكالين.

الأوّل منهما : واضح البطلان ، وهو قولهم : لو نشاء لقلنا مثل هذا. فلم يردّ عليه القرآن. بديهي أن هذا الادعاء أجوف كاذب ، لأنّهم لو استطاعوا لما توانوا عنه أبدا ولجاءوا به ، فلا حاجة إذن للردّ عليه.

والإشكال الثّاني : لو كانت هذه الآيات نازلة من قبل الله فأنزل علينا العقاب والبلاء ، فيرد عليهم القرآن في الآية الثّالثة ، من الآيات محل البحث ، بقوله :( وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) .

وفي الحقيقة أنّ وجودك ـ يا رسول الله ـ الذي هو رحمة للعالمين ، يمنع من

__________________

(١) راجع مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ٣٥٢ وتفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ١٥١.

٤١٥

نزول البلاء بسبب هذه الذنوب ، فيهلك قومك كما هلكت الأمم السابقة جماعات أو متفرقين.

ثمّ تعقيب الآية بالقول :( وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) .

وللمفسّرين احتمالات متعددة في تفسير الجملة آنفة الذكر ، منها أنّ بعض المشركين ندموا على قولهم الذي ذكرته الآية فقالوا : غفرانك ربّنا ، وكان ذلك سببا لأن لا ينزل عليهم العذاب حتى بعد خروج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكّة.

وقال بعضهم : إنّ الآية تشير إلى من بقي من المؤمنين في مكّة ، لأنّ بعضا ممن لم يستطع الهجرة بقي فيها بعد خروج النّبي ، فوجودهم الذي هو شعاع من وجود النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منع من نزول العذاب.

كما يحتمل أن تكون هذه الجملة التي ذكرتها الآية تتضمّن مفهوم جملة شرطية ، أي أنّهم لو ندموا على فعلهم توجهوا إلى الله واستغفروه فسيرتفع عنهم عقاب الله.

كما لا يبعد ـ في الوقت ذاته ـ الجمع بين هذه الاحتمالات كلّها في تفسير الآية ، أي يمكن أن تكون الآية إشارة إلى جميع هذه الاحتمالات.

وعلى أية حال ، فإنّ مفهوم الآية لا يختصّ بمعاصري النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل هو قانون عام كليّ يشمل جميع الناس. لهذا فقد روي في مصادرنا عن الإمام علي ، وفي مصادر أهل السنة عن تلميذ الإمام علي «ابن عباس» أنّه قالعليه‌السلام : «كان في الأرض أمانان من عذاب الله ، وقد رفع أحدهما فدونكم الآخر فتمسكوا به. وقرأ هذه الآية»(١) .

ويتّضح من الآية ـ محل البحث ، والحديث آنف الذكر ـ أنّ وجود الأنبياءعليهم‌السلام مدعاة لأمن الناس من عذاب الله وبلائه الشديد ، ثمّ الاستغفار والتوبة

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار.

٤١٦

والتوجه والضراعة نحو الله ، إذ يعدّ الاستغفار والتوبة ممّا يدفع به العذاب.

فإذا انعدم الاستغفار فإنّ المجتمعات البشرية ستفقد الأمن من عذاب الله لما اقترفته من الذنوب والمعاصي.

وهذا العذاب أو العقاب قد يأتي في صورة الحوادث الطبيعية المؤلمة ، كالسيل مثلا ، أو الحروب المدمّرة ، أو في صور أخرى ، وقد جاء في دعاء كميل بن زياد عن الإمام علىعليه‌السلام قوله «اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء».

فهذا التّعبير يدل على أنّه لو لا الاستغفار فإنّ كثيرا من الذنوب قد تكون سببا في البلاء والكوارث.

وينبغي التذكير بهذه اللطيفة ، وهي أنّ الاستغفار لا يعني تكرار ألفاظ معينة ، كأن يقول المرء «اللهم اغفر لي» بل المراد منه روح الاستغفار الذي هو حالة العودة نحو الحق والتهيؤ لتلافي ما مضى من العبد قبال ربّه.

والآية التّالية : تقول : إنّ هؤلاء حقيقون بعذاب الله( وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) .

وهذا التعبير في الآية يشير إلى يوم كان المسلمون في مكّة ، ولم يكن لهم الحق أن يقيموا صلاة الجماعة بتمام الحرية ، والاطمئنان عند المسجد الحرام ، إذ كانوا يتعرضون للإيذاء والتعذيب.

أو أنّ هذا التعبير يشير إلى منع المشركين المسلمين وصدهم إياهم بعد أدائهم مناسك الحج والعمرة ، فلم يأذنوا لهم بالتردد إلى المسجد الحرام.

والعجيب أنّ هؤلاء المشركين كانوا يتصورون أنّ لهم حق التصرف كيفما شاءوا في المسجد الحرام ، وأنّهم أولياؤه. إلّا أنّ القرآن يضيف في هذه الآية قائلا :( وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ ) وبالرغم من زعمهم أنّهم أولياؤه ف( إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) .

ومع أنّ هذا الحكم ورد في شأن المسجد الحرام ، إلّا أنّه يشمل جميع المراكز

٤١٧

الدينية والمساجد فإنّ سدنتها ينبغي أن يكونوا من أطهر الناس وأتقاهم وأورعهم وأكثرهم اهتماما بالمحافظة على مراكز العبادة ، ليجعلوها منطلقا للتعليم وبثّ الوعي والإيقاظ. إذ لا يصلح لإدارة هذه المراكز حفنة من الحمقى أو باعة الضمائر الملوّثين والمرتبطين بالأجانب ، الذين يسعون إلى تحويل المساجد ومراكز العبادة إلى محال تجاربة ، أو جعلها مكانا لتخدير الأفكار ، والابتعاد عن الحقّ. وفي اعتقادنا أنّ المسلمين لو كانوا ملتزمين بتعاليم القرآن في شأن المساجد ، لكانت المجتمعات الإسلامية اليوم لها وجه آخر وصورة مشرقة!

والأعجب في هذا الشأن أنّ المشركين كانوا يدّعون أنّهم يصلّون ويعبدون الله بما كانوا يقومون به من أعمال قبيحة كالصفير والتصدية عند البيت ، ولهذا فقد قالت الآية التالية عنهم :( وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً ) .

ونقرأ في التأريخ أنّ طائفة من الأعراب في زمان الجاهلية عند ما كانوا يطوفون بالبيت العتيق ، كانوا يخلعون ثيابهم ويصفرون ويصفقون ويسمّون أعمالهم هذه عبادة ، وورد أيضا أنّ النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما كان يقف بجانب الحجر الأسود ويتجه بوجهه نحو الشمال ليكون في مقابل الكعبة وبيت المقدس ، ويشرع بالصلاة ، كان يقف إلى يمينه ويساره رجلان من بني سهم فيأخذ أحدهم بالصياح والآخر بالتصفيق ليؤذياه في صلاته.

تعقب الآية على ما تقدم لتقول : إنّ أعمالكم ـ بل حتى صلاتكم ـ مدعاة للخجل والسفاهة ولذلك( فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) .

إنّ الإنسان حين يقلّب صفحات التأريخ ويتوغّل فيه باحثا عن جوانب من تاريخ عرب الجاهلية التي وردت الإشارة إليها في القرآن ، يرى ـ ويا للعجب العجاب! ـ في عصرنا الحاضر الذي عرف بعصر الفضاء والذرة من يعيد تلك الأعمال التي كانت في زمان الجاهلية ، ويتصوّر نفسه في عبادة ، فيقرءون الآيات

٤١٨

القرآنية أو الأشعار في مدح النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والامام عليعليه‌السلام بالألحان الموسيقية ذات الإيقاع المثير ، وتهتزّ أيديهم ورؤوسهم بما يشبه حالة الرقص ، ويسمّون ذلك ذكرا ومدائح ، ويقيمونها في التكايا وغيرها. مع إنّ الإسلام يبرأ من جميع هذه الأعمال ، وهي مثل آخر من أمثلة أعمال «الجاهلية».

ويبقى هنا سؤال واحد ، وهو أنّ الآية الثّالثة من الآيات محل البحث قد نفت نزول العذاب بتوفر شرطين طبعا ، والآية الرّابعة أثبتت ترى ألا يقع التضاد بين الآيتين؟

والجواب : إنّ الآية السابقة إلى العقاب الدنيوي ، والآية اللاحقة لعلها إشارة إلى العقاب الأخروي ، أو أنّها إشارة إلى أنّ هؤلاء يستحقون العقاب في الدنيا وهو محدق بهم ، فإذا مضى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يتوبوا ويستغفروا ربّهم فإنّه سينزل بهم لا محالة.

* * *

٤١٩

الآيتان

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧) )

سبب النّزول

جاء في تفسير علي بن إبراهيم وكثير من التفاسير الأخرى ، أنّ الآية ـ محل البحث ـ نزلت في معركة بدر ، وما بذله أهل مكّة للصدّ عن سبيل الله ، لأنّهم لما عرفوا ما حصل ـ إذ جاءهم مبعوث أبي سفيان ـ قاموا بجمع الأموال الكثيرة ليعينوا بها مقاتليهم ، إلّا أنّهم خابوا وقتلوا وآبوا إلى جهنم وساءت مصيرا ، وكان ما أنفقوه في هذا الصدد وبالا وحسرة عليهم. والآية الأولى تشير إلى سائر معوناتهم التي قدموها في سبيل مواجهة الإسلام ومحاربته ، وقد طرحت الموضوع في صياغة كلّية.

وقال بعضهم : إنّ الآية نزلت في ما بذله أبو سفيان لألفى مقاتل «مرتزق» في

٤٢٠

معركة أحد.

إلّا أنّه لما كانت الآية محل البحث واقعة في سياق الآيات النازلة في معركة بدر ، فإنّ الرأي الأوّل في شأن نزولها يبدو أقرب للصحة.

التّفسير

مهما يكن شأن نزول الآية ، فمفهومها مفهوم جامع يحمل في معناه كلّ ما بذله أعداء الحق والعدل من أموال لنيل مقاصدهم المشؤومة ، إذ تقول في مستهلها :( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) .

إلّا أنّ هذا الإنفاق والبذل لن يحقق لهم نصرا( فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ) .

ولا يبتلون بالحسرة والهزيمة في الدنيا فحسب ، بل هم كذلك في الآخرة أيضا( وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ) .

* * *

ملاحظات

1 ـ يستفاد من الآية محل البحث أنّ «هؤلاء» يحسّون بعدم جدوى أعمالهم حتى قبل غلبهم وانهزامهم ، وحيث إنّهم لا يرون نتيجة مثمرة لما أنفقوه من الأموال ، فسيبتلون بالألم والحسرة ، وهذا الأمر هو نوع من جزائهم الدنيوي وأحد عقوباتهم فيها.

أمّا الجزاء الآخر الذي ينالونه ، فهو فشل خططهم ومناهجهم ، لأنّ الذين يقاتلون وهم متعلقون بالأموال والثروة لا يستطيعون مواجهة المقاتلين من أجل المبدأ والأهداف المقدسة.

وقد برهنت الحوادث في عصرنا هذا على أن الدول القوية التي تغري

٤٢١

مقاتليها بالمال والرغبات المادية ، كثيرا ما تصاب بالخزي والافتضاح والهزيمة بوجه الأمم المستضعفة التي تقاتل عن إيمان وعقيدة راسخة! وبالإضافة إلى هذين الجزاءين فهناك جزاء ثالث ينتظرهم يوم القيامة ، وهو «الغضب الإلهي».

2 ـ ما ذكرته الآية محل البحث ، نجد له أمثلة في عصرنا الحاضر ، كقوى الاستكبار ، واتباع الظلم والفساد ، ودعاة المذاهب الخرافية الباطلة ، وباذلي الأموال الطائلة لتحقيق أهدافهم وتضليل الناس وصدهم عن سبيل الحق ، وهم يظهرون بأزياء متعددة ، فتارة في صورة المساعدات المالية ـ ظاهرا ـ كبناء المستشفيات ، وأخرى في صورة التعاون الثقافي ، ومرّة في ثوب المقاتلين المرتزقة.

لكن الهدف النهائي واحد والماهية واحدة ، فكل همّهم التوسعة الاستعمارية والظلم والجور ، ولو وقف المؤمنون حقّا صفا بوجه هذه المحاولات كما وقف أصحاب بدر لأحبطوا جميع هذه المحاولات ولباءت بالفشل ، ولجعلوا هذا الإنفاق وبالا وحسرة على المستكبرين ، ولساقوهم إلى جهنم وساءت مصيرا.

3 ـ قال بعض المفسّرين : إنّ هذه الآية واحدة من دلائل صدق دعوة النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّها تخبر عن حوادث لم تكن وقعت بعد ، وقد غلب بها أعداء الإسلام ، ومع أن أولئك بذلوا أموالا طائلة لانتصارهم!!

وإذا لم نعتبر الآية من الأخبار بالمغيبات التي تتعلق بالحوادث المقبلة ، فإنّها على الأقل تكشف عن محتوى القرآن الدقيق في شأن المواجهة بين الحق والباطل ، كما أنّها تكشف عن عظمة القرآن والتعاليم الإسلامية.

وبعد أن تكلمت الآية السابقة على ثلاث نتائج مشؤومة لإنفاق أعداء الإسلام ، فإنّ الآية التي تليها تقول :( لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) .

هذه سنة إلّهية دائمة أن يعرف المخلص من غير المخلص ، والطاهر من غير

٤٢٢

الطاهر ، والمجاهد الصادق من الكاذب ، والأعمال الطيبة من الأعمال الخبيثة ، فلا يبقى أي من ذلك مجهولا أبدا ، بل لا بدّ في النهاية من أن تمتاز الصفوف بعضها عن بعض ويسفر الحق عن وجهه. وهذا الأمر يتحقق ـ طبعا ـ عند ما يكون أتباع الحق ـ كأولئك المسلمين الأوائل يوم بدر ـ في مستوى كاف من التضحية والوعي.

ثمّ تضيف الآية( وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ) .

فالخبيث من أية طائفة وفي أي شكل كان سيؤول في النهاية إلى الخسران ، كما تقول الآية في نهاية المطاف( أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ) .

* * *

٤٢٣

الآيات

( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) )

التّفسير

من المعلوم في أسلوب القرآن هو الجمع بين البشارة والنذارة ، أي أنّه كما ينذر أعداء الحق بالعقاب والعذاب ، فإنّه يفتح لهم في الوقت نفسه طريق العودة أمامهم.

والآية الأولى : من الآيات محل البحث تتبع هذا الأسلوب ذاته ، فتأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلة :( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ ) .

ويستفاد من الآية المباركة أنّ قبول الإسلام يوجب محو كل سابقة وهو ما ورد في الرّوايات على أنّه أصل عام ، كما في عبارة «الإسلام يجبّ ما قبله» أو ما جاء عن أهل السنة في تعبير آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن «الإسلام يهدم ما كان قبله ،

٤٢٤

وإن الهجرة تهدم ما كان قبلها ، وإن الحج يهدم ما كان قبله»(1)

والمقصود من الحديث آنفا هو أنّ كل ما عمله الإنسان من سيئات وحتى تركه للفرائض والواجبات قبل إسلامه فسوف يمحى عنه بقبوله الإسلام ، ولا يكون قبوله للإسلام أثر رجعي لما سبق ، لهذا ورد في كتب الفقه عدم وجوب قضاء ما فات من العبادات على من أسلّم.

وتضيف الآية قائلة : إنّهم إن لم يصححوا أسلوبهم( وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ ) .

والمقصود من هذه السنة هو ما آل إليه أعداء الحق بعد ما واجهوا الأنبياء ، وما أصاب المشركين عند ما واجهوا النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في معركة بدر.

فنحن نقرأ في سورة غافر ، الآية : (51) :( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ ) .

ونقرأ في سورة الاسراء ، الآية (77) : بعد بيان سحق أعداء الإسلام قوله تعالى :( سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً ) .

ولمّا كانت الآية السابقة قد دعت الأعداء للعودة إلى الحق ، وإن هذه الدعوة قد تولد هذه الفكرة لدى المسلمين وهي أنّه قد انتهت فترة الجهاد ولا بدّ بعد الآن من اللين والتساهل ، ترفع هذه الشبهة الآية التالية وتقول :( وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ) .

وكلمة «الفتنة» ـ كما بيناها في تفسير الآية (193) من سورة البقرة ـ ذات معنى واسع تشمل كل أنواع الضغوط ، فتارة يستعملها القرآن بمعنى عبادة الأصنام والشرك الذي يشمل كل أنواع التحجر والجمود واضطهاد أفراد المجتمع.

__________________

(1) صحيح مسلم وفقا لما نقله صاحب المنار في تفسيره ، ج 9 ، ص 665.

٤٢٥

وتطلق الفتنة أيضا على الضغوط التي يفرضها الأعداء ، للوقوف بوجه اتساع دعوة الإسلام ، ولإسكات صوت أهل الحق ، بل حتى إرجاع المؤمنين نحو الكفر.

وفي الآية محل البحث فسر الفتنة بعضهم بمعنى الشرك ، وفسّرها آخرون بأنّها تعني سعي الأعداء لسلب الحريات الفكرية والاجتماعية من المسلمين.

ولكن الحقّ أنّ مفهومها واسع يشمل الشرك ، بقرينة قوله :( وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ) وسائر ضغوط الأعداء على المسلمين.

الهدف من الجهاد وبشرى كريمة :

تشير الآية آنفة الذكر إلى قسمين من أهداف الجهاد المقدسة وهما :

1 ـ القضاء على عبادة الأصنام وتطهير الأرض من معابدها ونحو ذلك وكما ذكرنا في بحثنا عن أهداف الجهاد فإنّ الحريّة الدينية تتعلق بمن يتّبع أحد الأديان السماوية فلا يجوز إكراه هؤلاء من أجل تغيير عقيدتهم ، ولكن عبادة الأصنام ليست دينا ولا فكرا ، بل هي خرافة وجهل وانحراف ، وعلى الحكومة الإسلامية إزالتها وتطهير البلاد منها عن طريق الإعلام والتبليغ الإسلامي ـ أوّلا ـ وإذا لم يؤدّ ذلك إلى نتيجة فيجب اللجوء إلى القوة لتدمير معابد الأوثان.

2 ـ نيل الحرية في نشر الإسلام والتبليغ له ، وفي هذا القسم أجاز الإسلام استخدام القوّة في مواجهة من يمنع المسلمين من نشر عقيدتهم لفتح الطريق بوجه الحوار المنطقي السليم.

وقد ورد في تفاسير أهل السنة كتفسير «روح البيان» للآلوسي ، وتفاسير شيعية أخرى ، عن الإمام الصادقعليه‌السلام «لم يجيء تأويل هذه الآية ، ولو قام قائمنا بعد ، سيرى من يدركه ما يكون من تأويل هذه الآية ، وليبلغن دين محمّد ما بلغ

٤٢٦

الليل حتى لا يكون شرك على ظهر الأرض كما قال تعالى»(1) .

ولقد أنكر صاحب تفسير المنار ـ لتعصبه ـ هذا الحديث الوارد في شأن مسألة قيام المهديعليه‌السلام ، وذلك لحكمه المسبق المخطئ في هذه القضية ، والعجيب أن له ميلا خاصا في تفسيره إلى الفكر الوهابي ، مع أنّ الوهابيين بالرغم من تعصّهم يصرحون بأنّ ظهور الإمام المهديعليه‌السلام من الأمور المسلّم بها ، ويعتبرون الرّوايات فيه من المتواترات.

وسنورد الأدلة والمصادر في هذا الصدد في ذيل الآية (33) من سورة التوبة ، كما سنشير إلى النقطة الأساسية في خطأ هذا المفسّر والرد عليها ، ولقد فصلنا الأمر في كتابنا «المصلح العالمي الكبير».

وإذا كانت بعض الرّوايات المتعلقة بظهور المهدي غير صحيحة وفيها بعض الخرافات ، فلا ينبغي أن يؤدّي ذلك إلى الإعراض عن بقية الرّوايات الصحيحة والمتواترة!

وأخيرا فإنّ الآية في نهايتها ، وتزامنا مع الشدة في العمل ، تمدّ يد المحبّة والرأفه إلى الأعداء مرّة أخرى فتقول : فإن انتهوا فإن الله بما يعملون خبير ولكن إذا تمادوا في عنادهم وطغيانهم ولم يستسلموا للحقّ ، فاعملوا أنّ النصر حليفكم والهزيمة من نصيب أعدائكم ، لانّ الله مولاكم وهو خير ناصر ومعين :( وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) .

* * *

__________________

(1) راجع مجمع البيان ، ذيل الآية ، وتفسير نور الثقلين ، ج 2 ، ص 155 ، تفاسير أخرى.

٤٢٧
٤٢٨

بداية الجزء العاشر

القرآن الكريم

٤٢٩
٤٣٠

الآية

( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) )

التّفسير

الخمس فرض إسلامي مهم :

وجدنا في بداية هذه السورة كيف أنّ بعض المسلمين تشاجروا في شأن تقسيم الغنائم بعد غزوة بدر ، وقد أمر الله سبحانه ـ درءا لأصول الخلاف ـ أن توضع الغنائم تحت تصرف النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لينفقها بما يراه صالحا ، فقام بتقسمها بالتساوي بين المقاتلين المسلمين.

وفي هذه الآية عود إلى مسألة الغنائم ، لتناسب الآيات التي سبقتها ، والتي كانت تتكلم على الجهاد ، إذ وجدنا في بعضها إشارات مختلفة لموضوع الجهاد ، ولما كان الجهاد يرتبط بمسألة الغنائم غالبا ، فكان في المقام تناسب بين الجهاد وبين ذكر أحكام الغنائم «بل سنلاحظ أن القرآن تعدى في حكمه إلى أبعد من

٤٣١

مسألة الغنائم ، ونظر إلى جميع الموارد».

يقول الحق سبحانه :( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ) (الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام )( وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) ـ من ذرية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا. ويضيف مؤكّدا( إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ ) ـ أي يوم بدر ـ( يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ ) .

وينبغي الالتفات إلى أنّه على الرغم من أنّ الخطاب في الآية موجه إلى المؤمنين ، لأنّها تبحث في غنائم الجهاد الإسلامي ، وبديهي أنّ المجاهد مؤمن ، لكنّها مع ذلك تقول :( إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ ) وفي ذلك إشارة إلى أنّ ادعاء الإيمان وحده لا يعدّ دليلا على الإيمان ، بل حتى المشاركة في سوح الجهاد قد لا تكون دليلا على الإيمان ، فقد تكون وراء ذلك أمور أخرى. فالمؤمن الكامل هو الذي يذعن لأوامر الله كافة وينقاد لها ، وخاصّة الأوامر والأحكام المالية ، ولا يأخذ ببعض ويترك بعضا ، وتشير الآية في نهايتها إلى قدرة الله غير المحدودة ، فتقول :( وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

أي بالرغم من قلتكم يوم بدر وكثيرة عدوّكم في الظاهر ، لكن الله القادر خذلهم وأيدكم فانتصرتم عليهم.

* * *

ملاحظات

1 ـ يوم الفرقان بين الحق والباطل

سمّي يوم معركة بدر بيوم الفرقان بين الحق والباطل ، ويوم الالتقاء بين جماعة الكفر وجماعة الإيمان ، وفي ذلك إشارة إلى ما يلي :

أوّلا : إنّ يوم بدر ظهرت فيه الأدلة على صدق النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّه وعد المسلمين بالنصر قبل ذلك ، مع أنّ القرائن في الظاهر لم تكن دالة على ذلك ، ولقد اتّحدت

٤٣٢

تلك الأسباب بشكل غير متوقع فكان النصر ، وهو ما لا يمكن حمله على المصادفة والاتفاق فبناء على ذلك فإن صدق الآيات التي نزلت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك اليوم كان كامنا في الآيات نفسها.

ثانيا : إنّ المعركة في بدر : «يوم التقى الجمعان» كانت في الواقع إحدى النعم الإلهية الكبرى على المسلمين ، لإنّ بعضهم كان يخشاها في البداية ، لكن تلك المواجهة والنصر دفعا بهم خطوات كبيرة نحو الأمام ، إذ بلغ صداهم واشتهارهم بذلك أنحاء الجزيرة العربية ، ودعا الجميع للتفكّر في هذا الدين الجديد وقدرته المذهلة وكان ذلك اليوم يوما شديدا على الأمّة الإسلامية القليلة آنئذ ، حيث امتاز به المؤمنون الصادقون عن المدعين الكاذبين ، فكان ذلك اليوم بكل جوانبه يوم الفرقان بين الحق والباطل.

2 ـ ذكرنا في بداية السورة عدم وجود تضادّ بين آية الأنفال وهذه الآية ، ولا موجب الإعتبار إحداهما ناسخة للأخرى ، لأنّه بمقتضى آية الأنفال فإنّ الغنائم الحربية هي للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّه وهب أربعة أخماسها للمقاتلين المسلمين ، وادخر الخمس المتبقي للموارد التي ذكرتها الآية «ولمزيد الإيضاح راجع بحثنا في تفسير الآية الأولى من هذه السورة».

3 ـ ما هو المراد من ذي القربي؟

ليس المراد في هذه الآية الأقرباء كلّهم ولا أقرباء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جميعا ، بل هم الأئمّة من أهل البيتعليهم‌السلام ، والدليل على هذا الأمر هو الرّوايات المتواترة التي وردت عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طرق أهل البيت(1) ، وتوجد أدلة أخرى على ذلك في كتب أهل السنة.

__________________

(1) يراجع كتاب وسائل الشيعة ، ج 6 ، باب الخمس.

٤٣٣

فبناء على ذلك فإنّ من يرى أنّ سهما من الخمس يتعلق بكل أقرباء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يواجه هذا السؤال وهو : ما هذا امتياز الذي أولاه الإسلام لأقرباء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقومه ، مع أنّ الإسلام بعيد عن القبلية والقومية والعرقية؟!

لكنّنا إذا خصصنا «بذي القربى» الأئمّة من أهل البيتعليهم‌السلام مع ملاحظة أنّهم خلفاء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقادة الحكومة الإسلامية ، يتّضح السبب في إعطائهم هذا السهم من الخمس.

وبعبارة أخرى : إنّ السهام الثّلاثة «سهم الله وسهم النّبي وسهم ذي القربي» ترجع جميعها إلى قائد الحكومة الإسلامية ، فيصرف منها في شؤون حياته البسيطة ، وينفق الباقي منها في ما يوجبه مقام القيادة ، أي أنّه يصرفها في الحقيقة في حاجات الناس والمجتمع!.

وحيث أن بعض المفسّرين من أهل السنة «كصاحب المنار» يرى أنّ ذا القربى هو جميع الأقارب ، فقد تخبط في الإجابة على السؤال آنف الذكر وظلّ في حيرة من أمره ، حتى جعل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشبه بالملوك والسلاطين ، فأوجب عليه أن يجذب قومه وقبيلته اليه بالأموال التي عنده!

ومن الواضح بطلان هذا المنطق ، إذ يتنافى ومنطق الحكومة العالمية الإنسانية التي لا تعترف بالامتيازات القبليّة «وسيأتي إيضاح هذا الموضوع بصورة أكثر في البحوث المقبلة ، إن شاء الله».

4 ـ ما هو المراد من اليتامى والمساكين وابن السبيل

إنّ المقصود باليتامى والمساكين وابن السبيل ـ في الآية ـ هم هذه الطوائف الثلاث من بني هاشم بالرغم من أنّ ظاهر الآية مطلق غير مقيد ، ودليلنا على التقييد هو الرّوايات الكثيرة الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام ، ونعلم بأنّ كثيرا من الأحكام المطلقة في النصوص القرآنية قيدتها السنة النبوية وجعلت لها شروطا

٤٣٤

وهذا الأمر غير منحصر بالآية محل البحث حتى تكون مثارا للغرابة والتعجب.

أضف إلى ذلك أنّ الزكاة محرمة على المحتاجين من بني هاشم ، فيلزم توفير مصدر آخر لهم ، وهذه قرينة على أنّ الآية تخصّ المحتاجين من بني هاشم.

لذا نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله : «إنّ الله تعالى لما حرّم علينا الصدقة أنزل لنا الخمس ، فالصدقة علينا حرام والخمس لنا حلال»(1)

5 ـ هل الغنائم منحصرة في غنائم الحرب

الموضوع المهم الآخر الذي يجب أن يبحث في الآية ، وهو في الحقيقة بمثابة العمدة فيها ، هو : هل لفظ الغنيمة المذكور فيها يطلق على الغنائم الحربية فحسب ، أو الموضوع أوسع من ذلك فيشمل كل زيادة في المال؟!

ففي الصورة الأولى فإنّ الآية تبيّن الخمس في غنائم الحرب فحسب ، وأمّا الخمس في سائر الموارد فينبغي معرفته من السنة والأخبار المتواترة وصحيح الرّوايات ، ولا مانع أن يشير القرآن إلى قسم من أحكام الخمس بما يناسب مسائل الجهاد ، وأن تتناول السنة الشريفة بيان أقسامه الباقية.

فمثلا قد وردت الصلوات الخمس اليومية صريحة في القرآن ، كما أشير إلى صلاة الطواف التي هي من الصلوات الواجبة أيضا ، ولم ترد أيّة إشارة في القرآن إلى صلاة الآيات المتفق على وجوبها من قبل الفرق الإسلامية من أهل السنة والشيعة كافة ، ولا نجد قائلا يقول بأنّه لا يجب الإتيان بصلاة الآيات لأنّها لم تذكر في القرآن أو أن القرآن أشار إلى بعض الأغسال ولم يذكر غيرها ، فيجب ترك ما لم يشر إليه القرآن! فهذا المنطق لا يقره أي مسلم أبدا.

فبناء على ذلك ، لا إشكال في أن يبيّن القرآن قسما واحدا من أقسام

__________________

(1) وسائل الشيعة ، ج 6 ، باب الخمس ، ومجمع البيان ذيل الآية

٤٣٥

الخمس فحسب ، ويكلّ توضيح الباقي إلى السنّة ، وفي الفقه الإسلامي نظائر كثيرة لهذه المسألة.

إلّا أنّه مع هذه الحال ينبغي أن ننظر إلى معنى «الغنيمة» في اللغة والعرف! فهل هي منحصرة في غنائم الحرب؟! أم تشمل كل أنواع الأرباح والزيادة في المال؟!

الذي يستفاد من كتب اللغة هو أنّ جذرها اللغوي لم يرد في ما يؤخذ من العدوّ في الحرب ، بل تشمل كل أنواع الزيادة المالية وغيرها.

ونشير هنا إلى بعض كتب اللغة المشهورة التي يعتمد عليها علماء العربية وأدباؤها على سبيل المثال والشاهد. إذ نقرأ في كتاب «لسان العرب» الجزء الثّاني عشر قوله «الغنم الفوز بالشيء من غير مشقّة ، والغنم والغنيمة ، والمنغم : الفيء ، وفي الحديث : الرهن لمن رهنه له غنمه وعليه غرمه ، غنمه زيادته ونماؤه وفاضل قيمته وغنم الشيء غنما فاز به ...».

ونقرأ في الجزء التاسع من «تاج العروس» : والغنم : الفوز بالشيء بلا مشقّة». وفي كتاب «القاموس» هذا المعنى نفسه للغنيمة أيضا.

وجاء في كتاب «المفردات» للراغب أنّ أصل الغنيمة من الغنم ، ثمّ يقول : ثمّ استعملوه في كل مظفور به من العدى وغيره.

وحتى من ذكر أنّ معناها هو غنائم الحرب ، لم ينكر أنّ معناها في الأصل واسع وشامل لكل خير يقع بيد الإنسان بدون عناء ومشقة.

وترد الغنيمة في العرف في مقابل الغرامة ، فكما أن معنى الغرامة واسع شامل لكل أنواع الغرامات ، فإنّ معنى الغنيمة واسع شامل لكل أنواع الغنائم.

وقد وردت هذه الكلمة في نهج البلاغة كثيرا بالمعنى المذكور نفسه ، إذ نقرأ في الخطبة (76) قولهعليه‌السلام : «اغتنم المهل».

وفي الخطبة (120) يقولعليه‌السلام : «من أخذها لحق وغنم».

٤٣٦

ويقول في كتابه (53) إلى مالك الأشتر : «ولا تكوننّ عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم».

ويقول في كتابه (45) إلى عثمان بن حنيف : «فو الله ما كنزت من دنياكم تبرا ولا ادخرت من غنائمها وفرا».

ويقول في بعض كلماته القصار برقم (331) : «إنّ الله جعل الطاعة غنيمة الأكياس».

ويقول في كتابه (41) : «واغتنم من استقرضك في حال غناك».

ونظير هذه التعابير والكلمات التي تدل على عدم انحصار معنى الغنيمة في غنائم الحرب كثير.

وأمّا ما قاله المفسّرون :

إنّ أكثر المفسّرين الذين تناولوا هذه الآية بالبحث صرّحوا بأنّ للغنيمة معنى واسعا في اللغة يشمل غنائم الحرب وغيرها ممّا يحصل عليه الإنسان من دون مشقّة ، وحتى الذين قالوا بأنّها تختص بغنائم الحرب «لفتوى فقهاء السنة» يعترفون بأنّ معناها في اللغة غير مقيد ، بل قيّدوه بدليل آخر.

«القرطبي» مفسّر أهل السنة المعروف ، كتب في ذيل الآية : «إنّ الغنيمة في اللغة هو الخير الذي يناله الفرد أو الجماعة بالسعي والجد»(1) .

وينبغي أن يعلم أن علماء أهل السنة متفقون على أنّ المراد من الغنيمة المذكورة في آية( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ) هي الأموال التي يحصل عليها الناس بالقوّة في الحرب ، وينبغي ملاحظة أنّ هذا القيد غير وارد في اللغة ، لكنّه ورد في العرف الشرعي.

__________________

(1) راجع تفسير القرطبي ، ج 4 ، ص 280.

٤٣٧

ويقول «الفخر الرازي» في تفسيره : الغنم الفوز بالشيء يقول بعد هذا : إنّ المعنى الشرعي للغنيمة في اعتقاد فقهاء أهل السنة هو غنائم الحرب(1) .

كما أنّ «صاحب المنار» قد ذكرها بمعناها الواسع ولم يخصصها بغنائم الحرب ، بالرغم من اعتقاده بلزوم تقييد المعنى الواسع بالقيد الشرعي ، وتخصيص الآية بغنائم الحرب(2) .

وقال «الآلوسي» في تفسيره روح المعاني : «إن الغنم في الأصل معناه كل ربح ومنفعة»(3) .

وقال صاحب «مجمع البيان» في بداية كلامه : إنّ الغنيمة بمعنى غنائم الحرب ، إلّا أنّه لما بين معنى الآية قال : «قال أصحابنا : إنّ الخمس واجب في كل فائدة تحصل للإنسان من المكاسب وأرباح التجارات ، وفي الكنوز والمعادن والفوضى ، وغير ذلك ما هو مذكور في الكتب ، ويمكن أن يستدل على ذلك بهذه الآية ، فإنّ في عرف اللغة يطلق على جميع ذلك اسم الغنم والغنيمة»(4) .

والعجيب أنّ بعض المغرضين ـ وكأنّهم مأمورون ببث السّموم في الأفكار ـ حرّفوا ما ذكره صاحب مجمع البيان في كتاب ألفوه في شأن الخمس ، حيث ذكروا عبارته الأولى في تفسير الغنيمة بأنّ المراد منه غنائم الحرب ، ولكنّهم لم يشيروا إلى إيضاحاته حول عموميّة المعنى اللغوي ومعنى الآية الذي أورده أخيرا ، وقد كذبوا بما لفقوا على هذا المفسّر الإسلامي الكبير ، وكأنّهم يتصورون أن كتاب مجمع البيان في أيديهم ولن يقرأه غيرهم. والأعجب من ذلك أنّهم لم يرتكبوا هذه الخيانة الفكرية فحسب ، بل تصرفوا في كتب أخرى فأخذوا

__________________

(1) الفخر الرازي ، ج 15 ، ص 164.

(2) تفسير المنار ، ج 10 ، ص 703.

(3) تفسير روح المعاني : ج 10 ، ص 2.

(4) تفسير مجمع البيان ، ج 4 ، ص 543.

٤٣٨

بما ينفعهم وتركوا ما يضرّهم.

وفي تفسير «الميزان» ورد بصراحة ـ استنادا إلى علماء اللغة ـ أنّ الغنيمة هي كل فائدة تستحصل عن طريق التجارة والكسب أو الحرب ، ومع أن سبب نزول الآية هو غنائم الحرب ، إلّا أنّ ذلك لا يخصص مفهوم الآية وعموميتها(1) .

ونستنتج ممّا ذكرناه آنفا ما يلي :

إنّ آية الغنائم ذات معنى واسع يشمل كل فائدة وربح ، لإنّ معنى الغنيمة اللغوي عام ولا دليل على تخصيص الآية.

والشيء الوحيد الذي استند إليه جماعة من مفسّري أهل السنة ، هو أنّ الآيات السابقة والآيات اللاحقة لهذه الآية تتعلق بالجهاد ، وهذا الأمر يكون قرينة على أنّ آية( أَنَّما غَنِمْتُمْ ) تتعلق بغنائم الحرب.

في حين أنّ أسباب النّزول وسياق الآيات لا يخصص عمومية الآية كما هو معلوم ، وبعبارة أجلى : لا مانع من كون مفهوم الآية ذا معنى عام ، وأن يكون سبب نزولها هو غنائم الحرب في الوقت ذاته ، فهي من مصاديق هذا المفهوم أو الحكم.

ونظير هذه الأحكام كثير في القرآن الكريم والسنة المطهرة ، بأن يكون حكمها عاما ومصداقها جزئيا «خاصّا».

فمثلا في الآية (7) من سورة الحشر نقرأ قوله تعالى :( ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) فهذه الآية ذات حكم كلي في وجوب الالتزام بأوامر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أن سبب نزولها هو الأموال التي تقع بأيدي المسلمين من دون حرب ، ويطلق على ذلك اصطلاحا «الفيء».

وكذلك نجد في الآية (233) من سورة البقرة حكما كليا في قوله :( لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها ) مع أنّه يتعلق بالنساء المرضعات والأمر موجه لآباء

__________________

(1) الميزان ، ج 9 ، ص 89.

٤٣٩

الأطفال الرضّع أن يعطوا المرضعات أجورهن حسب وسعهم. وكون الآية واردة في هذا الأمر الخاص لا يمنع من عمومية القانون الذي جاءت به وهو عدم التكليف.

الخلاصة ، أنّ الآية محل البحث جاءت في سياق آيات الجهاد ، إلّا أنّها تقول : «إنّ أية فائدة أو ربح تحصلون عليه ـ ومنه غنائم الحرب ـ فعليكم أن تعطوا خمسه».

وخاصّة أنّ «ما» الموصولة «ومن شيء» لفظان عامان ليس فيهما قيد ولا شرط وهما يؤكّدان هذا الموضوع.

6 ـ ألا يعد تخصيص نصف الخمس لبني هاشم تبعيضا بين المسلمين؟!

يتصوّر بعض أن هذه الضربية الإسلامية الشاملة لخمس الكثير من الأموال ، أي نسبة (عشرين المائة) حيث يعطى نصفها للسادة من أبناء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، نوع من التمييز العنصري أو ملاحظة العلاقات العائلية ، وأنّ هذا الأمر لا ينسجم وروح العدالة الاجتماعية للإسلام وكونها شاملة لجميع العالم.

الجواب :

إنّ هؤلاء لم يدر سوا ظروف هذا الحكم وخصوصياته بدقة كافية ، فالإجابة على هذا السؤال كامنة في تلك الخصوصيات.

وتوضيح ذلك : أوّلا : إن نصف الخمس المتعلق ببني هاشم إنّما يعطى للمحتاجين والفقراء منهم فحسب ، ولما يكفيهم لسنة واحدة لا أكثر ، فبناء على ذلك تصرف هذه الأموال على المقعدين عن العمل والمرضى واليتامى من الصغار ، أو من يكون في ضيق وحرج. لسبب من الأسباب ولهذا فإنّ القادرين على العمل «بالفعل أو بالقوّة» والذين بإمكانهم أن يديروا حياتهم المعاشية ، ليس

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606