الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245187 / تحميل: 6211
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

بدرجة يطيعون اوامره وينفذون وصاياه الىٰ هذا الحدّ !

فأنظر ـ والكلام لابن سينا ـ الفارق الىٰ ايّ مستوىٰ ! اجل يا بهمنيار ، فلا يمكن الادعاء بما للعظماء كذباً.

الاصدقاء جميعهم : الحقيقة عين ما اشرت إليه.

السبب الحقيقي لنفوذ نبي الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله

العقيد : اصدقائي ارجو ان لا تستعجلوا الحكم ، مع ان كلام الشيخ لا يمكن انكاره الى حدّ ما ، فنفوذ الرسول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ليس عادياً ، لكني اتصور ان جزءاً من نفوذ قدرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في الناس الذين عاصروا ذلك العظيم هي الاعمال التي كانوا يرونها منه والتي كانوا يتصورونها معاجز ، في حين ان المعجزة والامر الذي ليس له اسباب وعلل طبيعية وعادية ، مشكوك فيه في عالمنا المعاصر ، والجزء الآخر من نفوذه والذي يرتبط بعصرنا فهو محصور بين المسلمين غير العلماء ، وطبيعي فالنفوذ الىٰ قلوب مثل هذه النماذج من الناس ليس امراً عجيباً أو صعباً.

طالب الطب ، حسن : انا اوافق سيادة العقيد في هذا الرأي.

الشيخ : اشكركم أيُّها السادة ، علىٰ طرحكم ما ترونه موضع اشكال بحرية تامة ودون مجاملات ، وهدفنا من طرح هذه المواضيع هو دراسة الاشكالات التي يراها الاصدقاء في مواجهة الدين الاسلامي المقدس ، والاجابة عليها.

٨١

الاصدقاء جميعهم : نحن مسرورون لهذا اللقاء ، وهذا اليوم الذي تعرّفنا فيه عليك لهو من اجمل ايام حياتنا ، فكلامك جميل ، واجوبتك وافية ، كما ان سفرنا يمضي بسرور ونحن مستفيدون من وقتنا.

الشيخ : تتلخص اشكالات سيادة العقيد في ثلاثة محاور :

الأول : ايمان اهل ذلك العصر بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان بالمعجزة الىٰ حدّ ما.

الثاني : من الصعب اليوم القبول بالمعجزة.

الثالث : نفوذ رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله اليوم ، غالباً ما نجده بين غير المتعلمين وغير العلماء.

وسنتكلم في المواضيع الثلاثة ـ ان شاء الله ـ حسب طريقتنا ، اي بشكل مختصر ومفيد.

أمّا الموضوع الأوّل :

خلافاً لما قاله سيادة العقيد ، فأن اغلب اهالي الجزيرة العربية والمسلمون الذين عاصروا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله تأثروا بقوانين الاسلام التي جاء بها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ( طبعاً بالحد الذي كان المستوىٰ الفكري لذلك العصر يسمح به ) وبالاعجاز القرآني من حيث الفصاحة والبلاغة وكذلك بحياة الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله التي كانت غريبة عنهم ، وليست بسائر المعجزات.

لأنه : إذا كان ايمان العرب بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله حدث بالمعاجز فقط ، كان لابدّ ان يكون تقدم الاسلام وانتشاره سريعاً في السنوات الثلاثة عشرة التي قضاها

٨٢

الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في مكة بعد البعثة ، لان اكبر واعظم معجزاته كانت في مكة ، في حين ان نمو الاسلام في مكة وقياساً للسنوات العشرة التي قضاها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة يعد لاشيء ، بل اصبحت الحياة له لا تطاق في مكة وهو مهدد بالقتل فيها مما اضطره للخروج منها ليلاً والهجرة الىٰ المدينة بأمر من الله تبارك وتعالىٰ ، اما المدينة فقد استقبلته واحتضنته وعاهدته في الدفاع عنه بكل ما تستطيع ، وقد وفو بعهدهم اليه حقاً ، لكن ما الذي دعىٰ أهل المدينة لاستقبال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واحتضانه والدفاع عنه بالغالي والرخيص ؟

لم تكن المعجزات هي التي جعلتهم يقومون بذلك ، لأنهم لم يروا أية معجزة منه يوم تعهدوا له بالدفاع عنه ، بل كان موسم الحج وقد جاؤا الىٰ مكة فسمعوا كلمات القرآن المحيرة ، وسألوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن الاسلام وقوانينه واحكامه وما يدعوا اليه ، وبعد ان تعرفوا عليه آمنوا به طوعاً ، وسبب افتتانهم به هو ان قبيلتين منهم ( الأوس والخزرج ) كانتا تتقاتلان لقرن من الزمن ، وكانت بينهما دماء ومآسي ، فكم من الشباب قتلوا وكم من النساء ترمّلن وكم من الاطفال تيتموا وكم من الآباء ثكلوا.

كان اهل المدينة قد عانوا الكثير ، كانوا يعيشون حالة من التوحش الكامل ، وقد ملّوا من الجرائم والدماء ، وكان انحطاطهم الاخلاقي بمستوىٰ جعلهم يستشرون ضرورة وجود مصلح وقوانين عادلة تنقذهم من شقائهم ، كانوا بحاجة الىٰ قوة تستبدل البغض والحقد الذي في قلوبهم بالعاطفة والمحبة ، لقد فهموا ان عليهم ايقاف حمامات الدم تلك ونبذ حياة التوحش والظلم والجريمة.

٨٣

ولكن ، من هو الشخص الذي يقوم بذلك العمل الجبار ويبلغهم تلك الآمال ؟ من هو الرجل الذي يرفع لواء العدل ويجمع هؤلاء المظلومين تحت رايته ؟ وهل يمكن ان يجدوا مثل ذلك الشخص وبتلك المواصفات في بلاد مثل الجزيرة العربية ؟

اجل ، لقد رأىٰ اهل المدينة ذلك الرجل الذي ينشدونه في سفر حجهم وادركوا انه الوحيد الذي يستطيع انهاء وضعهم المأساوي ، ولهذا اجتمعوا حول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ونصروه في الشدائد والمشكلات ، ولماذا لا يفتتنوا بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! ولماذا لايفتدوه بأموالهم وانفسهم ، فرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما رآه ذو قلب سليم وشاهد صفاته التي لا تجتمع لأحد ، إلّا وخضع امامه واستسلم له ! فأي صخرة صماء ذلك الذي يرىٰ جميع تلك الفضائل : الوفاء والتواضع ، حسن الخلق ، نصرة المظلوم ، الرأفة ، الشجاعة ، الشهامة ، العفو ، الأدب ، الصدق ، الامانة ، عدم الاعتناء بالدنيا ومئات الفضائل الأخرىٰ ، ولا يمتلىء قلبه بحب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! فهل يمكن لبشر عادي ان يكون هكذا ؟

اجل صفاته واخلاقه مع الناس ومع ابنائه وازواجه ومع اتباعه ومع العبيد والصغار و الخ هي التي جعلت الناس تفتتن به ويكون له نفوذ في قلوبها ، وليست المعجزات التي جاء بها.

٨٤

سيرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله المليئة بالفخر

سيادة العقيد ! من أجل أن يتّضح الموضوع بشكل جيد ، ولكي تعرفوا هل معجزات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أو اسلوبه اخلاقي هو الذي سخر قلوب اهل زمانه له ، سأضطر الىٰ بحث مختصر حول اخلاق الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وفضائله وملكاته الفاضلة.

بلع العلى بكماله

كشف الدجى بجماله

حسنت جميع خصاله

صلّوا عليه وآله

معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأهل بيته

كان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مبتسم علىٰ الدوام مع اهل بيته ، ولم يكن فظَّاً غليظاً معهم ، فقد كان يحنو عليهم ويعاملهم برأفة ، كان يحاول جهد الامكان ان لا يغتمّوا ولا يحزنوا ، وكان عادلاً بينهم حتىٰ انه لم يشتكي منه احد مدىٰ حياته ، يساعدهم في اعمال البيت ، وكان يقول : مساعدة الزوجة في عملها بالبيت صدقة ، ومع ان بعض نساءه كنّ يتجرأن عليه ويعاملنه وكأنه رجل عادي كسائر الرجال وكنّ يؤذينه ويغضبنه ويتعرضنّ عليه ويتدخلن في اعماله ، مع ذلك كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله محافظاً علىٰ عدالته بينهنّ ، ويجب ان لا نتصور ان جميع وسائل الراحل كانت متوفرة لتلك النساء ، لانهنّ نساء امبراطور الاسلام ، أبداً فلا

٨٥

الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كان امبراطوراً ، ولا نساءه كنّ مثل حريم الاباطرة.

فلم يكن لهنّ قصور ولا غلمان وجواري ، وفي بعض الاحيان لم تتوفر لهنّ ابسط ضروريات الحياة ، لكن ثغر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الضحوك ووجهه البَشر وقلبه الرحيم العطوف ، كان بلسماً لكل وضنك ذلك العيش.

تقول اُمّ سلمة : احدىٰ نساء النبي :

في ليلة زفافي،حيث دخلت بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كنت اسكن في غرفة لم يكن فيها الّا قليل من الشعير ومطحنة يدوية ووعاء للعجين وقدر لعمل الخبز وكوز ماء ، فطحنت الشعير وعجنته وصنعت اقراصاً من الخبز ، اكلتها. وهكذا كانت حياة نساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حتىٰ في ليلة زفافهنَّ.

معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأبنائه

لا يمكن وصف المحبة والعطف الذي كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يغدقه علىٰ ابناءه ، لقد كان يحب ابناءه واحفاده كثيراً جداً ، كان يجلسهم علىٰ ركبتيه ويداعبهم ويقبل وجوههم ، حتىٰ انه كان يلاعبهم احياناً ، ومحبته لابنته الزهراءعليها‌السلام وابنائهاعليهم‌السلام معروفة ومشهورة.

معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأصدقائه

معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأصدقائه ومحبيه ، تشبه معاملته لابنائه ، ولهذا السبب كان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله محبوباً عند اصدقائه ، الى حدّ يفوق التصوّر.

٨٦

وفي حادثة وقعت بعد معركة احد ، كانت مكة قد اعدّتها ودبّرتها ، حيث جاءت مجموعة من الاعراب الىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة وطلبت ان يذهب معهم جماعة من المسلمين لتبليغ الدين وبيان الاحكام ، فأرسل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله معهم جماعة من المسلمين برئاسة عاصم بن ثابت ، لكن الأعراب قاموا بقتل المسلمين غيلة إلّا اثنين منهم اسروهم وارسلوهم الىٰ مكة وباعوهم علىٰ المشركين ، وكان زيد بن دثية احد الاسيرين ، فأشتراه صفوان بن اُمية ، لكي يقتله ثأراً لأبيه ، وبعد ان سجنه لفترة ، تقرر ان يُقتل في يوم معين.

وفي ذلك اليوم اجتمع اهل مكة جميعهم ، ليشاهدوا قتل ذلك الشاب المسلم ، انتقاماً لقتلاهم في بدر.

وفي النهاية ، حانت ساعة الاعدام ، فجاءوا ب‍ « زيد » وقد اجتمعت جميع طبقات مكة من كبارها ورؤساء قريش من التجار والمزارعين والنساء والفتيات والاطفال ، اجتمعوا اطرف المشنقة ، في تلك اللحظات التفت أبو سفيان وهو زعيم قريش الىٰ زيد وقال : أتحبُّ ان يكون محمداً مكانك هنا حتىٰ يعدم وترجع انت سالماً الىٰ اهلك ، اقسم عليك بمن تعبد ان تقول الصدق ؟

فأجابه زيد : يا أبا سفيان ، أقسم باللهِ ، أحبُّ ان اُقتل هنا ولا تصيب قدم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله شوكة فتؤذيه ! إفصاح أبو سفيان بعد تلك الاجابة : لم أرَ احداً اعزّ من محمد عند اصحابه.

أجل ، كان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ودوداً مع اصحابه للحد الذي جعلهم يهيمون بحبه ، فلم يحملهم في حياته شيئاً ، ومع انه كان القائد وزعيم المسلمين الذي

٨٧

فتح الجزيرة العربية واخضع الجميع للاسلام ، لكنه وفي احدىٰ اسفاره ارادوا ان يذبحوا شاة للأكل ، فتعهد كل واحد بعمل ، فقال احدهم : انا أذبحها ، وقال الآخر : انا اسلخها وقال الثالث : أنا اطبخها ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وانا اجمع الحطب للطبخ.

واضح ان العمل الذي تكفّل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله به اشقّ من أعمال الآخرين ، لأنه كان يحتاج الىٰ كمية كبيرة من حطب الصحراء ! لكي تطبخ شاة ، لذلك قال المسلمون : يا رسول الله ، نحن نجمع الحطب ولا تؤذي نفسك انت.

لم يقل المسلمون ذلك مجاملة منهم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لأنهم بذلوا كل ما يملكون من اجله ، هؤلاء الناس لا يتحدثوان زيفاً وتملّقاً وانما لم يحبوا ان يتعب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه.

لكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لهم : اعلم انكم لا تحبون ان اتعب ، لكني لا اُريد ان افضل علىٰ اصحابي ، والله لا يحب الذين يميزون انفسهم عن الآخرين.

وهكذا عندما بنىٰ المسلمون مسجد المدينة ، كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يحمل معهم الحجارة والتراب ، وعندما حفروا الخندق(1) اختص الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لنفسه حصة من العمل كسائر المسلمين ، بل انه كان يعمل اكثر من الآخرين.

________________

(1) هو الخندق الذي حفره المسلمون حول المدينة لصد الاعداء في معركة الاحزاب.

٨٨

اصدقائي !

ألم يكن اهل الجزيرة العربية محقّون في الخضوع لهذا الرجل والافتتنان به ؟! وهل رأيتم رجلاً في العالم يتعامل بهذه الروح السمحة والمحبة للخير مع اتباعه والذين يأتمرون بأوامره وهو في قمة هرم السلطة ؟! هذه التصرفات والمعاملة الاخلاقية لا توجد الّا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأعدائه

لقد عامل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله اعداءه كما كان يعامل اصدقاءه واصحابه ، فأي شخص لم ينتقم بشدة في اليوم الذي يتسلط فيه علىٰ اعدائه وينتصر عليهم ؟! لكن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كان رؤوفاً بأعدائه ، ينظر اليهم بعين العطف ، وكان متسامحاً للحد الذي وصفوه ـ الاعداء ـ بالعظيم والكريم.

ففي غزوة ذات الرقاع ، كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله واقفاً الىٰ جانب نهر ، وفجأة جاء سيل وحال بين الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وجيش المسلمين ، فرأىٰ احد جنود العدو ان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لوحده وبعيداً عن معسكره ، فجاءه شاهراً سيفه ظاناً ان اللحظة مؤاتية لقتل الرسول ، وقال : يا محمد ، من سينجيك مني ؟

قال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ربي.

ضحك الرجل مستهزءاً ، وهوىٰ بسيفه بقوة علىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكن الله وقىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله شره ، فوقعت به فرسه قبل ان يضرب ضربته ، ووقع علىٰ الارض ، فوقف الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فوق رأسه وأعاد عليه كلامه ، قال : من سينجيك

٨٩

مني ؟!

فقال الرجل وعيناه تبرق املاً : جودك وكرمك يامحمد !!

فما هو اساس ذلك الكلام في تلك اللحظات الحرجة ؟ هل قال الرجل كلامه تملّقاً ؟! بالتأكيد ، لم يقله تملّقاً.

لقد رأىٰ الرجل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله شاهراً سيفه فوق رأسه ، وتذكر اللحظات السابقة ، كان والوضح حرجاً بالنسبة له في الظاهر ، لانه لو قام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بقتله كان قد فعل ماكان هو يريد فعله قبل لحظات ، الاّ انه لم يوفق لذلك ، والأمل الوحيد لذلك المشرك هو أن الذي يريد قتله ليس انساناً عادياً كسائر الناس بل هو رجل الحق ، كريم بمعنىٰ الكرم ، عفوّ ورؤوف ، لقد تكلّم الرجل المشرك بكلامه استناداً الىٰ تاريخ ذلك الرجل الذي يريد قتله ، فحياته مليئة بالكرم والبذل والعمل الصالح والمحبة ، ولا بدّ أنَّ المشرك تذكر تلك السنة التي اصاب القحط فيها مكة ، فكان ذلك الرجل الذي شهر سيفه الآن عليه ، مثل الأب الرحيم علىٰ ابناءه ، يشتري الطعام بأمواله واموال خديجة ( بعد الاستأذان منها ) ، كان يشتري القمح والشعير والابل ويقدمها الىٰ الضعفاء في مكة واطرافها ، وبذلك نجّاهم من الموت جوعاً.

كان المشرك يعلم ان هذا الرجل يحمل بين جنبيه قلباً عطوفاً رحيماً ، فكان محقاً بأن يأمل ويرجو في تلك اللحظات الحرجة تماماً ، لذلك قرر الاجابة علىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بما يعرفه عن ماضيه وعطفه واحسانه ، لكن الوقت كان ضيقاً واللحظة خطرة ، فليس هناك مجال للأسهاب في الكلام ، ولهذا اجاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله موجزاً ، وقال : « جودك وكرمك يا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله » ، أي عظمتك

٩٠

ومقامك وعفوك ورأفتك يمكن ان تنجيني.

أجل ، لقد فكّر ذلك الرجل بشكل صحيح ، وكان رجاءه في محله ، لقد انجاه كرم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لأنه عندما سمع تلك العبارة ، انزل السيف جانباً ، وقال للرجل : انهض واسرع الىٰ جيشك(1) .

أيُّها السادة !

ألا يستطيع هذا الرجل ان يسخر قلوب الناس بهذه الاخلاق والمكارم الالهية التي هي بذاتها من اكبر المعجزات ؟! هل ان تأثير هذه التصرفات في جذب قلوب الناس اقل من بيان سائر المعجزات ؟

اعجاز النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الاخلاقي عند فتح مكة

اشرنا من قبل أن اهل مكة شاهدوا اكبر المعجزات علىٰ مدىٰ ثلاثة عشرة سنة من بداية البعثة ، تلك المعجزات التي لو رآها أي انسان لأعترف بالنبوة والرسالة ، إلّا انهم كانوا اصم من الصخر فلم تؤثر فيهم ولم يؤمنوا بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكن اولئك الناس عندما شاهدوا عفو الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وعطفه عليهم عند فتح مكة لانت قلوبهم وآمنوا بالدين.

لقد كان لمعاملة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لهم في ذلك اليوم اكبر الاثر في اسلامهم ، وهو بنفس الوقت خير دليل علىٰ ما قاله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن نفسه :

________________

(1) روضة الكافي ، تأليف ثقة الاسلام الكلينيقدس‌سره

٩١

« ادبني ربي فأحسن تأديبي ».

كما انه نموذج كامل لأسلوبه الاخلاقي في التعامل مع اعدائه.

دخل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مكة دون قتال ( سوىٰ مقاومة صغيرة من بعض المشركين ابيدت علىٰ يد جيش الاسلام ).

ومكّة هي مسقط رأسه التي يهفو إليها قلبه علىٰ الدوام ، حتىٰ في الليلة التي اراد ان يهاجر فيها الىٰ المدينة ، نظر الىٰ اطرافها بحسرة ، واغرورقت عيناه بالدموع ، فنزل عليه الامين جبرائيل ووعده من جانب الله بأن يرجعه اليها. وكانت سنوات تمرّ علىٰ ذلك الوعد الالهي ، والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ينتظر ، فمضت اشهر وسنين ببطء وحان الوقت الذي ينجز فيه الوعد.

* * *

عقد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله صلحاً مع كفار قريش وأهل مكة في الحديبية ، إلّا ان الكفار لم يعملوا بمفاد الصلح ، فكانت النتيجة ان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عزم علىٰ فتح مكة بأمر من الله ، وسار نحوا بعشرة آلاف مسلم ، وقد علم اهل مكة من خلال ابي سفيان « الذي ذكرناه تفاصيل لقاءه بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قرب مكة » بالتعبئة العامة للمسلمين.

طوىٰ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الطريق بين المدينة ومكة ، حتىٰ وصل الىٰ« ذي طوىٰ »(1) . نظر الىٰ ما حوله ، فوجد جيشاً قوامه عشرة آلاف مقاتل مستعدون

________________

(1) مكان مشرف علىٰ مكة.

٩٢

لنصرته وقلوبهم تطفح بالمحبة. فتذكّر يوم هجرته ، ذلك اليوم الذي خرج فيه خائفاً يريد الحفاظ علىٰ نفسه من مكة هذه. لكنه يعود اليها اليوم ومعه عشرة آلاف مقاتل من المسلمين الشجعان ، فمن الذي منحه تلك القوة ؟!

أهو غير ربّه الذي يدعوه ؟! بالتأكيد لا.

فلا احد يستطيع ان يحببه الىٰ قلوب الناس بهذا الشكل سوىٰ الله القادر والمهيمن ، اذن ، فاليوم هو اليوم الذي وعده به الله ، وقريب ما يتحقق الوعد الالهي.

نعم ، جميع ما حدث كان بنصر الله ، فلماذا لا يسجد له ، لماذا لا يعبده ؟ وكان ان صاح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« لا إله الّا الله ، وحده وحده ، انجز وعده ، ونصر عبده ، واعزّ جنده ، وهزم الاحزاب وحده ».

وذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نِعَم الله ، تلك النِعَم التي يعجز عن شكرها ، واتقدت شعلة الحب الالهي في قلبه اكثر من ذي قبل ، يريد ان يسجد لربه ، لكنه لا يزال على ظهر الناقة ، تجسم العشق الالهي ورأفة الله به بحيث لم يستطع الصبر لينزل من علىٰ ظهر الناقة كي يسجد ، فسجد شكراً لله وهو علىٰ الناقة ، ثم رفع رأسه من السجود ، فوقعت عيناه علىٰ مكة ، تلك المدينة التي تتوسطها الكعبة ، حيث بناها جده ابراهيم الخليلعليه‌السلام ، موطن آباءه والمكان الذي يهفو اليه قلبه.

جميع تلك الاسباب جعلته يناجي مكة ويظهر لها حبه ، فقال : الله يعلم احبك ، ولو لا ان اهلك اخرجوني عنك لما آثرت عليك بلداً ، ولا ابتغيت بك بدلاً ، اني لمغتم على مفارقتك.

٩٣

فلماذا خاطب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مكّة بهذا الكلام ؟!

وكأنما كان يسمع مسقط رأسه ، أي مكة هذه ، تعاتبه وتقول له : لماذا هجرتني ، وفارقتني ثمان سنوات ، ياحبيب الله ، انا ايضاً أحبك ، فلماذا تركتني الىٰ المدينة التي اخترتها بدلاً مني ، فهل كنت سيئة معك ؟!

وبعد أن أتمّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كلامه ، تحرك من ذي طوىٰ ودخل الحجون(1) ، فأغتسل هناك وركب ناقته حتىٰ يدخل مكة.

مكّة في انتظار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله

اجتمع اهل مكة ووقفوا مع زعماء قريش ورؤساء القبائل الىٰ جانب الكعبة ، لكي ينظروا دخول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكانوا يريدون بذلك أمرين :

الأول : رؤية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

الثاني : معرفة مصيرهم.

دخل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مكة واستسلم الحجر الاسود من علىٰ الناقة ، ثم ارتفع صوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالتكبير :

الله اكبر الله اكبر

فتعالت معه حناجر عشرة آلاف مسلم الله اكبر ، كان صوت التكبير يملأ سماء مكة وينعكس في جبالها ، لكن تأثيره في قلوب المشركين كان اشدّ.

________________

(1) محل اقرب الىٰ مكة من ذي طوىٰ.

٩٤

لقد خاف زعماء قريش من ذلك الصوت ، وكأنما سمعوا صيحة من السماء ، فأضطربت قلوبهم واخذت تخفق بشدّة.

بعد التكبير ، ترجل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من الناقة ، ودخل الكعبة كي يطهرها من رجز الاوثان ، فلا يجدر ببيت بُنيَ فيه الله ان يكون مأوىٰ الاثم ومركز الاصنام ، وكان علىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ان يطهر البيت من تلك الاصنام والآلهه المصنوعة من الخشب أو الحجر.

وقام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بالاطاحة بالاصنام الواحدة بعد الاُخرىٰ ، بعصاه ، وهو يقول :

( جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ) (1) .

( قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ) (2) .

أجل ، لقد انتهىٰ زمان الاصنام وعبادتها ، انتهى عصر الانحناء والخضوع امام آلهة صنعت من معدن أو خشب علىٰ هيئة البشر ، لقد حان الوقت الذي يعبد فيه الناس الله سبحانه وتعالىٰ ، ويخرجوا من ذلّ عبادة هذه الاوثان ، الىٰ عزّ عبادة رب العالمين.

وبعد ان فرغ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من الاطاحة بالاوثان ، توجه الىٰ اهل مكة ، فوجدهم قد اصطفوا مثل التماثيل التي صنعت من حجر ، وكأن علىٰ رؤوسهم الطير ، لا يتحركون ولا يحركون ساكناً ، ووجوهم المصفرة تعبر عن اضطرابهم الداخلي ( بعد ان شاهدوا قوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وجيش المسلمين ) ، كانت عيونهم

________________

(1) سورة الاسراء : 81.

(2) سورة سبأ : 49.

٩٥

تريد الخروج من حدقاتها من شدة الخوف ، كانوا غارقين في افكارهم ، ويتصورون المصير الذي ينتظرهم ، بعد تلك الحروب التي خاضوها ضد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والاذية التي آذوه ، لكنهم في نفس الوقت يرجون شيئاً من شخص الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأن اهل مكة يعرفون جيداً ، ان الرجل الذي دخل مكة اليوم ظافراً منتصراً ، هو محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ذو القلب العطوف والرحيم ، محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي من شيمه العفو عند المقدرة والصفح عمن اساء له ، محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي لا يظلم حتىٰ اعتىٰ اعدائه واقساهم ، محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ليس كالآخرين الذي لا يفكرون عند انتصارهم سوىٰ بالانتقام ، فهو الذي وصفه الله سبحانه وتعالىٰ في القرآن ، فقال :

( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) (1)

فلماذا لا يرجوا أهل مكة فيه الخير ؟! ولماذا لا يمتزج خوفهم واضطرابهم بالامل ؟! لقد رأىٰ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك الخوف والرجاء في وجوههم ، لكنه اراد ان يسمعه منهم ، فقال لهم : ماذا تقولون وتظنون ؟

فأجابه اهل مكة : نقول خيراً ونظن خيراً ، اخ كريم وابن اخ كريم وقد قدرت.

كان جواب اهل مكة مزيج من الخوف والامل ، فعبارة « قد قدرت » استخدمت للتعبير عن الخوف ، لكن العبارات التي سبقت ذلك كانت مفعمة بالرجاء لكن كفة الامل والرجاء كانت تفوق احتمال الانتقام.

ومن حقِّ أهل مكة ان يأملوا العفو والمسح من مثل ذلك الرجل العظيم ،

________________

(1) سورة الانبياء : 107.

٩٦

لأنه لو كان يريد الانتقام منهم ، لما اعطىٰ أبا سفيان الامان ، وجعل بيته مأمناً لأهل مكة ، فلماذا لا يأملوا بعد ذلك ، في حين ان ابا سفيان في خارج مكة عندما التقىٰ برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد ان شاهد جيش المسلمين وهو واقف مع العباس عمّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان قد سمع سعد بن عباد رئيس قبيلة الخزرج ، يقول بصوت عال :

اليوم يوم الملحمة ، اليوم تسبىٰ الحرمة ، اليوم تذل قريش.

فخاف أبو سفيان بعد سماعة ذلك الكلام ، واخبر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ، فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تخف يا ابا سفيان ، سعد مخطيء ، اليوم يوم المرحمة ، اليوم تصان الحرمة ، اليوم تعزّ قريش.

ألم يكن اهل مكة محقّون في رجائهم ؟ لذلك اجابوا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وقالوا : نقول خيراً ونظن خيراً.

أما النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فعندما سمع جوابهم ذلك ، اغرورقت عيناه المباركة بالدمع ، وعندما رأىٰ ذلك أهل مكة تجلت امام اعينهم جميع اعمالهم السيئة السابقة ، فتذكروا التهم التي كالوها له ، والسباب والرمي بالحجارة والحصار في شعب ابي طالب ومهاجمة بيته ليلاً لقتله واجباره علىٰ ترك وطنه الىٰ يثرب ، ومئات الاعمال الاخرىٰ التي جعلتهم يقفون ذلك الموقف النادم اليوم ، وشاهدوا ايضاً ذلك الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي قاسىٰ ماقاساه منهم ، لكنه يقف اليوم ويعاملهم بلطف ورأفة وهو المنتصر والفاتح الذي يستطيع الانتقام.

فالخجل الذي اعتراهم من مواقفهم تلك من جهة ، والرأفة والحب الذي شاهدوه من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة اخرىٰ ، اهاجتهم وجعلت اصواتهم ترتفع

٩٧

بالبكاء ، لقد كان الجميع يذرفون الدموع ، النادمون من سوء اعمالهم ، والمنتصرون الذين عادوا الىٰ وطنهم وحرروا قبلتهم ، حتىٰ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يذرف الدمع ، وبعد لحظات من تلك الحالة ، قال لهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : سأقول لكم ما قاله أخي يوسفعليه‌السلام لأخوته الذين غدروا به :

( قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) (1) .

صحيح انكم لم تنظروا فيّ انكم قومي وعشيرتي ، فأستبحتم ايذائي والوقوف بوجهي ، ولكن لا تخافوا « اذهبوا فأنتم الطلقاء » ، ولا يحق لاحد ان يتعرض لكم ولأموالكم.

وبهذه الكلمات المتقطبة ، خطّ علىٰ اعمالهم السيئة وغفر لهم اخطاء عشرين سنة بحقه.

اصدقائي الاعزاء !

أي واحدة من معجزات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تستطيع ان تسخر قلوب اعتىٰ الاعداء مثل هذا الحدّ الذي يفوق تصور البشر ؟ ألم يكن هؤلاء الناس ، هم انفسهم الذين شاهدوا اكبر المعجزات علىٰ مدىٰ عشرين سنة ولم يأمنوا ولم تتغير نفوسهم ، بل كلما جاءهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بمعجزة وآية جديدة ، كانوا يزدادون غضباً وغيضاً وتتحد صفوفهم اكثر في عدائه ، في حين ان العفو العام الذي أعلنه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو في الحقيقة من معجزاته الاخلاقية التي ليس لها ________________

(1) سورة يوسف : 92.

٩٨

مثيل ، استطاع ان يحرك عواطفهم ، للحد الذي تعالىٰ فيه صوت البكاء من تلك القلوب القاسية حتىٰ ملأ ارجاء مكة.

النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يدعو بالسوء

وفي معركة اُحد ، بعد ان دحر جيش الاسلام قوىٰ المشركين ، وعلىٰ اثر غفلة المسلمين وعدم اطاعتهم أوامر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، استفاد جيش المشركين من تلك الفرصة ، وهجم من جديد علىٰ المسلمين ، فكانت نتيجة حملاته المتكررة والشديدة ان فرّ المسلمون الّا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ونفر من المجاهدين الذين صمدوا رغم شدة البلاء ، وقد جرح الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وكسر سنّة وكان الخطر محيط به من كل جانب ، في تلك اللحظات ، قال له بعض اصحابه الذين صمدوا معه : ادعو يا رسول الله علىٰ اعدائك بالهلاك. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما بعثت لذلك ، وانما بعثت لأكون رحمة للعالمين.

اجل هذه النماذج قليلة من معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأعدائه.

معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لغلمانه

المعاملة التي كانت للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مع غلمانه ، لا يوجد مثيل لها الّا في عترته الطاهرة ، فلم يكن يُحسن إليهم فقط ، ويعاملهم كأفراد الاسرة ، بل وصىٰ المسلمين بهم كثيراً ، فقال : اطعموهم مما تطعمون والبسوهم مما تلبسون. ولم يطلب منهم يوماً القيام بعمل يذلّهم أو يكون لهم عاراً ، ولم يكن يشكل علىٰ

٩٩

اعمالهم.

يقول أنس الذي لازم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سنوات عديدة : خدمت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عشرة سنوات ، فلم يزجرني بكلمة ابداً خلال تلك الفترة ، ولم يشكل علىٰ ايّ عمل قمت به لرأفته ، ولم يؤاخذني علىٰ شيء لم افعله أو عمل قصرّت فيه.

ورأفته كانت بحيث يقول أنس : طلب مني النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يوماً ان انجز له عمل ، لكني شغلت في الطريق بمشاهدة لعب الاطفال ، فمضىٰ علىٰ ذلك وقت كثير ، وانا لازلت انظر الاطفال في لعبهم ، وفجأة رأيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يمسك بقميصي من الخلف ، ويقول لي وهو يبتسم : اذهب الىٰ ما أرسلتك اليه.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

لهم بأي وجه أن يأخذوا شيئا من الخمس.

أمّا ما يقوله بعض السواد بأنّ السّادة يمكنهم أخذ الخمس حتى ولو كان ميزاب بيتهم من ذهب فهو كلام ساذج ولا أساس له أبدا.

ثانيا : إنّ المحتاجين والضعفاء من سادات بني هاشم لا يحق لهم أخذ شيء من الزكاة ، فلهذا جاز لهم أن يأخذوا من هذا القسم من الخمس فحسب.(١)

ثالثا : إذا زاد القسم المختص لبني هاشم عن احتياجاتهم فإنّه يرجع إلى بيت المال حتى ينفق في مصارف أخرى ، كما أنّه إذ نقص هذا السهم عن حاجتهم يدفع الباقي من بيت المال إليهم أو من سهم الزكاة.

وبملاحظة تلك النقاط الثلاث يتّضح لنا عدم وجود فرق ـ في الواقع ـ من النّاحية الماديّة بين السادة وغيرهم.

فالمحتاجون من غيرهم يمكنهم سدّ حاجتهم من الزّكاة ويحرمون من الخمس ، والمحتاجون من السادة يسدّون حاجتهم من الخمس ويحرمون من الزّكاة.

فيوجد في الحقيقة صندوقان ، هما صندوق الخمس وصندوق الزكاة ، فيحق لكل من القسمين الأخذ من أحد الصندوقين وبصورة التساوي فيما بينهما ، أي ما يحتاجه كلّ لعام واحد (فتأمل).

فالذين لم يمعنوا النظر في هذه الشروط والخصوصيات تصوّروا من بيت المال أكثر من غيرهم أو أنّهم يتمتعون بامتياز خاص.

والسؤال الوحيد الذي يطرح نفسه هنا هو : إذا قلنا بعدم الفرق بين الإثنين آخر الإمر ، فما جدوى هذه الخطة إذا؟!

ويمكن أن ندرك جواب هذا التساؤل بملاحظة شيء واحد ، وهو أنّ بين

__________________

(١) إنّ حرمة أخذ بني هاشم الزكاة مسلم بها وقد وردت في أكثر كتب الحديث وفتاوى العلماء وكتبهم الفقهية ، فهل يعقل بأنّ الإسلام قد فكّر في شأن الفقراء والمحتاجين من غير بني هاشم ولم يعالج قضية المحتاجين من بني هاشم؟ فتركهم لحالهم.

٤٤١

الزكاة والخمس بونا شاسعا ، إذ أنّ الزكاة من ضرائب الأموال العامّة للمجتمع الإسلامي فتصرف عموما في هذه الجهة ، ولكن الخمس من ضرائب الحكومة الإسلامية فيصرف على القيادة والحكومة الإسلامية وتؤمن حاجتها منه.

فالتحريم على السادة من مدّ أيديهم للأموال العامّة ، «الزّكاة» كان في الحقيقة ليجتنبوا عن هذا المال باعتبارهم أقارب النّبي ، ولكيلا تكون ذريعة بيد الأعداء بأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سلط أقرباءه على الأموال العامّة.

إلّا أنّه ـ من جانب آخر ـ ينبغي سدّ حاجة الضعفاء والفقراء من السادة ، لذلك جعلت هذه الخطة لسدّ حاجتهم من ميزانية الحكومة الإسلامية لا من الميزانية العامّة ففي الحقيقة أنّ الخمس ليس امتيازا لبني هاشم ، بل هو لإبعادهم من أجل الصالح العام ولئلا ينبعث سوء الظن بهم(١) .

والذي يسترعي النظر أنّ هذا الإمر أشارت إليه أحاديث الشيعة والسنة ، ففي حديث عن الإمام الصادق نقرأ : «أنّ أناسا من بني هاشم أتوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسألوه أن يستعملهم على صدقات المواشي ، وقالوا : يكون لنا هذا السهم الذي جعل اللهعزوجل للعاملين عليها فنحن أولى به ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا بني عبد المطلب (هاشم) إن الصدقة لا تحل لي ولا لكم ، ولكنّي وعدت الشفاعة ، إلى أن قال : «أتروني مؤثرا عليكم غيركم»(٢) .

ويدل هذا الحديث على أن بني هاشم كانوا يرون في ذلك الأمر حرمانا ، وقد وعدهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يشفع لهم.

ونقرأ حديثا في صحيح مسلم الذي يعد من أهم مصادر الحديث عند أهل السنة ، خلاصته أنّ العباس وربيعة بن الحارث جاء إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطلبا منه أن

__________________

(١) وإذا لاحظنا أنّ في بعض الرّوايات التعبير بـ «كرامة لهم من أوساخ الناس» فهو ليقنع بني هاشم من هذه الحرمة من جانب ، وليفهم الناس أن يؤدوا الزّكاة إلى المحتاجين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، ص ١٨٦.

٤٤٢

يأمر ابنيهما ـ وكانا فتيين وهما عبد المطلب بن ربيعة والفضل بن العباس ـ بجمع الزكاة ليتمكنا أن يأخذا سهما منه شأنهما كشأن الآخرين ، ليؤمّنا لنفسيهما المال الكافي لزواجهما ، فامتنع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمر بسد حاجتهما عن طريق آخر وهو الخمس.

ويستفاد من هذا الحديث الذي يطول شرحه أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مصرّا على أبعاد أقاربه عن الحصول على الزكاة التي هي من أموال عامّة الناس.

من مجموع ما قلناه يتّضح أنّ الخمس ليس امتيازا للسّادة ، بل هو نوع من الحرمان لحفظ المصالح العامّة

٧ ـ ما هو المراد من سهم الله؟

إنّ ذكر سهم على أنّه سهم الله ، للتأكيد على أهمية مسألة الخمس وإثباتها ، ولتأكيد ولاية الرّسول والقيادة الإسلامية وحاكمية النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا.

أي كما أنّ الله جعل سهما باسمه وهو أحق بالتصرف فيه ، فقد أعطى النّبي والإمام حق الولاية والتصرف فيه كذلك ، إلّا فإنّ سهم الله يجعل تحت تصرف النّبي أو الإمام يصرفه في المكان المناسب ، وليس لله حاجة في سهم معين.

* * *

٤٤٣

الآيات

( إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤) )

التّفسير

الأمر الذي لا بدّ منه :

يعود القرآن في هذه الآيات الكريمة ـ ولمناسبة الكلام في الآيات السابقة إلى يوم الفرقان يوم معركة بدر وانتصار المسلمين لمؤزر في ذلك الموقف الخطير ـ يعود ليعرب عن أجزاء من فصول تلك المعركة ، ليطلع المسلمون على

٤٤٤

أهمية ذلك النصر العظيم.

فتقول الآية الأولى من الآيات محل البحث :( إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى ) .

«العدوة» مأخوذة من «العدو» على زنة «السّرو» ومعناها في الأصل التجاوز ، ولكنّها تطلق على أطراف كل شيء ، وحواشيه ، لأنّها تتجاوز الحدّ الوسط إلى إحدى الجوانب ، وجاءت هذه الكلمة في هذه الآية بهذا المعني أي «الطرف ، والجانب».

«والدنيا» مأخوذة من الدنّو ، على وزن العلوّ وتعني الأقرب ، ويقابل هذا اللفظ الأقصى والقصوى.

وكان المسلمون في الجانب الشمالي من ميدان الحرب الذي هو أقرب إلى جهة المدينة ، وكان الأعداء في الجانب الجنوبي وهو الأبعد.

ويحتمل أن يكون المعنى هو أنّ المسلمين لاضطرارهم كانوا في القسم الأسفل في الميدان ، وكان الأعداء في القسم الأعلى منه وهو يعدّ ميزة لهم.

ثمّ تعقّب الآية قائلة :( وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ) .

وكما رأينا من قبل فإنّ أبا سفيان حين علم بتحرّك المسلمين غيّر مسير قافلته إلى جهة أخرى على جانب البحر الأحمر حتى صار قريبا من مكّة ، ولو أنّ المسلمين لم يضلّوا أثر القافلة فلعلهم كانوا يتبعونها ، ولا يوفقون لمواجهة الأعداء ومنازلتهم في معركة بدر التي تحقق فيها النصر العظيم والفتح المبين.

وبغض النظر عن كل ذلك فإنّ عدد قوات المسلمين وإمكاناتهم كان أقلّ من قوات الأعداء من جميع الوجوه ، لهذا فإنّ الآية الكريمة تقول :( وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ ) .

لأنّ الكثير منكم سيدركون ضعفهم الظاهري قبال الأعداء فيتقاعسون عن قتالهم ، ولكن الله جعلكم إزاء أمر مقدر ، وكما تقول الآية :( لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ

٤٤٥

مَفْعُولاً ) .

وليعرف الحق من الباطل في ظلال ذلك النصر غير المتوقع والمعجزة الباهرة و( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) .

والمراد من «الحياة» و «الهلكة» هنا هو الهداية والضلال ، لأنّ يوم بدر الذي سمّي يوم الفرقان تجلّى فيه الإمداد الإلهي لنصرة المسلمين ، وثبت فيه أن لهؤلاء علاقة بالله وأنّ الحق معهم.

وتعقبّ الآية قائلة :( وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ) .

فقد سمع نداء استغاثاتكم ، وكان مطلعا على نيّاتكم ، ولذلك أيّدكم بنصره على أعدائكم.

إنّ القرائن تدلّ عن أنّ بعض المسلمين لو كانوا يعرفون حجم قوّة أعدائهم لامتنعوا عن مواجهتهم ، مع أنّ طائفة أخرى من المسلمين كانوا مطيعين للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مواجهة جميع الشدائد ، لهذا فإنّ الله جعل الأمور تسير بشكل يلتقي فيه المسلمون ـ شاءوا أم أبوا ـ مع أعدائهم ، فكانت المواجهة المصيرية.

وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد رأى فيه منامه من قبل أن قلّة المشركين تقاتل المسلمين ، وكانت هذه الرؤيا إشارة إلى النصر وبشارة به ، فقد رواهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمسلمين فازدادت العزائم في الزحف نحو معركة بدر.

وبالطبع فإنّ رؤيا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في منامه كانت صحيحة ، لأنّ قوّة الأعداء وعددهم بالرغم من كثرتهم الظاهرية ، إلّا أنّهم كانوا قلّة في الباطن ضعفاء غير قادرين على مواجهة المسلمين ، ونحن نعرف أنّ الرؤيا ذات تعبير وإشارة ، وأن الرؤيا الصحيحة هي التي تكشف الوجه الباطني للأمور.

والآية الثّانية : من الآيات محل البحث تشير إلى الحكمة من هذا الأمر ، والنعمة التي أولاها سبحانه وتعالى للمسلمين عن هذا الطريق ، فتقول :( إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ ) ولهبطت معنوياتكم ، ولم يقف الأمر

٤٤٦

عند هذا الحدّ ، بل لأدّى ذلك إلى التنازع واختلاف الكلمة( وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ ) وأنقذ الأمر بواسطة الرؤيا التي أظهرت الوجه الباطني لجيش الأعداء ، ولأنّ الله يعرف باطنكم( إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) .

وتذكّر الآية الأخرى بمرحلة من مراحل معركة بدر تختلف عن سابقتها ، ففي هذه المرحلة وفي ظل خطاب النّبي المؤثر فيهم والبشائر الرّبانية ، ورؤية حوادث حال التهيؤ للقتال ـ كنزول المطر لرفع العطش ولتكون الرمال الرخوة صالحة لساحة المعركة ـ تجددت بذلك المعنويات وكبر الأمل بالنصر وقويت عزائم القلوب ، حتى صاروا يرون الجيش المعادي وكأنّه صغير ضعيف لا حول ولا قوة له ، فتقول الآية المباركة :( وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً ) .

أمّا العدوّ فإنّه لما كان يجهل معنويات المسلمين وظروفهم ، فكان ينظر إلى ظاهرهم فيراهم قليلا جدّا ، بل رآهم أقل ممّا هم عليه ، إذ تقول الآية في الصدد( وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ) .

حتى روي عن أبي جهل أنّه قال : إنّما أصحاب محمّد أكلة جزور ، وفي ذلك كناية عن منتهى القلّة. أو أنّهم سيحسمون الأمر معهم في يوم واحد من الغداة حتى العشية ، وقد جاء في الأخبار أنّهم كانوا ينحرون كل يوم عشرة من الإبل لطعامهم ، لأنّ عدد جيش قريش كان حوالي ألف مقاتل.

وعلى كل حال : فقد كان تأثير هذين الأمرين كبيرا في نصر المسلمين ، لأنّهم من جهة رأوا جيش العدو قليلا فنزال كل خوف ورعب من نفوسهم ، ومن جهة أخرى ظهر عدد المسلمين قليلا في عين العدو ، كيلا يترددوا في قتال المسلمين وينصرفوا عن الحرب التي أدت في النهاية إلى هزيمتهم.

لهذا فإنّ الآية تعقب على ما سبق قائلة :( لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً ) .

فلم تنته هذه المعركة وحدها وفق سنة الله فحسب ، بل إن إرادته نافذة في كل شيء( وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ) .

٤٤٧

وفي الآية (١٣) من سورة آل عمران إشارة إلى المرحلة الثّالثة من قتال يوم بدر ، إذ تشير إلى أنّ الأعداء لمّا اشتعل أوار الحرب ورأوا الضربات الشديدة لجيش الإسلام تنزل على رؤوسهم كالصواعق ، أصابهم الذعر والخوف الشديد ، فأحسوا عندئذ وكأنّ جيش الإسلام قد ازداد عدده وتضاعف أضعاف ما كان عليه ، فانهارت معنوياتهم وأدّى هذا الأمر إلى هزيمتهم وتمزقهم.

وممّا ذكرناه آنفا يتّضح أنّه لا يوجد أي تناقض ، لا بين الآيات محل البحث ، ولا بينها وبين الآية (١٣) من سورة آل عمران ، لإنّ كلّا من هذه الآيات تبيّن مرحلة من مراحل المعركة.

فالمرحلة الأولى : هي ما قبل القتال ، وهي ما ورد فيها عن رؤيا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في منامه ورؤيته جيش المشركين قليلا.

والمرحلة الثّانية : هي نزولهم في أرض بدر ومعرفة بعض المسلمين بعدد الأعداء وعدده وخوف بعضهم وخشيته من قتالهم.

والمرحلة الثّالثة : هي حصول المواجهة المسلحة وما أنعمه الله عليهم ، وما رأوه من مشاهد قلّلت عدد أعدائهم في أعينهم «فتأملوا بدقّة!».

* * *

٤٤٨

الآيات

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧) )

التّفسير

ستة أوامر أخرى في شأن الجهاد :

قال المفسّرون : إنّ أبا سفيان بعد ما استطاع النجاة بقافلة قريش التجارية من مواجهة المسلمين ، أرسل مبعوثا إلى قريش الذاهبين إلى ساحة بدر ودعاهم إلى العودة ، لأنّه رأى أن لا حاجة إلى القتال ، لكن أبا جهل هذا المغرور والمتعصب والمتكبر أقسم أن لا يرجعوا حتى يبلغوا أرض بدر «وكانت بدر قبل هذه المعركة من مراكز اجتماع العرب ، وتقام فيها سوق تجارية كل عام» ويمكثوا فيها ثلاثة أيّام ، وينحروا الإبل ويأكلون ما يشتهون ويشربون الخمر ، وتغني لهم المغنيّات ، حتى يسمع جميع العرب بهم وتثبت بذلك قوتهم وقدرتهم!

٤٤٩

لكن أمرهم آل إلى الهزيمة فشربوا كؤوس المنايا المترعة بدلا من كؤوس الخمر ، وجلست المغنيات ينحن على جنائزهم!!

والآيات محل البحث تشير إلى هذا الموضوع ، وتنهى المسلمين عن مثل هذه الأعمال ، وتضع لهم تعاليم جديدة في شأن الجهاد إضافة إلى ما سبق من هذه الأمور.

وبصورة عاملة فإنّ في الآيات محل البحث ستة أوامر للمسلمين هي :

١ ـ أنّها تقول أوّلا :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا ) أي أن إحدى علائم الإيمان هي ثبات القدم في جميع الأحوال ، وخاصّة في مواجهة الأعداء.

٢ ـ( وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) .

ولا ريب أنّ المراد من ذكر الله هنا ليس هو الذكر اللفظي فحسب ، بل حضور القلب ، وذكر علمه تعالى وقدرته غير المحدودة ورحمته الواسعة ، فهذا التوجه إلى الله يقوّي من عزيمة الجنود المجاهدين ، ويشعر الجندي بأنّ سندا قويّا لا تستطيع أية قدرة في الوجود أن تتغلب عليه يدعمه في ساحة القتال ، وإذا قتل فسينال السعادة الكبرى ويبلغ الشهادة العظمى ، وجوار رحمة الله ، فذكر الله يبعث على الاطمئنان والقوّة والقدرة والثبات في نفسه.

بالإضافة إلى ذلك ، فذكر الله وحبّه يخرجان حبّ الزوجة والمال ، والأولاد من قلبه ، فإنّ التوجه إلى الله يزيل من القلب كل ما يضعفه ويزلزله ، كما يقول الإمام علي بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام في دعائه المعروف ـ في الصحيفة السجادية ـ بدعاء أهل الثغور : «وأنسهم عند لقائهم العدوّ ذكر دنياهم الخدّاعة ، وامح عن قلوبهم خطرات المال الفتون ، واجعل الجنّة نصب أعينهم».

٣ ـ كما أنّ من أهم أسس المبارزة والمواجهة هو الالتفات للقيادة وإطاعة أوامر القائد والآمر ، الآمر الذي لولاه لما تحقق النصر في معركة بدر ، لذلك فإنّ الآية بعدها تقول :( وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ ) .

٤ ـ( وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا ) لأنّ النزاع والفرقة امام الأعداء يؤدي إلى

٤٥٠

الضعف وخور العزيمة ، ونتيجة هذا الضعف والفتور هي ذهاب هيبة المسلمين وقوتهم وعظمتهم( وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ) .

«والريح» في اللغة ، هي الهواء. فالنزاع يولد الضعف والوهن.

وأمّا ذهاب الريح ، فهو إشارة لطيفة إلى زوال القوّة والعظمة ، وعدم سير الأمور كما يرام ، وعدم تحقق المقصود ، لأنّ حركة الريح فيما يرام توصل السفن إلى مقاصدها ، ولما كانت الريح في ذلك العصر أهم قوّة لتحريك السفن فقد كانت ذات أهمية قصوى يؤمئذ.

وحركة الرّيح في الرّوايات والبيارق تدل على ارتفاع الرّاية التي هي رمز القدرة والحكومة ، والتعبير آنف الذكر كناية لطيفة عن هذا المعنى.

٥ ـ ثمّ تأمر الآية بالاستقامة بوجه العدوّ ، وفي قبال الحوادث الصعبة ، فتقول :( وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) .

والفرق بين ثبات القدم في الأمر الأوّل ، والاستقامة والصبر في الأمر الخامس ، هو من جهة أن ثبات القدم يمثل الناحية الظاهرية ، «الجسمية» أمّا الاستقامة والصبر فليسا ظاهريين ، بل هما أمران نفسيان ومعنويان.

٦ ـ وتدعو الآية الأخيرة ـ من الآيات محل البحث ـ المسلمين إلى اجتناب الأعمال الساذجة البلهاء ، ورفع الأصوات الفارغة ، وتشير إلى قضية أبي سفيان وأسلوب تفكيره هو وأصحابه ، فتقول :( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) .

فأهدافهم غير مقدسة ، وكذلك أساليبهم في الوصول إليها ، ولقد رأينا كيف أبيدوا وتلاشى كلّ ما جاءوا به من قوّة وعدّة ، وسقط بعضهم مضرجا بدمائه في التراب ، وأسبل الآخرون عليهم الدّموع والعبرات في مأتمهم ، بدل أن يشربوا الخمر في حفل ابتهاجهم ، وتختتم الآية بالقول :( وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ) .

* * *

٤٥١

الآيات

( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩) وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١) )

التّفسير

المشركون والمنافقون ووساوس الشيّطان :

مرّة أخرى نلاحظ في هذه الآيات تجسيد جانب آخر من معركة بدر بما يتناسب والآيات السابقة في هذا الشأن ، أو بما يتناسب والآية الأخيرة التي

٤٥٢

تكلمت عن أعمال المشركين الشيطانيّة في يوم بدر.

فكما أنّ دعاة الحق مؤيدون بالله وملائكة في نهجهم الذي سلكوه ، فإنّ أتباع الباطل والضالين متأثرون بوساوس الشياطين وإغواءاتهم.

وقد مرّ في بعض الآيات السابقة كيف أن الملائكة دافعت عن المقاتلين المسلمين في بدر (ومرّ تفسير ذلك). فإنّ أوّل آية من الآيات محل البحث تتكلم عن دفاع الشياطين عن المشركين ، فتبدأ بالقول :( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ) .

إنّ تزيين الشيطان للعمل يكون عن طريق تحريك الأهواء والشهوات والرّذائل ، فيتزين للإنسان عمله حتى ينظر إليه باعجاب ويعده عملا عقلائيا من جميع الجهات ، ويراه منطقيا نبيلا.

ثمّ تقول الآية :( وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ ) .

ولن آلو جهدا في الدفاع عنكم ، كما يدافع الجار عن جاره ويظهر له وفاءه وإخلاصه ، وألازمكم ملازمة الظل للشاخص.

كما ويحتمل في تفسير الجار هنا أنّه ليس المراد من الجار جار الدّار ، بل هو من يؤوي غيره ويؤمنه ويلجأ إليه ، لأنّ من عادة العرب وخاصّة القبائل أو الطوائف القويّة منها أن تضمّن من يلجأ إليها من أصدقائها وأصحابها وتؤمنهم وتدافع عنهم بكل ما أوتيت من قوّة.

فالشيطان يمنح أصحابه المشركين الأمان وورقة اللجوء إليه.

ثمّ تقول الآية :( فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ ) .

واستدل على نكوصه وتراجعه القهقري بدليلين هما :

أوّلا قوله :( إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ ) .

فإنّه يرى آثار النصر جيدا في وجوه المسلمين الغاضبة ويشاهد عليها

٤٥٣

سمات اللطف الإلهي والإمداد الغيبي وتأييد الملائكة لهم ، فمن الطبيعي أن يتراجع عند ما يرى كل ذلك الدعم الرّباني والقوى الغيبة.

والثّاني قوله :( إِنِّي أَخافُ اللهَ ) .

فإنّ الجزاء الإلهي ليس أمرا يسيرا يمكنه أن يقف بوجهه ، بل إنّه هو العذاب الأليم( وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ ) .

هل جاء الشيطان عن طريق الوسوسة أو ظهر متجسدا لهم؟

جرى الكلام بين المفسّرين حول مسألة نفوذ الشيطان إلى قلوب المشركين ، وقوله لهم في ساحة معركة بدر ، وكيفية حصول ذلك ، وتتلخص جميع الآراء القديمة والحديثة في عقيدتين :

١ ـ يعتقد بعضهم أنّ هذا الأمر حصل على صورة وساوس باطنية ، فقد زين لهم بوساوس أعمالهم في عيونهم وصوّر لهم أنّهم يملكون قوّة لا تقهر ، وأغراهم وصوّر لهم أنّه هو ملجؤهم ، إلّا أنّهم بعد قتالهم الشديد للمسلمين ، والحوادث الإعجازية التي حققت النصر للمسلمين ومحت الوساوس عن قلوبهم ، أحسوا بالانكسار وأنّه لا ملجأ لهم أبدا سوى ما ينتظرهم من الجزاء الإلهي والعذاب الشديد.

٢ ـ ويرى بعضهم الآخر أنّ الشيطان تجسد لهم في صورة الإنسان ، ففي رواية أوردتها كتب الحديث كثيرا : إنّ قريشا عند ما قررت التحرك والمسير نحو بدر ، كانت تخشى الهجوم من طائفة بني كنانة لتشاجر كان بينها وبينهم ، وعند ذاك جاءهم إبليس في صورة «سراقة بن مالك» الذي كان من رؤوس بني كنانة وطمأنهم بأنّهم يوافقونهم على هذا الأمر ، وأنّهم سينتصرون ، لكنّه تراجع لما رأى نزول الملائكة ، ولاذ بالفرار وانهزم الجيش عند ما رأى ضربات المسلمين الشديدة وانهزام إبليس.

٤٥٤

وقالت قريش بعد عودتها لمكّة : إنّ سراقة السبب في انهزام الجيش ، فوصل الخبر إلى سراقة فأقسم أنّه لا علم له بذلك ، وعند ما قصّ عليه بعضهم ما كان منه في يوم بدر أنكر كل ذلك وأقسم أنّه لم يخرج من مكّة ولم يحصل من تلك الأمور شيء أبدا ، فعلم أنّ ذلك لم يكن سراقة بن مالك(١) .

ودليل الطائفة الأولى أنّ إبليس لا يستطيع أن يتمثل في سورة إنسان.

بينما ترى الطائفة الثّانية عدم وجود دليل على استحالة هذا الأمر أبدا ، وخاصّة أنّه نقل ما يشبه هذه القصّة في هجرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجيء ، رجل كبير على هيئة شيخ نجدي إلى دار الندوة ، وإضافة إلى أن سياق الآية وظاهر المحادثة يتلاءم مع تجسيد الشيطان.

وعلى أية حال ، فإنّ الآية تدل على أنّ الناس إذا ساروا في نهج الحق أو الباطل في الأمور والقضايا الجماعية ، فإنّ سلسلة من الإمدادات والقوى الغيبية أو القوى الشيطانية ستتحرك معهم ، وهي تظهر في مختلف الصور ، فعلى السائرين في سبيل الحق ومنهاج الله الحذر من هذا الأمر.

وتشير الآية بعدها إلى روحيّة جماعة ممن يميلون إلى الشرك في ساحة بدر ، فتقول :( إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ ) . حين تصوروا أنّهم سينتصرون مع قلّة العدد والعدّة ، أو أنّهم سينالون الشهادة والحياة الابدية في هذا المسار.

لكن هؤلاء لعدم إيمانهم وعدم معرفتهم بالإمداد الإلهي أنكروا تلك الحقائق البينة ، لأنّه كما تقول الآية المباركة :( وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) .

وقد اختلف المفسّرون في المراد من المنافقين و( الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) ولا يستبعد أن تكون العبارتان تشير ان إلى المنافقين في المدينة ، لأنّ

__________________

(١) نقل باختصار عن مجمع البيان ونور الثقلين ، وسائر التفاسير ، ذيل الآية.

٤٥٥

القرآن الكريم عند ما يتعرض لموضوع المنافقين في أوّل سورة البقرة يقول :( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً ) (١) فهؤلاء الذين ذكرتهم الآية ـ محل البحث ـ إمّا أنّهم من المنافقين الذين التحقوا بصفوف المسلمين من المدينة ، وكانوا يظهرون الإسلام والإيمان ولم يكونوا في حقيقتهم كذلك ، أو أنّهم من الذين تظاهروا بالإيمان في مكّة لكنّهم لم يهاجروا إلى المدينة وانضموا في معركة بدر إلى صفوف المشركين ، فلمّا رأوا قلّة المسلمين في معركة بدر قبال جيوش الكافرين قالوا : إنّ هؤلاء أصابهم الغرور في دينهم الجديد وجاءوا إلى هذه الساحة.

وعلى أية حال فإنّ الله سبحانه يخبر عن نيّات هؤلاء الباطنية ، ويوضح الخطأ في تفكير هؤلاء وأمثالهم.

وتجسّد الآية بعدها كيفية موت الكفار ونهاية حياتهم ، فتتوجه بالخطاب إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتقول :( وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ ) .

ومع أنّ الفعل «ترى» فعل مضارع ، لكنّه مع وجود «لو» يدل على الماضي ، فتكون الآية إشارة إلى حالة المشركين السابقة وموتهم الأليم ، ولهذا السبب يعتقد بعض المفسّرين أن ذلك إشارة إلى قتل هؤلاء على أيدي الملائكة في بدر ، وأوردوا في هذا الصدد بعض الرّوايات غير المؤكّدة. إلّا أنّ القرائن ـ كما أشرنا سابقا ـ تدل على عدم تدخل الملائكة مباشرة في الحرب أو المعركة ، فبناء على هذا فإنّ الآية محل البحث تتكلم عن ملائكة الموت وكيفية قبض الأرواح والجزاء الأليم الذي يمنى به أعداء الحق في تلك اللحظة.

و( عَذابَ الْحَرِيقِ ) إشارة إلى جزاء يوم القيامة وعقابه ، وقد جاء هذا التعبير

__________________

(١) البقرة ، ١٠.

٤٥٦

في آيات أخرى من القرآن كالآية (٢٢) من سورة الحج ، والآية (١٠) من سورة المعارج بالمعنى ذاته ثمّ يقال لأولئك :( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ) .

والتعبير بـ «أيديكم» إنّما جاء لأنّ أكثر أعمال الإنسان يجريها بالاستعانة باليّد ، وإلّا فإنّ الآية تشمل جميع الأعمال البدنية والروحية.

وتضيف الآية الأخيرة معقبة بالقول :( وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) .

ومصطلح «الظلّام» صيغة مبالغة ، ومعناها شديد الظلم ، وقد أوضحنا السبب في اختيار هذه الكلمة وأمثالها في بحوث حول الظلم في المجلد الثّالث من التّفسير الأمثل فليراجع هناك.

* * *

٤٥٧

الآيات

( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤) )

التّفسير

سنّة الله تقبل التغيير والتبديل :

في هذه الآيات إشارة إلى «سنة إلهية دائمة» تتعلق بالشعوب والأمم والمجتمعات ، لئلا يتصور بعض أنّ ما أصاب المشركين يوم بدر من عاقبة سيئة كان أمرا استثنائيا ، فإنّ من جاء بمثل تلك الأعمال في السابق ، أو سيقوم بها مستقبلا سينال العاقبة ذاتها.

فتقول الآية الأولى من الآيات محل البحث :( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ ) .

٤٥٨

فبناء على هذه فإنّ قريشا والمشركين وعبدة الأصنام في مكّة ، الذين أنكروا آيات الله وتعنتوا بوجه الحق وحاربوا قادة الإنسانية ، ليسوا وحدهم الذين نالوا جزاء ما اقترفوه ، بل أنّ ذلك قانون دائم ، وسنة إلهية تشمل من هم أقوى منهم ـ كآل فرعون ـ كما تشمل الشعوب الضعيفة كذلك ، ثمّ توضح الآية التالية أصل هذا الموضوع فتقول :( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) .

وبعبارة أخرى : إنّ الرحمة الرّبانيّة عامّة تسع جميع الخلق ، لكنّها تبلغ الناس وتصل إليهم بما يناسب كفاءتهم وشأنهم ، فإنّ الله سبحانه يغدق مبتدئا بنعمه الماديّة والمعنويّة على جميع الأمم ، فإذا استفادوا من تلك النعم في السير نحو الكمال والاستمداد منها في سبيل الحق تعالى والشكر على نعمائه ، بالإفادة منها إفادة صحيحة ، فإنّ الله سبحانه سيثبّت نعماءه ويزيدها. أمّا إذا استغلت تلك المواهب في سبيل الطغيان والانحراف والعنصرية ، وكفران النعمة والغرور والفساد ، فإنّ الله سيسلبهم تلك النعم أو يبدلها إلى بلاء ومصيبة ، بناء على ذلك فإنّ التغيير يكون من قبلنا دائما ، وإلّا فإنّ النعماء الإلهية لا تزول! وتعقيبا على هذا الهدف يعود القرآن ليشير إلى حال الطغاة ـ كفرعون وأقوام آخرين ـ فيقول :( دَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ ) ظلموا أنفسهم وظلموا سواهم أيضا.

الجواب على سؤال :

قد يرد هنا سؤال وهو : لم تكررت عبارة( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ) في الآي بفاصلة قليلة مرّتين ، ومع اختلاف يسير في التعبير؟!

وللإجابة على هذا التساؤل ينبغي الالتفات إلى لطيفة ، وهي أنّه بالرغم من

٤٥٩

أنّ التكرار أو التأكيد على المسائل الحساسة من أصول البلاغة ، ويلاحظ في أقوال البلغاء والفصحاء ، لكنّ في الآيات ـ آنفة الذكر ـ فرقا مهما يخرج تلك العبارة عن صورة التكرار. وهو أنّ الآية الأولى تشير إلى الجزاء الإلهي في مقابل إنكار آيات الحق والتكذيب بها ، ثمّ تمثل حال هؤلاء بقوم فرعون والأقوام السابقين.

إلّا أنّ الآية الثّانية تشير إلى تبدل النعم في الدنيا وذهاب المواهب الرّبانية ، مثل الانتصارات والأمن والقدرات وما يفتخر به. ثمّ مثّلت الآية بحال فرعون والأقوام السابقين.

ففي الحقيقة أنّ جانبا من الكلام كان عن سلب النعم وما ينتج عن ذلك من الجزاء ، ويقع الكلام في جانب آخر منه على تبدل النعم وتحوّلها.

* * *

ملاحظتان

١ ـ أسباب حياة الشعوب وموتها

يعرض التأريخ لنا شعوبا وأممّا كثيرة ، فطائفة اجتازت سلّم الرقي بسرعة ، ووصلت طائفة ثانية إلى أسفل مراحل الانحطاط ، وطائفة ثالثة عاشت يوما في تشتت وضياع وتناحر وتفرقة ، ثمّ قويت في يوم آخر ، وطائفة رابعة على العكس منها إذ سقطت من أعلى مراتب الفخر إلى قعر وديان الذلة والضياع.

والكثير من الناس يمرّون مرور الكرام على حوادث التأريخ المختلفة دون أي تفكر فيها ، والكثير منهم بدلا من البحث في العلل أو الأسباب الواقعية لحياة الشعوب وموتها يرجعون ذلك إلى أسباب وهمية وخيالية.

ويرجعوها آخرون إلى حركة الأفلاك ودورانها إيجابا وسلبا.

وأخيرا فإنّ بعضهم لجأ إلى مسألة القضاء والقدر بمفهومها المحرّف ، أو إلى

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606