الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 606
المشاهدات: 233302
تحميل: 5422


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 233302 / تحميل: 5422
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 5

مؤلف:
العربية

لو قبلتم فسوف تقتلون فلا ترضوا بهذا العرض ، فهبط أمين الوحي جبرائيلعليه‌السلام إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره بذلك.

يقول أبو لبابة : فو الله ما زالت قدماي حتى عرفت إنّي خنت الله ورسوله ، وعند ذاك نزلت هذه الآيات في أبي لبابة. وقد عاد أبو لبابة معلنا ندمه الشديد وأتى بحبل وربط نفسه به إلى أحد أعمدة مسجد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وقال : والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى يموت أو يقبل الله توبته. واستمر على هذه الحال دون أكل وشرب إلى سبعة أيّام ، حتى فقد وعيه وسقط على الأرض مغشيا عليه ، فقبل الله توبته ، وقام المؤمنون بإبلاغة الخبر ، لكنّه أقسم أن لا يفكّ نفسه من العمد حتى يأتيه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويفك عنه الحبل ، فجاءه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفكّ حبله ، وقال (أبو لبابة) : إنّ من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها بالذنب وأن انخلع من مالي ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له : «يجزيك الثلث أن تصدّق به»(1) .

وقد جاء هذا المضمون نفسه في كتب أهل السنة حول سبب النّزول ، إلّا أنّ بعضهم استبعد النّزول في شأن (بني قريضة) ، لأنّ سابقاتها من الآيات تتعلق بحادثة بدر ، ولأنّ هذه القضية لم تقع إلّا بعد مدّة طويلة من واقعة بدر ، لهذا قالوا : إنّ المقصود في الرّوايات هو أنّ حادثة بني قريضة من مصاديق الآية ، لا أنّها نزلت فيها ، وإنّ هذه العبارة يوردها الكثيرون في أسباب النّزول. فعلى سبيل المثال فقد جاء في بعض الكتب نقلا عن بعض الصحابة أنّ الآية الفلانية قد نزلت في قتل عثمان ، غير أنّ من المعلوم أنّ قتل عثمان حدث بعد سنين طويلة من وفاة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ويحتمل أيضا أن الآية قد نزلت في بني قريضة ، ولكن بما أنّها كانت تتناسب والآيات النازلة في قضية بدر ، فقد أمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإلحاقها بتلك الآيات.

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 2 ، ص 143.

٤٠١

التّفسير

الخيانة وأساسها :

يوجه الله سبحانه في الآية الأولى من الآي محل البحث الخطاب إلى المؤمنين فيقول :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ ) .

إنّ الخيانة لله ورسوله ، هي وضع الأسرار العسكرية للمسلمين في تصرف أعدائهم ، أو تقوية الأعداء أثناء محاربتهم ، أو بصورة عامّة ترك الواجبات والمحرمات والأوامر الإلهية ، ولذلك فقد ورد عن (ابن عباس) : إنّ من ترك شيئا من الأوامر الإسلامية فقد ارتكب خيانة بحق الله ورسوله.

ثمّ تقول الآية :( وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ ) (1) .

و (الخيانة) في الأصل معناها : الامتناع عن دفع حق أحد مع التعهد به ، وهي ضد (الأمانة) والأمانة وإن كانت تطلق على الأمانة المالية غالبا ، لكنّها في منطق القرآن ذات مفهوم أوسع يشمل شؤون الحياة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية كافة ، ولذلك جاء في الأحاديث : «المجالس بالأمانة».

ونقرأ في حديث آخر : «إذا حدث الرجل بحديث ثمّ التفت فهو أمانة. ومن ذلك تكون أرض الإسلام أمانة إلهية بأيدي المسلمين وأبنائهم أيضا. وفوق كل ذلك فإنّ القرآن المجيد وتعاليمه كل ذلك يعد أمانة إلهية كبرى ، وقد قال بعضهم : إنّ أمانة الله هي أوامره ، وأمانة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سنته ، وأمانة المؤمنين أموالهم وأسرارهم ، ولكن الأمانة في الآية ـ آنفا ـ تشتمل على كل ذلك.

على كل حال ، فإنّ الخيانة في الأمانة من أقبح الأعمال وشرّ الذنوب. فإنّ من يخون الأمانة منافق في الحقيقة ، كما ورد في الحديث عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . حيث قال : «آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا

__________________

(1) «تخونوا) في الأصل (لا تخونوا) وقد حذفت (لا) بقرينة الجملة السابقة.

٤٠٢

ائتمن خان ، وإن صام وصلى وزعم أنّه مسلم».

كما أن ترك الخيانة في الأمانة يعدّ من الحقوق والواجبات الإنسانية ، حتى إذا كان صاحب الأمانة غير مسلم فلا تجوز خيانة أمانته.

ويقول القرآن في آخر الآية :( وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أي أنّه قد يصدر منكم على نحو الخطأ ما هو خيانة ، ولكن تقدموا على الخيانة وأنتم تعلمون ، فإنّ عملا كعمل (أبي لبابة) لم يكن لجهل أو خطأ ، بل بسبب الحب المفرط للمال والبنين وحفظ المصالح الشخصية الذي قد يسد في لحظة حساسة كل شيء بوجه الإنسان ، فكأنّه لا يرى بعينه ولا يسمع بأذنيه فيخون الله ورسوله ، وهذه في الحقيقة خيانة مع العلم ، والمهم أن يستيقظ الإنسان بسرعة كما فعل (أبو لبابة) ليصلح ما قام بتخريبه.

والآية بعدها تحذر المسلمين ليجتنبوا الماديات والمنافع العابرة ، لئلا تلقى على عيونهم وآذانهم غشاء فيرتكبون خيانة تعرّض المجتمع إلى الخطر فتقول :( وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) .

وكلمة «فتنة» ـ كما ذكرنا ـ تأتي في مثل هذه الموارد بمعنى وسيلة الامتحان ، والحقيقة أنّ أهم وسيلة لامتحان الإيمان والكفر والشخصية وفقدانها ، وميزان القيم الإنسانية للأفراد هو هذان الموضوعان (المال والأولاد).

فكيفية جمع المال وكيفية إنفاقه ، والمحافظة عليه وميزان التعلق به ، كل تلك ميادين لامتحان البشر ، فكم من أناس يلتزمون بظاهر العبادة وشعائر الدين ، حتى المستحبات يلتزمون بشدّة في أدائها ، لكنّهم إذا ما ابتلوا بقضية مالية ، تراهم ينسون كل شيء ويدعون الأوامر الإلهية ومسائل الحق والعدل والإنسانية جانبا.

أمّا عن الأبناء فهم ثمار قلب الإنسان وبراعم حياته المتفتحة ، ولهذا نجد الكثير من الناس المتمسكين بالدين والمسائل الأخلاقية والإنسانية ، لا يراعوا الحق والدين بالنسبة للمسائل المتعلقة بمصلحة أبنائهم ، فكأنّ ستارا يلقى على

٤٠٣

أفكارهم فينسون كل الأمور ، ويصير حبّهم لأبنائهم سببا ليحلّوا الحرام ويحرموا الحلال ، ومن أجل توفير المستقيل لأبنائهم يستحقون كل حق ويقدمون على كل منكر ، فيجب علينا الاعتصام بالله العظيم في هذين الميدانين العظيمين للامتحان ، وأن نحذر بشدّة ، فكم من الناس زلت أقدامهم وسقطوا فيهما ، وظلت لعنة التأريخ تلاحقهم أبدا بذلك. فإذا زلت لنا قدم يوما ، فيجب علينا الإسراع في تصحيح المسير ك (أبي لبابة) وإذا كان المال هو السبب في الانحراف ، فعلينا بذله وإنفاقه في سبيل الله.

وفي نهاية الآية بشارة كبرى لمن يخرج من هذين الامتحانين منتصرا ، فتقول :( وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) .

فمهما كان حبّ الأبناء كبيرا ، ومهما كانت الأموال محبوبة وكثيرة ، فإنّ جزاء الله وثوابه أعلى وأعظم من كل ذلك.

وهنا تثار أسئلة كثيرة ، منها : لماذا يمتحن الله الناس مع إحاطته العلمية بكل شيء؟ولماذا يكون الامتحان شاملا للجميع حتى الأنبياء؟ وما هي مواد الامتحان الإلهي وما هي السبل للتغلب عليها؟ وقد أجبنا على كل تلك الأسئلة في المجلد الأولى من التّفسير الأمثل.

* * *

٤٠٤

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) )

التّفسير

الإيمان ووضوح الرّؤية :

تناولت الآيات السابقة أوامر حياتية تتضمّن السعادة المادية والمعنوية للإنسان ، لكن العمل بها غير ممكن إلّا في ظلال التقوى ، لذلك جاءت هذه الآية المباركة لتؤكّد أهمية التقوى وآثارها في مصير الإنسان ، وقد بيّنت الآية أربعة ثمار ونتائج للتقوى.

فقالت ابتداء :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً ) .

وكلمة «فرقان» صيغة مبالغة من مادة (فرق) وهي هنا بمعنى الشيء الذي يفصل بين الحق والباطل تماما.

إنّ هذه الجملة الموجزة والكبيرة في معناها قد بيّنت إحدى أهم المسائل المؤثره في مصير الإنسان ، وهي أنّ درب الإنسان نحو النصر محفوف دائما بالمصاعب والحفر فإذا لم يبصرها جيدا ويحسن معرفتها واتقاءها فسيسقط فيها

٤٠٥

لا محالة ، فأهم مسألة في هذا الطريق هي معرفة الحق والباطل ، معرفة الحسن والقبيح ، معرفة الصديق والعدو ، معرفة الفوائد والأضرار ، معرفة عوامل السعادة والضياع ، فإذا استطاع الإنسان معرفة هذه الحقائق جيدا فسيسهل عليه الوصول إلى الهدف.

إنّ المشكلة التي تعترض الإنسان غالبا هي خطأه في تشخيص الباطل واختياره على الحق ، وانتخاب العدوّ بدل الصديق ، وطريق الضلال بدل طريق الهداية ، وهنا يحتاج الإنسان إلى بصر وبصيرة قويّة ، ووضوح رؤية. إنّ هذه الآية المباركة تقول : إنّ هذه البصيرة ثمرة لشجرة التقوى. أمّا كيف تعطي هذه التقوى البصيرة للإنسان؟ فقد يكون الأمر مبهما لدى البعض ، لكن قليلا من الدقّة والتأمل كافية لتوضيح العلاقة الوثيقة بين هذين الإثنين ، ولإيضاح ذلك نقول :

أوّلا : إنّ قوّة عقل الإنسان تستطيع إدراك الحقائق بقدر كاف ، ولكن ستائر من الحرص والطمع والشهوة وحبّ النفس والحسد ، والحبّ المفرط للمال والأزواج والأولاد والجاه والمنصب كل ذلك يغدوّ كالدخان الأسود أمام بصيرة العقل ، أو كالغبار الغليظ الذي يملأ الآفاق ، وهنا لا يمكن للإنسان معرفة الحق والباطل في أجواء مظلمة ، أمّا إذا غسل تلك الغشاوة بماء التقوى وانقشع ذلك الدخان الأسود ، عند ذاك تسهل عليه رؤية نور الحق.

ثانيا : أنّنا نعلم أنّ كل كمال في أي مكان إنّما هو قبس من كمال الحق ، وكلّما اقترب الإنسان من الله فإنّ نور الكمال المطلق سينعكس في وجوده أكثر ، وعلى ذلك فإنّ أي علم ومعرفة فهو نبع من علمه ومعرفته تعالى ، وكلّما تقدّم الإنسان في ظلال التقوى وترك المعاصي من الله ، ذابت قطرة وجوده في بحر وجود العظيم أكثر ، وسيحصل على مقدار أكثر من العلم والمعرفة.

وبعبارة أخرى فإنّ قلب الإنسان كالمرآة ، ووجود الله كالشمس الساطعة على الوجود ، فإذا تلوثت مرآة قلبه من الأهواء حتى اسودت ، فسوف لا تعكس

٤٠٦

النور ، فإذا تمّ جلاؤها بالتقوى وزال الدرن عنها ، فإنّ تلك الشمس الوضاءة الساطعة ستنعكس فيها وتنير كل مكان.

ولذلك فإنّنا نرى على مدى التأريخ بعض النساء والرجال المتّقين يملكون وضوحا من الرؤية لا يمكن بلوغه بوسائل العلم والمعرفة أبدا ، فهم يرون أسباب الكثير من الحوادث التي تعصف بالمجتمع غير المرئية ، ويرون وجود أعداء الحق وإن حجبتها آلاف الستائر الخادعة.

وهذا الأثر العجيب للتقوى في معرفة الواقع ، جاء ذكره في الكثير من الرّوايات والآيات الأخرى ، ففي سورة البقرة تقول الآية 282 :( اتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ ) ، وجاء في الحديث المعروف : «المؤمن ينظر بنور الله».

وفي نهج البلاغة في قصار الكلم : «أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع».

ثالثا : بالتحليل العقلي يمكن فهم العلاقة الوثيقة بين التقوى وإدراك الحقائق أيضا ، لأنّ المجتمعات التي تسير في دروب الفساد والرذيلة وأجهزة الإعلام فيها تطبل لذلك الميسر ، والصحافة والراديو والتلفزيون كلها تدعو للتلوث والانحراف وخدمة الفساد ، فمن البديهي أن يصعب على الناس تمييز الحق من الباطل ، الجيد من الرديء ، ونتيجة الأمر ، فإنّ انعدام التقوى يكون سببا لفقدان القدرة على هذه المعرفة أو سوء المعرفة.

ومثال آخر : فإنّ عائلة غير متقيّة ، وصغارها يشبون في محيط ملوث بالفساد والرّذيلة ، فمن العسير على هؤلاء في المستقبل تمييز الجيد من الرديء ، وإهدار القوى والطاقات في الذنوب يتسبب بقاء الناس على مستوى دان من البصيرة والمعرفة وانحطاط في التفكير حتى وإن كانوا متقدمين في الصناعة والحياة المادية.

وبناء على ما تقدم فإنّنا نرى أنّ ادنى انحراف عن التقوى يسبب نوعا من

٤٠٧

العمى وسوء المعرفة ، لذلك نرى في العالم الصناعي اليوم مجتمعات متقدمة جدّا في العلم والصناعة ، ولكنّها في حياتها اليومية مصابة بأمراض ومشاكل شديدة تبعث على الاستغراب والتعجب ، وهنا تتجلى عظمة ما قاله القرآن الكريم.

ونظرا إلى أنّ التقوى لا تنحصر بالتقوى في العمل ، بل تشمل التقوى في الفكر والعقل ، فإنّ هذه الحقيقة تتّضح بصورة أجلى. فالتقوى في الفكر تعني مواجهة التسيّب وعدم الانضباط في التفكير ، بمعنى أن نبحث في دراساتنا وتحقيقاتنا عن أصح الأدلة وأوثق البراهين ، وأن لا نلتزم بعقيدة دون التحقيق الكافي والدقة اللازمة.

والذين يراعون التقوى ويلتزمونها في تفكيرهم سيبلغون النتائج الصحيحة أسرع بكثير ممن لا يلتزم بها ، كما أنّ الخلط والخطأ يكثر عند من لا يتقي الله في استدلالاته وأسلوب تفكيره.

وهناك أمر آخر يجب الانتباه إليه ، لأنّ الكثير من مفاهيمنا الإسلامية قد تعرضت للتشويه بين المسلمين ، وهو أنّ الكثير من الناس يتصور أنّ الإنسان المتقي هو الذي يكثر من غسل بدنه ولباسه ويعتبر كل فرد وكل شيء نجسا ومشكوكا فيه ، وينزوي جانبا متجنبا الخوض في الأمور الاجتماعية ، ويسكت أمام كل واقعة ، فهذه النظرات المغلوطة عن التقوى والمتقين في الحقيقة إحدى عوامل انحطاط المجتمعات الإسلامية ، لأنّ هذه التقوى لا تنتج معرفة ولا وضوح رؤية ولا تكون فرقانا بين الحق والباطل.

وعلى كل حال ، وبعد أن اتّضح أوّل ثواب للمتقين نعود لتفسير بقية الآية وسائر الثمار الأربعة لها.

يقول القرآن الكريم : إنّه إضافة إلى معرفة الحق من الباطل فإنّ من آثار التقوى أن يغطي على ذنوبكم ويمحوا آثارها من وجودكم( وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) .

٤٠٨

مضافا إلى ذلك ، فإنّه تعالى سيشملكم بمغفرته( وَيَغْفِرْ لَكُمْ ) .

وثمار كثيرة أخرى تنتظركم لا يعلمها إلّا الله :( وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) .

فهذه الآثار الأربعة هي ثمرات في شجرة التقوى ، ووجود روابط طبيعية بين التقوى وقسم من هذه الآثار لا يمنع من نسبة كل ذلك إلى الله تبارك وتعالى ، لأنّنا وكما قلنا مرارا في هذا التّفسير فإنّ أي موجود ذي آثار إنّما تحصل بمشيئة الله وقدرته ، فيمكن نسبة تلك الآثار إلى اللهعزوجل ، وإلى ذلك الموجود أيضا.

وأمّا الفرق بين (تكفير السيئات) و (الغفران). فقد قال بعض المفسّرين بأنّ الأولى إشارة إلى الحجب من الدنيا ، والثّانية إلى النجاة من الجزاء الأخروي ، ويرد احتمال آخر هنا وهو أن (تكفير السيئات) تشير للآثار النفسية والاجتماعية للذنوب والتي تزول بفعل التقوى ، ولكن (الغفران) إشارة إلى مسألة العفو الإلهي والخلاص من الجزاء

* * *

٤٠٩

الآية

( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) )

سبب النّزول

ذكر المفسّرون والمحدثون أن الآية ـ محل البحث ـ تشير إلى الحوادث التي أدت إلى هجرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكّة إلى المدينة.

هذه الحوادث وإن رويت بعبارات مختلفة إلّا أنّها تتفق جميعا على حقيقة أنّ اللهعزوجل قد أنقذ نبيّه الكريم عن طريق الإعجاز من خطر محدق به ، ونروي هذه الحادثة وفقا لمّا ورت في الدّر المنثور ومجمع البيان ذيل الآية آنفا قال المفسّرون : إنّها نزلت في شأن «دار النّدوة» وذلك أنّ نفرا من قريش اجتمعوا فيها وهي دار قصيّ بن كلاب ، وتآمروا في أمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال عروة بن هشام : نتربص به ريب المنون ، وقال أبو البختري : أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه ، وقال أبو جهل : ما هذا برأي ، ولكن اقتلوه بأن يجتمع عليه من كل بطن رجل فيضربوه بأسيافهم ضربة رجل واحد فيرضى بنو هاشم حينئذ بالديّة ، فصوّب

٤١٠

إبليس هذا الرأي ، وكان قد جاءهم في صورة شيخ كبير من أهل نجد ، وخطّأ الأولّين.

فاتفقوا على هذا الرأي وأعدّو الرجال والسلاح وجاء جبرئيلعليه‌السلام فأخبر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخرج إلى الغار وأمر عليّا فبات على فراشه ، فلمّا أصبحوا وفتشوا عن الفراش ، وجدوا عليّاعليه‌السلام وقد ردّ الله مكرهم فقالوا : أين محمّد؟ فقال : لا أدري ، فاقتصّوا أثره وأرسلوا في طلبه ، فلمّا بلغوا الجبل ومرّوا بالغار رأوا على بابه نسج العنكبوت ، فقالوا : لو كان هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاثا ثمّ قدم المدينة»(1) .

التّفسير

سرّ بداية الهجرة :

يعتقد بعض المفسّرين أنّ هذه الآية ، وخمس آيات تليها ، نزلت في مكّة لأنّها تشير إلى هجرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن سياقها يدل على نزولها بعد الهجرة ، إذ تتكلم على حادثة سابقة.

فبناء على ذلك تكون هذه الآية قد نزلت في المدينة بالرغم من حديثها عن هجرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتحدث عن الذكرى الكبرى والنعمة العظمى التي منّ الله بها على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين ، فتقول في بدايتها( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ) .

كلمة «المكر» كما ذكرنا سلفا تعني في اللغة التدبير والتخطيط والحيلة.

ثمّ تضيف الآية قائلة :( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ) .

فإذا أمعنّا النظر في موضوع هجرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّنا سنجد أنّ المشركين قد بذلوا كل ما في وسعهم وجهدهم من طاقات فكرية وجسدية للقضاء على نبيّ

__________________

(1) الدر المنثور وفقا لما نقل عنه صاحب المنار ، ومجمع البيان ذيل الآية.

٤١١

الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى أنّهم أعدّوا جائزة لهذا الغرض وهي مائة ناقة ، وهذا العدد من الإبل كان يعدّ ثروة كبرى يومئذ «هذه الجائزة لكلّ من يقبض على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى بعد أن خرج عن قبضتهم» وقد طفق الكثير يجوبون الفيافي والجبال ليبحثوا عنه طلبا لتلك الجائزة الكبرى حتى بلغوا الغار ، ولكن الله سبحانه أذهب بأتعابهم أدراج الرياح بواسطة نسيج العنكبوت!

ونظرا إلى أنّ هجرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تمثل مرحلة جديدة في التأريخ الإسلامي ، بل التأريخ الإنساني ، فإنّنا نستنتج أنّ الله قد غير مسيرة التأريخ البشري بما نسجته العنكبوت من خيوط! وهذا الأمر لا ينحصر بهجرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل في جميع تأريخ الأنبياء ، فإنّ الله سبحانه أذل أعداءهم ودمرهم وأباد قوى الضلال بأسباب هيّنة كالريح ـ مثلا ـ أو كثرة البعوض ، أو الطير الصغيرة التي تسمّى بالأبابيل ، ليبيّن حالة الضعف البشري والعجز إزاء قدرته اللامتناهية وليردع الإنسان عن التفكير بالطغيان والعناد.

وممّا يسترعي النظر أنّ الالتجاء إلى هذه الأساليب الثّلاثة : السجن والنفي والقتل ، لم يكن منحصرا بالمشركين في مواجهة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحسب ، فإنّ الطغاة يلجأون إلى هذه الأساليب الثّلاثة دائما للقضاء على المصلحين وإسكاتهم ، والحيلولة دون بسط نفوذهم بين المستضعفين ، إلّا أنّه كما كانت النتيجة خلاف ما أراده مشركو مكّة في شأن النّبي وأضحت مقدمة لتحرك إسلامي جديد ، فكذلك مثل هذه الموجهات الشديدة قد باءت نتائجها في مواطن أخرى بعكس ما كان متوقعا(1)

* * *

__________________

(1) الملاحظة اللطيفة هنا هو أنّ كتابة هذا التّفسير كانت في الاجزاء السابقة تسير مسيرا بطيئا ، ولكن بما أن راقم هذه السّطور حين كتابة هذا الجزء من التّفسير كان قد نفي من قبل حكومة الطاغوت إلى مدينة «مهاباد» و «أنارك» فإنّ كتابة هذا التّفسير قد سارعت الخطى بحيث إنّني أكملت تمام هذا الجزء في ذلك المنفي.

٤١٢

الآيات

( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) )

التّفسير

القائلون شططا :

ذكر في الآية السابقة مثل خرافي من منطق المشركين العملي ، وفي هذه الآيات مثل آخر من منطقهم الفكري ، ليتّضح أنّ هؤلاء لم يمتلكوا سلامة في

٤١٣

الفكر ولا صحة في العمل ، فجميع أساليبهم خاوية بغير أساس.

تقول الآية الأولى من الآيات محل البحث :( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) .

كانوا يقولون مثل هذا الكلام عند ما يعجزون عن مواجهة القرآن ومعارضته ، وكانوا يعرفون جيدا أنّهم غير قادرين على معارضة القرآن ، إلّا أنّهم ولحقدهم وعصبيتهم ، أو لأنّهم يريدون إضلال الناس ، كانوا يقولون : إنّ الإتيان بمثل هذه الآيات غير عسير ولو نشاء لقلنا مثلها ، ولكنّهم لم يستطيعوا أن يأتوا بمثلها أبدا ، وما هذا القول منهم سوى ادعاء فارغ يهدفون بذلك إلى إبقاء كيانهم الاجتماعي ـ كسائر الجبايرة في التأريخ ـ إلى أمر معدود.

والآية التّالية تتحدث عن منطق عجيب آخر فتقول :( وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) .

لقد كانوا يقولون ذلك لشدّة تعصبهم وعنادهم ، وكانوا يتصورون أنّ الدين الإسلامي لا أساس له أبدا ، وإلّا فإنّ أحدا يحتمل حقانية الإسلام كيف يمكنه أن يدعو على نفسه بمثل هذا الدعاء؟

كما ويحتمل أيضا أنّ شيوخ المشركين وسادتهم يقولون ذلك الكلام لتضليل الناس وليثبتوا لبسطائهم أنّ رسالة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باطلة تماما ، في حين أنّهم لا يعتقدون بما يقولون. وكأنّهم ـ أي المشركين ـ يريدون أن يقولوا للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّك تتكلم عن الأنبياء السابقين ، وإنّ الله قد أهلك أعداءهم بحجارة أمطرها عليهم «كما هي الحال في شأن قوم لوط» فإن كنت صادقا فيما تقول فأمطر علينا حجارة من السماء!

وقد ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام (في مجمع البيان) أنّه لما نصب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علياعليه‌السلام يوم غدير خم فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، طار ذلك في البلاد ، فقدم على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النعمان بن الحارث الفهري ، فقال : أمرتنا من الله

٤١٤

أن نشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسول الله ، وأمرتنا بالجهاد والحج والصوم والصلاة والزكاة فقبلناها ، ثمّ لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فهذا شيء منك أو أمر من عند الله؟

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والله الذي لا إله إلّا هو ، إن هذا من الله». فولّى النعمان بن الحارث وهو يقول : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ، فرماه الله بحجر على رأسه فقتله(1) .

وهذا الحديث لا ينافي نزول الآية في قصّة الغدير ، لأنّ سبب النّزول لم يكن موضوع النعمان ، بل إن النعمان قد اقتبس من الآية في الدعاء على نفسه ، وهذا يشبه قولنا في الدعاء مقتبسين ذلك من القرآن( رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ) «وسيأتي تفصيل هذا الموضوع وما ذكرته كتب أهل السنة من أساتيد كثيرة له في ذيل الآية الأولى من سورة المعارج( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) بإذن الله».

وفي ما تقدم من الآيات نلاحظ أنّ المشركين وجّهوا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إشكالين.

الأوّل منهما : واضح البطلان ، وهو قولهم : لو نشاء لقلنا مثل هذا. فلم يردّ عليه القرآن. بديهي أن هذا الادعاء أجوف كاذب ، لأنّهم لو استطاعوا لما توانوا عنه أبدا ولجاءوا به ، فلا حاجة إذن للردّ عليه.

والإشكال الثّاني : لو كانت هذه الآيات نازلة من قبل الله فأنزل علينا العقاب والبلاء ، فيرد عليهم القرآن في الآية الثّالثة ، من الآيات محل البحث ، بقوله :( وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) .

وفي الحقيقة أنّ وجودك ـ يا رسول الله ـ الذي هو رحمة للعالمين ، يمنع من

__________________

(1) راجع مجمع البيان ، ج 5 ، ص 352 وتفسير نور الثقلين ، ج 2 ، ص 151.

٤١٥

نزول البلاء بسبب هذه الذنوب ، فيهلك قومك كما هلكت الأمم السابقة جماعات أو متفرقين.

ثمّ تعقيب الآية بالقول :( وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) .

وللمفسّرين احتمالات متعددة في تفسير الجملة آنفة الذكر ، منها أنّ بعض المشركين ندموا على قولهم الذي ذكرته الآية فقالوا : غفرانك ربّنا ، وكان ذلك سببا لأن لا ينزل عليهم العذاب حتى بعد خروج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكّة.

وقال بعضهم : إنّ الآية تشير إلى من بقي من المؤمنين في مكّة ، لأنّ بعضا ممن لم يستطع الهجرة بقي فيها بعد خروج النّبي ، فوجودهم الذي هو شعاع من وجود النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منع من نزول العذاب.

كما يحتمل أن تكون هذه الجملة التي ذكرتها الآية تتضمّن مفهوم جملة شرطية ، أي أنّهم لو ندموا على فعلهم توجهوا إلى الله واستغفروه فسيرتفع عنهم عقاب الله.

كما لا يبعد ـ في الوقت ذاته ـ الجمع بين هذه الاحتمالات كلّها في تفسير الآية ، أي يمكن أن تكون الآية إشارة إلى جميع هذه الاحتمالات.

وعلى أية حال ، فإنّ مفهوم الآية لا يختصّ بمعاصري النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل هو قانون عام كليّ يشمل جميع الناس. لهذا فقد روي في مصادرنا عن الإمام علي ، وفي مصادر أهل السنة عن تلميذ الإمام علي «ابن عباس» أنّه قالعليه‌السلام : «كان في الأرض أمانان من عذاب الله ، وقد رفع أحدهما فدونكم الآخر فتمسكوا به. وقرأ هذه الآية»(1) .

ويتّضح من الآية ـ محل البحث ، والحديث آنف الذكر ـ أنّ وجود الأنبياءعليهم‌السلام مدعاة لأمن الناس من عذاب الله وبلائه الشديد ، ثمّ الاستغفار والتوبة

__________________

(1) نهج البلاغة ، الكلمات القصار.

٤١٦

والتوجه والضراعة نحو الله ، إذ يعدّ الاستغفار والتوبة ممّا يدفع به العذاب.

فإذا انعدم الاستغفار فإنّ المجتمعات البشرية ستفقد الأمن من عذاب الله لما اقترفته من الذنوب والمعاصي.

وهذا العذاب أو العقاب قد يأتي في صورة الحوادث الطبيعية المؤلمة ، كالسيل مثلا ، أو الحروب المدمّرة ، أو في صور أخرى ، وقد جاء في دعاء كميل بن زياد عن الإمام علىعليه‌السلام قوله «اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء».

فهذا التّعبير يدل على أنّه لو لا الاستغفار فإنّ كثيرا من الذنوب قد تكون سببا في البلاء والكوارث.

وينبغي التذكير بهذه اللطيفة ، وهي أنّ الاستغفار لا يعني تكرار ألفاظ معينة ، كأن يقول المرء «اللهم اغفر لي» بل المراد منه روح الاستغفار الذي هو حالة العودة نحو الحق والتهيؤ لتلافي ما مضى من العبد قبال ربّه.

والآية التّالية : تقول : إنّ هؤلاء حقيقون بعذاب الله( وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) .

وهذا التعبير في الآية يشير إلى يوم كان المسلمون في مكّة ، ولم يكن لهم الحق أن يقيموا صلاة الجماعة بتمام الحرية ، والاطمئنان عند المسجد الحرام ، إذ كانوا يتعرضون للإيذاء والتعذيب.

أو أنّ هذا التعبير يشير إلى منع المشركين المسلمين وصدهم إياهم بعد أدائهم مناسك الحج والعمرة ، فلم يأذنوا لهم بالتردد إلى المسجد الحرام.

والعجيب أنّ هؤلاء المشركين كانوا يتصورون أنّ لهم حق التصرف كيفما شاءوا في المسجد الحرام ، وأنّهم أولياؤه. إلّا أنّ القرآن يضيف في هذه الآية قائلا :( وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ ) وبالرغم من زعمهم أنّهم أولياؤه ف( إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) .

ومع أنّ هذا الحكم ورد في شأن المسجد الحرام ، إلّا أنّه يشمل جميع المراكز

٤١٧

الدينية والمساجد فإنّ سدنتها ينبغي أن يكونوا من أطهر الناس وأتقاهم وأورعهم وأكثرهم اهتماما بالمحافظة على مراكز العبادة ، ليجعلوها منطلقا للتعليم وبثّ الوعي والإيقاظ. إذ لا يصلح لإدارة هذه المراكز حفنة من الحمقى أو باعة الضمائر الملوّثين والمرتبطين بالأجانب ، الذين يسعون إلى تحويل المساجد ومراكز العبادة إلى محال تجاربة ، أو جعلها مكانا لتخدير الأفكار ، والابتعاد عن الحقّ. وفي اعتقادنا أنّ المسلمين لو كانوا ملتزمين بتعاليم القرآن في شأن المساجد ، لكانت المجتمعات الإسلامية اليوم لها وجه آخر وصورة مشرقة!

والأعجب في هذا الشأن أنّ المشركين كانوا يدّعون أنّهم يصلّون ويعبدون الله بما كانوا يقومون به من أعمال قبيحة كالصفير والتصدية عند البيت ، ولهذا فقد قالت الآية التالية عنهم :( وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً ) .

ونقرأ في التأريخ أنّ طائفة من الأعراب في زمان الجاهلية عند ما كانوا يطوفون بالبيت العتيق ، كانوا يخلعون ثيابهم ويصفرون ويصفقون ويسمّون أعمالهم هذه عبادة ، وورد أيضا أنّ النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما كان يقف بجانب الحجر الأسود ويتجه بوجهه نحو الشمال ليكون في مقابل الكعبة وبيت المقدس ، ويشرع بالصلاة ، كان يقف إلى يمينه ويساره رجلان من بني سهم فيأخذ أحدهم بالصياح والآخر بالتصفيق ليؤذياه في صلاته.

تعقب الآية على ما تقدم لتقول : إنّ أعمالكم ـ بل حتى صلاتكم ـ مدعاة للخجل والسفاهة ولذلك( فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) .

إنّ الإنسان حين يقلّب صفحات التأريخ ويتوغّل فيه باحثا عن جوانب من تاريخ عرب الجاهلية التي وردت الإشارة إليها في القرآن ، يرى ـ ويا للعجب العجاب! ـ في عصرنا الحاضر الذي عرف بعصر الفضاء والذرة من يعيد تلك الأعمال التي كانت في زمان الجاهلية ، ويتصوّر نفسه في عبادة ، فيقرءون الآيات

٤١٨

القرآنية أو الأشعار في مدح النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والامام عليعليه‌السلام بالألحان الموسيقية ذات الإيقاع المثير ، وتهتزّ أيديهم ورؤوسهم بما يشبه حالة الرقص ، ويسمّون ذلك ذكرا ومدائح ، ويقيمونها في التكايا وغيرها. مع إنّ الإسلام يبرأ من جميع هذه الأعمال ، وهي مثل آخر من أمثلة أعمال «الجاهلية».

ويبقى هنا سؤال واحد ، وهو أنّ الآية الثّالثة من الآيات محل البحث قد نفت نزول العذاب بتوفر شرطين طبعا ، والآية الرّابعة أثبتت ترى ألا يقع التضاد بين الآيتين؟

والجواب : إنّ الآية السابقة إلى العقاب الدنيوي ، والآية اللاحقة لعلها إشارة إلى العقاب الأخروي ، أو أنّها إشارة إلى أنّ هؤلاء يستحقون العقاب في الدنيا وهو محدق بهم ، فإذا مضى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يتوبوا ويستغفروا ربّهم فإنّه سينزل بهم لا محالة.

* * *

٤١٩

الآيتان

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37) )

سبب النّزول

جاء في تفسير علي بن إبراهيم وكثير من التفاسير الأخرى ، أنّ الآية ـ محل البحث ـ نزلت في معركة بدر ، وما بذله أهل مكّة للصدّ عن سبيل الله ، لأنّهم لما عرفوا ما حصل ـ إذ جاءهم مبعوث أبي سفيان ـ قاموا بجمع الأموال الكثيرة ليعينوا بها مقاتليهم ، إلّا أنّهم خابوا وقتلوا وآبوا إلى جهنم وساءت مصيرا ، وكان ما أنفقوه في هذا الصدد وبالا وحسرة عليهم. والآية الأولى تشير إلى سائر معوناتهم التي قدموها في سبيل مواجهة الإسلام ومحاربته ، وقد طرحت الموضوع في صياغة كلّية.

وقال بعضهم : إنّ الآية نزلت في ما بذله أبو سفيان لألفى مقاتل «مرتزق» في

٤٢٠