الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245101 / تحميل: 6208
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

٢١

اَلسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا وَارِثَ آدَمَ صِفْوَةِ اللهِ

قد عَلِمَ أولوا الألباب أنّ السّلام تحية الإسلام(١) ، وإنّ التسليم مطيّة التعظيم والتكريم، وقد ورد عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: (إبدؤا بالسّلام قبل الكلام، فمن بدأ بالكلام قبل السّلام فلا تُجيبوه)(٢)

وعن عليّعليه‌السلام قال: (لا تَغْضَبُوا ولا تُغْضَبُوا، أفشُوا السّلام وأطيبُوا الكلامَ وَصَلّوا باللّيل والناسُ نيام تَدْخُلُوا الجنّةَ بسلامٍ)(٣)

________________________

١ ـ ولذا نری الشريعة المقدّسة قد أكّدت علی إفشاء السّلام ونشره في الأوساط ومدحت المبتدأ به ووعدته بالثواب الجزيل، وجعلت ردّ السّلام واجباً كفائيّاً وهذا ما نطق به القرآن الكريم في سورة النساء آية (٨٦)، والسنّة الشريفة أيضاً ومَن أراد أنْ يقف علی الروايات التي تتطرّق للسلام عليه بمراجعة أصول الكافي ج ٢، ص ٦٣٨ ـ باب التسليم

٢ ـ أُصول الكافي للكليني ج ٢، ص ٦٣٨

٣ ـ وهذا نصّ الرواية المذكورة في الكافي ج ٢ ص ٦٣٨، ح ٧ ط الأسوة، (عن جعفر بن محمّد الأشعري، عن ابن القدّاح عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إذا سَلّم أحَدُكُمْ فليَجهر بسلامه لا يقول: سلّمتُ فَلَم يَردُّوا عليَّ، ولعلّهُ يكونُ قد سلَّمَ ولمْ يسمعُهم، فإذا رَدَّ أحدُكم فليجهر بردِّهِ ولا يقُولُ الـمُـسلِّمُ : سلّمتُ فلم يردّوا عليَّ، ثمّ قال: كان عليٌّ يقول: لا تَغْضَبُوا ولا تُغضَبوا افشوا السلامَ وأطيبوا الكلام وصَلّوا بالليل والناس نيام تَدْخلوا الجنّة بسلام، ثمّ تلاعليه‌السلام قول الله عزّوجلّ :( السَّلَامُ المُؤمِنُ المُهَيمِنُ )

٢٢

وعن الباقرعليه‌السلام قال: (إنّ الله يحبُّ إفشاء السلام)(١)

وعن الصادقعليه‌السلام قال: (البادي بالسّلام أولی بالله ورسوله)(٢) ، إلی غير ذلك ممّا لا يحصیٰ(٣) فإن قال قائلٌ : أوليسَ حياةُ الـمُـسلَّمِ عليه وحضوره وقربه شروطاً لصحّة التسليم، فما معناه في هذه الزيارات ؟

قلتُ : بلی، والكلّ متحقّق بالنسبة إلی آل الله(٤) المعصومين، فإنّهم أحياءٌ عند ربّهم(٥) في بساط القرب وعرش القُدس يرزقون بموائد العلم والمعرفة فيُطعمون بألوان أطعمة الروحانيّين، ويسقون من كأس المقرّبين، يروْن مقام شيعتهم، ويسمعون كلامهم، ويردّون سلامهم كما في الزيارة الرضويةعليه‌السلام (٦)

________________________

١ ـ أصول الكافي : ج ٢، ص ٦٣٨، ح ٥

٢ ـ نفس المصدر : ص ٦٣٩، ح ٨

٣ ـ روی الكلينيرحمه‌الله في الكافي ج ٢، ص ٤٧٢، ح ١٢، ط المكتبة الإسلامية عن هارون بن خارجة عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: (مِنَ التواضع أنْ تُسلّم علی مَنْ لقيتَ)

وأيضاً روی الطبرسي رحمه‌الله في مجمع البيان ج ٣، ص ١٠٨ ـ ط بيروت عن مالك بن التيهان قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (مَن قال السّلامُ عليكم كُتبَ له عشر حسنات، ومَن قال السّلامُ عليكم ورحمة الله كُتِبَ له عشرون حسنة، ومَن قال السّلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاته كُتِبَ له ثلاثون حسنة)

٤ ـ هذه العبارة (آلُ الله) وردت في زيارة الإمام الحسينعليه‌السلام في النصف من رجب، راجع مفاتيح الجنان ص ٥٣٧

٥ ـ هذه إشارة إلی قوله تعالی في سورة آل عمران آية (١٦٩) :( وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ )

٦ ـ وهي إحدی زيارات الإمام الرضاعليه‌السلام التي لم يذكرها الشيخ عبّاس القمّي في

٢٣

ويدلُّ عليه من العقل براهين ساطعة، ومِن النقل أخبارٌ كثيرة لائحة يطول يطول المختصر بذكرها(١) ، وقد كفاك شاهداً علی هذا ما في الزيارة الجامعة

مفاتيحه وإنّما ذكرها صاحب ضياء الصالحين ص ٢٦٧

وهي : «السّلامُ عَلَيكَ يا مولايَ وابن مولاي وَرَحمةُ اللهِ وبركاته أشهدُ باللهِ أنّكَ تشهدُ مَقامي وتسمع كلامي وَتَردّ سلامي وأنتَ حيٌّ عند ربّكَ مَرزوقٌ ...»

وأيضاً هذا المعنی ورد في زيارة أمير المؤمنينعليه‌السلام في ميلاد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي : ( . أشهدُ أنّك تسمعُ كلامي، وتشهدُ مقامي .)

١ ـ ومن الأخبار والروايات التي تؤكّد علی أنّهمعليهم‌السلام أحياء، عليكَ بمراجعة كتاب بصائر الدرجات لابن الصفّار القمّي ص ٢٨٢ ـ وص ٤٢٤ باب الأعمال تعرض علی رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّةعليهم‌السلام ومن المعلوم والواضح لو لم يكونواعليهم‌السلام أحياءً ما تُعرض عليهم أعمال العباد، وعرض الأعمال من شأن الأحياء لا الأموات، ومن هذه الروايات :

أ ـ (عن الحسن بن علي الوشاء عن أحمد بن عمير عن أبي الحسنعليه‌السلام قال: سأل عن قول الله عزّوجلّ :( اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّـهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) قال: إنّ أعمال العباد تُعرض علی رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كلُّ صباح أبرارها وفجّارها فاحذروا)

ب ـ (عن أبي بصير عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: الأعمال تعرض كلَّ خميس علی رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ أمير المؤمنين صلوات الله عليهما

وأيضاً ممّا يدلّ علی أنّ الأئمّةعليه‌السلام أحياءٌ هو ما نطقت به الروايات التي صرّحت بزيارتهمعليهم‌السلام للموتی وأنّ الموتیٰ يزورونهم، وفي هذا الخصوص عقد صاحبُ البصائر باباً مستقلّاً ص ٢٧٤ منها :

«عن أبان بن تغلب عن أبي عبداللهعليه‌السلام أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام لقي أبابكر فاحتجّ عليه ثمّ قال له : أما ترضیٰ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بيني وبينكَ ؟ قال: فكيف لي به فأخذ بيده

٢٤

(ورضيكم خلفاء(١) في أرضه وحججاً علی بريّته)(٢) إلی قوله (وشهداء علی خلقه وأعلاماً لعباده ومناراً في بلاده)(٣) وكذا ما فيها أيضاً (أنتم السبيل الأعظم والصراط الأقوم وشهداء دار الفناء وشفعاء دار البقاء(٤) والرحمةُ الموصولة والآية المخزونة .)(٥)

وأتیٰ مسجد قبا فإذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه فقضیٰ علی أبي بكر فرجع أبو بكر مذعوراً فلقي عمر فأخبره فقال : مالكَ أما عَلِمتَ سحر بني هاشم»

«عن عباية الأسدي قال: دخلتُ علی أمير المؤمنين عليه‌السلام وعنده رجل رثّ الهيئة وأمير المؤمنين عليه‌السلام مقبل عليه يكلِّمه فلمّا قام الرجل قلتُ : يا أمير المؤمنين عليه‌السلام مَن هذا الذي أشغلكَ عنّا ؟ قال: هذا وصيّ موسیٰ عليه‌السلام » وهناك سيل من الروايات

١ ـ (عن الجعفري قال: سمعتُ أبا الحسن ـ الرضاعليه‌السلام ـ يقول: الأئمّة خلفاء الله عزّوجلّ في أرضه) راجع الكافي ج ١، ح ١، باب أنّ الأئمّة خلفاء الله

٢ ـ (عن عبدالله بن أبي يعفور قال: قال أبو عبداللهعليه‌السلام : يابن أبي يعفور إنّ الله واحد متوحِّد بالوحدانية، متفرِّد بأمره، فخلق خلقاً فقدّرهم لذلك الأمر فنحن هم يابن أبي يعفور فنحن حجج الله في عباده، وخزّانه علی علمه، والقائمون بذلك) راجع الكافي ج ١، ح ٥ باب الأئمّة ولاة أمر الله وخزنة علمه)

٣ ـ راجع شرح هذه الجملة من الزيارة الجامعة في الأنوار اللامعة للسيّد الجليلرحمه‌الله عبدالله شبّر ص ١١٣ ـ ط، مكتبة الأمين

٤ ـ عن الإمام الصادق والباقرعليهما‌السلام قالا : (والله لنشفعنّ في المذنبين من شيعتنا حتّی يقول أعداؤنا :( فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ... ) ، راجع تفسير البرهان ج ٣، ص ١٨٧، ح ١

٥ ـ قال العلّامة المرحوم عبدالله شبّر في شرحه لهذه الجملة في الأنوار اللامعة ص ١٣٨ : (أي هم علامات قدرة الله تعالیٰ وعظمته ولكن معرفة ذلك كما ينبغي

٢٥

وكذا ما في حديث النورانية «يا سلمان إنّ ميّتنا إذا مات لم يمت ومقتولنا إذا قُتِل لم يُقتل، وغائبنا إذا غابَ لم يَغب ولا نلد ولا نولد ولا في البطون ولا يُقاس بنا أحد من الناس .»(١)

وما ورد من التسليم علی أهل القبور(٢) ممّا يرفع الاستبعاد المذكور فإنّ المخاطب به هو أرواحهم الباقية، ونفوسهم الناطقة التي خُلِقت للبقاء دون أجسادهم البالية التي يعرضها التلاشي والفناء، فإذا صحّ التسليم علی مَن هذا حاله، فكيف يُنكر صحّته بالنسبة إلی المعصومين الذين لا تُفنی أرواحهم، ولا تُبلی أجسادهم(٣) المصونة عند عرش الله العظيم فإنّ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا )

مخزونة إلّا عن خواص أوليائهم وفيه إشارة إلی أنّ الآيات هم الأئمّة الهداةعليهم‌السلام وقد قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ما لله آية أكبر منّي)

١ ـ أخرج هذا الحديث الحافظ رجب البرسي في مشارق أنوار اليقين ص ٢٥٧، ط بيروت الأعلمي وهذا الحديث هو مقطع من خطبةٍ للإمام عليّعليه‌السلام

٢ ـ روي بسندٍ صحيح عن عبدالله بن سنان قال: قلتُ للصادقعليه‌السلام : كيف أُسلِّم علی أهل القبور ؟ قالعليه‌السلام : نعم، تقول : «السلام علی أهل الدِّيار من المؤمنينَ والمسلمينَ أنتم لنا فَرطٌ ونحن إنْ شاء الله بكم لاحقُونَ»

وروی المحدِّث القمّي في مفاتيح الجنان ص ٦٨٨ عن محمّد بن مسلم قال: قلت للصادق صلوات الله وسلامه عليه : (نزور الموتی ؟ قال: نعم قلت : فيعلمون بنا إذا أتيناهم ؟ قال: إي والله ليعلمون بكم ويفرحون بكم ويستأنسون إليكم)

٣ ـ روی الصفّار في كتاب بصائر الدرجات ص ٤٤٣، ح ١ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: (قال النبيّ يوماً لأصحابه : حياتي خيرٌ لكم ومماتي خيرٌ لكم

قال : فقالوا : يارسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا حياتك نعم، قالوا : فكيف مماتك ؟ فقال : إنّ الله

٢٦

وَجْهَهُ ) (١) وقد ورد تفسيره(٢) بهمعليهم‌السلام ، فهم الباقون بعد فناء الأشياء،( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ) (٣)

وروی في البصائر بسنده عن الباقرعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه : حياتي خيرٌ لكم تُحدّثون ونحدّث لكم، ومماتي خيرٌ لكم تعرض عليَّ أعمالكم

حرّم لحومنا علی الأرض أنْ يُطعم منها

وأيضاً في نفس المصدر قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنّ الله حرّم لحومنا علی الأرض فلا يطعم منها شيئاً)

١ ـ القصص : ٨٨

٢ ـ أي تفسير الوجه المذكور بالآية الشريفة فسّروه بالأئمّةعليهم‌السلام كما في تفسير القمّي ج ٢، ص ١٢٤، ط الأعلمي في تفسير هذه الآية الشريفة حيث قال: عن أبي حمزة، عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله :( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) قال: فيفنی كلُّ شيءٍ ويبقی الوجه ؟ الله أعظم من أنْ يوصف، لا، ولكن معناها كلُّ شيءٍ هالك إلّا دينه ونحن الوجه الذي يؤتی الله منه، لم نزل في عباده ما دام الله له فيهم روبة، فإذا لم يكن له فيهم روبة فرفعنا إليه ففعل بنا ما أحبّ، قلتُ : جُعِلتُ فداك وما الروبة ؟ قال: الحاجة

وأيضاً روی أبو جعفر الصفّار في كتابه بصائر الدرجات ص ٦١ ج ٢، ط : مكتبة المرعشي روايةً علی أنّ الأئمّةعليهم‌السلام هم وجه الله تعالی وهي :

(عن محمّد بن حمران عن أسود بن سعيد قال: كنت عند أبي جعفرعليه‌السلام فأنشأ يقول ابتداءً من غير أن يُسأل : نحن حجّة الله ونحن باب الله، ونحن لسان الله، ونحن وجه الله، ونحن عين الله في خلقه، ونحن ولاة أمر الله في عباده)

٣ ـ الرحمن : ٢٦ ـ ٢٧ وروی القمّي في تفسيره ج ٢، ص ٣٢٣، ط الأعلمي في تفسيره لهذه الآية قال:( وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ) دين ربّك، وقال عليّ بن الحسينعليهما‌السلام : نحن الوجه الذي يؤتی الله منه

٢٧

فإنْ رأيتُ حسناً جميلاً حمدتُ الله علی ذلك، وإنْ رأيتُ غيرَ ذلك استغفرتُ الله لكم)(١)

وكيف كان فعلی الزائر أنْ يذعن بحياتهمعليهم‌السلام وحضورهم، وإحاطة علمهم بأحوال شيعتهم، وأطوارهم وحركاتهم وسكناتهم وجميع تنقّلاتهم(٢) فليراع الأدب عند زيارتهم، وليكن بين يديهم خاشعاً خاضعاً ضارعاً مسكيناً مستكيناً كالعبد الذليل الواقف بين يدي مولاه الجليل، كيف وهم موالي الخلق والخلق كلّهم عبيد لهم عبيد الطاعة كما في بعض الأخبار، بل عبيد الرق كما عن بعض الأخبار

بقي الكلام في مواضع ثلاثة :

الأوّل : في تفسير السلام فقد اختلفت فيه أقاويل الأعلام علی وجوه :

منها : إنّه مأخوذ من سلم الآفات سلامةً أي سلمت من المكاره والآفات(٣) وإليه يرجع ماقيل من أنّه دعاء بالسلامة لصاحبه من آفات الدُّنيا وعذاب الآخرة وضعه الشارع موضع التحية والبشریٰ بالسلامة وكذا ماقيل من أنّه من السلامة من الأذی(٤)

________________________

١ ـ بصائر الدرجات : ص ٤٤٤، ح ٤، ط : مكتبة المرعشي

٢ ـ عن محمّد بن مسلم قال: سألته عن الأعمال هل تُعرض علی النبيّ ؟ قال: ما فيه شك، قلت له : أرأيتَ قول الله تعالی :( اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّـهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) قال: إنّهم شهود الله في أرضه

وأيضاً عن بُريد العجلي قال: كنتُ عند أبي عبداللهعليه‌السلام فسألته عن قوله تعالی :( اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّـهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) قال: إيّانا عنی

راجع بصائر الدرجات : ص ٢٢٤ وص ٤٢٧، ط مكتبة المرعشي النجفي

٣ ـ راجع لسان العرب ج ٦، ص ٣٤٣، ط : بيروت

٤ ـ نفس المصدر

٢٨

كما في قوله :( فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ) (١) أي لايؤذونكَ كما يؤذيكَ غيرهم وأنت خبير بأنّ هذا المعنی لا يُناسب المقام إلّا أنْ يتكلّف بجعله دعاء لشيعته ومحبّيه

ومنها : إنّه مأخوذ من السلام الذي هو اسم من أسماء الله(٢) كما قال:( السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ ) (٣) ، وقال :( لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ ) (٤) أي دار الله علی أحد الوجهين سُمّي به لسلامته وتنزهه عن نقائص الإمكان، أو لأنّ أفعاله صواب وسداد لا يعتريها النقصان، أو لأنّه مسلم ومؤمن لكلّ مَن التجأ إلی ما به من مكاره الحدثان، وحافظ علی كلّ مَن توجّه إلی جنابه بوسيلة الإيمان، فالمعنی : اللهُ عليك أي حافظ لأسرارك المستترة، وعلومك المكنونة المخزونة من أنْ تنالها أيدي الجهلة أو عاصم لك من الرِّجس والسهو والخطأ، ومن كلّ ما يكره من المعائب والنقائص، وقد يقال : إنّ المراد اسم السلام عليكَ أي اسم الله عليك فإن أُريد به ما ذُكِر وإلّا فلا معنی له ولذا حملوا قول الشاعر اسم السلام عليكما علی الزيادة، وربما يتكلّف لتصحيحه بما لا حاجة إليه

ومنها : إنّه من السلم وهو الصلح كما قال:( وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ ) (٥) ، وقال : ________________________

١ ـ الواقعة : ٩١

ـ أي السلام

٢ ـ لسان العرب : ج ٦، ص ٣٤٣

٣ ـ سورة الحشر : ٢٣

٤ ـ سورة الأنعام : ١٢٧ راجع تفسير مجمع البيان للطبرسي ج ٤، ص ٤٥٣ ط : التاريخ العربي

٥ ـ سورة الأنفال : ٦١، وذيل الآية الشريفة :( فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )

٢٩

(إنّي سلمٌ لمن سالمكم وحربٌ لمَن حاربكم)(١) أي مسالم، فهذه الكلمة للائذان بالمسالمة وترك المحاربة، وقد كانوا يؤمنون بها مَن يخاف شرّهم ومكيدتهم

ومنها : إنّه من التسليم فهو إمّا بشری له(٢) بما بشّره الله به من السلطنة الكاملة والغلبة علی الأعداء في زمان الرجعة)(٣) ، أو إيذان بأنّه مُسلِّم ومفوّض له جميع أموره مطيع له في جميع أوامره ونواهيه، ومؤمن بسرّه وعلانيّته، كما في الزيارة الجامعة : «مؤمن بسرّكم وعلانيّتكم(٤) وشاهدكم وغائبكم وأوّلكم وآخركم، ومفوِّض في ذلك كلّه إليكم(٥) ، ومسلِّم فيه معكم وقَلْبي لكم مُسلِّم ورأيي لكم

________________________

١ ـ لقد وردت هذه العبارة في زيارة عاشوراء المقدّسة المرويّة عن الإمام الباقرعليه‌السلام ، وأيضاً وردت في أحاديث كثيرة منها قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله للإمام عليّ والحسن والحسينعليهم‌السلام : (إنّي سلمٌ لمَن سالمكم وحربٌ لمن حاربكم)

وبهذا الشأن راجع أمالي الشيخ المفيد ص ٢١٣، ط : جامعة المدرّسين، ومشارق أنوار اليقين للبرسي ص ٣١، وص ٥٣، ط : الأعلمي

٢ ـ أي للإمام الحسينعليه‌السلام

٣ ـ راجع تفسير القمّي ج ١، ص ٣٨٧، ط : بيروت، وتفسير العياشي : ج ٢، ص ٢٥٩ و ٢٦٠، ح ٢٨، وتفسير البرهان للبحراني ج ٢، ص ٣٦٨ ح ١، وكتاب الرجعة للأسترآبادي

٤ ـ أي بما استتر عن أكثر الخلق من غرائب أحوالكم وبما عُلِن منها أو مؤمن باعتقاداتكم السرنية وبأعمالكم وأقوالكم العلانية

٥ ـ أي لا اعتراض عليكم في شيءٍ من أُموركم بل أعلم أنّ كلّما تأتون به فهو بأمره تعالی أو المعنی أُسلِّم جميع أموري إليكم لكي تصلحوا خللها وفاسدها، فإنّ

٣٠

تَبعٌ ونُصرَتي لكم مُعدَّةٌ حتّی يُحييَ الله تعالی دينَهُ بكم، ويردَّكم في أيّامه، ويُظهركم لعدلِهِ، ويُمكِّنكم في أرضه، فمعكُم معكُم(١) لا مع عدوّكم ...»

ويؤيّد الأوّل(٢) : ما روي عن داود بن كثير الرقي، قال: قلتُ : ما معنی السلام علی الله وعلی رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فقال : إنّ الله لـمّا خلق نبيّه ووصيّه وابنيه وابنته وجميع الأئمّة وخلق شيعتهم أخذ عليهم الميثاق، وأنْ يصبروا ويصابروا وأن يتّقوا الله، ووعدهم أنْ يسلم لهم الأرض المباركة والحرم الآمن، وأنْ ينزل لهم البيت المعمور ويظهر لهم السقف المرفوع وينجيهم من عدوّهم والأرض التي يبدّلها من دار السلم ويسلّم ما فيها لهم ولا شبهة فيها ولا خصومة فيها لعدوّهم وأن يكون لهم فيها ما يحبّون وأخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله علی الأئمّة وشيعتهم الميثاق بذلك وإنّما عليه أن يذكره نفس الميثاق وتجديد له علی الله لعلّه أن يعجله ويعجل المسلم لهم بجميع ما فيه(٣)

ويؤيّد الثاني(٤) : ما في جملة من التفاسير من أنّ المراد بقوله : «ويُسلِّموا تسليماً» في قوله :( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا

أعمال الخلائق تعرض عليهم، كما روي عن مولانا الصادقعليه‌السلام قال :

(تُعرض الأعمال علی رسول الله أعمال العباد كلّ صباحٍ أبرارها وفجّارها فاحذروها وهو قول الله تعالی : ( اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّـهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ) (راجع أصول الكافي ج ١، ح ١، باب عرض الأعمال علی النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة)

١ ـ أي معكم بالقلب واللسان أو في الدُّنيا والرجعة أو في الدُّنيا والآخرة

وللزيادة راجع شرح الزيارة الجامعة للعلّامة شبر ص ١٦٥ ـ ١٦٦، ط : مكتبة الأمين

٢ ـ وهو أنّ السلام مأخوذ من السلم من الآفات والمكاره

٣ ـ الكافي، ج ١ ص ٤٥١

٤ ـ وهو أنّ السلام مأخوذ من السلام وهو من أسماء الله تعالی

٣١

يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) (١)

هو السلام عليك أيّها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال الطريحي : واستصوبه بعض الأفاضل لقضية العطف، ولأنّه المتبادر إلی الفهم عرفاً

وروی الكاهلي(٢) عن الصادقعليه‌السلام أنّه تلا هذه الآية فقال : لو أنّ قوماً عبدوا الله ووحّدوه، ثمّ قالوا لشيء صنعه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لو صنع كذا وكذا ووجدوا ذلك في أنفسهم كانوا بذلك مشركين، ثمّ قال:( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ ) قال: هو التسليم في الاُمور(٣)

وعنه(٤) عليه‌السلام في قوله الله تعالی :( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّـهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) (٥) قال : هم الأئمّة(٦) ، ويجري فيمن استقام من شيعتنا وسلّم لأمرنا، وكتم حديثنا

________________________

١ ـ النساء : ٦٥

٢ ـ هو عبدالله بن يحيی أبو محمّد الكاهلي عربي، روی عن أبي عبدالله الصادق وأبي الحسن الكاظمعليهما‌السلام ، وكان وجهاً عند الإمام الكاظم، ووصّیٰ به علي بن يقطين فقال له : (اضمن لي الكاهلي وعياله أضمن لك الجنّة) راجع رجال النجاشي ص ٢٢١ رقم ٥٨٠

٣ ـ بصائر الدرجات : ص ٥٢٠، الجزء العاشر، ح ٣، ط : المرعشي النجفي

٤ ـ أي عن الإمام الصادقعليه‌السلام

٥ ـ سورة فصلت : ٣٠

٦ ـ أخرج القمّي في تفسيره ج ٢، ص ٢٣٧، ط : الأعلمي في تفسير هذه الآية( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّـهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) قال: علی ولاية أمير المؤمنينعليه‌السلام

وأخرج الطبرسي في تفسيره مجمع البيان ج ٩، ص ١٧، ط : مؤسسة التاريخ العربي، ونور الثقلين ج ٤، ص ٥٤٧، ح ٤٣، (عن محمّد بن الفضيل قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن الاستقامة فقال : هي والله ما أنتم عليه)

٣٢

عند عدوّنا(١)

وعن الباقرعليه‌السلام قال: (قد أفلح المسلّمون، إنّ المسلّمين هم النجباء)(٢)

وعنهعليه‌السلام : (إنّ الإمام هادٍ مهدي لا يدخله الله في عماء ولا يحمله علی هيئة ليس للناس النظر في أمره ولا التبختر عليه وإنّما أُمروا بالتسليم)(٣)

وأخبار التسليم لآل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله كثيرة(٤)

ومنها(٥) : إنّ هذه الجملة(٦) قد صارت حقيقيّة عرفية في إنشاء الثناء

________________________

١ ـ تجد هذه الرواية في بصائر الدرجات ص ٥٢٤، ح ٢٢ وهذه تكملة الرواية : ( فتستقبلهم الملائكة بالبشریٰ من الله بالجنّة وقد والله مضی أقوامٌ كانوا علی مثل ما أنتم عليه من الذين استقاموا وسلّموا لأمرنا وكتموا حديثنا ولم يذيعوه عند عدوّنا ولم يشكّوا كما شككتم فاستقبلهم الملائكة بالبشری من الله بالجنّة

٢ ـ اُنظر بصائر الدرجات ص ٥٢٠ الجزء العاشر، وتفسير البرهان ج ٤، ص ٥٤٩، ح ١١

٣ ـ بصائر الدرجات ص ٥٢٣، الجزء العاشر، ح ٢١

٤ ـ مَن أراد الوقوف علی أخبار وروايات التسليم لآل محمّدعليهم‌السلام عليه بمراجعة كتاب بصائر الدرجات حيث عقد باباً مستقلّاً تحت عنوان (التسليم لآل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله فيما جاء عندهم) تجده في الجزء العاشر من الكتاب ص ٥٢٠، ط : المرعشي النجفي وسوف نذكر روايتين خوفاً من الإطالة والاطناب :

روی عن جميل بن درّاج عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: (إنّ من قرّة العين التسليم إلينا أن تقولوا لكلّ ما اختلف عنّا أنْ تردوا إلينا)

وأيضاً عن صفوان عن داود بن فرقد عن زيد عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: (تدري بما أُمروا، أُمِروا بمعرفتنا والردّ إلينا والتسليم لنا)

٥ ـ أي من الأقوال التي ذكرها الأعلام في معنی السلام وهو المعنی الخامس

٦ ـ أي جملة (السّلامُ عليكَ)

٣٣

والتمجيد نظير جملتي الصلاة والتحميد، فيجري فيها ما ذكروه في الحمد لله من الأصل، والعدول عنه إلی الجملة الإسمية للدلالة علی الدوام وغير ذلك من الاحتمالات في اللام وتفصيل الكلام لا يليق بالمقام(١)

الموضع الثاني في تفسير كونه عليه السّلام وارثاً للأنبياء والأوصياء

فاعلم إنّ الوارث هو الذي يبقیٰ بعد موت آخر مع استحقاقه لتركته بقيامه مقامه، ونزوله في منزلته فكأنّه هو(٢) ، وسُمِيَ تعالی بالوارث، لأنّه باقٍ بعد فناء الأشياء(٣) ، ولأنّه يرث الأرض ومَن عليها وهو خير الوارثين، والمؤمنون هم الوارثون لأنّهم يرثون منازل الكفّار في الجنّة، أو لأنّهم يمكَنْون في الأرض في زمان الرجعة كما قال تعالیٰ :( أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) (٤)

وفي الدُّعاء : (واجعلهما ـ أي السمع والبصر ـ الوارثين منّي، أي ابقهما صحيحين إلی زمان الموت بعد ضعف جميع أعضائي)(٥) ، وكونهعليه‌السلام وارثاً

________________________

١ ـ راجع تفسير (الفرقان في تفسير القرآن للشيخ الدكتور محمّد الصادقي) ج ١، ص ٨٩، ط : طهران

٢ ـ راجع المصباح المنير للفيومي ص ٦٥٤ ط : دار الهجرة

٣ ـ إشارة إلی قوله تعالی في سورة الرحمان (الآية ٢٦ و ٢٧) :( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ )

٤ ـ الأنبياء : ١٠٥

٥ ـ بحار الأنوار، ج ٨٣، ص ١٣٠، باب ٤٣ ـ التعقيب المختص بصلاة الفجر، وإليك نصّه : «كان رسول الله صلی الله عيله وآله إذا صلی الغداة قال: اللهم متعني بسمعي وبصري واجعلهما الوارثين مني وأرني ثاري في عدوّي»

٣٤

للأنبياء كسائر الأئمّة النقباء ممّا لا ريب فيه، والأخبار والزيارات(١) مشحونة بذلك كما لا يخفیٰ علی المتتبّع فيها

وروي عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال: إنّ العلماء ورثة الأنبياء وذلك أنّ الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنّما ورّثوا أحاديث من أحاديثهم فمَن أخذ بشيءٍ منها فقد أخذ حظّاً وافرا(٢)

وقد فسّر العلماء في بعض الأخبار بأئمّتنا الأبرارعليهم‌السلام (٣)

ولا يُنافي ذلك ما روي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نورّث)(٤) أي لا نبقي الميراث لأحدٍ أو لا يرث أحدٌ منّا، لضعفه أوّلاً بروايته من غير طرقنا، ومخالفته للآيات القرآنية(٥) ، والأخبار الكثيرة، وقد وضعوا هذا الخبر ليحرموا ________________________

١ ـ منها زيارتهعليه‌السلام في النصف من رجب : (... السلامُ عليكَ ياوارث علم الأنبياء السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله، السلام عليك يا وارث نوح نبيّ الله ...)

ومنها زيارته في يوم عرفة : (السلامُ عليك ياوارث آدم صفوة الله، السلامُ عليك يا وارث نوح نبيّ الله . السلامُ عليك يا وارث محمّدٍ حبيب الله ...)

٢ ـ راجع بصائر الدرجات ص ١١، ح ٣، ط : مكتبة المرعشي النجفي وهذه تتمّة الحديث (فانظروا علمكم هذا عمّنْ تأخذونه فإنّ فينا في كلِّ خلفٍ عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين

٣ ـ راجع المصدر نفسه

٤ ـ أخرجه البخاري ج ٣ ص ٧ في غزوة خيبر ؛ صحيح مسلم ج ٢، ص ٧٢ باب قول النبيّ : لا نورّث، ما تركنا فهو صدقة من كتاب الجهاد والسير ؛ مسند أحمد ج ١ ص ٦

٥ ـ إنّ مسألة توريث الأنبياء منصوص عليها بعموم القرآن مثل قوله تعالی :( لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ) النساء : ٧

٣٥

وقوله تعالی :( يُوصِيكُمُ اللَّـهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ) النساء : ١١

قال السيّد عبد الحسين شرف الدِّين في كتابه النصّ والاجتهاد ص ٥٥، المورد السابع : «كلّها ـ أي آيات المواريث ـ عامّة تشمل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فمن دونه من سائر البشر فهي علی حدّ قوله عزّوجلّ :( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ) وقوله :( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّـهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ ) ونحو ذلك من آيات الأحكام الشرعية يشترك فيها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وكلُّ مكلّف من البشر، لا فرق بينهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبينهم، غير أنّ الخطاب فيها متوجّه إليه ليعمل به وليبلّغه إلی مَن سواه فهو من الحيثيّة أولی في الالتزام بالحكم من غيره» وأيضا ممّا يدلّ علی الإرث قوله تعالی في خبر زكريا :( إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا )

ولابدّ من حمل الإرث في هذه الآية علی إرث المال دون النبوّة وشبهها حملاً للفظ يرثني من معناه الحقيقي المتبادر منه إلی الأذهان، إذ لا قرينة هنا علی النبوّة ونحوها، بل القرائن في نفس الآية متوفّرة علی إرادة المعنی الحقيقي دون المجاز وأيضاً قوله تعالی في سورة النمل :( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ )

وإنّ هذه الآيتين الأخيرتين صريحتان علی توريث الأنبياءعليهم‌السلام ، واستدلّت فاطمة الزهراء عليها‌السلام بهاتين الآيتين في خطبتها، حيث قال السيّد شرف الدِّين في النص والاجتهاد ص ٦٣ : (ولعمري أنّها عليها‌السلام أعلم بمفاد القرآن ممّن جاءوا متأخِّرين عن تنزيله، فصرفوا الإرث هنا إلی وراثة الحكمة والنبوّة دون الأموال، تقديماً للمجاز علی الحقيقة بلا قرينة تصرف اللفظ عن معناه الحقيقي المتبادر منه بمجرّد الإطلاق وهذا ممّا لا يجوز)

٣٦

فاطمةعليها‌السلام عن ميراث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ومحاجّة عليّعليه‌السلام معهم في ذلك معروفة(١) ، وتأويله ثانياً : بأنّ المراد عدم توريث متاع الدُّنيا بشأن النبوّة لاقتضائه توريث العلوم والمعارف خاصّة، وهذا لا يُنافي توريثهم إيّاه بشأن البشرية، فإنّ لكلٍّ من الشأنين خواص ليست للآخر، هذا مع أنّ الغرض إثبات الوارثية في الجملة، وهو ممّا لم ينكره أحد، وأمّا معنی كونهمعليهم‌السلام ورثة للأنبياء فيحتمل وجوهاً :

منها : إنّهم ورثوا ما أعطاهمعليهم‌السلام من العلوم والمعارف والأسرار فعلموه كما علموه، فإنّ العلم لا يموت بموت العالم، بل يصير إلی عالمٍ آخر، وقد قال الباقرعليه‌السلام : «إنّ عليّاًعليه‌السلام عالم هذه الاُمّة، والعلم يتوارث ولا يهلك أحدٌ منّا إلّا تركَ من أهله مَن يعلم مثل علمه أو ما شاء الله»(٢)

وروي أيضاً في باب (أنّ الأئمّةعليهم‌السلام ورثوا علم آدمعليه‌السلام وجميع العلماء) بسنده عن الفضل بن يسار قال: (سمعتُ أبا عبداللهعليه‌السلام يقول: إنّ العلم الذي هبط مع آدم لم يُرفع، وأنّ العلم يتوارث وما يموت منّا عالمٌ حتّى يخلفه من أهله مَن يعلم علمه أو ما شاء الله)(٣)

وبسنده عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: (كانت في عليّعليه‌السلام سنّة ألف نبيّ، وقال : إنّ العلم الذي نزل مع آدم لم يُرفع، وما ماتَ عالمٌ فذهب علمه، وأنّ العلم ليتوارث [و] أنّ الأرض لا تبقیٰ بغير عالم)(٤)

________________________

١ ـ راجع الاحتجاج للطبرسي ج ١، ص ٩٠ ـ ٩٣

٢ ـ رواه الصفّار في بصائر الدرجات ج ٣، ص ١١٨، ح ٤ في باب (العلماء إنّهم يرثون العلم بعضهم من بعض ولا يذهب العلم من عندهم)

٣ ـ نفس المصدر : ص ١١٤، ح ١

 ـ الواو في المصدر غير موجودة

٤ ـ بصائر الدرجات : ص ١١٤، ح ٢

٣٧

وبسنده عنهعليه‌السلام أيضاً قال: (يمصّون الصماء ويدعون النّهر العظيم، قيل له : ومَن النهر العظيم ؟ قال: رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والعلم الذي أتاه الله، أنّ الله جمع لمحمّدٍصلى‌الله‌عليه‌وآله سنن النبيّين من آدم هلّم جرّا إلی محمّد، قيل له : وما تلك السنن ؟ قال : علم النبيّين بأسره، وأنّ الله جمع لمحمّدٍصلى‌الله‌عليه‌وآله علم النبيّين بأسره، وأنّ رسول الله صيّر ذلك كلّه عند أمير المؤمنينعليه‌السلام فقال له الرجل : يابن رسول الله فأمير المؤمنين أعلم أو بعض النبيّين ؟ فقالعليه‌السلام (١) : اسمعوا ما نقول : إنّ الله يفتح مسامع مَنْ يشاء، أنّي حدّثتُ أنّ الله جمع لمحمّدٍصلى‌الله‌عليه‌وآله علم النبيّين، وأنّه جعل ذلك كلّه عند أمير المؤمنين، وهو يسألني هو أعلم أم بعض النبيّين)(٢)

وبسنده أيضاً عن أبي الحسن الأوّلعليه‌السلام قال: قلتُ له : جعلت فداك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ورث علم النبيّين كلّهمعليهم‌السلام ؟

قال لي : نعم قلت : من لدن آدم إلی أن انتهی إلی نفسه ؟ قال: نعم قلت : ورثهم النبوّة وما كان في آبائهم من النبوّة والعلم ؟ قال: ما بعث الله نبيّاً إلّا وقد كان محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله أعلم منه قال: قلتُ : إنّ عيسی بن مريم كان يُحيي الموتیٰ بإذن الله قال: صدقت وسليمان بن داود كان يفهم كلام الطير قال ؛ وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقدر علی هذه المنازل(٣)

________________________

 ـ في مصدر الرواية (الثماد) بدل (الصماء) والثماد هو الماء الذي لا مادّة له

١ ـ في المصدر (فقال أبو جعفرعليه‌السلام ) بدل من (فقالعليه‌السلام )

٢ ـ بصائر الدرجات : ص ١١٧، ح ١٢

٣ ـ الشارحرحمه‌الله ما نقل الرواية بتمامها وإنّما ذكر صدرها وذيلها ونحن نذكر المقطع الذي لم يذكره : (علی هذه المنازل فقال : إنّ سليمان بن داود قال للهدهد حين فقده وشكّ في أمره مالي لا أری الهدهد أم كان من الغائبين وكانت المردة والريح والنمل

٣٨

إلی أن قال: فقد ورثنا نحن هذا القرآن، فعندنا ما يقطع به الجبال ويقطع به البلدان ويحيي به الموتی بإذن الله، ونحن نعرف ما تحت الهواء(١)

إلی أن قال: إنّ الله يقول:( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (٢) ثمّ قال(٣) :( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) (٤) فنحن الذين اصطفانا الله، فقد ورثنا علم هذا القرآن الذي فيه تبيان كلّ شيء(٥)

وروي أيضاً في باب أنّ الأئمّة ورثوا علم أُولي العزم من الرُّسل وجميع الأنبياء، وأنّهم أُمناء الله في أرضه وعندهم علم البلايا والمنايا وأنساب العرب(٦)

والإنس والجنّ والشياطين له طائعين وغضب عليه فقال : لأعذّبنّه عذاباً شديداً أو لأذبحنّه أو ليأتيني بسلطانٍ مبين، وإنّما غضب عليه لأنّه كان يدلّه علی الماء، فهذا وهو طير قد أُعطی ما لم يعطَ سليمان وإنّما أراده ليدلّه علی الماء فهذا لم يعط سليمان وكانت المردة له طائعين ولم يكن يعرف الماء تحت الهواء وكانت الطير تعرفه، أنّ الله يقول في كتابه :( وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَىٰ ) (الرعد : ٣١)

١ ـ أيضاً الشارح هنا لم يكمل الرواية ونحن سوف نكملها : ( الهواء وإن كان في كتاب الله لآياتٍ ما يُراد بها أمرٌ من الاُمور التي أعطاه الله الماضين النبيّين والمرسلين إلّا وقد جعله الله ذلك كلّه لنا في أُمّ الكتاب، إنّ الله تبارك وتعالی يقول .)

٢ ـ النمل : ٧٥

٣ ـ في مصدر الرواية هكذا (ثمّ قال عزّوجلّ ...)

٤ ـ فاطر : ٣٢

٥ ـ بصائر الدرجات : ص ١١٤، ح ٣

٦ ـ راجع بصائر الدرجات ج ٣، ص ١١٨ الباب الثاني

٣٩

وبسنده عن عبد الرحمان بن أبي نجران(١) قال: كتبَ أبو الحسن الرضاعليه‌السلام رسالةً وأقرأنيها قال: قال عليّ بن الحسينعليهما‌السلام : إنّ محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله كان أمينُ الله في أرضه فلمّا قُبض محمّدٌصلى‌الله‌عليه‌وآله كنّا أهل البيت ورثته ونحن أُمناء الله في أرضه، عندنا علم البلايا والمنايا وأنساب العرب ومولد الإسلام وإنّا لنعرف الرجل إذا رأيناه بحقيقة الإيمان وحقيقة النفاق(٢) إلی أنْ قال: نحن ورثة الأنبياء ونحن ورثة أُولي العزم من الرُّسل(٣)

وبسنده عن الباقرعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنّ أوّل وصيّ كان علی وجه الأرض هبة الله بن آدم وما من نبيّ مضیٰ إلّا وله وصيّ، لأنّ عدد جميع

________________________

١ ـ هو عمرو بن مسلم التميمي مولیً كوفي رویٰ عن الرضاعليه‌السلام ، وكان عبد الرحمان ثقة ثقة معتمداً علیٰ ما يرويه راجع رجال النجاشي ص ٢٣٥ (٦٢٢)

٢ ـ هذه تكملة الرواية : ( وحقيقة النفاق وأنّ شيعتنا لمكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم أخذ اللهُ علينا وعليهم الميثاق يردون موردنا ويدخلون مدخلنا نحن النجباء وأفراطنا أفراط الأنبياء ونحن أبناء الأوصياء ونحن المفرحون في كتاب الله ونحن أولی الناس بالله ونحن أولی الناس بكتاب الله ونحن أولی الناس بدين الله ونحن الذين شرع لنا دينه فقال في كتابه شرع لكم يا آل محمّد من الدِّين ما وصّی به نوحاً، وقد وصّانا بما أوصی به نوحاً والذي أوحينا إليك يا محمّد وما وصّينا به إبراهيم وإسماعيل وموسیٰ وعيسیٰ وإسحاق ويعقوب فقد علمنا وبلغنا ما علمنا واستودعنا علمهم، نحن ورثة الأنبياء ونحن ورثة أولي العزم من الرُّسل أنْ أقيموا الدِّين يا آل محمّد ولا تفرّقوا فيه وكونوا علی جماعة كبر علی المشركين مَنْ أشرك بولاية علي ما تدعوهم إليه من ولاية عليّ أنّ الله يا محمّد يهدي إليه مَنْ يُنيب من يُجيبكَ إلی ولاية عليّعليه‌السلام

٣ ـ بصائر الدرجات : ج ٣، ص ١١٨، ح ١

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

معركة أحد.

إلّا أنّه لما كانت الآية محل البحث واقعة في سياق الآيات النازلة في معركة بدر ، فإنّ الرأي الأوّل في شأن نزولها يبدو أقرب للصحة.

التّفسير

مهما يكن شأن نزول الآية ، فمفهومها مفهوم جامع يحمل في معناه كلّ ما بذله أعداء الحق والعدل من أموال لنيل مقاصدهم المشؤومة ، إذ تقول في مستهلها :( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) .

إلّا أنّ هذا الإنفاق والبذل لن يحقق لهم نصرا( فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ) .

ولا يبتلون بالحسرة والهزيمة في الدنيا فحسب ، بل هم كذلك في الآخرة أيضا( وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ) .

* * *

ملاحظات

١ ـ يستفاد من الآية محل البحث أنّ «هؤلاء» يحسّون بعدم جدوى أعمالهم حتى قبل غلبهم وانهزامهم ، وحيث إنّهم لا يرون نتيجة مثمرة لما أنفقوه من الأموال ، فسيبتلون بالألم والحسرة ، وهذا الأمر هو نوع من جزائهم الدنيوي وأحد عقوباتهم فيها.

أمّا الجزاء الآخر الذي ينالونه ، فهو فشل خططهم ومناهجهم ، لأنّ الذين يقاتلون وهم متعلقون بالأموال والثروة لا يستطيعون مواجهة المقاتلين من أجل المبدأ والأهداف المقدسة.

وقد برهنت الحوادث في عصرنا هذا على أن الدول القوية التي تغري

٤٢١

مقاتليها بالمال والرغبات المادية ، كثيرا ما تصاب بالخزي والافتضاح والهزيمة بوجه الأمم المستضعفة التي تقاتل عن إيمان وعقيدة راسخة! وبالإضافة إلى هذين الجزاءين فهناك جزاء ثالث ينتظرهم يوم القيامة ، وهو «الغضب الإلهي».

٢ ـ ما ذكرته الآية محل البحث ، نجد له أمثلة في عصرنا الحاضر ، كقوى الاستكبار ، واتباع الظلم والفساد ، ودعاة المذاهب الخرافية الباطلة ، وباذلي الأموال الطائلة لتحقيق أهدافهم وتضليل الناس وصدهم عن سبيل الحق ، وهم يظهرون بأزياء متعددة ، فتارة في صورة المساعدات المالية ـ ظاهرا ـ كبناء المستشفيات ، وأخرى في صورة التعاون الثقافي ، ومرّة في ثوب المقاتلين المرتزقة.

لكن الهدف النهائي واحد والماهية واحدة ، فكل همّهم التوسعة الاستعمارية والظلم والجور ، ولو وقف المؤمنون حقّا صفا بوجه هذه المحاولات كما وقف أصحاب بدر لأحبطوا جميع هذه المحاولات ولباءت بالفشل ، ولجعلوا هذا الإنفاق وبالا وحسرة على المستكبرين ، ولساقوهم إلى جهنم وساءت مصيرا.

٣ ـ قال بعض المفسّرين : إنّ هذه الآية واحدة من دلائل صدق دعوة النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّها تخبر عن حوادث لم تكن وقعت بعد ، وقد غلب بها أعداء الإسلام ، ومع أن أولئك بذلوا أموالا طائلة لانتصارهم!!

وإذا لم نعتبر الآية من الأخبار بالمغيبات التي تتعلق بالحوادث المقبلة ، فإنّها على الأقل تكشف عن محتوى القرآن الدقيق في شأن المواجهة بين الحق والباطل ، كما أنّها تكشف عن عظمة القرآن والتعاليم الإسلامية.

وبعد أن تكلمت الآية السابقة على ثلاث نتائج مشؤومة لإنفاق أعداء الإسلام ، فإنّ الآية التي تليها تقول :( لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) .

هذه سنة إلّهية دائمة أن يعرف المخلص من غير المخلص ، والطاهر من غير

٤٢٢

الطاهر ، والمجاهد الصادق من الكاذب ، والأعمال الطيبة من الأعمال الخبيثة ، فلا يبقى أي من ذلك مجهولا أبدا ، بل لا بدّ في النهاية من أن تمتاز الصفوف بعضها عن بعض ويسفر الحق عن وجهه. وهذا الأمر يتحقق ـ طبعا ـ عند ما يكون أتباع الحق ـ كأولئك المسلمين الأوائل يوم بدر ـ في مستوى كاف من التضحية والوعي.

ثمّ تضيف الآية( وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ) .

فالخبيث من أية طائفة وفي أي شكل كان سيؤول في النهاية إلى الخسران ، كما تقول الآية في نهاية المطاف( أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ) .

* * *

٤٢٣

الآيات

( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠) )

التّفسير

من المعلوم في أسلوب القرآن هو الجمع بين البشارة والنذارة ، أي أنّه كما ينذر أعداء الحق بالعقاب والعذاب ، فإنّه يفتح لهم في الوقت نفسه طريق العودة أمامهم.

والآية الأولى : من الآيات محل البحث تتبع هذا الأسلوب ذاته ، فتأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلة :( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ ) .

ويستفاد من الآية المباركة أنّ قبول الإسلام يوجب محو كل سابقة وهو ما ورد في الرّوايات على أنّه أصل عام ، كما في عبارة «الإسلام يجبّ ما قبله» أو ما جاء عن أهل السنة في تعبير آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن «الإسلام يهدم ما كان قبله ،

٤٢٤

وإن الهجرة تهدم ما كان قبلها ، وإن الحج يهدم ما كان قبله»(١)

والمقصود من الحديث آنفا هو أنّ كل ما عمله الإنسان من سيئات وحتى تركه للفرائض والواجبات قبل إسلامه فسوف يمحى عنه بقبوله الإسلام ، ولا يكون قبوله للإسلام أثر رجعي لما سبق ، لهذا ورد في كتب الفقه عدم وجوب قضاء ما فات من العبادات على من أسلّم.

وتضيف الآية قائلة : إنّهم إن لم يصححوا أسلوبهم( وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ ) .

والمقصود من هذه السنة هو ما آل إليه أعداء الحق بعد ما واجهوا الأنبياء ، وما أصاب المشركين عند ما واجهوا النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في معركة بدر.

فنحن نقرأ في سورة غافر ، الآية : (٥١) :( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ ) .

ونقرأ في سورة الاسراء ، الآية (٧٧) : بعد بيان سحق أعداء الإسلام قوله تعالى :( سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً ) .

ولمّا كانت الآية السابقة قد دعت الأعداء للعودة إلى الحق ، وإن هذه الدعوة قد تولد هذه الفكرة لدى المسلمين وهي أنّه قد انتهت فترة الجهاد ولا بدّ بعد الآن من اللين والتساهل ، ترفع هذه الشبهة الآية التالية وتقول :( وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ) .

وكلمة «الفتنة» ـ كما بيناها في تفسير الآية (١٩٣) من سورة البقرة ـ ذات معنى واسع تشمل كل أنواع الضغوط ، فتارة يستعملها القرآن بمعنى عبادة الأصنام والشرك الذي يشمل كل أنواع التحجر والجمود واضطهاد أفراد المجتمع.

__________________

(١) صحيح مسلم وفقا لما نقله صاحب المنار في تفسيره ، ج ٩ ، ص ٦٦٥.

٤٢٥

وتطلق الفتنة أيضا على الضغوط التي يفرضها الأعداء ، للوقوف بوجه اتساع دعوة الإسلام ، ولإسكات صوت أهل الحق ، بل حتى إرجاع المؤمنين نحو الكفر.

وفي الآية محل البحث فسر الفتنة بعضهم بمعنى الشرك ، وفسّرها آخرون بأنّها تعني سعي الأعداء لسلب الحريات الفكرية والاجتماعية من المسلمين.

ولكن الحقّ أنّ مفهومها واسع يشمل الشرك ، بقرينة قوله :( وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ) وسائر ضغوط الأعداء على المسلمين.

الهدف من الجهاد وبشرى كريمة :

تشير الآية آنفة الذكر إلى قسمين من أهداف الجهاد المقدسة وهما :

١ ـ القضاء على عبادة الأصنام وتطهير الأرض من معابدها ونحو ذلك وكما ذكرنا في بحثنا عن أهداف الجهاد فإنّ الحريّة الدينية تتعلق بمن يتّبع أحد الأديان السماوية فلا يجوز إكراه هؤلاء من أجل تغيير عقيدتهم ، ولكن عبادة الأصنام ليست دينا ولا فكرا ، بل هي خرافة وجهل وانحراف ، وعلى الحكومة الإسلامية إزالتها وتطهير البلاد منها عن طريق الإعلام والتبليغ الإسلامي ـ أوّلا ـ وإذا لم يؤدّ ذلك إلى نتيجة فيجب اللجوء إلى القوة لتدمير معابد الأوثان.

٢ ـ نيل الحرية في نشر الإسلام والتبليغ له ، وفي هذا القسم أجاز الإسلام استخدام القوّة في مواجهة من يمنع المسلمين من نشر عقيدتهم لفتح الطريق بوجه الحوار المنطقي السليم.

وقد ورد في تفاسير أهل السنة كتفسير «روح البيان» للآلوسي ، وتفاسير شيعية أخرى ، عن الإمام الصادقعليه‌السلام «لم يجيء تأويل هذه الآية ، ولو قام قائمنا بعد ، سيرى من يدركه ما يكون من تأويل هذه الآية ، وليبلغن دين محمّد ما بلغ

٤٢٦

الليل حتى لا يكون شرك على ظهر الأرض كما قال تعالى»(١) .

ولقد أنكر صاحب تفسير المنار ـ لتعصبه ـ هذا الحديث الوارد في شأن مسألة قيام المهديعليه‌السلام ، وذلك لحكمه المسبق المخطئ في هذه القضية ، والعجيب أن له ميلا خاصا في تفسيره إلى الفكر الوهابي ، مع أنّ الوهابيين بالرغم من تعصّهم يصرحون بأنّ ظهور الإمام المهديعليه‌السلام من الأمور المسلّم بها ، ويعتبرون الرّوايات فيه من المتواترات.

وسنورد الأدلة والمصادر في هذا الصدد في ذيل الآية (٣٣) من سورة التوبة ، كما سنشير إلى النقطة الأساسية في خطأ هذا المفسّر والرد عليها ، ولقد فصلنا الأمر في كتابنا «المصلح العالمي الكبير».

وإذا كانت بعض الرّوايات المتعلقة بظهور المهدي غير صحيحة وفيها بعض الخرافات ، فلا ينبغي أن يؤدّي ذلك إلى الإعراض عن بقية الرّوايات الصحيحة والمتواترة!

وأخيرا فإنّ الآية في نهايتها ، وتزامنا مع الشدة في العمل ، تمدّ يد المحبّة والرأفه إلى الأعداء مرّة أخرى فتقول : فإن انتهوا فإن الله بما يعملون خبير ولكن إذا تمادوا في عنادهم وطغيانهم ولم يستسلموا للحقّ ، فاعملوا أنّ النصر حليفكم والهزيمة من نصيب أعدائكم ، لانّ الله مولاكم وهو خير ناصر ومعين :( وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) .

* * *

__________________

(١) راجع مجمع البيان ، ذيل الآية ، وتفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ١٥٥ ، تفاسير أخرى.

٤٢٧
٤٢٨

بداية الجزء العاشر

القرآن الكريم

٤٢٩
٤٣٠

الآية

( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١) )

التّفسير

الخمس فرض إسلامي مهم :

وجدنا في بداية هذه السورة كيف أنّ بعض المسلمين تشاجروا في شأن تقسيم الغنائم بعد غزوة بدر ، وقد أمر الله سبحانه ـ درءا لأصول الخلاف ـ أن توضع الغنائم تحت تصرف النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لينفقها بما يراه صالحا ، فقام بتقسمها بالتساوي بين المقاتلين المسلمين.

وفي هذه الآية عود إلى مسألة الغنائم ، لتناسب الآيات التي سبقتها ، والتي كانت تتكلم على الجهاد ، إذ وجدنا في بعضها إشارات مختلفة لموضوع الجهاد ، ولما كان الجهاد يرتبط بمسألة الغنائم غالبا ، فكان في المقام تناسب بين الجهاد وبين ذكر أحكام الغنائم «بل سنلاحظ أن القرآن تعدى في حكمه إلى أبعد من

٤٣١

مسألة الغنائم ، ونظر إلى جميع الموارد».

يقول الحق سبحانه :( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ) (الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام )( وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) ـ من ذرية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا. ويضيف مؤكّدا( إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ ) ـ أي يوم بدر ـ( يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ ) .

وينبغي الالتفات إلى أنّه على الرغم من أنّ الخطاب في الآية موجه إلى المؤمنين ، لأنّها تبحث في غنائم الجهاد الإسلامي ، وبديهي أنّ المجاهد مؤمن ، لكنّها مع ذلك تقول :( إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ ) وفي ذلك إشارة إلى أنّ ادعاء الإيمان وحده لا يعدّ دليلا على الإيمان ، بل حتى المشاركة في سوح الجهاد قد لا تكون دليلا على الإيمان ، فقد تكون وراء ذلك أمور أخرى. فالمؤمن الكامل هو الذي يذعن لأوامر الله كافة وينقاد لها ، وخاصّة الأوامر والأحكام المالية ، ولا يأخذ ببعض ويترك بعضا ، وتشير الآية في نهايتها إلى قدرة الله غير المحدودة ، فتقول :( وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

أي بالرغم من قلتكم يوم بدر وكثيرة عدوّكم في الظاهر ، لكن الله القادر خذلهم وأيدكم فانتصرتم عليهم.

* * *

ملاحظات

١ ـ يوم الفرقان بين الحق والباطل

سمّي يوم معركة بدر بيوم الفرقان بين الحق والباطل ، ويوم الالتقاء بين جماعة الكفر وجماعة الإيمان ، وفي ذلك إشارة إلى ما يلي :

أوّلا : إنّ يوم بدر ظهرت فيه الأدلة على صدق النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّه وعد المسلمين بالنصر قبل ذلك ، مع أنّ القرائن في الظاهر لم تكن دالة على ذلك ، ولقد اتّحدت

٤٣٢

تلك الأسباب بشكل غير متوقع فكان النصر ، وهو ما لا يمكن حمله على المصادفة والاتفاق فبناء على ذلك فإن صدق الآيات التي نزلت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك اليوم كان كامنا في الآيات نفسها.

ثانيا : إنّ المعركة في بدر : «يوم التقى الجمعان» كانت في الواقع إحدى النعم الإلهية الكبرى على المسلمين ، لإنّ بعضهم كان يخشاها في البداية ، لكن تلك المواجهة والنصر دفعا بهم خطوات كبيرة نحو الأمام ، إذ بلغ صداهم واشتهارهم بذلك أنحاء الجزيرة العربية ، ودعا الجميع للتفكّر في هذا الدين الجديد وقدرته المذهلة وكان ذلك اليوم يوما شديدا على الأمّة الإسلامية القليلة آنئذ ، حيث امتاز به المؤمنون الصادقون عن المدعين الكاذبين ، فكان ذلك اليوم بكل جوانبه يوم الفرقان بين الحق والباطل.

٢ ـ ذكرنا في بداية السورة عدم وجود تضادّ بين آية الأنفال وهذه الآية ، ولا موجب الإعتبار إحداهما ناسخة للأخرى ، لأنّه بمقتضى آية الأنفال فإنّ الغنائم الحربية هي للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّه وهب أربعة أخماسها للمقاتلين المسلمين ، وادخر الخمس المتبقي للموارد التي ذكرتها الآية «ولمزيد الإيضاح راجع بحثنا في تفسير الآية الأولى من هذه السورة».

٣ ـ ما هو المراد من ذي القربي؟

ليس المراد في هذه الآية الأقرباء كلّهم ولا أقرباء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جميعا ، بل هم الأئمّة من أهل البيتعليهم‌السلام ، والدليل على هذا الأمر هو الرّوايات المتواترة التي وردت عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طرق أهل البيت(١) ، وتوجد أدلة أخرى على ذلك في كتب أهل السنة.

__________________

(١) يراجع كتاب وسائل الشيعة ، ج ٦ ، باب الخمس.

٤٣٣

فبناء على ذلك فإنّ من يرى أنّ سهما من الخمس يتعلق بكل أقرباء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يواجه هذا السؤال وهو : ما هذا امتياز الذي أولاه الإسلام لأقرباء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقومه ، مع أنّ الإسلام بعيد عن القبلية والقومية والعرقية؟!

لكنّنا إذا خصصنا «بذي القربى» الأئمّة من أهل البيتعليهم‌السلام مع ملاحظة أنّهم خلفاء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقادة الحكومة الإسلامية ، يتّضح السبب في إعطائهم هذا السهم من الخمس.

وبعبارة أخرى : إنّ السهام الثّلاثة «سهم الله وسهم النّبي وسهم ذي القربي» ترجع جميعها إلى قائد الحكومة الإسلامية ، فيصرف منها في شؤون حياته البسيطة ، وينفق الباقي منها في ما يوجبه مقام القيادة ، أي أنّه يصرفها في الحقيقة في حاجات الناس والمجتمع!.

وحيث أن بعض المفسّرين من أهل السنة «كصاحب المنار» يرى أنّ ذا القربى هو جميع الأقارب ، فقد تخبط في الإجابة على السؤال آنف الذكر وظلّ في حيرة من أمره ، حتى جعل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشبه بالملوك والسلاطين ، فأوجب عليه أن يجذب قومه وقبيلته اليه بالأموال التي عنده!

ومن الواضح بطلان هذا المنطق ، إذ يتنافى ومنطق الحكومة العالمية الإنسانية التي لا تعترف بالامتيازات القبليّة «وسيأتي إيضاح هذا الموضوع بصورة أكثر في البحوث المقبلة ، إن شاء الله».

٤ ـ ما هو المراد من اليتامى والمساكين وابن السبيل

إنّ المقصود باليتامى والمساكين وابن السبيل ـ في الآية ـ هم هذه الطوائف الثلاث من بني هاشم بالرغم من أنّ ظاهر الآية مطلق غير مقيد ، ودليلنا على التقييد هو الرّوايات الكثيرة الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام ، ونعلم بأنّ كثيرا من الأحكام المطلقة في النصوص القرآنية قيدتها السنة النبوية وجعلت لها شروطا

٤٣٤

وهذا الأمر غير منحصر بالآية محل البحث حتى تكون مثارا للغرابة والتعجب.

أضف إلى ذلك أنّ الزكاة محرمة على المحتاجين من بني هاشم ، فيلزم توفير مصدر آخر لهم ، وهذه قرينة على أنّ الآية تخصّ المحتاجين من بني هاشم.

لذا نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله : «إنّ الله تعالى لما حرّم علينا الصدقة أنزل لنا الخمس ، فالصدقة علينا حرام والخمس لنا حلال»(١)

٥ ـ هل الغنائم منحصرة في غنائم الحرب

الموضوع المهم الآخر الذي يجب أن يبحث في الآية ، وهو في الحقيقة بمثابة العمدة فيها ، هو : هل لفظ الغنيمة المذكور فيها يطلق على الغنائم الحربية فحسب ، أو الموضوع أوسع من ذلك فيشمل كل زيادة في المال؟!

ففي الصورة الأولى فإنّ الآية تبيّن الخمس في غنائم الحرب فحسب ، وأمّا الخمس في سائر الموارد فينبغي معرفته من السنة والأخبار المتواترة وصحيح الرّوايات ، ولا مانع أن يشير القرآن إلى قسم من أحكام الخمس بما يناسب مسائل الجهاد ، وأن تتناول السنة الشريفة بيان أقسامه الباقية.

فمثلا قد وردت الصلوات الخمس اليومية صريحة في القرآن ، كما أشير إلى صلاة الطواف التي هي من الصلوات الواجبة أيضا ، ولم ترد أيّة إشارة في القرآن إلى صلاة الآيات المتفق على وجوبها من قبل الفرق الإسلامية من أهل السنة والشيعة كافة ، ولا نجد قائلا يقول بأنّه لا يجب الإتيان بصلاة الآيات لأنّها لم تذكر في القرآن أو أن القرآن أشار إلى بعض الأغسال ولم يذكر غيرها ، فيجب ترك ما لم يشر إليه القرآن! فهذا المنطق لا يقره أي مسلم أبدا.

فبناء على ذلك ، لا إشكال في أن يبيّن القرآن قسما واحدا من أقسام

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، باب الخمس ، ومجمع البيان ذيل الآية

٤٣٥

الخمس فحسب ، ويكلّ توضيح الباقي إلى السنّة ، وفي الفقه الإسلامي نظائر كثيرة لهذه المسألة.

إلّا أنّه مع هذه الحال ينبغي أن ننظر إلى معنى «الغنيمة» في اللغة والعرف! فهل هي منحصرة في غنائم الحرب؟! أم تشمل كل أنواع الأرباح والزيادة في المال؟!

الذي يستفاد من كتب اللغة هو أنّ جذرها اللغوي لم يرد في ما يؤخذ من العدوّ في الحرب ، بل تشمل كل أنواع الزيادة المالية وغيرها.

ونشير هنا إلى بعض كتب اللغة المشهورة التي يعتمد عليها علماء العربية وأدباؤها على سبيل المثال والشاهد. إذ نقرأ في كتاب «لسان العرب» الجزء الثّاني عشر قوله «الغنم الفوز بالشيء من غير مشقّة ، والغنم والغنيمة ، والمنغم : الفيء ، وفي الحديث : الرهن لمن رهنه له غنمه وعليه غرمه ، غنمه زيادته ونماؤه وفاضل قيمته وغنم الشيء غنما فاز به ...».

ونقرأ في الجزء التاسع من «تاج العروس» : والغنم : الفوز بالشيء بلا مشقّة». وفي كتاب «القاموس» هذا المعنى نفسه للغنيمة أيضا.

وجاء في كتاب «المفردات» للراغب أنّ أصل الغنيمة من الغنم ، ثمّ يقول : ثمّ استعملوه في كل مظفور به من العدى وغيره.

وحتى من ذكر أنّ معناها هو غنائم الحرب ، لم ينكر أنّ معناها في الأصل واسع وشامل لكل خير يقع بيد الإنسان بدون عناء ومشقة.

وترد الغنيمة في العرف في مقابل الغرامة ، فكما أن معنى الغرامة واسع شامل لكل أنواع الغرامات ، فإنّ معنى الغنيمة واسع شامل لكل أنواع الغنائم.

وقد وردت هذه الكلمة في نهج البلاغة كثيرا بالمعنى المذكور نفسه ، إذ نقرأ في الخطبة (٧٦) قولهعليه‌السلام : «اغتنم المهل».

وفي الخطبة (١٢٠) يقولعليه‌السلام : «من أخذها لحق وغنم».

٤٣٦

ويقول في كتابه (٥٣) إلى مالك الأشتر : «ولا تكوننّ عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم».

ويقول في كتابه (٤٥) إلى عثمان بن حنيف : «فو الله ما كنزت من دنياكم تبرا ولا ادخرت من غنائمها وفرا».

ويقول في بعض كلماته القصار برقم (٣٣١) : «إنّ الله جعل الطاعة غنيمة الأكياس».

ويقول في كتابه (٤١) : «واغتنم من استقرضك في حال غناك».

ونظير هذه التعابير والكلمات التي تدل على عدم انحصار معنى الغنيمة في غنائم الحرب كثير.

وأمّا ما قاله المفسّرون :

إنّ أكثر المفسّرين الذين تناولوا هذه الآية بالبحث صرّحوا بأنّ للغنيمة معنى واسعا في اللغة يشمل غنائم الحرب وغيرها ممّا يحصل عليه الإنسان من دون مشقّة ، وحتى الذين قالوا بأنّها تختص بغنائم الحرب «لفتوى فقهاء السنة» يعترفون بأنّ معناها في اللغة غير مقيد ، بل قيّدوه بدليل آخر.

«القرطبي» مفسّر أهل السنة المعروف ، كتب في ذيل الآية : «إنّ الغنيمة في اللغة هو الخير الذي يناله الفرد أو الجماعة بالسعي والجد»(١) .

وينبغي أن يعلم أن علماء أهل السنة متفقون على أنّ المراد من الغنيمة المذكورة في آية( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ) هي الأموال التي يحصل عليها الناس بالقوّة في الحرب ، وينبغي ملاحظة أنّ هذا القيد غير وارد في اللغة ، لكنّه ورد في العرف الشرعي.

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ، ج ٤ ، ص ٢٨٠.

٤٣٧

ويقول «الفخر الرازي» في تفسيره : الغنم الفوز بالشيء يقول بعد هذا : إنّ المعنى الشرعي للغنيمة في اعتقاد فقهاء أهل السنة هو غنائم الحرب(١) .

كما أنّ «صاحب المنار» قد ذكرها بمعناها الواسع ولم يخصصها بغنائم الحرب ، بالرغم من اعتقاده بلزوم تقييد المعنى الواسع بالقيد الشرعي ، وتخصيص الآية بغنائم الحرب(٢) .

وقال «الآلوسي» في تفسيره روح المعاني : «إن الغنم في الأصل معناه كل ربح ومنفعة»(٣) .

وقال صاحب «مجمع البيان» في بداية كلامه : إنّ الغنيمة بمعنى غنائم الحرب ، إلّا أنّه لما بين معنى الآية قال : «قال أصحابنا : إنّ الخمس واجب في كل فائدة تحصل للإنسان من المكاسب وأرباح التجارات ، وفي الكنوز والمعادن والفوضى ، وغير ذلك ما هو مذكور في الكتب ، ويمكن أن يستدل على ذلك بهذه الآية ، فإنّ في عرف اللغة يطلق على جميع ذلك اسم الغنم والغنيمة»(٤) .

والعجيب أنّ بعض المغرضين ـ وكأنّهم مأمورون ببث السّموم في الأفكار ـ حرّفوا ما ذكره صاحب مجمع البيان في كتاب ألفوه في شأن الخمس ، حيث ذكروا عبارته الأولى في تفسير الغنيمة بأنّ المراد منه غنائم الحرب ، ولكنّهم لم يشيروا إلى إيضاحاته حول عموميّة المعنى اللغوي ومعنى الآية الذي أورده أخيرا ، وقد كذبوا بما لفقوا على هذا المفسّر الإسلامي الكبير ، وكأنّهم يتصورون أن كتاب مجمع البيان في أيديهم ولن يقرأه غيرهم. والأعجب من ذلك أنّهم لم يرتكبوا هذه الخيانة الفكرية فحسب ، بل تصرفوا في كتب أخرى فأخذوا

__________________

(١) الفخر الرازي ، ج ١٥ ، ص ١٦٤.

(٢) تفسير المنار ، ج ١٠ ، ص ٧٠٣.

(٣) تفسير روح المعاني : ج ١٠ ، ص ٢.

(٤) تفسير مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٥٤٣.

٤٣٨

بما ينفعهم وتركوا ما يضرّهم.

وفي تفسير «الميزان» ورد بصراحة ـ استنادا إلى علماء اللغة ـ أنّ الغنيمة هي كل فائدة تستحصل عن طريق التجارة والكسب أو الحرب ، ومع أن سبب نزول الآية هو غنائم الحرب ، إلّا أنّ ذلك لا يخصص مفهوم الآية وعموميتها(١) .

ونستنتج ممّا ذكرناه آنفا ما يلي :

إنّ آية الغنائم ذات معنى واسع يشمل كل فائدة وربح ، لإنّ معنى الغنيمة اللغوي عام ولا دليل على تخصيص الآية.

والشيء الوحيد الذي استند إليه جماعة من مفسّري أهل السنة ، هو أنّ الآيات السابقة والآيات اللاحقة لهذه الآية تتعلق بالجهاد ، وهذا الأمر يكون قرينة على أنّ آية( أَنَّما غَنِمْتُمْ ) تتعلق بغنائم الحرب.

في حين أنّ أسباب النّزول وسياق الآيات لا يخصص عمومية الآية كما هو معلوم ، وبعبارة أجلى : لا مانع من كون مفهوم الآية ذا معنى عام ، وأن يكون سبب نزولها هو غنائم الحرب في الوقت ذاته ، فهي من مصاديق هذا المفهوم أو الحكم.

ونظير هذه الأحكام كثير في القرآن الكريم والسنة المطهرة ، بأن يكون حكمها عاما ومصداقها جزئيا «خاصّا».

فمثلا في الآية (٧) من سورة الحشر نقرأ قوله تعالى :( ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) فهذه الآية ذات حكم كلي في وجوب الالتزام بأوامر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أن سبب نزولها هو الأموال التي تقع بأيدي المسلمين من دون حرب ، ويطلق على ذلك اصطلاحا «الفيء».

وكذلك نجد في الآية (٢٣٣) من سورة البقرة حكما كليا في قوله :( لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها ) مع أنّه يتعلق بالنساء المرضعات والأمر موجه لآباء

__________________

(١) الميزان ، ج ٩ ، ص ٨٩.

٤٣٩

الأطفال الرضّع أن يعطوا المرضعات أجورهن حسب وسعهم. وكون الآية واردة في هذا الأمر الخاص لا يمنع من عمومية القانون الذي جاءت به وهو عدم التكليف.

الخلاصة ، أنّ الآية محل البحث جاءت في سياق آيات الجهاد ، إلّا أنّها تقول : «إنّ أية فائدة أو ربح تحصلون عليه ـ ومنه غنائم الحرب ـ فعليكم أن تعطوا خمسه».

وخاصّة أنّ «ما» الموصولة «ومن شيء» لفظان عامان ليس فيهما قيد ولا شرط وهما يؤكّدان هذا الموضوع.

٦ ـ ألا يعد تخصيص نصف الخمس لبني هاشم تبعيضا بين المسلمين؟!

يتصوّر بعض أن هذه الضربية الإسلامية الشاملة لخمس الكثير من الأموال ، أي نسبة (عشرين المائة) حيث يعطى نصفها للسادة من أبناء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، نوع من التمييز العنصري أو ملاحظة العلاقات العائلية ، وأنّ هذا الأمر لا ينسجم وروح العدالة الاجتماعية للإسلام وكونها شاملة لجميع العالم.

الجواب :

إنّ هؤلاء لم يدر سوا ظروف هذا الحكم وخصوصياته بدقة كافية ، فالإجابة على هذا السؤال كامنة في تلك الخصوصيات.

وتوضيح ذلك : أوّلا : إن نصف الخمس المتعلق ببني هاشم إنّما يعطى للمحتاجين والفقراء منهم فحسب ، ولما يكفيهم لسنة واحدة لا أكثر ، فبناء على ذلك تصرف هذه الأموال على المقعدين عن العمل والمرضى واليتامى من الصغار ، أو من يكون في ضيق وحرج. لسبب من الأسباب ولهذا فإنّ القادرين على العمل «بالفعل أو بالقوّة» والذين بإمكانهم أن يديروا حياتهم المعاشية ، ليس

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606