الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل12%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245110 / تحميل: 6208
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

تنتهي الرغبات في الأمور ، ومنه تتولد الصلات والمحبات والعلائق والروابط ، فبهذا الإعتبار المطرد العام المتسالم عليه لدا العقلاء والشرع الأقدس ، إتخاذ مكة المكرمة حرماً آمناً وتوجيه الخلق إليه ، وحجهم إياه من كل فج عميق ، وإيجاب تلكم الأحكام حتى بالنسبة إلى بنيته ، إن هي إلا آثار الإضافة وإختيار الله إياها من بين الأراضي

وكذلك المدينة المنورة حرماً إلهياً محترماً ، وجعل المحرمات الواردة في السنة الشريفة لها وفي أهلها وتربتها ومن حَلّ فيها ، إنما هي لإعتبار ما فيها من الإضافة والنسبة إلى الله تعالى ، وكونها عاصمة عرش نبيه العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صاحب الرسالة الخاتمة

وبهذا الإعتبار وقانون الإضافة ، جعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبكي على ولده الحسينعليه‌السلام ويقيم تلك المآتم قبل شهادته ، ويأخذ تربة كربلاء ويشمها(٧٧) ، ويقبلها(٧٨) ، ويقلبها(٧٩) ، كما ورد في الأخبار وهو الذي جعل الشيعة الإمامية تهتم بتربة الحسينعليه‌السلام ، تلك التربة الطاهرة التي شرّفها الله وقدّسها ؛ لما تحويه من أجساد طاهرة من أبناء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، سُفكت دماؤها لأجل الدين وفي سبيل إحيائه تلك التربة التي اعتنى بها الكُتاب وتفننوا في وصفها وقداستها

وعَبّر عنها الأديب الكبير عباس العقاد بقوله : « ولكنها لو أُعطيت حقها من التنويه والتخليد ؛ لحق لها أن تصبح مزاراً لكل آدمي يعرف لبني نوعه نصيباً من القداسة وحظاً من الفضيلة ، لأننا لا نذكر بقعة من بقاع هذه الأرض

______________________

(٧٧) ـ الهيثمي ، الحافظ نور الدين ، علي بن أبي بكر : مجمع الزوائد ، ج ٩ / ١٨٩

(٧٨) ـ ابن حجر ، الحافظ شهاب الدين ، أحمد : تهذيب التهذيب ، ج ٢ / ٢٤٦

(٧٩) ـ النيسابوري ، الحافظ محمد بن أحمد : سيرة أعلام النبلاء ، ج ٣ / ١٩٤

٦١

يقترن اسمها بجملة من الفضائل ، أسمى وألزم لنوع الإنسان من تلك التي اقترنت باسم كربلاء ، بعد مصرع الحسين فيها

فكل صفة من تلك الصفات العلوية التي بها الإنسان إنسان وبغيرها لا يحسب غير ضرب من الحيوان السائم فهي مقرونة في الذاكرة بأيام الحسين رضي الله عنه في تلك البقعة الجرداء وليس في نوع الإنسان صفات علويات أنبل ولا ألزم من الإيمان والفداء والإيثار ويقظة الضمير ، وتعظيم الحق ورعاية الواجب والجلد في المحنة والأنفة من الضيم والشجاعة في وجه الموت المحتوم وحسبك من تقويم الأخلاق في تلك النفوس ، أنه ما من أحد قتل في كربلاء إلا كان في وسعه أن يتجنب القتل بكلمة أو بخطوة ، ولكنهم جميعاً آثروا الموت عطاشا جياعا مناضلين على أن يقولوا تلك الكلمة أو يخطوا تلك الخطوة ؛ لأنهم آثروا جمال الأخلاق على متاع الدنيا أو حسبك من تقويم الأخلاق في نفس قائدها وقدوتها ، أنهم رأوه بينهم فاقتدوه بأنفسهم ، ولن يبتعث المرء روح الاستشهاد فيمن يلازمه إلا أن يكون هو أهلاً للإستشهاد في سبيله وسبيل دعوته ، وان يكون في سليقة الشهيد الذي يأتم به الشهداء »(٨٠)

وبعد هذا البيان إتضح لنا سِرُّ فضيلة تربة كربلاء ، ومبلغ إنتسابها إلى الله سبحانه وتعالى ، ومدى حرمة صاحبها دُنُوّاً وإقتراباً من العلي الأعلى نعم أفعاله وأقواله ـ كما نقلها التاريخ لنا ـ تثبت مدى تعلقه وتفانيه بخالقه العظيم حتى بذلك نفسه وأهله وكل غالٍ ونفيس لأجل إعلاء كلمة الله وإحياء دينه ، وقد نسب إليه الآتي :

______________________

(٨٠) ـ العقاد ، عباس محمود : أبو الشهداء ، الحسين بن علي / ٨٦ ـ ٨٧

٦٢

تركتُ الخلقَ طُرّاً في هواكا

وأيتمت العيال لكي أراكا

فلو قطعتني في الحُب إرباً

لما مال الفؤاد إلى سواكا(٨١)

أليس من الأفضل التقرب إلى الله بالخضوع والخشوع والعبودية بالسجود على تربة تفجرت في صفيحها عيون دماءٍ اصطبغت بحب الله وولائه المحض الخالص ؟!. أليس من الأليق بأسرار السجود على الأرض ، السجود على تربة ظهر فيها سِرُّ المتعة والعظمة والكبرياء والجلال لله عَزّ وجَلّ ، ورمز العبودية والتصاغر أمام عظمة الجبار سبحانه تعالى بأجلى مظاهرها وسماتها ؟!.

وبناءً على هذين الأصلين ، تتخذ الشيعة الإمامية من تربة كربلاء قطعاً وأقراصاً تسجد عليها في الصلوات(٨٢) لأنهم يشترطون في المسجد أن يكون أرضاً أو ما أنبتت ، ويشترطون في المسجد طهارته وإباحته ، وأن لا يكون من المأكول والملبوس ، فالشيعة يصحبون معهم ألواح الطين والتراب ، ويتخذونها مساجد للسجود عليها لله ، اهتماماً بشأن الصلاة ومخالفة على آدابها ، فشأن هذه الألواح شأن الخُمُر والحَصْبَاء في بداية المسلمين كما أنها أفضل أفراد الواجب ، واختياراً لما هو الأفضل والأولى بالسجود لدا العقل والمنطق والإعتبار

______________________

(٨١) ـ أمين النجفي ، الدكتور أحمد : التكامل في الإسلام ، ج ٤ / ١٧٠

(٨٢) ـ ذكر هذا الدليل المحقق الأميني ( قده ) في ( سيرتنا وسنتنا / ١٧٠ ـ ١٨٠ ) بعنوان الإستحسان العقلي ، وجئت بصياغة أخرى لهذا الدليل بعنوان ( الإحتياط طريق النجاة ) فهو أقرب إلى الإحتياط العقلي ؛ لأن الإستحسان العقلي لا تؤمن به الإمامية

٦٣

وعلى هذا النهج القويم ؛ كان التابعي علي بن عبد الله بن عباس(٨٣) كما عن ابن عينة قال : « سمعت رُزَين مولى ابن عباس رضي الله عنه يقول : كتب إليّ علي بن عبد الله بن عباس أن إبعث إلي بلوح من حجارة المروة أسجد عليه »(٨٤) فأي مانع من أن يحتاط المسلم في أمور دينه بما فيها صلاته ؟!. وأي مانع من أن يختار الأفضل في عمله ؟ فالشيعة الإمامية إختارت التربة الحسينية ؛ لأنها الأفضل ، عملاً بالأحاديث الكثيرة الواردة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته

______________________

(٨٣) ـ هو علي بن عبدالله بن عباس بن عبد المطلب ، ولد سنة ٤٠ هـ ليلة قتل علي بن أبي طالب (ع) ، وتوفي سنة ( ١١٧ أو ١١٨ ) راجع ( الطبقات لابن سعد ، ج ٥ / ٢٢٩ ) وقال ابن حجر : ثقة قليل الرواية وذكره ابن حيان في الثقات ، راجع تقريب التقريب / ٣٤٢ ، وتهذيب التهذيب ج ٣ / ١٨٠ دار الرسالة ، ط ١٤١٦ ، وحكى المبرد وغيره : لما ولد علي بن عبد الله جاء أبوه إلى أمير المؤمنين (ع) فقال : ما سميته ؟ فقال : أو يجوز لي أن أسميه قبلك ؟ فقال (ع) : قد سميته باسمي وكنيته بكنيتي وهو أبو الأملاك راجع العقد الفريد ج ٥ / ١٠٣ ـ ١٠٥ ، وابن أبي الحديد في شرح النهج ، ج ٧ / ١٤٨

(٨٤) ـ الأزرقي ، أبو الوليد محمد بن عبد الله : أخبار مكة ، ج ٢ / ١٥١

ـ السمهودي ، السيد نور الدين ، علي بن عبد الله : وفاء الوفاء ، ج ١ / ١١٥

ـ ابن أبي شيبه ، الحافظ عبد الله بن محمد : الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار ، ج ١ / ٢٧٥

٦٤

٦٥
٦٦

تمهيد :

عرفت أرض كربلاء بالقداسة والسمو والشرف منذ القدم ، وإلى هذا أشار سيد الشهداءعليه‌السلام بقوله :( وخير لي مصرع أنا لاقيه ، فكأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء ) (٨٥) والمراد بالنواويس : جمع ناوس في الأصل ، وهو قبر النصراني ، والمراد به هنا القرية التي كانت عند كربلاء(٨٦) أي أن كربلاء قد اتخذت معابد ومدافن للأمم السابقة ، وخير شاهد على ذلك ما يلي : « ونقل بعض الفضلاء قول أحد الباحثين في تاريخ كربلاء القديم وهو : كل ما يمكن أن يقال عن تاريخها القديم ، أنها كانت أمهات مدن طسوج النهرين ، الواقعة على ضفاف نهر بالاكوباس( الفرات القديم ) وعلى أرضها معبد للعبادة والصلاة ، كما يستدل من الأسماء التي عرفت بها قديماً كعمورا ، ماريا ، صفورا ، وقد كثرت حولها المقابر ، كما عثر على جثث موتى داخل أوانٍ خزفية يعود تاريخها إلى قبل العهد المسيحي »(٨٧) وقال الأب اللغوي أنستاس الكرملي : « والذي نتذكره فيما قرأناه في بعض كتب الباحثين ؛ أن كربلاء منحوتة من كلمتين من( كرب وإل ) أي حرم الله أو مقدس الله »(٨٨)

وذكر السيد عبد الحسين آل طعمة ، نقلاً عن الذريعة للشيخ آغا بزرك : « ومعنى( كاربالا ) بالفهلوية هو( الفعل العلوي ) ويجوز تفسيرها (بالعمل السماوي ) المفروض من الأعلى ، ثم عُرِّبت وصيغت صياغة عربية وسموها ______________________

(٨٥) ـ السماوي ، الشيخ محمد بن الشيخ طاهر : إبصار العين في أنصار الحسين / ٦ ، ١٧

(٨٦) ـ نفس المصدر

(٨٧) ـ الخليلي ، جعفر بن الشيخ أسد الله : موسوعة العتبات المقدسة ، ج ١٣ / ١٦

(٨٨) ـ نفس المصدر / ١٠

٦٧

( كربلاء ) ، وهذا يقارب المعنى الذي ذهب إليه الأب انستاس لكلمة( كرب ) و( إل ) بأنهم( حرم الله ) أو( مقدس الله ) »(٨٩)

نعم أعطيت كربلاء هذه القداسة ـ في الإسلام والأمم السابقة ـ بالحسينعليه‌السلام ؛ إذ الأمم الغابرة لديها معرفة بشهادته عن طريق أنبيائها وكتبها المقدسة ، كما أشارت إلى ذلك بعض المصادر التالية :

« جاء في كتاب ارميا في باسوق من السيمان السادس والأربعون ( كي ذبح لدوناي الوهيم صواووت بأرض صافون إلى نهريرات ) ؛ يعني يذبح ويضحي لرب العالمين شخص جليل في أرض الشمال بشاطئ الفرات »(٩٠)

وفي مصحف شيث إشارة إلى واقعة كربلاء : « ذكر أبو عمرو الزاهد ، في كتاب الياقوت : قال : قال عبدالله بن صفار ، صاحب أبي حمزة الصوفي : غزونا غزاة ، وسبينا سبياً ، وكان فيهم شيخ من عقلاء النصارى ؛ فأكرمناه وأحسنا إليه ، فقال لنا : أخبرني أبي عن آبائه انهم حفروا في بلاد الروم حفراً قبل أن يبعث النبي العربي بثلاث مائة سنة ، فأصابوا حجراً عليه مكتوب بالمسند( كلام أولاد شيث ) هذا البيت من الشعر :

أترجو عصبة قتلت حسينا

شفاعة جده يوم الحساب »(٩١)

أولاً ـ عرض الروايات :

ليس أحاديث فضل تربة الحسينعليه‌السلام وقداستها منحصرة بأحاديث الأئمةعليهم‌السلام ، بل إن أمثال هذه الروايات لها شهرة في كتب علماء الإسلام ، واليك قسماً منها كالتالي :

______________________

(٨٩) ـ المصدر السابق / ١٧ ـ ١٨ ( الحاشية )

(٩٠) ـ التستري ، الشيخ جعفر : الخصائص الحسينية / ٣٧

(٩١) ـ ابن نما ، محمد بن جعفر الحلي : مثير الأحزان ، ج ١ / ٩٧

٦٨

مرويات الإمامية :

يمكن تلخيص مرويات الإمامية في فضل تربة كربلاء من خلال الطرق التالية :

الأول ـ الرسول الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) :

روى أبو بصير عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال : (بينما الحسين بن علي عليهما السلام عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ إذ أتاه جبرئيل فقال : يا محمد أتحبه ؟ فقال نعم فقال : أما إن أمتك ستقتله قال : فحزن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حزناً شديداً ، فقال له جبرئيل : يا رسول الله أتريد التربة التي يقتل فيها ؟ فقال : نعم ، فخسف ما بين مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى كربلاء حتى إلتقت القطعتان هكذا ، ثم جمع بين السبابتين ، ثم تناول بجناحه من تربتها وناولها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم رجعت أسرع من طرفة عين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : طوبى لك من تربة ، وطوبى لمن يقتل فيك ) (٩٢)

الثاني ـ أمير المؤمنين علي (عليه‌السلام ) :

وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال :( مَرّ أمير المؤمنين عليه‌السلام بكربلاء في أناس من أصحابه ؛ فاغرورقت عيناه بالبكاء ، ثم قال : هذا مناخ ركابهم ، وهذا ملتقى رحالهم ، وهنا تهرق دماؤهم ، طوبى لك من تربة ، عليك تهرق دماء الأحبة ) (٩٣)

الثالث ـ الأئمة من بعده (عليهم‌السلام ) :

١ ـ قال علي بن الحسينعليه‌السلام :( إتخذ الله ارض كربلاء حرماً آمناً مباركاً قبل أن يخلق الله أرض الكعبة ويتخذها حرماً بأربعة وعشرين ألف عام ، وأنه

______________________

(٩٢) ـ ابن قولويه ، الشيخ أبي القاسم جعفر بن محمد : كامل الزيارات / ٦٠ ، ( باب ١٧ )

(٩٣) ـ نفس المصدر / ٢٧١ ـ ٢٧٢ ، ( باب ٨٨ )

٦٩

إذا زلزل الله تبارك وتعالى الأرض وسترها ، رفعت كما هي بتربتها نورانية صافية ؛ فجعلت في أفضل روض من رياض الجنة ، وأفضل مسكن في الجنة لا يسكنه إلا النبيون والمرسلون أو قال : أولوا العزم من الرسل ، فإنها لتزهر بين رياض الجنة كما يزهر الكوكب الذري بين الكواكب لأهل الأرض ، يغشى نورها أبصار أهل الجنة جميعا ، وهي تنادي : أنا أرض الله المقدسة الطيبة المباركة ، التي تضمنت سيد الشهداء وسيد شباب أهل الجنة ) (٩٤)

٢ ـ قال أبو جعفر ( الباقر )عليه‌السلام :( الغاضرية هي البقعة التي كَلّم الله فيها موسى بن عمران ، وناجى نوحاً فيها ، وهي اكرم أراضي الله عليه ، ولولا ذلك ما استودع الله فيها أوليائه وأبناء نبيه ، فزوروا قبورنا بالغاضرية ) (٩٥)

٣ ـ صفوان الجمال قال : سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول :( إن الله تبارك وتعالى فَضّل الأراضين والمياه بعضها على بعض ، فمنها ما تفاخرت ، ومنها ما بغت ، فما من ماء ولا أرض إلا عوقبت لتركها التواضع لله ، حتى سلّط الله المشركين على الكعبة ، وأرسل إلى زمزم ماء مالحاً حتى أفسد طعمه ، وإن كربلاء وماء الفرات أول أرض وأول ماء قدس الله تبارك وتعالى ؛ وبارك عليهما ، فقال لها : تكلمي بما فضلك الله تعالى ؛ فقد تفاخرت الأرضون والمياه بعضها على بعض ، قالت : أنا أرض الله المقدسة المباركة ، الشفاء في تربتي ومائي ولا فخر ، بل خاضعة ذليلة لمن فعل بي

______________________

(٩٤) ـ ابن قولويه ، الشيخ أبي القاسم جعفر بن محمد : كامل الزيارات / ٢٦٨ ( باب ٨٨ )

(٩٥) ـ نفس المصدر / ٢٧٠

٧٠

ذلك ولا فخر على من دوني ، بل شكراً لله فأكرمها وزادها بتواضعها وشكرها الله بالحسين عليه‌السلام وأصحابه ثم قال أبوعبدالله عليه‌السلام : من تواضع لله رفعه ، ومن تكبر وضعه الله تعالى ) (٩٦) ، وبهذا القدر من المرويات نكتفي

مرويات السنة :

وردت روايات كثيرة في فضل تربة الحسينعليه‌السلام ، ذكرتها الصحاح والمسانيد المعتمدة لدى جمهور السنة والجماعة ويمكن تصنيفها كالتالي :

أولاً ـ الإمام علي (عليه‌السلام ) :

وأخرج ابن سعد عن الشعبي قال : (مَرّ علي ( رضي الله عنه ) بكربلاء عند مسيره إلى صفين وحاذى نينوى ـ قرية على الفرات ـ ؛ فوقف وسأل عن إسم هذه الأرض ؟ فقيل : كربلاء فبكى حتى بَلّ الأرض من دموعه ، ثم قال : دخلت على رسول الله وهو يبكي ، فقلت : ما يبكيك ؟ قال : كان عندي جبرئيل آنفاً وأخبرني أن ولدي الحسين يقتل بشاطئ الفرات بموضع يقال له كربلاء ، ثم قبض جبرئيل قبضة من تراب شمني إياه ؛ فلم أملك عيني أن فاضتا ) (٩٧)

ثانياً ـ نساء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) :

أ ـ أم سلمة :

عن أبي وايل ـ شقيق بن سلمة ـ عن أم سلمة قالت :( كان الحسن والحسين ـ رضي الله عنهما ـ يلعبان بين يدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيتي فنزل

______________________

(٩٦) ـ المصدر السابق / ٢٧٠

(٩٧) ـ ابن حجر ، أحمد بن علي : الصواعق المحرقة / ٩٣

٧١

جبرئيل عليه‌السلام ؛ فقال : يا محمد إن أمتك تقتل ابنك هذا من بعدك ؛ فأومأ بيده إلى الحسين فبكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وضمّه إلى صدره ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وضعت عندك هذه التربة ، فشمّها رسول الله وقال : ريح كرب وبلاء ، قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أم سلمة إذا تحولت هذه التربة دماً فاعلمي أن ابني قد قتل ، قالت : فجعلتها في قارورة ، ثم جعلت تنظر إليها وتقول : إن يوماً تحولين دماً ليوم عظيم ) (٩٨)

ب ـ عائشة :

أخرج ابن سعد ، والطبراني عن عائشة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( أخبرني جبرئيل أن ابني الحسين يقتل بعدي بأرض الطف ، وجاءني بهذه التربة فأخبرني أن فيها مضجعه ) (٩٩)

ج ـ أم الفضل بنت الحرث :

أخرج أبو داود ، والحاكم ، عن أم الفضل بنت الحرث أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( أتاني جبرئيل فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا ؛ يعني الحسين ، وأتاني بتربة من تربة حمراء ) (١٠٠)

د ـ زينب بنت جحش :

عن زينب قالت :( بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيتي وحسين عندي ، حين درج ؛ فغفلت عنه ، فدخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : دعيه ـ إلى قولها ـ ثم قام فصلى ، فلما قام احتضنه إليه فإذا ركع أو جلس وضعه ثم جلس فبكى ،

______________________

(٩٨) ـ ابن حجر ، أحممد بن علي : تهذيب التهذيب / ج ٢ / ٣٤٦

(٩٩) ـ ابن حجر ، أحمد بن علي : الصواعق المحرقة / ١٩٢

(١٠٠) ـ الهندي ، علاء الدين ، علي المتقي : كنز العمال ، ج ١٣ / ١٠٨

٧٢

ثم مد يده فقلت حين قضى الصلاة : يا رسول الله ، إني رأيتك اليوم صنعت شيئاً ما رأيتك تصنعه ؟ قال : إن جبريل أتاني فأخبرني أن هذا تقتله أمتي ، فقلت : أرني تربته ؛ فأتاني بتربة حمراء ) (١٠١)

ثالثاً ـ أصحاب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) :

١ ـ عبدالله بن عباس :

عن ابن عباس قال :( كان الحسين في حجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال جبرئيل : أتحبه ؟ فقال كيف لا أحبه وهو ثمرة فؤادي ؟ فقال : إن أمتك ستقتله ، ألا أريك من موضع قبره ؟ فقبض قبضة ؛ فإذا هي تربة حمراء ) (١٠٢)

٢ ـ معاذ بن جبل :

عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أن معاذ بن جبل أخبره وقال : خرج علينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متغير اللون ، فقال : أنا محمد أوتيت فواتح الكلام وخواتمه فأطيعوني مادمت بين أظهركم ، فإذا ذهب بي ؛ فعليكم بكتاب الله عَزّ وجَلّ أحلوا حلاله ، وحرموا حرامه ، أتتكم المؤتية بالروح والراحة ، كتاب الله من الله سبق ، أتتكم فتن كقطع الليل المظلم ، كلما ذهب رسل جاء رسل ، تناسخت النبوة فصارت ملكاً ، رحم الله من أخذها بحقها ، وخرج منها كما دخلها

إمسك يا معاذ وأخصّ ، قال : قلما بلغت خمسة قال : يزيد لا يبارك الله في يزيد ، ثم ذرفت عيناه ثم قال : نعي إلي الحسين ، وأوتيت بتربته واخبرت بقاتله ، والذي نفسي بيده لا يقتل بين ظهراني قوم لا يمنعوه إلا خالف

______________________

(١٠١) ـ ابن حجر ، أحمد بن علي : المطالب العالية بزوائد المساند الثمانية / ٩٠

(١٠٢) ـ ابن كثير ، عماد الدين ، إسماعيل بن عمر : البداية والنهاية ، ج ٦ / ٢٣٠

٧٣

الله بين صدورهم وقلوبهم ، وسلّط عليهم شرارهم وألبسهم شِيَعاً ثم قال : واهاً لفراخ آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خليفة مستخلف مترف ، يقتل خلفي وخلف الخلف )(١٠٣)

٣ ـ أنس بن مالك :

اخرج البغوي في معجمه من حديث أنس بن مالك ، أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( استأذن ملك القطر ربه أن يزورني ؛ فأذن له وكان في يوم أم سلمه فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أم سلمه احفظي علينا الباب لا يدخل أحد ؛ فبينما هي على الباب ؛ إذ دخل الحسين فاقتحم فوثب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجعل رسول الله يلثمه ويقبله ، فقال له الملك : أتحبه ؟ قال : نعم قال : إن أمتك ستقتله ، وإن شئت أريك المكان الذي يقتل به ، فأراه فجاء بسهلة أو تراب أحمر ، فأخذته أم سلمه فجعلته في ثوبها ) (١٠٤)

هذه بعض روايات الأصحاب ونساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي روتها صحاح ومسانيد السنة والجماعة ، وهناك روايات لم نذكرها ، ومن أراد التوسع ؛ فعليه بمراجعتها في الكتب الخاصة بها(١٠٥)

ثانياً ـ نظرة حول الروايات :

بعد التأمل في الروايات المتقدمة بما فيها تعدد طرقها ؛ نخرج بالتالي :

١ ـ إهتمام السماء بهذه التربة الزكية ، من خلال إخبار جبرئيل وغيره من الملائكة بقتل الحسينعليه‌السلام وإتيانهم بتربته ، ولم يكن الإهتمام لأي تربة اخرى

______________________

(١٠٣) ـ الهيثمي ، الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر : مجمع الزوايد ، ج ٩ / ١٨٩

(١٠٤) ـ ابن حجر ، أحمد بن علي : الصواعق المحرقة / ١٩٢

(١٠٥) ـ المرعشي ، السيد شهاب الدين : إحقاق الحق وملحقاته ، ج ١١ / ٣٣٩ ـ ٤١٢

٧٤

٢ ـ إهتمام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه التربة ؛ من شمها وإعطائها أم سلمة وديعة

٣ ـ إهتمام الأصحاب ورجال الحديث ـ من خلال تعدد طرقها وكثرة مصادرها ـ بتربة الحسينعليه‌السلام

ـ وبعد كل ذلك ، بماذا نحلل إتيان جبريل وغيره من الملائكة ؟!

ـ وبماذا نحلل إهتمام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه التربة الطاهرة الزكية ؟!

ـ هل على نحو العبث ، أم لفضيلة هذه التربة الطاهرة ؟!

التفاضل بين مكة والمدينة وكربلاء :

س / يفهم من تعلق الشيعة الإمامية بـ ( تربة الحسين عليه‌السلام ) ، أنها أفضل من تربة مكة التي لم تزل منذ نزول آدم عليه‌السلام إلى الآن أرض مقدسة وأفضل من أرض المدينة المنورة التي تختص بجسد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تكونان في المنزلة دون كربلاء ، هذا أمر غريب ؟! وهل الحسين عليه‌السلام أفضل من جده الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

ج / يتضح الجواب بعد بيان التالي :

أولاً ـ إختلف العلماء في تفاضل مكة والمدينة وكربلاء حسب الوجوه التالية :

رأي السنة والجماعة :

١ ـ ذهب الشافعي ، وأهل مكة ، وأهل العلم أجمع ، إلى أن مكة أفضل(١٠٦)

٢ ـ ذهب مالك وأهل المدينة إلى أن المدينة أفضل(١٠٧)

٣ ـ قال القاضي عياض : إن موضع قبرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل بقاع الأرض ، وإن مكة والمدينة أفضل بقاع الأرض(١٠٨) وحكاية الإجماع على تفضيل ما ضم

______________________

(١٠٦) ـ النووي ، محي الدين بن شرف : المجموع في شرح المهذب ، ج ٧ / ٤٦٩ ـ ٤٧٠

(١٠٧) ـ ابن حزم ، علي بن أحمد : المحلى ، ج ٧ / ٢٧٩

(١٠٨) ـ الشوكاني ، محمد بن علي : نيل الاوطار ، ج ٥ / ٣٥

٧٥

الأعضاء الشريفة نقله القاضي عياض ، وكذا القاضي أبو الوليد الباجي ( الناجي ) قبله كما قال الخطيب ابن جمله ، وكذا نقله أبو اليمن ابن عساكر وغيرهم ، مع التصريح بالتفضيل على الكعبة الشريفة(١٠٩)

رأي الشيعة الإمامية :

١ ـ ذهب الشيخ الطوسي ، بل ادعى الإجماع على أفضلية مكة على غيرها(١١٠)

٢ ـ وأجمعوا على أن الموضع الذي ضم أعضاءه الشريفة أفضل بقاع الأرض(١١١)

٣ ـ وقال السيد علي خان : والأقرب أن موضع قبور الأئمة عليهم السلام كذلك ، أما البلدان التي فيها ؛ فمكة أفضل منها حتى المدينة(١١٢)

٤ ـ وقال الشهيد الثاني ( قده ) في الدروس : مكة أفضل بقاع الأرض ما عدا قبر الرسول الله صلى الله عليه وآله ، وروي في كربلاء على ساكنها السلام ، مرجحات(١١٣)

٥ ـ ذهب السيد بحر العلوم ( قده ) : إلى تفضيل كربلاء على مكة ، كما هو المستفاد من منظومته الدرة النجفية :

والأفضل الأرض ومنها فُضِّلا

تُرْبَةُ قُدْسٍ قُدِّسَت في كربلا(١١٤)

ومن حديث كربلا والكعبة

لكربلا بان علو الرتبة(١١٥)

______________________

(١٠٩) ـ السمهودي ، نور الدين علي : وفاء الوفاء : ج ١ / ٢٨

(١١٠) ـ الطوسي ، شيخ الطائفة ، محمد بن الحسن : الخلاف ، ج ٢ / ٤٥١

(١١١) ـ الشيرازي ، السيد علي خان : رياض السالكين ، ج ١ / ٤٧٦

(١١٢) ـ نفس المصدر / ٤٧٧

(١١٣) ـ نفس المصدر / ٤٧٦

(١١٤) ـ بحر العلوم ، السيد محمد مهدي الطباطبائي : الدرة النجفية / ٩٧

(١١٥) ـ نفس المصدر / ١٠٣

٧٦

وذهب الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ( قده ) : إلى تفضيل كربلاء على غيرها ، حيث قال : « إذن ، أفليس من صميم الحق والحق الصميم ، أن تكون أطيب بقعة على وجه الأرض مرقداً وضريحاً لأكرم شخصية في الدهر »(١١٦)

خلاصة واستنتاج :

أولاً ـ بعد عرض الأقوال نخرج بما يلي :

١ ـ الإتفاق بين المسلمين على أن الموضع الذي ضم أعضاءه الشريفة أفضل بقاع الأرض وزاد الإمامية أن المواضع التي تضم أعضاء المعصومينعليهم‌السلام من أهل بيته أيضاً ؛ لأنهم أفضل الخلق من بعده

٢ ـ الإتفاق بين المسلمين على أن مكة والمدينة أفضل بقاع الأرض ، والإختلاف في التفاضل بينهما

٣ ـ بعض الإمامية يقول : بأن كربلاء أفضل من مكة والمدينة ، ماعدا قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبور أهل بيتهعليهم‌السلام

ثانياً ـ إن عظمة الحسينعليه‌السلام من عظمة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وشرف الحسينعليه‌السلام من شرفه ، وهو القائل في حقه :( حسين مني وأنا من حسين ، أحب الله من أحب حسيناً ، حسين سبط من الأسباط ) (١١٧) وقد روى هذا الحديث كثير من محدثي الطوائف الإسلامية

توجيه الأعلام لحديث (حسين مني) :

ولأرباب العلم في معناه وجوه :

______________________

(١١٦) ـ كاشف الغطاء ، الشيخ محمد حسين : الأرض والتربة الحسينية / ٢٥

(١١٧) ـ الترمذي ، محمد بن عيسى : سنن الترمذي ، ج ٢ / ٣٠٧ ( مناقب الحسن والحسين )

٧٧

أولاً ـ « أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قصد إكمال الحب وتمام الإلفة بسبطه وريحانته الحسين ؛ فإن البلغاء من العرب إذا أرادوا أن يظهروا الإتحاد والإلفة وشدة الإتصال والمحبة بأحد منهم ، يقولون : فلان منا ونحن من فلان ، كما أنهم إذا أرادوا أن يظهروا النفرة وشدة القطيعة من رجل قالوا فيه :( إننا لسنا منه وليس هو منا ) ، قال شاعرهم :

أيها السائل عنهم وعني

لست من قيس ولا قيس مني

وجاء في الحديث القدسي في الحاسد الحاقد :( إنه ليس مني ولست أنا منه ) ؛ أي إن المحبة الشديدة ، والصلة الأكيدة ، والعلاقة التامة بيني وبين الحسين ، جعلته كجزء مني وجعلتني كجزء منه من شدة الإتصال وعدم الإنفكاك »(١١٨)

ثانياً ـ « قد يكون إشارة إلى ما روي ؛ أن الحسينعليه‌السلام لما ولد كان يؤتى به إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيرضعه من ريقه أو إبهامه ، حتى نبت لحمه من لحم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعظمه من عظمه ، ودمه من دمه ، فكأنهما نفس واحدة ، فبملاحظة ذلك صح أن يقولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وأنا من حسين ) »(١١٩)

ثالثاً ـ « لما كان الحسين متولداً من فاطمةعليها‌السلام ، وفاطمة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ صح أن يقول :( وأنا من حسين ) ؛ ولذا يفسر قوله :( حسين مني ) بالجهة المادية ، وقوله :( أنا من حسين ) بالجهة المعنوية »(١٢٠)

______________________

(١١٨) ـ الفيروزآبادي ، السيد مرتضى الحسيني : فضائل الخمسة ، ج ٣ / ٣٢٢ ـ ٣٢٣

(١١٩) ـ العمران ، العلامة الشيخ فرج : الأزهار الأرجية ، ج ٢ / ٩٦

(١٢٠) ـ نفس المصدر

٧٨

نعم نفهم من تعبير الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وأنا من حسين ) تلك المكانة العالية للحسينعليه‌السلام عند جده وعند ربه أيضاً ، وتتجلى تلك المكانة عبر الأحاديث التالية :

أ ـ أخرج الحاكم في( المستدرك ) وصححه ، وقال الذمني في التخلص على شرط مسلم عن ابن عباس قال :( أوحي إلى محمد أني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفاً ، وإنني قاتل بابن بنتك سبعين ألفاً وسبعين ألفا ) (١٢١)

ب ـ واخرج الثعلبي : «( أن السماء بكت وبكائها حمرتها ) وأخرج غيره :( إحمرّت آفاق السماء ستة أشهر بعد قتله ، ثم لا زالت الحمرة تُرى بعد ذلك ) وأن ابن سيرين قال : أخبرنا أنّ الحمرة التي تأتي مع الشفق لم تكن قبل الحسين وذكر ابن سعد أنّ هذه الحمرة لم ترَ في السماء قبل قتله .

قال ابن الجوزي : وحكمته أن غضبنا يؤثر حمرة الوجه ، والحق تنزه عن الجسمية فاظهر تأثير غضبه على من قتل الحسين بحمرة الأفق إظهاراً لعظم الجناية »(١٢٢)

كما تظهر لنا عناية الباري عَزّ وجَلّ بالحسينعليه‌السلام ، حيث عَوّضه بإستشهاده في الدنيا بثلاثة أشياء ، كما هو المستفاد من حديث ابن عباس ( ثم قال : يا ابن عباس ، من زاره عارفاً بحقه ؛ كتب له ثواب ألف حجة وألف عمره ، ألا من زاره فكأنما زارني ، ومن زارني فكأنما زار الله ، وحق

______________________

(١٢١) ـ الصبان ، الشيخ محمد : إسعاف الراغبين / ١٩٢ ، ( مطبوع بهامش ـ نور الأبصار : للشبلنجي )

(١٢٢) ـ ابن حجر ، أحمد بن علي : الصواعق المحرقة / ١٩٤

٧٩

الزائر على الله أن لا يعذبه بالنار ، وأن الإجابة تحت قبته ، والشفاء في تربته ، والأئمة من ولده )(١٢٣)

وحديث محمد بن مسلم قال : سمعت أبا جعفر ، وجعفر بن محمدعليهما‌السلام يقولان :( إن الله عوّض الحسين عليه‌السلام من قتله ؛ أن جعل الإمامة في ذريته ، والشفاء في تربته ، وإجابة الدعاء عند قبره ، ولا تعد أيام زائريه جائياً وراجعاً من عمره ) (١٢٤)

وبعد هذا البيان ، إتضح لنا ميزة تربة الطف على غيرها ؛ إذ قدّسها الباري عَزّ وجَلّ بسبب من قتل فيها في سبيله ، وإلى هذا يشير إمامنا السجادعليه‌السلام بقوله :( طوبى لأرض تضمنت جسدك الطاهر ، فإنّ الدنيا بعدك مظلمة ، والآخرة بنورك مشرقة ، أما الليل ؛ فمسهد والحزن سرمد ، أو يختار الله لأهل بيتك دارك التي أنت بها مقيم ، وعليك مني السلام يا ابن رسول الله ورحمة الله وبركاته ) (١٢٥) وفي زيارة الإمام الصادقعليه‌السلام للشهداء :( بِاَبي اَنْتُمْ وَاُمّي طِبْتُمْ وَطابَتِ الاَرْضُ الَّتي فيها دُفِنْتُمْ ، وَفُزْتُمْ فَوْزاً عَظيماً ) (١٢٦) فهل في ذلك مانع ؟!

أم هل في تفضيل تربة الحسينعليه‌السلام على بقاع الأرض ، تفضيل الحسين على جده الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟! كلا ، إنّ تفضيلنا لهذه التربة ناشئ من اهتمام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها كما ذكرنا سابقاً

______________________

(١٢٣) ـ المجلسي ، الشيخ محمد باقر : بحار الأنوار ج ٣٦ / ٢٨٦ ( باب : ٤١ ـ حديث ١٠٧ )

(١٢٤) ـ نفس المصدر ، ج ٤٤ / ٢٢١ ، ( باب ٢٩ ـ حديث ١ )

(١٢٥) ـ المقرم ، السيد عبدالرزاق : مقتل الحسين / ٣٢٠

(١٢٦) ـ القمي ، الشيخ عباس : مفاتيح الجنان / ٥٢٦

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

لو قبلتم فسوف تقتلون فلا ترضوا بهذا العرض ، فهبط أمين الوحي جبرائيلعليه‌السلام إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره بذلك.

يقول أبو لبابة : فو الله ما زالت قدماي حتى عرفت إنّي خنت الله ورسوله ، وعند ذاك نزلت هذه الآيات في أبي لبابة. وقد عاد أبو لبابة معلنا ندمه الشديد وأتى بحبل وربط نفسه به إلى أحد أعمدة مسجد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وقال : والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى يموت أو يقبل الله توبته. واستمر على هذه الحال دون أكل وشرب إلى سبعة أيّام ، حتى فقد وعيه وسقط على الأرض مغشيا عليه ، فقبل الله توبته ، وقام المؤمنون بإبلاغة الخبر ، لكنّه أقسم أن لا يفكّ نفسه من العمد حتى يأتيه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويفك عنه الحبل ، فجاءه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفكّ حبله ، وقال (أبو لبابة) : إنّ من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها بالذنب وأن انخلع من مالي ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له : «يجزيك الثلث أن تصدّق به»(١) .

وقد جاء هذا المضمون نفسه في كتب أهل السنة حول سبب النّزول ، إلّا أنّ بعضهم استبعد النّزول في شأن (بني قريضة) ، لأنّ سابقاتها من الآيات تتعلق بحادثة بدر ، ولأنّ هذه القضية لم تقع إلّا بعد مدّة طويلة من واقعة بدر ، لهذا قالوا : إنّ المقصود في الرّوايات هو أنّ حادثة بني قريضة من مصاديق الآية ، لا أنّها نزلت فيها ، وإنّ هذه العبارة يوردها الكثيرون في أسباب النّزول. فعلى سبيل المثال فقد جاء في بعض الكتب نقلا عن بعض الصحابة أنّ الآية الفلانية قد نزلت في قتل عثمان ، غير أنّ من المعلوم أنّ قتل عثمان حدث بعد سنين طويلة من وفاة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ويحتمل أيضا أن الآية قد نزلت في بني قريضة ، ولكن بما أنّها كانت تتناسب والآيات النازلة في قضية بدر ، فقد أمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإلحاقها بتلك الآيات.

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ١٤٣.

٤٠١

التّفسير

الخيانة وأساسها :

يوجه الله سبحانه في الآية الأولى من الآي محل البحث الخطاب إلى المؤمنين فيقول :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ ) .

إنّ الخيانة لله ورسوله ، هي وضع الأسرار العسكرية للمسلمين في تصرف أعدائهم ، أو تقوية الأعداء أثناء محاربتهم ، أو بصورة عامّة ترك الواجبات والمحرمات والأوامر الإلهية ، ولذلك فقد ورد عن (ابن عباس) : إنّ من ترك شيئا من الأوامر الإسلامية فقد ارتكب خيانة بحق الله ورسوله.

ثمّ تقول الآية :( وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ ) (١) .

و (الخيانة) في الأصل معناها : الامتناع عن دفع حق أحد مع التعهد به ، وهي ضد (الأمانة) والأمانة وإن كانت تطلق على الأمانة المالية غالبا ، لكنّها في منطق القرآن ذات مفهوم أوسع يشمل شؤون الحياة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية كافة ، ولذلك جاء في الأحاديث : «المجالس بالأمانة».

ونقرأ في حديث آخر : «إذا حدث الرجل بحديث ثمّ التفت فهو أمانة. ومن ذلك تكون أرض الإسلام أمانة إلهية بأيدي المسلمين وأبنائهم أيضا. وفوق كل ذلك فإنّ القرآن المجيد وتعاليمه كل ذلك يعد أمانة إلهية كبرى ، وقد قال بعضهم : إنّ أمانة الله هي أوامره ، وأمانة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سنته ، وأمانة المؤمنين أموالهم وأسرارهم ، ولكن الأمانة في الآية ـ آنفا ـ تشتمل على كل ذلك.

على كل حال ، فإنّ الخيانة في الأمانة من أقبح الأعمال وشرّ الذنوب. فإنّ من يخون الأمانة منافق في الحقيقة ، كما ورد في الحديث عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . حيث قال : «آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا

__________________

(١) «تخونوا) في الأصل (لا تخونوا) وقد حذفت (لا) بقرينة الجملة السابقة.

٤٠٢

ائتمن خان ، وإن صام وصلى وزعم أنّه مسلم».

كما أن ترك الخيانة في الأمانة يعدّ من الحقوق والواجبات الإنسانية ، حتى إذا كان صاحب الأمانة غير مسلم فلا تجوز خيانة أمانته.

ويقول القرآن في آخر الآية :( وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أي أنّه قد يصدر منكم على نحو الخطأ ما هو خيانة ، ولكن تقدموا على الخيانة وأنتم تعلمون ، فإنّ عملا كعمل (أبي لبابة) لم يكن لجهل أو خطأ ، بل بسبب الحب المفرط للمال والبنين وحفظ المصالح الشخصية الذي قد يسد في لحظة حساسة كل شيء بوجه الإنسان ، فكأنّه لا يرى بعينه ولا يسمع بأذنيه فيخون الله ورسوله ، وهذه في الحقيقة خيانة مع العلم ، والمهم أن يستيقظ الإنسان بسرعة كما فعل (أبو لبابة) ليصلح ما قام بتخريبه.

والآية بعدها تحذر المسلمين ليجتنبوا الماديات والمنافع العابرة ، لئلا تلقى على عيونهم وآذانهم غشاء فيرتكبون خيانة تعرّض المجتمع إلى الخطر فتقول :( وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) .

وكلمة «فتنة» ـ كما ذكرنا ـ تأتي في مثل هذه الموارد بمعنى وسيلة الامتحان ، والحقيقة أنّ أهم وسيلة لامتحان الإيمان والكفر والشخصية وفقدانها ، وميزان القيم الإنسانية للأفراد هو هذان الموضوعان (المال والأولاد).

فكيفية جمع المال وكيفية إنفاقه ، والمحافظة عليه وميزان التعلق به ، كل تلك ميادين لامتحان البشر ، فكم من أناس يلتزمون بظاهر العبادة وشعائر الدين ، حتى المستحبات يلتزمون بشدّة في أدائها ، لكنّهم إذا ما ابتلوا بقضية مالية ، تراهم ينسون كل شيء ويدعون الأوامر الإلهية ومسائل الحق والعدل والإنسانية جانبا.

أمّا عن الأبناء فهم ثمار قلب الإنسان وبراعم حياته المتفتحة ، ولهذا نجد الكثير من الناس المتمسكين بالدين والمسائل الأخلاقية والإنسانية ، لا يراعوا الحق والدين بالنسبة للمسائل المتعلقة بمصلحة أبنائهم ، فكأنّ ستارا يلقى على

٤٠٣

أفكارهم فينسون كل الأمور ، ويصير حبّهم لأبنائهم سببا ليحلّوا الحرام ويحرموا الحلال ، ومن أجل توفير المستقيل لأبنائهم يستحقون كل حق ويقدمون على كل منكر ، فيجب علينا الاعتصام بالله العظيم في هذين الميدانين العظيمين للامتحان ، وأن نحذر بشدّة ، فكم من الناس زلت أقدامهم وسقطوا فيهما ، وظلت لعنة التأريخ تلاحقهم أبدا بذلك. فإذا زلت لنا قدم يوما ، فيجب علينا الإسراع في تصحيح المسير ك (أبي لبابة) وإذا كان المال هو السبب في الانحراف ، فعلينا بذله وإنفاقه في سبيل الله.

وفي نهاية الآية بشارة كبرى لمن يخرج من هذين الامتحانين منتصرا ، فتقول :( وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) .

فمهما كان حبّ الأبناء كبيرا ، ومهما كانت الأموال محبوبة وكثيرة ، فإنّ جزاء الله وثوابه أعلى وأعظم من كل ذلك.

وهنا تثار أسئلة كثيرة ، منها : لماذا يمتحن الله الناس مع إحاطته العلمية بكل شيء؟ولماذا يكون الامتحان شاملا للجميع حتى الأنبياء؟ وما هي مواد الامتحان الإلهي وما هي السبل للتغلب عليها؟ وقد أجبنا على كل تلك الأسئلة في المجلد الأولى من التّفسير الأمثل.

* * *

٤٠٤

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩) )

التّفسير

الإيمان ووضوح الرّؤية :

تناولت الآيات السابقة أوامر حياتية تتضمّن السعادة المادية والمعنوية للإنسان ، لكن العمل بها غير ممكن إلّا في ظلال التقوى ، لذلك جاءت هذه الآية المباركة لتؤكّد أهمية التقوى وآثارها في مصير الإنسان ، وقد بيّنت الآية أربعة ثمار ونتائج للتقوى.

فقالت ابتداء :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً ) .

وكلمة «فرقان» صيغة مبالغة من مادة (فرق) وهي هنا بمعنى الشيء الذي يفصل بين الحق والباطل تماما.

إنّ هذه الجملة الموجزة والكبيرة في معناها قد بيّنت إحدى أهم المسائل المؤثره في مصير الإنسان ، وهي أنّ درب الإنسان نحو النصر محفوف دائما بالمصاعب والحفر فإذا لم يبصرها جيدا ويحسن معرفتها واتقاءها فسيسقط فيها

٤٠٥

لا محالة ، فأهم مسألة في هذا الطريق هي معرفة الحق والباطل ، معرفة الحسن والقبيح ، معرفة الصديق والعدو ، معرفة الفوائد والأضرار ، معرفة عوامل السعادة والضياع ، فإذا استطاع الإنسان معرفة هذه الحقائق جيدا فسيسهل عليه الوصول إلى الهدف.

إنّ المشكلة التي تعترض الإنسان غالبا هي خطأه في تشخيص الباطل واختياره على الحق ، وانتخاب العدوّ بدل الصديق ، وطريق الضلال بدل طريق الهداية ، وهنا يحتاج الإنسان إلى بصر وبصيرة قويّة ، ووضوح رؤية. إنّ هذه الآية المباركة تقول : إنّ هذه البصيرة ثمرة لشجرة التقوى. أمّا كيف تعطي هذه التقوى البصيرة للإنسان؟ فقد يكون الأمر مبهما لدى البعض ، لكن قليلا من الدقّة والتأمل كافية لتوضيح العلاقة الوثيقة بين هذين الإثنين ، ولإيضاح ذلك نقول :

أوّلا : إنّ قوّة عقل الإنسان تستطيع إدراك الحقائق بقدر كاف ، ولكن ستائر من الحرص والطمع والشهوة وحبّ النفس والحسد ، والحبّ المفرط للمال والأزواج والأولاد والجاه والمنصب كل ذلك يغدوّ كالدخان الأسود أمام بصيرة العقل ، أو كالغبار الغليظ الذي يملأ الآفاق ، وهنا لا يمكن للإنسان معرفة الحق والباطل في أجواء مظلمة ، أمّا إذا غسل تلك الغشاوة بماء التقوى وانقشع ذلك الدخان الأسود ، عند ذاك تسهل عليه رؤية نور الحق.

ثانيا : أنّنا نعلم أنّ كل كمال في أي مكان إنّما هو قبس من كمال الحق ، وكلّما اقترب الإنسان من الله فإنّ نور الكمال المطلق سينعكس في وجوده أكثر ، وعلى ذلك فإنّ أي علم ومعرفة فهو نبع من علمه ومعرفته تعالى ، وكلّما تقدّم الإنسان في ظلال التقوى وترك المعاصي من الله ، ذابت قطرة وجوده في بحر وجود العظيم أكثر ، وسيحصل على مقدار أكثر من العلم والمعرفة.

وبعبارة أخرى فإنّ قلب الإنسان كالمرآة ، ووجود الله كالشمس الساطعة على الوجود ، فإذا تلوثت مرآة قلبه من الأهواء حتى اسودت ، فسوف لا تعكس

٤٠٦

النور ، فإذا تمّ جلاؤها بالتقوى وزال الدرن عنها ، فإنّ تلك الشمس الوضاءة الساطعة ستنعكس فيها وتنير كل مكان.

ولذلك فإنّنا نرى على مدى التأريخ بعض النساء والرجال المتّقين يملكون وضوحا من الرؤية لا يمكن بلوغه بوسائل العلم والمعرفة أبدا ، فهم يرون أسباب الكثير من الحوادث التي تعصف بالمجتمع غير المرئية ، ويرون وجود أعداء الحق وإن حجبتها آلاف الستائر الخادعة.

وهذا الأثر العجيب للتقوى في معرفة الواقع ، جاء ذكره في الكثير من الرّوايات والآيات الأخرى ، ففي سورة البقرة تقول الآية ٢٨٢ :( اتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ ) ، وجاء في الحديث المعروف : «المؤمن ينظر بنور الله».

وفي نهج البلاغة في قصار الكلم : «أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع».

ثالثا : بالتحليل العقلي يمكن فهم العلاقة الوثيقة بين التقوى وإدراك الحقائق أيضا ، لأنّ المجتمعات التي تسير في دروب الفساد والرذيلة وأجهزة الإعلام فيها تطبل لذلك الميسر ، والصحافة والراديو والتلفزيون كلها تدعو للتلوث والانحراف وخدمة الفساد ، فمن البديهي أن يصعب على الناس تمييز الحق من الباطل ، الجيد من الرديء ، ونتيجة الأمر ، فإنّ انعدام التقوى يكون سببا لفقدان القدرة على هذه المعرفة أو سوء المعرفة.

ومثال آخر : فإنّ عائلة غير متقيّة ، وصغارها يشبون في محيط ملوث بالفساد والرّذيلة ، فمن العسير على هؤلاء في المستقبل تمييز الجيد من الرديء ، وإهدار القوى والطاقات في الذنوب يتسبب بقاء الناس على مستوى دان من البصيرة والمعرفة وانحطاط في التفكير حتى وإن كانوا متقدمين في الصناعة والحياة المادية.

وبناء على ما تقدم فإنّنا نرى أنّ ادنى انحراف عن التقوى يسبب نوعا من

٤٠٧

العمى وسوء المعرفة ، لذلك نرى في العالم الصناعي اليوم مجتمعات متقدمة جدّا في العلم والصناعة ، ولكنّها في حياتها اليومية مصابة بأمراض ومشاكل شديدة تبعث على الاستغراب والتعجب ، وهنا تتجلى عظمة ما قاله القرآن الكريم.

ونظرا إلى أنّ التقوى لا تنحصر بالتقوى في العمل ، بل تشمل التقوى في الفكر والعقل ، فإنّ هذه الحقيقة تتّضح بصورة أجلى. فالتقوى في الفكر تعني مواجهة التسيّب وعدم الانضباط في التفكير ، بمعنى أن نبحث في دراساتنا وتحقيقاتنا عن أصح الأدلة وأوثق البراهين ، وأن لا نلتزم بعقيدة دون التحقيق الكافي والدقة اللازمة.

والذين يراعون التقوى ويلتزمونها في تفكيرهم سيبلغون النتائج الصحيحة أسرع بكثير ممن لا يلتزم بها ، كما أنّ الخلط والخطأ يكثر عند من لا يتقي الله في استدلالاته وأسلوب تفكيره.

وهناك أمر آخر يجب الانتباه إليه ، لأنّ الكثير من مفاهيمنا الإسلامية قد تعرضت للتشويه بين المسلمين ، وهو أنّ الكثير من الناس يتصور أنّ الإنسان المتقي هو الذي يكثر من غسل بدنه ولباسه ويعتبر كل فرد وكل شيء نجسا ومشكوكا فيه ، وينزوي جانبا متجنبا الخوض في الأمور الاجتماعية ، ويسكت أمام كل واقعة ، فهذه النظرات المغلوطة عن التقوى والمتقين في الحقيقة إحدى عوامل انحطاط المجتمعات الإسلامية ، لأنّ هذه التقوى لا تنتج معرفة ولا وضوح رؤية ولا تكون فرقانا بين الحق والباطل.

وعلى كل حال ، وبعد أن اتّضح أوّل ثواب للمتقين نعود لتفسير بقية الآية وسائر الثمار الأربعة لها.

يقول القرآن الكريم : إنّه إضافة إلى معرفة الحق من الباطل فإنّ من آثار التقوى أن يغطي على ذنوبكم ويمحوا آثارها من وجودكم( وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) .

٤٠٨

مضافا إلى ذلك ، فإنّه تعالى سيشملكم بمغفرته( وَيَغْفِرْ لَكُمْ ) .

وثمار كثيرة أخرى تنتظركم لا يعلمها إلّا الله :( وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) .

فهذه الآثار الأربعة هي ثمرات في شجرة التقوى ، ووجود روابط طبيعية بين التقوى وقسم من هذه الآثار لا يمنع من نسبة كل ذلك إلى الله تبارك وتعالى ، لأنّنا وكما قلنا مرارا في هذا التّفسير فإنّ أي موجود ذي آثار إنّما تحصل بمشيئة الله وقدرته ، فيمكن نسبة تلك الآثار إلى اللهعزوجل ، وإلى ذلك الموجود أيضا.

وأمّا الفرق بين (تكفير السيئات) و (الغفران). فقد قال بعض المفسّرين بأنّ الأولى إشارة إلى الحجب من الدنيا ، والثّانية إلى النجاة من الجزاء الأخروي ، ويرد احتمال آخر هنا وهو أن (تكفير السيئات) تشير للآثار النفسية والاجتماعية للذنوب والتي تزول بفعل التقوى ، ولكن (الغفران) إشارة إلى مسألة العفو الإلهي والخلاص من الجزاء

* * *

٤٠٩

الآية

( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠) )

سبب النّزول

ذكر المفسّرون والمحدثون أن الآية ـ محل البحث ـ تشير إلى الحوادث التي أدت إلى هجرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكّة إلى المدينة.

هذه الحوادث وإن رويت بعبارات مختلفة إلّا أنّها تتفق جميعا على حقيقة أنّ اللهعزوجل قد أنقذ نبيّه الكريم عن طريق الإعجاز من خطر محدق به ، ونروي هذه الحادثة وفقا لمّا ورت في الدّر المنثور ومجمع البيان ذيل الآية آنفا قال المفسّرون : إنّها نزلت في شأن «دار النّدوة» وذلك أنّ نفرا من قريش اجتمعوا فيها وهي دار قصيّ بن كلاب ، وتآمروا في أمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال عروة بن هشام : نتربص به ريب المنون ، وقال أبو البختري : أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه ، وقال أبو جهل : ما هذا برأي ، ولكن اقتلوه بأن يجتمع عليه من كل بطن رجل فيضربوه بأسيافهم ضربة رجل واحد فيرضى بنو هاشم حينئذ بالديّة ، فصوّب

٤١٠

إبليس هذا الرأي ، وكان قد جاءهم في صورة شيخ كبير من أهل نجد ، وخطّأ الأولّين.

فاتفقوا على هذا الرأي وأعدّو الرجال والسلاح وجاء جبرئيلعليه‌السلام فأخبر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخرج إلى الغار وأمر عليّا فبات على فراشه ، فلمّا أصبحوا وفتشوا عن الفراش ، وجدوا عليّاعليه‌السلام وقد ردّ الله مكرهم فقالوا : أين محمّد؟ فقال : لا أدري ، فاقتصّوا أثره وأرسلوا في طلبه ، فلمّا بلغوا الجبل ومرّوا بالغار رأوا على بابه نسج العنكبوت ، فقالوا : لو كان هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاثا ثمّ قدم المدينة»(١) .

التّفسير

سرّ بداية الهجرة :

يعتقد بعض المفسّرين أنّ هذه الآية ، وخمس آيات تليها ، نزلت في مكّة لأنّها تشير إلى هجرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن سياقها يدل على نزولها بعد الهجرة ، إذ تتكلم على حادثة سابقة.

فبناء على ذلك تكون هذه الآية قد نزلت في المدينة بالرغم من حديثها عن هجرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتحدث عن الذكرى الكبرى والنعمة العظمى التي منّ الله بها على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين ، فتقول في بدايتها( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ) .

كلمة «المكر» كما ذكرنا سلفا تعني في اللغة التدبير والتخطيط والحيلة.

ثمّ تضيف الآية قائلة :( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ) .

فإذا أمعنّا النظر في موضوع هجرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّنا سنجد أنّ المشركين قد بذلوا كل ما في وسعهم وجهدهم من طاقات فكرية وجسدية للقضاء على نبيّ

__________________

(١) الدر المنثور وفقا لما نقل عنه صاحب المنار ، ومجمع البيان ذيل الآية.

٤١١

الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى أنّهم أعدّوا جائزة لهذا الغرض وهي مائة ناقة ، وهذا العدد من الإبل كان يعدّ ثروة كبرى يومئذ «هذه الجائزة لكلّ من يقبض على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى بعد أن خرج عن قبضتهم» وقد طفق الكثير يجوبون الفيافي والجبال ليبحثوا عنه طلبا لتلك الجائزة الكبرى حتى بلغوا الغار ، ولكن الله سبحانه أذهب بأتعابهم أدراج الرياح بواسطة نسيج العنكبوت!

ونظرا إلى أنّ هجرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تمثل مرحلة جديدة في التأريخ الإسلامي ، بل التأريخ الإنساني ، فإنّنا نستنتج أنّ الله قد غير مسيرة التأريخ البشري بما نسجته العنكبوت من خيوط! وهذا الأمر لا ينحصر بهجرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل في جميع تأريخ الأنبياء ، فإنّ الله سبحانه أذل أعداءهم ودمرهم وأباد قوى الضلال بأسباب هيّنة كالريح ـ مثلا ـ أو كثرة البعوض ، أو الطير الصغيرة التي تسمّى بالأبابيل ، ليبيّن حالة الضعف البشري والعجز إزاء قدرته اللامتناهية وليردع الإنسان عن التفكير بالطغيان والعناد.

وممّا يسترعي النظر أنّ الالتجاء إلى هذه الأساليب الثّلاثة : السجن والنفي والقتل ، لم يكن منحصرا بالمشركين في مواجهة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحسب ، فإنّ الطغاة يلجأون إلى هذه الأساليب الثّلاثة دائما للقضاء على المصلحين وإسكاتهم ، والحيلولة دون بسط نفوذهم بين المستضعفين ، إلّا أنّه كما كانت النتيجة خلاف ما أراده مشركو مكّة في شأن النّبي وأضحت مقدمة لتحرك إسلامي جديد ، فكذلك مثل هذه الموجهات الشديدة قد باءت نتائجها في مواطن أخرى بعكس ما كان متوقعا(١)

* * *

__________________

(١) الملاحظة اللطيفة هنا هو أنّ كتابة هذا التّفسير كانت في الاجزاء السابقة تسير مسيرا بطيئا ، ولكن بما أن راقم هذه السّطور حين كتابة هذا الجزء من التّفسير كان قد نفي من قبل حكومة الطاغوت إلى مدينة «مهاباد» و «أنارك» فإنّ كتابة هذا التّفسير قد سارعت الخطى بحيث إنّني أكملت تمام هذا الجزء في ذلك المنفي.

٤١٢

الآيات

( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١) وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥) )

التّفسير

القائلون شططا :

ذكر في الآية السابقة مثل خرافي من منطق المشركين العملي ، وفي هذه الآيات مثل آخر من منطقهم الفكري ، ليتّضح أنّ هؤلاء لم يمتلكوا سلامة في

٤١٣

الفكر ولا صحة في العمل ، فجميع أساليبهم خاوية بغير أساس.

تقول الآية الأولى من الآيات محل البحث :( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) .

كانوا يقولون مثل هذا الكلام عند ما يعجزون عن مواجهة القرآن ومعارضته ، وكانوا يعرفون جيدا أنّهم غير قادرين على معارضة القرآن ، إلّا أنّهم ولحقدهم وعصبيتهم ، أو لأنّهم يريدون إضلال الناس ، كانوا يقولون : إنّ الإتيان بمثل هذه الآيات غير عسير ولو نشاء لقلنا مثلها ، ولكنّهم لم يستطيعوا أن يأتوا بمثلها أبدا ، وما هذا القول منهم سوى ادعاء فارغ يهدفون بذلك إلى إبقاء كيانهم الاجتماعي ـ كسائر الجبايرة في التأريخ ـ إلى أمر معدود.

والآية التّالية تتحدث عن منطق عجيب آخر فتقول :( وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) .

لقد كانوا يقولون ذلك لشدّة تعصبهم وعنادهم ، وكانوا يتصورون أنّ الدين الإسلامي لا أساس له أبدا ، وإلّا فإنّ أحدا يحتمل حقانية الإسلام كيف يمكنه أن يدعو على نفسه بمثل هذا الدعاء؟

كما ويحتمل أيضا أنّ شيوخ المشركين وسادتهم يقولون ذلك الكلام لتضليل الناس وليثبتوا لبسطائهم أنّ رسالة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باطلة تماما ، في حين أنّهم لا يعتقدون بما يقولون. وكأنّهم ـ أي المشركين ـ يريدون أن يقولوا للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّك تتكلم عن الأنبياء السابقين ، وإنّ الله قد أهلك أعداءهم بحجارة أمطرها عليهم «كما هي الحال في شأن قوم لوط» فإن كنت صادقا فيما تقول فأمطر علينا حجارة من السماء!

وقد ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام (في مجمع البيان) أنّه لما نصب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علياعليه‌السلام يوم غدير خم فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، طار ذلك في البلاد ، فقدم على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النعمان بن الحارث الفهري ، فقال : أمرتنا من الله

٤١٤

أن نشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسول الله ، وأمرتنا بالجهاد والحج والصوم والصلاة والزكاة فقبلناها ، ثمّ لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فهذا شيء منك أو أمر من عند الله؟

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والله الذي لا إله إلّا هو ، إن هذا من الله». فولّى النعمان بن الحارث وهو يقول : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ، فرماه الله بحجر على رأسه فقتله(١) .

وهذا الحديث لا ينافي نزول الآية في قصّة الغدير ، لأنّ سبب النّزول لم يكن موضوع النعمان ، بل إن النعمان قد اقتبس من الآية في الدعاء على نفسه ، وهذا يشبه قولنا في الدعاء مقتبسين ذلك من القرآن( رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ) «وسيأتي تفصيل هذا الموضوع وما ذكرته كتب أهل السنة من أساتيد كثيرة له في ذيل الآية الأولى من سورة المعارج( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) بإذن الله».

وفي ما تقدم من الآيات نلاحظ أنّ المشركين وجّهوا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إشكالين.

الأوّل منهما : واضح البطلان ، وهو قولهم : لو نشاء لقلنا مثل هذا. فلم يردّ عليه القرآن. بديهي أن هذا الادعاء أجوف كاذب ، لأنّهم لو استطاعوا لما توانوا عنه أبدا ولجاءوا به ، فلا حاجة إذن للردّ عليه.

والإشكال الثّاني : لو كانت هذه الآيات نازلة من قبل الله فأنزل علينا العقاب والبلاء ، فيرد عليهم القرآن في الآية الثّالثة ، من الآيات محل البحث ، بقوله :( وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) .

وفي الحقيقة أنّ وجودك ـ يا رسول الله ـ الذي هو رحمة للعالمين ، يمنع من

__________________

(١) راجع مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ٣٥٢ وتفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ١٥١.

٤١٥

نزول البلاء بسبب هذه الذنوب ، فيهلك قومك كما هلكت الأمم السابقة جماعات أو متفرقين.

ثمّ تعقيب الآية بالقول :( وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) .

وللمفسّرين احتمالات متعددة في تفسير الجملة آنفة الذكر ، منها أنّ بعض المشركين ندموا على قولهم الذي ذكرته الآية فقالوا : غفرانك ربّنا ، وكان ذلك سببا لأن لا ينزل عليهم العذاب حتى بعد خروج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكّة.

وقال بعضهم : إنّ الآية تشير إلى من بقي من المؤمنين في مكّة ، لأنّ بعضا ممن لم يستطع الهجرة بقي فيها بعد خروج النّبي ، فوجودهم الذي هو شعاع من وجود النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منع من نزول العذاب.

كما يحتمل أن تكون هذه الجملة التي ذكرتها الآية تتضمّن مفهوم جملة شرطية ، أي أنّهم لو ندموا على فعلهم توجهوا إلى الله واستغفروه فسيرتفع عنهم عقاب الله.

كما لا يبعد ـ في الوقت ذاته ـ الجمع بين هذه الاحتمالات كلّها في تفسير الآية ، أي يمكن أن تكون الآية إشارة إلى جميع هذه الاحتمالات.

وعلى أية حال ، فإنّ مفهوم الآية لا يختصّ بمعاصري النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل هو قانون عام كليّ يشمل جميع الناس. لهذا فقد روي في مصادرنا عن الإمام علي ، وفي مصادر أهل السنة عن تلميذ الإمام علي «ابن عباس» أنّه قالعليه‌السلام : «كان في الأرض أمانان من عذاب الله ، وقد رفع أحدهما فدونكم الآخر فتمسكوا به. وقرأ هذه الآية»(١) .

ويتّضح من الآية ـ محل البحث ، والحديث آنف الذكر ـ أنّ وجود الأنبياءعليهم‌السلام مدعاة لأمن الناس من عذاب الله وبلائه الشديد ، ثمّ الاستغفار والتوبة

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار.

٤١٦

والتوجه والضراعة نحو الله ، إذ يعدّ الاستغفار والتوبة ممّا يدفع به العذاب.

فإذا انعدم الاستغفار فإنّ المجتمعات البشرية ستفقد الأمن من عذاب الله لما اقترفته من الذنوب والمعاصي.

وهذا العذاب أو العقاب قد يأتي في صورة الحوادث الطبيعية المؤلمة ، كالسيل مثلا ، أو الحروب المدمّرة ، أو في صور أخرى ، وقد جاء في دعاء كميل بن زياد عن الإمام علىعليه‌السلام قوله «اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء».

فهذا التّعبير يدل على أنّه لو لا الاستغفار فإنّ كثيرا من الذنوب قد تكون سببا في البلاء والكوارث.

وينبغي التذكير بهذه اللطيفة ، وهي أنّ الاستغفار لا يعني تكرار ألفاظ معينة ، كأن يقول المرء «اللهم اغفر لي» بل المراد منه روح الاستغفار الذي هو حالة العودة نحو الحق والتهيؤ لتلافي ما مضى من العبد قبال ربّه.

والآية التّالية : تقول : إنّ هؤلاء حقيقون بعذاب الله( وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) .

وهذا التعبير في الآية يشير إلى يوم كان المسلمون في مكّة ، ولم يكن لهم الحق أن يقيموا صلاة الجماعة بتمام الحرية ، والاطمئنان عند المسجد الحرام ، إذ كانوا يتعرضون للإيذاء والتعذيب.

أو أنّ هذا التعبير يشير إلى منع المشركين المسلمين وصدهم إياهم بعد أدائهم مناسك الحج والعمرة ، فلم يأذنوا لهم بالتردد إلى المسجد الحرام.

والعجيب أنّ هؤلاء المشركين كانوا يتصورون أنّ لهم حق التصرف كيفما شاءوا في المسجد الحرام ، وأنّهم أولياؤه. إلّا أنّ القرآن يضيف في هذه الآية قائلا :( وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ ) وبالرغم من زعمهم أنّهم أولياؤه ف( إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) .

ومع أنّ هذا الحكم ورد في شأن المسجد الحرام ، إلّا أنّه يشمل جميع المراكز

٤١٧

الدينية والمساجد فإنّ سدنتها ينبغي أن يكونوا من أطهر الناس وأتقاهم وأورعهم وأكثرهم اهتماما بالمحافظة على مراكز العبادة ، ليجعلوها منطلقا للتعليم وبثّ الوعي والإيقاظ. إذ لا يصلح لإدارة هذه المراكز حفنة من الحمقى أو باعة الضمائر الملوّثين والمرتبطين بالأجانب ، الذين يسعون إلى تحويل المساجد ومراكز العبادة إلى محال تجاربة ، أو جعلها مكانا لتخدير الأفكار ، والابتعاد عن الحقّ. وفي اعتقادنا أنّ المسلمين لو كانوا ملتزمين بتعاليم القرآن في شأن المساجد ، لكانت المجتمعات الإسلامية اليوم لها وجه آخر وصورة مشرقة!

والأعجب في هذا الشأن أنّ المشركين كانوا يدّعون أنّهم يصلّون ويعبدون الله بما كانوا يقومون به من أعمال قبيحة كالصفير والتصدية عند البيت ، ولهذا فقد قالت الآية التالية عنهم :( وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً ) .

ونقرأ في التأريخ أنّ طائفة من الأعراب في زمان الجاهلية عند ما كانوا يطوفون بالبيت العتيق ، كانوا يخلعون ثيابهم ويصفرون ويصفقون ويسمّون أعمالهم هذه عبادة ، وورد أيضا أنّ النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما كان يقف بجانب الحجر الأسود ويتجه بوجهه نحو الشمال ليكون في مقابل الكعبة وبيت المقدس ، ويشرع بالصلاة ، كان يقف إلى يمينه ويساره رجلان من بني سهم فيأخذ أحدهم بالصياح والآخر بالتصفيق ليؤذياه في صلاته.

تعقب الآية على ما تقدم لتقول : إنّ أعمالكم ـ بل حتى صلاتكم ـ مدعاة للخجل والسفاهة ولذلك( فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) .

إنّ الإنسان حين يقلّب صفحات التأريخ ويتوغّل فيه باحثا عن جوانب من تاريخ عرب الجاهلية التي وردت الإشارة إليها في القرآن ، يرى ـ ويا للعجب العجاب! ـ في عصرنا الحاضر الذي عرف بعصر الفضاء والذرة من يعيد تلك الأعمال التي كانت في زمان الجاهلية ، ويتصوّر نفسه في عبادة ، فيقرءون الآيات

٤١٨

القرآنية أو الأشعار في مدح النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والامام عليعليه‌السلام بالألحان الموسيقية ذات الإيقاع المثير ، وتهتزّ أيديهم ورؤوسهم بما يشبه حالة الرقص ، ويسمّون ذلك ذكرا ومدائح ، ويقيمونها في التكايا وغيرها. مع إنّ الإسلام يبرأ من جميع هذه الأعمال ، وهي مثل آخر من أمثلة أعمال «الجاهلية».

ويبقى هنا سؤال واحد ، وهو أنّ الآية الثّالثة من الآيات محل البحث قد نفت نزول العذاب بتوفر شرطين طبعا ، والآية الرّابعة أثبتت ترى ألا يقع التضاد بين الآيتين؟

والجواب : إنّ الآية السابقة إلى العقاب الدنيوي ، والآية اللاحقة لعلها إشارة إلى العقاب الأخروي ، أو أنّها إشارة إلى أنّ هؤلاء يستحقون العقاب في الدنيا وهو محدق بهم ، فإذا مضى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يتوبوا ويستغفروا ربّهم فإنّه سينزل بهم لا محالة.

* * *

٤١٩

الآيتان

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧) )

سبب النّزول

جاء في تفسير علي بن إبراهيم وكثير من التفاسير الأخرى ، أنّ الآية ـ محل البحث ـ نزلت في معركة بدر ، وما بذله أهل مكّة للصدّ عن سبيل الله ، لأنّهم لما عرفوا ما حصل ـ إذ جاءهم مبعوث أبي سفيان ـ قاموا بجمع الأموال الكثيرة ليعينوا بها مقاتليهم ، إلّا أنّهم خابوا وقتلوا وآبوا إلى جهنم وساءت مصيرا ، وكان ما أنفقوه في هذا الصدد وبالا وحسرة عليهم. والآية الأولى تشير إلى سائر معوناتهم التي قدموها في سبيل مواجهة الإسلام ومحاربته ، وقد طرحت الموضوع في صياغة كلّية.

وقال بعضهم : إنّ الآية نزلت في ما بذله أبو سفيان لألفى مقاتل «مرتزق» في

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606