الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245294 / تحميل: 6212
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

= فتراه يستشكل في عمل من بايعوا محمد بن الأشعث بإمرة المؤمنين، التي رآها مخالفة للإجماع المدعى يوم السقيفة. وتراه يعترف بمخالفة سعد ثم يدعي أنه رجع عن ذلك.. ولست أدري كيف رجع عنه، مع أنه من المتسالم عليه تاريخياً: أنه استمر على الخلاف معهم، حتى اغتيل بالشام ـ اغتالته السياسة، على حد تعبير طه حسين في كتابه: من تاريخ الأدب العربي ج ١ ص ١٤٦، وغيره.. وذلك أشهر من أن يحتاج إلى بيان.

وعلى كل حال.. فإن ما يهمنا هو الإشارة إلى أن كون الأئمة من قريش ليس فقط أصبح تقليداً متبعاً، بل هو قد أصبح من عقائد أهل السنة المعترف بها.

ولكن ما تأتي به السياسة، تذهب به السياسة، إذ بعد تسعماية سنة جاء السلطان سليم، وخلع الخليفة العباسي، وتسمى هو ب‍ـ (أمير المؤمنين) مع أنه لم يكن من قريش. وبهذا يكون قد ألغى هذا التقليد عملا من عقائد طائفة من المسلمين، وأبطله.

ومهما يكن من أمر فإن أول من ادعى استحقاق الخلافة بالقربى النسبية من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أبو بكر، ثم عمر، وجاء بعدهما بنو أمية، فعرفوا أنفسهم ذوي قربى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى لقد حلف عشرة من قواد أهل الشام، وأصحاب النعم والرياسة فيها ـ حلفوا ـ للسفاح: على أنهم لم يكونوا يعرفون إلى أن قتل مروان، أقرباء للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا أهل بيت يرثونه غير بني أمية. فراجع النزاع والتخاصم للمقريزي ص ٢٨، وشرح النهج للمعتزلي ج ٧ / ١٥٩، ومروج الذهب ج ٣ ص ٣٣.

بل لقد ذكر المسعودي والمقريزي: أن إبراهيم بن المهاجر البجلي، الموالي للعباسيين قد نظم قضية هؤلاء الأمراء شعرا، فقال:

أيها الناس اسمعوا أخبركم

عجباً زاد على كل العجب

عـجبا من عبد شمس إنهم

فتحوا للناس أبواب الكذب

ورثـوا أحـمد فيما زعموا

دون عباس بن عبد المطلب

كـذبـوا والله مـا نـعلمه

يحرز الميراث إلا من قرب

ويقول الكميت عن دعوى بني أمية هذه:

وقالوا: ورثناها أبانا وأمنا

ولا ورثتهم ذاك أم ولا أب

٤١

= وفي العقد الفريد ج ٢ / ١٢٠ طبع دار الكتاب العربي: أن أروى بنت الحارث بن عبد المطلب قالت لمعاوية: (.. ونبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المنصور، فوليتم علينا من بعده، تحتجون بقرابتكم من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونحن أقرب إليه منكم، وأولى بهذا الأمر الخ).

ثم جاء العباسيون، وادعوا نفس هذه الدعوى، كما هو واضح من النصوص التي ذكرناها، ونذكرها. بل لقد ادعى نفس هذه الدعوى أيضاً أكثر إن لم يكن كل من خرج مطالبا بالخلافة، سواء كان خروجه على الأمويين أو على العباسيين..

وهذا يعني أن العامل النسبي قد لعب دوراً هاماً في الخلافة الإسلامية، وكان الناس بسبب جهلهم. وعدم وعيهم لمضامين الإسلام يصدقون ويسلمون بأن القربى النسبية تكفي وحدها في أن تجعل لمدعيها الحق في منصب الخلافة. ولعل أكثر ما ورد في القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة من الوصايا بأهل البيتعليهم‌السلام ، والأمر بمودتهم، ومحبتهم، والتمسك بهم جعل الناس يظنون أن سبب ذلك هو مجرد قرباهم النسبية منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وكان أن استغل الطامحون فهم الناس الخاطئ هذا. بل لقد حاولوا ما أمكنهم تكريسه، وتثبيته.

إلا أن حقيقة الأمر هي غير ذلك، فإن منصب الخلافة في الإسلام، لا يدور مدار القربى النسبية منه. بل هو يدور مدار الأهلية والجدارة، والاستعداد الذاتي لقيادة الأمة قيادة صالحة، كما كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقودها، يدلك على ذلك أننا لو رجعنا إلى النصوص القرآنية. وإلى ما ورد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشأن الخليفة بعده، فلعلنا لا نعثر على نص واحد منها يفهم منه أن استحقاق الخلافة يدور مدار القربى النسبية منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحسب.

وكل ما ورد في القرآن، وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأمر بموالاة أهل بيته، وحبهم، والتمسك بهم، ومن تعيينه خلفاءه منهم، فليس لأجل قرباهم النسبية منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل لأن الأهلية، والجدارة الحقيقية لهذا المنصب قد انحصرت في الخارج فيهم. فهو على حد تعبير الأصوليين: من باب الإشارة إلى الموضوع الخارجي. وليس تصريحهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقربى لأجل بيان الميزان والمقياس والملاك في استحقاقهم الخلافة.

وواضح أنه كان لا بد من الالتجاء إلى الله ورسوله لتعيين الشخص الذي له الجدارة والأهلية لقيادة الأمة، لأن الناس قاصرون عن إدراك حقائق الأمور، ونفسيات، وغرائز، وملكات بعضهم البعض.. إدراكا دقيقا وحقيقيا، وعن إدراك عدم طرو تغير أو تبدل عليه في المستقبل. ولقد عينهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالفعل، ودل عليه بمختلف الدلالات، =

٤٢

= بالقول، تصريحاً، وتلويحاً، وكناية، ونصاً، ووصفاً، وغير ذلك، وبالفعل أيضاً، حيث أمره على المدينة، وعلى كل غزوة لا يكون هوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها، ولم يؤمر عليه أحداً، وغير ذلك..

هذا هو رأي الشيعة، وهذا هو رأي أئمتهم في هذا الأمر، وكلماتهم طافحة ومشحونة بما يدل على ذلك. ولا يبقى معه مجال لأي لبس أو توهم، فراجع كلام الإمام علي في شرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ١٢، وغيره مما قد يتعسر استقصاؤه..

ومما ذكرنا نستطيع أن نعرف أن ما ورد عن الإمام عليعليه‌السلام ، أو عن غيره من الأئمة الطاهرين، من قولهم: أنهم هم الذين عندهم ميراث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنما يقصدون به الميراث الخاص، الذي يختص الله به من يشاء من عباده، أعني: ميراث العلم، على حد قوله تعالى:

( ثُمّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا.. ) وقد اعترف أبو بكر نفسه لفاطمة الزهراء بأن الأنبياء يورثون العلم لأشخاص معينين من بعدهم، وعلى كل فلقد أنكر علي عليه‌السلام مبدأ استحقاق الخلافة بالقرابة والصحابة أشد الإنكار، فقد جاء في نهج البلاغة قوله عليه‌السلام : ((وا عجباً!! أتكون الخلافة بالصحابة والقرابة؟!!)). هكذا في نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ولكن الظاهر هو أنها محرفة، وأن الصحيح هو ما في نسخة ابن أبي الحديد، وهي هكذا ((وا عجباً!! أن تكون الخلافة بالصحابة، ولا تكون بالصحابة والقرابة!!)).

وأما ما يظهر منه أنهم يستدلون لاستحقاقهم الخلافة بالقربى من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنما اقتضاه الحجاج مع الخصوم، فهو من باب: (الزموهم بما ألزموا به أنفسهم). ويدل على هذا المعنى ويوضحه ما قاله الإمام عليعليه‌السلام لأبي بكر، عندما جيء به ليبايع، فكان مما قاله: ((.. واحتججتم عليهم -أي على الأنصار- بالقرابة من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .. وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، نحن أولى الخ)).. راجع: الإمامة والسياسة ج ١ ص ١٨.

ويشير أيضاًعليه‌السلام ـ إلى هذا المعنى في بعض خطبه الموجودة في نهج البلاغة فمن أراد فليراجعه.. كما ويشير إليه أيضاً ما نسب إليهعليه‌السلام من الشعر(على ما في نهج البلاغة) وهو قوله:

فـإن كنت بالشورى ملكت أمورهم

فـكيف بـهذا والـمشيرون غيب

وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم

فـغيرك أولـى بـالنبي وأقـرب

ولكن أحمد أمين المصري في كتابه: ضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٦١، و ص ٣٠٠، و ص ٢٢٢، و ص ٢٣٥، وكذلك سعد محمد حسن في كتابه: المهدية في الإسلام ص ٥.

والخضري في محاضراته ج ١ ص ١٦٦: إن هؤلاء ينسبون إلى الشيعة القول: بأن منصب الخلافة يدور مدار القربى النسبية منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحسب، رغم اعتراف أحمد أمين في نفس الكتاب، وبالتحديد في ص ٢٠٨، ٢١٢: بأن الشيعة يحتجون بالنص في خصوص الخليفة بعد الرسول. بل والخضري يعترف بذلك أيضاً حيث قال: (أما الانتخاب عند أهل التنصيص على البيت العلوي، فإنه كان منظورا فيه إلى الوراثة الخ).=

٤٣

= وهي نسبة غريبة حقاً ـ بعد هذا الاعتراف الصريح منهم، ومن غيرهم ـ فإن عقيدة الشيعة ـ تبعاً لأئمتهم هي ما ذكرنا، أي ليس منصب الخلافة دائراً مدار القربى النسبية منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأدلة الشيعة تنطق وتصرح بأن القربى النسبية وحدها لا توجب بأي حال من الأحوال استحقاق الخلافة، وإنما لا بد من النص المعين لذلك الشخص الذي يمتلك الجدارة والأهلية والاستعداد الذاتي لها.

إنهم يستدلون على خلافة عليعليه‌السلام بالنصوص القرآنية، والنبوية المتواترة عند جميع الفرق الإسلامية، ولا يستدلون بالقربى إلا من باب: ألزموهم.. أو من باب تكثير الأدلة، أو في مقابل استدلال أبي بكر وعمر بها، وإذا ما شذ واحد منهم، واستدل بذلك، معتقداً بخلاف ما قلناه عن قصور نظر، وقلة معرفة، أو لفهمه ـ خطأ ـ ما ورد عنهمعليهم‌السلام . من أن عندهم ميراث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا يجب، بل لا يجوز أن يحسب على الشيعة، ومن ثم القول بأن ذلك هو قولهم، وأن تلك هي عقيدتهم.

ولعل أحمد أمين لم يراجع أدلة الشيعة!!

أو أنه راجعها، واشتبه عليه الأمر!!

أو أنه. لا هذا. ولا ذاك.. وإنما أراد التشنيع عليهم، فنسب إليهم ما ليس من مذهبهم!

ويدلنا على صحة هذا الاحتمال الأخير، اعترافه المشار إليه، بأن الشيعة يستدلون على إمامة عليعليه‌السلام بالنص، لا بالقربى!!..

وخلاصة القول هنا: إن القربى النسبية ليست هي الملاك في استحقاق الخلافة. ولم تكن دعوى أنها كذلك، لا من الأئمة، ولا من شيعتهم. وإنما كانت من قبل أبي بكر، وعمر، ثم الأمويين، فالعباسيين.

وإذا كان أهل السنة ـ تبعاً لأئمتهم ـ قد جعلوا كون الإمامة في قريش من عقائدهم. وإذا كان غير أهل البيت هم الذين ادعوا هذه الدعوى، وهللوا وكبروا لها. فمن الحق لنا إذن أن نقول:

(رمتني بدائها وانسلت).

وأخيراً.. فلقد كان من أبسط نتائج هذه العقيدة لدى أهل السنة، وقبولهم أن القربى النسبية تجعل لمدعيها الحق في الخلافة.. أن سنحت الفرصة لأن يصل أشخاص إلى الحكم من أبرز مميزاتهم، وخصائصهم جهلهم بتعاليم الدين، وانسياقهم وراء شهواتهم، أينما كانت، وحيثما وجدت، جاعلين الحكم والسلطان، وسيلة إليها، مسدلين على حماقاتهم هنا، وتفاهاتهم هناك ستاراً من القربى النسبية منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وهو من هؤلاء وأمثالهم بريء.

ولما لم يعد ذلك الستار يقوى على المنع من استكناه واقعهم، وحقيقة نواياهم وتصرفاتهم، كان لا بد لهم من الالتجاء إلى أساليب أخرى، تبرر لهم واقعهم، وتحمي تصرفاتهم، وتؤمن لهم الاستمرار في الحكم، ولعل بيعة المأمون للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد هي من تلك الأساليب، كما سيتضح إن شاء الله تعالى..

٤٤

وعندما ذهب داوود بن علي إلى مكة، والياً عليها، من قبل أخيه السفاح، وأراد أن يخطب في مكة خطبته الأولى، طلب منه سديف بن ميمون أن يأذن له في الكلام، فأذن له، فوقف، وقال من جملة ما قال:

(.. أتزعم الضلال: أن غير آل الرسول أولى بتراثه؟! ولم؟! وبم؟! معاشر الناس؟! ألهم الفضل بالصحابة، دون ذوي القرابة؟ الشركاء في النسب، والورثة للسلب)(١) .

ويقول داوود بن علي في نفس المناسبة، أعني في أول خطبة له: (لم يقم فيكم إمام بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلا علي بن أبي طالب، وهذا القائم فيكم..) وأشار إلى السفاح(٢) .

____________

(١) تاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ٨٩، والعقد الفريد، طبع دار الكتاب ج ٤ ص ٤٨٥.

(٢) مروج الذهب ج ٣ ص ٢٣٧ و ٢٥٦، والطبري ج ١٠ ص ٣٣ و ٣٧، وعيون الأخبار لابن قتيبة ج ٢ ص ٢٥٢، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ٨٧، ٨٨، والكامل لابن الأثير ج ٤ ص ٣٢٦، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ١٢٩ و ١٧٣، وإمبراطورية العرب ص ٤٢٢، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٤٢، وشرح النهج للمعتزلي ج ٧ ص ١٥٥، وفيه: (إنه لم يخطب على منبركم هذا خليفة حق إلخ).. وبرواية أخرى فيه: (أقسم بالله قسماً براً، ما قام هذا المقام أحد بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أحق به من علي بن أبي طالب، وأمير المؤمنين هذا)..

٤٥

وقال المنصور في خطبة له: (وأكرمنا من خلافته، وميراثنا من نبيه..)(١) .

ولكنهم بعد المنصور ـ بل وحتى من زمن المنصور نفسه كما سيتضح ـ قد غيروا سلسلة الإرث هذه، وجعلوها عن طريق العباس، وولده عبد الله، ولكنهم أجازوا بيعة علي، لأن العباس نفسه كان قد أجازها.

كما سيأتي بيانه.. فكانت استدلالات الخلفاء ابتداء من المنصور ناظرة إلى الإرث عن هذا الطريق..

فنرى المنصور يبين في رسالة منه لمحمد بن عبد الله بن الحسن: أن الخلافة قد ورثها العباس في جملة ما ورثه من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنها في ولده(٢) .

وكان الرشيد يقول: (ورثنا رسول الله، وبقيت فينا خلافة الله)(٣) . وقال الأمين عندما بويع له، بعد موت أبيه الرشيد: (.. وأفضت خلافة الله، وميراث نبيه إلى أمير المؤمنين الرشيد..) (٤) .

ومدح البعض المأمون، وعرض بأخيه الذي غدر به، فقال في جملة أبيات له:

إلى غير ذلك مما لا مجال لنا لتتبعه.. ولنعد إلى ما كنا فيه أولاً، فنقول:

إن تغدروا جهلاً بوارث أحمد

ووصي كل مسدد وموفق(٥)

____________

(١) مروج الذهب ج ٣ ص ٣٠١، والطبري ج ١٠ ص ٤٣٢.

(٢) الطبري ج ١٠ ص ٢١٥، والعقد الفريد طبع دار الكتاب ج ٥ ص ٨١، إلى ٨٥، وصبح الأعشى ج ١ ص ٣٣٣، فما بعد، والكامل للمبرد، وطبيعة الدعوة العباسية..

(٣) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢١٧.

(٤) تاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١٦٣.

(٥) مروج الذهب ج ٣ ص ٣٩٩.

٤٦

دعوى الأخذ بثارات العلويين:

وأما ادعاؤهم: أنهم إنما خرجوا للأخذ بثارات العلويين، واستمرارهم على ربط الثورة بأهل البيت، حتى بعد نجاح ثورتهم، وتسلمهم لازمة الحكم والسلطان ـ وهذه هي الناحية الثانية من المرحلة الرابعة ـ فذلك أوضح من أن يخفى.. وقد تقدم قول محمد بن علي لبكير بن ماهان: (وسنأخذ بثأرهم..) يعني بثارات العلويين.. وتقدم أيضاً قول داوود ابن علي: (وإنما أخرجنا الآنفة من ابتزازهم حقنا، والغضب لبني عمنا..)..

ويقول السفاح، عندما أتي برأس مروان: (ما أبالي متى طرقني الموت، فقد قتلت بالحسين، وبني أبيه من بني أمية مائتين، وأحرقت شلو هشام بابن عمي زيد بن علي، وقتلت مروان بأخي إبراهيم)(١) .

ويقول صالح بن علي لبنات مروان: (ألم يقتل هشام بن عبد الملك، زيد بن علي بن الحسين، وصلبه في كناسة الكوفة؟. وقتل امرأة زيد بالحيرة، على يد يوسف بن عمرو الثقفي؟!

ألم يقتل الوليد بن يزيد يحيى بن زيد، وصلبه بخراسان؟!

____________

(١) مروج الذهب ج ٣ ص ٢٥٧ وفي شرح النهج للمعتزلي ج ٧ ص ١٣١، وحياة الإمام موسى بن جعفر للقرشي ج ١ ص ٣٣٧، نقلاً عن مختصر أخبار الخلفاء، هكذا. (.. وقد قتلت بالحسين ألفاً من بني أمية. إلى أن قال: وقتلنا سائر بني أمية بحسين، ومن قتل معه، وبعده من بني عمنا أبي طالب)..

٤٧

ألم يقتل الدعي عبيد الله بن زياد، مسلم بن عقيل بن أبي طالب بالكوفة؟!

ألم يقتل يزيد بن معاوية الحسين(١) ؟!.

وبرواية ابن أبي الحديد، أنه قال لهن: (.. إذن، لا نستبقي منكم أحداً، لأنكم قد قتلتم إبراهيم الإمام، وزيد بن علي، ويحيى بن زيد، ومسلم بن عقيل.

وقتلتم خير أهل الأرض حسيناً، وإخوته، وبنيه، وأهل بيته، وسقتم نساءه سبايا ـ كما يساق ذراري الروم ـ على الأقتاب إلى الشام..)(٢) .

ولا بأس بمراجعة ما قاله داوود بن علي عندما قتل ثمانين أموياً مرة واحدة(٣) .

وكذلك فإنهم ما لقبوا أبا سلمة الخلال، أول وزير في الدولة العباسية بـ‍ (وزير آل محمد)، وأبا مسلم الخراساني بـ‍ (أمين، أو أمير آل محمد)(٤) . إلا من أجل الحفاظ على ربط الدعوة بأهل البيت عليهم‌السلام ، ولتبقى ـ من ثم ـ محتفظة بقوتها، وحيويتها.

وأخيراً.. فلم يكن اتخاذهم السواد شعاراً إلا تعبيراً عن الحزن والأسى

____________

(١) الكامل لابن الأثير ج ٤ ص ٣٣٢، ومروج الذهب ج ٣ ص ٢٤٧، ولا بأس بمراجعة خطبة السفاح في مروج الذهب أيضاً ج ٣ ص ٢٥٧.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ٧ ص ١٢٩.

(٣) تاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ٩٢.

(٤) الفخري في الآداب السلطانية ص ١٥٥، ومروج الذهب ج ٣ ص ٢٧١، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٥٤، والطبري ج ١٠ ص ٦٠، وتاريخ التمدن الإسلامي، المجلد الأول، جزء ١ ص ١٥٢، وغيرهم، فإنه مما نص عليه أكثر المؤرخين..

٤٨

لما نال أهل البيت في عهد بني أمية(١) .

وهكذا. يتضح، بما لا مجال معه للشك: أنهم كانوا يستغلون سمعة العلويين، ودماءهم الزكية في محاولاتهم للوصول إلى الحكم، وتثبيت أقدامهم فيه..

بل إن من الملاحظ أن كثيراً من الثورات التي قامت بعد ثورة بني العباس، كانت تحاول ذلك ـ بطريقة أو بأخرى ـ أي أنها كانت تظهر للناس ارتباطها بأهل البيتعليهم‌السلام ، وأنها تحظى بتأييدهم، وموافقتهم، وكثير منها كان يرفع شعار: (الرضا من آل محمد).

نهاية المطاف..

وبعد كل ما تقدم.. يتضح لنا بجلاء، الأسلوب الذي انتهجه العباسيون، والخطة التي اتبعوها، من أجل كسب ثقة الناس بهم، وتأييدهم لهم، وصرف أنظار الحكام عنهم..

____________

(١) هذا يصح بالنسبة للملابس السوداء. وأما كون الرايات سوداء، فيحتمل أن يكون لأجل ذلك، حسبما صرح به ابن خلدون ص ٢٥٩، ويحتمل أن يكون لما ورد من أن راية عليعليه‌السلام يوم صفين كانت سوداء، على ما نص عليه فإن فلوتن في هامش: ص ١٢٦ من كتابه السيادة العربية، أو لأن رايات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حروبه مع الكفار كانت سوداء، يقول الكميت مشيراً إلى ذلك:

وإلا فارفعوا الرايات سوداً

على أهل الضلالة والتعدي

وفي صبح الأعشى ج ٣ ص ٣٧٠، نقلاً عن القاضي الماوردي في كتابه: (الحاوي الكبير): أن السبب في اختيارهم السواد هو أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد عقد في يوم حنين ويوم الفتح لعمه العباس راية سوداء. وفي صبح الأعشى أيضاً ج ٣ ص ٣٧١ نقل عن أبي هلال العسكري في كتابه (الأوائل) أن سبب ذلك هو قتل مروان لإبراهيم الإمام، حيث لبس شيعته السواد حدادا عليه، فلزمهم ذلك، وصار شعاراً لهم..

ونرجح أن حادثة قتل يحيى بن يزيد، ولبس الخراسانيين السواد عليه سبعة أيام، هي التي شجعت العباسيين على اتخاذ السواد شعاراً لهم، إظهارا للحزن والأسى لما نال أهل البيت في الدولة الأموية. ويذهب إلى هذا الرأي السيد عباس المكي في نزهة الجليس ج ١ ص ٣١٦. بل صرح البلاذري في أنساب الأشراف ج ٣ ص ٢٦٤ بما يدل على ذلك فراجع.

٤٩

وأيضاً الطريقة التي اتبعوها في إبعاد العلويين عن مجال السياسة، وأن بيعتهم لهم ما كانت إلا خداعاً وتمويهاً، من أجل تنفيذ خطتهم، وإنجاح دعوتهم..

كما وظهر أن كون الدعوة ـ في بادئ الأمر ـ باسم العلويين، لم يكن أمراً عفوياً، وتلقائياً. وإنما كان ضمن خطة دقيقة، ومدروسة، وضعت بعناية فائقة، كما توضحه لنا النصوص المتقدمة.

وظهر أيضاً: كيف أن العباسيين قد حرصوا كل الحرص على ربط الثورة بأهل البيتعليهم‌السلام ، وكانوا يعتمدون على هذا الربط كل الاعتماد، ويصرون، ويؤكدون عليه، كلما سنحت لهم الفرصة، وواتاهم الظرف، حتى عندما وصلوا إلى الحكم، وفازوا بالسلطان.

وقد انقاد الناس لهم في البداية، واستقامت لهم الأمور، ظنا منهم بحسن نيتهم، وسلامة طويتهم.

ولكن.. ماذا كانت النتيجة بعد ذلك، بالنسبة للناس عامة، وبشكل خاص بالنسبة للعلويين، الذين قامت الثورة باسمهم ونجحت بفضلهم؟! وماذا كان نصيبهم، ومصيرهم، من هذه الثورة ومعها؟!

هذا.. ما سوف نحاول الإجابة عليه فيما يأتي من الفصول.

مصدر الخطر على العباسيين

العلويون هم مصدر الخطر:

قد تقدم معنا: أن الدولة العباسية إنما قامت ـ في بداية أمرها ـ على الدعوة لخصوص العلويين، ثم لأهل البيت، ثم إلى الرضا من آل محمد.. وأن سر نجاحها ليس إلا ربطها بأهل البيتعليهم‌السلام . وإن كانت قد انحرفت فيما بعد، حيث تحكم العباسيون وتسلطوا على الأمة بدعوى القربى النسبية من الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٥٠

ومن هنا.. فإن من الطبيعي، أن يكون الخطر الحقيقي الذي يتهدد العباسيين، وخلافتهم، هو من جهة أبناء عمهم العلويين، الذين كانوا أقوى منهم حجة، وأقرب إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم، باعتراف العباسيين أنفسهم(١) ..

فادعاؤهم الخلافة إذن، له مبرراته الكاملة، سيما وأن من بينهم من له الجدارة والأهلية، ويتمتع بأفضل الصفات والمؤهلات لهذا المنصب من العلم، والعقل، والحكمة، وبعد النظر في الدين والسياسة. هذا بالإضافة إلى ما كان يكنه الناس لهم، من مختلف الفئات والطبقات، من الاحترام والتقدير، الذي نالوه بفضل تلك المميزات والصفات، وبفضل سلوكهم المثالي، وترفعهم عن كل المشينات، والموبقات.

أضف إلى ذلك كله: أن رجالات الإسلام، وأبطاله، كانوا هم آل أبي طالب (رضي الله تعالى عنه)، فأبو طالب مربي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكفيله، وعليعليه‌السلام وصيه وظهيره، وكذلك الحسن، والحسين، وعلي زين العابدين، وباقي الأئمة. ومنهم زيد بن علي الخارج على بني أمية، وغيرهم، ممن يطول المقام بذكرهم، (رضوان الله عليهم أجمعين).

ولقد كانت بطولات العلويين، ومواقفهم على كل شفة ولسان، وفي كل قلب وفؤاد، حتى لقد ألفت الكتب الكثيرة في وصف تلك البطولات، وبيان هاتيك المواقف..

وخلاصة الأمر: إنه لم يكن هناك مجال لإنكار نفوذ العلويين الواسع في تلك الفترة، أو تجاهله، فإن ذلك إما أن يكون عن قصر نظر، وقلة معرفة، أو مكابرة وعناداً.

____________

(١) سيأتي اعتراف عيسى بن موسى بذلك، واعتراف الرشيد للكاظمعليه‌السلام والمأمون للرضاعليه‌السلام في الكتاب التي سنورده في أواخر هذا الكتاب، وأيضاً قوله للرضاعليه‌السلام : أنتم والله أمس برسول الله رحماً، وبيعة السفاح والمنصور وغيرهم لمحمد بن عبد الله العلوي وكلام المنصور في مجلس البيعة يدل على ذلك أيضاً، إلى غير ذلك مما لا مجال لنا هنا لتتبعه واستقصائه.. وقد كان الخلفاء من بني العباس يدركون جيداً مقدار هذا النفوذ.

٥١

تخوف العباسيين من العلويين:

وقد كان الخلفاء من بني العباس يدركون جيداً مقدار هذا النفوذ، للعلويين، ويتخوفون منه، منذ أيامهم الأولى في السلطة. ومما يدل على ذلك:

أن السفاح، من أول عهده كان قد وضع الجواسيس على بني الحسن، حيث قال لبعض ثقاته، وقد خرج وفد بني الحسن من عنده: (قم بإنزالهم ولا تأل في ألطافهم، وكلما خلوت معهم، فأظهر الميل إليهم، والتحامل علينا، وعلى ناحيتنا. وأنهم أحق بالأمر منا، وأحص لي ما يقولون، وما يكون منهم في مسيرهم، ومقدمهم..)(١) .

وقد تنوعت هذه المراقبة، وتعددت أساليبها بعد عهد السفاح، يظهر ذلك لكل من راجع كتب التاريخ(٢) .

خوف المنصور من العلويين

ومما يدل على مدى تخوف العباسيين من العلويين وصية المنصور لولده المهدي، التي يحثه فيها على القبض على عيسى بن زيد العلوي، يقول المنصور: (.. يا بني، إني قد جمعت لك من الأموال ما لم يجمعه خليفة قبلي، وجمعت لك من الموالي ما لم يجمعه خليفة قبلي، وبنيت لك مدينة لم يكن في الإسلام مثلها. ولست أخاف عليك إلا أحد رجلين: عيسى بن موسى، وعيسى بن زيد. فأما عيسى بن موسى، فقد أعطاني من العهود والمواثيق ما قبلته، ووالله، لو لم يكن إلا أن يقول قولاً لما خفته عليك، فأخرجه من قلبك، وأما عيسى بن يزيد، فانفق هذه الأموال، واقتل هؤلاء الموالي، واهدم هذه المدينة، حتى تظفر به،

____________

(١) الطبري، طبع ليدن ج ١١ ص ٧٥٢، والعقد الفريد، طبع دار الكتاب العربي ج ٥ ص ٧٤، وتاريخ التمدن الإسلامي، وغير ذلك..

(٢) وقد اعترف المنصور نفسه بهذه المراقبة في بعض خطبه: فراجع: الطبري ج ١٠ ص ٤٣٢، ومروج الذهب ج ٣ ص ٣٠١.

٥٢

ثم لا ألومك..)(١) .

وليس تخوف المنصور إلى هذا الحد من عيسى بن زيد لعظمة خارقة في عيسى هذا، وإنما كل ما في الأمر أن المجتمع الإسلامي كان قد قبل ـ في تلك الفترة من الزمن ـ أن الخلافة الشرعية إنما هي في ولد عليعليه‌السلام . وإذا ما قام عيسى بن زيد بثورة، فإنه سوف يلقى تأييدا واسعا، فهو من جهة ابن زيد الشهيد، الثائر على بني أمية.

ومن جهة أخرى: كان من المعاونين لمحمد بن عبد الله العلوي ـ قتيل المدينة ـ الذي كان السفاح والمنصور قد بايعاه، حسبما تقدم، والذي ادعي على نطاق واسع ـ باستثناء الإمام الصادقعليه‌السلام ـ أنه مهدي هذه الأمة. ـ كما أنه ـ أي عيسى بن زيد ـ كان من المعاونين لإبراهيم أخي محمد بن عبد الله الآنف الذكر، والذي خرج بالبصرة، وقتل بباخمرى..

ومما يدل على مدى خوف المنصور من العلويين أنه: عندما كان مشغولا بحرب محمد بن عبد الله، وأخيه إبراهيم، كان لا ينام الليل في تلك الأيام. وأهديت له جاريتان، فلم ينظر إليهما، فكلم في ذلك، فنهر المتكلمة، وقال: (.. ليست هذه الأيام من أيام النساء، لا سبيل لي إليهما، حتى أعلم: أرأس إبراهيم لي، أم رأسي لإبراهيم؟)(٢) .

____________

(١) الطبري طبع ليدن ج ١٠ ص ٤٤٨.

وتحسن الإشارة هنا إلى أن الأموال التي خلفها المنصور للمهدي تبلغ ٦٠٠ مليون درهم، و ١٤ مليون دينار. راجع أمراء الشعر العربي في العصر العباسي ص ٣٥.

(٢) تاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ١٩٥، والطبري ج ١٠ ص ٣٠٦، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١١٤، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٩٣، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ١٨. وأنساب الأشراف ج ٣ ص ١١٨، ولكنه يذكر أنهما امرأتان من قريش كانتا قد خطبتا للمنصور.

٥٣

وهيئت له آنئذٍ عجينة من مخ وسكر، فاستطابها، فقال: (أراد إبراهيم أن يحرمني هذا وأمثاله)(١) .

وأرسل إلى كل باب من أبواب عاصمته ـ وهي الكوفة آنئذٍ ـ إبلاً ودواباً، حتى إذا أتى إبراهيم وجيشه من ناحية، هرب هو إلى الري من الناحية الأخرى(٢) .

وفي حربه ـ أي المنصور ـ مع محمد بن عبد الله اتسخت ثيابه جداً، حيث لم ينزعها عن بدنه أكثر من خمسين يوماً(٣) .

وكان لا يستطيع أن يتابع كلامه من كثرة همه(٤) .

وأخيراً.. فكم من مرة رأيناه يجلب الإمام الصادقعليه‌السلام ، ويتهدده ويتوعده، ويتهمه بأنه يدبر للخروج عليه وعلى سلطانه.

فكل ذلك يدل دلالة واضحة على مدى رعب المنصور، وخوفه من العلويين، وما ذلك إلا لإدراكه مدى ما يتمتعون به من التأكيد، في مختلف الطبقات، وعند جميع الفئات.

____________

(١) مروج الذهب ج ٣ ص ٢٩٨. وهذا يعبر بوضوح عن نوعية تفكير خليفة المسلمين ونوعية طموحاته.

(٢) الطبري ج ١٠ ص ٣١٧، طبع ليدن، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١١٣. ومرآة الجنان ج ١ ص ٢٩٩، وشرح ميمية أبي فراس ص ١١٦، وفرج المهموم في تاريخ علماء النجوم ص ٢١٠، نقلاً عن تجارب الأمم لابن مسكويه ج ٤.

(٣) الطبري ج ١٠ ص ٣٠٦، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ١٩٥، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ١٨، والمحاسن والمساوي ص ٣٧٣، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٩٣، وأنساب الأشراف للبلاذري ج ٣ ص ١١٨.

(٤) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٩٣، وقال اليافعي في مرآة الجنان ج ١ ص ٢٩٨، ٢٩٩: (.. ولم يأو إلى فراش خمسين ليلة، وكان كل يوم يأتيه فتق من ناحية. هذا، ومئة ألف سيف كامنة له بالكوفة، قالوا: ولولا السعادة لسل عرشه بدون ذلك).

٥٤

حتى إنه عندما سئل عن المبايعين لمحمد بن عبد الله أجاب: (.. ولد علي، وولد جعفر، وعقيل، وولد عمر بن الخطاب، وولد الزبير بن العوام، وسائر قريش، وأولاد الأنصار)(١) .

وسيمر معنا أن المنصور ادعى أن ولده هو المهدي، عندما رأى أن الناس ـ ما عدا الإمام الصادقعليه‌السلام ـ قد قبلوا بمهدوية محمد بن عبد الله العلوي. وسيمر معنا أيضاً طرف من معاملته للعلويين فيما يأتي إن شاء الله تعالى.

خوف المهدي من العلويين:

وأما خوف المهدي من العلويين، فذلك لعله من أوضح الواضحات، فمثلا نرى أنه: عندما أخرج الإمام الكاظمعليه‌السلام من السجن، يطلب منه أن لا يخرج عليه، ولا على أحد من ولده(٢) .

كما أنه قد مكث مدة يطلب عيسى بن زيد، والحسن بن إبراهيم، بعد هربه من السجن.. فقال المهدي يوماً لجلسائه: (لو وجدت رجلاً من الزيدية، له معرفة بآل حسن، وبعيسى بن زيد، وله فقه. فاجتلبه عن طريق الفقه، فيدخل بيني وبين آل حسن، وعيسى بن زيد)، فدله الربيع على يعقوب بن داوود، فلم يزل أمره يرتفع عند الخليفة المهدي، حتى استوزره، وفوضه جميع أمور الخلافة، وخرج كتابه على الدواوين

____________

(١) مروج الذهب ج ٣ ص ٢٩٤، ٢٩٥.

(٢) راجع: مروج الذهب، وابن خلكان: ترجمة الإمام الكاظم، وفصل الخطاب، وينابيع المودة، وكشف الغمة، ومرآة الجنان، وصفة الصفوة.

وصرح في ينابيع المودة ص ٣٨٢، ٣٨٣ باتفاق المؤرخين على ذلك.

٥٥

بأنه: قد آخاه(١) . كل ذلك من أجل أن يدله على الحسن بن إبراهيم، وعيسى بن زيد، مع أن يعقوب هذا كان قد سجنه المنصور، لخروجه عليه مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، والمهدي هو الذي أطلقه..

ولكنه لما لم يدله على عيسى بن زيد اتهمه بأنه: يمالئ الطالبيين فسجنه(٢) وبقي في السجن إلى زمن الرشيد، فأخرجه. وقد كف بصره وصار شعره كالأنعام..

خوف الرشيد من العلويين:

وأما الرشيد (الذي ثارت الفتن في زمنه بين أهل السنة والرافضة(٣) ،

____________

(١) الطبري، طبع ليدن ج ١٠ ص ٤٦٤، ٥٠٧، ٥٠٨، ومروج الذهب ج ٣ ص ٣١٢، والفخري في الآداب السلطانية ص ١٨٤، ١٨٥، وليراجع: الوزراء والكتاب ص ١٥٥ وغير ذلك. وسيأتي في فصل: ظروف البيعة المزيد من الكلام حول نفوذ يعقوب هذا.. ونكتفي هنا بالقول: إنه قد بلغ من نفوذه، أن جاز لبشار أن يقول أبياته المشهورة:

بني أمية هبوا طال نومكـــم

إن الخليفة يعقوب بن داوود

ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا

خليفة الله بين الزق والعـود

(٢) مروج الذهب ج ٣ ص ٣١٢، وضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٢، والطبري، وغير ذلك. وفي مرآة الجنان ج ١ ص ٤١٩ وغيره: أنه حبسه في بئر، وبنى عليه قبة، وليراجع الوزراء والكتاب ص ١٥٥ أيضاً.

وقد دخل مروان بن أبي حفصة على المهدي بعد أن سجن يعقوب، وقال له: (إن يعقوب رجل رافضي)..

ومع ذلك.. فإننا نرى البعض يتهم يعقوب هذا بأنه هو الذي وشى للرشيد بالإمام موسى ابن جعفرعليه‌السلام ، فراجع عيون أخبار الرضا ج ١ ص ٧٣، وغيره..

(٣) النجوم الزاهرة ج ٢ ص ٧٧.

٥٦

فقد كان معنياً بالمسألة عن آل علي، وكل من كان ذا نباهة وشأن منهم، كما سيأتي.

وقضيته مع يحيى بن عبد الله بن الحسن، الذي كان قد خرج في الديلم، وحالته السيئة، وهمومه في أيام خروجه، أشهر من أن تحتاج إلى بيان. وكيف لا تأخذه الهموم، وتذهب به الوساوس، وقد اتبع يحيى (خلق كثير، وجم غفير، وقويت شوكته، وارتحل إليه الناس من الكور والأمصار، فانزعج لذلك الرشيد، وقلق من أمره). وكان الساعي بالصلح بينه وبين يحيى هو الفضل بن يحيى، وبسبب تمكنه من إخماد ثورة يحيى عظمت منزلته عند الرشيد جداً، وفرح بذلك الصلح فرحاً عظيماً(١) . وإن كان قد غدر بيحيى بعد ذلك، كما هو معروف ومشهور..

كما أنه عندما ذهب إلى المدينة لم يعط الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ، سوى مائتي دينار، رغم أنه كان يعطي من لا يقاسون به الآلاف منها، وكان اعتذاره عن ذلك لولده المأمون، أنه لو أعطاه أكثر من ذلك لم يأمن أن يخرج عليه من الغد مئة ألف سيف من شيعته، ومحبيه صلوات الله وسلامه عليه(٢) .

ثم عاد وسجنه بعد ذلك بحجة أنه كان يجبى إليه الخراج، ثم يدس إليه السم، ويتخلص منه، وذلك هو مصير أكثر الأئمة على يد الخلفاء قبله وبعده.

____________

(١) راجع في ذلك كله: البداية والنهاية ج ١٠ ص ١٦٧، وعمدة الطالب، طبع بيروت ص ١٢٤، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٩٠.

(٢) عيون أخبار الرضا ج ١ ص ٩٢، والبحار ج ٤٨ ص ١٣١، ١٣٢.

وقد رأينا أن العباسيين ابتداء من المنصور، بل السفاح ـ مع الإمام الصادقعليه‌السلام ـ كانوا دائما يتهددون الأئمة ـ الذين ما كانوا يجدون الفرصة لأي تحرك، ومن أي نوع، كما سنوضحه ـ ويتهمونهم بأنهم كانوا يدبرون في الخفاء للخروج عليهم، ليجدوا الوسيلة من ثم ـ للتضييق عليهم، والمبرر لسجنهم، ومصادرة أموالهم و و. وكان الأئمة ينفون ذلك، ويدحضون تلك التهم باستمرار.. لكنهم ما كانوا يقبلون منهم ذلك!!

٥٧

وأما في زمن المأمون!

وأما في زمن المأمون: فقد كان الأمر أعظم، وأمر، وأدهى، حيث قد شملت الثورات والفتن الكثيرة من الولايات والأمصار، حتى لم يعد يعرف المأمون من أين يبدأ، ولا كيف يعالج. وأصبح يرى، ويؤلمه أن يرى مصيره، ومصير خلافته في مهب الريح، تتقاذفه الأنواء، ويضري به الأعصار.

عقدة الحقارة لدى العباسيين:

وكان ذلك بطبيعة الحال يزيد من رعب العباسيين، ويضاعف من مخاوفهم.. سيما بملاحظة أنهم كانوا يعيشون عقدة الحقارة والمهانة.

يقول أبو فراس مشيراً إلى ذلك:

ثـم ادعاها بنو العباس ملكهم

ومـا لـهم قـدم فيها ولا قدم

لا يذكرون إذا ما معشر ذكروا

ولا يـحكم فـي أمر لهم حكم

ولا رآهـم أبو بكر وصاحبه

أهلا لما طلبوا منها وما زعموا

فـهل هم يدعوها غير واجبة

أم هل أئمتهم في أخذها ظلموا

وقد كتب أبو مسلم للمنصور، من جملة رسالة له: (.. وأظهركم الله بعد الإخفاء، والحقارة والذل، ثم استنقذني بالتوبة الخ)(١) .

____________

(١) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٦٤. وغيره.

٥٨

وفي رسالة أخرى: (.. حتى عرفكم من كان جهلكم)(١) .

بل لقد صرح المنصور بذلك لعمه عبد الصمد بن علي، حيث قال له: (نحن بين قوم رأونا بالأمس سوقة، واليوم خلفاء، فليس تتمهد هيبتنا إلا باستعمال العقوبة، ونسيان العفو) كما سيأتي.

في مواجهة الخطر:

وإذا كان العباسيون يدركون: أن الخطر الحقيقي الذي يتهددهم، إنما هو من قبل أبناء عمهم العلويين، فإن عليهم إذن. أن يتحركوا. أن يفعلوا شيئاً. أن يواجهوا الخطر المحدق بهم بكل وسيلة، وبأي أسلوب كان. سيما وهم يشهدون عن كثب سرعة استجابة الناس للعلويين، وتأييدهم، ومساندتهم لكل دعوة من قبلهم.

فكيف عالج العباسيون الموقف؟!.

وما هو مدى نجاحهم في ذلك؟ إن كان قدر لهم النجاح!!.

سياسة العباسيين ضد العلويين

مما سبق:

قد تقدم معنا بعض ما يدل على مدى نفوذ العلويين، وعلى المكانة التي كانوا يتمتعون بها على العموم. وأنهم هم الذين كانوا يشكلون الخطر الحقيقي على العباسيين، ومركزهم في الحكم..

وقد كان العباسيون يدركون بالفعل هذه الحقيقة، فكان عليهم أن يبعدوهم عن مجال السياسة بأي وسيلة كانت وأن يحدوا ما استطاعوا من نفوذهم، ويضعفوا ما أمكنهم من قوتهم..

وقد اتبعوا من أجل ذلك أساليب شتى، وطرق متنوعة: فحاولوا في بادئ الأمر أن يقارعوهم الحجة بالحجة..

____________

(١) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٦٩، والإمامة والسياسة ج ٢ ص ١٣٣، وغير ذلك.

٥٩

تطوير نظرية الإرث:

وكان من جملة أساليبهم في ذلك أنهم غيروا وبدلوا في السلسلة، التي كانوا يواجهون بها الناس في تقريرهم لشرعية خلافتهم من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وذلك لأنهم كانوا في بداية أمرهم يصلون حبل وصايتهم بأمير المؤمنينعليه‌السلام ، ثم منه إلى ولده محمد بن الحنفية، ثم إلى ابنه أبي هاشم، ثم إلى علي بن عبد الله بن العباس، فإلى ولده محمد بن علي، فإبراهيم الإمام، ثم منه إلى أخيه السفاح(١) وهكذا..

هذا.. مع إنكارهم لشرعية خلافة أبي بكر وعمر، وعثمان، وغيرهم من خلفاء الأمويين، وغيرهم.

ويتضح إنكارهم وتبرؤهم هذا من كثير من النصوص التاريخية. فمن ذلك قصة أبي عون مع المهدي، التي ستأتي في بعض هوامش هذا الفصل.

ومن ذلك أيضاً قول أبي مسلم في خطبته في أهل المدينة في السنة التي حج فيها في عهد السفاح، قال: (.. وما زلتم بعد نبيه تختارون تيميا مرة، وعدوياً مرة، وأسدياً مرة وسفيانياً مرة، ومروانياً مرة، حتى جاءكم من لا تعرفون اسمه، ولا بيته (يعني نفسه) يضربكم بسيفه، فأعطيتموها عنوة، وأنتم صاغرون، ألا وإن آل محمد أئمة الهدى، ومنار سبيل التقى، القادة الذادة السادة الخ(٢) . وتقدم قول داوود ابن علي: (لم يقم فيكم إمام بعد رسول الله الخ..) وروى أبو سليمان الناجي، قال: (جلس المهدي يوماً يعطي قريشاً صلات لهم، وهو ولي عهد، فبدأ ببني هاشم، ثم بسائر قريش. فجاء السيد أي (الحميري)، فرفع إلى الربيع حاجب المنصور رقعة مختومة، وقال: إن فيها نصيحة للأمير، فأوصلها إليه. فأوصلها.

فإذا فيها:

____________

(١) تاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ١٧٣، ومروج الذهب ج ٣ ص ٢٣٨، ووفيات الأعيان ج ١ ص ٤٥٤، ٤٥٥، طبع سنة ١٣١٠، وإمبراطورية العرب ص ٤٠٦، وغير ذلك، وقد أشرنا إلى أن هذه هي عقيدة الكيسانية، فراجع.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ٧ ص ١٦١، ١٦٢.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

لهم بأي وجه أن يأخذوا شيئا من الخمس.

أمّا ما يقوله بعض السواد بأنّ السّادة يمكنهم أخذ الخمس حتى ولو كان ميزاب بيتهم من ذهب فهو كلام ساذج ولا أساس له أبدا.

ثانيا : إنّ المحتاجين والضعفاء من سادات بني هاشم لا يحق لهم أخذ شيء من الزكاة ، فلهذا جاز لهم أن يأخذوا من هذا القسم من الخمس فحسب.(١)

ثالثا : إذا زاد القسم المختص لبني هاشم عن احتياجاتهم فإنّه يرجع إلى بيت المال حتى ينفق في مصارف أخرى ، كما أنّه إذ نقص هذا السهم عن حاجتهم يدفع الباقي من بيت المال إليهم أو من سهم الزكاة.

وبملاحظة تلك النقاط الثلاث يتّضح لنا عدم وجود فرق ـ في الواقع ـ من النّاحية الماديّة بين السادة وغيرهم.

فالمحتاجون من غيرهم يمكنهم سدّ حاجتهم من الزّكاة ويحرمون من الخمس ، والمحتاجون من السادة يسدّون حاجتهم من الخمس ويحرمون من الزّكاة.

فيوجد في الحقيقة صندوقان ، هما صندوق الخمس وصندوق الزكاة ، فيحق لكل من القسمين الأخذ من أحد الصندوقين وبصورة التساوي فيما بينهما ، أي ما يحتاجه كلّ لعام واحد (فتأمل).

فالذين لم يمعنوا النظر في هذه الشروط والخصوصيات تصوّروا من بيت المال أكثر من غيرهم أو أنّهم يتمتعون بامتياز خاص.

والسؤال الوحيد الذي يطرح نفسه هنا هو : إذا قلنا بعدم الفرق بين الإثنين آخر الإمر ، فما جدوى هذه الخطة إذا؟!

ويمكن أن ندرك جواب هذا التساؤل بملاحظة شيء واحد ، وهو أنّ بين

__________________

(١) إنّ حرمة أخذ بني هاشم الزكاة مسلم بها وقد وردت في أكثر كتب الحديث وفتاوى العلماء وكتبهم الفقهية ، فهل يعقل بأنّ الإسلام قد فكّر في شأن الفقراء والمحتاجين من غير بني هاشم ولم يعالج قضية المحتاجين من بني هاشم؟ فتركهم لحالهم.

٤٤١

الزكاة والخمس بونا شاسعا ، إذ أنّ الزكاة من ضرائب الأموال العامّة للمجتمع الإسلامي فتصرف عموما في هذه الجهة ، ولكن الخمس من ضرائب الحكومة الإسلامية فيصرف على القيادة والحكومة الإسلامية وتؤمن حاجتها منه.

فالتحريم على السادة من مدّ أيديهم للأموال العامّة ، «الزّكاة» كان في الحقيقة ليجتنبوا عن هذا المال باعتبارهم أقارب النّبي ، ولكيلا تكون ذريعة بيد الأعداء بأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سلط أقرباءه على الأموال العامّة.

إلّا أنّه ـ من جانب آخر ـ ينبغي سدّ حاجة الضعفاء والفقراء من السادة ، لذلك جعلت هذه الخطة لسدّ حاجتهم من ميزانية الحكومة الإسلامية لا من الميزانية العامّة ففي الحقيقة أنّ الخمس ليس امتيازا لبني هاشم ، بل هو لإبعادهم من أجل الصالح العام ولئلا ينبعث سوء الظن بهم(١) .

والذي يسترعي النظر أنّ هذا الإمر أشارت إليه أحاديث الشيعة والسنة ، ففي حديث عن الإمام الصادق نقرأ : «أنّ أناسا من بني هاشم أتوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسألوه أن يستعملهم على صدقات المواشي ، وقالوا : يكون لنا هذا السهم الذي جعل اللهعزوجل للعاملين عليها فنحن أولى به ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا بني عبد المطلب (هاشم) إن الصدقة لا تحل لي ولا لكم ، ولكنّي وعدت الشفاعة ، إلى أن قال : «أتروني مؤثرا عليكم غيركم»(٢) .

ويدل هذا الحديث على أن بني هاشم كانوا يرون في ذلك الأمر حرمانا ، وقد وعدهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يشفع لهم.

ونقرأ حديثا في صحيح مسلم الذي يعد من أهم مصادر الحديث عند أهل السنة ، خلاصته أنّ العباس وربيعة بن الحارث جاء إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطلبا منه أن

__________________

(١) وإذا لاحظنا أنّ في بعض الرّوايات التعبير بـ «كرامة لهم من أوساخ الناس» فهو ليقنع بني هاشم من هذه الحرمة من جانب ، وليفهم الناس أن يؤدوا الزّكاة إلى المحتاجين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، ص ١٨٦.

٤٤٢

يأمر ابنيهما ـ وكانا فتيين وهما عبد المطلب بن ربيعة والفضل بن العباس ـ بجمع الزكاة ليتمكنا أن يأخذا سهما منه شأنهما كشأن الآخرين ، ليؤمّنا لنفسيهما المال الكافي لزواجهما ، فامتنع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمر بسد حاجتهما عن طريق آخر وهو الخمس.

ويستفاد من هذا الحديث الذي يطول شرحه أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مصرّا على أبعاد أقاربه عن الحصول على الزكاة التي هي من أموال عامّة الناس.

من مجموع ما قلناه يتّضح أنّ الخمس ليس امتيازا للسّادة ، بل هو نوع من الحرمان لحفظ المصالح العامّة

٧ ـ ما هو المراد من سهم الله؟

إنّ ذكر سهم على أنّه سهم الله ، للتأكيد على أهمية مسألة الخمس وإثباتها ، ولتأكيد ولاية الرّسول والقيادة الإسلامية وحاكمية النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا.

أي كما أنّ الله جعل سهما باسمه وهو أحق بالتصرف فيه ، فقد أعطى النّبي والإمام حق الولاية والتصرف فيه كذلك ، إلّا فإنّ سهم الله يجعل تحت تصرف النّبي أو الإمام يصرفه في المكان المناسب ، وليس لله حاجة في سهم معين.

* * *

٤٤٣

الآيات

( إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤) )

التّفسير

الأمر الذي لا بدّ منه :

يعود القرآن في هذه الآيات الكريمة ـ ولمناسبة الكلام في الآيات السابقة إلى يوم الفرقان يوم معركة بدر وانتصار المسلمين لمؤزر في ذلك الموقف الخطير ـ يعود ليعرب عن أجزاء من فصول تلك المعركة ، ليطلع المسلمون على

٤٤٤

أهمية ذلك النصر العظيم.

فتقول الآية الأولى من الآيات محل البحث :( إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى ) .

«العدوة» مأخوذة من «العدو» على زنة «السّرو» ومعناها في الأصل التجاوز ، ولكنّها تطلق على أطراف كل شيء ، وحواشيه ، لأنّها تتجاوز الحدّ الوسط إلى إحدى الجوانب ، وجاءت هذه الكلمة في هذه الآية بهذا المعني أي «الطرف ، والجانب».

«والدنيا» مأخوذة من الدنّو ، على وزن العلوّ وتعني الأقرب ، ويقابل هذا اللفظ الأقصى والقصوى.

وكان المسلمون في الجانب الشمالي من ميدان الحرب الذي هو أقرب إلى جهة المدينة ، وكان الأعداء في الجانب الجنوبي وهو الأبعد.

ويحتمل أن يكون المعنى هو أنّ المسلمين لاضطرارهم كانوا في القسم الأسفل في الميدان ، وكان الأعداء في القسم الأعلى منه وهو يعدّ ميزة لهم.

ثمّ تعقّب الآية قائلة :( وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ) .

وكما رأينا من قبل فإنّ أبا سفيان حين علم بتحرّك المسلمين غيّر مسير قافلته إلى جهة أخرى على جانب البحر الأحمر حتى صار قريبا من مكّة ، ولو أنّ المسلمين لم يضلّوا أثر القافلة فلعلهم كانوا يتبعونها ، ولا يوفقون لمواجهة الأعداء ومنازلتهم في معركة بدر التي تحقق فيها النصر العظيم والفتح المبين.

وبغض النظر عن كل ذلك فإنّ عدد قوات المسلمين وإمكاناتهم كان أقلّ من قوات الأعداء من جميع الوجوه ، لهذا فإنّ الآية الكريمة تقول :( وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ ) .

لأنّ الكثير منكم سيدركون ضعفهم الظاهري قبال الأعداء فيتقاعسون عن قتالهم ، ولكن الله جعلكم إزاء أمر مقدر ، وكما تقول الآية :( لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ

٤٤٥

مَفْعُولاً ) .

وليعرف الحق من الباطل في ظلال ذلك النصر غير المتوقع والمعجزة الباهرة و( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) .

والمراد من «الحياة» و «الهلكة» هنا هو الهداية والضلال ، لأنّ يوم بدر الذي سمّي يوم الفرقان تجلّى فيه الإمداد الإلهي لنصرة المسلمين ، وثبت فيه أن لهؤلاء علاقة بالله وأنّ الحق معهم.

وتعقبّ الآية قائلة :( وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ) .

فقد سمع نداء استغاثاتكم ، وكان مطلعا على نيّاتكم ، ولذلك أيّدكم بنصره على أعدائكم.

إنّ القرائن تدلّ عن أنّ بعض المسلمين لو كانوا يعرفون حجم قوّة أعدائهم لامتنعوا عن مواجهتهم ، مع أنّ طائفة أخرى من المسلمين كانوا مطيعين للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مواجهة جميع الشدائد ، لهذا فإنّ الله جعل الأمور تسير بشكل يلتقي فيه المسلمون ـ شاءوا أم أبوا ـ مع أعدائهم ، فكانت المواجهة المصيرية.

وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد رأى فيه منامه من قبل أن قلّة المشركين تقاتل المسلمين ، وكانت هذه الرؤيا إشارة إلى النصر وبشارة به ، فقد رواهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمسلمين فازدادت العزائم في الزحف نحو معركة بدر.

وبالطبع فإنّ رؤيا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في منامه كانت صحيحة ، لأنّ قوّة الأعداء وعددهم بالرغم من كثرتهم الظاهرية ، إلّا أنّهم كانوا قلّة في الباطن ضعفاء غير قادرين على مواجهة المسلمين ، ونحن نعرف أنّ الرؤيا ذات تعبير وإشارة ، وأن الرؤيا الصحيحة هي التي تكشف الوجه الباطني للأمور.

والآية الثّانية : من الآيات محل البحث تشير إلى الحكمة من هذا الأمر ، والنعمة التي أولاها سبحانه وتعالى للمسلمين عن هذا الطريق ، فتقول :( إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ ) ولهبطت معنوياتكم ، ولم يقف الأمر

٤٤٦

عند هذا الحدّ ، بل لأدّى ذلك إلى التنازع واختلاف الكلمة( وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ ) وأنقذ الأمر بواسطة الرؤيا التي أظهرت الوجه الباطني لجيش الأعداء ، ولأنّ الله يعرف باطنكم( إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) .

وتذكّر الآية الأخرى بمرحلة من مراحل معركة بدر تختلف عن سابقتها ، ففي هذه المرحلة وفي ظل خطاب النّبي المؤثر فيهم والبشائر الرّبانية ، ورؤية حوادث حال التهيؤ للقتال ـ كنزول المطر لرفع العطش ولتكون الرمال الرخوة صالحة لساحة المعركة ـ تجددت بذلك المعنويات وكبر الأمل بالنصر وقويت عزائم القلوب ، حتى صاروا يرون الجيش المعادي وكأنّه صغير ضعيف لا حول ولا قوة له ، فتقول الآية المباركة :( وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً ) .

أمّا العدوّ فإنّه لما كان يجهل معنويات المسلمين وظروفهم ، فكان ينظر إلى ظاهرهم فيراهم قليلا جدّا ، بل رآهم أقل ممّا هم عليه ، إذ تقول الآية في الصدد( وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ) .

حتى روي عن أبي جهل أنّه قال : إنّما أصحاب محمّد أكلة جزور ، وفي ذلك كناية عن منتهى القلّة. أو أنّهم سيحسمون الأمر معهم في يوم واحد من الغداة حتى العشية ، وقد جاء في الأخبار أنّهم كانوا ينحرون كل يوم عشرة من الإبل لطعامهم ، لأنّ عدد جيش قريش كان حوالي ألف مقاتل.

وعلى كل حال : فقد كان تأثير هذين الأمرين كبيرا في نصر المسلمين ، لأنّهم من جهة رأوا جيش العدو قليلا فنزال كل خوف ورعب من نفوسهم ، ومن جهة أخرى ظهر عدد المسلمين قليلا في عين العدو ، كيلا يترددوا في قتال المسلمين وينصرفوا عن الحرب التي أدت في النهاية إلى هزيمتهم.

لهذا فإنّ الآية تعقب على ما سبق قائلة :( لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً ) .

فلم تنته هذه المعركة وحدها وفق سنة الله فحسب ، بل إن إرادته نافذة في كل شيء( وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ) .

٤٤٧

وفي الآية (١٣) من سورة آل عمران إشارة إلى المرحلة الثّالثة من قتال يوم بدر ، إذ تشير إلى أنّ الأعداء لمّا اشتعل أوار الحرب ورأوا الضربات الشديدة لجيش الإسلام تنزل على رؤوسهم كالصواعق ، أصابهم الذعر والخوف الشديد ، فأحسوا عندئذ وكأنّ جيش الإسلام قد ازداد عدده وتضاعف أضعاف ما كان عليه ، فانهارت معنوياتهم وأدّى هذا الأمر إلى هزيمتهم وتمزقهم.

وممّا ذكرناه آنفا يتّضح أنّه لا يوجد أي تناقض ، لا بين الآيات محل البحث ، ولا بينها وبين الآية (١٣) من سورة آل عمران ، لإنّ كلّا من هذه الآيات تبيّن مرحلة من مراحل المعركة.

فالمرحلة الأولى : هي ما قبل القتال ، وهي ما ورد فيها عن رؤيا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في منامه ورؤيته جيش المشركين قليلا.

والمرحلة الثّانية : هي نزولهم في أرض بدر ومعرفة بعض المسلمين بعدد الأعداء وعدده وخوف بعضهم وخشيته من قتالهم.

والمرحلة الثّالثة : هي حصول المواجهة المسلحة وما أنعمه الله عليهم ، وما رأوه من مشاهد قلّلت عدد أعدائهم في أعينهم «فتأملوا بدقّة!».

* * *

٤٤٨

الآيات

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧) )

التّفسير

ستة أوامر أخرى في شأن الجهاد :

قال المفسّرون : إنّ أبا سفيان بعد ما استطاع النجاة بقافلة قريش التجارية من مواجهة المسلمين ، أرسل مبعوثا إلى قريش الذاهبين إلى ساحة بدر ودعاهم إلى العودة ، لأنّه رأى أن لا حاجة إلى القتال ، لكن أبا جهل هذا المغرور والمتعصب والمتكبر أقسم أن لا يرجعوا حتى يبلغوا أرض بدر «وكانت بدر قبل هذه المعركة من مراكز اجتماع العرب ، وتقام فيها سوق تجارية كل عام» ويمكثوا فيها ثلاثة أيّام ، وينحروا الإبل ويأكلون ما يشتهون ويشربون الخمر ، وتغني لهم المغنيّات ، حتى يسمع جميع العرب بهم وتثبت بذلك قوتهم وقدرتهم!

٤٤٩

لكن أمرهم آل إلى الهزيمة فشربوا كؤوس المنايا المترعة بدلا من كؤوس الخمر ، وجلست المغنيات ينحن على جنائزهم!!

والآيات محل البحث تشير إلى هذا الموضوع ، وتنهى المسلمين عن مثل هذه الأعمال ، وتضع لهم تعاليم جديدة في شأن الجهاد إضافة إلى ما سبق من هذه الأمور.

وبصورة عاملة فإنّ في الآيات محل البحث ستة أوامر للمسلمين هي :

١ ـ أنّها تقول أوّلا :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا ) أي أن إحدى علائم الإيمان هي ثبات القدم في جميع الأحوال ، وخاصّة في مواجهة الأعداء.

٢ ـ( وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) .

ولا ريب أنّ المراد من ذكر الله هنا ليس هو الذكر اللفظي فحسب ، بل حضور القلب ، وذكر علمه تعالى وقدرته غير المحدودة ورحمته الواسعة ، فهذا التوجه إلى الله يقوّي من عزيمة الجنود المجاهدين ، ويشعر الجندي بأنّ سندا قويّا لا تستطيع أية قدرة في الوجود أن تتغلب عليه يدعمه في ساحة القتال ، وإذا قتل فسينال السعادة الكبرى ويبلغ الشهادة العظمى ، وجوار رحمة الله ، فذكر الله يبعث على الاطمئنان والقوّة والقدرة والثبات في نفسه.

بالإضافة إلى ذلك ، فذكر الله وحبّه يخرجان حبّ الزوجة والمال ، والأولاد من قلبه ، فإنّ التوجه إلى الله يزيل من القلب كل ما يضعفه ويزلزله ، كما يقول الإمام علي بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام في دعائه المعروف ـ في الصحيفة السجادية ـ بدعاء أهل الثغور : «وأنسهم عند لقائهم العدوّ ذكر دنياهم الخدّاعة ، وامح عن قلوبهم خطرات المال الفتون ، واجعل الجنّة نصب أعينهم».

٣ ـ كما أنّ من أهم أسس المبارزة والمواجهة هو الالتفات للقيادة وإطاعة أوامر القائد والآمر ، الآمر الذي لولاه لما تحقق النصر في معركة بدر ، لذلك فإنّ الآية بعدها تقول :( وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ ) .

٤ ـ( وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا ) لأنّ النزاع والفرقة امام الأعداء يؤدي إلى

٤٥٠

الضعف وخور العزيمة ، ونتيجة هذا الضعف والفتور هي ذهاب هيبة المسلمين وقوتهم وعظمتهم( وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ) .

«والريح» في اللغة ، هي الهواء. فالنزاع يولد الضعف والوهن.

وأمّا ذهاب الريح ، فهو إشارة لطيفة إلى زوال القوّة والعظمة ، وعدم سير الأمور كما يرام ، وعدم تحقق المقصود ، لأنّ حركة الريح فيما يرام توصل السفن إلى مقاصدها ، ولما كانت الريح في ذلك العصر أهم قوّة لتحريك السفن فقد كانت ذات أهمية قصوى يؤمئذ.

وحركة الرّيح في الرّوايات والبيارق تدل على ارتفاع الرّاية التي هي رمز القدرة والحكومة ، والتعبير آنف الذكر كناية لطيفة عن هذا المعنى.

٥ ـ ثمّ تأمر الآية بالاستقامة بوجه العدوّ ، وفي قبال الحوادث الصعبة ، فتقول :( وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) .

والفرق بين ثبات القدم في الأمر الأوّل ، والاستقامة والصبر في الأمر الخامس ، هو من جهة أن ثبات القدم يمثل الناحية الظاهرية ، «الجسمية» أمّا الاستقامة والصبر فليسا ظاهريين ، بل هما أمران نفسيان ومعنويان.

٦ ـ وتدعو الآية الأخيرة ـ من الآيات محل البحث ـ المسلمين إلى اجتناب الأعمال الساذجة البلهاء ، ورفع الأصوات الفارغة ، وتشير إلى قضية أبي سفيان وأسلوب تفكيره هو وأصحابه ، فتقول :( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) .

فأهدافهم غير مقدسة ، وكذلك أساليبهم في الوصول إليها ، ولقد رأينا كيف أبيدوا وتلاشى كلّ ما جاءوا به من قوّة وعدّة ، وسقط بعضهم مضرجا بدمائه في التراب ، وأسبل الآخرون عليهم الدّموع والعبرات في مأتمهم ، بدل أن يشربوا الخمر في حفل ابتهاجهم ، وتختتم الآية بالقول :( وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ) .

* * *

٤٥١

الآيات

( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩) وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١) )

التّفسير

المشركون والمنافقون ووساوس الشيّطان :

مرّة أخرى نلاحظ في هذه الآيات تجسيد جانب آخر من معركة بدر بما يتناسب والآيات السابقة في هذا الشأن ، أو بما يتناسب والآية الأخيرة التي

٤٥٢

تكلمت عن أعمال المشركين الشيطانيّة في يوم بدر.

فكما أنّ دعاة الحق مؤيدون بالله وملائكة في نهجهم الذي سلكوه ، فإنّ أتباع الباطل والضالين متأثرون بوساوس الشياطين وإغواءاتهم.

وقد مرّ في بعض الآيات السابقة كيف أن الملائكة دافعت عن المقاتلين المسلمين في بدر (ومرّ تفسير ذلك). فإنّ أوّل آية من الآيات محل البحث تتكلم عن دفاع الشياطين عن المشركين ، فتبدأ بالقول :( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ) .

إنّ تزيين الشيطان للعمل يكون عن طريق تحريك الأهواء والشهوات والرّذائل ، فيتزين للإنسان عمله حتى ينظر إليه باعجاب ويعده عملا عقلائيا من جميع الجهات ، ويراه منطقيا نبيلا.

ثمّ تقول الآية :( وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ ) .

ولن آلو جهدا في الدفاع عنكم ، كما يدافع الجار عن جاره ويظهر له وفاءه وإخلاصه ، وألازمكم ملازمة الظل للشاخص.

كما ويحتمل في تفسير الجار هنا أنّه ليس المراد من الجار جار الدّار ، بل هو من يؤوي غيره ويؤمنه ويلجأ إليه ، لأنّ من عادة العرب وخاصّة القبائل أو الطوائف القويّة منها أن تضمّن من يلجأ إليها من أصدقائها وأصحابها وتؤمنهم وتدافع عنهم بكل ما أوتيت من قوّة.

فالشيطان يمنح أصحابه المشركين الأمان وورقة اللجوء إليه.

ثمّ تقول الآية :( فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ ) .

واستدل على نكوصه وتراجعه القهقري بدليلين هما :

أوّلا قوله :( إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ ) .

فإنّه يرى آثار النصر جيدا في وجوه المسلمين الغاضبة ويشاهد عليها

٤٥٣

سمات اللطف الإلهي والإمداد الغيبي وتأييد الملائكة لهم ، فمن الطبيعي أن يتراجع عند ما يرى كل ذلك الدعم الرّباني والقوى الغيبة.

والثّاني قوله :( إِنِّي أَخافُ اللهَ ) .

فإنّ الجزاء الإلهي ليس أمرا يسيرا يمكنه أن يقف بوجهه ، بل إنّه هو العذاب الأليم( وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ ) .

هل جاء الشيطان عن طريق الوسوسة أو ظهر متجسدا لهم؟

جرى الكلام بين المفسّرين حول مسألة نفوذ الشيطان إلى قلوب المشركين ، وقوله لهم في ساحة معركة بدر ، وكيفية حصول ذلك ، وتتلخص جميع الآراء القديمة والحديثة في عقيدتين :

١ ـ يعتقد بعضهم أنّ هذا الأمر حصل على صورة وساوس باطنية ، فقد زين لهم بوساوس أعمالهم في عيونهم وصوّر لهم أنّهم يملكون قوّة لا تقهر ، وأغراهم وصوّر لهم أنّه هو ملجؤهم ، إلّا أنّهم بعد قتالهم الشديد للمسلمين ، والحوادث الإعجازية التي حققت النصر للمسلمين ومحت الوساوس عن قلوبهم ، أحسوا بالانكسار وأنّه لا ملجأ لهم أبدا سوى ما ينتظرهم من الجزاء الإلهي والعذاب الشديد.

٢ ـ ويرى بعضهم الآخر أنّ الشيطان تجسد لهم في صورة الإنسان ، ففي رواية أوردتها كتب الحديث كثيرا : إنّ قريشا عند ما قررت التحرك والمسير نحو بدر ، كانت تخشى الهجوم من طائفة بني كنانة لتشاجر كان بينها وبينهم ، وعند ذاك جاءهم إبليس في صورة «سراقة بن مالك» الذي كان من رؤوس بني كنانة وطمأنهم بأنّهم يوافقونهم على هذا الأمر ، وأنّهم سينتصرون ، لكنّه تراجع لما رأى نزول الملائكة ، ولاذ بالفرار وانهزم الجيش عند ما رأى ضربات المسلمين الشديدة وانهزام إبليس.

٤٥٤

وقالت قريش بعد عودتها لمكّة : إنّ سراقة السبب في انهزام الجيش ، فوصل الخبر إلى سراقة فأقسم أنّه لا علم له بذلك ، وعند ما قصّ عليه بعضهم ما كان منه في يوم بدر أنكر كل ذلك وأقسم أنّه لم يخرج من مكّة ولم يحصل من تلك الأمور شيء أبدا ، فعلم أنّ ذلك لم يكن سراقة بن مالك(١) .

ودليل الطائفة الأولى أنّ إبليس لا يستطيع أن يتمثل في سورة إنسان.

بينما ترى الطائفة الثّانية عدم وجود دليل على استحالة هذا الأمر أبدا ، وخاصّة أنّه نقل ما يشبه هذه القصّة في هجرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجيء ، رجل كبير على هيئة شيخ نجدي إلى دار الندوة ، وإضافة إلى أن سياق الآية وظاهر المحادثة يتلاءم مع تجسيد الشيطان.

وعلى أية حال ، فإنّ الآية تدل على أنّ الناس إذا ساروا في نهج الحق أو الباطل في الأمور والقضايا الجماعية ، فإنّ سلسلة من الإمدادات والقوى الغيبية أو القوى الشيطانية ستتحرك معهم ، وهي تظهر في مختلف الصور ، فعلى السائرين في سبيل الحق ومنهاج الله الحذر من هذا الأمر.

وتشير الآية بعدها إلى روحيّة جماعة ممن يميلون إلى الشرك في ساحة بدر ، فتقول :( إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ ) . حين تصوروا أنّهم سينتصرون مع قلّة العدد والعدّة ، أو أنّهم سينالون الشهادة والحياة الابدية في هذا المسار.

لكن هؤلاء لعدم إيمانهم وعدم معرفتهم بالإمداد الإلهي أنكروا تلك الحقائق البينة ، لأنّه كما تقول الآية المباركة :( وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) .

وقد اختلف المفسّرون في المراد من المنافقين و( الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) ولا يستبعد أن تكون العبارتان تشير ان إلى المنافقين في المدينة ، لأنّ

__________________

(١) نقل باختصار عن مجمع البيان ونور الثقلين ، وسائر التفاسير ، ذيل الآية.

٤٥٥

القرآن الكريم عند ما يتعرض لموضوع المنافقين في أوّل سورة البقرة يقول :( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً ) (١) فهؤلاء الذين ذكرتهم الآية ـ محل البحث ـ إمّا أنّهم من المنافقين الذين التحقوا بصفوف المسلمين من المدينة ، وكانوا يظهرون الإسلام والإيمان ولم يكونوا في حقيقتهم كذلك ، أو أنّهم من الذين تظاهروا بالإيمان في مكّة لكنّهم لم يهاجروا إلى المدينة وانضموا في معركة بدر إلى صفوف المشركين ، فلمّا رأوا قلّة المسلمين في معركة بدر قبال جيوش الكافرين قالوا : إنّ هؤلاء أصابهم الغرور في دينهم الجديد وجاءوا إلى هذه الساحة.

وعلى أية حال فإنّ الله سبحانه يخبر عن نيّات هؤلاء الباطنية ، ويوضح الخطأ في تفكير هؤلاء وأمثالهم.

وتجسّد الآية بعدها كيفية موت الكفار ونهاية حياتهم ، فتتوجه بالخطاب إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتقول :( وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ ) .

ومع أنّ الفعل «ترى» فعل مضارع ، لكنّه مع وجود «لو» يدل على الماضي ، فتكون الآية إشارة إلى حالة المشركين السابقة وموتهم الأليم ، ولهذا السبب يعتقد بعض المفسّرين أن ذلك إشارة إلى قتل هؤلاء على أيدي الملائكة في بدر ، وأوردوا في هذا الصدد بعض الرّوايات غير المؤكّدة. إلّا أنّ القرائن ـ كما أشرنا سابقا ـ تدل على عدم تدخل الملائكة مباشرة في الحرب أو المعركة ، فبناء على هذا فإنّ الآية محل البحث تتكلم عن ملائكة الموت وكيفية قبض الأرواح والجزاء الأليم الذي يمنى به أعداء الحق في تلك اللحظة.

و( عَذابَ الْحَرِيقِ ) إشارة إلى جزاء يوم القيامة وعقابه ، وقد جاء هذا التعبير

__________________

(١) البقرة ، ١٠.

٤٥٦

في آيات أخرى من القرآن كالآية (٢٢) من سورة الحج ، والآية (١٠) من سورة المعارج بالمعنى ذاته ثمّ يقال لأولئك :( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ) .

والتعبير بـ «أيديكم» إنّما جاء لأنّ أكثر أعمال الإنسان يجريها بالاستعانة باليّد ، وإلّا فإنّ الآية تشمل جميع الأعمال البدنية والروحية.

وتضيف الآية الأخيرة معقبة بالقول :( وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) .

ومصطلح «الظلّام» صيغة مبالغة ، ومعناها شديد الظلم ، وقد أوضحنا السبب في اختيار هذه الكلمة وأمثالها في بحوث حول الظلم في المجلد الثّالث من التّفسير الأمثل فليراجع هناك.

* * *

٤٥٧

الآيات

( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤) )

التّفسير

سنّة الله تقبل التغيير والتبديل :

في هذه الآيات إشارة إلى «سنة إلهية دائمة» تتعلق بالشعوب والأمم والمجتمعات ، لئلا يتصور بعض أنّ ما أصاب المشركين يوم بدر من عاقبة سيئة كان أمرا استثنائيا ، فإنّ من جاء بمثل تلك الأعمال في السابق ، أو سيقوم بها مستقبلا سينال العاقبة ذاتها.

فتقول الآية الأولى من الآيات محل البحث :( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ ) .

٤٥٨

فبناء على هذه فإنّ قريشا والمشركين وعبدة الأصنام في مكّة ، الذين أنكروا آيات الله وتعنتوا بوجه الحق وحاربوا قادة الإنسانية ، ليسوا وحدهم الذين نالوا جزاء ما اقترفوه ، بل أنّ ذلك قانون دائم ، وسنة إلهية تشمل من هم أقوى منهم ـ كآل فرعون ـ كما تشمل الشعوب الضعيفة كذلك ، ثمّ توضح الآية التالية أصل هذا الموضوع فتقول :( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) .

وبعبارة أخرى : إنّ الرحمة الرّبانيّة عامّة تسع جميع الخلق ، لكنّها تبلغ الناس وتصل إليهم بما يناسب كفاءتهم وشأنهم ، فإنّ الله سبحانه يغدق مبتدئا بنعمه الماديّة والمعنويّة على جميع الأمم ، فإذا استفادوا من تلك النعم في السير نحو الكمال والاستمداد منها في سبيل الحق تعالى والشكر على نعمائه ، بالإفادة منها إفادة صحيحة ، فإنّ الله سبحانه سيثبّت نعماءه ويزيدها. أمّا إذا استغلت تلك المواهب في سبيل الطغيان والانحراف والعنصرية ، وكفران النعمة والغرور والفساد ، فإنّ الله سيسلبهم تلك النعم أو يبدلها إلى بلاء ومصيبة ، بناء على ذلك فإنّ التغيير يكون من قبلنا دائما ، وإلّا فإنّ النعماء الإلهية لا تزول! وتعقيبا على هذا الهدف يعود القرآن ليشير إلى حال الطغاة ـ كفرعون وأقوام آخرين ـ فيقول :( دَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ ) ظلموا أنفسهم وظلموا سواهم أيضا.

الجواب على سؤال :

قد يرد هنا سؤال وهو : لم تكررت عبارة( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ) في الآي بفاصلة قليلة مرّتين ، ومع اختلاف يسير في التعبير؟!

وللإجابة على هذا التساؤل ينبغي الالتفات إلى لطيفة ، وهي أنّه بالرغم من

٤٥٩

أنّ التكرار أو التأكيد على المسائل الحساسة من أصول البلاغة ، ويلاحظ في أقوال البلغاء والفصحاء ، لكنّ في الآيات ـ آنفة الذكر ـ فرقا مهما يخرج تلك العبارة عن صورة التكرار. وهو أنّ الآية الأولى تشير إلى الجزاء الإلهي في مقابل إنكار آيات الحق والتكذيب بها ، ثمّ تمثل حال هؤلاء بقوم فرعون والأقوام السابقين.

إلّا أنّ الآية الثّانية تشير إلى تبدل النعم في الدنيا وذهاب المواهب الرّبانية ، مثل الانتصارات والأمن والقدرات وما يفتخر به. ثمّ مثّلت الآية بحال فرعون والأقوام السابقين.

ففي الحقيقة أنّ جانبا من الكلام كان عن سلب النعم وما ينتج عن ذلك من الجزاء ، ويقع الكلام في جانب آخر منه على تبدل النعم وتحوّلها.

* * *

ملاحظتان

١ ـ أسباب حياة الشعوب وموتها

يعرض التأريخ لنا شعوبا وأممّا كثيرة ، فطائفة اجتازت سلّم الرقي بسرعة ، ووصلت طائفة ثانية إلى أسفل مراحل الانحطاط ، وطائفة ثالثة عاشت يوما في تشتت وضياع وتناحر وتفرقة ، ثمّ قويت في يوم آخر ، وطائفة رابعة على العكس منها إذ سقطت من أعلى مراتب الفخر إلى قعر وديان الذلة والضياع.

والكثير من الناس يمرّون مرور الكرام على حوادث التأريخ المختلفة دون أي تفكر فيها ، والكثير منهم بدلا من البحث في العلل أو الأسباب الواقعية لحياة الشعوب وموتها يرجعون ذلك إلى أسباب وهمية وخيالية.

ويرجعوها آخرون إلى حركة الأفلاك ودورانها إيجابا وسلبا.

وأخيرا فإنّ بعضهم لجأ إلى مسألة القضاء والقدر بمفهومها المحرّف ، أو إلى

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606