الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245332 / تحميل: 6213
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

وهكذا نلاحظ كثيراً من الأدلة القرآنية التي تؤيد هذا الأمر. إذن ما ذهب إليه الإمامية صحيح ، لا يخالف القرآن كما إدعاه البعض.

وبعد هذا البيان والدراسة في بحث (الغيب) ، ندخل في دراسة القصة الغيبية.

ب ـ أقسام القصة الغيبية :

سبق أن قلنا أنّ هذا النوع من القصص تعد أحداثها بتفاصيلها مصدرها الوحي ، فهذه القصص من قبيل الغيب الذي كشفه الله عَزّ وجَلّ لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي غيب سواء أكانت في الماضي أو المستقبل ، فعلى هذا يمكن تقسيم القصة الغيبية إلى ما يلي :

الأول ـ قصص الماضي :

يحتوي القرآن الكريم على كثير من علوم الغيب ، خصوصاً ما جرى على الأمم الماضية ، فعلى سبيل المثال ما جاء في قصة يوسف عليه السلام مع اخوته حيث أوحى الله سبحانه إلى يوسف في قوله تعالى :( لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ) [يوسف / ١٥]. ففي الآية غيب موحى إلى يوسف ، وكذلك غيب موحى إلى نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإخبار الوحي له بما حصل ليوسف عليه السلام وأكّد على ذلك في قوله تعالى :( ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ) [يوسف / ١٠٢]. إلى غير ذلك مما ذكره القرآن الكريم من أخبار الأمم الماضية ، فالقرآن ذكر تلك القصص على نحو الإختصار ، ثم جاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يوضحها ، فالملاحظ أنّ تلك القصص وما تضمنته من أحداث ليست في متناول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولم تحدث أمامه ، كما أنّه لم يُنشئها ولم يأخذها عن طريق غيره

١٠١

من المؤرخين ، بل مصدره الوحي ، وأخذ عنه أهل بيته عليهم السلام. «وذكر العلامة الجليل الورع الثقة النبيل ، السيد هاشم البحراني في كتابه (مدينة المعاجز) أكثر من ستمائة رواية في إخبارات الأئمة الإثني عشر صلوات الله عليهم»(١٠٥) .

الثاني ـ قصص المستقبل :

يتناول هذا اللون من القصص أموراً مختلفة كلها تتحدث عن أمور غيبية خاصة تحدث في الواقع ، ولو تأملنا ما ذكر في القرآن الكريم ، وعلى لسان النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لأمكن تقسيمه إلى ما يلي :

أولاً ـ أخبار تحققت في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) :

رأى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في المنام ـ وكان ذلك في المدينة المنورة قبل أن يخرج إلى الحديبية ـ أنّ المسلمين دخلوا المسجد الحرام ، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا وحسبوا أنّهم داخلوا مكة عامهم هذا ، فلما إنصرفوا ولم يدخلوا مكة ؛ قال المنافقون : ما حلقنا ولا قصرنا ولا دخلنا المسجد الحرام. فأنزل الله هذه الآية :( لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ) [الفتح / ٢٧]. وكان بين نزول الآية والدخول مدة سنة. وكان عام سبع للهجرة وتَمّ الفتح القريب من دونه ـ وهو صلح الحديبية ـ ، الذي كان مقدمة لفتح مكة سنة ثمان للهجرة.

ثانياً ـ أخبار تحققت بعد حياته :

وهذا ال نوع من القصص منه ما هو مشهور كأخبار آخر الزمان ، المسمى بـ(أحاديث الفتن والملاحم) ، ويندرج تحت هذا النوع كثير من الإخبارات ،

__________________

(١٠٥) ـ النمازي ، الشيخ علي الشاهرودي : مستدرك سفينة البحار ، ج ٨ / ٨٠.

١٠٢

كخبر الدابة التي تخرج للناس في آخر الزمان ، وقد جاء في القرآن الكريم خبرها في قوله تعالى :( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ) [النمل / ٨٢]. ومن أراد تفاصيل ذلك ؛ فليراجع كتب التفسير.

كما ورد على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدة إخبارات غيبية ، من أهمها ما يحل على أهل بيته عليهم السلام كإخباره بمقتل سبطه الحسين عليه السلام في كربلاء ، وقد ذكر منها ابن الأثير في ترجمة أنس بن الحارث حيث قال : «روى حديثه أشعث بن سحيم ، عن أبيه عن أنّه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : (إنّ ابني هذا يقتل بأرض من أرض ال عراق ، فمن أدركه فلينصره) ، فقتل مع الحسين عليه السلام»(١٠٦) .

وأيضاً إخباره عن الإمام المهدي عليه السالم ، وقد ذكرها علماء المسلمين ، لا ينكر ذلك إلا مكابر لا قيمة لرأيه.

ثالثاً ـ أخبار البعث والنشور :

لعلّ من أهم القضايا التي واجه بها نبينا الأعظم عليه السلام مشركي قريش قضية البعث والنشور ، فقد أنكر المشركون هذا الأمر باصرار عنيف ، واستغربوا من ذلك أشد الإستغراب ، وقد سجل القرآن الكريم هذا الإنكار في أكثر من آية ، منها ما يلي :

قوله تعالى :( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ ) [سبأ / ٧ ـ ٨].

__________________

(١٠٦) ـ ابن الاثير ، علي بن محمد : أسد الغابة ، ج ١ / ١٢٣.

١٠٣

وقوله تعالى :( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ) [الجاثية / ٢٤].

وقوله تعالى :( أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ *أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ *قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ *فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ ) [الصافات / ١٦ ـ ١٩].

وإزاء هذا الإنكار لهذه القضية ، إستخدم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم القصة في عرض البعث واليوم الآخر ، وأكّد على ذلك بأن نَزّل المستقبل منزلة الحار ، فهذه القصص في الوقت الذي تحمل الرد على المنكرين ، فإنّها تُؤكِّد الإيمان بالبعث والنشور ، كما أنّ هناك عاملاً جوهرياً يضاف إلى وجود هذا النوع من قصص العالم الآخر ، ووراء كثرته وتكراره أنّ ذلك العالم هو محل العقاب والثواب ، وقضية العقاب والثواب أساسية يتمد عليها منهج التربية في الشريعة الإسلامية ، من أجل قيام الإنسان المسلم على مبادئ دينه والإلتزام بها ، حيث سيظل وازع الإحساس بالمسؤولية ، ـ عما يقول أو يفعل ـ مائلاً أمامه من خلال تصوره لحياة أخرى يؤمن بأنّه سيجازي فيها على سلوكه ، على الخير بالخير في الجنة والنعيم ، وعلى الشر بالشر في النار والعذاب ، كما في قوله تعالى :( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) [الزلزلة / ٧ ـ ٨].

١٠٤

٣ ـ القصة الخيالية

أ ـ الخرافية

ب ـ التمثيلية

ج ـ الخيال العلمي

١٠٥
١٠٦

٢ ـ القصة الخيالية :

هي حكايات يبتدعها خيال المؤلف ، قد تكون نثراً أو نظماً ، والروايات والقصص القصيرة ، هي من أشهر أشكال قصص الخيال رواجاً ، وسمات هذه القصص أنّها تحتوي على عناصر خيالية ، إما كلياً أو جزئياً ، وهذه العناصر تشمل الشخصيات والأوضاع المحيطة ، وفي بعض قصص الخيال تكون العناصر الخيالية واضحة ـ أي بعيدة عن الواقع ـ مثل القصة الإطارية ، وهي قصة تروي في إطارها مجموعة من الحكايات ، ومن أحسن الأمثلة عليها قصة شَهْرَيَار الملك وشَهْرَزَاد في كتاب (ألف ليلة وليلة) ، ومع ذلك ليس من الضروري أن تختلف كثيراً عن الواقع ؛ إذ أنّ كثيراً من نماذج قصص الخيال تمثل شخصيات قريبة من الواقع ، وتصف أوضاعاً واقعية ، وبعض القصص ترتكز على شخصيات وحوادث حقيقية ، وتدمج عادة العناصر الواقعية في قصص الخيال مع الأوضاع والشخصيات والحوادث الخيالية ، والغرض الرئيس لمعظم قصص الخيال هو التسلية ، إلا أنّ هناك بعض الأعمال الجادة من قصص الخيال التي تحفز العقل وتدعو إلى التفكير عن طريق إيجاد الشخصيات ، ووضعها في مواقف محددة ، وتأسيس وجهات النظر ، ويقوم مؤلفو قصص الخيال الجادة بتوضيح الأحكام المميزة بين الأشياء ، وهذه الأحكام تتناول المسائل الأخلاقية والفلسفية والنفسية والإجتماعية ، ولعلّ أهم ما يمكن دراسته من أقسامها هي التالي :

أ ـ الخرافية :

الخُرافَة : «الحديث المستملح من الكذب. وقالوا : حديث خرافة ، ذكر إبن الكلبي في قولهم حديث خرافة أنّ خرافة من بني عُذْرَة أو من جُهَيْنَة ، إختطفته الجن ، ثم رجع إلى قومه فكان يُحدث بأحاديث مما رأى يعجب منها

١٠٧

الناس ، فكذبوه فجرى على ألسن الناس»(١٠٧) . وعُرِّفت الخرافة أيضاً بـ«معتقد لا عقلاني أو ممارسة لا عقلانية. والخرافات قد تكون دينية ، وقد تكون ثقافية أو إجتماعية. فمن الخرافات الدينية إيمان بعض المشلولين أو المقعدين ، بقدرة قديس بعينه أو قديسة بعينها على شفائهم.

ومن الخرافات الثقافية أو الإجتماعية ، إيمان كثير من الناس بأنّ الخرزة الزرقاء تدفع الشر ، وبأنّ نعل الفرس مجلبة للخير»(١٠٨) وبعد هذا التعريف فالحكاية الخرافية : «قصة أو حكاية خيالية قصيرة ذات مغزى في معظم الحكايات الخرافية ، يمثل واحد أو أكثر من الشخصيات حيواناً أو نباتاً أو شيئاً يتكلم ويتصرف كمخلوق بشري ، ويمكن أن نُقص الحكاية الخرافية نثراً أو شعراً ، وفي عديد من الحكايات يمكن تلخيص المراد من القصة ، أو مغزاها في النهاية على شكل مثل شعبي»(١٠٩) .

وهذا النوع من القصة الخيالية لا قيمة له على المستوى الديني ، لا في القرآن الكريم ، ولا في السنة النبوية.

ب ـ التمثيلية :

لست بصدد دراسة القصة التمثيلية من جميع جوانبها ، وإنّما الهدف هو التعريف بها من بعض جوانبها ، في القرآن الكريم والسنة النبوية ، والذي يهمنا بحثه هو التالي :

__________________

(١٠٧) ـ ابن منظور ، محمد بن مكرم : لسان العرب ، ج ٩ / ٦٥ ـ ٦٦.

(١٠٨) ـ البعلبكي ، منير : موسوعة المورد العربية ، ج ١ / ٤٦١.

(١٠٩) ـ الموسوعة العربية العالمية ، ج ٩ / ٤٨١.

١٠٨

١ ـ التعريف بالمثل :

يطلق المثل على معانٍ ثلاثة ، هي كالتالي :

الأول ـ المثل السائر :

هو كلمة موجزة قيلت في مناسبة تناقلتها الأجيال بدون تبديل ، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم : (إنّ من البيان لسحرا)(١١٠) ، قال الميداني : «يعني أنّ بعض البيان يعمل عمل السحر ، ومعنى السحر : إظهار الباطل في صورة الحق ، والبيان : إجتماع الفصاحة والبلاغة ، وذكاء القلب مع اللسَنِ ، وإنما شُبّه بالسحر ، لحدّة عمله في سامعه وسرعة قبول القلب له. يضرب في إستحسان المنطق ، وإيراد الحجة البالغة»(١١١) . والهدف منه مقصور على التطبيق.

الثاني ـ المثل القياسي :

ويقصد به البيانيون متشكل من أي وصف أو قصة أو تصوير رائع لتوضيح فكرة ، عن طريق تشبيه يسميه البلاغيون (التمثيل المركب) لتقريب أمر معقول من محسوس يجمع بذلك بين عمق الفكرة ، وجمال التصوير ولم يقصر على سماع أو نقل ، والإهتمام بصياغة الفكر فيه أكثر من إقتباس مثل سائر ، وحاصل القياسي : هو ما يخلقه المتمثل لغرض ينشده ، ومن نماذجه في القرآن الكريم ، قوله تعالى :( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) [النحل / ١١٢]. فالآية فيها إستعارة تمثيلية ؛ حيث أخذ اللباس في الجوع والخوف الدال على إستعمالها لمن

__________________

(١١٠) ـ الميداني ، احمد بن محمد النيسابوري : مجمع الأمثال ، ج ١ / ٧.

(١١١) ـ نفس المصدر.

١٠٩

كفر بأنعم الله تعالى ـ الأمن والصحة والكفاية في الرزق وغيرها من النعم التي لا تحصى ـ ، ولو إكتفى بالإذاقة لفات ذلك. وفي الأمثال النبوية قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (أيها الناس إياكم وخضراء من الدِمَن. قيل يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وما خضراء الدمن؟ قال : المرأة الحسناء في منبت السوء)(١١٢) .

قال الشريف الرضي : «... أنّه عليه الصلاة والسلام نهى عن نكاح المرأة على ظاهر الحسن ـ وهي منبت السوء ، أو في البيت السوء ـ ، فوجه المجاز في هذا القول ، أنّه عليه الصلاة والسلام ، شَبّه المرأة الحسناء بالروضة الخضرة لجمال ظاهرها ، وشبّه منبتها السوء بالدِمْنَة لقباحته ، والدِمْنَة هي : الأبعار المتجمعة تركبها السوافي ، ويعلوها الهابي ، فإذا أصابها المطر أنبتت نباتاً خضراء يروق منظره ويسوء مخبره ، فنهى عليه الصلاة والسلام عن نكاح المرأة إذا كانت مغموضة في نفسها ، أو مطعوناً عليها في نسبها ، لأنّ أعراق السوء تنزع إلى ولدها ، وتضرب في نسلها ، قال الشاعر :

وأدركنه خالاته فخذلنه

ألا إنّ عِرق السوء لا بدّ مدرك(١١٣)

وفي السيرة الحسينية ما جاء في خطبته في مكة المكرمة : «خُطّ الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي إشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخِيرَ لي مصرع أنا لاقيه ، فكأنّي بأوصالي تُقطعها عُسْلَان الفَلوات بين النَوَاوِيس وكربلا ، فيملأن مني أكراشاً جُوفَاً ، وأجْرُبَة سُغُبَاً»(١١٤) .

__________________

(١١٢) ـ الغروي ، الشيخ محمد : الأمثال النبوية ، ج ١ / ٢٧٢.

(١١٣) ـ الشريف الرضي ، محمد بن الحسين : المجازات النبوية / ٦٠ ـ ٦١.

(١١٤) ـ السماوي ، الشيخ محمد طاهر : إبصار العين في أنصار الحسين / ٦.

١١٠

إنّ بلاغة هذه الخطبة وعُلو مضمونها ، يوجب لنا الإطمئنان بصدورها عن سيد الشهداء عليه السلام ، كما أنّها على وجازتها تضمنت نهج الحسين عليه السلام وهدفه ، ونهايته ووصف مصرعه ومكانه ، والذي يهمنا بحثه ـ هنا ـ بيان بعض أوجهها البلاغية ، المتمثلة فيما يلي :

أولاً ـ عَبّر الحسين عليه السلام عن الموت الذي هو طبيعي للبشر بأنّه : (خط مخط القِلادة على جِيدْ الفَتاة). وهذا التعبير براعة إستهلال عجيبة المعنى ؛ حيث أنّ مخط القلادة يراد منه شيئين :

أ ـ إسم مكان : وهو موضع خط القلادة ـ وهي الجلد المستدير من الجيد ـ ، فكما أنّ ذلك الجلد لازم على الرقبة ، كذلك الموت على ولد آدم.

ب ـ إسم مصدر : والمراد به نفس الخط ، فيكون معنى ذلك : أنّ الموت دائرة لا يخرج ابن آدم عن وسطها ، كما أنّ القلادة دائرة لا يخرج الجيد منها حال تقليده. فإذا كان الموت لابد منه ؛ فليختر الإنسان أفضل ميتة ، وأعظمها شرفاً ونفعاً ، وإن أدّت إلى تقطيع أوصاله.

ثانياً ـ إختيار الحسين عليه السلام لنفسه الموتة الكريمة ، التي هي مرتبطة بأمر السماء التي تتم فيها شهادة الحسين وسعادته ، وسعادة من سار على نهجه ، لقد قضي الأمر وتمت الخيرة ، وكيفية القتلة ومكانها وعَبّر عن ذلك بقوله : (وخِير لي مصرع أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي تُقَطّعها عُسْلَان الفَلوات ، بين النَواوِيس وكربلاء).

فعسلان الفلوات : هي الذئاب ، ولعلّ الحسين عليه السلام يعني بها ـ مجازاً ـ الوحوش البشرية من أعدائه التي وَزّعت جسده الطاهر ، وتركته بالعراء وسلبته ووطأته بالخيول ، ثم تركته بلا مواراة ثلاثة أيام ، وقد عَبّر عن وحشيتهم بقوله

١١١

(فيملأن مني أكراشاً جُوْفَاً ـ أي واسعة ـ ، وأجربة سُغُباً ـ أي البطون الجائعة ـ ، وهذا تعبير عن شدتها وكثرة أكلها من دون محام ولا دافع عن الأعضاء المقطعة ، ويُؤَيّد هذا المعنى ما قاله لأصحابه لما نزل بَطْن العَقَبة : «ما أراني إلا مقتولاً ، فإنّي رأيت في المنام كلاباً تنهشني ، وأشدّها عليّ كلب أبقع»(١١٥) . أراد الحسين عليه السلام أن يُبيّن للمسلمين من خلال خطبته ، تلك الجريمة النكراء التي إقترفها الأمويون في حق البيت النبوي الطاهر ، ومدى اللثم والخسة في نفوس أعدائه ، حيث إمتدت تلك الجريمة ـ بعد تقطيع الحسين عليه السلام بالسيوف ، ووطئ جثته بالخيول ـ لتدخل الرعب والهلع في نفوس النساء والأطفال ، وتُعَرِّضَهم للعطش والحرق والسحق والأسر وضرب السياط ، وبهذا أراد الحسين عليه السلام أن يسجل على صفحات التاريخ ، صوراً من البطش والهمجية التي لا يرتكبها إلا الذئاب المفترسة والوحوش الضارية.

الثالث ـ مطلق ما يسمى بالمثل :

سواء فيه المثل السائر ، والقياسي والفرضي المعروف بالخياليات التي صنعت للإعتبار والموعظة ، كفرضيات كتاب (كليلة ودمنة) ، وكل وصف به نوع غرابة أو إعجاب زائد ، كقوله تعالى :( مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ .) [محمد / ١٥]. المستفاد من كلمات اللغويين أنّ المثل بمعنى التمثيل والتنظير ، وسمي المثل مثلاً لأنّه ماثل بخاطر الإنسان ؛ أي شاخص به. يقول الجوهري : «ومثلت له كذا تمثلاً إذا صَوّرت له مثاله

__________________

(١١٥) ـ المقرّم ، السيد عبد الرزاق الموسوي : مقتل الحسين / ١٨١.

١١٢

بالكتابة وغيرها»(١١٦) . فكأنّ مراد الجوهري الصورة بالكتابة والتمثال بخير الكتابة ؛ لأنّ غير الكتابة إما يكون وصفاً ؛ فهو أمر تخييلي محض ، وإما أن يكون عملاً يدوياً محسوساً فهو التمثال. فيكون الغاية من سوق المثل والتنظير له إقامة الحجة أو إظهار آية دالة على شيء ما. فالأسلوب في الآية عرضها مثول وانتصاب لحقيقتها أمام الناظر. ومن هذا الباب ما جاء عن الحسين عليه السلام في اليوم العاشر من المحرم ، حينما إستدعى ابن سعد ومَثّل له نهايته ، حيث قال له : «أي عمر ، أتزعم أنك تقتلني ويوليك الدّعي بلاد الرّي وجُورجَان ، والله لا تهنأ بذلك ، عهد معهود فاصنع ما أنت صانع ، فإنّك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة ، وكأنّي برأسك على قصبة يتراماه الصبيان بالكوفة ، ويتخذونه غرضاً بينهم ، فصرف بوجهه عنه مغضباً»(١١٧) .

وعند خروج الأكبر عليه السلام إلى الميدان ؛ صاح بعمر بن سعد : «مالك؟! قطع الله رحمك كما قطعت رحمي ، ولم تحفظ قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسَلّط عليك من يذبحك على فراشك»(١١٨) .

٢ ـ أهمية المثل :

للمثل أهمية كبرى يمكن تلخيصها فيما يلي :

١ ـ إنّ أهمية الأمثال بيانية ، حيث لم يكن في كلام العرب أوجز منها ، ولا أشد إختصاراً. قال إبراهيم النظام : «إجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في

__________________

(١١٦) ـ الجوهري ، إسماعيل بن حَمّاد : تاج اللغة وصحاح العربية ، ج ٥ / ١٨١٦.

(١١٧) ـ المقرّم ، عبد الرزاق : مقتل الحسين / ٢٣٥.

(١١٨) ـ نفس المصدر / ٢٥٧.

١١٣

غيره من الكلام : إيجاز اللفظ ، وإصابة المعنى ، وحسن التشبيه ، وجودة الكناية ، فهو نهاية البلاغة»(١١٩) .

٢ ـ إنّ المقصود من ضرب الأمثال ، أنّها تؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه ؛ وذلك لأنّ الغرض في المثل أن تنفعل به النفوس ، وتؤمن به القلوب ، فإن كان مدحاً ؛ كان أبهى وأفخم وأنبل في النفوس ، وأعظم وأهز للعطف ، وأسرع للإلف ، وأذكر وأيسر على الألسن ، وأولى بأن تعتلقه القلوب وأجدر. وإن كان ذماً ؛ كان مَسّه أوجع ، ووقعه أشدّ ، وحَدّه أحد. ومن هذا ما ورد في الخطب الحسينية في الطريق وفي كربلاء. وكذلك ما ورد عن أهل بيته عليهم السلام أثناء الخطب في الكوفة ، ويمكن التركيز منها على ما يلي :

المثل في خطب الإمام الحسين (عليه السلام) :

قال عليه السلام لابن عباس : «والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العَلَقَة من جوفي ، فإذا فعلوا ذلك ؛ سَلّط الله عليهم من يذبهم ، حتى يكونوا أذلّ من فِرَام المرأة»(١٢٠) .

وقال أثناء طريقه إلى الكوفة : «إنّ هؤلاء أخافوني ـ وهذه كتب أهل الكوفة ـ وهم قاتليَّ ، فإذا فعلوا ذلك ولم يدعوا الله محرماً إلا انتهكوه ؛ بعث

__________________

(١١٩) ـ الغروي ، الشيخ محمد : الأمثال النبوية ، ج ١ / ١٠.

(١٢٠) ـ المقرّم ، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين / ٢٣٤.

١١٤

الله إليهم من يقتلهم ، وحتى يكونوا أذلّ من فِرَام الأمّة»(١٢١) . وخاطب الأعداء يوم عاشوراء بقوله : (يا عَبيد الأمّة)(١٢٢) تحقيراً لهم.

إيضاح أهم مفردات المثل الحسيني :

الفِرَام : ورد في كتب اللغة أنّ (الفِرَام) : دواء تُضيِّق به المرأة المسلك ، أو حب الزبيب تحتشى به لذلك ، وكانت في أحراح ثقيف سعة يتضيقن بعجم الزبيب. والفرامة : هي الخرقة تحتشي بها المرأة عند الحيض كالفِرَام ، وفيها يقول الشاعر :

وجَدْتُك فيها كأمِّ الغلام

متى ما تَجِدْ فَارِما تَفْترِم(١٢٣)

وأيضاً قال في (بَطْن العَقَبة) : «إنّهم لن يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جَوفي ، فإذا فعلوا ذلك ؛ سَلّط الله عليهم من يذلهم ، حتى يكونوا أذلّ فرق الأمم»(١٢٤) .

وقال في (الرُهَيَمة) : «وطلبوا دمي فهربت ، وأيم الله ليقتلوني فيلبسهم الله ذِلّاً شاملاً ، وسيفاً قاطعاً ، ويسلط عليهم من يذلهم ، حتى يكونوا أذلّ من قوم سَبأ ؛ إذ ملكتهم إمرأة فحكمت في أموالهم ودمائهم»(١٢٥) . هذه بعض الأمثال الحسينية الواردة في خطبه عليه السلام.

__________________

(١٢١) ـ المصدر السابق / ١٧٥.

(١٢٢) ـ نفس املصدر / ١٦٨.

(١٢٣) ـ ابن منظور ، محمد بن مكرم : لسان العرب ، ج ١٢ / ٤٥١ ـ ٤٥٢.

(١٢٤) ـ المقرم ، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين / ١٨١.

(١٢٥) ـ نفس المصدر / ١٨٥.

١١٥

وإن كان وعظاً ؛ كان أشفى للصدر ، وأدعى للفكر ، وأبلغ في التنبيه والزجر ، ويبصر الغاية.

المثل في خطبة السيدة زينب (عليها السلام) في الكوفة :

ومما ورد في الخطبة الزينبية التي خطبتها في الكوفة ـ من الأمثال ما يلي : «الحمد لله ، والصلاة على أبي محمد وآله الطيبين الأخيار ، أما بعد يا أهل الكوفة ، يا أهل الخَتَل والغَدْر ، أتبكون؟! فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنّه ، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم»(١٢٦) . تشير أم المصائب زينب عليها السلام إلى قوله تعالى :( وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) [النحل / ٩٢].

وبعد مراجعة كتب المفسرين حول هذه الآية ؛ نخرج بالنتيجة التالية :

أولاً ـ هذا مثل قرآني يشير إلى المرأة التي غزلت ثم نقضت غزلها من بعد إمرار وفَتلٍ للغزل ؛ وهي إمرأة حمقاء من قريش ، واسمها رَيطَة بنت عمرو ، بن كعب ، بن سعد ، بن تميم ، بن مُرّة ، وكانت تسمى خَرْقَاء مكة ، كانت تغزل مع جواريها إلى إنتصاف النهار ، ثم تأمرهن أن ينقضن ما غزلن ، ولا يزال ذلك دأبها.

ثانياً ـ هذا نهي من الله للمكلفين أن يتصفوا بالصفات المذكورة في الآية ، المندرجة تحت الألفاظ التالية :

__________________

(١٢٦) ـ المصدر السابق / ٣١١.

١١٦

١ ـ أنْكَاثاً : جمع نِكْث ، وكل شيء نقض بعد الفتل ؛ فهو أنكاث حبلاً كان أو غزلاً.

٢ ـ دَخَلاً : الدَخَل ، ما أدخل في الشيء على فساد ، فالمراد بالدخل وسيلته ، من تسمية السبب باسم المسبب ؛ أي وسيلة للغدر والخدعة والخيانة ؛ تطيبون بها نفوس الناس ثم تخونون وتدعونهم بنقضها. ومعنى ذلك : أنكم كمثلها ، إذا تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم فتؤدونها وتعقدونها ، ثم تخونون وتخدعون بنقضها ونكثلها ، والله ينهاكم عنه.

٣ ـ أرْبَى : أي أكثر عدداً ومنه أربا فلان للزيادة التي يزيدها على غريمة في رأس ماله. ومعنى ذلك لا ينقضوا العهد بسبب أن يكون قوم أكثر من قوم ؛ أي لا تنقضوا عهدكم ، متخذيها دغلاً وغدراً وخديعة ، لمداراتكم قوماً هم أكثر عدداً ممن عاهدتم له ، بل عليكم الوفاء والحفظ لما عاهدتم عليه. فالسيدة زينب عليها السلام تذكرهم وتوبخهم بالعهد والبيعة لسيد الشهداء عليه السلام التي نقضوها ، وشبهتهم بالمرأة التي نقضت غزلها من بعد قوة ، إلى أن قالت : «ألا وهل فيكم إلا الصَلَف النَطَف ، والعجب والكذب والشَنِف ، ومَلِق الإماء ؛ وغَمَز الأعداء؟!» وفي هذا المقطع عَبّرت عنهم بألفاظ تعيبهم وتكشفهم بها توبيخاً لهم (فالصَلَف) : الذي يمتدح بما ليس عنده. وفي حديث المؤمن : (لا عنف ولا صَلَف) ، يقال : سحاب صلف ، إذ كان قليل الماء ، كثير الرعد ، وفي المثل (رُبّ صَلَف تحت الرَاعِدَة) يضرب للرجل يتوعد ثم لا يقوم فيه»(١٢٧) .

__________________

(١٢٧) ـ الطريحي ، الشيخ فخر الدين : مجمع البحرين ، ج ٥ / ٨٢.

١١٧

(والنَطَفَ) : «القذف بالفجور ، أو الفساد ، أو الشر»(١٢٨) .

(والشنف) : المبغض(١٢٩) .

(ومَلِق الإماء) :

«المَلأِق : الضعيف. أو التودد والتذلل ، وإبداء ما باللسان من الإكرام والودّ ما ليس في القلب»(١٣٠) .

(وغَمَز الأعداء) :

«الغَمَز : الضعف والميل والعيب»(١٣١) ؛ أي أنتم ضعاف في عقولكم وعملكم بحيث إستزِهدكم الأعداء ، وسخروا بكم بإطاعتكم لهم. إلى أن قالت : «أو كَمَرْعَى على دِمّنَة ، أو كقَصّةٍ على مَلْحُودَة».

(الدِمنَة) :

«هي ما تُدمّنُه الإبل والغنم بأبوالها وأبعارها ؛ أي تلبّده في مرابضها ؛ فربما نبت الحسن النضير. ومنه الحديث : (فينبتون نبات الدِّمن في السيل) ، هكذا جاء في رواية بكسر الدال وسيكون يرعى البعير ؛ لسرعة ما ينبت فيه»(١٣٢) .

وقيل الدِّمنة : هي المنزل الذي ينزل فيه أخيار العرب وتحصل فيه بسبب نزولهم تغيّر في الأرض بسبب الأحداث الواقعة منهم ومن مواشيهم ، فإذا أمطرت أنبتت نبتاً حسناً شديد الخضرة والطراوة ؛ لكنّه مرعى وَبِيء للإبل

__________________

(١٢٨) ـ لويس ، معلوف : المنجد في اللغة / ٨١٦.

(١٢٩) ـ نفس المصدر / ٤٠٤.

(١٣٠) ـ نفس المصدر / ٧٧٤.

(١٣١) ـ نفس المصدر / ٥٥٩.

(١٣٢) ـ ابن الأثير ، المبارك بن محمد الجزري : نهاية في غريب الحديث ، ج ٢ / ١٣٤.

١١٨

مُضرّبها)(١٣٣) . ومن هذا ، ما ورد في الحديث النبوي (.. إياكم وخَضْرَاء الدِّمن ، وقيل يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وما خضراء الدِّمن؟ قال : المرأة الحسناء في منبت السوء)(١٣٤) .

قال الشريف الرضي (ره) : «والقول الآخر : أن يكون عليه الصلاة والسلام ؛ إنّما نهى في الحقيقة عن تغارض النفاق وتعاير الأخلاق ، وأن يتلقى الرجل أخاه بالظاهر الجميل ، وينطوي عن الباطن الدميم ، أو يخدعه بحلاوة اللسان ، ومن خلفها مرارة الجنان ، وإلى هذا المعنى ذهب الشاعر في قوله :

وقد يَنْبُتُ المرْعَى على دِمَنِ الثّرَى

وتَبْقَى حَزَازَاتُ النفوس كما هِيَا

كأنه أراد ، إنا وإن لقيناكم بظاهر الطلاقة والبشر ، فإنّا نضمر لكم على باطن الغش والغمز ، ومثل هذا قول الآخر :

وفِينَا وإن قِيلَ إصْظَلحْنَا تَضَاغُنٌ

كما طرّ أوبارُ الجِرَابِ على النّشْرِ

وقال أهل العربية : النشر أن ينبت وبر البعير وتحته داء العرّ ؛ وهو الجرب فيرى كأن ظاهره سليم وباطنه سقيم»(١٣٥) ، وبعد هذا الإيضاح يظهر لنا مغزى ما يستفاد من كلام السيدة زينب عليها السلام ، حيث أنّ الغرض هو التعريف بأن الدِّمنَة وإن زها ظاهرها بالنبت ، إلا أنّه لا يفيد الحيوان قوة ؛ لأنّها مجمع الأوساخ والكشافات السامة القاتلة ، فنتاج الدِّمنة لا يكون طيباً ، وأهل الكوفة وإن زها

__________________

(١٣٣) ـ الطريحي ، الشيخ فخر الدين : مجمع البحرين ، ج ٦ / ٢٤٨.

(١٣٤) ـ الحر العاملي ، الشيخ محمد بن الحسن : وسائل الشيعة ، ج ٢٠ / ٣٥ (الباب ٧ من أبواب مقدمات النكاح ـ الحديث ٧).

(١٣٥) ـ الشريف الرضي ، محمد بن ابي احمد الحسين : المجازات النبوية / ٦١.

١١٩

ظاهرهم بالإسلام ؛ إلا أنّ الصدور إنطوت على قلوب مظلمة لا يصدر منها إلا بما يقوم به أهل الجاهلية والإلحاد»(١٣٦) .

(أو كقَصّةٍ على مَلْحُودة) :

«القَصّةُ والقِصّة والقَصُّ ، الجَصّ : لغة حجازية. وقيل : الحجارة من الجَصّ ، وقد قصّصَ داره ، أي جصّصَها. ومدينة مُقصّصَة : مطلية بالقصّ ، وكذلك قبر مُقصّصٌ ، والتقصيص : هو التجصيص ، وذلك أنّ الجَصّ يقال له ، القَصّة. يقال : قصصت البيت وغيره ؛ أي جصّصته. وفي حديث زينب (يا قَصّةٌ عُلى مَلحُودَةٍ) ؛ شبهت أجسادهم بالقبور المتخذة من الجصّ ، وأنفسهم بجيف الموتى التي تشتمل عليها القبور»(١٣٧) .

قال السيد المقرّم (ره) : «والذي أراه ، أنّ النكتة في هذه الإستعارة ، أنّ القصّة بلغة الحجاز الجصّ ، والملحودة ؛ القبر لكونه ذا لحد ، فكان القبر يتزين ظاهره ببياض الجصّ ، ولكن داخله جيفة قذرة ، وأهل الكوفة وإن تزين ظاهرهم بالإسلام ، إلا أنّ قلوبهم كجيف الموتى ؛ بسبب قيامهم بأعمال الجاهلية الوخيمة العاقبة من الغدر وعدم الثبات على المبادئ الصحيحة ؛ وقد إنفردت (متتمة الدعوة الحسينية) بهذه النكات البديعة ، التي لم بسبقها مهرة البلغاء إليها»(١٣٨) .

إلى أن قالت عليها السلام : (ولقد أتيتم بها خَرْقَاء ، شَوْهَاء كِطلَاعِ الأرض ، ومِلء السماء).

__________________

(١٣٦) ـ المقرم ، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين / ٣١١ (بتصرف).

(١٣٧) ـ ابن منظور ، محمد بن مكرم : لسان العرب ، ج ٧ / ٧٦ ـ ٧٧.

(١٣٨) ـ المقرم ، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين / ٣١٢.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

معركة أحد.

إلّا أنّه لما كانت الآية محل البحث واقعة في سياق الآيات النازلة في معركة بدر ، فإنّ الرأي الأوّل في شأن نزولها يبدو أقرب للصحة.

التّفسير

مهما يكن شأن نزول الآية ، فمفهومها مفهوم جامع يحمل في معناه كلّ ما بذله أعداء الحق والعدل من أموال لنيل مقاصدهم المشؤومة ، إذ تقول في مستهلها :( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) .

إلّا أنّ هذا الإنفاق والبذل لن يحقق لهم نصرا( فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ) .

ولا يبتلون بالحسرة والهزيمة في الدنيا فحسب ، بل هم كذلك في الآخرة أيضا( وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ) .

* * *

ملاحظات

١ ـ يستفاد من الآية محل البحث أنّ «هؤلاء» يحسّون بعدم جدوى أعمالهم حتى قبل غلبهم وانهزامهم ، وحيث إنّهم لا يرون نتيجة مثمرة لما أنفقوه من الأموال ، فسيبتلون بالألم والحسرة ، وهذا الأمر هو نوع من جزائهم الدنيوي وأحد عقوباتهم فيها.

أمّا الجزاء الآخر الذي ينالونه ، فهو فشل خططهم ومناهجهم ، لأنّ الذين يقاتلون وهم متعلقون بالأموال والثروة لا يستطيعون مواجهة المقاتلين من أجل المبدأ والأهداف المقدسة.

وقد برهنت الحوادث في عصرنا هذا على أن الدول القوية التي تغري

٤٢١

مقاتليها بالمال والرغبات المادية ، كثيرا ما تصاب بالخزي والافتضاح والهزيمة بوجه الأمم المستضعفة التي تقاتل عن إيمان وعقيدة راسخة! وبالإضافة إلى هذين الجزاءين فهناك جزاء ثالث ينتظرهم يوم القيامة ، وهو «الغضب الإلهي».

٢ ـ ما ذكرته الآية محل البحث ، نجد له أمثلة في عصرنا الحاضر ، كقوى الاستكبار ، واتباع الظلم والفساد ، ودعاة المذاهب الخرافية الباطلة ، وباذلي الأموال الطائلة لتحقيق أهدافهم وتضليل الناس وصدهم عن سبيل الحق ، وهم يظهرون بأزياء متعددة ، فتارة في صورة المساعدات المالية ـ ظاهرا ـ كبناء المستشفيات ، وأخرى في صورة التعاون الثقافي ، ومرّة في ثوب المقاتلين المرتزقة.

لكن الهدف النهائي واحد والماهية واحدة ، فكل همّهم التوسعة الاستعمارية والظلم والجور ، ولو وقف المؤمنون حقّا صفا بوجه هذه المحاولات كما وقف أصحاب بدر لأحبطوا جميع هذه المحاولات ولباءت بالفشل ، ولجعلوا هذا الإنفاق وبالا وحسرة على المستكبرين ، ولساقوهم إلى جهنم وساءت مصيرا.

٣ ـ قال بعض المفسّرين : إنّ هذه الآية واحدة من دلائل صدق دعوة النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّها تخبر عن حوادث لم تكن وقعت بعد ، وقد غلب بها أعداء الإسلام ، ومع أن أولئك بذلوا أموالا طائلة لانتصارهم!!

وإذا لم نعتبر الآية من الأخبار بالمغيبات التي تتعلق بالحوادث المقبلة ، فإنّها على الأقل تكشف عن محتوى القرآن الدقيق في شأن المواجهة بين الحق والباطل ، كما أنّها تكشف عن عظمة القرآن والتعاليم الإسلامية.

وبعد أن تكلمت الآية السابقة على ثلاث نتائج مشؤومة لإنفاق أعداء الإسلام ، فإنّ الآية التي تليها تقول :( لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) .

هذه سنة إلّهية دائمة أن يعرف المخلص من غير المخلص ، والطاهر من غير

٤٢٢

الطاهر ، والمجاهد الصادق من الكاذب ، والأعمال الطيبة من الأعمال الخبيثة ، فلا يبقى أي من ذلك مجهولا أبدا ، بل لا بدّ في النهاية من أن تمتاز الصفوف بعضها عن بعض ويسفر الحق عن وجهه. وهذا الأمر يتحقق ـ طبعا ـ عند ما يكون أتباع الحق ـ كأولئك المسلمين الأوائل يوم بدر ـ في مستوى كاف من التضحية والوعي.

ثمّ تضيف الآية( وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ) .

فالخبيث من أية طائفة وفي أي شكل كان سيؤول في النهاية إلى الخسران ، كما تقول الآية في نهاية المطاف( أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ) .

* * *

٤٢٣

الآيات

( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠) )

التّفسير

من المعلوم في أسلوب القرآن هو الجمع بين البشارة والنذارة ، أي أنّه كما ينذر أعداء الحق بالعقاب والعذاب ، فإنّه يفتح لهم في الوقت نفسه طريق العودة أمامهم.

والآية الأولى : من الآيات محل البحث تتبع هذا الأسلوب ذاته ، فتأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلة :( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ ) .

ويستفاد من الآية المباركة أنّ قبول الإسلام يوجب محو كل سابقة وهو ما ورد في الرّوايات على أنّه أصل عام ، كما في عبارة «الإسلام يجبّ ما قبله» أو ما جاء عن أهل السنة في تعبير آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن «الإسلام يهدم ما كان قبله ،

٤٢٤

وإن الهجرة تهدم ما كان قبلها ، وإن الحج يهدم ما كان قبله»(١)

والمقصود من الحديث آنفا هو أنّ كل ما عمله الإنسان من سيئات وحتى تركه للفرائض والواجبات قبل إسلامه فسوف يمحى عنه بقبوله الإسلام ، ولا يكون قبوله للإسلام أثر رجعي لما سبق ، لهذا ورد في كتب الفقه عدم وجوب قضاء ما فات من العبادات على من أسلّم.

وتضيف الآية قائلة : إنّهم إن لم يصححوا أسلوبهم( وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ ) .

والمقصود من هذه السنة هو ما آل إليه أعداء الحق بعد ما واجهوا الأنبياء ، وما أصاب المشركين عند ما واجهوا النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في معركة بدر.

فنحن نقرأ في سورة غافر ، الآية : (٥١) :( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ ) .

ونقرأ في سورة الاسراء ، الآية (٧٧) : بعد بيان سحق أعداء الإسلام قوله تعالى :( سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً ) .

ولمّا كانت الآية السابقة قد دعت الأعداء للعودة إلى الحق ، وإن هذه الدعوة قد تولد هذه الفكرة لدى المسلمين وهي أنّه قد انتهت فترة الجهاد ولا بدّ بعد الآن من اللين والتساهل ، ترفع هذه الشبهة الآية التالية وتقول :( وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ) .

وكلمة «الفتنة» ـ كما بيناها في تفسير الآية (١٩٣) من سورة البقرة ـ ذات معنى واسع تشمل كل أنواع الضغوط ، فتارة يستعملها القرآن بمعنى عبادة الأصنام والشرك الذي يشمل كل أنواع التحجر والجمود واضطهاد أفراد المجتمع.

__________________

(١) صحيح مسلم وفقا لما نقله صاحب المنار في تفسيره ، ج ٩ ، ص ٦٦٥.

٤٢٥

وتطلق الفتنة أيضا على الضغوط التي يفرضها الأعداء ، للوقوف بوجه اتساع دعوة الإسلام ، ولإسكات صوت أهل الحق ، بل حتى إرجاع المؤمنين نحو الكفر.

وفي الآية محل البحث فسر الفتنة بعضهم بمعنى الشرك ، وفسّرها آخرون بأنّها تعني سعي الأعداء لسلب الحريات الفكرية والاجتماعية من المسلمين.

ولكن الحقّ أنّ مفهومها واسع يشمل الشرك ، بقرينة قوله :( وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ) وسائر ضغوط الأعداء على المسلمين.

الهدف من الجهاد وبشرى كريمة :

تشير الآية آنفة الذكر إلى قسمين من أهداف الجهاد المقدسة وهما :

١ ـ القضاء على عبادة الأصنام وتطهير الأرض من معابدها ونحو ذلك وكما ذكرنا في بحثنا عن أهداف الجهاد فإنّ الحريّة الدينية تتعلق بمن يتّبع أحد الأديان السماوية فلا يجوز إكراه هؤلاء من أجل تغيير عقيدتهم ، ولكن عبادة الأصنام ليست دينا ولا فكرا ، بل هي خرافة وجهل وانحراف ، وعلى الحكومة الإسلامية إزالتها وتطهير البلاد منها عن طريق الإعلام والتبليغ الإسلامي ـ أوّلا ـ وإذا لم يؤدّ ذلك إلى نتيجة فيجب اللجوء إلى القوة لتدمير معابد الأوثان.

٢ ـ نيل الحرية في نشر الإسلام والتبليغ له ، وفي هذا القسم أجاز الإسلام استخدام القوّة في مواجهة من يمنع المسلمين من نشر عقيدتهم لفتح الطريق بوجه الحوار المنطقي السليم.

وقد ورد في تفاسير أهل السنة كتفسير «روح البيان» للآلوسي ، وتفاسير شيعية أخرى ، عن الإمام الصادقعليه‌السلام «لم يجيء تأويل هذه الآية ، ولو قام قائمنا بعد ، سيرى من يدركه ما يكون من تأويل هذه الآية ، وليبلغن دين محمّد ما بلغ

٤٢٦

الليل حتى لا يكون شرك على ظهر الأرض كما قال تعالى»(١) .

ولقد أنكر صاحب تفسير المنار ـ لتعصبه ـ هذا الحديث الوارد في شأن مسألة قيام المهديعليه‌السلام ، وذلك لحكمه المسبق المخطئ في هذه القضية ، والعجيب أن له ميلا خاصا في تفسيره إلى الفكر الوهابي ، مع أنّ الوهابيين بالرغم من تعصّهم يصرحون بأنّ ظهور الإمام المهديعليه‌السلام من الأمور المسلّم بها ، ويعتبرون الرّوايات فيه من المتواترات.

وسنورد الأدلة والمصادر في هذا الصدد في ذيل الآية (٣٣) من سورة التوبة ، كما سنشير إلى النقطة الأساسية في خطأ هذا المفسّر والرد عليها ، ولقد فصلنا الأمر في كتابنا «المصلح العالمي الكبير».

وإذا كانت بعض الرّوايات المتعلقة بظهور المهدي غير صحيحة وفيها بعض الخرافات ، فلا ينبغي أن يؤدّي ذلك إلى الإعراض عن بقية الرّوايات الصحيحة والمتواترة!

وأخيرا فإنّ الآية في نهايتها ، وتزامنا مع الشدة في العمل ، تمدّ يد المحبّة والرأفه إلى الأعداء مرّة أخرى فتقول : فإن انتهوا فإن الله بما يعملون خبير ولكن إذا تمادوا في عنادهم وطغيانهم ولم يستسلموا للحقّ ، فاعملوا أنّ النصر حليفكم والهزيمة من نصيب أعدائكم ، لانّ الله مولاكم وهو خير ناصر ومعين :( وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) .

* * *

__________________

(١) راجع مجمع البيان ، ذيل الآية ، وتفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ١٥٥ ، تفاسير أخرى.

٤٢٧
٤٢٨

بداية الجزء العاشر

القرآن الكريم

٤٢٩
٤٣٠

الآية

( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١) )

التّفسير

الخمس فرض إسلامي مهم :

وجدنا في بداية هذه السورة كيف أنّ بعض المسلمين تشاجروا في شأن تقسيم الغنائم بعد غزوة بدر ، وقد أمر الله سبحانه ـ درءا لأصول الخلاف ـ أن توضع الغنائم تحت تصرف النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لينفقها بما يراه صالحا ، فقام بتقسمها بالتساوي بين المقاتلين المسلمين.

وفي هذه الآية عود إلى مسألة الغنائم ، لتناسب الآيات التي سبقتها ، والتي كانت تتكلم على الجهاد ، إذ وجدنا في بعضها إشارات مختلفة لموضوع الجهاد ، ولما كان الجهاد يرتبط بمسألة الغنائم غالبا ، فكان في المقام تناسب بين الجهاد وبين ذكر أحكام الغنائم «بل سنلاحظ أن القرآن تعدى في حكمه إلى أبعد من

٤٣١

مسألة الغنائم ، ونظر إلى جميع الموارد».

يقول الحق سبحانه :( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ) (الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام )( وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) ـ من ذرية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا. ويضيف مؤكّدا( إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ ) ـ أي يوم بدر ـ( يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ ) .

وينبغي الالتفات إلى أنّه على الرغم من أنّ الخطاب في الآية موجه إلى المؤمنين ، لأنّها تبحث في غنائم الجهاد الإسلامي ، وبديهي أنّ المجاهد مؤمن ، لكنّها مع ذلك تقول :( إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ ) وفي ذلك إشارة إلى أنّ ادعاء الإيمان وحده لا يعدّ دليلا على الإيمان ، بل حتى المشاركة في سوح الجهاد قد لا تكون دليلا على الإيمان ، فقد تكون وراء ذلك أمور أخرى. فالمؤمن الكامل هو الذي يذعن لأوامر الله كافة وينقاد لها ، وخاصّة الأوامر والأحكام المالية ، ولا يأخذ ببعض ويترك بعضا ، وتشير الآية في نهايتها إلى قدرة الله غير المحدودة ، فتقول :( وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

أي بالرغم من قلتكم يوم بدر وكثيرة عدوّكم في الظاهر ، لكن الله القادر خذلهم وأيدكم فانتصرتم عليهم.

* * *

ملاحظات

١ ـ يوم الفرقان بين الحق والباطل

سمّي يوم معركة بدر بيوم الفرقان بين الحق والباطل ، ويوم الالتقاء بين جماعة الكفر وجماعة الإيمان ، وفي ذلك إشارة إلى ما يلي :

أوّلا : إنّ يوم بدر ظهرت فيه الأدلة على صدق النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّه وعد المسلمين بالنصر قبل ذلك ، مع أنّ القرائن في الظاهر لم تكن دالة على ذلك ، ولقد اتّحدت

٤٣٢

تلك الأسباب بشكل غير متوقع فكان النصر ، وهو ما لا يمكن حمله على المصادفة والاتفاق فبناء على ذلك فإن صدق الآيات التي نزلت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك اليوم كان كامنا في الآيات نفسها.

ثانيا : إنّ المعركة في بدر : «يوم التقى الجمعان» كانت في الواقع إحدى النعم الإلهية الكبرى على المسلمين ، لإنّ بعضهم كان يخشاها في البداية ، لكن تلك المواجهة والنصر دفعا بهم خطوات كبيرة نحو الأمام ، إذ بلغ صداهم واشتهارهم بذلك أنحاء الجزيرة العربية ، ودعا الجميع للتفكّر في هذا الدين الجديد وقدرته المذهلة وكان ذلك اليوم يوما شديدا على الأمّة الإسلامية القليلة آنئذ ، حيث امتاز به المؤمنون الصادقون عن المدعين الكاذبين ، فكان ذلك اليوم بكل جوانبه يوم الفرقان بين الحق والباطل.

٢ ـ ذكرنا في بداية السورة عدم وجود تضادّ بين آية الأنفال وهذه الآية ، ولا موجب الإعتبار إحداهما ناسخة للأخرى ، لأنّه بمقتضى آية الأنفال فإنّ الغنائم الحربية هي للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّه وهب أربعة أخماسها للمقاتلين المسلمين ، وادخر الخمس المتبقي للموارد التي ذكرتها الآية «ولمزيد الإيضاح راجع بحثنا في تفسير الآية الأولى من هذه السورة».

٣ ـ ما هو المراد من ذي القربي؟

ليس المراد في هذه الآية الأقرباء كلّهم ولا أقرباء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جميعا ، بل هم الأئمّة من أهل البيتعليهم‌السلام ، والدليل على هذا الأمر هو الرّوايات المتواترة التي وردت عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طرق أهل البيت(١) ، وتوجد أدلة أخرى على ذلك في كتب أهل السنة.

__________________

(١) يراجع كتاب وسائل الشيعة ، ج ٦ ، باب الخمس.

٤٣٣

فبناء على ذلك فإنّ من يرى أنّ سهما من الخمس يتعلق بكل أقرباء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يواجه هذا السؤال وهو : ما هذا امتياز الذي أولاه الإسلام لأقرباء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقومه ، مع أنّ الإسلام بعيد عن القبلية والقومية والعرقية؟!

لكنّنا إذا خصصنا «بذي القربى» الأئمّة من أهل البيتعليهم‌السلام مع ملاحظة أنّهم خلفاء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقادة الحكومة الإسلامية ، يتّضح السبب في إعطائهم هذا السهم من الخمس.

وبعبارة أخرى : إنّ السهام الثّلاثة «سهم الله وسهم النّبي وسهم ذي القربي» ترجع جميعها إلى قائد الحكومة الإسلامية ، فيصرف منها في شؤون حياته البسيطة ، وينفق الباقي منها في ما يوجبه مقام القيادة ، أي أنّه يصرفها في الحقيقة في حاجات الناس والمجتمع!.

وحيث أن بعض المفسّرين من أهل السنة «كصاحب المنار» يرى أنّ ذا القربى هو جميع الأقارب ، فقد تخبط في الإجابة على السؤال آنف الذكر وظلّ في حيرة من أمره ، حتى جعل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشبه بالملوك والسلاطين ، فأوجب عليه أن يجذب قومه وقبيلته اليه بالأموال التي عنده!

ومن الواضح بطلان هذا المنطق ، إذ يتنافى ومنطق الحكومة العالمية الإنسانية التي لا تعترف بالامتيازات القبليّة «وسيأتي إيضاح هذا الموضوع بصورة أكثر في البحوث المقبلة ، إن شاء الله».

٤ ـ ما هو المراد من اليتامى والمساكين وابن السبيل

إنّ المقصود باليتامى والمساكين وابن السبيل ـ في الآية ـ هم هذه الطوائف الثلاث من بني هاشم بالرغم من أنّ ظاهر الآية مطلق غير مقيد ، ودليلنا على التقييد هو الرّوايات الكثيرة الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام ، ونعلم بأنّ كثيرا من الأحكام المطلقة في النصوص القرآنية قيدتها السنة النبوية وجعلت لها شروطا

٤٣٤

وهذا الأمر غير منحصر بالآية محل البحث حتى تكون مثارا للغرابة والتعجب.

أضف إلى ذلك أنّ الزكاة محرمة على المحتاجين من بني هاشم ، فيلزم توفير مصدر آخر لهم ، وهذه قرينة على أنّ الآية تخصّ المحتاجين من بني هاشم.

لذا نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله : «إنّ الله تعالى لما حرّم علينا الصدقة أنزل لنا الخمس ، فالصدقة علينا حرام والخمس لنا حلال»(١)

٥ ـ هل الغنائم منحصرة في غنائم الحرب

الموضوع المهم الآخر الذي يجب أن يبحث في الآية ، وهو في الحقيقة بمثابة العمدة فيها ، هو : هل لفظ الغنيمة المذكور فيها يطلق على الغنائم الحربية فحسب ، أو الموضوع أوسع من ذلك فيشمل كل زيادة في المال؟!

ففي الصورة الأولى فإنّ الآية تبيّن الخمس في غنائم الحرب فحسب ، وأمّا الخمس في سائر الموارد فينبغي معرفته من السنة والأخبار المتواترة وصحيح الرّوايات ، ولا مانع أن يشير القرآن إلى قسم من أحكام الخمس بما يناسب مسائل الجهاد ، وأن تتناول السنة الشريفة بيان أقسامه الباقية.

فمثلا قد وردت الصلوات الخمس اليومية صريحة في القرآن ، كما أشير إلى صلاة الطواف التي هي من الصلوات الواجبة أيضا ، ولم ترد أيّة إشارة في القرآن إلى صلاة الآيات المتفق على وجوبها من قبل الفرق الإسلامية من أهل السنة والشيعة كافة ، ولا نجد قائلا يقول بأنّه لا يجب الإتيان بصلاة الآيات لأنّها لم تذكر في القرآن أو أن القرآن أشار إلى بعض الأغسال ولم يذكر غيرها ، فيجب ترك ما لم يشر إليه القرآن! فهذا المنطق لا يقره أي مسلم أبدا.

فبناء على ذلك ، لا إشكال في أن يبيّن القرآن قسما واحدا من أقسام

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، باب الخمس ، ومجمع البيان ذيل الآية

٤٣٥

الخمس فحسب ، ويكلّ توضيح الباقي إلى السنّة ، وفي الفقه الإسلامي نظائر كثيرة لهذه المسألة.

إلّا أنّه مع هذه الحال ينبغي أن ننظر إلى معنى «الغنيمة» في اللغة والعرف! فهل هي منحصرة في غنائم الحرب؟! أم تشمل كل أنواع الأرباح والزيادة في المال؟!

الذي يستفاد من كتب اللغة هو أنّ جذرها اللغوي لم يرد في ما يؤخذ من العدوّ في الحرب ، بل تشمل كل أنواع الزيادة المالية وغيرها.

ونشير هنا إلى بعض كتب اللغة المشهورة التي يعتمد عليها علماء العربية وأدباؤها على سبيل المثال والشاهد. إذ نقرأ في كتاب «لسان العرب» الجزء الثّاني عشر قوله «الغنم الفوز بالشيء من غير مشقّة ، والغنم والغنيمة ، والمنغم : الفيء ، وفي الحديث : الرهن لمن رهنه له غنمه وعليه غرمه ، غنمه زيادته ونماؤه وفاضل قيمته وغنم الشيء غنما فاز به ...».

ونقرأ في الجزء التاسع من «تاج العروس» : والغنم : الفوز بالشيء بلا مشقّة». وفي كتاب «القاموس» هذا المعنى نفسه للغنيمة أيضا.

وجاء في كتاب «المفردات» للراغب أنّ أصل الغنيمة من الغنم ، ثمّ يقول : ثمّ استعملوه في كل مظفور به من العدى وغيره.

وحتى من ذكر أنّ معناها هو غنائم الحرب ، لم ينكر أنّ معناها في الأصل واسع وشامل لكل خير يقع بيد الإنسان بدون عناء ومشقة.

وترد الغنيمة في العرف في مقابل الغرامة ، فكما أن معنى الغرامة واسع شامل لكل أنواع الغرامات ، فإنّ معنى الغنيمة واسع شامل لكل أنواع الغنائم.

وقد وردت هذه الكلمة في نهج البلاغة كثيرا بالمعنى المذكور نفسه ، إذ نقرأ في الخطبة (٧٦) قولهعليه‌السلام : «اغتنم المهل».

وفي الخطبة (١٢٠) يقولعليه‌السلام : «من أخذها لحق وغنم».

٤٣٦

ويقول في كتابه (٥٣) إلى مالك الأشتر : «ولا تكوننّ عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم».

ويقول في كتابه (٤٥) إلى عثمان بن حنيف : «فو الله ما كنزت من دنياكم تبرا ولا ادخرت من غنائمها وفرا».

ويقول في بعض كلماته القصار برقم (٣٣١) : «إنّ الله جعل الطاعة غنيمة الأكياس».

ويقول في كتابه (٤١) : «واغتنم من استقرضك في حال غناك».

ونظير هذه التعابير والكلمات التي تدل على عدم انحصار معنى الغنيمة في غنائم الحرب كثير.

وأمّا ما قاله المفسّرون :

إنّ أكثر المفسّرين الذين تناولوا هذه الآية بالبحث صرّحوا بأنّ للغنيمة معنى واسعا في اللغة يشمل غنائم الحرب وغيرها ممّا يحصل عليه الإنسان من دون مشقّة ، وحتى الذين قالوا بأنّها تختص بغنائم الحرب «لفتوى فقهاء السنة» يعترفون بأنّ معناها في اللغة غير مقيد ، بل قيّدوه بدليل آخر.

«القرطبي» مفسّر أهل السنة المعروف ، كتب في ذيل الآية : «إنّ الغنيمة في اللغة هو الخير الذي يناله الفرد أو الجماعة بالسعي والجد»(١) .

وينبغي أن يعلم أن علماء أهل السنة متفقون على أنّ المراد من الغنيمة المذكورة في آية( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ) هي الأموال التي يحصل عليها الناس بالقوّة في الحرب ، وينبغي ملاحظة أنّ هذا القيد غير وارد في اللغة ، لكنّه ورد في العرف الشرعي.

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ، ج ٤ ، ص ٢٨٠.

٤٣٧

ويقول «الفخر الرازي» في تفسيره : الغنم الفوز بالشيء يقول بعد هذا : إنّ المعنى الشرعي للغنيمة في اعتقاد فقهاء أهل السنة هو غنائم الحرب(١) .

كما أنّ «صاحب المنار» قد ذكرها بمعناها الواسع ولم يخصصها بغنائم الحرب ، بالرغم من اعتقاده بلزوم تقييد المعنى الواسع بالقيد الشرعي ، وتخصيص الآية بغنائم الحرب(٢) .

وقال «الآلوسي» في تفسيره روح المعاني : «إن الغنم في الأصل معناه كل ربح ومنفعة»(٣) .

وقال صاحب «مجمع البيان» في بداية كلامه : إنّ الغنيمة بمعنى غنائم الحرب ، إلّا أنّه لما بين معنى الآية قال : «قال أصحابنا : إنّ الخمس واجب في كل فائدة تحصل للإنسان من المكاسب وأرباح التجارات ، وفي الكنوز والمعادن والفوضى ، وغير ذلك ما هو مذكور في الكتب ، ويمكن أن يستدل على ذلك بهذه الآية ، فإنّ في عرف اللغة يطلق على جميع ذلك اسم الغنم والغنيمة»(٤) .

والعجيب أنّ بعض المغرضين ـ وكأنّهم مأمورون ببث السّموم في الأفكار ـ حرّفوا ما ذكره صاحب مجمع البيان في كتاب ألفوه في شأن الخمس ، حيث ذكروا عبارته الأولى في تفسير الغنيمة بأنّ المراد منه غنائم الحرب ، ولكنّهم لم يشيروا إلى إيضاحاته حول عموميّة المعنى اللغوي ومعنى الآية الذي أورده أخيرا ، وقد كذبوا بما لفقوا على هذا المفسّر الإسلامي الكبير ، وكأنّهم يتصورون أن كتاب مجمع البيان في أيديهم ولن يقرأه غيرهم. والأعجب من ذلك أنّهم لم يرتكبوا هذه الخيانة الفكرية فحسب ، بل تصرفوا في كتب أخرى فأخذوا

__________________

(١) الفخر الرازي ، ج ١٥ ، ص ١٦٤.

(٢) تفسير المنار ، ج ١٠ ، ص ٧٠٣.

(٣) تفسير روح المعاني : ج ١٠ ، ص ٢.

(٤) تفسير مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٥٤٣.

٤٣٨

بما ينفعهم وتركوا ما يضرّهم.

وفي تفسير «الميزان» ورد بصراحة ـ استنادا إلى علماء اللغة ـ أنّ الغنيمة هي كل فائدة تستحصل عن طريق التجارة والكسب أو الحرب ، ومع أن سبب نزول الآية هو غنائم الحرب ، إلّا أنّ ذلك لا يخصص مفهوم الآية وعموميتها(١) .

ونستنتج ممّا ذكرناه آنفا ما يلي :

إنّ آية الغنائم ذات معنى واسع يشمل كل فائدة وربح ، لإنّ معنى الغنيمة اللغوي عام ولا دليل على تخصيص الآية.

والشيء الوحيد الذي استند إليه جماعة من مفسّري أهل السنة ، هو أنّ الآيات السابقة والآيات اللاحقة لهذه الآية تتعلق بالجهاد ، وهذا الأمر يكون قرينة على أنّ آية( أَنَّما غَنِمْتُمْ ) تتعلق بغنائم الحرب.

في حين أنّ أسباب النّزول وسياق الآيات لا يخصص عمومية الآية كما هو معلوم ، وبعبارة أجلى : لا مانع من كون مفهوم الآية ذا معنى عام ، وأن يكون سبب نزولها هو غنائم الحرب في الوقت ذاته ، فهي من مصاديق هذا المفهوم أو الحكم.

ونظير هذه الأحكام كثير في القرآن الكريم والسنة المطهرة ، بأن يكون حكمها عاما ومصداقها جزئيا «خاصّا».

فمثلا في الآية (٧) من سورة الحشر نقرأ قوله تعالى :( ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) فهذه الآية ذات حكم كلي في وجوب الالتزام بأوامر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أن سبب نزولها هو الأموال التي تقع بأيدي المسلمين من دون حرب ، ويطلق على ذلك اصطلاحا «الفيء».

وكذلك نجد في الآية (٢٣٣) من سورة البقرة حكما كليا في قوله :( لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها ) مع أنّه يتعلق بالنساء المرضعات والأمر موجه لآباء

__________________

(١) الميزان ، ج ٩ ، ص ٨٩.

٤٣٩

الأطفال الرضّع أن يعطوا المرضعات أجورهن حسب وسعهم. وكون الآية واردة في هذا الأمر الخاص لا يمنع من عمومية القانون الذي جاءت به وهو عدم التكليف.

الخلاصة ، أنّ الآية محل البحث جاءت في سياق آيات الجهاد ، إلّا أنّها تقول : «إنّ أية فائدة أو ربح تحصلون عليه ـ ومنه غنائم الحرب ـ فعليكم أن تعطوا خمسه».

وخاصّة أنّ «ما» الموصولة «ومن شيء» لفظان عامان ليس فيهما قيد ولا شرط وهما يؤكّدان هذا الموضوع.

٦ ـ ألا يعد تخصيص نصف الخمس لبني هاشم تبعيضا بين المسلمين؟!

يتصوّر بعض أن هذه الضربية الإسلامية الشاملة لخمس الكثير من الأموال ، أي نسبة (عشرين المائة) حيث يعطى نصفها للسادة من أبناء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، نوع من التمييز العنصري أو ملاحظة العلاقات العائلية ، وأنّ هذا الأمر لا ينسجم وروح العدالة الاجتماعية للإسلام وكونها شاملة لجميع العالم.

الجواب :

إنّ هؤلاء لم يدر سوا ظروف هذا الحكم وخصوصياته بدقة كافية ، فالإجابة على هذا السؤال كامنة في تلك الخصوصيات.

وتوضيح ذلك : أوّلا : إن نصف الخمس المتعلق ببني هاشم إنّما يعطى للمحتاجين والفقراء منهم فحسب ، ولما يكفيهم لسنة واحدة لا أكثر ، فبناء على ذلك تصرف هذه الأموال على المقعدين عن العمل والمرضى واليتامى من الصغار ، أو من يكون في ضيق وحرج. لسبب من الأسباب ولهذا فإنّ القادرين على العمل «بالفعل أو بالقوّة» والذين بإمكانهم أن يديروا حياتهم المعاشية ، ليس

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606