الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245181 / تحميل: 6211
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

لهم بأي وجه أن يأخذوا شيئا من الخمس.

أمّا ما يقوله بعض السواد بأنّ السّادة يمكنهم أخذ الخمس حتى ولو كان ميزاب بيتهم من ذهب فهو كلام ساذج ولا أساس له أبدا.

ثانيا : إنّ المحتاجين والضعفاء من سادات بني هاشم لا يحق لهم أخذ شيء من الزكاة ، فلهذا جاز لهم أن يأخذوا من هذا القسم من الخمس فحسب.(١)

ثالثا : إذا زاد القسم المختص لبني هاشم عن احتياجاتهم فإنّه يرجع إلى بيت المال حتى ينفق في مصارف أخرى ، كما أنّه إذ نقص هذا السهم عن حاجتهم يدفع الباقي من بيت المال إليهم أو من سهم الزكاة.

وبملاحظة تلك النقاط الثلاث يتّضح لنا عدم وجود فرق ـ في الواقع ـ من النّاحية الماديّة بين السادة وغيرهم.

فالمحتاجون من غيرهم يمكنهم سدّ حاجتهم من الزّكاة ويحرمون من الخمس ، والمحتاجون من السادة يسدّون حاجتهم من الخمس ويحرمون من الزّكاة.

فيوجد في الحقيقة صندوقان ، هما صندوق الخمس وصندوق الزكاة ، فيحق لكل من القسمين الأخذ من أحد الصندوقين وبصورة التساوي فيما بينهما ، أي ما يحتاجه كلّ لعام واحد (فتأمل).

فالذين لم يمعنوا النظر في هذه الشروط والخصوصيات تصوّروا من بيت المال أكثر من غيرهم أو أنّهم يتمتعون بامتياز خاص.

والسؤال الوحيد الذي يطرح نفسه هنا هو : إذا قلنا بعدم الفرق بين الإثنين آخر الإمر ، فما جدوى هذه الخطة إذا؟!

ويمكن أن ندرك جواب هذا التساؤل بملاحظة شيء واحد ، وهو أنّ بين

__________________

(١) إنّ حرمة أخذ بني هاشم الزكاة مسلم بها وقد وردت في أكثر كتب الحديث وفتاوى العلماء وكتبهم الفقهية ، فهل يعقل بأنّ الإسلام قد فكّر في شأن الفقراء والمحتاجين من غير بني هاشم ولم يعالج قضية المحتاجين من بني هاشم؟ فتركهم لحالهم.

٤٤١

الزكاة والخمس بونا شاسعا ، إذ أنّ الزكاة من ضرائب الأموال العامّة للمجتمع الإسلامي فتصرف عموما في هذه الجهة ، ولكن الخمس من ضرائب الحكومة الإسلامية فيصرف على القيادة والحكومة الإسلامية وتؤمن حاجتها منه.

فالتحريم على السادة من مدّ أيديهم للأموال العامّة ، «الزّكاة» كان في الحقيقة ليجتنبوا عن هذا المال باعتبارهم أقارب النّبي ، ولكيلا تكون ذريعة بيد الأعداء بأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سلط أقرباءه على الأموال العامّة.

إلّا أنّه ـ من جانب آخر ـ ينبغي سدّ حاجة الضعفاء والفقراء من السادة ، لذلك جعلت هذه الخطة لسدّ حاجتهم من ميزانية الحكومة الإسلامية لا من الميزانية العامّة ففي الحقيقة أنّ الخمس ليس امتيازا لبني هاشم ، بل هو لإبعادهم من أجل الصالح العام ولئلا ينبعث سوء الظن بهم(١) .

والذي يسترعي النظر أنّ هذا الإمر أشارت إليه أحاديث الشيعة والسنة ، ففي حديث عن الإمام الصادق نقرأ : «أنّ أناسا من بني هاشم أتوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسألوه أن يستعملهم على صدقات المواشي ، وقالوا : يكون لنا هذا السهم الذي جعل اللهعزوجل للعاملين عليها فنحن أولى به ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا بني عبد المطلب (هاشم) إن الصدقة لا تحل لي ولا لكم ، ولكنّي وعدت الشفاعة ، إلى أن قال : «أتروني مؤثرا عليكم غيركم»(٢) .

ويدل هذا الحديث على أن بني هاشم كانوا يرون في ذلك الأمر حرمانا ، وقد وعدهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يشفع لهم.

ونقرأ حديثا في صحيح مسلم الذي يعد من أهم مصادر الحديث عند أهل السنة ، خلاصته أنّ العباس وربيعة بن الحارث جاء إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطلبا منه أن

__________________

(١) وإذا لاحظنا أنّ في بعض الرّوايات التعبير بـ «كرامة لهم من أوساخ الناس» فهو ليقنع بني هاشم من هذه الحرمة من جانب ، وليفهم الناس أن يؤدوا الزّكاة إلى المحتاجين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، ص ١٨٦.

٤٤٢

يأمر ابنيهما ـ وكانا فتيين وهما عبد المطلب بن ربيعة والفضل بن العباس ـ بجمع الزكاة ليتمكنا أن يأخذا سهما منه شأنهما كشأن الآخرين ، ليؤمّنا لنفسيهما المال الكافي لزواجهما ، فامتنع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمر بسد حاجتهما عن طريق آخر وهو الخمس.

ويستفاد من هذا الحديث الذي يطول شرحه أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مصرّا على أبعاد أقاربه عن الحصول على الزكاة التي هي من أموال عامّة الناس.

من مجموع ما قلناه يتّضح أنّ الخمس ليس امتيازا للسّادة ، بل هو نوع من الحرمان لحفظ المصالح العامّة

٧ ـ ما هو المراد من سهم الله؟

إنّ ذكر سهم على أنّه سهم الله ، للتأكيد على أهمية مسألة الخمس وإثباتها ، ولتأكيد ولاية الرّسول والقيادة الإسلامية وحاكمية النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا.

أي كما أنّ الله جعل سهما باسمه وهو أحق بالتصرف فيه ، فقد أعطى النّبي والإمام حق الولاية والتصرف فيه كذلك ، إلّا فإنّ سهم الله يجعل تحت تصرف النّبي أو الإمام يصرفه في المكان المناسب ، وليس لله حاجة في سهم معين.

* * *

٤٤٣

الآيات

( إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤) )

التّفسير

الأمر الذي لا بدّ منه :

يعود القرآن في هذه الآيات الكريمة ـ ولمناسبة الكلام في الآيات السابقة إلى يوم الفرقان يوم معركة بدر وانتصار المسلمين لمؤزر في ذلك الموقف الخطير ـ يعود ليعرب عن أجزاء من فصول تلك المعركة ، ليطلع المسلمون على

٤٤٤

أهمية ذلك النصر العظيم.

فتقول الآية الأولى من الآيات محل البحث :( إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى ) .

«العدوة» مأخوذة من «العدو» على زنة «السّرو» ومعناها في الأصل التجاوز ، ولكنّها تطلق على أطراف كل شيء ، وحواشيه ، لأنّها تتجاوز الحدّ الوسط إلى إحدى الجوانب ، وجاءت هذه الكلمة في هذه الآية بهذا المعني أي «الطرف ، والجانب».

«والدنيا» مأخوذة من الدنّو ، على وزن العلوّ وتعني الأقرب ، ويقابل هذا اللفظ الأقصى والقصوى.

وكان المسلمون في الجانب الشمالي من ميدان الحرب الذي هو أقرب إلى جهة المدينة ، وكان الأعداء في الجانب الجنوبي وهو الأبعد.

ويحتمل أن يكون المعنى هو أنّ المسلمين لاضطرارهم كانوا في القسم الأسفل في الميدان ، وكان الأعداء في القسم الأعلى منه وهو يعدّ ميزة لهم.

ثمّ تعقّب الآية قائلة :( وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ) .

وكما رأينا من قبل فإنّ أبا سفيان حين علم بتحرّك المسلمين غيّر مسير قافلته إلى جهة أخرى على جانب البحر الأحمر حتى صار قريبا من مكّة ، ولو أنّ المسلمين لم يضلّوا أثر القافلة فلعلهم كانوا يتبعونها ، ولا يوفقون لمواجهة الأعداء ومنازلتهم في معركة بدر التي تحقق فيها النصر العظيم والفتح المبين.

وبغض النظر عن كل ذلك فإنّ عدد قوات المسلمين وإمكاناتهم كان أقلّ من قوات الأعداء من جميع الوجوه ، لهذا فإنّ الآية الكريمة تقول :( وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ ) .

لأنّ الكثير منكم سيدركون ضعفهم الظاهري قبال الأعداء فيتقاعسون عن قتالهم ، ولكن الله جعلكم إزاء أمر مقدر ، وكما تقول الآية :( لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ

٤٤٥

مَفْعُولاً ) .

وليعرف الحق من الباطل في ظلال ذلك النصر غير المتوقع والمعجزة الباهرة و( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) .

والمراد من «الحياة» و «الهلكة» هنا هو الهداية والضلال ، لأنّ يوم بدر الذي سمّي يوم الفرقان تجلّى فيه الإمداد الإلهي لنصرة المسلمين ، وثبت فيه أن لهؤلاء علاقة بالله وأنّ الحق معهم.

وتعقبّ الآية قائلة :( وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ) .

فقد سمع نداء استغاثاتكم ، وكان مطلعا على نيّاتكم ، ولذلك أيّدكم بنصره على أعدائكم.

إنّ القرائن تدلّ عن أنّ بعض المسلمين لو كانوا يعرفون حجم قوّة أعدائهم لامتنعوا عن مواجهتهم ، مع أنّ طائفة أخرى من المسلمين كانوا مطيعين للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مواجهة جميع الشدائد ، لهذا فإنّ الله جعل الأمور تسير بشكل يلتقي فيه المسلمون ـ شاءوا أم أبوا ـ مع أعدائهم ، فكانت المواجهة المصيرية.

وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد رأى فيه منامه من قبل أن قلّة المشركين تقاتل المسلمين ، وكانت هذه الرؤيا إشارة إلى النصر وبشارة به ، فقد رواهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمسلمين فازدادت العزائم في الزحف نحو معركة بدر.

وبالطبع فإنّ رؤيا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في منامه كانت صحيحة ، لأنّ قوّة الأعداء وعددهم بالرغم من كثرتهم الظاهرية ، إلّا أنّهم كانوا قلّة في الباطن ضعفاء غير قادرين على مواجهة المسلمين ، ونحن نعرف أنّ الرؤيا ذات تعبير وإشارة ، وأن الرؤيا الصحيحة هي التي تكشف الوجه الباطني للأمور.

والآية الثّانية : من الآيات محل البحث تشير إلى الحكمة من هذا الأمر ، والنعمة التي أولاها سبحانه وتعالى للمسلمين عن هذا الطريق ، فتقول :( إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ ) ولهبطت معنوياتكم ، ولم يقف الأمر

٤٤٦

عند هذا الحدّ ، بل لأدّى ذلك إلى التنازع واختلاف الكلمة( وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ ) وأنقذ الأمر بواسطة الرؤيا التي أظهرت الوجه الباطني لجيش الأعداء ، ولأنّ الله يعرف باطنكم( إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) .

وتذكّر الآية الأخرى بمرحلة من مراحل معركة بدر تختلف عن سابقتها ، ففي هذه المرحلة وفي ظل خطاب النّبي المؤثر فيهم والبشائر الرّبانية ، ورؤية حوادث حال التهيؤ للقتال ـ كنزول المطر لرفع العطش ولتكون الرمال الرخوة صالحة لساحة المعركة ـ تجددت بذلك المعنويات وكبر الأمل بالنصر وقويت عزائم القلوب ، حتى صاروا يرون الجيش المعادي وكأنّه صغير ضعيف لا حول ولا قوة له ، فتقول الآية المباركة :( وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً ) .

أمّا العدوّ فإنّه لما كان يجهل معنويات المسلمين وظروفهم ، فكان ينظر إلى ظاهرهم فيراهم قليلا جدّا ، بل رآهم أقل ممّا هم عليه ، إذ تقول الآية في الصدد( وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ) .

حتى روي عن أبي جهل أنّه قال : إنّما أصحاب محمّد أكلة جزور ، وفي ذلك كناية عن منتهى القلّة. أو أنّهم سيحسمون الأمر معهم في يوم واحد من الغداة حتى العشية ، وقد جاء في الأخبار أنّهم كانوا ينحرون كل يوم عشرة من الإبل لطعامهم ، لأنّ عدد جيش قريش كان حوالي ألف مقاتل.

وعلى كل حال : فقد كان تأثير هذين الأمرين كبيرا في نصر المسلمين ، لأنّهم من جهة رأوا جيش العدو قليلا فنزال كل خوف ورعب من نفوسهم ، ومن جهة أخرى ظهر عدد المسلمين قليلا في عين العدو ، كيلا يترددوا في قتال المسلمين وينصرفوا عن الحرب التي أدت في النهاية إلى هزيمتهم.

لهذا فإنّ الآية تعقب على ما سبق قائلة :( لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً ) .

فلم تنته هذه المعركة وحدها وفق سنة الله فحسب ، بل إن إرادته نافذة في كل شيء( وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ) .

٤٤٧

وفي الآية (١٣) من سورة آل عمران إشارة إلى المرحلة الثّالثة من قتال يوم بدر ، إذ تشير إلى أنّ الأعداء لمّا اشتعل أوار الحرب ورأوا الضربات الشديدة لجيش الإسلام تنزل على رؤوسهم كالصواعق ، أصابهم الذعر والخوف الشديد ، فأحسوا عندئذ وكأنّ جيش الإسلام قد ازداد عدده وتضاعف أضعاف ما كان عليه ، فانهارت معنوياتهم وأدّى هذا الأمر إلى هزيمتهم وتمزقهم.

وممّا ذكرناه آنفا يتّضح أنّه لا يوجد أي تناقض ، لا بين الآيات محل البحث ، ولا بينها وبين الآية (١٣) من سورة آل عمران ، لإنّ كلّا من هذه الآيات تبيّن مرحلة من مراحل المعركة.

فالمرحلة الأولى : هي ما قبل القتال ، وهي ما ورد فيها عن رؤيا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في منامه ورؤيته جيش المشركين قليلا.

والمرحلة الثّانية : هي نزولهم في أرض بدر ومعرفة بعض المسلمين بعدد الأعداء وعدده وخوف بعضهم وخشيته من قتالهم.

والمرحلة الثّالثة : هي حصول المواجهة المسلحة وما أنعمه الله عليهم ، وما رأوه من مشاهد قلّلت عدد أعدائهم في أعينهم «فتأملوا بدقّة!».

* * *

٤٤٨

الآيات

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧) )

التّفسير

ستة أوامر أخرى في شأن الجهاد :

قال المفسّرون : إنّ أبا سفيان بعد ما استطاع النجاة بقافلة قريش التجارية من مواجهة المسلمين ، أرسل مبعوثا إلى قريش الذاهبين إلى ساحة بدر ودعاهم إلى العودة ، لأنّه رأى أن لا حاجة إلى القتال ، لكن أبا جهل هذا المغرور والمتعصب والمتكبر أقسم أن لا يرجعوا حتى يبلغوا أرض بدر «وكانت بدر قبل هذه المعركة من مراكز اجتماع العرب ، وتقام فيها سوق تجارية كل عام» ويمكثوا فيها ثلاثة أيّام ، وينحروا الإبل ويأكلون ما يشتهون ويشربون الخمر ، وتغني لهم المغنيّات ، حتى يسمع جميع العرب بهم وتثبت بذلك قوتهم وقدرتهم!

٤٤٩

لكن أمرهم آل إلى الهزيمة فشربوا كؤوس المنايا المترعة بدلا من كؤوس الخمر ، وجلست المغنيات ينحن على جنائزهم!!

والآيات محل البحث تشير إلى هذا الموضوع ، وتنهى المسلمين عن مثل هذه الأعمال ، وتضع لهم تعاليم جديدة في شأن الجهاد إضافة إلى ما سبق من هذه الأمور.

وبصورة عاملة فإنّ في الآيات محل البحث ستة أوامر للمسلمين هي :

١ ـ أنّها تقول أوّلا :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا ) أي أن إحدى علائم الإيمان هي ثبات القدم في جميع الأحوال ، وخاصّة في مواجهة الأعداء.

٢ ـ( وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) .

ولا ريب أنّ المراد من ذكر الله هنا ليس هو الذكر اللفظي فحسب ، بل حضور القلب ، وذكر علمه تعالى وقدرته غير المحدودة ورحمته الواسعة ، فهذا التوجه إلى الله يقوّي من عزيمة الجنود المجاهدين ، ويشعر الجندي بأنّ سندا قويّا لا تستطيع أية قدرة في الوجود أن تتغلب عليه يدعمه في ساحة القتال ، وإذا قتل فسينال السعادة الكبرى ويبلغ الشهادة العظمى ، وجوار رحمة الله ، فذكر الله يبعث على الاطمئنان والقوّة والقدرة والثبات في نفسه.

بالإضافة إلى ذلك ، فذكر الله وحبّه يخرجان حبّ الزوجة والمال ، والأولاد من قلبه ، فإنّ التوجه إلى الله يزيل من القلب كل ما يضعفه ويزلزله ، كما يقول الإمام علي بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام في دعائه المعروف ـ في الصحيفة السجادية ـ بدعاء أهل الثغور : «وأنسهم عند لقائهم العدوّ ذكر دنياهم الخدّاعة ، وامح عن قلوبهم خطرات المال الفتون ، واجعل الجنّة نصب أعينهم».

٣ ـ كما أنّ من أهم أسس المبارزة والمواجهة هو الالتفات للقيادة وإطاعة أوامر القائد والآمر ، الآمر الذي لولاه لما تحقق النصر في معركة بدر ، لذلك فإنّ الآية بعدها تقول :( وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ ) .

٤ ـ( وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا ) لأنّ النزاع والفرقة امام الأعداء يؤدي إلى

٤٥٠

الضعف وخور العزيمة ، ونتيجة هذا الضعف والفتور هي ذهاب هيبة المسلمين وقوتهم وعظمتهم( وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ) .

«والريح» في اللغة ، هي الهواء. فالنزاع يولد الضعف والوهن.

وأمّا ذهاب الريح ، فهو إشارة لطيفة إلى زوال القوّة والعظمة ، وعدم سير الأمور كما يرام ، وعدم تحقق المقصود ، لأنّ حركة الريح فيما يرام توصل السفن إلى مقاصدها ، ولما كانت الريح في ذلك العصر أهم قوّة لتحريك السفن فقد كانت ذات أهمية قصوى يؤمئذ.

وحركة الرّيح في الرّوايات والبيارق تدل على ارتفاع الرّاية التي هي رمز القدرة والحكومة ، والتعبير آنف الذكر كناية لطيفة عن هذا المعنى.

٥ ـ ثمّ تأمر الآية بالاستقامة بوجه العدوّ ، وفي قبال الحوادث الصعبة ، فتقول :( وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) .

والفرق بين ثبات القدم في الأمر الأوّل ، والاستقامة والصبر في الأمر الخامس ، هو من جهة أن ثبات القدم يمثل الناحية الظاهرية ، «الجسمية» أمّا الاستقامة والصبر فليسا ظاهريين ، بل هما أمران نفسيان ومعنويان.

٦ ـ وتدعو الآية الأخيرة ـ من الآيات محل البحث ـ المسلمين إلى اجتناب الأعمال الساذجة البلهاء ، ورفع الأصوات الفارغة ، وتشير إلى قضية أبي سفيان وأسلوب تفكيره هو وأصحابه ، فتقول :( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) .

فأهدافهم غير مقدسة ، وكذلك أساليبهم في الوصول إليها ، ولقد رأينا كيف أبيدوا وتلاشى كلّ ما جاءوا به من قوّة وعدّة ، وسقط بعضهم مضرجا بدمائه في التراب ، وأسبل الآخرون عليهم الدّموع والعبرات في مأتمهم ، بدل أن يشربوا الخمر في حفل ابتهاجهم ، وتختتم الآية بالقول :( وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ) .

* * *

٤٥١

الآيات

( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩) وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١) )

التّفسير

المشركون والمنافقون ووساوس الشيّطان :

مرّة أخرى نلاحظ في هذه الآيات تجسيد جانب آخر من معركة بدر بما يتناسب والآيات السابقة في هذا الشأن ، أو بما يتناسب والآية الأخيرة التي

٤٥٢

تكلمت عن أعمال المشركين الشيطانيّة في يوم بدر.

فكما أنّ دعاة الحق مؤيدون بالله وملائكة في نهجهم الذي سلكوه ، فإنّ أتباع الباطل والضالين متأثرون بوساوس الشياطين وإغواءاتهم.

وقد مرّ في بعض الآيات السابقة كيف أن الملائكة دافعت عن المقاتلين المسلمين في بدر (ومرّ تفسير ذلك). فإنّ أوّل آية من الآيات محل البحث تتكلم عن دفاع الشياطين عن المشركين ، فتبدأ بالقول :( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ) .

إنّ تزيين الشيطان للعمل يكون عن طريق تحريك الأهواء والشهوات والرّذائل ، فيتزين للإنسان عمله حتى ينظر إليه باعجاب ويعده عملا عقلائيا من جميع الجهات ، ويراه منطقيا نبيلا.

ثمّ تقول الآية :( وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ ) .

ولن آلو جهدا في الدفاع عنكم ، كما يدافع الجار عن جاره ويظهر له وفاءه وإخلاصه ، وألازمكم ملازمة الظل للشاخص.

كما ويحتمل في تفسير الجار هنا أنّه ليس المراد من الجار جار الدّار ، بل هو من يؤوي غيره ويؤمنه ويلجأ إليه ، لأنّ من عادة العرب وخاصّة القبائل أو الطوائف القويّة منها أن تضمّن من يلجأ إليها من أصدقائها وأصحابها وتؤمنهم وتدافع عنهم بكل ما أوتيت من قوّة.

فالشيطان يمنح أصحابه المشركين الأمان وورقة اللجوء إليه.

ثمّ تقول الآية :( فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ ) .

واستدل على نكوصه وتراجعه القهقري بدليلين هما :

أوّلا قوله :( إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ ) .

فإنّه يرى آثار النصر جيدا في وجوه المسلمين الغاضبة ويشاهد عليها

٤٥٣

سمات اللطف الإلهي والإمداد الغيبي وتأييد الملائكة لهم ، فمن الطبيعي أن يتراجع عند ما يرى كل ذلك الدعم الرّباني والقوى الغيبة.

والثّاني قوله :( إِنِّي أَخافُ اللهَ ) .

فإنّ الجزاء الإلهي ليس أمرا يسيرا يمكنه أن يقف بوجهه ، بل إنّه هو العذاب الأليم( وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ ) .

هل جاء الشيطان عن طريق الوسوسة أو ظهر متجسدا لهم؟

جرى الكلام بين المفسّرين حول مسألة نفوذ الشيطان إلى قلوب المشركين ، وقوله لهم في ساحة معركة بدر ، وكيفية حصول ذلك ، وتتلخص جميع الآراء القديمة والحديثة في عقيدتين :

١ ـ يعتقد بعضهم أنّ هذا الأمر حصل على صورة وساوس باطنية ، فقد زين لهم بوساوس أعمالهم في عيونهم وصوّر لهم أنّهم يملكون قوّة لا تقهر ، وأغراهم وصوّر لهم أنّه هو ملجؤهم ، إلّا أنّهم بعد قتالهم الشديد للمسلمين ، والحوادث الإعجازية التي حققت النصر للمسلمين ومحت الوساوس عن قلوبهم ، أحسوا بالانكسار وأنّه لا ملجأ لهم أبدا سوى ما ينتظرهم من الجزاء الإلهي والعذاب الشديد.

٢ ـ ويرى بعضهم الآخر أنّ الشيطان تجسد لهم في صورة الإنسان ، ففي رواية أوردتها كتب الحديث كثيرا : إنّ قريشا عند ما قررت التحرك والمسير نحو بدر ، كانت تخشى الهجوم من طائفة بني كنانة لتشاجر كان بينها وبينهم ، وعند ذاك جاءهم إبليس في صورة «سراقة بن مالك» الذي كان من رؤوس بني كنانة وطمأنهم بأنّهم يوافقونهم على هذا الأمر ، وأنّهم سينتصرون ، لكنّه تراجع لما رأى نزول الملائكة ، ولاذ بالفرار وانهزم الجيش عند ما رأى ضربات المسلمين الشديدة وانهزام إبليس.

٤٥٤

وقالت قريش بعد عودتها لمكّة : إنّ سراقة السبب في انهزام الجيش ، فوصل الخبر إلى سراقة فأقسم أنّه لا علم له بذلك ، وعند ما قصّ عليه بعضهم ما كان منه في يوم بدر أنكر كل ذلك وأقسم أنّه لم يخرج من مكّة ولم يحصل من تلك الأمور شيء أبدا ، فعلم أنّ ذلك لم يكن سراقة بن مالك(١) .

ودليل الطائفة الأولى أنّ إبليس لا يستطيع أن يتمثل في سورة إنسان.

بينما ترى الطائفة الثّانية عدم وجود دليل على استحالة هذا الأمر أبدا ، وخاصّة أنّه نقل ما يشبه هذه القصّة في هجرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجيء ، رجل كبير على هيئة شيخ نجدي إلى دار الندوة ، وإضافة إلى أن سياق الآية وظاهر المحادثة يتلاءم مع تجسيد الشيطان.

وعلى أية حال ، فإنّ الآية تدل على أنّ الناس إذا ساروا في نهج الحق أو الباطل في الأمور والقضايا الجماعية ، فإنّ سلسلة من الإمدادات والقوى الغيبية أو القوى الشيطانية ستتحرك معهم ، وهي تظهر في مختلف الصور ، فعلى السائرين في سبيل الحق ومنهاج الله الحذر من هذا الأمر.

وتشير الآية بعدها إلى روحيّة جماعة ممن يميلون إلى الشرك في ساحة بدر ، فتقول :( إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ ) . حين تصوروا أنّهم سينتصرون مع قلّة العدد والعدّة ، أو أنّهم سينالون الشهادة والحياة الابدية في هذا المسار.

لكن هؤلاء لعدم إيمانهم وعدم معرفتهم بالإمداد الإلهي أنكروا تلك الحقائق البينة ، لأنّه كما تقول الآية المباركة :( وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) .

وقد اختلف المفسّرون في المراد من المنافقين و( الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) ولا يستبعد أن تكون العبارتان تشير ان إلى المنافقين في المدينة ، لأنّ

__________________

(١) نقل باختصار عن مجمع البيان ونور الثقلين ، وسائر التفاسير ، ذيل الآية.

٤٥٥

القرآن الكريم عند ما يتعرض لموضوع المنافقين في أوّل سورة البقرة يقول :( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً ) (١) فهؤلاء الذين ذكرتهم الآية ـ محل البحث ـ إمّا أنّهم من المنافقين الذين التحقوا بصفوف المسلمين من المدينة ، وكانوا يظهرون الإسلام والإيمان ولم يكونوا في حقيقتهم كذلك ، أو أنّهم من الذين تظاهروا بالإيمان في مكّة لكنّهم لم يهاجروا إلى المدينة وانضموا في معركة بدر إلى صفوف المشركين ، فلمّا رأوا قلّة المسلمين في معركة بدر قبال جيوش الكافرين قالوا : إنّ هؤلاء أصابهم الغرور في دينهم الجديد وجاءوا إلى هذه الساحة.

وعلى أية حال فإنّ الله سبحانه يخبر عن نيّات هؤلاء الباطنية ، ويوضح الخطأ في تفكير هؤلاء وأمثالهم.

وتجسّد الآية بعدها كيفية موت الكفار ونهاية حياتهم ، فتتوجه بالخطاب إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتقول :( وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ ) .

ومع أنّ الفعل «ترى» فعل مضارع ، لكنّه مع وجود «لو» يدل على الماضي ، فتكون الآية إشارة إلى حالة المشركين السابقة وموتهم الأليم ، ولهذا السبب يعتقد بعض المفسّرين أن ذلك إشارة إلى قتل هؤلاء على أيدي الملائكة في بدر ، وأوردوا في هذا الصدد بعض الرّوايات غير المؤكّدة. إلّا أنّ القرائن ـ كما أشرنا سابقا ـ تدل على عدم تدخل الملائكة مباشرة في الحرب أو المعركة ، فبناء على هذا فإنّ الآية محل البحث تتكلم عن ملائكة الموت وكيفية قبض الأرواح والجزاء الأليم الذي يمنى به أعداء الحق في تلك اللحظة.

و( عَذابَ الْحَرِيقِ ) إشارة إلى جزاء يوم القيامة وعقابه ، وقد جاء هذا التعبير

__________________

(١) البقرة ، ١٠.

٤٥٦

في آيات أخرى من القرآن كالآية (٢٢) من سورة الحج ، والآية (١٠) من سورة المعارج بالمعنى ذاته ثمّ يقال لأولئك :( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ) .

والتعبير بـ «أيديكم» إنّما جاء لأنّ أكثر أعمال الإنسان يجريها بالاستعانة باليّد ، وإلّا فإنّ الآية تشمل جميع الأعمال البدنية والروحية.

وتضيف الآية الأخيرة معقبة بالقول :( وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) .

ومصطلح «الظلّام» صيغة مبالغة ، ومعناها شديد الظلم ، وقد أوضحنا السبب في اختيار هذه الكلمة وأمثالها في بحوث حول الظلم في المجلد الثّالث من التّفسير الأمثل فليراجع هناك.

* * *

٤٥٧

الآيات

( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤) )

التّفسير

سنّة الله تقبل التغيير والتبديل :

في هذه الآيات إشارة إلى «سنة إلهية دائمة» تتعلق بالشعوب والأمم والمجتمعات ، لئلا يتصور بعض أنّ ما أصاب المشركين يوم بدر من عاقبة سيئة كان أمرا استثنائيا ، فإنّ من جاء بمثل تلك الأعمال في السابق ، أو سيقوم بها مستقبلا سينال العاقبة ذاتها.

فتقول الآية الأولى من الآيات محل البحث :( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ ) .

٤٥٨

فبناء على هذه فإنّ قريشا والمشركين وعبدة الأصنام في مكّة ، الذين أنكروا آيات الله وتعنتوا بوجه الحق وحاربوا قادة الإنسانية ، ليسوا وحدهم الذين نالوا جزاء ما اقترفوه ، بل أنّ ذلك قانون دائم ، وسنة إلهية تشمل من هم أقوى منهم ـ كآل فرعون ـ كما تشمل الشعوب الضعيفة كذلك ، ثمّ توضح الآية التالية أصل هذا الموضوع فتقول :( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) .

وبعبارة أخرى : إنّ الرحمة الرّبانيّة عامّة تسع جميع الخلق ، لكنّها تبلغ الناس وتصل إليهم بما يناسب كفاءتهم وشأنهم ، فإنّ الله سبحانه يغدق مبتدئا بنعمه الماديّة والمعنويّة على جميع الأمم ، فإذا استفادوا من تلك النعم في السير نحو الكمال والاستمداد منها في سبيل الحق تعالى والشكر على نعمائه ، بالإفادة منها إفادة صحيحة ، فإنّ الله سبحانه سيثبّت نعماءه ويزيدها. أمّا إذا استغلت تلك المواهب في سبيل الطغيان والانحراف والعنصرية ، وكفران النعمة والغرور والفساد ، فإنّ الله سيسلبهم تلك النعم أو يبدلها إلى بلاء ومصيبة ، بناء على ذلك فإنّ التغيير يكون من قبلنا دائما ، وإلّا فإنّ النعماء الإلهية لا تزول! وتعقيبا على هذا الهدف يعود القرآن ليشير إلى حال الطغاة ـ كفرعون وأقوام آخرين ـ فيقول :( دَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ ) ظلموا أنفسهم وظلموا سواهم أيضا.

الجواب على سؤال :

قد يرد هنا سؤال وهو : لم تكررت عبارة( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ) في الآي بفاصلة قليلة مرّتين ، ومع اختلاف يسير في التعبير؟!

وللإجابة على هذا التساؤل ينبغي الالتفات إلى لطيفة ، وهي أنّه بالرغم من

٤٥٩

أنّ التكرار أو التأكيد على المسائل الحساسة من أصول البلاغة ، ويلاحظ في أقوال البلغاء والفصحاء ، لكنّ في الآيات ـ آنفة الذكر ـ فرقا مهما يخرج تلك العبارة عن صورة التكرار. وهو أنّ الآية الأولى تشير إلى الجزاء الإلهي في مقابل إنكار آيات الحق والتكذيب بها ، ثمّ تمثل حال هؤلاء بقوم فرعون والأقوام السابقين.

إلّا أنّ الآية الثّانية تشير إلى تبدل النعم في الدنيا وذهاب المواهب الرّبانية ، مثل الانتصارات والأمن والقدرات وما يفتخر به. ثمّ مثّلت الآية بحال فرعون والأقوام السابقين.

ففي الحقيقة أنّ جانبا من الكلام كان عن سلب النعم وما ينتج عن ذلك من الجزاء ، ويقع الكلام في جانب آخر منه على تبدل النعم وتحوّلها.

* * *

ملاحظتان

١ ـ أسباب حياة الشعوب وموتها

يعرض التأريخ لنا شعوبا وأممّا كثيرة ، فطائفة اجتازت سلّم الرقي بسرعة ، ووصلت طائفة ثانية إلى أسفل مراحل الانحطاط ، وطائفة ثالثة عاشت يوما في تشتت وضياع وتناحر وتفرقة ، ثمّ قويت في يوم آخر ، وطائفة رابعة على العكس منها إذ سقطت من أعلى مراتب الفخر إلى قعر وديان الذلة والضياع.

والكثير من الناس يمرّون مرور الكرام على حوادث التأريخ المختلفة دون أي تفكر فيها ، والكثير منهم بدلا من البحث في العلل أو الأسباب الواقعية لحياة الشعوب وموتها يرجعون ذلك إلى أسباب وهمية وخيالية.

ويرجعوها آخرون إلى حركة الأفلاك ودورانها إيجابا وسلبا.

وأخيرا فإنّ بعضهم لجأ إلى مسألة القضاء والقدر بمفهومها المحرّف ، أو إلى

٤٦٠

مسائل حسن الطالع والحظ وعدمهما ، وما شابه ذلك ، فيرجعون كل الحوادث الحسنة أو المرّة إلى هذه الأمور. وكل ذلك بسبب الخوف من الأسباب الحقيقة لتلك الأمور.

والقرآن الكريم في الآيات المتقدمة يضع أصبع التحقيق على الأصل والمنبع ، ويبيّن أنواع العلاج وأسباب النصر والهزيمة فيقول : لأجل معرفة الأسباب الأصيلة لا يلزم البحث عنها في السماوات ولا في الأرضين ، ولا وراء الأوهام والخيال ، بل ينبغي البحث عنها في وجودكم وفكركم وأرواحكم وأخلاقكم ، وفي نظمكم والاجتماعية ، فإنّ كل ذلك كامن فيها.

فالشعوب التي فكّرت مليّا وحركت عقولها ووحدّت جموعها وتآخت فيما بينها ، وكانت قوية العزم والإرادة ، وقامت بالتضحية والفداء عند لزوم ذلك ، هذه الشعوب منتصرة حتما.

أمّا إذا حلّ الضعف والتخاذل والركود مكان العمل والسعي الحثيث ، وحلّ التراجع مكان الجرأة والنفاق والتفرقة مكان الاتحاد ، وحبّ النفس مكان الفداء ، وحل التظاهر والرياء محل الإخلاص والإيمان ، فيبدأ عند ذلك السقوط والبلاء.

وفي الحقيقة أنّ جملة :( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) تبيّن أسمى قانون في حياة الإنسانية ، وتوضح أنّ مدرسة القرآن الكريم هي أكرم مدرسة فكرية لحياة المجتمعات الإنسانية ، وأوضحها حتى لأولئك الذين نسوا في عصر الفضاء والذرّة قيمة الإنسان ، وجعلوا حركة التأريخ مرتبطة بالمصانع والمعامل وقضايا الإقتصاد.

فهي تقول لهؤلاء : إنّكم في خطأ كبير إذا أخذتم بالمعلول وتركتم العلة الأصلية أو نسيتموها ، وتمسكتم بغصن واحد من شجرة كبيرة وتركتم أصولها.

ولئلا نمضي بعيدا ، فإنّ تأريخ الإسلام ، أو تأريخ حياة المسلمين ـ بتعبير أصح ـ قد شهد انتصارات باهرة في بداياته ، وانكسارات وهزائم مرّة صعبة

٤٦١

بعدها.

ففي القرون الأولى كان الإسلام يتقدم في العالم بسرعة ، ويبث في كل مكان منه أنوار العلم والحريّة ، ويبسط ظلاله على أقوام جدد بالثقافة والعلوم ، فكان ذا قدرة متحركة ومحركة وبنّاءة معا ، وجاء بمدينة زاهرة لم يشهد التاريخ مثلها ، ولم تمر بضعة قرون حتى أخذ الخمول يعطل تلك الحركة ، وأخذت الفرقة والتشتت والضعف والخور والتخلف مكان ذلك الرقي ، حتى بدأ المسلمون يمدون أيديهم إلى الآخرين طلبا لوسائل الحياة الابتدائية ، ويبعثون بأبنائهم إلى ديار الأجانب لأخذ الثقافة والعلم ، بينما كانت جامعات المسلمين يومئذ من أرقى جامعات العالم العلمية والمراكز التي تهوي إليها أفئدة الأصدقاء والأعداء ابتغاء المعرفة.

لكن الأمور بلغت حدا بحيث أنّهم لم يصدروا علما وصناعة ، بل استوردوا ما يحتاجونه من خارج بلدانهم.

وأرض فلسطين التي كانت يوما مركز مجد المسلمين وعظمتهم ولم يتمكن الصليبيون ـ لمدّة مائتي عام ـ برغم تقديمهم ملايين القتلى والجرحى من ابترازها من أيدي المقاتلين المسلمين. إلّا أنّهم أسلموها «اليوم» خلال ستة أيّام ببساطة ، في وقت كان عليهم أن يعقدوا المؤتمرات أشهرا وسنين لإرجاع شبر منها. ولا يعرف بعد هذا إلى أية نتيجة سيصلو؟

ألم يعد الله عباده بالقول :( وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) (1) أو قوله :( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) (2) .

أو قوله :( وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) (3) .

__________________

(1) الروم ، 47.

(2) المنافقون ، 8.

(3) الأنبياء ، 105.

٤٦٢

فهل الله عاجز ـ والعياذ بالله ـ من تحقيق وعوده؟! أو قد نسيها! أو غيّرها؟

وإذا لم يكن كذلك ، فلم ذهب كل ذلك المجد والعظمة والعزّة؟

إنّ القرآن الكريم يجيب ـ في آية قصيرة ـ على كل تلك التساؤلات ، ويدعو إلى العودة إلى أعماق الوجدان ، والنظر في ثنايا المجتمع ، فسترون أن التغيير يبدأ من أنفسكم ، وأنّ الألطاف والرحمة الإلهية تعم الجميع ، فأنتم الذين أذهبتم قدراتكم وطاقاتكم هدرا فصرتم إلى هذا الحال.

ولا تتكلم الآية عن الماضي فحسب ليقال : إنّ ما مضى قد مضى بما فيه من مرارة وحلاوة ، وانتهى ولن يعود ، والكلام عنه غير مجد وغير نافع. بل تتكلم الآية عن الحاضر والمستقبل أيضا ، فإنّكم إذا عدتم إلى الله وأحكمتم أسس إيمانكم ، ووعت عقولكم ، وذكرتم عهودكم ومسئولياتكم ، وتصافحت الأيدي بعضها مع بعض وتعالت الصرخات المدوّية للنهضة ، وبدأتم بالجهاد والفداء والسعي والعمل على كل صعيد ، فسوف تعود المياه إلى مجاريها ، وستنقضي الأيّام السود وترون أفقا مشرقا وضاء ، وستعود أمجادكم العظيمة ، في صورة أجلى وأكبر!

تعالوا لتبديل أحوالكم ، وليكتب علماؤكم ، ويجاهد مقاتلوكم ، ويسعى التجار والعمال ، ويقرأ شبابكم أكثر فأكثر ويطهروا أنفسهم وتزداد معارفهم ، ليتحرك دم جديد في عروق مجتمعكم فتتجلّى قدراتكم بشكل يعيد له أعداؤكم الأرض المحتلة التي لم يعد منه شبر واحد بالرغم من كل أنواع التذلل والرجاء والاستعطاف!! ومن الضروري أن نذكر هذه اللطيفة ، وهي أنّ القيادة ذات تأثير مهم في مصير الشعوب ، ولا ننسى أن الشعوب الواعية تختار لنفسها القيادة الحكيمة اللائقة ، أمّا القادة الضعاف أو المتكبرون أو الظالمون فيسحقهم غضب الشعوب وإرادتهم القوية ، ولا ينبغي أن ننسى أنّ ما وراء الأسباب والعوامل الظاهرية

٤٦٣

سلسلة من الإمدادات الغيبية تنتظر المؤمنين والمخلصين ، لكنّها لا ينالها كل أحد جزافا ، بل لا بدّ من الاستعداد والجدارة!

ونختتم هذا الموضوع بذكر روايتين.

الأولى : ما ورد عن الإمام الصّادق في هذا الشأن إذ قالعليه‌السلام «ما أنعم الله على عبد بنعمة فسلبها إياه حتى يذنب ذنبا يستحقق بذلك السلب»(1) .

والثّانية : ما نقرؤه في حديث آخر لهعليه‌السلام : «إنّ الله عزوجل بعث نبيا من أنبيائه إلى قومه وأوحى إليه أن قل لقومك : إنّه ليس من أهل قرية ولا ناس كانوا على طاعتي فأصابهم فيها سراء ، فتحولوا عمّا أحبّ إلى ما أكره إلّا تحولت لهم عمّا يحبّون إلى ما يكرهون. وليس من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على معصيتي فأصابهم فيها ضراء فتحولوا عمّا أكره إلى ما أحبّ إلّا تحولت لهم عمّا يكرهون إلى ما يحبّون».

والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.

2 ـ لا جبر في العاقبة ولا جبر في التأريخ ، ولا في سائر الأمور

والموضوع المهم الآخر الذي يستفاد من هذه الآيات بوضوح ، هو أنّه ليس للإنسان مصير خاص قد تعين من قبل ، ولا يقع تحت تأثير ما يسمى بـ «جبر التأريخ» و «جبر الزمان» بل إنّ الذي يصنع التأريخ وحياة الإنسانية ، ويجعل التحوّلات في الأسلوب والأخلاق والأفكار وغيرها ، وهو إرادة الإنسان نفسه! فبناء على ذلك فالذين يعتقدون بالقضاء والقدر الجبري ، ويقولون : إنّ الأمور والحوادث جميعها تجري بمشيئة الله الإجبارية ، تردّهم هذه الآية.

وكذلك الجبر المادي الذي يجعل من الإنسان ألعوبة بيد الغرائز التي لا تتغير

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 2 ، ص 193.

٤٦٤

وأصول الوارثة.

أو جبر المحيط بحيث يرون أنّه تتحكم فيه الأوضاع الاقتصادية والمعامل والمصانع.

فكل ما تقدم من «الجبر» ترفضه المدرسة الإسلامية ، ويرفضه القرآن ، فالإنسان حرّ وهو الذي يقرر مصيره بنفسه.

إنّ الإنسان ـ بملاحظة ما قرأناه في الآيات من قانون ـ يمسك بزمام مصيره وتأريخه بنفسه ، فيصنع لها الفخر والنصر ، وهو الذي يسوق نفسه إلى الابتلاء والمذلة ، فداؤه منه ودواؤه بيده ، فإذا لم يغير نفسه ولم يسع في بناء شخصيته لن يكون له دور في صياغة مصيره وشأنه.

* * *

٤٦٥

الآيات

( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) )

التّفسير

مواجهة من ينقض العهد بشدّة!

في هذه الآيات المباركة إشارة إلى طائفة أخرى من أعداء الإسلام الذين وجهوا ضربات مؤلمة للمسلمين في حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المليئة بالأحداث ، إلّا أنّهم ذاقوا جزاء ما اقترفوه مرّا وكانت عاقبة أمرهم خسرا. وهؤلاء هم يهود المدينة الذين عاهدوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدّة مرات.

وهذه الآيات تبيّن الأسلوب الشديد الذي ينبغي أن يتخذه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحقّهم ، الأسلوب الذي فيه عبرة للآخرين ، كما فيه درء لخطر هذه الطائفة.

٤٦٦

وتبدأ الآيات فتعرف هذه الطائفة بأنّها شر الأحياء الموجودة في هذه الدنيا فتقول :( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) .

ولعل التعبير ب( الَّذِينَ كَفَرُوا ) يشير إلى أنّ كثيرا من يهود المدينة كانوا يعلنون حبّهم للنبي وإيمانهم به قبل أن يظهرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفقا لما وجدوه مكتوبا عنه في كتبهم ، حتى أنّهم كانوا يدعون الناس ويمهدون الأمور لظهوره. ولكنّهم وبعد أن ظهر وجدوا أنّ مصالحهم المادية مهددة بالخطر ، فكفروا به وأظهروا عنادا شديدا في هذا الأمر حتى لم تبق بارقة أمل بإيمانهم ، وكما يقول القرآن الكريم :( فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) .

وتقول الآية الأخرى :( الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ) (1) . والمغروض أن يراعوا الحياد على الأقل فلا يكونوا بصدد الإضرار بالمسلمين وإعانة الأعداء عليهم.

فلا هم يخافون الله تعالى ، ولا يحذرون من مخالفة أوامره ، ولا يراعون القواعد والأصول الانسانية :( وَهُمْ لا يَتَّقُونَ ) .

والتعبير بـ «ينقضون» و «لا يتقون» وهما فعلان مضارعان ، هذا التعبير بهما يدلّ على الاستمرار ، كما أنّه يدل على أنّهم قد نقضوا عهودهم مرارا.(2) .

والآية بعدها توضح كيفية أسلوب مواجهة هؤلاء فتقول :( فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ ) أي قاتلهم بشكل مد مرّ بحيث أن الطوائف القابعة خلفهم لإمدادهم يعتبروا بذلك ويتفرقوا عنهم.

وكلمة «تثقفنهم» مأخوذة من مادة «الثقف» على زنة «السقف» بمعنى بلوغ

__________________

(1) «من» في جملة «عاهدت منهم» إمّا للتبعيض فتعني أنّك عاهدت سادتهم أو البارزين من يهود المدينة ، أو أنّها للصلة فتكون معناها عاهدتهم كما يرد هذا الاحتمال وهو أن معنى «عاهدت منهم» هو أخذت العهد منهم.

(2) بالإضافة إلى ما ذكرنا في المتن فهناك قرينة لفظية تدل على هذا المعنى أيضا وهي «في كل مرّة»

٤٦٧

الشيء بدقة وسرعة ، وهي إشارة إلى وجوب التنبه والاطلاع السريع والدقيق على قراراتهم ، والاستعداد لإنزال ضربة قاصمة لها وقع الصاعقة عليهم قبل أن يفاجئوك بالهجوم.

وكلمة «شرّد» مأخوذة من مادة «التشريد» وهي بمعنى التفريق المقرون بالاضطراب فينبغي أن يكون الهجوم عليهم بشكل تتفرق معه المجموعات الأخرى من الأعداء وناقضي العهود ، ولا يفكروا بالهجوم عليكم.

وهذا الأمر إنّما صدر ليعتبر به الأعداء الآخرون ، بل حتى الأعداء في المستقبل أيضا ويتجنبوا الحرب مع المسلمين ، وليتجنب نقض العهد ـ كذلك ـ الذين لهم عهود مع المسلمين ، أو الذين سيعاهدونهم مستقبلا( لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) .

( وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ ) ولا تبدأهم بالهجوم قبل إبلاغهم بإلغاء العهد( إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ ) .

وبالرغم من أنّ الآية قد منحت النّبي صلاحية نقض العهد إذا أحس بخيانتهم أو نقضهم عهودهم ، إلّا أن من الواضح أن الخوف من نقضهم العهد لا يكون جزافا ودون سبب بل عند ما يرتكبون ما يدلّ على تفكيرهم بالنقض ويتفقون مع العدوّ على الهجوم ، فهذا القدر من القرائن والأمارات يجيز للنّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبلغهم إلغاء العهد.

وجملة «فانبذ إليهم» من «الإنباذ» وهي بمعنى «الإلقاء» أو «الإعلام» و «الرّد» أي : ردّ عليهم عهودهم وأعلن عن إلغائها جهرا.

والتعبير بـ «على سواء» إمّا بمعنى أنّه كما أنّهم نقضوا العهد بأعمالهم التي اقترفوها ، فألغه أنت من جهتك أيضا ، فهذا حكم عادل ، يتساوى وما فعلوه. أو بمعنى الإعلان عن ذلك بأسلوب واضح صريح لا لبس فيه ولا خدعة.

وعلى كل حال ، فإنّ الآية ـ محل البحث ـ في الوقت الذي تنذر فيه

٤٦٨

المسلمين من نقض العهد ، وتحذرهم أن يكونوا هدفا وغرضا لهجوم العدوّ ، فهي تدعوهم إلى رعاية مبادئ الإنسانية في حفظ العهود أو إلغائها.

وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ يوجه تعالى الخطاب إلى ناقضي العهد ، فيحذرهم من عاقبة ذلك فيقول :( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ ) .

* * *

٤٦٩

الآيات

( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) )

التّفسير

المزيد من التعبئة العسكرية والهدف منها :

تشير أوّل آية هنا ـ لتناسب الكلام في الآيات المتقدمة عن الجهاد ـ إلى أصل مهم يجب على المسلمين التمسك به في كل عصر ومصر ، وهو لزوم

٤٧٠

الاستعداد العسكري لمواجهة الأعداء ، فتقول :( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) .

أي لا تنتظروا حتى يهجم العدوّ فتستعدوا عندئذ لمواجهته ، بل يجب أن تكون لديكم القدرة والاستعداد اللازم لمواجهة هجمات الأعداء المحتملة.

وتضيف الآية قائلة :( وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ ) .

«الرّباط» بمعنى شدّ الشيء ، ويرد هذا الاستعمال كثيرا بمعنى ربط الحيوان في مكان ما لرعايته والمحافظة عليه ، وقد جاء هذا اللفظ هنا بما يناسب ذلك بمعنى الحفظ والمراقبة بصورة عامّة.

و «المرابطة» تعني حفظ الحدود ، وتأتي كذلك بمعنى الرقابة على شيء آخر ، ويطلق على مكان شدّ وثاق الحيوان بـ «الرباط» ولذلك سمّت العرب أماكن نزول المجاهدين رباطا أيضا.

* * *

ملاحظات

1 ـ في الجملة القصيرة ـ آنفة الذكر ـ بيان لأصل مهم في الجهاد وحفظ وجود المسلمين وما لديهم من مجد وعظمة وفخر ، والتعبير في الآية واسع إلى درجة أنّه ينطبق على كل عصر مصر تماما.

وكلمة «قوّة» وإن قصرت لفظا ، إلّا أنّها ذات معنى وسيع ومغزى عميق ، فهي لا تختص بأجهزة الحرب والأسلحة الحديثة لكل عصر فحسب ، بل تتسع لتشمل كلّ أنواع القوى والقدرات التي يكون لها أثرا ما في الإنتصار على الأعداء ، سواء من الناحية المادية أو الناحية المعنوية.

فالذين يرون أنّ السبيل الوحيد للانتصار على الأعداء هو كمية السلاح ، هم على خطأ كبير ، لأنّنا شاهدنا في عصرنا الحاضر شعوبا قليلة العدد وأسلحتها غير

٤٧١

متطورة انتصرت على شعوب أقوى وذات أسلحة حديثة متطورة ، كما حصل للشعب الجزائري المسلم في مواجهة الدولة الفرنسية القوية!

فبناء على ذلك ، ومضافا إلى ضرورة تحصيل الاسلحة المتطورة في كل زمان بعنوان وظيفة إسلامية حتمية ـ تجب تقوية عزائم الجنود ومعنوياتهم للحصول على قوّة أكبر وأهمّ.

ولا ينبغي الغفلة عن بقية القوى والقدرات الاقتصادية والثقافية والسياسية ، والتي تندرج تحت عنوان «القوّة» ولها تأثير بالغ على الأعداء.

وممّا يسترعي النظر أنّ الرّوايات الإسلامية ذكرت لنا تفاسير مختلفة في شأن «القوّة» ومعناها ، وذلك يكشف عن مفهومها الواسع ، ففي بعض الرّوايات نجد أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيّن أنّ المراد من القوّة هو «النّبل»(1) .

ونقرأ في رواية أخرى ـ وردت في تفسير علي بن إبراهيم ـ أن المقصود من القوة هو كل أنواع السلاح(2) .

كما نقرأ في تفسير العياشي أن المراد منه السيف والدرع(3) .

ونجد رواية أخرى في كتاب من لا يحضره الفقيه تقول : «منه الخضاب بالسواد»(4) .

فترى أنّ الإسلام قد أولى لون شعر المقاتلين من كبار السن اهتماما ليستعملوا الخضاب ، فيراهم العدوّ في عمر الشباب فيصاب بالرعب منهم ، ويكشف هذا الأمر عن مدى سعة مفهوم القوّة.

وبناء على ذلك ، فمن فسّر القوّة بمصداق واحد محدود قد جانب الصواب

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 2 ، ص 164 ـ 165.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق.

(4) المصدر السّابق.

٤٧٢

جدّا.

ولكن مع الأسف ، فإنّ المسلمين على الرغم ممّا لديهم من مثل هذا التعليم الصريح ، لا نجد فيهم أثرا لتقوية العزائم والمعنويات بين صفوفهم ، كأنّهم قد نسوا كل شيء. ولا هم يستغلّون قواهم الاقتصادية والثقافية والعسكرية والسياسية لمواجهة عدوّهم.

والأعجب من ذلك أنّنا مع إهمالنا هذا الأمر العظيم وتركه وراء ظهورنا نزعم أنّنا ما زلنا مسلمين!! ونلقي تبعة تأخرنا وانحطاطنا على رقبة الإسلام ، ونقول : إذا كان الإسلام داعية ترقّ وتقدم ، فلم نحن المسلمون في تأخر وتخلف؟!

ونحن نعتقد أنّ هذا الشعار الإسلامي الكبير :( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) إذا أضحى شعارا شاملا في كل مكان ، ينادي ، به الصغير والكبير ، والعالم وغير العالم ، والمؤلف والخطيب ، والجندي والضابط ، والفلاح والتاجر ، والتزموا به في حياتهم وطبقوه ، كان كافيا لجبران التخلفّ والتأخر.

إنّ سيرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العملية وأئمّة الإسلام تدل على أنّهم لم يدخروا وسعا ، واستغلوا كل فرصة لمواجهة العدوّ ، كإعداد الجنود وتهيئة السلاح ، وشد الأزر ورفع المعنويات ، وبناء معسكرات التدريب ، وإختيار الزمان المناسب للهجوم ، والعمل على استعمال مختلف الأساليب الحربية ، ولم يتركوا أية صغيرة ولا كبيرة في ذلك.

والمعروف أنّ النّبي بلغه أن سلاحا جديدا مؤثرا صنع في اليمن أيّام معركة حنين ، فأرسل النّبي جماعة إلى اليمن لشرائه فورا.

ونقرأ في أخبار معركة أحد أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ردّ على شعار المشركين «أعل هبل ، اعل هبل» بشعار أقوى منه وهو «الله أعلى وأجل» ورد على شعارهم : «إنّ لنا العزى والعزى لكم» ، بقوله : «الله مولانا ولا مولى لكم» ، وهذا الأمر يدلّ على أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين ـ كذلك ـ لم يغفلوا عن اختيار أقوى الشعارات في

٤٧٣

مواجهة الأعداء والردّ على عقائدهم وشعاراتهم.

ومن التعاليم الإسلامية المهمّة في هذا الصدد موضوع سباق الخيل والرماية ، وما جوّزه الفقه فيهما من الربح والخسارة ، فهو مثل آخر على تفكير الإسلام العميق إلى جانب الاستعداد لمواجهة الأعداء وحثّ المسلمين على ذلك.

2 ـ واللطيفة المهمّة الأخرى التي نستنتجها من الآية آنفة الذكر هو عالمية وخلود هذا الدين الالهي. لأنّ مفاهيم هذا الدين ومضامينه ذات أبعاد واسعة لا تخلق على مرور الزمان ولا تغدو بالية أو منسوخة برغم القدم ، فجملة( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) كان لها مفهوم حي قبل أكثر من ألف عام ، كما هي الحال اليوم ، وسيبقى مفهومها حيا إلى عشرات الآلاف من السنين الأخرى لأنّ أي سلاح يظهر في المستقبل فهو كامن في كلمة «القوّة» الجامعة ، إذ أن جملة «ما استطعتم» عامّة ، وكلمة «قوّة» نكرة تؤيد عمومية تلك الجملة لتشمل كل قوّة.

3 ـ ويرد هنا سؤال وهو : لماذا وردت عبارة «رباط الخيل» بعد كلمة «قوّة» بمالها من المفهوم الواسع.

وجواب هذا السؤال هو أنّ الآية بالرغم من أنّها تتضمن قانونا شاملا لكل عصر وزمان ، فهي في الوقت ذاته تحمل تعليما مهما خاصا بعصر النّبي ، الذي هو عصر نزول القرآن. وفي الحقيقة إن هذا المفهوم العام جاء بمثال واضح لذلك العصر ، لأنّ الخيل كانت في ذلك الزمن من أهم وسائل الحرب ، فهي وسيلة مهمّة عند المقاتلين الشجعان والأبطال في هجومهم وقتالهم السريع ، وأهميتها تشبه أهمية الطائرات والدبابات في العصر الحاضر.

الهدف من تهيئة السلاح وزيادة التعبئة العسكرية :

ثمّ ينتقل القرآن بعد ذلك التعليم المهم إلى الهدف المنطقي والإنساني من وراء هذا الموضوع ، فيقول : إنّ الهدف منه ليس تزويد الناس في العالم أو في

٤٧٤

مجتمعكم بأنواع الأسلحة المدمرة التي تهدم المدن وتحرق الأخضر واليابس وليس الهدف منه استغلال أراضي الآخرين وممتلكاتهم ، وليس الهدف هو توسعة الاستعباد والاستعمار في العالم ، بل الهدف من ذلك هو( تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ ) !

لأنّ أكثر الأعداء لا يستمعون لكلمة الحق ولا يستجيبون لنداء المنطق والمبادي الإنسانية ، ولا يفهمون غير منطق القوّة!

فإذا كان المسلمون ضعافا ، فسوف يفرض عليهم الأعداء كل ما يريدون ، أمّا إذا اكتسبوا القوّة الكافية ، فإنّ أعداء الحق والعدل والاستقلال والحرية سيشعرون بالخوف ولا يفكرون بالتجاوز والعدوان.

واليوم ـ ونحن في تفسير هذه الآية ـ فإنّ قسما من الأراضي الإسلامية في فلسطين وغيرها من الدول المجاورة تسحقها أحذية الجنود الصهاينة ، وقد أغاروا بهجومهم الأخير على لبنان فشردّوا الآلاف من العوائل ، وقتلوا المئات من الأبرياء ، وهدموا الكثير من الأحياء والدور السكنية ، وأحالوها إلى انقاض ، فأضافوا ـ بهذه المأساة المروعة جريمة أخرى إلى سجلهم الأسود في وقت استنكر الرأي العام العالمي هذا العمل الوحشي حتى أصدقاء إسرائيل ، وأصدرت الأمم المتحدة بيانا دعت فيه إلى إخلاء هذه الأرض ، لكن هذا الشعب الذي لا يتجاوز بضعة ملايين لا يريد الاستماع لأية كلمة حق وأي منطق إنساني ، وذلك لما لديه من قوّة وأسلحة واستعداد كاف للحرب أعدّه منذ سنين طويلة لمثل هذا العدوان.

فالمنطق الوحيد الذي يمكن به الردّ على هؤلاء هو منطق( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) فكأنّ هذه الآية نزلت في عصرنا الحاضر ومن أجلنا ، لتقول لنا : جهزوا أنفسكم وكونوا من القوة بحيث يصاب عدوّكم بالذعر والخوف كيما يغادر أرضكم وينسحب إلى مكانه الأوّل.

٤٧٥

وممّا يثير النظر ويسترعيه أنّ الآية هنا جمعت التعبير بـ «عدوّ الله» و «عدوّكم» وذلك إشارة إلى عدم وجود منافع وأغراض شخصية في الجهاد والدفاع عن الإسلام ، بل الهدف هو حفظ رسالة الإسلام الإنسانية ، فالذين يعادونكم إنّما هم أعداء الله وأعداء الحق والعدل والإيمان والتوحيد والأخلاق الإنسانية ، فينبغي الردّ عليهم انطلاقا من هذا المجال.

وفي الحقيقة إنّ هذا التعبير شبيه بالتعبير «في سبيل الله» أو «الجهاد في سبيل الله» الذي يدلّ على أنّ الجهاد أو الدفاع الإسلامي لا يشبه فتح البلدان في ما مضى من التأريخ ، ولا غزو الاستعمار التوسعي اليوم ، ولا في صورة إغارات القبائل العربية في زمن الجاهلية ، بل كل ذلك من أجل الله وفي سبيل الله ، وفي مسير إحياء الحق والعدل.

ثمّ تضيف الآية بأنّ المزيد من استعداداتكم العسكرية يخيف أعداء آخرين لا تعرفونهم فتقول :( وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ ) .

* * *

ملاحظتان

1 ـ من هم المقصودون في الآية «الذين لا تعلمونهم»

بالرّغم من أنّ المفسّرين احتملوا في هذه الطائفة : الذين لا تعلمونهم احتمالات كثيرة ، فقال بعضهم : إنّهم يهود المدينة الذين كانوا يضمرون عداءهم ، وقال آخرون : إنّها إشارة إلى الأعداء مستقبلا ، كدولة الروم والفرس اللتين لم يحتمل المسلمون يومئذ أنّهم سيكونون في حرب معهما أو يقع القتال بينهما وبينهم.

إلّا أنّ الأصح ـ كما نراه ـ هو أن المراد منها هم المنافقون الذين دخلوا في صفوف المسلمين دون أن يعلموهم ، فإذا قوى جيش الإسلام فإنّ أولئك سيقعون

٤٧٦

في حيرة واضطراب ويرحلون ، والشاهد على هذه الموضوع هو الآية (101) من سورة التّوبة إذ تقول :( وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ) .

ويحتمل أن مفهوم الآية يشمل جميع أعداء الإسلام غير المعروفين أعم من المنافقين وغيرهم.

2 ـ الاستعداد في كل مكان وزمان

وتتضمن الآية تعليما لمسلمي اليوم أيضا ، وهو أنّه لا ينبغي الاكتفاء بالاستعداد لأعداء الإسلام الذين تعرفونهم ، بل عليكم أن تنتبهوا للأعداء الاحتماليين أو «بالقوّة» وأن تتهيأوا حتى تكونوا في أعلى حدّ من القوّة والقدرة ، وفي الحقيقة فإنّ المسلمين لو تنبهوا لهذه القضية المهمّة لما منوا بهجمات الأعداء المفاجئة.

وفي نهاية الآية إشارة إلى موضوع مهم آخر ، وهو أنّ الاستعداد العسكري وجمع الأسلحة والأجهزة الحربية ووسائل الدفاع المختلفة ، كل ذلك يحتاج إلى بالدعم المالي اللازم له ، لذلك تأمر المسلمين بالتعاون الجماعي لتهيئة ذلك المال ، وأن ما يبذلونه في هذا الأمر فهو عطاء في سبيل الله ، ولن ينقص منه شيء أبدا( وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ) فيرجع إليكم جميعه ، بل أكثر ممّا أنفقتم( وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ) ، وستنالون ثواب ذلك في هذه الدنيا في انتصار الإسلام وقوته وعظمته ، لأنّ الشعب الضعيف ستتعرض أمواله للخطر وسيفقد أمنه وحريته واستقلاله أيضا ، فبناء على ذلك فإنّ ما تنفقونه في هذا السبيل سيعود إليكم عن طريق آخر وفي مستوى أفضل وأسمى.

كما أنّ ثوابا أعظم ينتظركم في العالم الآخر في جوار رحمة الله ، فمع هذه الحال لا تظلمون ، بل ستنالون خيرا كثيرا.

٤٧٧

وممّا يسترعي النظر أنّ الجملة آنفة الذكر جاء فيها لفظ «شيء» وهي ذات مفهوم واسع ، أي لا يخفى على الله ما تبذلونه من جميع الأشياء ، مالا كان أو نفسا أو فكرا أو منطقا أو قوة أو أي مال آخر ينفق في تقوية بنية المسلمين الدفاعية والعسكرية ، فإنّ الله سيدخره ويعيده إليكم في حينه.

وقد احتمل بعض المفسّرين أن جملة «وأنتم لا تظلمون» معطوفة على جملة «ترهبون» أي أنّكم إذا ما أعددتم القوة اللازمة لمواجهة الأعداء فسيخافون أن يهجموا عليكم ، ولن يقدروا على ظلمكم وإيذائكم ، وبناء على ذلك فلن يصيبكم ظلم أبدا.

أهداف الجهاد في الإسلام وأركانه :

واللطيفة الأخرى التي تستفاد من هذه الآية ، وتكون جوابا على كثير من أسئلة الجهلاء وإشكالاتهم ، هي بيان شكل الجهاد وهدفه ومنهجه ، فالآية تقول بوضوح : إنّ الهدف منه ليس قتل الناس أو الاعتداء على حقوق الآخرين ، بل الهدف ـ كما ذكرنا ـ هو إرهابكم الأعداء لكيلا يعتدوا عليكم وليخافوكم ، فينبغي أن تكون جميع جهودكم وسعيكم منصبّا في سبيل قطع شر أعداء الله والحق والعدل.

فهل يملك الجهلة في أذهانهم مثل هذا التصوّر عن الجهاد في القرآن الكريم ، وما صرّح به في هذه الآية ـ محل البحث ـ ليسوغ لهم أن يحملوا كل هذه الحملات المسعورة المتتالية على هذا القانون الإسلامي. فتارة يدّعون بأنّ الإسلام هو دين السيف ، وتارة يقولون بأنّ الإسلام يفرض على الناس أفكاره بالحديد ، ويقيسون النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسائر محتلي البلدان في التاريخ.

وفي عقيدتنا أنّ جواب كل هؤلاء هو أن يعود إلى القرآن ، ويفكروا في الهدف الأصيل لهذا الموضوع ، لتتّضح لهم كل تلك الأمور.

٤٧٨

الاستعداد للصّلح :

مع أنّ الآية السابقة أو ضحت هدف الجهاد في الإسلام بقدر كاف ، فإنّ الآية التالية التي تتحدّث على الصلح بين المسلمين توضح هذا الأمر بصورة أجلى فتقول( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها ) .

ويحتمل في تفسير هذه الجملة المتقدمة أنّهم إذا بسطوا أجنحتهم للسلم فابسط جناحيك أنت للسلم أيضا ، لأنّ «جنحوا» فعل مصدره «الجنوح» وهو الميل ، ويطلق على كل طائر أنّه «جناح» أيضا ، لأنّ كل جناح في الطائر يميل إلى جهة ، لذلك يمكن الاستناد في تفسير هذه الآية إلى جذر اللغة تارة ، وإلى مفهومها الثّانوي تارة أخرى.

ولمّا كان الناس يترددّون أغلب الأحيان عند ما يراد التوقيع على معاهدة الصلح ، فإنّ الآية تأمر النّبي بعدم التردد في الأمر إذا كانت الشروط عادلة ومنسجمة مع المنطق السليم والعقل ، فتقول :( وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) .

ومع ذلك فهي تحذر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين من احتمال الاحتيال والخداع في دعوة الأعداء ، إلى الصلح ، فقد تكون دعوة للتمويه والرّغبة في توجيه ضربة مفاجئة ، أو يكون هدفهم هو تأخير الحرب ليتمكنوا من إعداد قوات أكثر ، إلّا أنّ الآية تطمئن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يخشى هذا الأمر أيضا ، لأنّ اللهعزوجل سيكفيه أمرهم وسينصره في جميع الأحوال ، إذ تقول :( وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ ) .

وسيرتك أيّها النّبي ـ السابقة ـ شاهدة على هذه الحقيقة ، لأنّ الله( هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ) .

فكم أرادوا بك كيدا ، وكم مهدوا وأعدّوا لك من خطط مدمّرة بحيث لم تكن الغلبة عليها بالوسائل المألوفة ممكنة ، لكنّهعزوجل حفظك ورعاك في مواجهة

٤٧٩

كل ذلك.

أضف إلى ذلك أنّ المؤمنين المخلصين قد أحاطوا بك من كل جانب ولم يدخروا وسعا في الدفاع عنك ، فقد كانوا قبل ذلك متشتتين متعادين ، ولكنّ الله شرح صدورهم بأنوار الهداية( وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ) .

وقد كانت الحرب لسنوات طويلة قائمة على قدم وساق بين طائفتي الأوس والخزرج وكانت صدورهم تغلي غيظا وحقدا بعضهم على بعض بشكل لم يكن أي أحد يتصور أنّهم سيعيشون بعضهم مع بعض بالحب والصفاء في يوم ما ، وسيكونون صفا واحدا متراصا ، ولكن الله القادر المتعادل فعل ذلك ببركة الإسلام وفي ظلال القرآن ، ولم يكن هذا الإمر مقتصرا على الأوس والخزرج الذين هم من الأنصار ، بل كان ذلك بين المهاجرين أيضا الذين جاءوا من مكّة ، إذ لم يكن بينهم ـ قبل الإسلام ـ حب ومودّة ، بل كانت صدورهم مليئة بالبغضاء والشحناء أيضا ، لكن اللهعزوجل غسل كل تلك الأحقاد وأزالها بحيث تمكن معها ثلاثمائة وثلاثة عشر من أبطال بدر ، منهم حوالي ثمانين نفرا من المهاجرين والباقي من الأنصار ، فكانوا جيشا صغيرا ، لكنّه متحدّ قوي استطاع أن يكسر شوكة العدوّ ويحطم قوته.

ثمّ تضيف الآية أن اتّحاد تلك القلوب ، أو إيجاد تلك الألفة ، لم يكن بوسائل مألوفة أو مادية( لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ) .

إنّ الذين يعرفون حالة نفوس المتعصبين والحاقدين ، كأولئك الذين كانوا في العصر الجاهلي ، يعرفون كذلك أن تلك الأحقاد والضغائن لم يكن بالإمكان إزالتها ، لا بالمال ولا بالجاه والمقام ، لأنّها كانت لا تزول عندهم إلّا بالانتقام الذي يتكرر بصورة متسلسلة فيما بينهم ، وفي كل مرّة يكون في صورة أبشع وأكثر

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606